(المتن)
قال رحمه الله:
وَلَمَّا خَرَقَ السَّفِينَةَ قَالَ لَهُ مُوسَى: أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إمْرًا [الكهف:71]، فَسَأَلَهُ قَبْلَ إحْدَاثِ الذِّكْرِ، وَقَالَ فِي الْغُلَامِ: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا [الكهف:74]، فَسَأَلَهُ قَبْلَ إحْدَاثِ الذِّكْرِ، وَقَالَ فِي الْجِدَارِ: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا [الكهف:77]، وَهَذَا سُؤَالٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى.
فَإِنَّ السُّؤَالَ وَالطَّلَبَ قَدْ يَكُونُ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ، كَمَا تَقُولُ: لَوْ نَزَلْت عِنْدَنَا لَأَكْرَمْنَاك، وَإِنْ بِتّ اللَّيْلَةَ عِنْدَنَا أَحْسَنْت إلَيْنَا، وَمِنْهُ قَوْلُ آدَمَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23]، وَقَوْلُ نُوحٍ رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [هود:47]، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ.
وَلِهَذَا قَالَ مُوسَى إنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي [الكهف:76]، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَهُ الثَّلَاثَ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَ لَهُ الذِّكْرَ وَهَذَا مَعْصِيَةٌ لِنَهْيِهِ، وَقَدْ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [الكهف:69]، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عَاصِيَ النَّهْيِ عَاصٍ الْأَمْرَ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف:54]، وَقَدْ دَخَلَ النَّهْيُ فِي الْأَمْرِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور:63]، وَقَوْلُهُ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، فَإِنَّ نَهْيَهُ دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ.
(الشرح)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن المؤلف رحمه الله بين فيما سبق دلالات الألفاظ، وأن الألفاظ منها ما هو مُطلق ومنها ما هو مُقيد، وأن اللفظ المُطلق عامّ، مثل لفظ الإيمان، ولفظ البر، ولفظ العبادة، ولفظ الذنب، ولفظ الإثم، ولفظ الكفر، ولفظ الشرك، ولفظ الهدى، ولفظ الضلال، وأن دلالتها عامة.
ومن ذلك لفظ الإيمان فإنه عامٌّ يشمل فعل الأوامر وترك النواهي، وقصده من ذلك رحمه الله: أن يرد على المرجئة، الذين يقولون إن مُسمى الإيمان هو مجرد التصديق.
المؤلف رحمه الله يبيِّن أن لفظ الإيمان لفظٌ مطلق، ويشمل فعل الأوامر وترك النواهي، يشمل قول اللسان وتصديق القلب وعمل الجوارح وأعمال القلوب.
وبيَّن المؤلف رحمه الله أنه إذا قُيد هذا اللفظ المطلق، وعُطف عليه غيره؛ كما لو عُطف الإسلام على الإيمان، أو عُطف العمل على الإيمان، فإنه يختلف المعنى، وبيَّن رحمه الله أن من ذلك، أن العطف تختلف دلالته، وأن المعطوف والمعطوف عليه قد يكونان متباينين، وقد يكون بينهما تلازُم، وقد يكون المعطوف عليه جزءًا منه، وقد يكونان متلازمين، ومن ذلك التلازُم بين فعل المأمور وترك المحظور، كما سبق.
وبيَّن المؤلف رحمه الله قال: " مَنْ لَمْ يَفْعَلْ الْمَأْمُورَ فَعَلَ بَعْضَ الْمَحْظُورِ وَمَنْ فَعَلَ الْمَحْظُورَ لَمْ يَفْعَلْ جَمِيعَ الْمَأْمُورِ" فالأمر والنهي متلازمان، فالأمر بالشيء نهيٌ عن ضده، والنهي عن الشيء أمرٌ بضده.
ومن ذلك ما ذكره الله في قصة موسى في رحلته البحرية للخضر وأن موسى سأل الخضِر أن يتعلم منه فقال: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66]، وقال له: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:67]، وقال أنه أجاب: قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [الكهف:69]، وقوله: وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا يقول المؤلف: هذا نهيٌ له عن السؤال حتى يحدِث له منه ذكرًا.
ولما خرق السفينة قال له موسى: أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إمْرًا [الكهف:71]، "فَسَأَلَهُ قَبْلَ إحْدَاثِ الذِّكْرِ" وقصده المؤلف رحمه الله: يبيِّن أنَّ الأمر والنهي متلازمان، وأن الخضر لما نهى موسى وقال له: فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:70]، ثم لما سأله في خرق السفينة صار هذا السؤال قبل إحداث الذكر، فدلَّ على أن النهي عن الشيء يلزم منه الأمر بتركه.
ولهذا لما خرق السفينة قال له موسى: لما قال له موسى حين خرق السفينة: أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إمْرًا [الكهف:71]، كان هذا سؤال، سؤالٌ له، والسؤال طلب وهو ضد النهي، وهو نهاه في الأول قال: فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:70]، فلما خرق السفينة واعترض عليه موسى وقال له: أخرقتها، اعتبر أن هذا سؤال، سؤالٌ قبل إحداث الذكر، والسؤال كأنه أمرٌ له، أو اعتراض عليه، فدل على أن الأمر والنهي متلازمان.
" وَقَالَ فِي الْغُلَامِ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا [الكهف:74]" لما قتل الغلام، سأله، أنكر عليه موسى واعتبر الخضر أن سؤاله له اعتراضٌ عليه قبل إحداث الذكر، وقد قال له قبل ذلك: فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:70]، فلما اعترض عليه في خرق السفينة وفي قتل الغلام اعتبر أن هذا سؤالًا قبل إحداث الذكر.
وكذلك في الجدار لما أقامه الخضر وبناه، اعترض عليه موسى وقال: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا [الكهف:77]، يقول المؤلف: "وَهَذَا سُؤَالٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَإِنَّ السُّؤَالَ وَالطَّلَبَ قَدْ يَكُونُ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ" وقد يكون بغير صيغة الشرط، كقوله: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا: هذا سؤال بصيغة الشرط كأنه يقول خذ عليه أجرًا.
وذلك أن موسى والخضر قد استضافوا أهل هذه القرية وكانوا لُؤَمَاء فلم يضيفوهم فالخضر وجد الجدار يريد أن ينقض فأقامه: جعل يبنيه، فقال له موسى: هؤلاء قومٌ لُؤَمَاء، ما أضافونا، لو اتخذت عليه أُجْرَة، لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا، فهذا سؤال مِن جهة المعنى، يقول المؤلف: بصيغة الشرط، والسؤال قد يكون بصيغة الشرط، وقد يكون بصيغة الأمر.
ومثَّل المؤلف رحمه الله السؤال بصيغة الشرط قال: " كَمَا تَقُولُ: لَوْ نَزَلْت عِنْدَنَا لَأَكْرَمْنَاك" هذا بصيغة الشرط، والتقدير: انزل عندنا حتى نكرمك، فقد يكون بصيغة الأمر كما تقول انزل عندنا حتى نكرمك، أو فنكرمك، وقد يكون بصيغة الشرط فيقول لو نزلت عندنا لأكرمناك فإن بت الليلة عندنا أحسنت إلينا.
فمثَّل المؤلف رحمه الله في هذا بالأمر بصيغة الشرط بقول الله تعالى عن آدم عليه الصلاة والسلام: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23]، هذا بصيغة الشرط، والتقدير: اغفر لنا يا رب وارحمنا، فهو سؤال المغفرة بصيغة الشرط.
يقول المؤلف رحمه الله: ومثله كثير؛ ولهذا قال موسى عليه الصلاة والسلام للخضر لما عاتبه الخضر في سؤاله قبل أن يحدث له الذكر، قال موسى: قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي [الكهف:76]، يقول المؤلف رحمه الله: "فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَهُ الثَّلَاثَ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَ لَهُ الذِّكْرَ" يعني خالف نهيه؛ لأنه قال: فَلَا تَسْأَلْنِي فلما سأله والسؤال طلب، اعتبره مخالفة للنهي؛ وذلك لأن الأمر والنهي متلازمان.
يقول المؤلف رحمه الله: "فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَهُ الثَّلَاثَ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَ لَهُ الذِّكْرَ وَهَذَا مَعْصِيَةٌ لِنَهْيِهِ".
ويقول المؤلف: "وَقَدْ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [الكهف:69]" وموسى أخذ على نفسه أنه لا يعصي له أمرًا، وقال له الخضر فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:70]، فلما سأله الثلاثة قبل إحداث الذكر اعتبر الخضر أن هذا، أنه عصى النهي، وأن عاصي النهي عاص للأمر.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عَاصِيَ النَّهْيِ عَاصٍ الْأَمْرَ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف:54] يعني الله تعالى فرق بين الخلق والأمر، فعطف أحدهما على الآخر، والأمر يشمل الأمر والنهي، فإن النهي داخلٌ في الأمر.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَقَدْ دَخَلَ النَّهْيُ فِي الْأَمْرِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور:63]" فقوله: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ يعني يرتكبون نهيًا، فجعل ارتكاب النهي مخالفةً للأمر.
وقول الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36] يقول: "فَإِنَّ نَهْيَهُ دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ" يعني الذي يرتكب النهي داخل في قوله: أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ فليس للإنسان الخيرة في أمر الله ورسوله، لا بترك الأوامر الأمر ولا بفعل النواهي، فمن فعل شيئًا مِن النواهي فإنه داخلٌ في قوله: أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، نعم.
(المتن)
قَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: إذَا عَصَيْت أَمْرِي فَأَنْتِ طَالِقٌ إذَا نَهَاهَا فَعَصَتْهُ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي أَمْرِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: قِيلَ: لَا يَدْخُلُ لِأَنَّ حَقِيقَةَ النَّهْيِ غَيْرُ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَقِيلَ: يَدْخُلُ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْهَمُ مِنْهُ فِي الْعُرْفِ مَعْصِيَةُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرَ فِي الْعُرْفِ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ فِيْ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ إذَا قِيلَ: أَطِعْ أَمْرَ فُلَانٍ أَوْ فُلَانٍ يُطِيعُ أَمْرَ فُلَانٍ أَوْ لَا يَعْصِي أَمْرَهُ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ النَّهْيُ؛ لِأَنَّ النَّاهِيَ آمِرٌ بِتَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
فَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42]، وَلَمْ يَقُلْ: ولَا تَكْتُمُوا الْحَقَّ فَلَمْ يَنْهَ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا لِتَلَازُمِهِمَا وَلَيْسَتْ هَذِهِ وَاوَ الْجَمْعِ الَّتِي يُسَمِّيهَا الْكُوفِيُّونَ وَاوَ الصَّرْفِ كَمَا قَدْ يَظُنُّهُ بَعْضُهُمْ فَإِنَّهُ كَانَ يَكُونُ الْمَعْنَى: لَا تَجْمَعُوا بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا وَحْدَهُ غَيْرَ مَنْهِيٍّ عَنْهُ.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله استطرد في هذا وذكر مسألة فقهية في: هل الأمر بالشيء نهيٌ عن ضده، والنهي عن الشيء أمرٌ بضده؟
يعني هل الأمر والنهي متلازمان؟ أو ليسا متلازمين؟ فالمسألة فيها خلاف بين أهل العلم وكذا، وهو قول الرجل لامرأته: (إذا عصيتِ أمري فأنتِ طالق)، يقول المؤلف رحمه الله: تنازع فيها الفقهاء على أمرين؛ تنازع في هذه المسألة، إذا قال الرجل لامرأته: إذا عصيتِ أمري فأنتِ طالق، ثم نهاها عن شيء فعصته، فهل تَطلُق أولا تَطلُق؟
على قولين: مِن العلماء مَن قال تَطلُق، مِن العلماء مَن قال: لا تَطلُق؛ لأن حقيقة النهي غير حقيقة الأمر، هذه وجهتهم، حقيقة النهي غير حقيقة الأمر.
