(المتن)
توقفنا عند قول المؤلف رحمه الله قال:
(الشرح)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:
فإنَّ المؤلف رحمه الله لايزال يناقش أبا الحسن الأشعري، والقاضي أبا بكر الباقلاني ومن تبعهما ممَّن يقولون: إن الإيمان هو مجرَّد التصديق في القلب، ولكن أبا الحسن الأشعري خالف جهمًا في قوله: إن السمع ورد بضم شرائط أخر، أن الأدلة السمعية من الكتاب والسنة جاءت بشرائط أخرى تضم إلى، تضم إلى الإيمان والتصديق.
وهذا الصحيح ولكن قوله إن كل من حكم، ولكنه يقول: كل من حكم الشارع بكفره فأنه يدل على انتفاء التصديق من قبله هذا ليس بصحيح ولهذا ناقشه المؤلف رحمه الله فقال: فيقال إن قلتم إنه؛ يعني السمع الأدلة الشارع، ضَمَّ إلَى مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ شُرُوطًا فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ أَوْ الِاسْمِ لَمْ يَكُنْ هَذَا قَوْلَ جَهْمٍ.
إن قلتم؛ يعني الشارع، ضم إلى معرفة القلب؛ يعني ضم إلى ضم في إلى معرفة القلب، يعني ضم إلى تعريف الإيمان وهو أنه معرفة القلب؛ لأن الجهمي يقول: إن الإيمان هو معرفة الرب في القلب، والأشعري يقول: الإيمان هو تصديق القلب، ولا فرق بينهما إذا كان تصديقهم مجرَّد، لا فرق بين التصديق والعلم.
لكن أبا الحسن قال ضم إليه شروطًا فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ أَوْ الِاسْمِ، في ثبوت الاسم كونه يسمى إيمان، وفي ثبوت الحكمِ، الحكمُ عليه بأنه مؤمن، وإذا انتفى الحكم عليه بأنه كافر.
يقول المؤلف رحمه الله: إذا اعترفتم بأن الشارع ضمَّ في تعريف الإيمان، ضمَّ إلى معرفة القلب شُرُوطًا فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ وفي ثبوتِ الِاسْمِ، لَمْ يَكُنْ هَذَا قَوْلَ جَهْمٍ، انفصلتم عن قولِ الجهم؛ لأنَّ الجهم بن صفوان يقول: الإيمان هو معرفة الرب بالقلب، فمَن عرفَ الرب بقلبه فهو مؤمن. والكفر هو جهلُ الرب بالقلب، فمَن جهلَ ربه بقلبه كفر، من غير شروط أخرى.
وأما أبو الحسن فإنه ضمَّ إلى ما سبق شروطًا في ثبوت الحكم أو الاسم.
يقول المؤلف رحمه الله: "بهذا تنفصلون عن قولِ الجهم، بل يكونُ هَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ الْإِيمَانَ -كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ- وهو وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الْقَصْدِ وَالدُّعَاءِ لَكِنَّ الشَّارِعَ ضَمَّ إلَيْهِ أُمُورًا إمَّا فِي الْحُكْمِ وَإِمَّا فِي الْحُكْمِ وَالِاسْمِ".
يعني: يكون قولكم: إنَّ الإيمان هو التصديق مع ضمِّ شروط إليه في ثبوت الحكم والاسم مثل قول مَن يجعل الصلاة والحج، وإنْ كان أصل الصلاة في اللغة الدعاء، وأصل الحج في اللغة القصد، إلا أن السلف ضم إليهم أمورًا أخرى.
الأصل في الصلاة، معناه في اللغة: الدعاء، ولكن المراد بالصلاة، الصلاة الشرعية، ضمَّ الشارع إليها شروطًا؛ فجعل الصلاة هي الهيئة المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم، ذات الركوع والسجود، جعل لها شروطًا، ولها أوقات، ولها طهارة ولها شروط أخرى، فضم إليها شروطًا في الحكم والاسم.
وكذلك الحج، أصله في اللغة القصد، ولكن الشارع ضم إليه شروطًا أخرى، جعل الحج هو قصدُ بيت الله الحرام، قصد مكة من شخصٍ مخصوص في وقت مخصوص لعمل مخصوص في أداء المناسك.
فكذلك الإيمان وإنْ كان أصله في اللغة التصديق إلَّا أنَّ الشارع ضمَّ إليه شروطًا في ثبوت الحكم والاسم، فلا يكون الإنسان مؤمنًا حتى يضم إلى التصديق عمل القلب؛ أعمال القلوب، من محبة الله ورسوله وخوفه ورجائه، وكذلك أيضًا يبتعد، لا يفعل ناقضًا من نواقض الإسلام.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله "بَلْ يَكُونُ هَذَا قَوْلَ مَنْ جَعَلَ الْإِيمَانَ - كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ هُوَ - وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الْقَصْدِ وَالدُّعَاءِ لَكِنَّ الشَّارِعَ ضَمَّ إلَيْهِ أُمُورًا إمَّا فِي الْحُكْمِ وَإِمَّا فِي الْحُكْمِ وَالِاسْمِ؛ وَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ سَلَّمَ صَاحِبُهُ أَنَّ حُكْمَ الْإِيمَانِ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تِلْكَ الشَّرَائِطِ».
يعني: مَن يقول: إن الإيمان الذي هو معرفة القلب قد ضم إليه الشارع شروطًا في ثبوت الحكم والاسم، هذا القائل سلَّم أن حكم الإيمان المذكور في الكتاب والسنة لا يثبت بمجرد تصديق القلب، وحينئذ ينفصل عن مسمى الإيمان عند الجهم.
وعلى هذا فلا يمكن جعل الفاسق مؤمن إلا بدليل يدل على ذلك، يعني وعلى هذا فالفاسق الذي يفعل في المحرمات أو يترك الواجبات لا يمكن جعله مؤمنًا إلا بدليل يدل على ذلك لا بمجرد أن معه تصديق القلب.
يعني الفاسق معه تصديق القلب، والعدل معه تصديق القلب فكما أن العدل لا يكون مؤمنًا إلا بشرائط التي ضمت إلى تصديق القلب في ثبوت الحكم والاسم فكذلك الفاسق؛ لا يكون فاسقًا بمجرد تصديق القلب بل بأنه ترك بعض الواجبات أو فعل بعض المحرمات.
يقول المؤلف رحمه الله «وَمَنْ جَعَلَ الْإِيمَانَ هُوَ تَصْدِيقَ الْقَلْبِ، وَمَنْ جَعَلَ الْإِيمَانَ هُوَ تَصْدِيقَ الْقَلْبِ» وهذا هو قول الجهم قول الأشعري «يَقُولُ كُلُّ كَافِرٍ فِي النَّارِ لَيْسَ مَعَهُمْ مِنْ التَّصْدِيقِ بِاَللَّهِ شَيْءٌ» يلزم هذا أن يكون الإيمان هو مجرد التصديق الذي في القلب، أو هو مجرد العلم التصديق يلزمه أن يكون كل كافر في النار، دخل النار ليس معه من التصديق شيء لا من التصديق الذي معه، حتى إبليس، وحتى غيره كل الكفرة الذين دخلوا النار، يلزم من قال إن الإيمان هو مجرد التصديق أو مجرد معرفة القلب يلزمه أن يكون كله كافر دخل النار انتفى التصديق من قلبه ولا يكون معه شيء، لا مع إبليس ولا مع فرعون ولا مع اليهود ولا مع النصارى ولا مع أبي طالب ولا مع وغيرهم.
وهذا مصادم للنصوص الكثيرة التي تدل على أن الكفرة بعد دخلوهم النار معهم التصديق والمعرفة.
ثبت المؤلف رحمه الله نصوصًا كثيرة للرد بها على من قال أن الإيمان هو مجرد التصديق القلب وأن كل كافر في النار يلزم التصديق من قلبه، ثبت المؤلف نصوصًا كثيرة منها قول اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا كُلٌّ فِيهَا إنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ [غافر:47]
فهذه محاورة بين أهل النار الذين دخلوا النار منهم ضعفاء والمستكبرين من الاتباع والمتبوعين، فالضعفاء يقولون للمستكبرين الإتباع إنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ردًا عليهم، إنَّا كُلٌّ فِيهَا إنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ .
إذًا قولهم إن الله قد حكم بين العباد اعترفوا بوجود الله وعرفوا الله، والإيمان وهم صدقوا بوجود الله، وصدقوا بأن الله تعالى هو ربهم وخالقهم وأنه حكم عليهم بالنار لأن لم يؤمنوا به.
وقال تعالى وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [الزمر:71]
فهذه محاورة بين الكفرة وبين خزنة النار من الملائكة، فالملائكة تقول للكفرة وهم في النار أَلَمْ يأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا فاعترف الكفرة فقالوا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ولهذا قال المؤلف رحمه الله «فَقَدْ اعْتَرَفُوا بِأَنَّ الرُّسُلَ أَتَتْهُمْ وَتَلَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتِ رَبِّهِمْ وَأَنْذَرَتْهُمْ لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا؛ فَقَدْ عَرَفُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ كُفَّارٌ» يعني فدل هذا على بطلان من يقول أن كل كافرٍ في النار ليس معه من التصديق بالله شيء هذا باطل، هذه نصوص واضحة في رد هذا القول الباطل.
فهؤلاء الكفرة اعترفوا بأن الرسول ﷺ، عرفوا الله، وعرفوا رسوله، وعرفوا اليوم الآخر وهم كفار، ولو كانت المعرفة هي الإيمان لما كانوا كفار ولا ما دخلوا النار.
ثم ذكر المؤلف عند الإنسان، وَقَالَ تَعَالَى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْء [الملك: 8، 9]؛ هذه أيضًا محاورة بين الكفرة أفواج الذين ألقوا في النار وبين الخزنة، فإذا ألقي في النار فوج جماعة كبيرة، سالتهم الخزنة الملائكة، ما جاءكم رسل ينذرونكم؟ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْء [الملك: 9].
يقول المؤلف: فقد كذَّبوا بوجوده وكذَّبوا بتنزيله وأمَّا في الآخرة فعرفوا ... فهم مكذِّبون في الدينا وفي الآخرة عرفوا، ومع ذلك هم كفار، فالتصديق موجود في قلوبهم.
ثُمَّ ذكر دليل آخر المؤلف رحمه الله، قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنعام: 30] نسأل الله السلامة والعافية.
فهذه الآية فيها أن الله قال لهم أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ لما وقفوا على النار، قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا إنهم واعترفوا والعلم والتصديق موجود في قلوبهم، ومع ذلك دخلوا النار. نسأل الله السلامة.
وَقَالَ تَعَالَى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ إلَى قَوْلِهِ سبحانه: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22:19].
إذًا كان في غفلة عن هذا اليوم وعن العمل والإعداد لهذا اليوم، فكشف عنه الغطاء فبصره اليوم –يعني يوم القيامة- أصبح حديدا؛ حادا، نافذ، مطلع ومع ذلك فهو مصدق ومع ذلك دخل النار.
يقول المؤلف رحمه الله «إلَى آيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ فِي الْآخِرَةِ يَعْرِفُونَ رَبَّهُمْ) يعني الأدلة والنصوص من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ كثيرة تدل على أن الكفار في الآخرة يعرفون الله، والمعرفة موجودة في قلوبهم والتصديق موجود في قلوبهم ومع ذلك دخلوا النار.
يقول المؤلف رحمه الله «فَإِنْ كَانَ مُجَرَّدُ الْمَعْرِفَةِ إيمَانًا كَانُوا مُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ) لو كانوا مجرد معرفة هو الإيمان لصار هؤلاء مؤمنون في الآخرة، لكنهم ليس مؤمنين؛ ولهذا دخلوا النار. نسأل الله السلامة والعافية.
(المتن)
قال رحمه الله:
فَإِنْ قَالُوا: الْإِيمَانُ فِي الْآخِرَةِ لَا يَنْفَعُ وَإِنَّمَا الثَّوَابُ عَلَى الْإِيمَانِ فِي الدُّنْيَا. قِيلَ: هَذَا صَحِيحٌ لَكِنْ إذَا لَمْ يَكُنْ الْإِيمَانُ إلَّا مُجَرَّدَ الْعِلْمِ؛ فَهَذِهِ الْحَقِيقَةُ لَا تَخْتَلِفُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْعَمَلُ مِنْ الْإِيمَانِ فَالْعَارِفُ فِي الْآخِرَةِ لَمْ يَفُتْهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ. لَكِنَّ أَكْثَرَ مَا يَدَّعُونَهُ أَنَّهُ حِينَ مَاتَ لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ بِالرَّبِّ شَيْءٌ.
