(المتن)
وَمِمَّا يَدُلُّ مِنْ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْأَعْمَالِ قَوْله تَعَالَى إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ [السجدة:15].
فَنَفَى الْإِيمَانَ عَنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ فَمَنْ كَانَ إذَا ذَكَرَ بِالْقُرْآنِ لَا يَفْعَلُ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ السُّجُودِ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ.
وَسُجُودُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَرْضٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا سُجُودُ التِّلَاوَةِ فَفِيهِ نِزَاعٌ؛ وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ يُوجِبُهُ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
فَهَذِهِ الْآيَةُ مِثْلُ قَوْلِهِ: إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ [الحجرات:15]، وَقَوْلِهِ: إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، وَقَوْلِهِ: إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ [النور:62].
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [التوبة:43-45].
وَهَذِهِ الْآيَةُ مِثْلُ قَوْلِهِ: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22]، وَقَوْلِهِ: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ [المائدة:81].
بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْإِيمَانَ لَهُ لَوَازِمُ وَلَهُ أَضْدَادٌ مَوْجُودَةٌ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ لَوَازِمِهِ وَانْتِفَاءَ أَضْدَادِهِ وَمِنْ أَضْدَادِهِ مُوَادَّةُ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمِنْ أَضْدَادِهِ اسْتِئْذَانُهُ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ ثُمَّ صَرَّحَ بِأَنَّ اسْتِئْذَانَهُ إنَّمَا يَصْدُرُ مِنْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَدَلَّ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ [آل عمران:115]، عَلَى أَنَّ الْمُتَّقِينَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ ﷺ: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ ([1]) وَقَوْلُهُ: لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ([2]) وَقَوْلُهُ: لَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا ([3])وَقَوْلُهُ: لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ([4]) وَقَوْلُهُ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ([5]) وَقَوْلُهُ مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا وَمَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا ([6]).
(الشرح):
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذا الفصل ذكر فيه المؤلف رحمه الله أن الإيمان المطلق يستلزم الأعمال، ويدخل فيه الأعمال، وأراد بذلك الرد على المرجئة الذين يعتقدون ويقررون أن الإيمان هو مجرد التصديق بالقلب، كما سبق في الحلقات الماضية، حينما نقل المؤلف رحمه الله مذهب أبي الحسن الأشعري، والقاضي أبي بكر الباقلّاني وغيرهما من المرجئة ممن يرون أن الإيمان مجرد التصديق بالقلب.
فقال رحمه الله: "وَمِمَّا يَدُلُّ مِنْ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْأَعْمَالِ" الإيمان المطلق المراد به غير المقيد، أما المقيد فسيأتي الكلام عليه، هو الذي لم يقترن بغيره، فإنه إذا لم يقترن بالإسلام، لم يقترن بالأعمال الصالحة، لم يقترن بغيره مِن الأعمال فإنه يشمل جميع الأعمال، يستلزم جميع الأعمال القولية والفعلية والاعقادية، هذا هو الإيمان المطلق كما سبق أن الإيمان هو قول باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالقلب وعمل بالجوارح، كما سيأتي إن شاء الله في عبارات السلف عن مسمى الإيمان.
فقال رحمه الله: "وَمِمَّا يَدُلُّ مِنْ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْأَعْمَالِ" يعني المطلق الذي لم يقترن بغيره لم يقترن بعمل ولم يقترن بالإسلام، لم يقترن بغيره أما إذا اقترن بغيره فسيأتي الكلام عليه.
فقال رحمه الله مما يدل من القرآن على أن الإيمان المطلق مستلزم بالأعمال قَوْله تَعَالَى -وذكر آيات من القرآن وسيأتي بعدها نصوص من السنة- قول الله تعالى: إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ [السجدة:15]" إنما أداة الحصر([7]) وأداة الحصر تفيد النفي عمن لم يُذكر في هذه الآية.
قال المؤلف رحمه الله: "فَنَفَى الْإِيمَانَ عَنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ فَمَنْ كَانَ إذَا ذَكَرَ بِالْقُرْآنِ لَا يَفْعَلُ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ السُّجُودِ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ" فالله تعالى حصر الإيمان في الذين إذا ذُكِّروا بآيات ربهم سجدوا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ [السجدة:15] وهذه الآية فيها حصر، والحصر يعني نفي الشيء عن غيره.
ولهذا قال المؤلف: "فَنَفَى الْإِيمَانَ عَنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ فَمَنْ كَانَ إذَا ذَكَرَ بِالْقُرْآنِ لَا يَفْعَلُ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ السُّجُودِ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ" يعني بإطلاق.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَسُجُودُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَرْضٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا سُجُودُ التِّلَاوَةِ فَفِيهِ نِزَاعٌ" بين أهل العلم يعني اختلفوا هل هو واجب أم مستحب؟ والمشهور عند جمهور العلماء أنه مستحب، " وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ يُوجِبُهُ" من يحتج بهذه الآية من يوجب سجود التلاوة لدخوله في عموم قوله تعالى: إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا [السجدة:15]. فمن العلماء من احتج بهذه الآية على سجود التلاوة وهي نقطة خلافية بين أهل العلم؛ ولهذا قال المؤلف: "لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَمِمَّا يَدُلُّ مِنْ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْأَعْمَالِ قوله تعالى في سورة الحجرات: إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ [الحجرات:15]، يقول المؤلف: أن هذه الآية مثل الآية الأولى، فيها حصر، والحصر يفيد النفي عمَّن لم يوصف بهذه الصفات، فحصر الإيمان بالذين اتصفوا بهذه الصفات، الإيمان بالله ورسوله، وعدم الريب والشك والجهاد بالمال والنفس.
ثم ذكر دليلًا ثالثًا وهي آية الأنفال، قال تعالى: إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:2]، فهذه الآية أيضًا فيها حصر، دل ذلك على أن الإيمان المطلق إنما هو محصور في الذين اتصفوا بهذه الصفات.
ثم ذكر دليلًا رابعًا وهي آية: َقَوْلِهِ تعالى: إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ [النور:62]، والآية فيها حصر، في حصر الإيمان فيمن يتصف بهذه الصفات ويفيد النفي عمن لا يتصف بهذه الصفات، فمن لم يتصف بهذه الصفات فإن الإيمان منفي عنه.
ثم ذكر دليلًا خامسًا: وهو قَوْله تَعَالَى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [التوبة:43-45].
وهذه الآيات مِن سورة التوبة، فإن الله بين أن الإيمان لوازم وأضداد، أما من أضداده الاستئذان في ترك الجهاد: إنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر، بين أن المؤمنين لا يستأذنون في ترك الجهاد، فقال إنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [التوبة: 45].
فدل على أن الاستئذان في ترك الجهاد من أضداد الإيمان ضد للإيمان وهو صفة المنافقين وهذا هو الواقع في الجهاد مع النبي ﷺ فإن الذين يستأذنون الرسول ﷺ في ترك الجهاد هم المنافقون، ولهذا قال الله تعالى: لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ [التوبة: 44] لما علِم ما في قلوبهم مِن الإيمان، فإنهم يرغبون في الجهاد في سبيل الله ويشتاقون ويبادرون ويسارعون، بل إن المؤمنين الذين لا يجدون ما يحملهم إلى الجهاد في سبيل الله يطلبون منه ﷺ أن يحملهم، فإذا لم يجدوا شيئًا تولوا يبكون، كما قال تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ [التوبة:91-92]، فهذا مِن صفات المؤمنين. أنهم عندهم الرغبة والشوق للجهاد في سبيل الله، فإذا لم يستطيعوا حزنوا وبكوا، ولهذا سمي الذين جاؤوا إلى الرسول ﷺ يطلبون ما يحملهم ثم لم يجدوا ورجعوا يبكون سُمُّوا (بالبكائين). .
ثم ذكر أيضًا دليلًا سادسًا أو سابعًا وهي آية المجادلة، من قَوْلِهِ: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22]، فبين الله أن مِن أضداد الإيمان موادَّة مَن حادّ الله ورسوله، ولهذا قال لا يجتمع الإيمان بالله واليوم الآخر مع موادّة مَن حادّ الله ورسوله، أي محبة مَن حادّ الله ورسوله، وهم الكفار لا يجتمع في الشخص الواحد إيمان بالله ورسوله ومحبة الكفار، ولهذا قال: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22]، حتى ولو كانوا أقرب الأقربين، ولهذا قال سبحانه: وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ [المجادلة:22]، ومثل هذه الآية في أن موادة الكفار مِن أضداد الإيمان قوله تعالى في سورة المائدة: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ [المائدة:81]، فبين أن هذان ضدان، فالإيمان بالله والنبي وما أُنزل إليه واتخاذ الكافرين أولياء، ضدان لا يجتمعان، وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:81] والفسق هنا المراد به فسق الكفر، فإن الفسق فسقان، فسق كفر وفسق معصية وهذا فسق كفر. فبين أن الإيمان بالله ورسوله وما أنزل إليه ضدٌّ، واتخاذ الكافرين أولياء ضدٌّ آخر، لا يجتمعان.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله تعقيبًا على هذه الآيات: "بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْإِيمَانَ لَهُ لَوَازِمُ وَلَهُ أَضْدَادٌ مَوْجُودَةٌ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ لَوَازِمِهِ وَانْتِفَاءَ أَضْدَادِهِ وَمِنْ أَضْدَادِهِ مُوَادَّةُ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" –أي من أضداد الإيمان- فلا يجتمع الإيمان بالله ورسوله مع محبة، فهما ضدان إذا وُجد أحدهما انتفى الآخر، إذا وُجد في القلب الإيمان بالله ورسوله انتفى موادة الكفار، وإذا وُجد في القلب موادة الكفار انتفى الإيمان؛ ضدان، الكفر ضد الإيمان والإيمان الكفر فلا يجتمعان في قلب واحد.