وقال آخرون مِن أهل العلم، إنها تَطلُق؛ لأن عصيان النهي في العرف معصية للأمر، فيدخل في العرف أن معصية الأمر والنهي داخلٌ في قوله: (إذا عصيتِ أمري)، يقول: (إذا عصيتِ أمري) يدخل فيه معصية الأمر والنهي، يقول المؤلف: هذا هو أصح القولين، فأصح القولين في هذه المسألة أنها تَطلُق إذا قال لها: (إذا عصيتِ أمري فأنتِ طالِق) ثم نهاها عن شيءٍ فعصته فإنها تَطلُق؛ للتلازم بين الأمرين.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: إذَا عَصَيْت أَمْرِي فَأَنْتِ طَالِقٌ إذَا نَهَاهَا فَعَصَتْهُ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي أَمْرِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: قِيلَ: لَا يَدْخُلُ لِأَنَّ حَقِيقَةَ النَّهْيِ غَيْرُ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَقِيلَ: يَدْخُلُ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْهَمُ مِنْهُ فِي الْعُرْفِ مَعْصِيَةُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ".
يقول المؤلف: "لِأَنَّ مَا ذَكَرَ فِي الْعُرْفِ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ فَإِنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ فِيْ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ إذَا قِيلَ: أَطِعْ أَمْرَ فُلَانٍ أَوْ فُلَانٍ يُطِيعُ أَمْرَ فُلَانٍ أَوْ لَا يَعْصِي أَمْرَهُ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ النَّهْيُ" هذا تأييدٌ لما اختاره المؤلف مِن أن الصواب أنها تَطلُق، يبيِّن أن الأمر والنهي متلازمان.
يقول: "لِأَنَّ مَا ذَكَرَ فِي الْعُرْفِ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ فَإِنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ فِيْ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ إذَا قِيلَ: أَطِعْ أَمْرَ فُلَانٍ أَوْ فُلَانٍ يُطِيعُ أَمْرَ فُلَانٍ أَوْ لَا يَعْصِي أَمْرَهُ يَدْخُلُ فِيهِ النَّهْيُ" يعني يمتثل أمره ويجتنب نهيه؛ لأن الناهي آمرٌ بترك المنهي عنه، ولهذا قال : وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42]. "وَلَمْ يَقُلْ: ولَا تَكْتُمُوا الْحَقَّ فَلَمْ يَنْهَ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا لِتَلَازُمِهِمَا" كما سبق.
وبين المؤلف رحمه الله: أن لبس الحق بالباطل يلزم منه كتمان الحق، وكتمان الحق يلزم منه لبس الحق بالباطل، فهما متلازمان ولهذا لم يقل: (لا تلبسوا الحق بالباطل ولا تكتموا الحق)، بل عطف بالواو لتلازمهما.
يقول: "وَلَيْسَتْ هَذِهِ وَاوَ الْجَمْعِ الَّتِي يُسَمِّيهَا الْكُوفِيُّونَ وَاوَ الصَّرْفِ كَمَا قَدْ يَظُنُّهُ بَعْضُهُمْ فَإِنَّهُ كَانَ يَكُونُ الْمَعْنَى: لَا تَجْمَعُوا بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا وَحْدَهُ غَيْرَ مَنْهِيٍّ عَنْهُ" قصد المؤلف رحمه الله مما سبق: أن يرد على المرجئة الذين يقولون: إن مسمى الإيمان هو مجرد التصديق، فبين المؤلف رحمه الله أن الأمر المطلق عامٌّ، ومن ذلك لفظ الأمر، يتناول ترك النهي والنهي يتناول فعل الأمر، نعم.
(المتن)
وَأَيْضًا فَتِلْكَ إنَّمَا تَجِيءُ إذَا ظَهَرَ الْفَرْقُ كَقَوْلِهِ: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142]، وَقَوْلِهِ: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ [الشورى:34-35].
وَمِنْ عَطْفِ الْمَلْزُومِ قَوْله تَعَالَى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، فَإِنَّهُمْ إذَا أَطَاعُوا الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعُوا اللَّهَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، وَإِذَا أَطَاعَ اللَّهَ مَنْ بَلَغَتْهُ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُطِيعَ الرَّسُولَ فَإِنَّهُ لَا طَاعَةَ لِلَّهِ إلَّا بِطَاعَتِهِ.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله يبيِّن أن الواو في قوله: وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ [البقرة:42]، أن الواو ليست واو الجمع، التي يسميها الكوفيون واو الصرف، كما قد يظنه بعضهم ويغلط، لأنها لو كانت واو جمعٍ لصار المعنى: لا تجمعوا بين لبس الحق بالباطل وكتمان الحق، فيكون أحدهما منهيٌ عنه، فيكون أحدهما وحده غير منهيٍّ عنه، يكون النهي هنا عن أحد الأمرين.
لو كانت الواو واو الجمع، لكنها ليست واو الجمع؛ لأن الأمرين متلازمان، ويدل على، ويؤيد المؤلف رحمه الله يقول: فَتِلْكَ –يعني واو الصرف التي تفرق بين الأمرين- إنَّمَا تَجِيءُ إذَا ظَهَرَ الْفَرْقُ" أما إذا لم يظهر الفرق بين المعطوف والمعطوف عليه؛ فلا تجيء هذه الواو.
مثل قوله: وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ [البقرة:42] لا فرق، لم تُلحَق، يلزمه كتمان الحق، لبس الحق بالباطل يلزمه كتمان الحق، وكتمان الحق يلزمه لبس الحق بالباطل، فليس هناك فرق بين الأمرين والواو (واو الفرق) إنما تجيء إذا ظهر الفرق.
مثاله، مثَّل له المؤلف رحمه الله بقوله تعالى: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142]، قوله وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ هذه الواو واو العطف، الواو للعطف هنا؛ لأن الفرق بين المؤمن والمجاهد أن المؤمن قد يكون مجاهد ولا يكون صابر فالواو هنا فرق.
وقوله تعالى: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ [الشورى:34-35]، فهذه الواو ليست للجمع إنما هي واو الفرق بين أمرين.
ثم قال المؤلف رحمه الله: "وَمِنْ عَطْفِ الْمَلْزُومِ" يعني على اللازم قول الله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، فعطف طاعة الرسول على طاعة الله تعالى، فطاعة الرسول ملزومة لطاعة الله، وطاعة الله لازمة لطاعة الرسول.
ولهذا بين المؤلف رحمه الله التلازُم بينهما فقال: فَإِنَّهُمْ إذَا أَطَاعُوا الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعُوا اللَّهَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، وكذلك "إِذَا أَطَاعَ اللَّهَ مَنْ بَلَغَتْهُ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُطِيعَ الرَّسُولَ فَإِنَّهُ لَا طَاعَةَ لِلَّهِ إلَّا بِطَاعَة الرسول عليه الصلاة والسلام، فهما متلازمان، فمن أطاع الرسول فلابد أن يطيع الله، ومن أطاع الله فلا بد أن يطيع الرسول عليه الصلاة والسلام، نعم.
(المتن)
(الشرح)
نعم، بيَّن المؤلف رحمه الله النوع الثالث مِن أنواع العطف، سبق أن بيَّن أن عطف الشيء على الشي أنواع؛ منها أن يكونا متباينين، ومنها أن يكون لازمًا له، وهذا الثالث أن يكون بعضه، يعني يُعطَف بعض الشيء عليه، هذه أنواع العطف.
المعطوف على، عطف الشيء على الشيء إما أن يكون مباينًا له مثل ما سبق قول: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ [الزمر:5]، وإما أن يكون لازمًا له في قوله تعالى: وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42]، والثالث: عطف بعض الشيء عليه، ومثَّل له بقول الله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، فعطف الصلاة الوسطى وهي صلاة العصر على الصحيح على الصلوات.
والصلاة الوسطى مِن الصلوات الخمس، هي بعض الصلوات الخمس، ومثل قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب:7]، ويقول: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب:7] هؤلاء أولوا العزم الخمسة مِن النبيين، والنبيون يشمل أولوا العز وغيرهم، ومثل قوله تعالى: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [البقرة:98]، فعطف جبريل، وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ على الملائكة وهو مِن عطف الخاص على العام، وكقوله تعالى: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا [الأحزاب:27]، فقوله: وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ معطوف على أَرْضَهُمْ وهي داخلةٌ فيه، في أن الأرض مشتملة على الديار والأموال، نعم.
(المتن)
وَالرَّابِعُ عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ لِاخْتِلَافِ الصِّفَتَيْنِ كَقَوْلِهِ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [الأعلى:1-4]، وَقَوْلِهِ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:3-4].
وَقَدْ جَاءَ فِي الشِّعْرِ مَا ذُكِرَ أَنَّهُ عَطْفٌ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ فَقَطْ كَقَوْلِهِ: وَأَلْفَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنًا.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ مِثْلَ هَذَا جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ كَمَا يَذْكُرُونَهُ فِي قَوْلِهِ: شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَهَذَا غَلَطٌ مِثْلُ هَذَا لَا يَجِيءُ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي كَلَامٍ فَصِيحٍ وَغَايَةُ مَا يَذْكُرُ النَّاسُ اخْتِلَافَ مَعْنَى اللَّفْظِ كَمَا ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ مِنْ هَذَا قَوْلَهُ:
أَلَا حَبَّذَا هِنْدٌ وَأَرْضٌ بِهَا هِنْدُ | وَهِنْدٌ أَتَى مِنْ دُونِهَا النَّأْيُ وَالْبُعْدُ |
فَزَعَمُوا أَنَّهُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ.
وَاسْتَشْهَدُوا بِذَلِكَ عَلَى مَا ادَّعُوهُ مِنْ أَنَّ الشِّرْعَةَ هِيَ الْمِنْهَاجُ فَقَالَ الْمُخَالِفُونَ لَهُمْ: النَّأْيُ أَعَمُّ مِنْ الْبُعْدِ فَإِنَّ النَّأْيَ كُلَّمَا قَلَّ بُعْدُهُ أَوْ كَثُرَ؛ كَأَنَّهُ مِثْلُ الْمُفَارَقَةِ. وَالْبُعْدُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا كَثُرَتْ مَسَافَةُ مُفَارَقَتِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ، وَهُمْ مَذْمُومُونَ عَلَى مُجَانَبَتِهِ وَالتَّنَحِّي عَنْهُ سَوَاءٌ كَانُوا قَرِيبِينَ أَوْ بَعِيدِينَ، وَلَيْسَ كُلُّهُمْ كَانَ بَعِيدًا عَنْهُ لَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ قَالَ النَّابِغَةُ: وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ.
وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يُحْفَرُ حَوْلَ الْخَيْمَةِ لِيَنْزِلَ فِيهِ الْمَاءُ وَلَا يَدْخُلَ الْخَيْمَةَ أَيْ صَارَ كَالْحَوْضِ فَهُوَ مُجَانِبٌ لِلْخَيْمَةِ لَيْسَ بَعِيدًا مِنْهَا.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله: لا يزال يذكر أنواع عطف الشيء على الشيء، ليبين بهذا أن الألفاظ تختلف دلالتها بالإطلاق والتقييد، فاللفظ المطلق مثل الإيمان إذا أُطلِق يكون عامٌّ شامل؛ فيشمل قول اللسان وقول القلب وعمل القلب وعمل الجوارح، أما إذا قُيِّد وعُطف عليه شيءٌ آخر يختلف المعنى، ثم استفضى المؤلف رحمه الله وبين أنواع عطف الشيء عليه، ذكر ثلاثة فيما سبق.
قال: " وَ " الرَّابِعُ " عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ لِاخْتِلَافِ الصِّفَتَيْنِ" فسبق أن أنواع العطف الشيء على الشيء إما أن يكونا متباينين، وإما أن يكونا متلازمين، وإما أن يكون المعطوف عليه بعض المعطوف، وإما أن يكون هذا الرابع أن يكون "عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ لِاخْتِلَافِ الصِّفَتَيْنِ" يعني يختلف الصفة فقط.
ومثَّل له بقول الله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [الأعلى:1-4]، فقوله: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [الأعلى:2-4] كلها ألفاظ لله ، ولكن لما اختلفت الصفات عُطِف بعضها على بعض.
ومثله قول الله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:3-4]، فهذه كلها صفات للمؤمنين، وصفهم بأنهم مؤمنون بالغيب، وصفهم بأنهم يقيمون الصلاة، ووصفهم بأنهم منفقون مما رزقهم الله، ووصفهم بأنهم مؤمنون بما أُنزِل إلى النبي ﷺ وما أُنزِل مِن قبل.
ثم ذكر نوعًا خامسًا مختلفٌ فيه، قال: "وَقَدْ جَاءَ فِي الشِّعْرِ مَا ذُكِرَ أَنَّهُ عُطِفَ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ فَقَطْ" يقول جاء في الشعر العطف لاختلاف اللفظ فقط، ليس فيه اختلاف في المعنى، ولا اختلاف في الصفة ولا تلازُم، ولا تبايُن، وإنما الاختلاف في اللفظ فقط، يقول: هذا ذكره بعض الناس، وقال: إنه يأتي عطف الشيء على الشيء؛ لاختلاف اللفظ فقط، ومثَّلوا له بقول الشاعر:
وَأَلْفَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنًا، والبيت مِن بحر الكامل وصدر البيت قوله:
فَقَدَّدَتِ الأَدِيمَ لِرَاهِشَيْهِ | وَأَلْفَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنًا |
فعطف المين على الكذب، والكذب هو المين هو الكذب، لكن اللفظ اختلف، فلما اختلف اللفظ عطف أحدهما على الآخر، هذا يقول المؤلف: قاله بعض الناس، وادَّعَى بعض الناس أنه ورد مثل هذا في كتاب الله، ولكن يقول المؤلف: هذا ليس بصحيح.
ولهذا قال: "وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ مِثْلَ هَذَا جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ" يعني عطف الشيء على الشيء لاختلاف اللفظ فقط، ويمثلون له بقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48].
ويقول عطف المنهاج على الشرعة، والشرعة هي المنهاج، والمنهاج هي الشرعة، لكن المؤلف رحمه الله رد هذا القول، وقال: "هَذَا غَلَطٌ مِثْلُ هَذَا لَا يَجِيءُ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي كَلَامٍ فَصِيح" يعني هذا يقول: يأتي في كلامٍ ليس بفصيح ولا يأتي في كلام الله ولا في كلام رسوله التي هو الغاية في البلاغة والفصاحة.
يقول المؤلف رحمه الله: "فَصِيحٍ وَغَايَةُ مَا يَذْكُرُ النَّاسُ اخْتِلَافَ مَعْنَى اللَّفْظِ" ومثَّل له بمثال آخر ادَّعاه بعض الناس أنه مِن باب عطف الشيء لاختلاف اللفظ، يقول: كَمَا ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ مِنْ هَذَا قَوْلِ الشاعر:
أَلَا حَبَّذَا هِنْدٌ وَأَرْضٌ بِهَا هِنْدُ | وَهِنْدٌ أَتَى مِنْ دُونِهَا النَّأْيُ وَالْبُعْدُ |
فذكر المؤلف رحمه الله أن هذا مِن بحر الطويل وأنه مِن ديوان، وذكر أن هذا البيت للحُطيَئة، ذكر هذا في، ذكر صاحب الحاشية، وقال: إن هذا يعني هذا البيت يعني يقول المؤلف رحمه الله: "زَعَمُوا أَنَّهُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ" يعني النأي والبعد.
القارئ: للحطيئة ولا للنابغة يا شيخ؟
الشيخ: نعم؟
القارئ: للنابغة كما قال المؤلف عندنا؟
الشيخ: للنابغة، البيت الذي بعد هذا، يقول: ذكروا أنه للحطيئة، ذكر أنه للحطيئة وذكر الحاشية يقول: انظر لسان العرب وانظر ديوان الحطيئة، والشاهد مِن هذا البيت أنه عطف البعد على النأي، والنأي هو البعد والبعد هو النأي.
يقول المؤلف: "زَعَمُوا أَنَّهُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ وَاسْتَشْهَدُوا بِذَلِكَ عَلَى مَا ادَّعُوهُ مِنْ أَنَّ الشِّرْعَةَ
هِيَ الْمِنْهَاجُ" يعني في الآية الكريمة: شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48].
قول المؤلف: " فَقَالَ الْمُخَالِفُونَ لَهُمْ: النَّأْيُ أَعَمُّ مِنْ الْبُعْدِ" فليس النأي هو البعد؛ بل بينهما عموم وخصوص؛ فالنأي أعمُّ مِن البعد "فَإِنَّ النَّأْيَ كُلَّمَا قَلَّ بُعْدُهُ أَوْ كَثُرَ؛ كَأَنَّهُ مِثْلُ الْمُفَارَقَةِ. وَالْبُعْدُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا كَثُرَتْ مَسَافَةُ مُفَارَقَتِهِ"، فيكون البعد فيما كثُرَت مسافة مفارقته، والنأي يكون لما قلَّ أو كَثر، والبعد يكون لما كثُر، فبينهما عمومٌ وخصوص.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام:26]، فهم مذمومون على أمرين: على مجانبته، وعلى التَّنحِّي عنه، سواءٌ كانوا قريبين أو بعيدين، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام:26] ذمهم الله على النهي وعلى النأي، فهم على مجانبته هذا النهي، وعلى التنحي عنه وهو النأي، سواءٌ قريبين أو بعيدين، فدل على أن النأي والبعد بينهما عمومٌ وخصوص، وليس مِن عطف الشيء على نفسه لاختلاف اللفظ.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَلَيْسَ كُلُّهُمْ كَانَ بَعِيدًا عَنْهُ لَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ" يعني الآية: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام:26]، " وَقَدْ قَالَ النَّابِغَةُ: وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ" هذا كما قال صاحب الحاشية: ديوان للنابغة وأوله:
إِلًّا أُوَارِي لَأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا | وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَد |
والشاهد هنا قوله: وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَد، والمراد يقول المؤلف: "وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يُحْفَرُ حَوْلَ الْخَيْمَةِ لِيَنْزِلَ فِيهِ الْمَاءُ وَلَا يَدْخُلَ الْخَيْمَةَ أَيْ صَارَ كَالْحَوْضِ فَهُوَ مُجَانِبٌ لِلْخَيْمَةِ لَيْسَ بَعِيدًا مِنْهَا"، قوله: وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَد.
فالمؤلف رحمه الله بينَّ أن، شرَح هذا البيت وقال: أن المراد به "مَا يُحْفَرُ حَوْلَ الْخَيْمَةِ لِيَنْزِلَ فِيهِ الْمَاءُ وَلَا يَدْخُلَ الْخَيْمَةَ أَيْ صَارَ كَالْحَوْضِ فَهُوَ مُجَانِبٌ لِلْخَيْمَةِ لَيْسَ بَعِيدًا مِنْهَا" والنؤي كالحوض في كونه مجانبًا لها، وليس بعيدًا عنها.
والمقصود مِن هذا: أن المؤلف رحمه الله يبيِّن أن عطف الشيء على الشيء لاختلاف اللفظ، ادَّعاه بعض الناس ورده المؤلف وقال: إن هذا ليس بصحيح ولم يقع في القرآن.
وقصد المؤلف رحمه الله: أن يبيِّن أن دلالات الألفاظ تختلف بالإطلاق والتقييد، وأن التقييد إذا عطف الشيء على شيءٍ آخر فإنه يختلف المعنى أما إذا لم يُعطف ولم يُقيَّد الشيء وإنما أُطلق فإن دلالته تكون عامَة ومن ذلك دلالة الإيمان، فهي عامة تشمل قول اللسان وقول القلب وعمل القلب وعمل الجوارح، خلافًا للمرجئة الذين يقولون: إن مسمى الإيمان إنما هو مجرد تصديق القلب، نعم.
(المتن)
قال رحمه الله:
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَلَفْظُ الْإِيمَانِ إذَا أُطْلِقَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ يُرَادُ بِهِ مَا يُرَادُ بِلَفْظِ الْبِرِّ، وَبِلَفْظِ التَّقْوَى، وَبِلَفْظِ الدِّينِ كَمَا تَقَدَّمَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَيَّنَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَفْضَلُهَا قَوْلُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ»([1]) ، فَكَانَ كُلُّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ.
وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْبِرِّ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ ذَلِكَ إذَا أُطْلِقَ، وَكَذَلِكَ لَفْظُ التَّقْوَى، وَكَذَلِكَ الدِّينُ أَوْ دِينُ الْإِسْلَامِ.
وَكَذَلِكَ رُوِيَ: أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ الْإِيمَانِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ [البقرة:177] الْآيَةَ وَقَدْ فُسِّرَ الْبِرُّ بِالْإِيمَانِ وَفُسِّرَ بِالتَّقْوَى وَفُسِّرَ بِالْعَمَلِ الَّذِي يُقَرِّبُ إلَى اللَّهِ وَالْجَمِيعُ حَقٌّ.
وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّهُ فَسَّرَ الْبِرَّ بِالْإِيمَانِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: حَدَّثَنَا إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِي والملائي قَالَا: حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ الْقَاسِمِ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى أَبِي ذَرٍّ فَسَأَلَهُ عَنْ الْإِيمَانِ فَقَرَأَ: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ [البقرة:177]، إلَى آخِرِ الْآيَةِ؛ فَقَالَ الرَّجُلُ: لَيْسَ عَنْ الْبِرِّ سَأَلْتُك. فَقَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ ﷺ فَسَأَلَهُ عَنْ الَّذِي سَأَلْتنِي عَنْهُ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الَّذِي قَرَأْت عَلَيْك فَقَالَ لَهُ الَّذِي قُلْت لِي. فَلَمَّا أَبَى أَنْ يَرْضَى قَالَ لَهُ: إنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي إذَا عَمِلَ الْحَسَنَة سَرَّتْهُ وَرَجَا ثَوَابَهَا وَإِذَا عَمِلَ السَّيِّئَةَ سَاءَتْهُ وَخَافَ عِقَابَهَا ([2]).
(الشرح)
فالمؤلف رحمه الله يبيِّن في هذا الفصل دلالة لفظ الإيمان إذا أُطلق، وأنه عامٌّ يشمل قول القلب؛ وهو التصديق وقول اللسان؛ وهو النطق وعمل القلب؛ وهو النية والإخلاص والمحبة، وعمل الجوارح.