وَنُصُوصُ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُصَدِّقِينَ بِالرَّبِّ حَتَّى فِرْعَوْنُ الَّذِي أَظْهَرَ التَّكْذِيبَ كَانَ فِي بَاطِنِهِ مُصَدِّقًا. قَالَ تَعَالَى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14] وَكَمَا قَالَ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ [الإسراء: 102] وَمَعَ هَذَا لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا؛ بَلْ قَالَ مُوسَى: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس: 88] قَالَ اللَّهُ: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا [يونس: 89] وَلَمَّا قَالَ فِرْعَوْنُ: آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ [يونس: 90] . قَالَ اللَّهُ: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس: 91]. فَوَصَفَهُ بِالْمَعْصِيَةِ وَلَمْ يَصِفْهُ بِعَدَمِ الْعِلْمِ فِي الْبَاطِنِ كَمَا قَالَ: فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [المزمل: 16].
وَكَمَا قَالَ عَنْ إبْلِيسَ: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [ص: 73، 74] فَلَمْ يَصِفْهُ إلَّا بِالْإِبَاءِ وَالِاسْتِكْبَارِ وَمُعَارَضَتِهِ الْأَمْرَ، لَمْ يَصِفْهُ بِعَدَمِ الْعِلْمِ.
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ الْكُفَّارِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِالصَّانِعِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف: 87].
(الشرح)
المؤلف رحمه الله ذكر اعتراض ممن يقول إن الكفار الذين استحقوا دخول النار زال من قلوبهم الإيمان والتصديق لما رد عليهم بالأدلة والنصوص اعترضوا فقالوا الإيمان في الأخر لا ينفع، وإنما الثواب على الإيمان إنما يكون في الدنيا.
أجابهم المؤلف رحمه وقال «فَإِنْ قَالُوا: الْإِيمَانُ فِي الْآخِرَةِ لَا يَنْفَعُ وَإِنَّمَا الثَّوَابُ عَلَى الْإِيمَانِ فِي الدُّنْيَا. قِيلَ: هَذَا صَحِيحٌ لَكِنْ إذَا لَمْ يَكُنْ الْإِيمَانُ إلَّا مُجَرَّدَ الْعِلْمِ؛ فَهَذِهِ الْحَقِيقَةُ لَا تَخْتَلِفُ) فعلى الصحيح أن الإيمان في الآخرة لا ينفع لكن إذا كان الإيمان مجرد العلم فهذا الحقيقة لا تختلف، مجرد العلم موجود، في الدنيا وفي الآخرة، فالعلم في قلوبهم موجود في الدنيا موجود في الدنيا وموجود في الآخرة، هذه الحقيقة لا تختلف فإن لم يكن العلم من الإيمان فالعارف من الآخرة لا يفوته شيء من الإيمان.
يقول المؤلف رحمه الله «إذا كنتم تقولون إن الْعَمَلُ ليس مِنْ الْإِيمَانِ وإنما الإيمان هو مجرد المعرفة في القلب فَالْعَارِفُ فِي الْآخِرَةِ لَمْ يَفُتْهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ) المعرفة موجودة في قلبه، هو لم يعمل لم يعمل في الدنيا وهو عارف عنده معرفة في الدنيا، وعنده معرفة في الآخرة.
فإذا كان الإيمان هو مجرد المعرفة فالمعرفة موجودة معه في الدنيا وموجودة معه في الآخرة.
يقول المؤلف رحمه الله: "لَكِنَّ أَكْثَرَ مَا يَدَّعُونَهُ أَنَّهُ حِينَ مَاتَ لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ شيء مِنْ التَّصْدِيقِ بِالرَّبِّ شَيْءٌ) أكثر دعواهم إنهم يقولون حين الموت زال التصديق من قلبه، يعني قد يكون التصديق موجودًا في زمن الحياة لكن إذا جاءه الموت يزول التصديق من قلبه، هذا أكثر ما يدعون، وردوا عليهم أن النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة تدل على أن الكفار كانوا في الدنيا مصدقين، مصدقين بالرب، وأن هذا التصديق مستمر معهم إلى حين الوفاة، لكن هذا التصديق الذي دفن معه انقياد واتباه بشرع الله ودين لا ينفعهم.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله «وَنُصُوصُ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُصَدِّقِينَ بِالرَّبِّ حَتَّى فِرْعَوْنُ الَّذِي أَظْهَرَ التَّكْذِيبَ كَانَ فِي بَاطِنِهِ مُصَدِّقًا)
يعني نصوص القرآن الكريم تدلُّ على أن الكفار كانوا مصدقين ومعترفين حتى رؤوس الكفرة، أعظم الناس كفرًا إبليس، ومع ذلك أخبر أنه يعرف ربه وأنه صدق قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الأعراف:14] وقال لما أخذ بيد بعض الكفار في غزوة بدر قال إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [الحشر:16]، لما رأى الملائكة قال: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. إذن هو يعرف الله.
وكذلك فرعون الذي هو الذي ادعى الربوبية وقال للناس أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24] مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] الذي أظهر التكذيب هو مصدق في الباطن قال الله تعالى عنه وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14] إذا نفوسهم مستيقنه وإن كان جاحدًا ففرعون ومن معه والملأ معه مستيقنون في الباطن وإن كانوا مكذبين وإن كانوا جاحدين في الظاهر.
وأيضًا ويدل على ذلك أن موسى عليه الصلاة والسلام خاطب فرعون بقوله أنك عالم وأن العلم موجود في نفسك ولم ينفي ذلك فقال الله تعالى عن موسى إنه قال لفرعون قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ [الإسراء: 102] فعنده العلم ولم يقل فرعون ليس عندي علم، ما أنكر فالعلم موجود فيه في نفسه.
يقول المؤلف رحمه الله وَمَعَ هَذَا لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا؛ بَلْ قَالَ مُوسَى عليه الصلاة والسلام نفى عنه الإيمان وسأل ربه أن يعاقبهم وأن يطمس على أموالهم وأن يشدد على قلوبهم لأنهم ليسوا مؤمنين فقال عن موسى رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس:88] إذًا نفوا عنهم الإيمان والله أقر على ذلك واستجاب دعاءه ولهذا قال الله قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا [يونس:89] دعا عليهم الطمس على الأموال والشدة على القلوب لأنهم لم يؤمنون فصدق الله وأجاب دعوتهم، فدل على أن معهم العلم والتصديق في قلوبهم ومع ذلك لم يكونوا مؤمنين.
ومن الأدلة أيضًا على ذلك قول الله تعالى عن فرعون أنه قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ [يونس: 90] ولما قال فرعون آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قال الله له آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس: 91] إذن فرعون آمن لكنه في وقت لا ينفع فيه الإيمان عند نزول العذاب وعند بلوغ الروح إلى الحلقوم، آمن قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، من شرط الإيمان أن يكون قبل بلوغ الروح إلى الحلقوم، وقبل نزول العذاب فإذا نزل العذاب انتهى الأمر ولهذا استغفر الله أنه عاص، أنه عصى الله بالكفر، قال آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس: 91] فَوَصَفَهُ بِالْمَعْصِيَةِ وَلَمْ يَصِفْهُ بِعَدَمِ الْعِلْمِ فِي الْبَاطِنِ، فوصفه بأنه عصا الأمر وتولى عن الطاعة والاتباع والانقياد لله ولرسوله موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام فوصفه بالمعصية ولم يقل أنك ليس بعالم ولهذا قال فوصفة بالمعصية ولم يصفه بعدم العلم في الباطن كما قال تعالى في الآية الأخرى فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [المزمل: 16]أخبر أنه عاص ولم يقول أنه ليس بعالم وما عنده علم ولا إيمان وما عنده تصديق ولا علم، فوصفه بالمعصية وهي التولي عن الطاعة.
وكذلك أيضًا أخبر الله تعالى عن إبليس عن كفره بالإيمان والاستكبار وليس بانتفاء التصديق والعلم من قلبه، قال الله تعالى عن إبليس فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إلَّا إبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [ص:73، 74].
يقول المؤلف رحمه الله فلم يصفه إلا بالإباء والاستكبار ومعارضة الأمر لم يصفه بعدم العلم، ما وصفه وقال إن إبليس لم يعلم أو ليس في قلبه شيء من العلم والإيمان بل وصفة بالإباء والاستكبار وأنه عارض أمر الله ولما قال الله فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ لما قال الله اسْجُدُوا لِآدَمَ عارض الأمر هذا الأمر نص أمامه قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ فعرض الأمر وأبى واستكبر ولم ينقد فكان الكفر بذلك وليس الكفر بعدم التصديق أو بعدم العلم.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله «وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ الْكُفَّارِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِالصَّانِعِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف: 87] يعني الله أخبر عن كفار قريش أنهم يعرفون الله والعلم موجود والمعرفة موجودة في قلوبهم، ومع ذلك هم كفار حكموا عليهم بالكفر، ومع ذلك وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [الزخرف:87] قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون: 84 - 89] قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ.[يونس:31]
إذاً هم معترفون وهو عندهم العلم والتصديق ومع ذلك حكم عليهم بالكفر، نعم.
(المتن)
قال رحمه الله:
ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ: إذَا قُلْتُمْ هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ أَوْ بِاللِّسَانِ أَوْ بِهِمَا؛ فَهَلْ هُوَ التَّصْدِيقُ الْمُجْمَلُ؟ أَوْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّفْصِيلِ؟
فَلَوْ صَدَّقَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَلَمْ يَعْرِفْ صِفَاتِ الْحَقِّ هَلْ يَكُونُ مُؤْمِنًا أَمْ لَا؟
فَإِنْ جَعَلُوهُ مُؤْمِنًا. قِيلَ: فَإِذَا بَلَغَهُ ذَلِكَ فَكَذَّبَ بِهِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَصَارَ بَعْضُ الْإِيمَانِ أَكْمَلَ مِنْ بَعْضٍ؛ وَإِنْ قَالُوا: لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا لَزِمَهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ مُؤْمِنًا حَتَّى يَعْرِفَ تَفْصِيلَ كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَكْثَرَ الْأُمَّةِ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ وَعِنْدَهُمْ الْإِيمَانُ لَا يَتَفَاضَلُ إلَّا بِالدَّوَامِ فَقَطْ.
(الشرح)
الشيخ يقول المؤلف رحمه الله في رد على المرجئة الذين يقولون إن الإيمان بالتصديق بالقلب أو التصديق بالقلب واللسان، لأن مرجئة الفقهاء يقولون إن الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان التصديق بالقلب وإقرار باللسان، والماتريدية يقولون الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، والإقرار باللسان ركنٌ زائد.
فيقول المؤلف: ثم يقال لهم: «إذَا قُلْتُمْ هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ أَوْ بِاللِّسَانِ أَوْ بِهِمَا؛ فَهَلْ هُوَ التَّصْدِيقُ الْمُجْمَلُ؟ أَوْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّفْصِيلِ؟» يعني هل يكفي التفصيل المجمل أو لابد من التفصيل.
فَلَوْ صَدَّقَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَلَمْ يَعْرِفْ صِفَاتِ الْحَقِّ هَلْ يَكُونُ مُؤْمِنًا أَمْ لَا؟ فَإِنْ جَعَلُوهُ مُؤْمِنًا. قِيلَ لهم: فَإِذَا بَلَغَهُ ذَلِكَ فَكَذَّبَ بِهِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَصَارَ بَعْضُ الْإِيمَانِ أَكْمَلَ مِنْ بَعْضٍ؛ وَإِنْ قَالُوا: لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا لَزِمَهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ مُؤْمِنًا حَتَّى يَعْرِفَ تَفْصِيلَ كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَكْثَرَ الْأُمَّةِ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ، فهذه إذًا إلزامٌ لهم إذا قالوا إن التصديق هل المراد بالتصديق المجمل لمن هو التصديق هل المراد المجمل ولا التصديق.