أعني الكفر الأكبر والشرك الأكبر والنفاق الأكبر لا يجتمعان مع الإيمان أبدًا، إذا وُجد أحدهما انتفى الآخر، بخلاف الكفر الأصغر والشرك الأصغر والنفاق الأصغر فقد يجتمع مع الإيمان، وكذلك المعاصي فإنها تضعف الإيمان، وتنقص الإيمان ولكنها لا تقضي عليه.
لكن الكفر الأكبر والشرك الأكبر الذي يخرج من الإيمان والفسق الأكبر والنفاق الأكبر هذه كلها تقضي على الإيمان.
فالفسق فسقان: الفسق الأكبر وهو الكفر، والفسق الأصغر هو المعصية.
والكفر كفران: كفر أكبر هو مخرج مِن الملة، وكفر أصغر لا يخرج مِن الملة.
والشرك شركان: شرك أكبر يخرج مِن الملة وشرك أصغر لا يخرج مِن الملة.
والظلم ظلمان: ظلم أكبر وهو ظلم الشرك والكفر مخرج مِن الملة وظلم أصغر بالمعاصي.
والجهل جهلان: جهل أكبر وهو جهل الكفر وجهل أصغر وهو جهل المعاصي، فالأول يخرج مِن الملة والثاني لا يخرج مِن الملة.
ولهذا قال المؤلف: "بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْإِيمَانَ لَهُ لَوَازِمُ وَلَهُ أَضْدَادٌ مَوْجُودَةٌ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ لَوَازِمِهِ وَانْتِفَاءَ أَضْدَادِهِ وَمِنْ أَضْدَادِهِ –يعني أضداد الإيمان- مُوَادَّةُ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَمِنْ أَضْدَادِهِ اسْتِئْذَانُهُ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ ثُمَّ صَرَّحَ بِأَنَّ اسْتِئْذَانَهُ إنَّمَا يَصْدُرُ مِنْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ" كما قال تعالى في آية التوبة: إنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [التوبة: 45] لم يستقر الإيمان في قلوبهم، لم يثبت الإيمان في قلوبهم ولهذا عندهم ريب وشكٌّ في الإيمان فلذلك يستأذنون الرسول ﷺ في ترك الجهاد لعدم وجود الإيمان في نفوسهم وقلوبهم ونفوسهم نسأل الله السلامة والعافية.
يقول المؤلف رحمه الله" وَدَلَّ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ [آل عمران:115]. عَلَى أَنَّ الْمُتَّقِينَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ" يعني دلت هذه الآية على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وأن المتقي هو المؤمن، وأن المؤمن لابد أن يكون متقيًا وهو الذي يتقي الشرك والمعاصي فمَن اتقى الشرك والمعاصي كمُل إيمانه ومَن اتقى الشرك وفعل بعض المعاصي نقَص إيمانه وضعُف إيمانه.
ثم استدل المؤلف رحمه الله بأدلة مِن السنة وقد سبقت هذه الأدلة، قال: "وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ ﷺ: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ ([8])، فنفى الإيمان عن الزاني والمراد: الإيمان المطلق وهو الذي يستلزم فعل الواجبات وترك المحرمات، فالزاني منفيٌّ عنه الإيمان المطلق ولكنه لا يكفر، عنده أصل الإيمان إلا إذا استحل الزنا واعتقد أنه حلالٌ فإنه يكفر بهذا الاعتقاد، وإلا فالزنا معصية لكن الأصل أن الزنا معصية، فإذا كان يعلم أن الزنى حرام ويعتقد بذلك لكنه فعل الزنى طاعة لنفسه والهوى والشيطان فهو ضعيف الإيمان، وناقص الإيمان، ولا يكفر إلا عند الخوارج، فالخوارج يكفرونه، والخوارج فرقة ضالة ضائعة عن الحق.
والدليل الثاني قوله ﷺ: لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ([9]) نفى الإيمان عمَّن لا يأمن جاره بوائقه يعني أذاه وشره، لا يؤمن يعني الإيمان المطلق الذي يستلزم فعل الواجبات وترك المحرمات، فهذا نفي للإيمان المطلق لا لأصل الإيمان، فأصل الإيمان موجود عنده، قد يكون عنده أصل الإيمان لكنه يؤذي جاره فإنه ينتفي عنه الإيمان المطلق.
ثم ذكر دليلًا ثالثًا مِن السنة فقال: لَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا فمَن انتفى عنه وصف التحابّ بين المؤمنين فإن هذا نقص في إيمانه وضعف في إيمانه، والإيمان المطلق يستلزم التحابّ والتوادّ بين المؤمنين.
ثم ذكر دليلًا رابعًا وهو َقَوْلُهُ ﷺ: لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ([10]) يعني لا يؤمن إيمانًا مطلق حتى يقدم محبة الرسول عليه الصلاة والسلام على محبة الولد والوالد والناس أجمعين، فإن قدم محبة الولد أو الوالد أو بعض مِن الناس على محبة النبي ﷺ فإن إيمانه ناقص ولا يطلق عليه الإيمان المطلق ولابد أن يقيد، يقال مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن ضعيف الإيمان.
ثم ذكر دليلًا خامسًا وهو قوله ﷺ: لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ([11])هنا زاد مِنْ الْخَيْرِ ([12]) والحديث معروف في الصحيح لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ فزيادة الخير قد تكون وردت في بعض الروايات فهذا فيه نفي للإيمان المطلق فمَن لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فهو ناقص الإيمان.
ثم ذكر دليلًا آخر وهو قوله: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا ([13]) هذا فيه الوعيد الشديد لَيْسَ مِنَّا هذا يدل على أنه مِن الكبائر عند أهل العلم.
والكبيرة هي ما توعد عليها بالنار أو اللعن أو الغضب، أو وجد في حدٌّ في الدنيا، وقال بعضهم أو قال فيه النبي ﷺ لَيْسَ مِنَّا كما في هذا الحديث.
فدل على أن الغَشّ ناقص الإيمان، ضعيف الإيمان، لا يطلق عليه الإيمان المطلق وكذلك قوله ﷺ: وَمَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا ([14]) أي مَن حمل السلاح على المؤمنين فهو ناقص الإيمان.
ولا يطلق عليه الإيمان بإطلاق بل لابد مِن التقييد، ومثله قوله عليه الصلاة والسلام: لَيْسَ مِناَ مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَةِ ([15]) فكل هذا مِن الكبائر تدل على أن صاحبها ناقص الإيمان، ومثله من برئ منه النبي ﷺ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَرِيءٌ مِنْ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ»([16]). فالصالقة التي ترفع صوتها عند المصيبة والحالقة التي تحلق شعرها عند المصيبة والشاقة هي التي تشق ثوبها عند المصيبة، فالذي تبرأ منه النبي ﷺ دل على أنه مرتكب للكبيرة فلا يطلق عليه الإيمان بل لابد مِن التقييد.
هذه الأدلة كلها دليل على أن الإيمان المطلق مستلزم للأعمال وأنه لابد في الإيمان المطلق مِن أداء الواجبات وترك المحرمات، فإذا أخل بشيء مِن الواجبات وأتى بشيء مِن المحرمات فلا يطلق عليه الإيمان بل لابد مِن التقييد.
(المتن)
(فَصْلٌ):
وَأَمَّا إذَا قُيِّدَ الْإِيمَانُ فَقُرِنَ بِالْإِسْلَامِ أَوْ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَإِنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهِ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ وَهَلْ يُرَادُ بِهِ أَيْضًا الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ أَوْ لَا يَكُونُ حِينَ الِاقْتِرَانِ دَاخِلًا فِي مُسَمَّاهُ؟
بَلْ يَكُونُ لَازِمًا لَهُ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَوْ لَا يَكُونُ بَعْضًا وَلَا لَازِمًا هَذَا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلنَّاسِ -كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ- وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي عَامَّةِ الْأَسْمَاءِ يَتَنَوَّعُ مُسَمَّاهَا بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ.