بعد أن ذكر في الفصل السابق دلالة الألفاظ إذا قُيدت وإذا عُطف بعضها على بعض، وذكر أنواع عطف الشيء على الشيء، وأنها أنواع كما تقدم، بين في هذا الفصل أن لفظ الإيمان لفظٌ مطلق، وهو يشمل أقوال، قول القلب وقول اللسان وعمل القلب وعمل الجوارح، خلافًا للمرجئة الذين يقولون: إن دلالة لفظ الإيمان إنه مجرد تصديق القلب.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَلَفْظُ " الْإِيمَانِ " إذَا أُطْلِقَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ يُرَادُ بِهِ مَا يُرَادُ بِلَفْظِ " الْبِرِّ " وَبِلَفْظِ " التَّقْوَى " وَبِلَفْظِ " الدِّينِ " كل هذه الألفاظ مُطلقة.
لفظ البر ولفظ التقوى ولفظ الدين ولفظ الإسلام ولفظ الهدى ولفظ العبادة، كلها عامة تشمل جميع ما أمر الله به وجميع ما نهى الله عنه، تُفعَل الأوامر وتُترَك النواهي.
يقول: "كَمَا تَقَدَّمَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَيَّنَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَفْضَلُهَا قَوْلُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ([3]) " سبق الحديث ورُويَ الحديث بلفظ: الْإِيمَانَ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَعْلَاهَا قَوْلُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَان[4]).
هذا الحديث يبيِّن فيه النبي ﷺ أن لفظ الإيمان ومُسمى الإيمان عامّ، يشمل أقوال اللسان وأقوال القلوب وأعمال الجوارح؛ ولهذا قال النبي ﷺ: الْإِيمَانَ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً والبضع مِن ثلاثة إلى تسعة، فهو بضعٌ وسبعون شعبة، وقد استقصاها البيهقي رحمه الله في مُؤَلَّفٍ سماه شُعب الإيمان وأوصلها إلى أعلى البضع، أوصلها إلى ست وسبعين شعبة، كلها داخلة في مسمى الإيمان، أين المرجئة مِن هذا؟
الذين يقولون: إنه خاصٌّ بالتصديق، ثم إن النبي ﷺ مثَّل لأقوال اللسان وأعمال القلوب وأعمال الجوارح فقال: أَعْلَاهَا قَوْلُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ هذه كلمة التوحيد، ولابد مِن النطق بها باللسان، وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وهي عمل مِن أعمال الجوارح، وبين الأعلى والأدنى شعب، منها ما يقرب مِن شعبة الشهادة ومنها ما يقرب مِن شعبة الإماطة.
فالصلاة شعبة، والزكاة شعبة، والصوم شعبة، والحج شعبة، والأمر بالمعروف شعبة، والنهي عن المنكر شعبة، والجهاد في سبيل الله شعبة وهكذا، والحياء شعبةٌ مِن الإيمان، هذه شعبة قلبية.
يقول المؤلف رحمه الله: "فَكَانَ كُلُّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ" يعني كل ما يحبه الله ويرضَ عنه مِن الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة داخلٌ في مسمى الإيمان.
يقول المؤلف رحمه الله: "الْإِيمَانِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْبِرِّ " يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ ذَلِكَ إذَا أُطْلِقَ" إذا أُطلِق لفظ البر يدخل فيه أعمال القلوب وأعمال الجوارح وأقوال القلوب، كما قال الله تعالى في آية البر: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة:177].
ثم بين خصال البر فقال: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177]، كل هذه الخصال دخلت في مسمى البر لأنه اسمٌ مُطلق.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَكَذَلِكَ لَفْظُ التَّقْوَى" لفظ التقوى إذا أُطلق يشمل فعل الأوامر وجميع النواهي، الأقوال والأعمال، وهي وصية الله للأوَّلين والآخِرين، قال الله تعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]، اتقوا الله بأي شيء؟ بفعل الأوامر واجتناب النواهي، بالتوحيد والإخلاص، وأداء الواجبات وترك المحرمات.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَكَذَلِكَ الدِّينُ أَوْ دِينُ الْإِسْلَامِ" إذا أُطلق يشمل فعل الأوامر وترك النواهي، يشمل أعمال القلوب وأعمال الجوارح، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران:19]، هذا عامّ، يشمل كل ما أمر الله به ورسوله، وكل ما نهى الله عنه ورسوله، فالأوامر تُفعل والنواهي تُترك.
"وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ الْإِيمَانِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ [البقرة:177] إلى آخر الآية، الآية، فبين الله فيها خطاب الإيمان، يقول المؤلف: " وَقَدْ فُسِّرَ الْبِرُّ بِالْإِيمَانِ وَفُسِّرَ بِالتَّقْوَى وَفُسِّرَ بِالْعَمَلِ الَّذِي يُقَرِّبُ إلَى اللَّهِ وَالْجَمِيعُ حَقٌّ"؛ لأن هذه التفسيرات كلها صحيحة.
فُسِّر البر بالإيمان، وهذا صحيح؛ فالبر هو الإيمان، وفُسِّر بالتقوى، فالإيمان فيه تقوى الله عزو وجل، وفُسِّر بالعمل الذي يقرب إلى الله، والعمل الذي يُقرب إلى الله هو فعل الأوامر وترك النواهي، الذي أخلص فيه العبد لله.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَالْجَمِيعُ حَقٌّ وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ فَسَّرَ الْبِرَّ بِالْإِيمَانِ" ثم ذكر سند محمد بن نصر، عن القاسم قال: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى أَبِي ذَرٍّ فَسَأَلَهُ عَنْ الْإِيمَانِ فَقَرَأَ: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ [البقرة:177]، إلَى آخِرِ الْآيَةِ. فَقَالَ الرَّجُلُ: لَيْسَ عَنْ الْبِرِّ سَأَلْتُك. فَقَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ ﷺ فَسَأَلَهُ عَنْ الَّذِي سَأَلْتنِي عَنْهُ فَقَرَأَ عَلَيْهِ الَّذِي قَرَأْت عَلَيْك فَقَالَ لَهُ الَّذِي قُلْت لِي. فَلَمَّا أَبَى أَنْ يَرْضَى قَالَ لَهُ: إنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي إذَا عَمِلَ الْحَسَنَة سَرَّتْهُ وَرَجَا ثَوَابَهَا وَإِذَا عَمِلَ السَّيِّئَةَ سَاءَتْهُ وَخَافَ عِقَابَهَا [5]).
هذا الحديث فيه كلامٌ لأهل العلم ذكر الحاشية أنه رواه ابن مردويه بسندٍ منقطع وعزاه في الدر المنثور لإسحاق بن راهويه في مسنده وعبد بن حميد وابن مردويه عن القاسم بن عبد الرحمن، على كلِّ حال، المعنى معروف، وأن الأدلة التي تدل على أن مُسمى الإيمان عامٌّ يشمل الأوامر والنواهي أدلته كثيرة، نعم. وقوله في هذا الأثر إنَّ الْمُؤْمِنَ الذي إذَا عَمِلَ الْحَسَنَة سَرَّتْهُ وَرَجَا ثَوَابَهَا وَإِذَا عَمِلَ السَّيِّئَةَ سَاءَتْهُ وَخَافَ عِقَابَهَا هذا عام، يشمل جميع الحسنات وجميع السيئات، فهذا يُفيد العموم، نعم.
(المتن)
وَقَالَ: حَدَّثَنَا إسْحَاقُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الجزري عَنْ مُجَاهِدٍ «أَنَّ أَبَا ذَرٍّ سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ الْإِيمَانِ فَقَرَأَ عَلَيْهِ: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ [البقرة:177]، إلَى آخِرِ الْآيَةِ»[6]).
وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: سُئِلَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مقبله مِنْ الشَّامِ عَنْ الْإِيمَانِ فَقَرَأَ: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة:177].
وَرَوَى ابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُبَارَكِ بْنِ حَسَّانَ قَالَ: قُلْت لِسَالِمِ الْأَفْطَسِ: رَجُلٌ أَطَاعَ اللَّهَ فَلَمْ يَعْصِهِ وَرَجُلٌ عَصَى اللَّهَ فَلَمْ يُطِعْهُ فَصَارَ الْمُطِيعُ إلَى اللَّهِ فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ وَصَارَ الْعَاصِي إلَى اللَّهِ فَأَدْخَلَهُ النَّارَ هَلْ يَتَفَاضَلَانِ فِي الْإِيمَانِ؟ قَالَ: لَا.
قَالَ: فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعَطَاءِ فَقَالَ: سَلْهُمْ الْإِيمَانُ طَيِّبٌ أَوْ خَبِيثٌ؟ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [الأنفال:37]، فَسَأَلْتهمْ فَلَمْ يُجِيبُونِي، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْإِيمَانَ يُبْطَنُ لَيْسَ مَعَهُ عَمَلٌ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعَطَاءِ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَمَا يَقْرَءُونَ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177]؟
قَالَ: ثُمَّ وَصَفَ اللَّهُ عَلَى هَذَا الِاسْمِ مَا لَزِمَهُ مِنْ الْعَمَلِ فَقَالَ: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [البقرة:177] - إلَى قَوْلِهِ - وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177] فَقَالَ: سَلْهُمْ هَلْ دَخَلَ هَذَا الْعَمَلُ فِي هَذَا الِاسْمِ.
(الشرح)
نعم، وهذا الأثر مثل الأثر السابق، الأثر الأول عن القاسم والأثر الثاني عن مجاهد ليسا مرفوعين إلى النبي ﷺ ، لكن المؤلف رحمه الله يبيِّن أقوال السلف في معنى الآية؛ وإن لم يكن مرفوعًا إلى النبي ﷺ، فالأثر الأول عن القاسم، والأثر الثاني عن مجاهد: «أَنَّ أَبَا ذَرٍّ سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ الْإِيمَانِ»[7]) فبهذا سيكون منقطع؛ لأن مجاهد تابعي فَقَرَأَ عَلَيْهِ: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ [البقرة:177] وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: سُئِلَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مقبله مِنْ الشَّامِ عَنْ الْإِيمَانِ فَقَرَأَ: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة:177].
ثم ذكر أيضًا رواية ابن بطة عن مبارك بن حسان قَالَ: قُلْت لِسَالِمِ الْأَفْطَسِ: رَجُلٌ أَطَاعَ اللَّهَ فَلَمْ يَعْصِهِ وَرَجُلٌ عَصَى اللَّهَ فَلَمْ يُطِعْهُ فَصَارَ الْمُطِيعُ إلَى اللَّهِ فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ وَصَارَ الْعَاصِي إلَى اللَّهِ فَأَدْخَلَهُ النَّارَ هَلْ يَتَفَاضَلَانِ فِي الْإِيمَانِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعَطَاءِ فَقَالَ: سَلْهُمْ الْإِيمَانُ طَيِّبٌ أَوْ خَبِيثٌ؟
فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ [الأنفال:37]، فَسَأَلْتهمْ فَلَمْ يُجِيبُونِي فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْإِيمَانَ يُبْطَنُ لَيْسَ مَعَهُ عَمَلٌ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعَطَاءِ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ" يعني كيف يقولون: إن الإيمان يبطن والله بيَّن خصال الإيمان في قوله: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ [البقرة:177]، إلَى آخِرِ الْآيَةِ كما سبق.