فإن قالوا إن المراد به تصديق المجمل فيلزمهم على هذا أنه إذا بلغه شيء من الإيمان بعد ذلك فكذب به لا يكون مؤمنًا فإذا قالوا إن المراد الإجمال فيلزمهم أنه إذا بلغوا بذلك فكذب به فأنه يكون مؤمنًا وهذا ليس بالصحيح.
فإنه لا يكون مؤمنًا باختلاف المسلمين إذا كذب فَصَارَ بَعْضُ الْإِيمَانِ أَكْمَلَ مِنْ بَعْضٍ؛ وَإِنْ قَالُوا: لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حتى يصدق به بجميع ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام ويعرف تفاصيل ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام لَزِمَهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ مُؤْمِنًا حَتَّى يَعْرِفَ تَفْصِيلَ كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ، وهذا مخالف للنصوص ويلزمهم على هذا أن أكثر الأمة أن لا يكونوا مؤمنين لأنهم لا يعرفون ذلك، نعم.
(المتن)
توقفنا عند قول المؤلف رحمه الله:
وَعِنْدَهُمْ الْإِيمَانُ لَا يَتَفَاضَلُ إلَّا بِالدَّوَامِ فَقَطْ.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: فَإِنْ قَالَ الْقَائِلُ: أَصْلُكُمْ يَلْزَمُكُمْ أَنْ يَكُونَ إيمَانُ الْمُنْهَمِكِ فِي فِسْقِهِ كَإِيمَانِ النَّبِيِّ ﷺ. قُلْنَا: الَّذِي يُفَضِّلُ إيمَانَهُ عَلَى إيمَانِ مَنْ عَدَاهُ بِاسْتِمْرَارِ تَصْدِيقِهِ وَعِصْمَةِ اللَّهِ إيَّاهُ مِنْ مُخَامَرَةِ الشُّكُوكِ وَاخْتِلَاجِ الرِّيَبِ، وَالتَّصْدِيقُ عَرَضٌ مِنْ الْأَعْرَاضِ لَا يَبْقَى وَهُوَ مُتَوَالٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ ثَابِتٌ لِغَيْرِهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَزَائِلٌ عَنْهُ فِي أَوْقَاتِ الْفَتَرَاتِ فَيَثْبُتُ لِلنَّبِيِّ ﷺ أَعْدَادٌ مِنْ التَّصْدِيقِ وَلَا يَثْبُتُ لِغَيْرِهِ إلَّا بَعْضُهَا فَيَكُونُ إيمَانُهُ لِذَلِكَ أَكْثَرَ وَأَفْضَلَ؛ قَالَ: وَلَوْ وُصِفَ الْإِيمَانُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَأُرِيدَ بِهِ ذَلِكَ كَانَ مُسْتَقِيمًا.
قُلْت: فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَفْضُلُ بِهِ النَّبِيُّ غَيْرَهُ فِي الْإِيمَانِ عِنْدَهُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى.
(الشرح)
فإن المؤلف رحمه الله لازال يناقش الأشعرية والمرجئة في تعريفهم الإيمان وقولهم من مسمى الإيمان هو ما يوجد في القلب من التصديق والعلم، وسبق المناقشة والردود ثم بين المؤلف رحمه الله أنهم أيضًا لا يقولون بتفاضل الإيمان إلا بالدوام فقط وليس عندهم الإيمان يتفاضل ويزيد وينقص وأن إيمان بعض الناس أفضل من بعض وأقوى من بعض إلا أنهم يقولون الإيمان يتفاضل بالدوام فقط، يعني بالاستمرار ثم نقل المؤلف رحمه الله نصًا عن أبي المعالي الجويني وهو أشعري كأبي حسن الأشعري قال« فَإِنْ قَالَ الْقَائِلُ: أَصْلُكُمْ يَلْزَمُكُمْ أَنْ يَكُونَ إيمَانُ الْمُنْهَمِكِ فِي فِسْقِهِ كَإِيمَانِ النَّبِيِّ ﷺ.» المنهمك يعني العاصي يعني إذا قال قائل أصلكم يلزمكم لأن أصل الأشاعرة يقولون الإيمان لا يزيد ولا ينقص ويقولون إيمان الناس سواء وإيمان أفسق الناس وأفيد الناس سواء وإيمان جبريل ميكائيل وإيمان الفسقة واحد.
هكذا يقول المرجئة وكذلك يقولون إيمان أبو بكر وعمر كإيمان غيره والتفاضل بينهم إنما هو بالتقوى فالإيمان ليس فيه تفاضل.
يقول «قَالَ الْقَائِلُ: أَصْلُكُمْ يَلْزَمُكُمْ أَنْ يَكُونَ إيمَانُ الْمُنْهَمِكِ فِي فِسْقِهِ كَإِيمَانِ النَّبِيِّ ﷺ».
إيمان المنهمك يعني العاصي، إيمان العاصي كإيمان النبي ﷺ، هكذا يلزمهم، فأجاب أبو المعارف قُلْنَا: الَّذِي يُفَضِّلُ إيمَانَهُ عَلَى إيمَانِ مَنْ عَدَاهُ بِاسْتِمْرَارِ تَصْدِيقِهِ وَعِصْمَةِ اللَّهِ إيَّاهُ هكذا هذا الناقل ذكر المحاسبي أنه في موجود في الإرشاد لأبي المعالي قلنا إن النبي عليه الصلاة والسلام يفضل من عاداه ولعل يتضح المعنى أكثر قلنا إن النبي ﷺ يفضل إيمانه على من عاداه باستمرار تصديقه وعصمة الله إياه ويؤيد هذا قوله: وَعِصْمَةِ اللَّهِ إيَّاهُ؛ لأن الرسول ﷺ هو المعصوم.
قلنا إن النبي ﷺ يفضل من عاداه باستمرار تصديقه وعصمة الله إياه من مخامرة الشكوك وَاخْتِلَاجِ الرِّيَبِ، فالرسول عليه الصلاة والسلام إنما يفضل من عاداه عندهم باستمرار التصديق ويقول لله خصمه من أن يخالط إيمانه شك أو ريب، وقالوا: "وَالتَّصْدِيقُ عَرَضٌ مِنْ الْأَعْرَاضِ لَا يَبْقَى وَهُوَ مُتَوَالٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ ثَابِتٌ لِغَيْرِهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَزَائِلٌ عَنْهُ فِي أَوْقَاتِ الْفَتَرَاتِ".
هكذا يقولون إن التفاضل بين الناس إنه في الاستمرار والرسول ﷺ يفضل على غيره بالاستمرار وبالعصمة من الشكوك فهو متوال للنبي ﷺ أنه مستمر بخلاف غيره فهو منقطع، في بعض الأوقات ثم استنتج المعالى الجويني: "فَيَثْبُتُ لِلنَّبِيِّ ﷺ أَعْدَادٌ مِنْ التَّصْدِيقِ وَلَا يَثْبُتُ لِغَيْرِهِ إلَّا بَعْضُهَا فَيَكُونُ إيمَانُهُ لِذَلِكَ أَكْثَرَ وَأَفْضَلَ".
قال المؤلف رحمه الله نقل عن أبو المعالي الجويني: "وَلَوْ وُصِفَ الْإِيمَانُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَأُرِيدَ بِهِ ذَلِكَ كَانَ مُسْتَقِيمًا".
يقول المؤلف: أبو المعالي الجويني يقول: "إذا وصف الإيمان بالزيادة والنقصان ووجد بالاستمرار فهذا لا بأس به، وأما كون الإيمان يزيد وينقص ويقوى ويضعف فهذا لا يقول به المرجئة".
ثم رد المؤلف رحمه الله فقال: "قُلْت: فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَفْضُلُ بِهِ النَّبِيُّ غَيْرَهُ فِي الْإِيمَانِ عِنْدَهُمْ"؛ يعني النبي ﷺ يفضل بالإيمان على غيره من الناس من المسلمين المطيعين والعصاة إنما يفضلهم بالاستمرار وعصمة الله له من مخامرة الشكوك.
قال المؤلف رحمه الله « وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى) لا شك أن هذا قول فاسد وأن الإيمان يزيد وينقص ويقوى ويضعف، والإيمان في قلوب الناس نور الإيمان يختلف كما أن نور يتفاضل النور يكون قوي كالشمس كالسراج كالكهرباء، ويكون ضعيفًا وكذلك الإيمان في قلوب الناس ولهذا إيمان الصديق أقوى، أقوى إيمانًا من كثير من الناس، ولهذا لو وزن إيمان الصديق بإيمان الأمة لرجحت، والنبي ﷺ وأقوى الناس إيمانًا وأكثرهم إيمانًا ولا شك أن المطيعين والمؤمنين وأهل الصدق، والإخلاص، وأهل الوفاء والسابقين إلى الخيرات لا شك أن إيمانهم أقوى وأكثر من إيمان العصاة، ولا يقول إنسان عاقل أن إيمان العاصي وإيمان المطيع سواء، ولا شك أن الناس يتفاتون في إيمانهم تفاوتًا عظيمًا.
فالمؤمن الذي إيمانه قوي يحرق الصادق مع الله في إيمانه، يحرق إيمانه الشبهات والشهوات فلا يبقى شبهة ولا شهوات، وإذا ضعف الإيمان جاءت الشبهات والشهوات، فكيف يقال إن إيمان الناس سواء؟ أو أن إيمان العصاة سواء؟ نعم.
المتن:
فَصْلٌ:
قَالَ الَّذِينَ نَصَرُوا مَذْهَبَ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ - كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَهَذَا لَفْظُهُ - فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا الْإِسْلَامُ عِنْدَكُمْ؟ قِيلَ لَهُ: " الْإِسْلَامُ ": الِانْقِيَادُ وَالِاسْتِسْلَامُ؛ فَكُلُّ طَاعَةٍ انْقَادَ الْعَبْدُ بِهَا لِرَبِّهِ وَاسْتَسْلَمَ فِيهَا لِأَمْرِهِ فَهِيَ إسْلَامٌ، وَالْإِيمَانُ: خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ؛ وَكُلُّ إيمَانٍ إسْلَامٌ وَلَيْسَ كُلُّ إسْلَامٍ إيمَانًا فَإِنْ قَالَ: فَلِمَ قُلْتُمْ: إنَّ مَعْنَى الْإِسْلَامِ مَا وَصَفْتُمْ؟ قِيلَ: لِأَجْلِ قَوْله تَعَالَى قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا فَنَفَى عَنْهُمْ الْإِيمَانَ وَأَثْبَتَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِمَا أَثْبَتَهُ الِانْقِيَادَ وَالِاسْتِسْلَامَ وَمِنْهُ: وَأَلْقَوْا إلَيْكُمُ السَّلَمَ وَكُلُّ مَنْ اسْتَسْلَمَ لِشَيْءِ فَقَدْ أَسْلَمَ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَسْلِمِ لِلَّهِ وَلِنَبِيِّهِ.
" قُلْت ": وَهَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ مَعَ بُطْلَانِهِ وَمُخَالَفَتِهِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هُوَ تَنَاقُضٌ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا الْإِيمَانَ خَصْلَةً مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ فَالطَّاعَاتُ كُلُّهَا إسْلَامٌ وَلَيْسَ فِيهَا إيمَانٌ إلَّا التَّصْدِيقُ. وَالْمُرْجِئَةُ وَإِنْ قَالُوا: إنَّ الْإِيمَانَ يَتَضَمَّنُ الْإِسْلَامَ فَهُمْ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ هُوَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَأَمَّا الْجَهْمِيَّة فَيَجْعَلُونَهُ تَصْدِيقَ الْقَلْبِ فَلَا تَكُونُ الشَّهَادَتَانِ وَلَا الصَّلَاةُ وَلَا الزَّكَاةُ وَلَا غَيْرُهُنَّ مِنْ الْإِيمَانِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا بَيَّنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ أَنَّ الْإِسْلَامَ دَاخِلٌ فِي الْإِيمَانِ فَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَكُونَ مُسْلِمًا كَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ دَاخِلٌ فِي الْإِحْسَانِ فَلَا يَكُونُ مُحْسِنًا حَتَّى يَكُونَ مُؤْمِنًا.