مِثَالُ ذَلِكَ اسْمُ الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ إذَا أُطْلِقَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ [الأعراف:157]، وَقَوْلُهُ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:110]، وَقَوْلُهُ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:71]، يَدْخُلُ فِي الْمَعْرُوفِ كُلُّ خَيْرٍ وَفِي الْمُنْكَرِ كُلُّ شَرٍّ.
ثُمَّ قَدْ يُقْرَنُ بِمَا هُوَ أَخَصُّ مِنْهُ كَقَوْلِهِ: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114]، فَغَايَرَ بَيْنَ الْمَعْرُوفِ وَبَيْنَ الصَّدَقَةِ وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ -كَمَا غَايَرَ بَيْنَ اسْمِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ؛ وَاسْمِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ-.
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، غَايَرَ بَيْنَهُمَا وَقَدْ دَخَلَتْ الْفَحْشَاءُ فِي الْمُنْكَرِ فِي قَوْلِهِ: وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [الأعراف:157]، ثُمَّ ذَكَرَ مَعَ الْمُنْكَرِ اثْنَيْنِ فِي قَوْلِهِ: إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل:90]، جَعَلَ الْبَغْيَ هُنَا مُغَايِرًا لَهُمَا وَقَدْ دَخَلَ فِي الْمُنْكَرِ فِي ذَيْنِك الْمَوْضِعَيْنِ.
(الشرح)
فقد سبق في الحلقة السابقة الكلام على الإيمان المطلق والمقيد، وبدأنا بالإيمان المطلق، والمراد بالإيمان المطلق هو الإيمان الذي لم يقترن بغيره، يقال الإيمان المطلق أو الإيمان المجرد، وهو الذي لم يعطف عليه الإسلام، ولم يعطف عليه العمل، كقوله سبحانه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات: 15] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [التوبة:2:].
وقوله سبحانه: إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا [السجدة:15]. وسبق الكلام على ذلك في الحلقة السابقة وأن الإيمان إذا أطلق يستلزم جميع الأعمال، وتدخل فيه جميع الأعمال، وأما إذا قيد، قرن بالإسلام أو قُرن بالعمل الصالح، كما في حديث جبريل عليه الصلاة والسلام في سؤالاته النبي ﷺ عن الإسلام والإيمان.
وكما في قوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب:35]، وكما في حديث «سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ لما قال النبي ﷺ: «مالك عن فلان؟ يعني لم تعطه شيئًا من الغنيمة؟ فَوَ اللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَوْ مُسْلِمًا.
وكما في قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3]، وكما في قوله : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:277]، فهذا الإيمان المقرون بغيره فيه خلاف في مدلوله، فيه ثلاث أقول لأهل العلم ذكرها المؤلف رحمه الله.
القول الأول: بأنه إذا قرن الإيمان بالإسلام أو العمل الصالح بأن عُطف عليه الإيمان، فإنه يكون إيمانًا خاصًّا بما في القلب، يتناول ما في القلب فقط وأما العمل فلا يتناوله في هذه الحالة.
والقول الثاني: أنه يتناوله، أن يراد بالإيمان ما في القلب والعمل أيضًا ويكون عطف العمل عليه من عطف الخاص على العامّ.
والقول الثالث: أنه يكون الإيمان ما في القلب وأما العمل فإنه يكون لازمًا له.
فهذه ثلاث أقوال لأهل العلم، بينها المؤلف رحمه الله في قوله: "وَأَمَّا إذَا قُيِّدَ الْإِيمَانُ فَقُرِنَ بِالْإِسْلَامِ أَوْ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَإِنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهِ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ وَهَلْ يُرَادُ بِهِ أَيْضًا الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ أَوْ لَا يَكُونُ حِينَ الِاقْتِرَانِ دَاخِلًا فِي مُسَمَّاهُ؟ بَلْ يَكُونُ لَازِمًا لَهُ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَوْ لَا يَكُونُ بَعْضًا وَلَا لَازِمًا هَذَا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلنَّاسِ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى".
وبين المؤلف رحمه الله أن هذه الدلالة للإيمان في التجرد والاقتران ليس خاصًّا بالإيمان، بل هناك أسماء تتنوع دلالتها بالتجرد والاقتران، فإذا تجردت أو أُطلقت فإنه يدخل فيها غيرها، وإذا قُرنت بغيرها فإنه تختلف دلالتها.
كالإيمان، الإيمان إذا أطلق دخل في معناه الأعمال الظاهرة والباطنة، وإذا قُرن بالإسلام فُسِّر الإسلام بالأعمال الظاهرة وفُسِّر الإيمان بالأعمال الباطنة كما في حديث جبريل عليه الصلاة والسلام حين سأله عن الإسلام ففسره بالأعمال الظاهرة وسأل عن الإيمان فسره بالأعمال الباطنة، وكذلك في عطف العمل على الإيمان، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الشعراء 227].
فأحد الأقوال إن العمل لا يدخل، وقيل يدخل ويكون مِن عطف الخاص على العام، وقيل يكون لازمًا.
بين المؤلف رحمه الله أن هذه الدلالة ليست خاصة باسم الإيمان، بل إن هناك أسماء كثيرة وردت في الشرع تختلف دلالتها بالاقتران والتجرد، يعني بالإطلاق والاقتران، مثال ذلك اسم المعروف واسم المنكر، ما أُنكِر شرعًا وعقلًا، لكن المعروف كل ما جاء في الشريعة مِن أوامر، والمنكر كل ما جاء في الشريعة مِن الأمور المنهي عنها.
وأعظم المعروف توحيد الله ، فيدخل فيه التوحيد دخولًا أوليًا، ثم يدخل فيه بقية الواجبات، وأعظم المنكر هو الشرك بالله ، فأول ما يدخل في المنكر الشرك بالله ثم يدخل سائر المعاصي، وهذا إذا تجرد، وإذا أطلق أما إذا قرن بغيره فإنه يختلف المعنى؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي عَامَّةِ الْأَسْمَاءِ يَتَنَوَّعُ مُسَمَّاهَا بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ مِثَالُ ذَلِكَ اسْمُ "الْمَعْرُوفِ، اسم الْمُنْكَرِ" واسم البر واسم التقوى وكذلك المقابل اسم الكفر، اسم الشرك، اسم النفاق، اسم الصلاة، اسم الفساد كل هذه الأسماء تختلف دلالتها بالإطلاق والتقييد.
فإذا قيدت صار لها دلالة وإذا أطلقت صار لها دلالة، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " مِثَالُ ذَلِكَ اسْمُ " الْمَعْرُوفِ " وَ " الْمُنْكَرِ " إذَا أُطْلِقَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ [الأعراف:157]" يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ هذا مطلق، يدخل فيه يأمرهم بالمعروف جميع الواجبات وأعظمها التوحيد ثم بقية الواجبات، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ يدخل في المنكر دخول أولي الشرك وجميع المعاصي.
ومثله: َقَوْلُهُ تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:110]، ومثله َقَوْلُهُ تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:71]، يَدْخُلُ فِي الْمَعْرُوفِ كُلُّ خَيْرٍ وَفِي الْمُنْكَرِ كُلُّ شَرٍّ" هذه الدلالة عند الإطلاق.
أما إذا قرنت، إذا قرن المعروف بغيره بأن عطف عليه غيره أو قرن المنكر بغيره، فإن الدلالة تختلف؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله: ثم قد يقرن بما هو أخف منه كَقَوْلُهُ سبحانه: لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء: 114].
هنا قرن بالمعروف ما هو أخص منه، الصدقة، الصدقة من المعروف والإصلاح بين الناس مِن المعروف، يقول المؤلف رحمه الله: " فَغَايَرَ بَيْنَ الْمَعْرُوفِ وَبَيْنَ الصَّدَقَةِ وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ - كَمَا غَايَرَ بَيْنَ اسْمِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ" كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:277].
وكما غاير بين "اسْمِ الْإِيمَانِ واسم َالْإِسْلَامِ" كما في قوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب:35]، فالدلالة هنا تختلف فيكون العطف مثلا الإصلاح على الأمر بالمعروف كما سبق أنه مِن عطف الخاص على العام أو أنه عُطف عليه مِن باب العطف الخاص على العام أو أنه عطف عليه لأنه لازم له كما سبق في الإيمان.
ومثله قوله تعالى: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، فإن المنكر عام ثم عطف المنكر على الفحشاء، هي تأتي عند الإطلاق، لكن هنا عطف عليه يكون مِن باب العطف العام على لخاص، ولذا قال المؤلف: " ثم ذكر مع المنكر" أي دخلت الفحشاء في المنكر، في قوله تعالى: وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [الأعراف:157]، يعني الفحشاء تدخل في المنكر إذا أطلق دخلت الفحشاء في المنكر حينها يطلق المنكر في قوله تعالى: وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ. ومن المنكر الفحشاء.
لكن في الآية هنا إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] إذا عطفها عليه فيه الأقوال السابقة لأهل العلم، عطف العام على الخاص أو عطفها عليه لأنها لا تدخل فيه عند التقييد، أو أنها عطف عليه من باب عطف الملزوم على اللازم لأن المنكر أعم.