قال: ثُمَّ وَصَفَ اللَّهُ عَلَى هَذَا الِاسْمِ مَا لَزِمَهُ مِنْ الْعَمَلِ فَقَالَ: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى، لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ، وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ ذكر أصول الإيمان الخمسة؛ الإيمان بالله وملائكته والكتاب والنبيين ثم ذكر العمل وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ إلى أن قال: " إلَى قَوْلِهِ - وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177] فَقَالَ: سَلْهُمْ هَلْ دَخَلَ هَذَا الْعَمَلُ فِي هَذَا الِاسْمِ".
وقال: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ [الإسراء:19] الشاهد أنه قال: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ جمع بين الأمرين، يعني يريد الآخرة ويسعى لها سعيها (العمل)، وهو مؤمن، لابد مِن هذه الأمور: أن يريد الآخرة، وأن يسعى لها سعيها، يعني يعمل للآخرة عملها ويكون مؤمن؛ أما لو عمل للآخرة عملها وليس بمؤمن ما يفيده، لابد مِن الإيمان، ولهذا قال: "فَأَلْزَمَ الِاسْمَ الْعَمَلَ وَالْعَمَلَ الِاسْمَ" يعني هذه الآثار تبين أن السلف رحمهم الله بينوا لِمَن عارضهم، النصوص مِن كتاب الله التي تدل على دخول الأعمال في مُسمى الإيمان، نعم.
(المتن)
وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ الْمَدْحُ إلَّا عَلَى إيمَانٍ مَعَهُ الْعَمَلُ لَا عَلَى إيمَانٍ خَالٍ عَنْ عَمَلٍ فَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ وَاقِعٌ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ نِزَاعُهُمْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ بَلْ يَكُونُ نِزَاعًا لَفْظِيًّا مَعَ أَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ فِي اللَّفْظِ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَإِنْ قَالُوا: إنَّهُ لَا يَضُرُّهُ تَرْكُ الْعَمَلِ فَهَذَا كُفْرٌ صَرِيحٌ؛ وَبَعْضُ النَّاسِ يُحْكَى هَذَا عَنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَى الْعِبَادِ فَرَائِضَ وَلَمْ يُرِدْ مِنْهُمْ أَنْ يَعْمَلُوهَا وَلَا يَضُرُّهُمْ تَرْكُهَا، وَهَذَا قَدْ يَكُونُ قَوْلَ الْغَالِيَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا يَدْخُلُ النَّارَ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ أَحَدٌ، لَكِنْ مَا عَلِمْت مُعَيَّنًا أَحْكِي عَنْهُ هَذَا الْقَوْلَ، وَإِنَّمَا النَّاسُ يَحْكُونَهُ فِي الْكُتُبِ وَلَا يُعَيِّنُونَ قَائِلَهُ، وَقَدْ يَكُونُ قَوْلُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْفُسَّاقِ وَالْمُنَافِقِينَ يَقُولُونَ: لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ أَوْ مَعَ التَّوْحِيدِ وَبَعْضُ كَلَامِ الرَّادِّينَ عَلَى الْمُرْجِئَةِ وَصَفَهُمْ بِهَذَا.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177].
فَقَوْلُهُ صَدَقُوا أَيْ فِي قَوْلِهِمْ: آمَنَّا؛ كَقَوْلِهِ: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14]، إلَى قَوْلِهِ: إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15]، أَيْ هُمْ الصَّادِقُونَ فِي قَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِاَللَّهِ بِخِلَافِ الْكَاذِبِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافون:1].
(الشرح)
نعم المؤلف رحمه الله يبيِّن الخلاصة فيما سبق: أن الله تعالى إنما مدح على الإيمان الذي معه عمل، الله تعالى أثنى على المؤمنين ومدحهم بالعمل؛ الذي هو مُسمى الإيمان، ولم يمدحهم على إيمانٍ مجرد وهو تصديقٌ بالقلب بدون عمل؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ لَمْ يُثْبِتْ" يعني الله تعالى في كتابه ورسوله ﷺ "لَمْ يُثْبِتْ الْمَدْحُ إلَّا عَلَى إيمَانٍ مَعَهُ الْعَمَلُ".
كما في آية البر لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177]، وكما في آية الأنفال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:2-4] وكما في آية الحجرات: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15]، وكما في قوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ [النور:62]، هذه الآيات فيها أن الله تعالى مدح المؤمنين بالعمل؛ وليس على مجرد التصديق فقط، فالإيمان الذي معه التصديق، يعني تصديقٌ وعمل.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ لَمْ يُثْبِتْ الْمَدْحُ إلَّا عَلَى إيمَانٍ مَعَهُ الْعَمَلُ لَا عَلَى إيمَانٍ خَالٍ عَنْ عَمَلٍ فَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ وَاقِعٌ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ نِزَاعُهُمْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ" يعني نقول لهم الآن: المرجئة، حتى مرجئة الفقهاء الذين يقولون: الأعمال مطلوبة ولكنها ليست داخلة في مسمى الإيمان نقول: إذا عُرِف أن الذم والعقاب واقعٌ في ترك العمل، كان بعد ذلك النزاع لا فائدة فيه.
إذا يعني إذا أقررتم واعترفتم بأن الذم والعقاب في الكتاب والسنة واقعٌ على ترك العمل؛ فالذي لا يعمل يُذم ويُعاقب، فالنزاع بعد ذلك هل العمل داخل في مسمى الإيمان أو ليس داخل؟ لا فائدة فيه، المهم العقوبة والذم تكون على ترك العمل، فكونه بعد ذلك العمل داخل أو غير داخل هذا نزاعٌ لفظي، هذا الكلام إنما يكون مع المرجئة، مرجئة الفقهاء الذين يقولون إن الأعمال مطلوبةٌ بخلاف المرجئة المحضة.
ويقول المؤلف رحمه الله: النزاع يكون لفظيًّا بيننا وبينكم لأننا نقول: العمل لابد منه ومن ترك العمل يُذم ويُعاقب، ويبقى أنكم أخطأتم في مخالفة الكتاب والسنة، وأهل السنة والجماعة وافقوا النصوص، نصوص الكتاب والسنة لفظًا ومعنًى، ومرجئة الفقهاء وافقوا نصوص الكتاب والسنة معنًى وخالفوهما لفظًا.
ولا يجوز للإنسان أن يخالف النصوص لا لفظًا ولا معنًى؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "بَلْ يَكُونُ نِزَاعًا لَفْظِيًّا مَعَ أَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ فِي اللَّفْظِ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِنْ قَالُوا: إنَّهُ لَا يَضُرُّهُ تَرْكُ الْعَمَلِ فَهَذَا كُفْرٌ صَرِيحٌ" يعني هذا يعني هذا الكلام مِن المؤلف رحمه الله يبيِّن أنهم على حالين:
الحالة الأولى: إما أن يقولوا إن العمل مطلوب، وإن الذم والعقاب على ترك العمل، فيكون نزاع لفظي ويبقى أنهم أخطأوا في مخالفة نصوص الكتاب والسنة في اللفظ، وإما أن يقولوا إن العمل لا يضر وهذا كفرٌ صريح؛ لأن معنى ذلك: أنه يكون إبليس مؤمن، ويكون فرعون مؤمن؛ لأنهم مصدقون ولم يعملوا، ولم ينقادوا لشرع الله ودينه.
يعني إبليس، قال الله عن إبليس: رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [ص:79]، وقال الله تعالى عن فرعون: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14]، وكونهم مستيقنين، وكونهم مصدقين ولم يعموا ولم ينقادوا، لا ينفعهم ذلك.
فالمؤلف رحمه الله يقول: إن أقروا أَنَّ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ وَاقِعٌ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ فيكون النزاع لفظيًا وقد أخطأوا في مخالفة النصوص، وإن قالوا إنه لا يضر ترك العمل فهذا كفرٌ صريح.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَبَعْضُ النَّاسِ يُحْكَى هَذَا عَنْهُمْ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَى الْعِبَادِ فَرَائِضَ وَلَمْ يُرِدْ مِنْهُمْ أَنْ يَعْمَلُوهَا وَلَا يَضُرُّهُمْ تَرْكُهَا" يقول المؤلف: "وَهَذَا قَدْ يَكُونُ قَوْلَ الْغَالِيَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا يَدْخُلُ النَّارَ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ أَحَدٌ" يعني هذا لا شك أن هذا قول الغلاة.
يعني غلاة المرجئة، غلاة المرجئة كالجهمية وأشباههم يقولون: لا يدخل النار مِن أهل التوحيد أحد، ويقصدون بأهل التوحيد: مَن أقر بلسانه، مَن صدق بقلبه وإن لم يعمل، هذا القول لاشك أنه قول الغالية، ويقولون: إن الله "فَرَضَ عَلَى الْعِبَادِ فَرَائِضَ وَلَمْ يُرِدْ مِنْهُمْ أَنْ يَعْمَلُوهَا وَلَا يَضُرُّهُمْ تَرْكُهَا".
هذا قول الغلاة والعياذ بالله مِن الجهمية وأشباههم، يقول المؤلف رحمه الله: "لَكِنْ مَا عَلِمْت مُعَيَّنًا أَحْكِي عَنْهُ هَذَا الْقَوْلَ وَإِنَّمَا النَّاسُ يَحْكُونَهُ فِي الْكُتُبِ وَلَا يُعَيِّنُونَ قَائِلَهُ وَقَدْ يَكُونُ" يعني هذا القول: " قَوْلُ مَنْ لَا خلاف لَهُ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْفُسَّاقِ وَالْمُنَافِقِينَ يَقُولُونَ: لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ أَوْ مَعَ التَّوْحِيدِ".
القارئ: لا خلاق له.
الشيخ: نعم؟
القارئ: قوله: "لا خلاق له"؟
الشيخ: إيه يعني لا دين له.
"قَوْلُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْفُسَّاقِ وَالْمُنَافِقِينَ".
لاشك أن هذا يقول: قول مَن لا دين له، "يَقُولُونَ: لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ أَوْ مَعَ التَّوْحِيدِ".
يقول المؤلف: "وَبَعْضُ كَلَامِ الرَّادِّينَ عَلَى الْمُرْجِئَةِ وَصَفَهُمْ بِهَذَا" يعني الذين يردون على المرجئة وصفوهم بأنهم يقولون هذا القول، وأنه لا يضر مع، يعني مع التصديق شيءٌ، ذم.
يقول المؤلف: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177] في آية البر لما ذكر خصال البر وعدَّدها قال: أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا [البقرة:177] يعني صدقوا في إيمانهم حيث أن الأعمال صدَّقت الأقوال، وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177] الذين اتقوا الله ففعلوا الأوامر واجتنبوا النواهي.
يقول المؤلف: "فَقَوْلُهُ صَدَقُوا أَيْ فِي قَوْلِهِمْ: آمَنَّا؛ كَقَوْلِهِ: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا [الحجرات:14] يعني قوله في الآية الأخرى وهي آية الحجرات: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14] يعني لابد مِن الإيمان الذي يدخل في القلوب ويستلزم الأعمال، "إلَى قَوْلِهِ: إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15]".
قال: هُمْ الصَّادِقُونَ فِي قَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِاَللَّهِ بِخِلَافِ الْكَاذِبِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافون:1] ففرَّق بين الصادقين وبين الكاذبين، فالصادق هو الذي تصدق أعماله أقواله، والكاذب هو الذي يُقر بلسانه وأعماله تتخلف، نعم.
(المتن)
وَقَالَ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:8-10].