(الشرح)
نعم ذكر المؤلف رحمه الله في بيان مذهب المرجئة من الأشعرية وغيرهم الذين وافقوا جهم بن صفوان في مسمى الإيمان ذكر مذهبهم في مسمى الإسلام.
قال رحمه الله: "فَصْلٌ: قَالَ الَّذِينَ نَصَرُوا مَذْهَبَ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ"؛ وهو قاضي أبي بكر الباقلاني، هؤلاء المتأخرون جاءوا بعد أبو الحسن الأشعري وافقوا الجهم في مسمى الإيمان.
فالجهم يقول الإيمان هو معرفة الرب بالقلب، والأشعري يقول الإيمان هو التصديق في القلب، سبق أن التصديق المجرد لا فرق بينه وبين الإيمان إن لم يكن معه شيء من أعمال القلوب ولا أعمال الجوارح فلا فرق بين التصديق والمعرفة.
ذكر المؤلف رحمه الله مذهبهم في الإسلام وبين بطلانه فقال: "وَهَذَا لَفْظُهُ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا الْإِسْلَامُ عِنْدَكُمْ؟ قِيلَ لَهُ: الْإِسْلَامُ: الِانْقِيَادُ وَالِاسْتِسْلَامُ؛ فَكُلُّ طَاعَةٍ انْقَادَ الْعَبْدُ بِهَا لِرَبِّهِ وَاسْتَسْلَمَ فِيهَا لِأَمْرِهِ فَهِيَ إسْلَامٌ، وَالْإِيمَانُ: خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ".
هكذا جعلوا الإسلام هو الطاعات كلها، وأما الإيمان فهو خصلة واحد وهو التصديق، فجعلوا الإسلام خصلة من خصال الإسلام، وجعلوا الإسلام هو جميع الطاعات، وكل إسلام إيمان وليس كل إيمان إسلام، كل إيمان إسلام؛ لأن الإيمان هو التصديق فكل ما صدق فهو مسلم، وليس كل إسلام إيمان؛ لأن الطاعات ليست من الإيمان، وهذا لا شك أنه قول فاصل، كما بين المؤلف رحمه الله.
فإن الإيمان أفضل وأعلى من الإسلام ولهذا فأن العاصي يوصف بأنه مسلم، ولا يوصف بأنه مؤمن، إذا قصر في بعض الوجبات أو ارتكب بعض المحرمات يطلق عليه الإسلام ولكنه لا يطلق عليه اسم الإيمان إلا مع التقيد في النفي والإثبات.
فيقال مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن ضعيف الإيمان مؤمن إيمانه ناقصٌ بكبيرته وكذلك في النفي لا ينفى عنه الإيمان، إلا بالقيد فيقال ليس بمؤمن حق ليس بصادق الإيمان ولكنه يطلق عليه الإسلام فالإيمان أعلى وهو العكس فقالوا إن الإيمان خاصة من خصال الإسلام وهو التصديق يقول الخطابي أبي بكر: "لِمَ قُلْتُمْ: إنَّ مَعْنَى الْإِسْلَامِ مَا وَصَفْتُمْ"؛ يعني ما هو دليلكم؟
"قِيلَ: لِأَجْلِ قَوْله تَعَالَى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14] فَنَفَى عَنْهُمْ الْإِيمَانَ وَأَثْبَتَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ".
وهذه الآية معروفة فيها كلام لأهل العلم، من العلماء من قال إن هذه الآية إنما هي في المنافقين فهؤلاء نفى الله عنهم الإيمان وأثبت لهم الإسلام الظاهر، وإلى هذا ذهب بعض السنة وعلى رأسهم الإمام البخاري رحمه الله.
وذهب الجمهور إلى أن هذه الآية في ضعفاء الإيمان وليست في المنافقين بدليل ما قبلها وما بعدها فإن الله أثبت لهم إسلامهم قال يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا [الحجرات:17]. قال وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [الحجرات:14].
فأثبت لهم إطاعة الله ورسوله وأثبت لهم الثواب والمنافقون لهم ليس ثواب وليس لهم طاعة، فدل على أنها في ضعفاء الإيمان، والمنافقون لهم ليس ثواب وليس لهم طاعة، فدل على أنها في ضفاء الإيمان.
وأبو المعالى الجويني استدل بها على ما ذهب إليه من أن الإيمان خصلة وهو التصديق والإسلام هو جميع الطاعات.
ولهذا قال: "فَنَفَى عَنْهُمْ الْإِيمَانَ وَأَثْبَتَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِمَا أَثْبَتَهُ الِانْقِيَادَ وَالِاسْتِسْلَامَ وَمِنْهُ: وَأَلْقَوْا إلَيْكُمُ السَّلَمَ [النساء:90]، وَكُلُّ مَنْ اسْتَسْلَمَ لِشَيْءِ فَقَدْ أَسْلَمَ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَسْلِمِ لِلَّهِ وَلِنَبِيِّهِ"؛ يعني كل من استسلم لشيء قالوا له قالوا وأسلم، لأن الإسلام هو الاستسلام والانقياد.
فردَّ المؤلف رحمه الله: "قُلْت: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ مَعَ بُطْلَانِهِ وَمُخَالَفَتِهِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هُوَ تَنَاقُضٌ"؛ يعني قولهم باطل مع كونه فهو متناقض، وجه التناقض يقول المؤلف: "فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا الْإِيمَانَ خَصْلَةً مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ"؛ وهو التصديق جعلوا التصديق خصلة من خصال الإسلام.
فالطاعات كلها إسلام وليس فيها إيمان إلا تصديق وهذا باطل، لأن كل الأعمال من الإيمان هذا مصادم للنصوص ثبت أن النبي يقول ﷺ: الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ - أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ - شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ ([1]) جعل الإيمان بضع وسبعين شعبة، والبضع من ثلاث إلى تسع.
قد تتبع المحدث البيهقي رحمه الله، هذه الشعب وأوصلها إلى أعلى البضع وهي بعض وتسعيون شعبة وألف كتاب فيها سمى شعب الإيمان فكيف يقال أن الإيمان خصلة؟
هذا مخالف للنص، وفي حديث وصف عبد القيس قال النبي ﷺ وهو في الصحيحين: آمُرُكُم بِالإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، أَتَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ؟ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ المَغْنَمِ الخُمُسَ ([2])
جعلوا هذه من الإيمان وهي أعمال والأدلة في هذا كثيرة منها قول الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال: 2 - 4].
فلا شك أن هذا يكون المنافق في الكتاب والسنة كما بين.. باطل يصادم النصوص من الكتاب والسنة ومع ذلك هذا قول متناقض.
يقول المؤلف: "وهذا قول متناقض فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا الْإِيمَانَ خَصْلَةً مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ فَالطَّاعَاتُ كُلُّهَا إسْلَامٌ وَلَيْسَ فِيهَا إيمَانٌ إلَّا التَّصْدِيقُ، وَالْمُرْجِئَةُ وَإِنْ قَالُوا: إنَّ الْإِيمَانَ يَتَضَمَّنُ الْإِسْلَامَ فَهُمْ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ هُوَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ".
المرجئة الفقهاء، مرجئة الفقهاء.
... يقولوا الإيمان هو تصديق القلب واللسان وَأَمَّا الْجَهْمِيَّة فَيَجْعَلُونَهُ تَصْدِيقَ الْقَلْبِ فَلَا تَكُونُ الشَّهَادَتَانِ وَلَا الصَّلَاةُ وَلَا الزَّكَاةُ وَلَا غَيْرُهُنَّ مِنْ الْإِيمَانِ.
لأن عند المرجئة وعند الجهمية لا تكون الشهاديتين ومن الإيمان ولا الصلاة من الإيمان والزكاة من الإيمان ولا غيرها من الإيمان، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا بَيَّنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ أَنَّ الْإِسْلَامَ دَاخِلٌ فِي الْإِيمَانِ فَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَكُونَ مُسْلِمًا، قد لا يكون الرجل مؤمنًا حتى يكون مسلمًا لابد من عمل، يعني من ادعى أنه مصدق ولا يعمل لا يتحقق إيمانه إلا بالعمل كما أن المسلم لا يصح إسلامه المسلم الذي يعمل لا يصح عمله إلا بالتصديق فلابد من إيمان يصحح عمله، إلا وصار كإسلام المنافقين.
وكذلك المصدق لابد له من عمل يتحقق به وإلا صار كإيمان إبليس وفرعون ولهذا قال المؤلف «لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَكُونَ مُسْلِمًا كَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ دَاخِلٌ فِي الْإِحْسَانِ فَلَا يَكُونُ مُحْسِنًا حَتَّى يَكُونَ مُؤْمِنًا».
نعم، الإحسان معناه أن تعبد الله كأنك تراه فالذي لا يؤمن ولا يعمل لا يكون محسن.
(المتن)
وَأَمَّا التَّنَاقُضُ فَإِنَّهُمْ إذَا قَالُوا: الْإِيمَانُ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ كَانَ مَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ إنَّمَا أَتَى بِخَصْلَةِ مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ لَا بِالْإِسْلَامِ الْوَاجِبِ جَمِيعِهِ.
فَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا حَتَّى يَأْتِيَ بِالْإِسْلَامِ كُلِّهِ كَمَا لَا يَكُونُ عِنْدَهُمْ مُؤْمِنًا حَتَّى يَأْتِيَ بِالْإِيمَانِ كُلِّهِ وَإِلَّا فَمَنْ أَتَى بِبَعْضِ الْإِيمَانِ عِنْدَهُمْ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا وَلَا فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَقُولُوا فِي الْإِسْلَامِ وَقَدْ قَالُوا: كُلُّ إيمَانٍ إسْلَامٌ وَلَيْسَ كُلُّ إسْلَامٍ إيمَانًا وَهَذَا إنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّ كُلَّ إيمَانٍ هُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ نَاقَضَ قَوْلَهُمْ: إنَّ الْإِيمَانَ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِهِ فَجَعَلُوا الْإِيمَانَ بَعْضَهُ وَلَمْ يَجْعَلُوهُ إيَّاهُ وَإِنْ قَالُوا: كُلُّ إيمَانٍ فَهُوَ إسْلَامٌ أَيْ هُوَ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ الْوَاجِبِ وَهَذَا مُرَادُهُمْ.
قِيلَ لَهُمْ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْإِسْلَامُ مُتَعَدِّدًا بِتَعَدُّدِ الطَّاعَاتِ وَتَكُونُ الشَّهَادَتَانِ وَحْدَهُمَا إسْلَامًا وَالصَّلَاةُ وَحْدَهَا إسْلَامًا وَالزَّكَاةُ إسْلَامًا بَلْ كُلُّ دِرْهَمٍ تُعْطِيهِ لِلْفَقِيرِ إسْلَامًا وَكُلُّ سَجْدَةٍ إسْلَامًا وَكُلُّ يَوْمٍ تَصُومُهُ إسْلَامًا وَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ تُسَبِّحُهَا فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا إسْلَامًا.
(الشرح)
نعم المؤلف رحمه الله يبين تناقض الأشاعرة والاشعرية في قولهم ان الإسلام هو الطاعات والإيمان خصلة من خصال الإسلام، يبين تناقضهم في ذلك فيقول: "أنهم إذا الْإِيمَانُ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ كَانَ مَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ إنَّمَا أَتَى بِخَصْلَةِ واحدة مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ لَا بِالْإِسْلَامِ الْوَاجِبِ جَمِيعِهِ.
فَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا حَتَّى يَأْتِيَ بِالْإِسْلَامِ كُلِّهِ كَمَا لَا يَكُونُ عِنْدَهُمْ مُؤْمِنًا حَتَّى يَأْتِيَ بِالْإِيمَانِ كُلِّهِ وذلك أن من أتى ببعض الإيمان لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا وَلا يكون فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ"؛ لأنه لا يتبعض َكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَقُولُوا فِي الْإِسْلَامِ أن من أتى بخصلة منه فلا يكون إسلامًا؛ لأنهم لا يقولون بتبعض الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص ولا يتبعض بل إذا زال زال جميعه وإذا ثبت ثبت جميعه.