يقول المؤلف رحمه الله: " ثُمَّ ذَكَرَ مَعَ الْمُنْكَرِ اثْنَيْنِ فِي قَوْلِهِ: إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل:90]".
ذكر مع المنكر إثنين وهما الفحشاء والبغي، يقول: " جَعَلَ الْبَغْيَ هُنَا مُغَايِرًا لَهُمَا" مغايرًا للفحشاء والمنكر، " وَقَدْ دَخَلَ فِي الْمُنْكَرِ فِي ذَيْنِك الْمَوْضِعَيْنِ" في قوله تعالى: وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [الأعراف:157]، وفي قوله تعالى: تَعَالَى يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ [الأعراف:157]، في هاتين الآيتين دخل البغي والفحشاء، وهنا قرنهما بالمنكر من باب العطف، فاختلفت الدلالة للتجرد والاقتران.
(المتن)
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ لَفْظُ الْعِبَادَةِ فَإِذَا أُمِرَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ مُطْلَقًا دَخَلَ فِي عِبَادَتِهِ كُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ مِمَّا أَمَرَ بِهِ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ مِمَّا أَمَرَ بِهِ؛ فَيَدْخُلُ ذَلِكَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وَفِي قَوْلِهِ: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36]، وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة:21]، وَقَوْلِهِ: إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّين [الزمر:2]، قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي [الزمر:14] وَقَوْلِهِ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ [الزمر:64].
ثُمَّ قَدْ يُقْرَنُ بِهَا اسْمٌ آخَرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، وَقَوْلِهِ: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود:123]، وَقَوْلِ نُوحٍ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ [نوح:3].
وَكَذَلِكَ إذَا أُفْرِدَ اسْمُ: طَاعَةِ اللَّهِ دَخَلَ فِي طَاعَتِهِ كُلُّ مَا أَمَرَ بِهِ وَكَانَتْ طَاعَةُ الرَّسُولِ دَاخِلَةً فِي طَاعَتِهِ، وَكَذَا اسْمُ التَّقْوَى إذَا أُفْرِدَ دَخَلَ فِيهِ فِعْلُ كُلِّ مَأْمُورٍ بِهِ وَتَرْكُ كُلِّ مَحْظُورٍ.
(الشرح)
يقول المؤلف رحمه الله إن مِن هذا الباب باب الأسماء العامة التي تختلف دلالتها عند الإطلاق والاقتران لفظ العبادة، ولفظ العبادة إذا أطلقت يدخل فيها جميع الأوامر فعل جميع الأوامر، يدخل فيها التوكل، يدخل فيها الاستعانة، يدخل فيها طاعة الله ورسوله، وقد يقرن بها غيرها فتختلف الدلالة.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَمِنْ هَذَا الْبَابِ لَفْظُ (الْعِبَادَةِ)" مِن هذا الباب أي أن من الأسماء العامة التي تختلف دلالتها بالإطلاق والاقتران لفظ العبادة، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " ومن هذا الباب لفظ العبادة فَإِذَا أُمِرَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ مُطْلَقًا دَخَلَ فِي عِبَادَتِهِ كُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ ومن ذلك التَّوَكُّلُ عَلَيْهِ مِمَّا أَمَرَ بِهِ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ مِمَّا أَمَرَ بِهِ؛ فَيَدْخُلُ ذَلِكَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فهنا أطلق العبادة، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ، يدخل في العبادة التوكل والاستعانة.
وكذلك يدخل التوكل والاستعانة في قوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36]، فالتوكل مِن العبادة والاستعانة مِن العبادة.
وكذلك أيضًا في قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة:21]. اعبدوا ربكم ومِن العبادة التوكل والاستعانة وسائر الأوامر.
ومِن ذلك قوله تعالى: إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّين [الزمر:2]، قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي [الزمر:14] يدخل في ذلك التوكل والاستعانة والرغبة والرهبة وأداء الأوامر وترك النواهي.
ومِن ذلك قَوْلِهِ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ [الزمر: 64]. أعبده سبحانه بجميع أنواع العبادة ومِن ذلك التوكل والاستعانة، فهذه الأدلة فيها أُطلق فيها لفظ العبادة ولم يقترن في شيء، فهي شاملة عامة تشمل جميع الأوامر.
ثم مثل المؤلف رحمه الله باقتران العبادة بغيرها مِن الواجبات فقال: " ثُمَّ قَدْ يُقْرَنُ بِهَا اسْمٌ آخَرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] وَقَوْلِهِ: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود:123]، وَقَوْلِ نُوحٍ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ [نوح:3]" فهذه الأمثلة الثلاثة فيها العبادة قرنت بغيرها.
فالمثال الأول الدليل الأول إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]. قُرنت العبادة بالاستعانة، فالاستعانة نوع من أنواع العبادة، لكنه قُرن بها فاختلفت الدلالة، فعاد الخلاف السابق مِن العلماء مَن قال: إنها مِن العطف الخاص على العام ومنهم مَن قال: أن الاستعانة مِن ملزومات العبادة وهي لازمة، ومنهم مَن قال: لما قرنت بالاستعانة دل على أنها غير داخلة يعني الحالة.
ومنها قوله: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود:123]، عطف التوكل على العبادة في الخلاف السابق.
ومنه وَقَوْلِ نُوحٍ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ [نوح:3]، فقرن العبادة بالطاعة والتقوى، فالدلالة تختلف، تختلف دلالة الاسم المطلق عن دلالته إذا قرن به غيره.
يقول المؤلف: " وَكَذَلِكَ إذَا أُفْرِدَ اسْمُ " طَاعَةِ اللَّهِ " دَخَلَ فِي طَاعَتِهِ كُلُّ مَا أَمَرَ بِهِ وَكَانَتْ طَاعَةُ الرَّسُولِ دَاخِلَةً فِي طَاعَتِهِ" قال تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ [محمد:33].
إذاً أمر الله تعالى بطاعته دخل في ذلك طاعة الرسول لأنها مِن طاعة الله، كما قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، فيكون داخل في ذلك أيضًا جميع الأوامر، يقول المؤلف: " وَكَذَا اسْمُ " التَّقْوَى " إذَا أُفْرِدَ دَخَلَ فِيهِ فِعْلُ كُلِّ مَأْمُورٍ بِهِ وَتَرْكُ كُلِّ مَحْظُورٍ".
(المتن)
قَالَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ: التَّقْوَى: أَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنْ اللَّهِ تَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ وَأَنْ تَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنْ اللَّهِ تَخَافَ عَذَابَ اللَّهِ وَهَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ. [القمر:54-55].
وَقَدْ يُقْرَنُ بِهَا اسْمٌ آخَرُ كَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:2-3]، وَقَوْلِهِ: إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90]، وَقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ [النساء:1]، وَقَوْلِهِ: اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [الأحزاب:70]، وَقَوْلِهِ: اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، وَقَوْلِهِ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.
فَقَوْلُهُ: اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [الأحزاب:70]، مِثْلُ قَوْلِهِ: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7]، وَقَوْلِهِ: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285]، فَعَطَفَ قَوْلَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ؛ كَمَا عَطَفَ الْقَوْلَ السَّدِيدَ عَلَى التَّقْوَى.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّقْوَى إذَا أُطْلِقَتْ دَخَلَ فِيهَا الْقَوْلُ السَّدِيدُ وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ إذَا أُطْلِقَ دَخَلَ فِيهِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحديد:7]، وَإِذَا أُطْلِقَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ فِي حَقِّ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ دَخَلَ فِيهِ الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285]، وَإِذَا أُطْلِقَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ دَخَلَ فِيهِ الْإِيمَانُ بِهَذِهِ التَّوَابِعِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة:4]، وَقَوْلُهُ: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ [البقرة:136]الْآيَةَ.
وَإِذَا قِيلَ: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ [الأعراف:158]، دَخَلَ فِي الْإِيمَانِ بِرَسُولِهِ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَالنَّبِيِّينَ وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الحديد:28]، وَإِذَا قِيلَ: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7]، دَخَلَ فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ الْإِيمَانُ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَالْإِنْفَاقُ يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحديد:7]،كَمَا يَدْخُلُ الْقَوْلُ السَّدِيدُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [النساء:131].
(الشرح)
المؤلف رحمه الله ذكر هنا اسم التقوى أنه مِن الأسماء التي تختلف دلالتها عند الإطلاق والاقتران، مثل لفظ العبادة ومثل اسم الإيمان، واسم البر، ولهذا قال: " وَكَذَا اسْمُ التَّقْوَى إذَا أُفْرِدَ دَخَلَ فِيهِ فِعْلُ كُلِّ مَأْمُورٍ بِهِ وَتَرْكُ كُلِّ مَحْظُورٍ".
ثم ذكر أقوال السلف في معنى التقوى: "قَالَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ: التَّقْوَى: أَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنْ اللَّهِ تَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ وَأَنْ تَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنْ اللَّهِ تَخَافَ عَذَابَ اللَّهِ" هذا القول الذي نقله المؤلف رحمه الله يبين فيه أن التقوى عامة، المؤلف رحمه الله يبين أن اسم التقوى مثل اسم الإيمان فإذا أطلق فإنه يشمل فعل الأوامر وترك النواهي وإذا قرن وقيد بغيره فإنه تختلف دلالته.
فقد يكون المعطوف عليه داخلًا عند بعض العلماء ولا يكون داخلا عند البعض الآخر ويكون لازمًا، وقد لا يكون داخلًا ولا لازمًا عند آخرين من أهل العلم، واسم التقوى إذا أفرد دخل فيه فعل الأوامر وترك النواهي، كما قال طلق بن حبيب، "التَّقْوَى: أَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنْ اللَّهِ تَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ وَأَنْ تَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنْ اللَّهِ تَخَافَ عَذَابَ اللَّهِ".
بين المؤلف رحمه الله أمثلة وذكر أمثلة للتقوى لفظ التقوى إذا أطلق، فقال: " وَهَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ سبحانه: إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:54-55]" فأطلق اسم المتقين، هذا المراد به المتقون الذين وحدوا الله وأخلصوا له العبادة وأدوا الواجبات وتركوا المحرمات، لأنه أُطلِق.
ثم قال: "وَقَدْ يُقْرَنُ بِهَا اسْمٌ آخَرُ" يعني التقوى، كقوله تعالى: "وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:2-3]" قرن بالتقوى التوكل فجعل مَن يتقي الله يجعل له مخرجا ويرزقه مِن حيث لا يحتسب فهذا ثواب المتقين، ثم بين ثواب المتوكلين فقال ومَن يتوكل على الله فهو حسبه.
ثم ذكر مثالًا آخر باقتران التقوى بغيرها، فقال: وقوله سبحانه"إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90]" فعطف الصبر على التقوى، والصبر داخلٌ في التقوى فمِن التقوى أن يصبر الإنسان على طاعة الله.
يعني الصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة، ولكنه عطف عليه فمِن العطف الخاص على العام أو مِن باب أنه لازم له، أو مِن باب أنه لا يدخل فيه عند الاقتران، إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90].
وذكر مثالًا ثالثًا فقال: "وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ [النساء:1]، فعطف اسم الأرحام على التقوى والأرحام، والأرحامَ في النص يعني واتقوا الأرحام أن تقطعوها، وقُرِئ والأرحامِ يعني معطوف على تتساءلون به وبالأرحام، وأيضًا من الآيات التي قرنت التقوى بغيرها، قوله: "اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [الأحزاب:70]" فعطف القول السديد على التقوى، والقول السديد داخل في التقوى عند الإطلاق.
وأيضًا: اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، فعطف عليها الصدق، والتقوى إذا أطلقت دخل فيها الصدق، لا بد أن يكون المسلم مع الصادقين ويكون منهم ومتصف بصفاتهم وأيضًا: "اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]" المعنى الزموا طاعة الله واستمروا عليها حتى يأتيكم الموت فتقبضوا على الإسلام، غير مغيرين ولا مبدلين، والتقوى إذا أطلقت اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ، فالمراد منها الاستمرار على طاعة الله حتى الوفاة.
ولهذا علق على هذه الآية: فقال: "فَقَوْلُهُ: اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [الأحزاب:70]، مِثْلُ قَوْلِهِ: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7]" يعني مثلها في الاقتران والتقييد، فكما أن التقوى وهي عامة عطف عليها القول السديد والقول السديد داخل في التقوى عند الإطلاق لكنه عطف عليه فاختلفت الدلالة بالإطلاق والتقييد.
كذلك قوله تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7]، فالإيمان بالله ورسوله إذا أطلق دخل فيه الإنفاق، وهنا عطف عليه الأمر بالإنفاق فدل على أن الدلالة تختلف.
ومثله قوله: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285]، هنا آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ عامّ، يشمل جميع الإيمان بما أنزل الله، ثم عطف عليه الإيمان بالملائكة والكتب والرسل وهي داخلة في الإيمان بالله عند الإطلاق.
وكذلك عطف عليه السمع والطاعة: وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [البقرة:285]، هذا مِن الإيمان ولكنه عُطف عليه.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله على هذه الآية: "فَعَطَفَ قَوْلَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ" قولهم أي قول المؤمنين سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا عطفه على الإيمان، والسمع والطاعة داخل في الإيمان عند الإطلاق كما عطف القول السديد على التقوى في الآية السابقة، اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا.
يقول المؤلف رحمه الله: " وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّقْوَى إذَا أُطْلِقَتْ دَخَلَ فِيهَا الْقَوْلُ السَّدِيدُ" لكن إذا اقترن بها القول السديد اختلفت الدلالة، يقول: " وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ إذَا أُطْلِقَ دَخَلَ فِيهِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ" يعني في قوله: وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [البقرة:285]، لكن هنا إذا قرن إذا عطف السمع والطاعة على الإيمان اختلفت الدلالة كما سبق في دلالة الاقتران غير دلالة الإطلاق.
وكذلك "آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7]" يجعلكم مستخلفين فيه فالإيمان بالله ورسوله إذا أطلق دخل فيه الأمر بالإنفاق وهنا عطف عليه الأمر بالإنفاق فاختلفت الدلالة، يقول المؤلف رحمه الله: " وَإِذَا أُطْلِقَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ فِي حَقِّ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ دَخَلَ فِيهِ الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ" إذا أطلق الإيمان بالله آمِنُوا بِاللَّهِ دخل فيه الإيمان بالرسول، وقد يقرن الإيمان بالرسول على الإيمان بالله كما سبق.
يقول المؤلف: "وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285]" يعني هذه لآية فيها عطف الإيمان بالملائكة، والكتب، والرسل، فدل على أن الدلالة تختلف، كل من آمن بالله يدخل فيه الملائكة والكتب والرسل وإذا عطف عليه اختلفت الدلالة.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَإِذَا أُطْلِقَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ دَخَلَ فِيهِ الْإِيمَانُ بِهَذِهِ التَّوَابِعِ" إذا أطلق الإيمان بالله دخل فيه الإيمان بالملائكة والكتب والرسل، وكذلك قوله: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة:4]، إذا أطلق الإيمان بالله دخل فيه الإيمان بالرسول والإيمان بما أنزل مِن قبله، وإذا قرن اختلفت الدلالة.
ومثله قَوْلُهُ تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ [البقرة:136]، فالإيمان بالله إذا أطلق يشمل الإيمان بما أنزل على الأمة المحمدية وبما أنزل على إبراهيم، ثم قال المؤلف رحمه الله: "وَإِذَا قِيلَ: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ [الأعراف:158]، دَخَلَ فِي الْإِيمَانِ بِرَسُولِهِ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَالنَّبِيِّينَ" لأنه أُطلِق.
"وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الحديد:28]، وَإِذَا قِيلَ: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7]، دَخَلَ فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ الْإِيمَانُ بِذَلِكَ كُلِّهِ" يعني إذا أطلق الإيمان دخل فيه الإيمان بالرسول ودخل فيه الأمر بالإنفاق ولهذا قول: "دَخَلَ فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ الْإِيمَانُ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَالْإِنْفَاقُ يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحديد:7]" ؛ لأنه مطلق فيدخل فيه الإنفاق.
والآية الأخرى آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا لما عطف اختلفت الدلالة، يقول المؤلف: "كَمَا يَدْخُلُ الْقَوْلُ السَّدِيدُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّه [النساء:131]" يعني هذه الآية مطلقة اتقوا الله يدخل فيها القول السديد، مع أنه قال السديد عطف على التقوى في الآية السابقة اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا فاختلفت الدلالة للإطلاق والتقييد.
ولهذا ينبغي للمسلم ولطالب العلم أن يعلم دلالات الألفاظ ولاسيما دلالات الألفاظ في القرآن العزيز والسنة المطهرة حتى يكون ذلك وسيلة لفهم كتاب الله وكلام رسوله ﷺ.
(المتن)
وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْبِرِّ إذَا أُطْلِقَ تَنَاوَلَ جَمِيعَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14]، وَقَوْلِهِ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى [البقرة:189]، وَقَوْلِهِ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177].
فَالْبِرُّ إذَا أُطْلِقَ كَانَ مُسَمَّاهُ مُسَمَّى التَّقْوَى وَالتَّقْوَى إذَا أُطْلِقَتْ كَانَ مُسَمَّاهَا مُسَمَّى الْبِرِّ ثُمَّ قَدْ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2].
وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْإِثْمِ إذَا أُطْلِقَ دَخَلَ فِيهِ كُلُّ ذَنْبٍ وَقَدْ يُقْرَنُ بِالْعُدْوَانِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].
وَكَذَلِكَ لَفْظُ الذُّنُوبِ إذَا أُطْلِقَ دَخَلَ فِيهِ تَرْكُ كُلِّ وَاجِبٍ وَفِعْلُ كُلِّ مُحَرَّمٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53]، ثُمَّ قَدْ يُقْرَنُ بِغَيْرِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا [آل عمران:147].
وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْهُدَى إذَا أُطْلِقَ تَنَاوَلَ الْعِلْمَ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَالْعَمَلَ بِهِ جَمِيعًا فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، وَالْمُرَادُ طَلَبُ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ وَالْعَمَلُ بِهِ جَمِيعًا.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2]. وَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِ وَيَعْمَلُونَ بِهِ وَلِهَذَا صَارُوا مُفْلِحِينَ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا [الأعراف:43]، وَإِنَّمَا هَدَاهُمْ بِأَنْ أَلْهَمَهُمْ الْعِلْمَ النَّافِعَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ.
ثُمَّ قَدْ يُقْرَنُ الْهُدَى إمَّا بِالِاجْتِبَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:87]، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ [النحل:121]، اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ [الشورى:13]، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ [التوبة:33]، وَالْهُدَى هُنَا هُوَ الْإِيمَانُ وَدِينُ الْحَقِّ هُوَ الْإِسْلَامُ وَإِذَا أُطْلِقَ الْهُدَى كَانَ كَالْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ يَدْخُلُ فِيهِ هَذَا وَهَذَا.
(الشرح)
فإن المؤلف رحمه الله يبين في هذا المقطع الذي يقوله إن مسمى الإيمان عند الإطلاق يختلف في دلالته عند اقترانه بغيره، ومسمى الإيمان إذا أطلق يشمل فعل الأوامر وترك النواهي وإذا قرن بغيره اختلفت الدلالة، وذكر المؤلف لهذا نظائر، والمؤلف يرد على المرجئة الذين يقررون أن الإيمان هو مجرد التصديق في القلب وأن الأعمال لا تدخل في مسماه.
فالمؤلف رحمه الله يبين أن الأسماء المطلقة إذا أطلقت يدخل فيها جميع الأوامر، فعل الأوامر وترك النواهي، ولهذا نظائر ليس خاصًّا بالإيمان، بل ذكر المؤلف رحمه الله كما سبق في الحلقات السابقة من ذلك أمثلة مثل لفظ المنكر والمعروف والعبادة، كل هذه المسميات أطلقت تشمل فعل الأوامر وترك النواهي وكذلك التقوى إذا أطلقت فإنها تشمل الأوامر والنواهي.
أما إذا قرن الاسم بغيره فإن الدلالة تختلف كما سبق أن للعلماء في ذلك أقوال منهم مَن قال إن المعطوف عليه يدخل ويكون هذا مِن باب عطف الخاص على العام ومنهم مَن قال إنه إذا عطف عليه دل على أنه لازم من لوازمه، ومنهم مَن قال لا يدخل عند العطف، والمؤلف رحمه الله لا يزال يذكر النظائر لمسمى الإيمان.
يقول: " وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْبِرِّ " إذَا أُطْلِقَ فإنه يتَنَاوَلَ جَمِيعَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ" فعل الأوامر وترك النواهي مثل مسمى الإيمان ومثل مسمى التقوى ومسمى العبادة، والإسلام، والدين كل هذه الأسماء إذا أطلقت تشمل فعل الأوامر وترك النواهي، وإذا اقترنت بغيرها صار لها دلالة أخرى.
ولذلك ذكر المؤلف رحمه الله في هذا نظائر كما سبق ومِن ذلك ما ذكر فيما قرئ وهو لفظ البر، ولفظ الاثم، ولفظ الهدى كل هذه الأسماء المطلقة تختلف دلالتها إذا أطلقت عن دلالتها إذا قرنت بغيرها.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْبِرِّ " إذَا أُطْلِقَ تَنَاوَلَ جَمِيعَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ" َكمَا فِي قَوْلِهِ: إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14] الأبرار الذين وحدوا الله وأخلصوا له العبادة وأدوا الواجبات وتركوا المحرمات، ومثله: قوله تعالى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى [البقرة:189] البر: فعل الأوامر التي أعظمها توحيد، وترك النواهي التي أعظمها الشرك بالله .
ثم ذكر المؤلف رحمه الله أيضًا دليلًا ثالثًا يبين فيه أن البر يشمل جميع الطاعات وهي آية البقرة في قوله سبحانه: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177]، كل هذه الأعمال داخلة في مسمى البر، الإيمان بالله والملائكة والنبيين وإيتاء المال على حبه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وغيره كل هذا داخل في مسمى الإيمان، وكل ذلك داخل في مسمى التقوى، وكل ذلك داخل في مسمى الصدق قال: أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177].
يقول المؤلف: "فَالْبِرُّ إذَا أُطْلِقَ كَانَ مُسَمَّاهُ مُسَمَّى التَّقْوَى" يعني يشمل فعل الأوامر وترك النواهي، إذا أطلق البر يشمل فعل الأوامر وترك النواهي والتقوى إذا أطلقت تشمل فعل الأوامر وترك النواهي، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فَالْبِرُّ إذَا أُطْلِقَ كَانَ مُسَمَّاهُ مُسَمَّى التَّقْوَى وَالتَّقْوَى إذَا أُطْلِقَتْ كَانَ مُسَمَّاهَا مُسَمَّى الْبِرِّ ثُمَّ قَدْ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2]" يعني تختلف الدلالة.
ولذلك قال أهل العلم: إذا قُرن بينهما فُسر البر بفعل الأوامر وفسرت التقوى بترك النواهي، وإذا أطلق أحدهما دخل فيه الآخر، إذا أطلق البر يشمل فعل الأوامر وترك النواهي وإذا أطلقت التقوى تشمل فعل الأوامر وترك النواهي، وإذا جمع بينهما فسر البر بفعل الأوامر والتقوى بترك النواهي.
ومِن أيضًا الأسماء أيضًا التي تختلف دلالتها بالإطلاق والتقييد يقول المؤلف: " وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْإِثْمِ " إذَا أُطْلِقَ دَخَلَ فِيهِ كُلُّ ذَنْبٍ" فيدخل فيه كل إثم، يدخل فيه الشرك ويدخل فيه المعاصي، ويدخل فيها المعاصي التي بين الإنسان وبين ربه، والمعاصي التي بينه وبين العباد، ويدخل فيه العدوان على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، يقول المؤلف: "وَقَدْ يُقْرَنُ بِالْعُدْوَانِ" فتختلف الدلالة، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، فيفسر الإثم بالمعاصي التي ليست بين الإنسان وبين الناس، والعدوان بالمعاصي التي بينه وبين الناس.
يقول المؤلف رحمه الله: " وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الذُّنُوبِ " إذَا أُطْلِقَ دَخَلَ فِيهِ تَرْكُ كُلِّ وَاجِبٍ وَفِعْلُ كُلِّ مُحَرَّمٍ" يعني هذا مِن الألفاظ العامة، لفظ الذنوب ولفظ الإثم ولفظ العدوان، ولفظ البر ولفظ التقوى كلها ألفاظ عامة، مثال دلالة لفظ الذنب على جميع الذنوب، ترك الواجبات وفعل المحرمات، فِي قَوْلِهِ: قُل يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53].
فقوله: إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا هذه عامة تشمل الذنوب التي بين الإنسان وبين ربه وكذلك التي بينه وبين الناس.
وكذلك الكفر الذي هو أعظم الذنوب، ولهذا أجمع العلماء على أن هذه آية التائبين؛ لأن الله عمم وأطلق فِي قَوْلِهِ: قُل يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53] يعني مَن تاب، الشرك فما دونه، يدخل في الذنوب الشرك والعدوان على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فمَن تابَ، تابَ الله عليه، فهذه الآية في التائبين.
أما قوله الله تعالى في سورة النساء: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:85]، فهذه الآية في غير التائبين، لأن الله خصص وعلق، خصَّ الشرك أنه لا يُغفَر وعلق ما دونه على المشيئة، يدل على أن هذه الآية في غير التائبين، أما آية الزمر ففي التائبين لأن الله عمم وأطلق إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا.
يقول المؤلف رحمه الله: " ثُمَّ قَدْ يُقْرَنُ بِغَيْرِهِ" يعني الذنب، فتختلف دلالته كَمَا فِي قَوْلِهِ: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا [آل عمران:147] عطف الإسراف في الأمر على الذنب، وإن كان الإسراف في الأمر داخل في الذنب عند الإطلاق لكنه لما عطف عليه اختلفت الدلالة.
وكذلك أيضًا ذكر المؤلف مِن الألفاظ المطلقة التي تختلف دلالتها في الاقتران والإطلاق لفظ الهدى، لفظ الهدى، إذا أطلق فإنه يتناول العلم والعمل، الهدى إذا أطلق فإنه يشمل العلم بما بعث الله به رسوله والعمل به بأن يتعلم الإنسان ويتبصر ويتفقه في دين الله، ثم يعمل هذا هو المهتدي، يعني أن يتعلم أولًا ويتفقه ويتبصر ثم يعبد ربه على بصيرة.
أما مَن عبد الله على جهل وضلال فليس مهتديًا، وكذلك مَن علم ولم يعمل ليس مهتديًا، المهتدي هو الذي يعلم ثم يعمل، يتبصر ويتفقه ثم يعمل، إذا أطلق لفظ الهدى تناول العلم الذي بعث الله به رسوله والعمل جميعًا، فيدخل فيه كل ما أمر الله به، كل ما أمر الله به يعلمه ويعلم حكم الله فيه ثم يعمل به، مثال ذلك: كَمَا فِي قَوْلِهِ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، اهدنا يعني دلنا وأرشدنا يا الله ووفقنا للعلم النافع الذي أنزلته في كتابك وبعثت به نبيك محمد ﷺ ووفقنا للعمل به اهدنا الصراط المستقيم.
ولهذا بين المؤلف: " وَالْمُرَادُ طَلَبُ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ وَالْعَمَلُ بِهِ" لأن الهدى أطلق، فإذا أطلق يشمل الأمرين، طلب العلم بالحق، يتعلم يطلب العلم ليعبد ربه على بصيرة لا بد أن يتعلم ويتفقه ويعلم أن هذا مِن دين الله وشرعه ثم يعمل به، ولهذا قال المؤلف: "وَالْمُرَادُ طَلَبُ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ وَالْعَمَلُ بِهِ جَمِيعًا" ومثال ذلك قوله: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2]، المراد أنهم يعلمون ما فيه ثم يعملون به، يعلمون ما في القرآن ثم يعملون به، يشمل العلم والعمل.
قال المؤلف: "وَلِهَذَا صَارُوا مُفْلِحِينَ" كما في قوله تعالى في أول سورة البقرة: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:3-5].
حكم لهم بالفلاح لأنهم علموا ثم عملوا فهم مفلحون، والفلاح هو الحصول على المطلوب والنجاة مِن المرهوب، وهؤلاء المؤمنين حصلوا على ما يرغبون مِن رضا الله وكرامته والتمتع بدار كرامته في جنته، وسلموا مِن المرهوب مِن الشرور بأنواعها ومِن عذاب الله وسخطه ولهذا صاروا مفلحين لأنهم علموا وطلبوا العلم الشرعي ثم عملوا به.
ومثال ذلك أيضًا من الهدى والهداية إذا أطلقت قَوْلُ الله تعالى عن أَهْلِ الْجَنَّةِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا [الأعراف:43]" هداهم للعلم والعمل ولهذا قال المؤلف: "وَإِنَّمَا هَدَاهُمْ بِأَنْ أَلْهَمَهُمْ الْعِلْمَ النَّافِعَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ" ثم هذا اللفظ وهو لفظ الهدى قد يقرن بغيره، فإذا قرن بغيره اختلفت الدلالة قد يقرن بالاجتباء، قال: " ثُمَّ قَدْ يُقْرَنُ الْهُدَى إمَّا بِالِاجْتِبَاءِ وإما بغيره، إما بالاجتباء كَمَا فِي قَوْلِهِ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:87]" عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ [النحل:121]، فعطف الهداية على الاجتباء.
وكما في قوله سبحانه: اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ [الشورى:13] هنا قرن الهدى بالاجتباء والاصطفاء، فاختلفت الدلالة بالاقتران.
ومثله أيضا قول الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ [التوبة:33] فعطف دين الله الحق على الهدى فاختلفت الدلالة.
يقول المؤلف: " وَالْهُدَى هُنَا هُوَ الْإِيمَانُ وَدِينُ الْحَقِّ هُوَ الْإِسْلَامُ" إذا أفرد الهدى شمل الأعمال الظاهرة والباطنة، فعل الأوامر وترك النواهي، ولكن لما قرن بينهما صار الهدى هنا هو الإيمان، يفسر بالأعمال الباطنة ودين الحق هو الإسلام يفسر بالأعمال الظاهرة، مثل حديث جبرائيل لما سأل النبي ﷺ عن الإيمان فسره النبي بالأعمال الباطنة([17]).
ولما سأل عن الإسلام فسره بالأعمال الظاهرة، اختلفت الدلالة بالاقتران، لكن إذا أطلق الإيمان وحده دخلت فيه الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة، والإسلام أيضًا إذا أطلق وحده دخل فيه الأعمال الظاهرة والباطنة، والدين إذا أطلق دخل فيه الأعمال الظاهرة والباطنة، والبر إذا أطلق دخل فيه الأعمال الظاهرة والباطنة، والتقوى إذا أطلقت دخل فيها الأعمال الظاهرة والباطنة، والهدى إذا أطلق دخل فيه الأعمال الظاهرة والباطنة، وهكذا، لكن إذا قرن بغيره اختلفت الدلالة.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَالْهُدَى هُنَا هُوَ الْإِيمَانُ وَدِينُ الْحَقِّ هُوَ الْإِسْلَامُ وَإِذَا أُطْلِقَ الْهُدَى كَانَ كَالْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ يَدْخُلُ فِيهِ هَذَا وَهَذَا" أي الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة، الأعمال الباطنة كالإيمان، وهذا الأعمال الظاهرة وهو ما دل عليه الإسلام.
(المتن)
وَلَفْظُ الضَّلَالِ إذَا أُطْلِقَ تَنَاوَلَ مَنْ ضَلَّ عَنْ الْهُدَى سَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا أَوْ جَهْلًا وَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُعَذَّبًا كَقَوْلِهِ: إنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ [الصافات:69-70]، وَقَوْلِهِ: رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا [الأحزاب:67-68]، وَقَوْلِهِ: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى [طه:123].
ثُمَّ قَدْ يُقْرَنُ بِالْغَيِّ أو الْغَضَبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:2]. وَفِي قَوْلِهِ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]. وَقَوْلِهِ: إنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ [القمر:47].
وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْغَيِّ " إذَا أُطْلِقَ تَنَاوَلَ كُلَّ مَعْصِيَةٍ لِلَّهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ عَنْ الشَّيْطَانِ: وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:39-40].
وَقَدْ يُقْرَنُ بِالضَّلَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:2].
وَكَذَلِكَ اسْمُ الْفَقِيرِ إذَا أُطْلِقَ دَخَلَ فِيهِ الْمِسْكِينُ وَإِذَا أُطْلِقَ لَفْظُ " الْمِسْكِينِ " تَنَاوَلَ الْفَقِيرَ وَإِذَا قُرِنَ بَيْنَهُمَا فَأَحَدُهُمَا غَيْرُ الْآخَرِ؛ فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271] وَقَوْلِهِ: فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ [المائدة:89]، وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ: إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60].
(الشرح)
نعم، لا زال المؤلف رحمه الله يذكر أمثلة للأسماء المطلقة التي تختلف دلالتها بالإطلاق والاقتران.
يقول المؤلف ومِن الألفاظ التي أذا أطلقت صار مسماها عامّ وإذا قرنت بغيرها اختلفت الدلالة لفظ الضلال، مثل لفظ الهدى، إذا أطلق لفظ الضلال فإنه يتناول مَن ضل عن الهدى عمدًا أو جهلًا ولزم أن يكون معذبًا، والضال معذّب لأنه ضل عن الهدى، ضل عن العلم والعمل، والضال هو الذي لا يتعلم الشريعة ولا يعمل بها، هذا ضالّ، إذا أطلق لفظ الدلال يشمل مَن ترك العلم والعمل جميعًا، سواء كان عمدًا أو جهلًا ولزم أن يكون معذبًا، هذا إذا أطلق.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَلَفْظُ " الضَّلَالِ " إذَا أُطْلِقَ تَنَاوَلَ مَنْ ضَلَّ عَنْ الْهُدَى –يعني عن العلم والعمل- سَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا أَوْ جَهْلًا وَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُعَذَّبًا ومثال ذلك إذا أطلق: قال الله تعالى عن المشركين: إنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ [الصافات:69-70]" ضالين لا يتعلمون الشريعة ولا يتفقهون ولا يعملون بها، فهم على آثارهم يهرعون، فلذلك هؤلاء معذبون.
وأيضًا قول الله تعالى عن الكفار الذين اتبعوا المشركين، والمقلدون الذين تبعوا سادتهم في الكفر والضلال: رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا [الأحزاب:67-68]، فأضلونا عن العلم والعمل، هذا ضلال، فلم يعلموا الشريعة ولم يعملوا بها، ولهذا صاروا معذبين.
وفي الآية الأخرى في سورة الأعراف لما أخبر مِن حالهم لما دخلوا النار: قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف:38]، لكل ضعف يعني التابعين والمتبوعين، التابعين لأنهم قلدوا المتبوعين، فصاروا كلهم في النار وصار لكلٍّ ضعف نسأل الله السلامة والعافية؛ لأنهم تركوا العلم والعمل.
ومثل َقَوْلِهِ تعالى: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى [طه:123] فلا يضل بترك العلم وترك العمل.
يقول المؤلف رحمه الله: "ثُمَّ قَدْ يُقْرَنُ –يعني لفظ الضلال- بِالْغَيِّ أو الْغَضَبِ" يعني سيختلف المعنى، كَمَا فِي قَوْلِهِ عن نبيه محمد ﷺ: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:1-2].
أقسم الله تعالى بالنجم وله أن يقسم بما شاء مِن مخلوقاته، لا أحد يحجر عليه سبحانه، أما المخلوق فليس له إلا أن يقسم بالله وأسمائه وصفاته، أما الله يقسم بما شاء مِن مخلوقاته بما في ذلك مِن دلائل حكمته وقدرته ووحدانيته، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى يعني محمد ﷺ هنا قرن الضلال بالغي.
فالضلال إذا أطلق فسر بترك العلم والعمل، لكن إذا قرن بينهما فسر الضلال بعدم العلم ويفسر الغي بترك العمل، والله نفى عن نبيه محمد ﷺ ترك العلم وترك الغي مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:2]، لم يكن ضالًّا عليه الصلاة والسلام، ولم يكن غاويًا، لم يكن ضالًا لا يعلم الحق، ولم يكن غاويًا لا يعمل به، بل هو راشد يعلم ويعمل، فالقسم الأول ضال وهو لا يعلم الحق، والقسم الثاني غاو وهو الذي يعلم الحق ولا يعمل به كاليهود نعوذ بالله فالغالب عليهم ترك العمل، والنصارى الغالب عليهم ترك العلم وهناك القسم الثالث وهو الراشد، والراشد فهو الذي يعلم ويعمل وهم أهل الصراط المستقيم نسأل الله أن يجعلنا منهم.
مثال ذلك أيضًا قول تعالى في سورة الفاتحة: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، وهذا مِن أنفع الأدعية، أعظم دعاء وأجمع دعاء هو دعاء الفاتحة، لو كان هناك دعاء أنفع منه لأرشده الله إليه، هذا الدعاء الذي هو حاجة الإنسان إليه أعظم مِن حاجته إلى الطعام والشراب، بل أعظم مِن حاجته مِن النفس الذي يتردد بين جنبيه، دعاء عظيم أوجبه الله في كل ركعة مِن ركعات الصلاة، على كل مصلي، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7].
أنت تسأل ربك أن يهديك الصراط المستقيم وهم المنعم عليهم الذين يعلمون ويعملون، وتسأل ربك أن يجنبك طريق المغضوب عليهم وهم الذين يعلمون ولا يعملون كاليهود وأشباههم، وأن يجنبك طريق الضالين الذين يعملون ولا يعلمون كالنصارى وأشباههم، فهنا قرن الغضب بالضلال فصار لكل منهما معنى.
ومثله َقَوْلِهِ تعالى: إنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ [القمر:47].
وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْغَيِّ " إذَا أُطْلِقَ تَنَاوَلَ كُلَّ مَعْصِيَةٍ لِلَّهِ" إذا أطلق لكن إذا قرن تختلف دلالته مثل "قَوْلِهِ عَنْ إبليس: وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:39-40]" لأغوينهم بجميع المعاصي، يدخل في الغواية التي يبذل فيها الجهد إبليس جميع المعاصي، الشرك، الشرك والمعاصي كلها داخلة في اسم الغي.
يقول المؤلف: "وَقَدْ يُقْرَنُ الغي بِالضَّلَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:2]" تختلف المعنى فتختلف الدلالة كما سبق، وكذلك أيضًا مِن الأسماء التي تختلف دلالتها عند الإطلاق والاقتران، اسم الفقير واسم المسكين، فـ"اسْمُ " الْفَقِيرِ " إذَا أُطْلِقَ دَخَلَ فِيهِ الْمِسْكِينُ وَإِذَا أُطْلِقَ لَفْظُ " الْمِسْكِينِ " تَنَاوَلَ الْفَقِيرَ وَإِذَا قُرِنَ بَيْنَهُمَا صار لكل واحد منهما مسمى فَأَحَدُهُمَا غَيْرُ الْآخَرِ".
ولهذا قال المؤلف رحمه الله وكذلك اسم الفقير إذا أطلق دخل فيه المسكين وإذا أطلق لفظ المسكين تناول الفقير وإذا قرن بينهما فإن الدلالة تختلف.
مثال لإطلاق أحدهما: فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271] يدخل هنا الفقير والمسكين، ومثله قوله تعالى في إطلاق المسكين، فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ [المائدة:89] يدخل فيه الفقير، وإذا قرن بينهما اختلفت الدلالة كَقَوْلِهِ: إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60].
ولهذا قال العلماء إن الفقير أشد حاجة مِن المسكين، فإذا جمع بينهما فسر الفقير عند المحققين بأنه الذي لا يجد شيئًا أو يجد أقل مِن نصف الكفاية، يعني لا يجد شيئًا يكفيه أو يجد أقل مِن نصف الكفاية لمدة سنة، وأما المسكين هو الذي يجد نصف الكفاية فأكثر إلا أنه لا يجد تمام الكفاية، فيكون الفقير أشد حاجة مِن المسكين.
لكن إذا أطلق أحدهما دخل فيه الآخر في قوله تعالى: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271] يعني والمساكين، وَقَوْلِهِ: فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ [المائدة:89] يعني والفقراء، لكن لما قرن بينهما، لما عطف أحدهما على الآخر كَقَوْلِهِ: إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60] اختلفت الدلالة فصار الفقير أشد حاجة مِن المسكين.
(المتن)
وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ الَّتِي تَخْتَلِفُ دَلَالَتُهَا بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ وَالتَّجْرِيدِ وَالِاقْتِرَانِ تَارَةً يَكُونَانِ إذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا أَعَمَّ مِنْ الْآخَرِ كَاسْمِ الْإِيمَانِ وَالْمَعْرُوفِ مَعَ الْعَمَلِ وَمَعَ الصِّدْقِ؛ وَكَالْمُنْكَرِ مَعَ الْفَحْشَاءِ وَمَعَ الْبَغْيِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَتَارَةً يَكُونَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ كَلَفْظِ الْإِيمَانِ، وَالْبِرِّ، وَالتَّقْوَى، وَلَفْظِ الْفَقِيرِ، وَالْمِسْكِينِ؛ فَأَيُّهَا أُطْلِقَ تَنَاوَلَ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْآخَرُ.
(الشرح)
يقول المؤلف رحمه الله: "هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الَّتِي سبقت تَخْتَلِفُ دَلَالَتُهَا بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ وَالتَّجْرِيدِ وَالِاقْتِرَانِ".
هذه الأسماء تارة يكون أحدهما أعم مِن الآخر وتارة يكونان متساويان، فمثال ذلك ما إذا كانا متساويان كلفظ الإيمان ولفظ البر ولفظ التقوى ولفظ الفقير، ولفظ المسكين، فأيهما أطلق تناول ما يتناوله الآخر.
فالبر إذا أطلق شمل فعل الأوامر وترك النواهي، والتقوى إذا أطلقت شمل فعل الأوامر وترك النواهي، والفقير إذا أطلق دخل فيه المسكين، والمسكين إذا أطلق دخل فيه الفقير.
والنوع الثاني ما يكون أحدهما أعم مِن الآخر، مثل اسم الإيمان والمعروف، مثلًا الإيمان إذا قرن بالعمل الصالح فالإيمان أعم، والعمل الصالح أخص.
ومثله المعروف إذا قرن بغيره، إذا قرن بالصدق يكون المعروف أعم، وكذلك المنكر إذا قرن بالفحشاء، إذا قرن بالبغي، فالمنكر أعم مِن الفحشاء وأعم مِن البغي، فهذه الاختلاف في دلالة الألفاظ على هذين الأمرين، قد يكون دلالة أحدهما أعم، وقد يكونا متساويين.
1-أخرجه البخاري في "صحيحه" (6810) ومسلم في "صحيحه" برقم (57) من حديث أبي هريرة .
2-
3-أخرجه مسلم في "صحيحه" برقم (54) من حديث أبي هريرة .
4-أخرجه البخاري في "صحيحه" (15) و مسلم في "صحيحه" برقم (44) من حديث أنس .
5-أخرجه البخاري في "صحيحه" برقم (13) ،والنسائي في "سننه "برقم (5017) واللفظ له من حديث أنس .
6-أخرجه مسلم في "صحيحه" برقم (101) من حديث أبي هريرة .
6-ينظر؟؟؟؟؟؟؟؟؟
1-سبق تخريجه (ص...)
1-سبق تخريجه (ص...)
1-سبق تخريجه (ص...)
([11])1-سبق تخريجه (ص...)
1-سبق تخريجه (ص...)
1- في المطبوع"عمله"
1- في المطبوع"عمله"
1- في المطبوع"عمله"
أخرجه البخاري في "صحيحه" برقم (4777)، ومسلم في "صحيحه" برقم (10) من حديث أبي هريرة .
وأخرجه مسلم في "صحيحه" برقم (8) من حديث عمر بن الخطاب