وَفِي يَكْذِبُونَ قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ فَإِنَّهُمْ كَذَبُوا فِي قَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَكَذَّبُوا الرَّسُولَ فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ صَدَّقُوهُ فِي الظَّاهِرِ، وَقَالَ تَعَالَى: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-3].
فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَفْتِنَ النَّاسَ أَيْ يَمْتَحِنَهُمْ وَيَبْتَلِيَهُمْ وَيَخْتَبِرَهُمْ. يُقَالُ: فَتَنْت الذَّهَبَ إذَا أَدْخَلْته النَّارَ لِتُمَيِّزَهُ مِمَّا اخْتَلَطَ بِهِ وَمِنْهُ قَوْلُ مُوسَى: إنْ هِيَ إلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ [الأعراف:155]، أَيْ مِحْنَتُك وَابْتِلَاؤُك كَمَا ابْتَلَيْت عِبَادَك بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ؛ لِيَتَبَيَّنَ الصَّبَّارُ الشَّكُورُ مِنْ غَيْرِهِ وَابْتَلَيْتهمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ؛ لِيَتَبَيَّنَ الْمُؤْمِنُ مِنْ الْكَافِرِ وَالصَّادِقُ مِنْ الْكَاذِبِ وَالْمُنَافِقُ مِنْ الْمُخْلِصِ فَيجْعَلَ ذَلِكَ سَبَبًا لِضَلَالَةِ قَوْمٍ وَهَدَاية آخَرِينَ.
(الشرح)
نعم، المؤلف رحمه الله يبيِّن أيضًا، يسرد مِن الآيات، يبيِّن أن العمل لابد منه في صحة الإيمان، وأن الأعمال تُصدِّق الأقوال، فالأقوال إنما تصدقها الأعمال، وأن مَن ادَّعى أنه مصدق ولم يعمل فهذا، فأعماله تكذِّب، تكذِّب دعواه، فلابد مِن أمرين: تصديقٌ في القلب، وأعمالٌ بالجوارح، وأعمال القلوب تصدِّق هذا الإيمان الذي في القلب.
ولهذا ذكر المؤلف رحمه الله أوصاف المنافقين، فقال مثل آية: إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافون:1]، فهم ادَّعوا الإيمان في ألسنتهم وشهدوا للنبي ﷺ بألسنتهم أنه رسول الله ولكن قلوبهم مكذبه.
ولهذا قال الله: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ومثله قول الله تعالى في أول سورة البقرة: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:8-10].
فبيَّن الله في أوصاف المنافقين: أن أقوال اللسان تخالف أعمال القلوب، تخالف القلوب، فالألسنة مصدِّقة والقلوب مكذِّبة؛ ولهذا قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ: هذا بألسنتهم وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ: يعني بقلوبهم.
ولا يقول قائل: إن الله تعالى أثبت عنهم الإيمان ونفى عنهم الإيمان وهذا تناقض، معاذ الله؛ لأن أشرُّ التناقض كما هو معلوم اتحاد الجهة، والجهة هنا مُنفكَّة، فجهة الإيمان هو اللسان، وجهة التكذيب هو القلب، فالجهة منفكة، فالله تعالى أثبت لهم الإيمان بألسنتهم ونفى عنهم الإيمان بقلوبهم.
ولهذا قال: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا: في إظهارهم الإيمان بألسنتهم مع أن قلوبهم مكذبة، يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:8-10]، صرَّح الله بأنهم يكذبون يعني بقلوبهم.
يقول: "وَفِي يَكْذِبُونَ قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ" يعني قُرئ: يَكْذِبُونَ وقُرئ: يُكَذِّبُونَ بالتخفيف وبالتشديد: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا ُيُكَذِّبُونَ.
يقول المؤلف رحمه الله: " فَإِنَّهُمْ كَذَبُوا فِي قَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَكَذَّبُوا الرَّسُولَ فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ صَدَّقُوهُ فِي الظَّاهِرِ" يعني هم كذَبوا الله فإنهم كذَبوا في قولهم: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ "وَكَذَّبُوا الرَّسُولَ فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ صَدَّقُوهُ فِي الظَّاهِرِ" فهذا كذب؛ لأن الظاهر يُخالف الباطن، فالظاهر شيء والباطن شيءٌ آخر، فأحدهما يُكَذِّب الآخر، وقال الله تعالى: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-3].
يقول المؤلف رحمه الله: "فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَفْتِنَ النَّاسَ أَيْ يَمْتَحِنَهُمْ وَيَبْتَلِيَهُمْ وَيَخْتَبِرَهُمْ"؛ لأن الفتنة معناها الاختبار والامتحان، في اللغة وفي الشرع.
ولهذا ذكر المؤلف رحمه الله معناها في اللغة فقال: "يُقَالُ: فَتَنْت الذَّهَبَ إذَا أَدْخَلْته النَّارَ لِتُمَيِّزَهُ مِمَّا اخْتَلَطَ بِهِ" يعني الذهب يأتي الصائغ ويُدخله النار؛ حتى يتميز الذهب الصافي مِن غيره، فإذا فتنته على النار وأحميته على النار سطع الذهب، وذهب الزغل والزيف مما علق به مِن الحديد أو مِن النيكل أو مِن الأشياء الأخرى، ويبقى الذهب خالص بسبب فتنته على النار، "فَتَنْت الذَّهَبَ إذَا أَدْخَلْته النَّارَ لِتُمَيِّزَهُ مِمَّا اخْتَلَطَ بِهِ".
ومنه قول الله تعالى عن موسى يخاطِب ربه : إنْ هِيَ إلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ [الأعراف:155]، أَيْ مِحْنَتُك وَابْتِلَاؤُك يعني كَمَا ابْتَلَيْت يا الله عِبَادَك بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لِيَتَبَيَّنَ الصَّبَّارُ الشَّكُورُ مِنْ غَيْرِهِ وَابْتَلَيْتهمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ لِيَتَبَيَّنَ الْمُؤْمِنُ مِنْ الْكَافِرِ وَالصَّادِقُ مِنْ الْكَاذِبِ وَالْمُنَافِقُ مِنْ الْمُخْلِصِ فَيجْعَلَ ذَلِكَ سَبيلًا لِضَلَالَةِ قَوْمٍ وَهَدَاية آخَرِينَ.
والله تعالى له الحكمة البالغة يبتلي عباده ليتبين الصادق مِن الكاذب، ولِيظهر ذلك، وإلا فالله تعالى عالِمٌ بما في قلوبهم ونيَّاتهم، ولكنه إنما يُجازِي على ما ظهَر، ليتبين وليظهر يعني ليعلم الله تعالى ذلك علم ظهور، نعم.
(المتن)
توقفنا عند قول المؤلف رحمه الله:
وَالْقُرْآنُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ هَذَا يَصِفُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصِّدْقِ وَالْمُنَافِقِينَ بِالْكَذِبِ لِأَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ قَالَتَا بِأَلْسِنَتِهِمَا: آمَنَّا فَمَنْ حَقَّقَ قَوْلَهُ بِعَمَلِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ صَادِقٌ وَمَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ مُنَافِقٌ قَالَ تَعَالَى: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [آل عمران:166-167].
فَلَمَّا قَالَ فِي آيَةِ الْبِرِّ: أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177]، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ صَدَقُوا فِي قَوْلِهِمْ: آمَنَّا فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ وَكَانُوا يَقُولُونَهُ، وَلَمْ يُؤْمَرُوا أَنْ يَلْفِظُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَيَقُولُوا: نَحْنُ أَبْرَارٌ أَوْ بَرَرَةٌ؛ بَلْ إذَا قَالَ الرَّجُلُ: أَنَا بَرٌّ فَهَذَا مُزَكٍّ لِنَفْسِهِ.
وَلِهَذَا كَانَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ اسْمَهَا بَرَّةَ فَقِيلَ: تُزَكِّي نَفْسَهَا فَسَمَّاهَا النَّبِيُّ ﷺ زَيْنَبَ؛ بِخِلَافِ إنْشَاءِ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِمْ: آمَنَّا فَإِنَّ هَذَا قَدْ فُرِضَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوهُ قَالَ تَعَالَى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:136].
وَكَذَلِكَ فِي أَوَّلِ آلِ عِمْرَانَ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ [آل عمرا:84]. وَقَالَ تَعَالَى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة:275]، فَقَوْلُهُ: لَا نُفَرِّقُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ قَالُوا: آمَنَّا وَلَا نُفَرِّقُ.
وَلِهَذَا قَالَ: وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا فَجَمَعُوا بَيْنَ قَوْلِهِمْ: آمَنَّا وَبَيْنَ قَوْلِهِمْ: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَقَدْ قَالَ فِي آيَةِ الْبِرِّ: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ فَجَعَلَ الْأَبْرَارَ هُمْ الْمُتَّقِينَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّجْرِيدِ وَقَدْ مَيَّزَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الِاقْتِرَانِ وَالتَّقْيِيدِ فِي قَوْلِهِ: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2]، وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَمُسَمَّى الْبِرِّ وَمُسَمَّى التَّقْوَى عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَاحِدٌ فَالْمُؤْمِنُونَ هُمْ الْمُتَّقُونَ وَهُمْ الْأَبْرَارُ.
(الشرح)
فإن المؤلف رحمه الله يبيِّن في هذا المقطع الذي قُرِئ: أن مُسمى الإيمان عند الإطلاق يشمل أقوال اللسان وأعمال القلوب وأعمال الجوارح، وأن لفظ الإيمان إذا أُطلِق في القرآن والسنة يُراد به ما يُراد بلفظ البر، وبلفظ التقوى، وبلفظ الدين، فكلها تشمل الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، ولا يَثبت المدح على الإيمان إلا إذا كان معه العمل، لا على الإيمان الخالي عن العمل.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَالْقُرْآنُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ هَذَا يَصِفُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصِّدْقِ وَالْمُنَافِقِينَ بِالْكَذِبِ" يعني القرآن فيه كثير مِن هذا الذي فيه بيان أن الإيمان لابد فيه مِن العمل، وأن الذي يعمل قد صدَّق إيمانه بالعمل وأن الذي لا يعمل وادّعى الإيمان فهو كاذبٌ في دعواه.
"ولهذا قال المؤلف رحمه الله: وَالْقُرْآنُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ هَذَا يَصِفُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصِّدْقِ وَالْمُنَافِقِينَ بِالْكَذِبِ لِأَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ قَالَتَا بِأَلْسِنَتِهِمَا: آمَنَّا الطائفتين: أي أن الذين صدَقوا والذين كذَبوا، الذين قالوا: آمنا عن صدق، والذين قالوا: آمنا عن كذب، فالمؤمنون قالوا: آمنا عن صدق، حيث أن أعمالهم صدقت أقوالهم، والمنافقون قالوا: آمنا بألسنتهم وقلوبهم مكذبة وأعمالهم تكذب أقوالهم.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَمَنْ حَقَّقَ قَوْلَهُ بِعَمَلِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ صَادِقٌ وَمَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ مُنَافِقٌ" وهذا واضحٌ مِن الآيات يعني كما في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:8-9]. فهم قالوا: آمنا بألسنتهم وما هم بمؤمنين بقلوبهم، وكما قال سبحانه: إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافون:1].
ومن ذلك، مِن الأدلة التي تدل على أن العمل يُصدِّق القول، قول الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [آل عمران:166-167].