وهذه شبهة يركز عليها جميع أهل البدع جميع من خالف السنة يقولون الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص ولا يذهب بعضه ولا يبقى بعضه بل إذا زال زال جميعه وإذا ثبت ثبت جميعه؛ لأنَّ الحقيقة مركبة والحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها هذه قاعدة أهل البدع، ولم ينفصل عن هذا القائل أهل السنة والجماعة فإنهم يقولون الإيمان متعدد ومتبعض يذهب بعضه ويبقى بعضه، والحقيقة المركبة لا تزول في زوال بعض أجزائها من قال إنها تزول في زوال بعض أجزائها؟، لان الحقيقة مركبة إذا زال بعض أجزائها بقيت لكن ناقصة.
والإنسان إذا ذهب أصبع من أصابعه لا تذهب حقيقة الإنسان بل يبقى هو حقيقة مركبة للإنسان من أعضاء ويدين ورجلين وصفات، هل إذا زال زال جميعه؟
لا إذا زال أصبع ما يزول حقيقة الإنسان هذا قول باطل ولهذا قال المؤلف رحمه الله «وَأَمَّا التَّنَاقُضُ فَإِنَّهُمْ إذَا قَالُوا: الْإِيمَانُ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ كَانَ مَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ إنَّمَا أَتَى بِخَصْلَةِ مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ لَا بِالْإِسْلَامِ الْوَاجِبِ جَمِيعِهِ. فَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا حَتَّى يَأْتِيَ بِالْإِسْلَامِ لأنه لا يتبع أوامره كَمَا لَا يَكُونُ عِنْدَهُمْ مُؤْمِنًا حَتَّى يَأْتِيَ بِالْإِيمَانِ كُلِّهِ وَإِلَّا فَمَنْ أَتَى بِبَعْضِ الْإِيمَانِ عِنْدَهُمْ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا وَلَا فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَقُولُوا فِي الْإِسْلَامِ.»
فإذا أتى بالإيمان وهو خصلة من خصال الإسلام لا يكون مسلمًا عندهم يلزمهم هذا، تناقضوا هذا تناقضهم؛ لأنهم قالوا الإسلام هو جميع الطاعات، وقالوا الإيمان خصلة من خصال الإسلام وهو التصديق، وعلى هذا إذا اتى بخصلة من خصال الإسلام إذا أتى بالتصديق أتى بخصلة واحدة من خصال الإسلام فلا يكون مسلم، لأنه الإسلام لا يتبعض حتى يأتي بجميع خصال الإسلام، لذلك يتناقضون في قولهم خصلة من خصال الإسلام والإسلام لا يكون إلا جملة واحدة، لا يأتي بعضه ويذهب بعضه كما أن الإيمان لا يتبعض وكذلك الإسلام لا يتبعض فهذا تناقض منهم.
فتبين بهذا أنهم متناقضون حينما قالوا الإسلام جميع الطاعات والإيمان خصلة من خصال الإسلام، لأن هذه الخصلة ليست جميع الإسلام فلا تكون إسلامًا حتى يوجد الإسلام كله ولهذا قال المؤلف رحمه الله «وَإِلَّا فَمَنْ أَتَى بِبَعْضِ الْإِيمَانِ عِنْدَهُمْ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا وَلَا فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَقُولُوا فِي الْإِسْلَامِ وَقَدْ قَالُوا: كُلُّ إيمَانٍ إسْلَامٌ وَلَيْسَ كُلُّ إسْلَامٍ إيمَانًا»
قالو كل إيمَانٍ إسْلَامٌ؛ يعني أن التصديق إسلام، لكن ليس كل إسلام إيمانًا لأن الإسلام لأن الإيمان لا يكون لله هو التصديق، فلا يكون كل إسلام إيمان خصال الإسلام الأعمال ليست من الإيمان.
الإيمان عندهم هو التصديق وهذا تناقض منهم ولهذا قال المؤلف رحمه الله «وَهَذَا إنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّ كُلَّ إيمَانٍ هُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ نَاقَضَ قَوْلَهُمْ: إنَّ الْإِيمَانَ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِهِ» إذا قالوا إن كُلَّ إيمَانٍ هُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فأنه ينقض قولهم ان الإيمان خصلة من خصالة، لا جميعًا.
الإيمان خصلة، فالإيمان من أتى بهذه الخصلة ما أتى بالإسلام ولهذا قال «فَجَعَلُوا الْإِيمَانَ بَعْضَهُ وَلَمْ يَجْعَلُوهُ إيَّاهُ» جعلوا الإيمان بعض الإسلام ولم يجعلوه إياه ولم يجعلوا الإسلام، وَإِنْ قَالُوا: كُلُّ إيمَانٍ فَهُوَ إسْلَامٌ أَيْ هُوَ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ الْوَاجِبِ وَهَذَا مُرَادُهُمْ. هذا هو مرادهم أن يقولوا أن كل إيمان فهو إسلام يعني طاعة لله وهو جزء من الإسلام الواجب وهذا مرادهم يلزمهم على هذا محلول وهو أن تكون الطاعات المتعددة يلزمهم منها كل منها يسمى إسلام مستقل.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله «قِيلَ لَهُمْ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْإِسْلَامُ مُتَعَدِّدًا بِتَعَدُّدِ الطَّاعَاتِ وَتَكُونُ الشَّهَادَتَانِ وَحْدَهُمَا إسْلَامًا وَالصَّلَاةُ وَحْدَهَا إسْلَامًا وَالزَّكَاةُ إسْلَامًا بَلْ كُلُّ دِرْهَمٍ تُعْطِيهِ لِلْفَقِيرِ إسْلَامًا وَكُلُّ سَجْدَةٍ إسْلَامًا وَكُلُّ يَوْمٍ تَصُومُهُ إسْلَامًا وَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ تُسَبِّحُهَا فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا إسْلَامًا» وهذا باطل ، نعم.
(المتن)
قال رحمه الله:
(الشرح)
نعم المؤلف رحمه الله لا زال يناقش قاضي أبو بكر في حكاياته لمذهب الأشاعرة في أن الإيمان خصلة من خصال الإسلام وإن الإيمان هو جميع الطاعات يقول: "ثُمَّ الْمُسْلِمُ إنْ كَانَ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا إلَّا بِفِعْلِ كُلِّ مَا سَمَّيْتُمُوهُ إسْلَامًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْفُسَّاقُ لَيْسُوا مُسْلِمِينَ مَعَ كَوْنِهِمْ مُؤْمِنِينَ"؛ يعني إذا كان الإسلام لا يتعدد ولا يتضعف، وأنه لا يسمى الإسلام مسلم حتى يأتي بجميع الطاعات لزم أن الفساق لا يسمون مسلمين؛ لأن الفساق تركوا بعض الواجبات يترك صلاة الجماعة، يفعل بعض المحرمات فلا يكون مسلمًا ولكنه يسمى مؤمنًا لأنه أتى بالتصديق.
وهذا هذا ضد النصوص وهذا مصادم للنصوص وعلى هذا يلزمهم ان يكون الفاسق يسمى مسلم ولا يسمى مؤمن يسمى مسلم يلزمه ألا يكون مسلمًا ويسمى مؤمنًا.
لا يسمى مسلمًا لأنه ترك بعض الواجبات، ويسمى مؤمنًا لأنه أتى بالتصديق وهذا باطل، ولهذا قال المؤلف رحمه الله «فَجَعَلْتُمْ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِي الْإِيمَانَ عِنْدَكُمْ لَيْسُوا مُسْلِمِينَ» لماذا وجه ذلك؟
لأنهم قد يتركوا شيء من التطوعات فإذ ترك مثلًا صلاة الليل وهذا أدى الواجبات وترك المحرمات يلزم على قولهم ألا يسمى مسلمًا ترك بعض النوافل إذا ترك تحية المسجد فترك سنة الوضوء، وهذه من التطوعات فلا يسمى مسلمًا مع انه النصوص دلت على إنه مؤمن كامل الإيمان إذا أدى الواجبات وترك المحرمات فهو من أصحاب اليمين الذين يدخلون الجنة من أول وهله، وإيمانهم كامل ليس عنده نقص كالعصاة الذين فرطوا في بعض الواجبات وبعض المحرمات في أموالهم وفي أنفسهم، وعلى هذا على مذهب الأشاعرة يكون من ترك طاعة من الطاعات ونافذة من النوافذ لا يسمى مسلمًا.
وهكذا يقول المؤلف و وَهَذَا شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الكَرَّامِيَة، الكرامية يقولون ان الإيمان هو مجرد النطق، هو الإقرار باللسان فإذا قر بلسانه صار مؤمنًا، والاشاعرة على تعريفهم هذا من ترك نافلة من النوافل فلا يسمى مسلمًا وهذا شر من قول الكرامية، كرامية أثبتوا الإيمان لمن نطق بلسانه وهؤلاء نفوا الإيمان عن كامل الإيمان ويلزم ويقول المؤلف «وَيَلْزَمُ أَنَّ الْفُسَّاقَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لَيْسُوا مُسْلِمِينَ» أيضًا على كذلك هذا محذور أخر مخالف للنصوص فيكون الفساق وأن كانوا معهم أصل الإيمان لا يسمون مسلمين وهذا مصادم للنصوص التي أثبتت لهم الإسلام ونفت عنهم الإيمان.
فالفاسق ينفى عنه الإيمان بأطلاق ولكن لا ينفى عنه الإسلام، يقول المؤلف وَهَذَا شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ فالذين يقولون إن الفاسق لا يسمى مسلم يقول المؤلف وَهَذَا شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْخَوَارِجِ الذين يكفرون بالمعاصي وكذلك المعتزلة الذين خرجوا من الإيمان ودخلوا في الكفر، بَلْ وَأَنْ يَكُونَ مَنْ تَرَكَ التَّطَوُّعَاتِ لَيْسَ مُسْلِمًا يعني يلزمهم على هذا القول أن يكون ترك التطوعات يعني النوافل ليس مسلمًا إذ كانت التطوعات طاعة لله لأن الا تعليله لأن التطوعات طاعة لله فإذا ترك بعض النوافل لا يكون مسلمًا لأنهم جعلوا كل طاعة فرضًا او نفلًا إسلام، هذا وجه ذلك فجعلوا كل طاعة سواء هذه الطاعة فرضًا أو نفلًا من الإسلام وإذا ترك النفل فلا يكون مسلمًا وهذا باطل.
(المتن)
توقفنا عند قول المؤلف رحمه الله:
(الشرح)
فإن المؤلف رحمه الله لايزال يناقش الأشعرية وفي قولهم إن الإيمان هو مجرد التصديق، ثم ناقشهم بعد ذلك في قولهم إن الإسلام هو الانقياد هو الاستسلام وان كل طاعة انقاد بها العبد لربه واستسلم فيها لأمره فهي إسلام وأما الإيمان هو خصله من خصال الإسلام وهو التصديق فعلى هذا يكون الإيمان خصلة من خصال الإسلام، والإسلام جميع الطاعات ولا يكون مسلمًا حتى يأتي بجميع الطاعات، فإذا نقص شيئًا منها فلا يسمى مسلمًا وإذا أتى بخصلة بالتصديق فأنه يأتي بخصلة واحدة من خصال الإسلام ويسمونه مؤمنًا.
ويسمونه في هذا مسلمًا مع هذا القول متناقض كما بين الله المؤلف رحمه الله.
ثم ناقش المؤلف رحمه الله خلاف ما احتججتم به من قوله للأعراب قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14].
فَأَثْبَتَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ دُونَ الْإِيمَانِ يعني قولهم أن الإيمان خصلة من خصال الإسلام وأن الإسلام هو جميع الطاعات خلاف ما احتجوا به من هذه الآية لأنهم احتجوا بهذه الآية في مطلع سياق المؤلف رحمه الله لقول القاضي أبو بكر الباقلاني حيث استدل بقوله تعالى قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14]
فيقول المؤلف أن هذا خلاف ما احتججتم به فأن الله تعالى أثبت لهم الإسلام دون الإيمان، الله تعالى أثبت لهم الإسلام دون الإيمان وأنتم مذهبكم أن من لا يسمى مسلمًا إلا من أتى بجميع الطاعات والآية ترد قولكم، ثم قال المؤلف رحمه الله «وَأَيْضًا فَإِخْرَاجُكُمْ الْفُسَّاقَ مِنْ اسْمِ الْإِسْلَامِ إنْ أَخَرَجْتُمُوهُمْ أَعْظَمُ شَنَاعَةً مِنْ إخْرَاجِهِمْ مِنْ اسْمِ الْإِيمَانِ فَوَقَعْتُمْ فِي أَعْظَمِ مَا عِبْتُمُوهُ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ»
يعني يرد عليهم أنهم أخرجوا الفساق من أسم الإسلام لأن الفاسق ترك شيئًا من الواجبات لا يسمى مسلمًا حتى يأتي بجميع الطاعات، والفاسق ترك بعض الطاعات فلا يسمى مسلمًا فأخرجوه باسم الإسلام، وهذا أعظم شناعة يقول المؤلف «أَعْظَمُ شَنَاعَةً مِنْ إخْرَاجِهِمْ مِنْ اسْمِ الْإِيمَانِ» يعني كونهم أخرجوا العصاة من اسم الإسلام أعظم من إخراجهم إياهم من اسم الإيمان لماذا؟
لأن الإسلام أوسع من الإيمان، فيدخل في الإسلام جميع من آمن بالله ورسوله، جميع المؤمنين جميع المسلمين ولو كانوا عصاة، فإخراجهم العصاة من اسم الإسلام معناه أنه لا يكون مسلمًا إلا من كان كاملًا من أدى جميع الواجبات وترك المحرمات بل من أدى جميع الطاعات حتى النوافل ولا يلزمه على ما سبق إخراج بعض كامل الإيمان من الإسلام إذا تركوا بعض النوافل ولهذا قال المؤلف رحمه الله « وَأَيْضًا فَإِخْرَاجُكُمْ الْفُسَّاقَ مِنْ اسْمِ الْإِسْلَامِ إنْ أَخَرَجْتُمُوهُمْ أَعْظَمُ شَنَاعَةً مِنْ إخْرَاجِهِمْ مِنْ اسْمِ الْإِيمَانِ فَوَقَعْتُمْ فِي أَعْظَمِ مَا عِبْتُمُوهُ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ»
فالمعتزلة أخرجوا العاصي من الإيمان قالوا إذا فعل الإنسان كبيرة يخرج من الإيمان خرج من الأيمان ويدخل الكفر ، وأنتم أيها الأشاعرة أخرجتم كامل الإيمان اخرجتموه من الإسلام وقلتم إذا ترك الإنسان صلاة الليل أو صلاة الضحى أو تحية المسجد فأنه يخرج من الإسلام لأنه ترك خصلة من خصال الإسلام، فيكون هذا أشنع من قول المعتزلة، المعتزلة أخرجوا العاصي من الإيمان، والأشاعرة هنا اخرجوا كامل الإيمان من الإيمان، لأنهم تركوا بعض التطوعات.
فتبين بهذا أن قول الأشاعرة أشنع من قول المعتزلة ولهذا قال المؤلف رحمه الله «فَإِنَّ نصوص الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ يَنْفِيَانِ عَنْهُمْ اسْمَ الْإِيمَانِ أَعْظَمَ مِمَّا يَنْفِيَانِ اسْمَ الْإِسْلَامِ وَاسْمُ الْإِيمَانِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَعْظَمُ».
هذا بيان لكون ما قالت الأشاعرة أشنع مما قالت المعتزلة ما قالت المعتزلة يقولون إذا العاصي مرتكب الكبيرة يخرج من الإيمان، والأشاعرة يقولون ترك نافة من النوافل أو تطوع من التطوعات خرج من الإسلام.
فبهذا أخرجوا المؤمنين كامل الإيمان أصحاب اليمين، اخرجوهم من الإسلام لأنهم قد يتركون بعض النوافل، وأما المعتزلة وان كان إخراجهم باطل في إخراج العصاة من الإيمان لهم شبهة، لأن النصوص نفت اسم الإيمان عنهم كقول الرسول ﷺ: لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، لَا يُؤمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ.
وأيضًا نصوص الكتاب والسنة تنفي عنهم اسم الإيمان أعظم مما تنفي أسم الإسلام وأيضًا اسم الإيمان في الكتاب والسنة أعظم فتبين بهذا أن الشناعة عن الأشعرية في إخراجهم كامل الإيمان من مسمى الإسلام أعظم من إخراج المعتزلة العصاة من مسمى الإيمان.
يقول المؤلف رحمه الله « وَإِنْ قُلْتُمْ: بَلْ كُلُّ مَنْ فَعَلَ طَاعَةً سُمِّيَ مُسْلِمًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَنْ فَعَلَ طَاعَةً مِنْ الطَّاعَاتِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِالشَّهَادَتَيْنِ مُسْلِمًا» إذا هذا يقول إذا قلتم إيها الأشاعرة في قولكم أن الإسلام، أن الإيمان خصلة من خصال الإسلام، وأن الإسلام لابد من الاتيان بجميع الطاعات إن قلتم كل من فعل طاعة يسمى مسلمًا لزم ان يكون من فعل طاعة من الطاعات ولو تكلم بالشهادتين أن يسمى مسلمًا وهذا ليس بصحيح، فالذي أنكر الشهادتين ولم ينطق بالشهادتين ولم يشهد لله تعالى بالوحدانية ولم يشهد للنبي ﷺ بالرسالة لا تنفعه الطاعات التي يعملها، يكون منافقا، والمنافقون يعملون الآن ويصلون ويجاهدون مع النبي ﷺ ولكنهم لا ينفعهم لأن ليس معهم إيمان وكذلك من فعل طاعة ولم يتكلم بالشهاديتين فكيف يسمى مسلمًا؟
وهذا لازم الأشاعرة الذين يقولون كل من فعل طاعةً يسمى مسلمًا يلزمه ان يكون من فعل طاعة من الطاعات ولم بنطق بالشهاديتين يسمى مسلمًا ومن صدق بقلبه ولم يتكلم بلسانه أن يكون مسلمًا عندكم يلزمه هذا أنه صدق بقلبه ولكنه لم يتكلم بلسانه فأنه يكون مسلمًا لأن الإيمان عندهم هو الإسلام، فمن أتاب فقد أتاب الإسلام، ويكون مسلمًا عندهم لو تكلم بالشهادتين ولم يأتي شيئًا من الأعمال، وهذا باطل لأن لا يكفي الإنسان يأتي بالشهادتين حتى يأتي بحقوقه في العمل أداء الواجبات وترك المحرمات.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله « وَإِنْ قُلْتُمْ: بَلْ كُلُّ مَنْ فَعَلَ طَاعَةً سُمِّيَ مُسْلِمًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَنْ فَعَلَ طَاعَةً مِنْ الطَّاعَاتِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِالشَّهَادَتَيْنِ مُسْلِمًا وَمَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِهِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا عِنْدَكُمْ لِأَنَّ الْإِيمَانَ عِنْدَكُمْ إسْلَامٌ فَمَنْ أَتَى بِهِ فَقَدْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ فَيَكُونُ مُسْلِمًا عِنْدَكُمْ مَنْ تَكَلَّمَ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلَا أَتَى بِشَيْءِ مِنْ الْأَعْمَالِ» وهذا واضح فيه بطلان ما ذهب إليه الأشاعرة في مسمى الإسلام، نعم.
(المتن)
وَاحْتِجَاجُكُمْ بِقَوْلِهِ: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14] قُلْتُمْ: نَفَى عَنْهُمْ الْإِيمَانَ وَأَثْبَتَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ. فَيُقَالُ: هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ لِأَنَّهُ لَمَّا أَثْبَتَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ مَعَ انْتِفَاءِ الْإِيمَانِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ بِجُزْءِ مِنْ الْإِسْلَامِ إذْ لَوْ كَانَ بَعْضُهُ لَمَا كَانُوا مُسْلِمِينَ إنْ لَمْ يَأْتُوا بِهِ.
وَإِنْ قُلْتُمْ: أَرَدْنَا بِقَوْلِنَا: أَثْبَتَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ أَيْ إسْلَامًا مَا فَإِنَّ كُلَّ طَاعَةٍ مِنْ الْإِسْلَامِ إسْلَامٌ عِنْدَنَا لَزِمَكُمْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَوْمُ يَوْمٍ إسْلَامًا وَصَدَقَةُ دِرْهَمٍ إسْلَامًا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.
(الشرح)
نعم يقول المؤلف رحمه الله لا يزال يناقش الأشاعرة في قولهم أن الإيمان خصلة من خصال الإسلام، وأن الإسلام جميع الطاعات وهم احتجوا بأية الحجرات يقول المؤلف رحمه الله «وَاحْتِجَاجُكُمْ بِقَوْلِهِ: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14] قُلْتُمْ: نَفَى عَنْهُمْ الْإِيمَانَ وَأَثْبَتَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ. فَيُقَالُ: هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ وجه قولها حجة عليهم أنهم أن الله تعالى أثبت لهم الإسلام مع انتفاء الإيمان قال قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14].
اثبت لهم الإسلام ونفى عنهم الإيمان فدل ذلك على أن الإيمان ليس بجزي من الإسلام إذ لو كان جزء من الإسلام لما يكونوا مسلمين إلا أن يأتوا به.
لو كان الإيمان كما تقولون خصلة من خصال الإسلام لما كانوا مسلمين إلا لم يأتوا به، لأنكم تقولون الإسلام لابد فيه من الإتيان بجميع الطاعات ثم قال المؤلف رحمه الله «وَإِنْ قُلْتُمْ: أَرَدْنَا بِقَوْلِنَا: أَثْبَتَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ أَيْ إسْلَامًا مَا» يعني أسس لهم إسلام ما يعني إسلامًا يكون فيه كل خصلة من خصال الإسلام تسمى إسلامًا مستقلًا يقولون يلزمكم ما سبق أن تكون كل طاعة تسمى إسلام مستقل وهذا باطل.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله «وَإِنْ قُلْتُمْ: أَرَدْنَا بِقَوْلِنَا: أَثْبَتَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ أَيْ إسْلَامًا مَا فَإِنَّ كُلَّ طَاعَةٍ مِنْ الْإِسْلَامِ
إسْلَامٌ عِنْدَنَا لَزِمَكُمْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَوْمُ يَوْمٍ إسْلَامًا وَصَدَقَةُ دِرْهَمٍ إسْلَامًا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ» ويقول كل من صلى ركعتين هذا يسمى إسلام مستقل ومن تصدق بدرهمين يكون هذا إسلام مستقل ومن عاد مريضًا هذا يسمى إسلام مستقل وهذا باطل فالإسلام كله كل هذه الخصال داخلة في مسمى الإسلام ولا يقال إن كل خصلة إسلام مستقلة، نعم.
(المتن)
وَهُمْ يَقُولُونَ: كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا قَالُوا: هَذَا مِنْ حَيْثُ الْإِطْلَاقُ وَإِلَّا فَالتَّفْصِيلُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ وَلَيْسَ هُوَ جَمِيعُ الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ بِفِعْلِ كُلِّ طَاعَةٍ وَقَعَتْ مُوَافِقَةً لِلْأَمْرِ. وَالْإِيمَانُ أَعْظَمُ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ.
وَاسْمُ الْإِسْلَامِ شَامِلٌ لِكُلِّ طَاعَةٍ انْقَادَ بِهَا الْعَبْدُ لِلَّهِ مِنْ إيمَانٍ وَتَصْدِيقٍ وَفَرْضٍ سِوَاهُ وَنَفْلٍ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ التَّقَرُّبُ بِفِعْلِ مَا عَدَا الْإِيمَانَ مِنْ الطَّاعَاتِ دُونَ تَقْدِيمِ فِعْلِ الْإِيمَانِ. قَالُوا: وَالدِّينُ مَأْخُوذٌ مِنْ التَّدَيُّنِ؛ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْإِسْلَامِ فِي الْمَعْنَى.
فَيُقَالُ لَهُمْ: إذَا كَانَ هَذَا قَوْلَكُمْ: فَقَوْلُكُمْ: كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا يُنَاقِضُ هَذَا؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ هُوَ الْمُطِيعُ لِلَّهِ وَلَا تَصِحُّ الطَّاعَةُ مِنْ أَحَدٍ إلَّا مَعَ الْإِيمَانِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْإِسْلَامِ إلَّا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ أَدْنَى الطَّاعَاتِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا سَوَاءٌ أُرِيدَ بِالْإِسْلَامِ فِعْلُ جَمِيعِ الطَّاعَاتِ أَوْ فِعْلُ وَاحِدَةٍ مِنْهَا وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ كُلُّهُ إلَّا مَعَ الْإِيمَانِ وَحِينَئِذٍ فَالْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ لَا لَكُمْ.
(الشرح)
نعم المؤلف رحمه الله يبين ما قالت الأشاعرة وهو أنهم يقولون كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمن، لأن يقولون كل مؤمن مسلم لأن الإيمان خصلة من خصال الإسلام، الإيمان هو التصديق فمن أتى بالتصديق فهو مسلم، وليس كل مسلمًا مؤمنًا لأنه قد يأتي بالطاعات ولا يأتي بهذه الخصلة، لكنه قال: "هذا من حَيْثُ الْإِطْلَاقُ وَإِلَّا فَالتَّفْصِيلُ غير ذلك مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ وَلَيْسَ هُوَ جَمِيعُ الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ".
بيَّن المؤلف رحمه الله أن الإسلام هو الاستسلام، بين المؤلف رحمه الله أن مذهبهم أنهم يرون الإسلام هو الاستسلام بفعل جميع الطاعات والإيمان أعظم خصلة من خصال الإسلام، والإسلام يشمل كل طاعة من إيمان وتصديق.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله وهم يقولون: «كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا قَالُوا: هَذَا مِنْ حَيْثُ الْإِطْلَاقُ وَإِلَّا فَالتَّفْصِيلُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ وَلَيْسَ هُوَ جَمِيعُ الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ بِفِعْلِ كُلِّ طَاعَةٍ وَقَعَتْ مُوَافِقَةً لِلْأَمْرِ» لأن الإسلام لابد فيه من جميع فعل جميع الطاعات، وَالْإِيمَانُ أَعْظَمُ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ. وَاسْمُ الْإِسْلَامِ شَامِلٌ لِكُلِّ طَاعَةٍ انْقَادَ بِهَا الْعَبْدُ لِلَّهِ مِنْ إيمَانٍ وَتَصْدِيقٍ وَفَرْضٍ سِوَاهُ وَنَفْلٍ هكذا يقولون؛ أن أسم الإسلام يشمل بكل طاعة أنقاد بها العبد من إيمان وتصديق وفرض ونفل هكذا يقولون الْإِسْلَامِ شَامِلٌ لِكُلِّ طَاعَةٍ انْقَادَ بِهَا الْعَبْدُ لِلَّهِ مِنْ إيمَانٍ وَتَصْدِيقٍ وَفَرْضٍ سِوَاهُ وَنَفْلٍ وأن الإيمان خصلة واحدة من خصال الإسلام.
غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ التَّقَرُّبُ بِفِعْلِ مَا عَدَا الْإِيمَانَ مِنْ الطَّاعَاتِ دُونَ تَقْدِيمِ فِعْلِ الْإِيمَانِ. قَالُوا: وَالدِّينُ مَأْخُوذٌ مِنْ التَّدَيُّنِ؛ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْإِسْلَامِ فِي الْمَعْنَى.
فالمؤلف رحمه الله يناقشهم يقول إذا قلتم هذا إذا كان هذا قولكم فقولكم كله مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمن تناقض منكم ينقض بعضه بعض.
إذا قلتم كل مؤمن مسلم، لأنه أتى بالتصديق وليس كل مسلم مؤمنًا لأنه، لأنه إذا لم يأتي بالتصديق فلا يسمى مؤمنًا يقول هذا القول يقول بعضه بعضا فقولكم كل مؤمن مسلم لأن أتى بالخصلة وليس كل مسلم مؤمن لأن الإسلام هو جميع الطاعات والإيمان إنما هو خصلة واحدة منه.
يقول المؤلف رحمه الله «هذا تناقض منكم فَإِنَّ الْمُسْلِمَ هُوَ الْمُطِيعُ لِلَّهِ»، فإن المسلم كما دلت عليه النصوص هو مطيع لله، ولا يكون مطيع لله إلا إذا كان من مؤمنًا، لا يمكن أن تسمى طاعة إلا مع الإيمان وإذا كانت لا تسمى طاعة مع الإيمان هذا يبطل قولكم خصلة واحدة من خصال الإسلام، كل طاعة من الطاعات لا تسمى إسلامًا ولا تصح إلا مع الأيمان بالله ورسوله وعلى هذا يمتنع أن يفعل أحد شيء من الإسلام إلا وهو مؤمن.
ولذلك يجب أن يكون مسلم مؤمنًا، كل مسلم لابد أن يكون مؤمنًا سواء أردتم بالإسلام فعل الطاعة كلها أو كان واحدة منها، لأنه لا يمكن أن تصح الطاعة إلا مع الإيمان.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله «فَيُقَالُ لَهُمْ: إذَا كَانَ هَذَا قَوْلَكُمْ: فَقَوْلُكُمْ: كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا يُنَاقِضُ هَذَا؛ ومن هذا التناقض فَإِنَّ الْمُسْلِمَ هُوَ الْمُطِيعُ لِلَّهِ وَلَا تَصِحُّ الطَّاعَةُ مِنْ أَحَدٍ إلَّا مَعَ الْإِيمَانِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْإِسْلَامِ إلَّا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ أَدْنَى الطَّاعَاتِ»
أدنى الطاعات حتى إماطة الأذى عن الطريق لفظ لا يستعمل مع الإيمان فلو أماط الكافر الأذى عن الطريق فلا يكون هذا إسلام ولا يكون هذا إيمان وإنما هي إذا فعل الكافر خصلة من خصال الإسلام يطعم بها يجاز بها في الدنيا ولا يسمى مسلم ولا ينفعه أي خصلة يفعلها إلا مع الإيمان؛ فإذا بر الكافر أهل بيت أو وصل رحمه فلا يقال إنه مؤمن بهذه الأعمال حتى يؤمن بالله ورسوله، ولا يكتمل فعله بخصلة من خصال الإسلام وإن كان يجازى بها في الدنيا.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله «فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْإِسْلَامِ إلَّا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ أَدْنَى الطَّاعَاتِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا سَوَاءٌ أُرِيدَ بِالْإِسْلَامِ فِعْلُ جَمِيعِ الطَّاعَاتِ أَوْ فِعْلُ وَاحِدَةٍ مِنْهَا وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ كُلُّهُ إلَّا مَعَ الْإِيمَانِ وَحِينَئِذٍ فَالْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ لَا لَكُمْ) يعني آية الحجرات قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14] »
(المتن)
ثُمَّ قَوْلُكُمْ: كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ إنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ بِالْإِيمَانِ تَصْدِيقَ الْقَلْبِ فَقَطْ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُسْلِمًا وَلَوْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلَا أَتَى بِشَيْءِ مِنْ الْأَعْمَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بَلْ عَامَّةُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَعْلَمُونَ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا حَتَّى يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا.
وَقَوْلُكُمْ: كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ لَا يُرِيدُونَ أَنَّهُ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلَا بِشَيْءِ مِنْ الْمَبَانِي الْخَمْسِ بَلْ أَتَى بِمَا هُوَ طَاعَةٌ وَتِلْكَ طَاعَةٌ بَاطِنَةٌ وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْمُسْلِمُ الْمَعْرُوفُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَوَّلِينَ والآخرين.
ثُمَّ اسْتَدْلَلْتُمْ بِالْآيَةِ وَالْأَعْرَابُ إنَّمَا أَتَوْا بِإِسْلَامِ ظَاهِرٍ نَطَقُوا فِيهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ سَوَاءٌ كَانُوا صَادِقِينَ أَوْ كَاذِبِينَ فَأَثْبَتَ اللَّهُ لَهُمْ الْإِسْلَامَ دُونَ الْإِيمَانِ فَيَظُنُّ مَنْ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ أَنَّ هَذَا هُوَ قَوْلُ السَّلَفِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ أَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا وَبَيْنَهُمَا مِنْ التَّبَايُنِ أَعْظَمُ مِمَّا بَيْنَ قَوْلِ السَّلَفِ.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله يبين بطلان قول الأشاعرة لأن الإيمان خصلة من خصال الإسلام وأن الإسلام هو جميع الطاعات ويقولون كل مؤمن مسلم يقول: ثم قولكم كل مؤمن مسلم أن كنتم تريدون بالإيمان تصديق القلب فقط فيلزم أن يكون الرجل مسلم ولو ما تكلم بالشهادتين وما أتى بشيء من الأعمال المأمور بها لأنه يقول الإيمان خصلة من خصال الإسلام وهو التصديق، فإذا أرادوا بالإيمان التصديق لزمهم أن يسمى الرجل مسلمًا ولو لم يتكلم بالشهادتين يعني إذا وجد التصديق في قلبه، فإذا وجد التصديق في قلبه فأنه يسمى مؤمنًا ولو لم ينطق بالشهادتين مع القدرة عليها ولو لم يأتي بشيء من الأعمال كالصلاة والزكاة ولو لم يجتنب المحذورات .
يقول المؤلف: "وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بَلْ عَامَّةُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَعْلَمُونَ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا حَتَّى يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا"؛ لأن الشهاديتين أصل الإيمان واصل السنة.
... وأصل الإيمان أن يشهد الإنسان بالله تعالى بالربانية ولنبيه محمد ﷺ بالرسالة وهذا معروف عند اليهود وعند النصارى وعامة وجميع الطوائف، بأنه لا يكون مؤمنًا حتى يأتي بالشهادتين وعلى قول الأشاعرة كل مؤمن مسلم والإيمان هو التصديق يلزم أن يسمى الرجل مسلمًا ولو لم يتكلم بالشهادتين وهذا باطل.
ثم يقول المؤلف «وَقَوْلُكُمْ: كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ لَا يُرِيدُونَ أَنَّهُ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلَا بِشَيْءِ مِنْ الْمَبَانِي الْخَمْسِ بَلْ أَتَى بِمَا هُوَ طَاعَةٌ وَتِلْكَ الطَاعَةٌ بَاطِنَةٌ» يعني كل مؤمن مسلم لأنه أتى لأنه أتى بالطاعة والطاعة باطلة وهي التصديق ليس هذا هو المسلم المعروف في الكتاب والسنة ولا عند الأئمة الأولين والأخرين.
يعني يقول المؤلف رحمه الله أن َقَوْلُكُمْ: كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وأنتم تريدون بالإسلام التصديق ولَا يُرِيدُونَ أَنَّهُ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلَا بِشَيْءِ مِنْ الْمَبَانِي الْخَمْسِ» وهي الصلاة والصيام والزكاة والحج، بل تريدون أنه أتى طاعة، طاعة باطلة وهي التصديق يقال هذا ليس هو المسلم المعروف في الكتاب والسنة، ولا هو عند الأئمة الأولين والأخرين.
فالمسلم المعروف هو من ينطق بالشهادتين يشهد لله تعالى بالوحدانية وللرسول ﷺ بالرسالة أما من يكون عنده تصديق في الباطل ومعرفة في القلب ولكنه لا يأتي بالشهادتين ولا يأتي بالزكاة ولا بالصوم ولا بالحج، هذا لا يسمى مسلمًا لا في الكتاب ولا في السنة ولا عند الأولين ولا الأخرين.
يقول المؤلف رحمه الله ثُمَّ اسْتَدْلَلْتُمْ بِالْآيَةِ وهي آية الحجرات قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14] وَالْأَعْرَابُ إنَّمَا أَتَوْا بِإِسْلَامِ ظَاهِرٍ نَطَقُوا فِيهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ يعني الآية حجة عليكم لأن الآية ليس فيها أن الأعراب صدقوا تصديق باطل بل أن فيها أن الأعراب أسلموا أظهروا الإسلام نَطَقُوا فِيهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ سَوَاءٌ كَانُوا صَادِقِينَ أَوْ كَاذِبِينَ وهذا خلاف بين أهل العلم فالآية المنافقين أو في ضعفاء الإيمان، بعض أهل السنة والبخارية يروا أن هذه الآية في المنافقين وأن الإسلام المذكور إنما هو إسلام ظاهر استسلام في الظاهر وجمهور أهل السنة يرون أنها في ضعفاء الإيمان لأن الله أثبت لهم إسلام وأثبت لهم طاعة فدل على أنهم مسلمون إلا انهم ضعفاء الإيمان.