قد بيَّن الله في هذه الآية أن الله ، ابتلى المؤمنين يوم أُحُد، وما حصل مِن الابتلاء والامتحان في قتل سبعين مِن المؤمنين وجرح سبعين، بيَّن أن مِن الحكمة أن يتميز المؤمن الصادق مِن المنافق الكاذب؛ ولهذا قال سبحانه: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ يعني جمع المؤمنين والكفار في غزوة أحد.
فَبِإِذْنِ اللَّهِ يعني فبإذن الله الكوني القدري؛ لأن إذن الله كما سبق نوعان؛ كونيٌّ قدريّ، ودينيٌّ شرعيّ، فبإذن الله الكونيّ، وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ يعني قدَّر ومن الحكم أن يتميز المؤمن مِن المنافق وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا يعني لِيعلَمَهُم عِلم ظهور؛ يظهر للناس، وإلا فهو يعلم، هو عالِم بما في قلوبهم قبل أن يُوجَد، ولكن المراد بالعلم هنا علِم ظهور، يظهر للعيان، وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا فامتنعوا؛ لما في قلوبهم مِن النفاق، بخلاف المؤمنين فإنهم قاتلوا وجاهَدوا في سبيل الله فصدقوا إيمانهم بالعمل، وأما المنافقون فامتنعوا مِن العمل فدل على أنهم كاذِبون في إيمانهم.
ولهذا قال سبحانه: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [آل عمران:166-167] هم يكتمون في قلوبهم النفاق والكفر والعياذ بالله.
ثم قال المؤلف رحمه الله: " فَلَمَّا قَالَ فِي آيَةِ الْبِرِّ: أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177]، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ صَدَقُوا فِي قَوْلِهِمْ: آمَنَّا آية البر كما هو معلوم هي قول الله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة:177]، ذكر الله فيها خصال البر المتعددة؛ مِن أقوال اللسان وأعمال القلوب وأعمال الجوارح.
ثم وصفهم الله تعالى بالصدق، حيث عملوا هذه الأعمال وهم صدَّقوا بهذا الأعمال؛ ولهذا قال سبحانه: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ هذه هي خصال البر، فمن فعل هذه الصفات فهو صادق، فهو صادقٌ في إيمانه، وهو مِن المتقين.
ولهذا قال سبحانه: أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ حيث أنهم صدَّقوا إيمانهم بهذه الأعمال التي هي خصال البر، وحيث أنهم أتوا بهذه الخصال التي هي خصال التقوى، فصدَق عليهم أنهم مؤمنون صادقون، وصدَق عليهم أنهم متقون، فهم متقون وهم صادقون وهم مؤمنون وهم أبرار.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ صَدَقُوا فِي قَوْلِهِمْ: آمَنَّا فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ وَكَانُوا يَقُولُونَهُ. وَلَمْ يُؤْمَرُوا أَنْ يَلْفِظُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَيَقُولُوا: نَحْنُ أَبْرَارٌ أَوْ بَرَرَةٌ"؛ ولهذا كانت زينب بنت جحشٍ لما كان اسمها برَّة، فقيل تُزكِّي نفسها فسماها النبي ﷺ زينب، بخلاف إنشاء الإيمان بقولهم آمنا.
يعني المؤلف رحمه الله يقول إن المؤمنين لم يُؤمَروا بأن يقولوا: نحن أبرار، نحن أبرار، نحن متقون؛ لأن هذا فيه تزكية، والإنسان لا يُزكي نفسه، ولا يشهد على نفسه بأنه أدَّى جميه ما عليه، بل يُدني بنفسه ويتَّهِم نفسه؛ ولهذا جاز الاستثناء عند أهل السنة والجماعة في الإيمان، قال: أنا مؤمن إن شاء الله؛ لأن المشيئة، الاستثناء راجعٌ إلى خصال الإيمان.
وأن الإنسان لا يُزكي نفسه ولا يجزم بأنه أدى ما عليه، فهو لا يقول: أنا برّ، فلا يقول: أنا مِن الأبرار، أنا مِن المتقين، لا يُزكي نفسه، لكنه مأمور بأن يقول: أنا مِن المؤمنين، أنا مؤمن، فرقٌ بين أن يقول: أنا مِن الأبرار، أنا مِن المتقين أو يقول: أنا مؤمن؛ لأنه مأمورٌ بالإيمان، إنشاء الإيمان غير التزكية.
ولهذا قال المؤلف: "بِخِلَافِ إنْشَاءِ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِمْ: آمَنَّا؛ لأن هذا إيش يقول؟ يقول آمنت بالله ورسله، لكن ما يقول: أنا مِن الأبرار، أنا مِن المتقين، لا يزكي نفسه، قال تعالى: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النجم:32]، وَلِهَذَا لما كَانَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ اسْمَهَا بَرَّةَ فَقِيلَ: تُزَكِّي نَفْسَهَا فغير النبي ﷺ اسمها وسَمَّاهَا زَيْنَبَ، يقول المؤلف رحمه الله: "فَإِنَّ هَذَا قَدْ فُرِضَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوهُ" يعني إنشاء الإيمان، إنشاء الإيمان، فَرَض الله على المؤمنين أن يقولوه.
ثم استدل بقوله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:136] الآية من سورة البقرة، وكذلك في أول آل عمران: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ [آل عمرا:84]، قال تعالى في آخر سورة البقرة: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة:275].
المقصود مِن الاستدلال بهذه الآيات: يبيِّن المؤلف رحمه الله أن الإنسان مأمور بإنشاء الإيمان، وأن هناك فرق بين إنشاء الإيمان وتزكية النفس، تزكية النفس، منهيٌّ الإنسان عن أن يزكي نفسه، أما إنشاء الإيمان فهو مأمورٌ به.
يقول المؤلف رحمه الله: "فَقَوْلُهُ: لَا نُفَرِّقُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ قَالُوا: آمَنَّا وَلَا نُفَرِّقُ وَلِهَذَا قَالَ: وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا فَجَمَعُوا بَيْنَ قَوْلِهِمْ: آمَنَّا وَبَيْنَ قَوْلِهِمْ: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَقَدْ قَالَ فِي آيَةِ الْبِرِّ: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ فَجَعَلَ الْأَبْرَارَ هُمْ الْمُتَّقِينَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّجْرِيدِ".
يعني إذا أُطلِق الأبرار، وأُطلِق المتقين، ولم يُقَيَّد، ولم يُعطف عليه غيره، فإن المُسمَّى واحد، وهو الإتيان بجميع الأوامر وترك النواهي وأداء الواجبات وترك المحرمات، أما إذا قُيِّد وعُطِف عليه غيره فإنه يختلف المعنى، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَقَدْ مَيَّزَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الِاقْتِرَانِ وَالتَّقْيِيدِ" يعني فرَّق بينهما، في قوله تعالى: فِي قَوْلِهِ: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2]، فعطف التقوى على البر، فالبر إذا أُطلقت وحدها، فالبر إذا أُطلق وحده والتقوى إذا أُطلق وحده عامّ، مثل مسمى، مثل مسمى الإيمان، مثل مسمى الدين، مثل مسمى الإسلام، يشمل أداء الواجبات وترك المحرمات، يشمل أعمال القلوب وأعمال الجوارح، أما إذا عُطِف أحدهما على الآخر، وقُيِّد أحدهما بالآخر اختلف المعنى، صار مسمى البر فعل الأوامر ومسمى التقوى ترك النواهي.
يقول المؤلف رحمه الله: " وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَمُسَمَّى الْبِرِّ وَمُسَمَّى التَّقْوَى عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَاحِدٌ" نعم؛ لأنه إذا أُطلِق؛ لأن هذا هو مسمى الأسماء المطلقة، مسمى الإيمان ومسمى البر ومسمى التقوى ومسمى الخير عامّ يشمل كل ما جاء به النبي ﷺ، وكل ما جاء في القرآن مِن الأوامر والنواهي؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَالْمُؤْمِنُونَ هُمْ الْمُتَّقُونَ وَهُمْ الْأَبْرَارُ" يعني عند الإطلاق، نعم.
(المتن)
وَلِهَذَا جَاءَ فِي أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ الصَّحِيحَةِ: يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ [8]) وَفِي بَعْضِهَا: مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ[9]) وَهَذَا مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7-8].
وَذَلِكَ الَّذِي هُوَ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ هُوَ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ، وَهَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ الْأَبْرَارُ الْأَتْقِيَاءُ هُمْ: أَهْلُ السَّعَادَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ الَّذِينَ وُعِدُوا بِدُخُولِهَا بِلَا عَذَابٍ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا[10]) ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ هَؤُلَاءِ؛ بَلْ مِنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ الْمُعَرَّضِينَ لِلْوَعِيدِ أُسْوَةَ أَمْثَالِهِمْ.
(الشرح)
نعم، ولهذا يعني مِن أجل أن الإيمان عند الإطلاق يشمل جميع خصال البر: "جَاءَ فِي أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ الصَّحِيحَةِ: يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ[11])" وهذا فيه دليلٌ عن أن الإيمان يتبعَّض، خلافًا للمرجئة.
هذا هو قول أهل السنة قاطبةً: أن الإيمان يتبعَّض، ويتجزأ، يذهب بعضه ويبقى بعضه، خلافًا للمرجئة الذين يقولون: الإيمان شيءٌ واحد، لا يزيد ولا ينقص ولا يتبعَّض ولا يتجزأ، إن ذهب، ذهب جميعه، وإن بقي، بقي جميعه، هذا قول جميع طبقات المرجئة وأسلاف المرجئة، كلهم يقولون بهذا القول.
المرجئة المحضة من الجهمية والمرجئة مِن الكرَّامية، ومرجئة الفقهاء والأشعرية كلهم يقولون: أن الإيمان شيءٌ واحد، لا يزيد ولا ينقص، إن ذهب، ذهب جميعه، وإن بقي، بقي جميعه، أما هل السنة، جماهير أهل السنة والجماعة فإنهم يرون أنه يتبعَّض ويتجزأ ويبقى، ويذهب بعضه ويبقى بعضه.
ومن أدلتهم أحاديث الشفاعة، وهي أحاديث متواترة، كهذا الحديث: يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ[12])، هو خرج مِن النار بهذا الإيمان الذي معه؛ ولذلك لم يُخلَّد في النار، بخلاف الكفرة؛ فإنهم ليس معهم شيءٌ مِن الإيمان، الكافر كفرًا أكبر، والمشرك شركًا أكبر، والمنافق نفاقًا أكبر يُخلَّد في النار؛ لأنه ليس معه شيءٌ مِن الإيمان؛ لأن الكفر الأكبر والنفاق الأكبر والشرك الأكبر يقضي على الإيمان فلا يبقَ منه شيء ولا مقدار ذرة.
أما المعاصي وإن عَظُمَت وإن كَثُرت، فلا تقضي على الإيمان، بل لابد أن يبقَ شيءٌ منه يخرج به مِن النار إذا دخلها؛ ولهذا قال النبي ﷺ: في هذا الحديث: يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ([13]) وَفِي بَعْضِهَا: مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ([14])" والمعنى واحد، الإيمان هو الخير والخير هو الإيمان، الخير لا يكون خيرًا إلا إذا كان إيمانًا، والإيمان هو الخير.
يقول المؤلف رحمه الله: " وَهَذَا مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7-8]" فالخير مِن الإيمان، وَذَلِكَ الَّذِي هُوَ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ هُوَ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ، يعني المعنى واحد، الإيمان هو الخير والخير هو الإيمان.
يقول المؤلف رحمه الله: وَهَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ الْأَبْرَارُ الْأَتْقِيَاءُ هُمْ أَهْلُ الجنة، الْمُؤْمِنُونَ الْأَبْرَارُ الْأَتْقِيَاءُ، الذين أدَّوا ما أوجب الله عليهم، وتركوا ما حرم الله عليهم؛ هم الأبرار، وهم الأتقياء، وهم أهل السعادة، وهم أهل الجنة الذين وُعِدوا بدخولها بلا عذاب.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا،وَمَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا([15])، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ هَؤُلَاءِ؛ بَلْ مِنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ الْمُعَرَّضِينَ لِلْوَعِيدِ أُسْوَةَ أَمْثَالِهِمْ" يعني الذين توعدهم النبي ﷺ ليسوا مِن الأبرار المتقين، ولكنهم مِن الأبرار، ولكنهم مِن المؤمنين الذين نقص إيمانهم وضَعُف إيمانهم وتعرضوا للوعيد.
ولهذا قال فيهم النبي ﷺ: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا([16]) وقال في الحديث الآخر: لَا يَدخُل الجَنَّة مَن كَانَ فِي قَلبِه مِثقَالَ ذَرةٍ مِن كِبر([17])، لَا يَزنِي الزَّاِني حِينَ يَزنِي وَهوَ مُؤمِن، لَا يَسرِق السَّارِقُ حِينَ يَسرِقُ وَهوَ مُؤمِن، ولَا َيشرَبُ الخَمرَ حِينَ يَشرَبُهَا وَهوَ مُؤمِن([18])، هؤلاء معرضون للوعيد؛ بسبب نقص إيمانهم، وضعف إيمانهم بالمعاصي والكبائر، نعم.
(المتن)
فَصْلٌ:
وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ نَمَطِ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَأَسْمَاءِ كِتَابِهِ وَأَسْمَاءِ رَسُولِهِ وَأَسْمَاءِ دِينِهِ:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء:110]، وَقَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف: 180]، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر:22-24].
فَأَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا مُتَّفِقَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ، ثُمَّ كُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى مِنْ صِفَاتِهِ، لَيْسَ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْمُ الْآخَرُ؛ فَالْعَزِيزُ يَدُلُّ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ عِزَّتِهِ وَالْخَالِقُ يَدُلُّ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ خَلْقِهِ وَالرَّحِيمُ يَدُلُّ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ رَحْمَتِهِ وَنَفْسُهُ تَسْتَلْزِمُ جَمِيعَ صِفَاتِهِ فَصَارَ كُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى ذَاتِهِ وَالصِّفَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ بِطَرِيقِ الْمُطَابَقَةِ وَعَلَى أَحَدِهِمَا بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ وَعَلَى الصِّفَةِ الْأُخْرَى بِطَرِيقِ اللُّزُومِ.
(الشرح)
نعم، هذا الفصل يبيِّن فيه المؤلف رحمه الله دلالة الاسم على معنًى محدد لا يدل عليه اسم آخر.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ نَمَطِ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَأَسْمَاءِ كِتَابِهِ وَأَسْمَاءِ رَسُولِهِ وَأَسْمَاءِ دِينِهِ" كلها تدل على معاني، كل اسمٍ يدل على معنًى محدد.
كما أن اسم الإيمان يدل على معنى، كذلك أسماء الله، وأسماء كتابه، وأسماء رسوله، وأسماء دينه، كلها تدل على، كل واحدٍ منها يدل على اسم معينٍ محدد، لا يدل عليه اسمٌ آخر، ثم ذكر الأمثلة والأدلة لأسماء الله وأسماء كتابه وأسماء رسوله وأسماء دينه.
فبدأ بأسماء الله، فقال: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء:110]، (فالله) تعالى لفظ الجلالة، هو أعرف المعاني (والرحمن) اسمٌ لا يُسمَّى به غيره ، ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى أيما تدعوا، تدعوا الله، أو تدعوا الرحمن، أو تدعوا الرحيم، فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى .
وهذه الأسماء كلها تدل على ذاته المقدسة وتدل على الصفة التي تُشتَق مِن هذا الاسم؛ لأن أسماء الله مُشتَقة، وليست جامدة، فاسم الله يدل على صفة الألوهية، واسم الرحمن يدل على صفة الرحمة، واسم العليم يدل على صفة العلم، واسم القدير يدل على صفة القدرة، وهكذا جميع الأسماء.
وقال تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف: 180] يعني: توسلوا إلى الله بأسمائه الحسنى، فيقول: يا رحمن ارحمني، يا غفار اغفر لي، يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا رزاق ارزقني وهكذا، يتوسل إلى الله بالاسم المناسب لحاجته وطَلْبَتِه.
ولهذا قال سبحانه: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف: 180] يعني اتركوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ الإلحاد: هو الميل، يميلون بها عن الحق، إما بجحدها وإنكارها، أو جحد معانيها، أو تأويلها بتأويلٍ فاسد والميل بها عن المعنى الحق الذي دلت عليه، هذا هو الإلحاد، وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ.
وقال سبحانه: وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر:22-24]. المعنى أن هذه الأسماء لله ؛ كل اسمٍ مشتمل على معنًى وصفة؛ لأن أسماء الله مشتقة، الملِك يدل على اسم المُلْك، والقدوس: المنزه المطهر عما لا يليق به، والسلام: هو المسلِّم لعباده، والمؤمن: المصدق لرسله بالمعجزات وغيرها، والمهيمن الغالب، والعزيز القوي الذي لا يقهر، والجبار والمتكبر، ثم قال: هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ صفة الخلق والبارئ والمصور له الأسماء الحسنى كل هذه الأسماء مشتملة على معاني وصفات.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَأَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا مُتَّفِقَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ ثُمَّ كُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى مِنْ صِفَاتِهِ. لَيْسَ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْمُ الْآخَرُ" يعني أسماء الله كلها متفقة في الدلاة على ذاته المقدسة، في الدلالة على ذات الرب كل الأسماء، هذه الأسماء التي مرَّت في الآيات وفي غيرها.
الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ كلها تدل على ذات الرب ، ذاته المقدسة، كلها تدل على ذات الرب، وأن الرب سبحانه له ذات مقدسة لا تشبه ذوات المخلوقين، هذا قدرٌ مُشترَك بين جميع الأسماء، ثم كل اسمٍ يدل على معنًى مِن صفاته ليس هو المعنى الذي دل عليه الاسم الآخر.
فالملِك: يدل على صفة المُلْك، والعزيز يدل على صفة العزة، والرحمن يدل على صفة الرحمة، والقدير يدل على صفة القدرة، هذه الأسماء كلها متفقةٌ في دلالتها على ذات الرب ونفسه المُقدَّسة، وكل اسمٍ مُشتَملٌ على صفة، فليس هو المعنى الذي دل عليه الآخر، اسم العزيز يدل على صفة العزة، غير اسم الرحيم يدل على صفة الرحمة، غير صفة القدير يدل على صفة القدرة، وهكذا مع أنها كلها مُتفقة في الدلالة على ذات الرب .
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَالْعَزِيزُ يَدُلُّ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ عِزَّتِه" يدل على نفسه يعني على إثبات الذات مع صفة العزة، " عِزَّتِهِ وَالْخَالِقُ يَدُلُّ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ خَلْقِهِ" صفة الخلْق، " وَالرَّحِيمُ يَدُلُّ عَلَى نَفْسِهِ" يعني ذات الرب " مَعَ رَحْمَتِهِ وَنَفْسُهُ تَسْتَلْزِمُ جَمِيعَ صِفَاتِهِ" نفس الرب تستلزم جميع الصفات، كما قال سبحانه: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116]، وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28]، بنفس الرب تستلزم جميع الصفات.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَصَارَ كُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى ذَاتِهِ وَالصِّفَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ بِطَرِيقِ الْمُطَابَقَةِ وَعَلَى أَحَدِهِمَا بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ وَعَلَى الصِّفَةِ الْأُخْرَى بِطَرِيقِ اللُّزُومِ".
يبيِّن المؤلف رحمه الله هنا دلالات الألفاظ، دلالات الألفاظ ثلاثة: دلالة المطابقة، ودلالة التضمن، ودلالة اللزوم.
ومعرفة هذه الدلالات نافعٌ ومفيد لطالب العلم؛ فدلالة المطابقة: دلالة الشيء على جميع معناه، وعلى كلِّ معناه، ودلالة التضمن: دلالة الشيء على بعض معناه أو على جزءِ معناه، ودلالة الالتزام: دلالة الشيء على خارج معناه.
فمثلًا الرحيم يدل على ذات الرب والصفة المختصة به وهي الرحمة، يدل على الأمرين بطريق المطابقة، ويدل على أحدهما، يعني الرحيم يدل على ذات الرب أو على الرحمة، على أحدهما دون الآخر بطريق التضمن، لأنها دلالة الشيء على جزءٍ مِن معناه، فدلالة الرحيم على ذات الرب وصفة الرحمة دلالة مطابَقة، ودلالة الرحيم على ذات الرب وحدها أو على صفة الرحمة وحدها بطريق التضمُّن.
ودلالة الرحيم على صفة العلم دلالة التزام، دلالة التزام على خارج معناه؛ لأن الرحيم يستلزم العلم، لا يمكن أن يكون رحيم إلا أذا كان عالِم بمن يرحمه، فتبين بهذا أن هذه الدلالات الثلاث كلها مجتمعة هنا؛ فدلالة الرحيم مثلًا على صفات الرب وعلى صفة الرحمة دلالة مطابقة، ودلالة الرحيم على ذات الرب أو على الرحمة دلالة تضمُّن، ودلالة الرحيم على صفة العلم دلالة التزام، وهي دلالة الشيء على خارج معناه، نعم.
1-أخرجه مسلم في "صحيحه" برقم (35) من حديث أبي هريرة .
2-أخرجه إسحاق بن رهويه في "مسنده" كما في "المطالب العالية"(12/428)، وابن نصر المروزي في "تعظيم قدر الصلاة" برقم (408) من حديث أبي ذر .قال الحافظ ابن حجر:" هذا منقطع، وله طريق أصح منه في التفسير" قلت : أخرجه إسحاق بن رهويه في "مسنده "كما في "المطالب العالية"(14/474) قال أخبرنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن مجاهد، قال: إن أبا ذر سأل رسول الله ﷺ عن الإيمان؟ (فقرأ): لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. قال الحافظ ابن حجر: هذا مرسل صحيح الإسناد وله شاهد.
1-أخرجه مسلم في "صحيحه" برقم (35) من حديث أبي هريرة .
1-أخرجه البخاري في "صحيحه" برقم (9)، ومسلم في "صحيحه" برقم (35) واللفظ له من حديث أبي هريرة .
سبق تخريجه ( ص.....)
سبق تخريجه ( ص.....)
سبق تخريجه ( ص.....)
أخرجه البخاري في "صحيحه" برقم(7439) ضمن حديث الرؤية الطويل من رواية أبي سعيد الخدري .؟؟؟؟؟؟؟
سبق تخريجه ( ؟؟؟؟؟؟)
سبق تخريجه (صـــ)
سبق تخريجه (صـــ)
سبق تخريجه (صـــ)
سبق تخريجه (صـــ)
سبق تخريجه (صـــ)
سبق تخريجه (صـــ)
سبق تخريجه (صـــ)
أخرجه مسلم في "صحيحه "برقم (91) من حديث عبد الله بن مسعود .
سبق تخريجه (صـــ)