فالمؤلف رحمه يقول: «أن استدلالكم بالآية حجة عليكم لا لكم ولهذا قال: «ثُمَّ اسْتَدْلَلْتُمْ بِالْآيَةِ وَالْأَعْرَابُ إنَّمَا أَتَوْا بِإِسْلَامِ ظَاهِرٍ نَطَقُوا فِيهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ سَوَاءٌ كَانُوا صَادِقِينَ أَوْ كَاذِبِينَ فَأَثْبَتَ اللَّهُ لَهُمْ الْإِسْلَامَ دُونَ الْإِيمَانِ» ولهذا قال قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14].
فيظن من لا يعرف حقيقة الأمر أن هذا قول السلف أن يظن أن قولكم هذا قول السلف، أنهم مسلمين وليسوا بمؤمنين لأنكم أثبتوا له الإسلام ونفيتم عليهم الإيمان، فيظن من لا يعرف حقيقة الأمر أن هذا هو قول السلف الذي دل عليه الكتاب والسنة من أن كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمن، كل مؤمن مسلم المصدق يوصف بالإسلام وليس كل مسلم مؤمن لأن العاصي لا يطلق عليه الإيمان وأن كان يطلق عليه الإسلام.
فيقول المؤلف «وبين قولكم وبين قول السلف تباين عظيم ولهذا قال وَبَيْنَهُمَا مِنْ التَّبَايُنِ أَعْظَمُ مِمَّا بَيْنَ قَوْلِ السَّلَفِ» نعم.
(المتن)
السَّلَفِ وَقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ
فَإِنَّ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ أَقْرَبُ مِنْ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة بِكَثِيرِ وَلَكِنَّ قَوْلَهُمْ فِي تَخْلِيدِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَبْعَدُ عَنْ قَوْلِ السَّلَفِ مِنْ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة. فَالْمُتَأخِّرونَ الَّذِينَ نَصَرُوا قَوْلَ جَهْمٍ فِي " مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ " يُظْهِرُونَ قَوْلَ السَّلَفِ فِي هَذَا وَفِي الِاسْتِثْنَاءِ وَفِي انْتِفَاءِ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ حَيْثُ نَفَاهُ الْقُرْآنُ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَذَلِكَ كُلُّهُ مُوَافِقٌ لِلسَّلَفِ فِي مُجَرَّدِ اللَّفْظِ وَإِلَّا فَقَوْلُهُمْ فِي غَايَةِ الْمُبَايَنَةِ لِقَوْلِ السَّلَفِ؛ لَيْسَ فِي الْأَقْوَالِ أَبْعَدُ عَنْ السَّلَفِ مِنْهُ.
وَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ والكَرَّامِيَة فِي اسْمِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ أَقْرَبُ إلَى قَوْلِ السَّلَفِ مِنْ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة؛ لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَالْخَوَارِجَ يَقُولُونَ بِتَخْلِيدِ الْعُصَاةِ وَهَذَا أَبْعَدُ عَنْ قَوْلِ السَّلَفِ مِنْ كُلِّ قَوْلٍ فَهُمْ أَقْرَبُ فِي الِاسْمِ وَأَبْعَدُ فِي الْحُكْمِ؛ وَالْجَهْمِيَّة وَإِنْ كَانُوا فِي قَوْلِهِمْ: بِأَنَّ الْفُسَّاقَ لَا يُخَلَّدُونَ أَقْرَبُ فِي الْحُكْمِ إلَى السَّلَفِ فَقَوْلُهُمْ فِي مُسَمَّى الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَحَقِيقَتِهِمَا أَبْعَدُ مِنْ كُلِّ قَوْلٍ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَفِيهِ مِنْ مُنَاقَضَةِ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَاللُّغَةِ مَا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ لِغَيْرِهِمْ.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله يقارن بين قول المعتزلة والجهمية وغيرهم والخوارج والكرامية في يقارن بين مذاهبهم، ويبيِّن ما هو أقرب إلى الحق وما هو الأبعد، ويقول: "وقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ"، أقرب من قول الجهمية بكثير؛ وذلك أن المعتزلة يقولون: إنَّ مسمَّى الإيمان والإسلام يشمل جميع الطاعات كلها، مثل: قول أهل السُّنَّة يقولون: الإيمان تصديق بالقلب، وعمل بالقلب، وعمل بالجوارح، ولكنه إذا فعل كبيرة من كبائر خرج انتهى الإيمان، الإيمان لا يتبعض ولا يتجزأ فالحقيقة المركبة إذا زال زال جميعه، وإذا ثبت ثبت جميعه.
وأما الجهمية فأنهم يرون أن الإيمان هو مجرد المعرفة في القلب فالمؤلف يقارن بين القولين يقول «قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ أَقْرَبُ مِنْ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة بِكَثِيرِ» لاشك أن قلو المعتزلة أن الإيمان والإسلام وجميع الطاعات وأعمال القلوب وأعمال الجوارح هذا موافق لأهل السنة وهو أقرب من قول الجهمية الذين يقولوا أن الإيمان هو مجرد معرفة الرب بالقلب بكثير، ثم يبين الفساد في مذهب المعتزلة والأشاعرة «وَلَكِنَّ قَوْلَهُمْ فِي تَخْلِيدِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَبْعَدُ عَنْ قَوْلِ السَّلَفِ مِنْ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة».
فإذًا قول المعتزلة في الإيمان أقرب من قول الجهمية لأن المعتزلة يقولون إن الإيمان هو الإسلام وجميع الطاعات، والجهمية يقولن أن الإيمان معرفة الرب بالقلب، ولكن قول الخوارج والمعتزلة في تخليد العصاة أبعد عن قول السلف وقول الجهمية، لأن الجهمية يقولون للعصاة لا يخلدون فصار قول الجهمية في التخليد لعدم التخليد أقرب من قول المعتزلة في التخليد.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله «فَالْمُتَأخِّرونَ الَّذِينَ نَصَرُوا قَوْلَ جَهْمٍ فِي " مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ " يُظْهِرُونَ قَوْلَ السَّلَفِ فِي هَذَا وَفِي الِاسْتِثْنَاءِ وَفِي انْتِفَاءِ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ حَيْثُ نَفَاهُ الْقُرْآنُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَذَلِكَ كُلُّهُ مُوَافِقٌ لِلسَّلَفِ فِي مُجَرَّدِ اللَّفْظِ وَإِلَّا فَقَوْلُهُمْ فِي غَايَةِ الْمُبَايَنَةِ لِقَوْلِ السَّلَفِ؛ لَيْسَ فِي الْأَقْوَالِ أَبْعَدُ عَنْ السَّلَفِ مِنْهُ».
المؤلف رحمه الله يبين مذهب المتأخرين من الأشاعرة الذين نصروا قول الجهم في مسألة الإيمان كما ترى أبا الحسن الأشعري والقاضي أبا بكر الباقلاني وأتباعهم من المتأخرين فأنهم أظهروا قول السلف في هذا وفي الإسلام أظهروا قول السلف لأنه ضموا إلى ما قاله أبو حسن في مسمى الإيمان أنه التصديق ضموا إليه الأعمال كما سبق أن المؤلف رحمه الله نقل القول عنهم فهو مذهب قول السلف، وكذلك أجازوا للسلف الإيمان فخالفوا شيخهم أبا الحسن الأشعري وكذلك أيضًا انتفاء الإيمان في القلب الذي مذهبه القرآن يقول وينفي عنه الإيمان يقول وهذا كله موافق للسلف ولكن في مجرد اللفظ، مجرد اللفظ وافق السلف قالوا: بمثابة الاستثناء في الإيمان وقالوا وَفِي انْتِفَاءِ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ حَيْثُ نَفَاهُ الْقُرْآنُ وقالوا أنه لابد من الأعمال فوافقوا السلف فِي مُجَرَّدِ اللَّفْظِ يقول وَإِلَّا فَقَوْلُهُمْ فِي غَايَةِ الْمُبَايَنَةِ لِقَوْلِ السَّلَفِ؛ لَيْسَ فِي الْأَقْوَالِ أَبْعَدُ عَنْ السَّلَفِ مِنْهُ، يعني في قولهم أن الإيمان هو مجرد التصديق.
ثم قارن المؤلف رحمه الله بين قول المعتزلة والخوارج والكرامية في مسمى الإيمان مع قول الجهمية.
وقال «وَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ والكَرَّامِيَة فِي اسْمِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ أَقْرَبُ إلَى قَوْلِ السَّلَفِ مِنْ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة».
فالمعتزلة يرون أن قول الإيمان جميع الطاعات وكذلك الخوارج، والكرامية يقولون الإيمان هو مجرد التصديق بالقول، مجرد التصديق مجرد الإقرار باللسان، وهذا أقرب من قول الجهمية لأن الجهمية يرون مسمى الإيمان هو مجرد المعرفة في القلب فصار قول المعتزلة وقول الخوارج وقول حتى الكرامية أقرب إلى الحق من قول الجهمية.
لأن الكرامية يروا أنه هو الذي ينطق اللسان ويتكلم وهذا إقرار بالإيمان والمعتزلة والخوارج يقولون جميع الطاعات، والجهمية يقولون هو مجرد معرفة القلب ثم بين الفساد في مذهب المعتزلة والخوارج فقال «لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَالْخَوَارِجَ يَقُولُونَ بِتَخْلِيدِ الْعُصَاةِ وَهَذَا أَبْعَدُ عَنْ قَوْلِ السَّلَفِ مِنْ كُلِّ قَوْلٍ».
لأن الخوارج هو أن العاصي هو مرتكب الكبيرة ومرتكب الكبيرة يخلد فيا النار هذا أبعد عن قول السلف من كل أمر فهم أقرب في الاسم وأبعد في الحكم ففي الاسم قولهم قريب من أهل السنة والجماعة لأنهم أدخلوا الطاعات في مسمى الإيمان، وفي الحكم كونهم يحكمون على العاصي بالخلود في النار هذا أبعد من قول السلف.
ثم قال المؤلف «وَالْجَهْمِيَّة وَإِنْ كَانُوا فِي قَوْلِهِمْ: بِأَنَّ الْفُسَّاقَ لَا يُخَلَّدُونَ أَقْرَبُ فِي الْحُكْمِ إلَى السَّلَفِ فَقَوْلُهُمْ فِي مُسَمَّى الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَحَقِيقَتِهِمَا أَبْعَدُ مِنْ كُلِّ قَوْلٍ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ» يقول إن الجهمية من قول الفساق لا يخلدون في النار وأن الفاسق يكون في الجنة هذا أقرب في الحكم إلى قول السلف أقرب إلى قول السلف أقرب إلى قول السلف لكن قولهم في مسمى الإيمان أبعد.
فقولهم في مسمى الإسلام والإيمان أنه هو مجرد معرفة القلب هذا بعيد عن الكتاب والسنة وبعيد عن قول السلف، وقولهم إن الفساق لا يخلدون هذا قريب من قول السلف وهو أقرب من قول الخوارج والمعتزلة في تخليد الفاسق النار.
وأيضًا مذهب الجهمية يناقض العقل والشرع وَاللُّغَةِ مَا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ لِغَيْرِهِمْ.
ولهذا قولهم إن مسمى الإسلام والإيمان هو مجرد معرفة في القلب مُنَاقَضَةِ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَاللُّغَةِ مَا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ لِغَيْرِهِمْ.
هو بين بهذا أن قول الجهمية في مسمى الإسلام أفسد قول قيل، أفسد قول قيل في مسمى الإسلام هو قول الجهمية أن الإيمان معرفة الرب في القلب، والكفر هو جهل الرب في القلب.
نسأل الله السلامة والعافية.
1- أخرجه البخاري في "صحيحه"برقم (9) ،ومسلم في "صحيحه" برقم (58) واللفظ له من حديث أبي هريرة
1- أخرجه البخاري في "صحيحه"برقم (4368) واللفظ له ،ومسلم في "صحيحه" برقم (23) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما