(المتن)
قال رحمه الله:
وَهَكَذَا أَسْمَاءُ كِتَابِهِ: الْقُرْآنُ وَالْفُرْقَانُ وَالْكِتَابُ وَالْهُدَى وَالْبَيَانُ وَالشِّفَاءُ وَالنُّورُ وَنَحْوُ ذَلِكَ هِيَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ.
وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ رَسُولِهِ: مُحَمَّدٌ وَأَحْمَد وَالْمَاحِي وَالْحَاشِرُ وَالْمُقْفِي وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ، كُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الْمَمْدُوحَةِ غَيْرِ الصِّفَةِ الْأُخْرَى، وَهَكَذَا مَا يُثْنَى ذِكْرُهُ مِنْ الْقَصَصِ فِي الْقُرْآنِ كَقِصَّةِ مُوسَى وَغَيْرِهَا.
لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهَا أَنْ تَكُونَ سَمَرًا؛ بَلْ الْمَقْصُودُ بِهَا أَنْ تَكُونَ عِبَرًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [يوسف:111]، فَاَلَّذِي وَقَعَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَلَهُ صِفَاتٌ فَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِعِبَارَاتِ مُتَنَوِّعَةٍ كُلُّ عِبَارَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي يَعْتَبِرُ بِهَا الْمُعْتَبِرُونَ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ التَّكْرِيرِ فِي شَيْءٍ.
(الشرح)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن المؤلف رحمه الله بيَّن فيما سبق في الحلقات الماضية أن أسماء الله، وأسماء كتابه، وأسماء رسوله، وأسماء دينه، كل اسمٍ منها يدل على معانٍ، يدل على معنًى لا يدل عليه الاسم الآخر، وأن أسماء الله تدل على، كلها تتفق في دلالتها على ذات الرب ، ثم كل اسمٍ يدل على صفةٍ، على معنًى، صفةٍ ومعنًى لا يدل عليه اسمٌ آخر، وهو يدل على ذات الرب وعلى الصفة وعلى المعنى الذي، والصفة التي دل عليها الاسم بطريق المطابقة، ويدل على أحدهما دون الآخر بطريق التضامن، ويدل على الصفات الأخرى بطريق اللزوم.
ثم قال المؤلف رحمه الله هنا: " وَهَكَذَا " أَسْمَاءُ كِتَابِهِ " الْقُرْآنُ وَالْفُرْقَانُ وَالْكِتَابُ وَالْهُدَى وَالْبَيَانُ وَالشِّفَاءُ وَالنُّورُ وَنَحْوُ ذَلِكَ هِيَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ" يعني كل هذه الأسماء، أسماء القرآن كلها تدل على نفس القرآن، كلها تدل على شيءٍ واحد وهو كلام الله، كتاب الله ، ثم كل اسمٍ يدل على معنًى آخر غير ما يدل عليه الآخر، ويدل كل اسمٍ منها على الكتاب العزيز، وعلى المعنى والوصف الذي دل عليه وعلى الوصف الآخر بطريق اللزوم.
فمثلًا القرآن كلام الله، (القرآن) يدل على كلام الله ، هو كلام الله ، وفيه أيضًا وصف القراءة، (والفرقان) كذلك يدل على كلام الله ، مع الوصف الذي دل عليه وهو الفرقان: التفريق بين الحق والباطل، و(الكتاب) يدل أيضًا على كلام الله وأنه مكتوب، و(الهدى) يدل على كلام الله على القرآن العزيز والوصف، وصف الهداية، و(البيان) كذلك يدل على كلام الله مع وصف البيان، و(الشفاء) يدل على كلام الله مع وصف الشفاء، و(النور) يدل على كلام الله مع وصف النور، كل واحدٍ مِن هذه الأسماء يدل، كلها تدل، متفقة على الدلالة على كلام الله ، كلها أسماء لمسمًّى واحد وهو كلام الله ـ.
"الْقُرْآنُ وَالْفُرْقَانُ وَالْكِتَابُ وَالْهُدَى وَالْبَيَانُ وَالشِّفَاءُ وَالنُّورُ" كلها تدل على كلام الله ، ثم كل واحدٍ منها يدل على معنًى آخر، غير ما دل عليه الآخر، كما سبق، فالقرآن يدل على معنًى غير ما يدل عليه الفرقان، غير ما يدل عليه الكتاب، غير ما يدل عليه الهدى، غير ما يدل عليه البيان، غير ما يدل عليه الشفاء، غير ما يدل عليه النور، كما سبق.
وكل اسمٍ منها يدل على كلام الله وعلى المعنى الذي يدل عليه بطريق المطابقة، ويدل على أحدهما دون الآخر بطريق التضمن، ويدل على الصفة الأخرى بطريقة اللزوم، يعني القرآن يدل على صفة الفرقان، صفة النور، صفة الشفاء بطريق اللزوم، كما سبق في أسماء الله .
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "هِيَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ. وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ" قال المؤلف رحمه الله: "وَكَذَلِكَ " أَسْمَاءُ رَسُولِهِ ": مُحَمَّدٌ وَأَحْمَد وَالْمَاحِي وَالْحَاشِرُ وَالْمُقْفِي وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ" يقول المؤلف رحمه الله: " كُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الْمَمْدُوحَةِ غَيْرِ الصِّفَةِ الْأُخْرَى" يعني أسماء رسول الله، الرسول عليه الصلاة والسلام له أسماء كثيرة، وهذه الأسماء كلها تدل على مسمًّى واحد وهو ذات النبي ﷺ.
فمحمد يدل على ذات النبي ﷺ وأحمد كذلك والماحي والحاشر والمقفي، ثم كل اسمٍ منها يدل على صفةٍ غير الصفة الأخرى، فمحمد هو الذي كَثُرت أوصاف حمده، وكذلك أحمد، والماحي الذي يمحو الله به الكفر، والحاشر الذي يحشر الناس على عقبيه، والمقفي الذي جاء الأنبياء وليس بعده نبي، ونبي الرحمة كذلك، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ كُلُّ اسْمٍ مِن هذه الأسماء يدل على معنًى (زائد) على دلالته على ذات النبي ﷺ.
فهو يدل على ذات النبي ﷺ، وعلى الوصف الذي دل عليه بطريق المطابقة، ويدل على أحدهما دون الآخر بطريق اللزوم، ويدل على الذات، على الصفات الأخرى بطريق اللزوم، يقول المؤلف رحمه الله: " وَهَكَذَا مَا يُثْنَى ذِكْرُهُ مِنْ الْقَصَصِ فِي الْقُرْآنِ كَقِصَّةِ مُوسَى وَغَيْرِهَا لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهَا أَنْ تَكُونَ سَمَرًا؛ بَلْ الْمَقْصُودُ بِهَا أَنْ تَكُونَ عِبَرًا" يعني الله تعالى يثني القصص التي في القرآن، قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع فرعون، كررها الله تعالى وثناها في مواضع مِن القرآن الكريم، فتارةً تأتي مبسوطة، وتارةً تأتي مُختَصَرة وتارةً تأتي متوسطة، وكل قصة فيها عبرة.
كل قصةٍ سيقت فيها مِن العبر زائدٌ على، يزيد على الأخرى؛ لأن الله سبحانه إنما ثناها وكررها لما فيها مِن العبر؛ لا لأجل أن تكون سمرًا يَسمُر بها الإنسان، ويقرأها قراءةً عابرة، كما تَقرأ كتب البشر، بعض البشر أو كما تقرأ بعض، ما يكتبه بعض الناس، وإنما الله ثناها وكررها لما فيها مِن العبر التي تدل عليها زائدةٌ على سياقها في، وفي الموضع الآخر.
ولهذا يقول المؤلف رحمه الله: كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [يوسف:111] المفروض أن القصص عبرة، ليس المراد بها السمر، كون الإنسان يسمر أو يُقَطِّع الوقت كما في كلام بعض البشر الذي لا يُفيد؛ بينما كلام الله فيه الهدى وفيه الشفاء، وفيه العبرة والعظة، لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [يوسف:111] يقول المؤلف رحمه الله: "فَاَلَّذِي وَقَعَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَلَهُ صِفَاتٌ فَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِعِبَارَاتِ مُتَنَوِّعَةٍ كُلُّ عِبَارَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي يَعْتَبِرُ بِهَا الْمُعْتَبِرُونَ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ التَّكْرِيرِ فِي شَيْءٍ" فَاَلَّذِي وَقَعَ شَيْءٌ وَاحِدٌ.
الذي وقع في قصة موسى مع فرعون، نبي الله موسى وهارون أرسلهما الله إلى فرعون، فكذب فرعون وعصى، وأعطى الله موسى وهارون الآيات البينات الواضحة، فلم ينزجر، ولم يقبل فرعون هدى الله، فأهلك الله فرعون وجنوده، هذا شيءٌ واحد.
لكن، هذا الواقع شيءٌ واحد، لكن له صفات متعددة، فعُبِّر عنه بعبارات متنوعة، وثنَّى الله هذه القصة وأسهبها في مواضع، كل عبارة تدل على صفة مِن الصفات التي يعتبر بها المعتبرون، وليس هذا مِن التكرير في شيء، ليس هذا مِن التكرار الذي لا يُفيد، ولكنه تكرير لبيان الصفات المتنوعة التي تُؤخذ منها العظة والعبرة، نعم.
(المتن)
وَهَكَذَا أَسْمَاءُ دِينِهِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ يُسَمَّى إيمَانًا وَبِرًّا وَتَقْوَى وَخَيْرًا وَدِينًا وَعَمَلًا صَالِحًا، وَصِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ وَاحِدٌ لَكِنَّ كُلَّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ لَيْسَتْ هِيَ الصِّفَةَ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا الْآخَرُ، وَتَكُونُ تِلْكَ الصِّفَةُ هِيَ الْأَصْلَ فِي اللَّفْظِ وَالْبَاقِي كَانَ تَابِعًا لَهَا، لَازِمًا لَهَا، ثُمَّ صَارَتْ دَالَّةً عَلَيْهِ بِالتَّضَمُّنِ.
فَإِنَّ الْإِيمَانَ أَصْلُهُ الْإِيمَانُ الَّذِي فِي الْقَلْبِ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ شَيْئَيْنِ: تَصْدِيقٍ بِالْقَلْبِ وَإِقْرَارِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَيُقَالُ لِهَذَا: قَوْلُ الْقَلْبِ.
قَالَ الْجُنَيْد بْنُ مُحَمَّدٍ: التَّوْحِيدُ: قَوْلُ الْقَلْبِ. وَالتَّوَكُّلُ: عَمَلُ الْقَلْبِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَوْلِ الْقَلْبِ وَعَمَلِهِ؛ ثُمَّ قَوْلُ الْبَدَنِ وَعَمَلِهِ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ مِثْلَ حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةِ اللَّهِ وَحُبِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَبُغْضِ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَإِخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَتَوَكُّلِ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَجَعَلَهَا مِنْ الْإِيمَان.
(الشرح)
نعم، يقول المؤلف رحمه الله: "وَهَكَذَا أَسْمَاءُ دِينِهِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ"؛ يعني كما سبق في أسماء الله، وأسماء كتابه، وأسماء رسوله، وأن الله تعالى سمَّى نفسه بأسماء، وسمَّى كتابه بأسماء، وسمَّى دينه بأسماء كلها، هذه الأسماء، كلها تدل على ذاتٍ واحدة، وتدل، وكل اسمٍ منها يدل على صفةٍ، على صفة من الصفات، ودلالتها على الذات والصفة بالمطابقة، ودلالتها على أحدهما بالتضامن، ويدل على الصفة الأخرى باللزوم، كما سبق في أسماء الله وأسماء كتابه وأسماء رسوله.
كذلك أسماء دينه، الذي أمر الله به ورسوله، "يُسَمَّى إيمَانًا وَبِرًّا وَتَقْوَى وَخَيْرًا وَدِينًا وَعَمَلًا صَالِحًا وَصِرَاطًا مُسْتَقِيمًا".
كل هذه أسماء متعددة كلها أسماءٌ لدين الله، دين الله يُسمى إيمانًا، دين الله يُسمى برًّا، دين الله يُسمى تقوًى، دين الله يُسمى خيرًا، دين الله يُسمى دينًا، دين الله يُسمى عملًا صالحًا، دين الله يُسمى صراطًا مستقيمًا.
يقول المؤلف: "وَهُوَ فِي نَفْسِهِ وَاحِدٌ" يعني هو واحد، هو دين الله، لكن له هذه الأسماء المتعددة، ولهذا قال: "لَكِنَّ كُلَّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ لَيْسَتْ هِيَ الصِّفَةَ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا الْآخَرُ" يعني على، يدل عليها الاسم الآخر، فيُسمى إيمان؛ لأنه يستقر في القلب، ويُسمى تقوى؛ لأن الإنسان يتقي ربه، ويُسمى خيرًا؛ لأن هذا خير، ويُسمى عملًا صالحًا؛ لأن الله ارتضاه، ويُسمى صراطًا مستقيمًا؛ لأنه دين الله الذي لا يقبل الله مِن أحدٍ سواه، فكل اسمٍ يدل على صفةٍ ليست هي الصفة التي يدل عليها الاسم الآخر.
يقول المؤلف: "وَتَكُونُ تِلْكَ الصِّفَةُ هِيَ الْأَصْلَ فِي اللَّفْظِ وَالْبَاقِي كَانَ تَابِعًا لَهَا لَازِمًا لَهَا ثُمَّ صَارَتْ دَالَّةً عَلَيْهِ بِالتَّضَمُّنِ" يعني أن دين الله و، له أسماء متعددة، كلها تدل على شيءٍ واحد؛ وهو الدين الذي ارتضاه الله لعباده، الإيمان، الذي ارتضاه ورضاه لعباده، وبقية الصفات تكون تابعة ولازمة لها.
يلزم مِن الإيمان البر، يلزم مِن الإيمان التقوى، يلزم مِن الإيمان الخير، يلزم مِن الإيمان الصلاح.
يقول المؤلف: "ثُمَّ صَارَتْ دَالَّةً عَلَيْهِ بِالتَّضَمُّنِ" وسبق أن دلالة التضمن دلالة الشيء على جزءِ معناه، وعلى بعض معناه.
فصار مثلًا دلالة الإيمان على الخيرية بالتضمن، ودلالته على التقوى بالتضمن، ودلالته على الأمرين بالمطابقة، يقول المؤلف رحمه الله: " فَإِنَّ " الْإِيمَانَ " أَصْلُهُ الْإِيمَانُ الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ " شَيْئَيْنِ ": تَصْدِيقٍ بِالْقَلْبِ وَإِقْرَارِهِ وَمَعْرِفَتِهِ" يعني لابد أن يكون القلب مصدقًا، لابد أن يكون في القلب معرفةٌ وتصديقٌ وإقرار، وهذا هو قول القلب.
ولهذا قال المؤلف: " وَيُقَالُ لِهَذَا: قَوْلُ الْقَلْبِ. قَالَ " الْجُنَيْد بْنُ مُحَمَّدٍ ": التَّوْحِيدُ: قَوْلُ الْقَلْبِ. وَالتَّوَكُّلُ: عَمَلُ الْقَلْبِ" القلب له قولٌ وهو التصديق والمعرفة والإقرار، وله عمل وهو التوكل والرغبة والرهبة والخشية ومحبة الله ورسوله والصدق والإخلاص، كل هذه مِن أعمال القلوب.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَوْلِ الْقَلْبِ وَعَمَلِهِ؛ ثُمَّ قَوْلُ الْبَدَنِ وَعَمَلِهِ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ مِثْلَ حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةِ اللَّهِ وَحُبِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَبُغْضِ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَإِخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَتَوَكُّلِ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَجَعَلَهَا مِنْ الْإِيمَانِ" نعم.
(المتن)
ثُمَّ الْقَلْبُ هُوَ الْأَصْلُ فَإِذَا كَانَ فِيهِ مَعْرِفَةٌ وَإِرَادَةٌ سَرَى ذَلِكَ إلَى الْبَدَنِ بِالضَّرُورَةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَخَلَّفَ الْبَدَنُ عَمَّا يُرِيدُهُ الْقَلْبُ.
وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ([1]). وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: الْقَلْبُ مَلِكٌ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ فَإِذَا طَابَ الْمَلِكُ طَابَتْ جُنُودُهُ وَإِذَا خَبُثَ الْمَلِكُ خَبُثَتْ جُنُودُهُ. ([2]) وَقَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ تَقْرِيبٌ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ أَحْسَنُ بَيَانًا فَإِنَّ الْمَلِكَ وَإِنْ كَانَ صَالِحًا فَالْجُنْدُ لَهُمْ اخْتِيَارٌ قَدْ يَعْصُونَ بِهِ مَلِكَهُمْ وَبِالْعَكْسِ فَيَكُونُ فِيهِمْ صَلَاحٌ مَعَ فَسَادِهِ أَوْ فَسَادٌ مَعَ صَلَاحِهِ؛ بِخِلَافِ الْقَلْبِ فَإِنَّ الْجَسَدَ تَابِعٌ لَهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ إرَادَتِهِ قَطُّ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ([3])".
(الشرح)
نعم، يقول المؤلف رحمه الله: "ثُمَّ الْقَلْبُ هُوَ الْأَصْلُ" يعني: الأصل في الإيمان أن يكون في القلب؛ فإذا استقر الإيمان في القلب انبعثت الجوارح على العمل، ولهذا قال: " ثُمَّ الْقَلْبُ هُوَ الْأَصْلُ فَإِذَا كَانَ فِيهِ مَعْرِفَةٌ وَإِرَادَةٌ سَرَى ذَلِكَ إلَى الْبَدَنِ بِالضَّرُورَةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَخَلَّفَ الْبَدَنُ عَمَّا يُرِيدُهُ الْقَلْبُ" وهذا شيءٌ معروف؛ لأن الإيمان هو، الذي يستقر في القلب هو الذي يدفع ويبعث الأعمال، الجوارح على العمل.
ولهذا قال النبي ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ رواه الشيخان البخاري ومسلم([4])رحمهما الله، فهذا الحديث دليل على أن الأصل في الصلاح هو صلاح القلب، والأصل في الفساد هو فساد القلب، وأن الأعمال، وأن الجوارح تابعةٌ للقلب.
ثم قال المؤلف رحمه الله: " وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : الْقَلْبُ مَلِكٌ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ فَإِذَا طَابَ الْمَلِكُ طَابَتْ جُنُودُهُ وَإِذَا خَبُثَ الْمَلِكُ خَبُثَتْ جُنُودُهُ" يقول المؤلف رحمه الله([5]) " وَقَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ تَقْرِيبٌ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ أَحْسَنُ بَيَانًا" يعني المؤلف رحمه الله يقارِن بين قول أبي هريرة: (الْقَلْبُ مَلِكٌ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ فَإِذَا طَابَ الْمَلِكُ طَابَتْ جُنُودُهُ وَإِذَا خَبُثَ الْمَلِكُ خَبُثَتْ جُنُودُهُ)، يقول: هذا تقريب، لكن قول النبي ﷺ أحسن بيانًا.
وبيان كون النبي أحسن بيانًا، يقول المؤلف: "فَإِنَّ الْمَلِكَ وَإِنْ كَانَ صَالِحًا فَالْجُنْدُ لَهُمْ اخْتِيَارٌ قَدْ يَعْصُونَ بِهِ مَلِكَهُمْ وَبِالْعَكْسِ فَيَكُونُ فِيهِمْ صَلَاحٌ مَعَ فَسَادِهِ أَوْ فَسَادٌ مَعَ صَلَاحِ" يعني هناك فرق بين تمثيل أبي هريرة وبين تمثيل النبي ﷺ فأبو هريرة قال: إن الأعضاء بمثابة الجنود، والنبي ﷺ قال: إن القلب إذا صلُحت، صلُحت الأعضاء، وإذا فسدت، فسدت الأعضاء.
قول أبي هريرة يُلَاحَظ عليه أنه ليس بلازم أن صلاح الملك يكون صلاح الجنود، فقد يصلح الملك ويكون في الجنود خُبْث، وبالعكس؛ قد يكون الجنود فيهم خُبْث، والملك صالح، بخلاف القلب والجوارح، فإنه يختلف، فإن القلب إذا صَلُح صَلُحت الجوارح وإذا فسُد فسُدت الجوارح، فتبين بهذا أن تمثيل النبي ﷺ أحسن مِن تمثيل أبي هريرة ، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "؛ بِخِلَافِ الْقَلْبِ فَإِنَّ الْجَسَدَ تَابِعٌ لَهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ إرَادَتِهِ قَطُّ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ([6])" نعم.
(المتن)
فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ صَالِحًا بِمَا فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ عِلْمًا وَعَمَلًا قَلْبِيًّا لَزِمَ ضَرُورَةُ صَلَاحِ الْجَسَدِ بِالْقَوْلِ الظَّاهِرِ وَالْعَمَلِ بِالْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ، كَمَا قَالَ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ: قَوْلٌ وَعَمَلٌ، قَوْلٌ بَاطِنٌ وَظَاهِرٌ، وَعَمَلٌ بَاطِنٌ وَظَاهِرٌ، وَالظَّاهِرُ تَابِعٌ لِلْبَاطِنِ، لَازِمٌ لَهُ؛ مَتَى صَلَحَ الْبَاطِنُ صَلَحَ الظَّاهِرُ وَإِذَا فَسَدَ فَسَدَ.
وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الصَّحَابَةِ عَنْ الْمُصَلِّي الْعَابِثِ: "لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ"([7]) فَلَا بُدَّ فِي إيمَانِ الْقَلْبِ مِنْ حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165]، فَوَصَفَ الَّذِينَ آمَنُوا بِأَنَّهُمْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِأَنْدَادِهِمْ.
(الشرح)
نعم، يقول المؤلف رحمه الله: يبيِّن رحمه الله أن الأعمال تابعةٌ لصلاح القلب، وصلاح الأعمال تابعٌ لصلاح القلب، وأن فساد الأعمال تابعٌ لفساد القلب، يقول رحمه الله: " فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ صَالِحًا بِمَا فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ عِلْمًا وَعَمَلًا قَلْبِيًّا".
إذًا صلاح القلب يكون بالإيمان، بالإيمان علمًا وعملًا، علم التصديق والإقرار، والعمل الإخلاص والخشية والمحبة، "لَزِمَ ضَرُورَةُ صَلَاحِ الْجَسَدِ بِالْقَوْلِ الظَّاهِرِ وَالْعَمَلِ بِالْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ"؛ يعني إذا صلح القلب لابد أن تصلح الجوارح.
صلاح القلب يكون بشيئين؛ صلاحٌ بالعلم، وصلاحٌ بالعمل، صلاحٌ بالعِلم يكون بالتصديق والإقرار والمعرفة، وصلاحٌ بالعمَل يكون بالإخلاص والخشية والرغبة والرهبة والتوكل على الله ومحبة الله ورسوله، بهذا يَصلُح القلب، وإذا صَلُح القلب، استقر فيه، استقرت هذه الأشياء فيه العلم والعمل؛ فلابد أن تصلُح الجوارح، لابد أن يصلُح الجسد.
وصلاح الجسد بشيئين؛ بالقول الظاهر كالنطق بالشهادتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، وتلاوة القرآن والذكر، وبالعمل بالإيمان المطلق.
العمل بالإيمان المطلق، إذا أُطلق يشمل جميع الأوامر، صلاةٍ، وصيامٍ، وزكاةٍ، وحجٍ، وجهادٍ في سبيل الله، وأمرٍ بمعروفٍ ونهيٍ عن منكرٍ، وبر الوالدين وصلة الرحم إلى غير ذلك، فإذا صلُح القلب، بالإيمان علمًا وعملًا، فلابد أن يصلُح الجسد بالقول وبالعمل، بالقول الظاهر وبالعمل بالإيمان المطلق.
يقول المؤلف رحمه الله: "كَمَا قَالَ أَهْلِ الْحَدِيثِ: قَوْلٌ وَعَمَلٌ" يعني الإيمان، قول وعمل، " قَوْلٌ بَاطِنٌ وَظَاهِرٌ وَعَمَلٌ بَاطِنٌ وَظَاهِرٌ" (قولٌ باطن) هو التصديق والإقرار، (وقولٌ ظاهر) وهو النطق باللسان، و(عملٌ باطن) وهو أعمال القلوب مِن الخشية والمحبة والرغبة والرهبة، و(عملٌ ظاهر) وهي أعمال الجوارح.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَالظَّاهِرُ تَابِعٌ لِلْبَاطِنِ لَازِمٌ لَهُ مَتَى صَلَحَ الْبَاطِنُ صَلَحَ الظَّاهِر" وهذا واضح، فإن العمل الظاهر يتبع العمل الباطن، إذا صلُح الباطن صلُح الظاهر، وإذا فسد الباطن فسد الظاهر ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولهذا يغلط بعض الناس في، الذين إذا نُصِحوا قال عن بعض الأعمال التي يعملها بجوارحه قال: الإيمان في القلب، يُقال له: أيضًا والنفاق في القلب، والكفر في القلب أيضًا، لو صلُح القلب صلُح الظاهر، وإذا فسد القلب فسد الظاهر.
ولهذا يقول المؤلف رحمه الله: " وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الصَّحَابَةِ عَنْ الْمُصَلِّي الْعَابِثِ: لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ"([8]) يعني هذا العبث الذي يكون في الجوارح؛ يدل على أن القلب غير خاشع، وفيه تشويش، فلو خشع القلب؛ لخشعت الجوارح ولم يحصل فيها تشويش وعبث؛ فلما حصل العبث في الجوارح: دل على أن هناك عبثٌ في القلب، وأنه غير مستقر، وغير خاشع.
القارئ: الدليل لا يصح مرفوع إلى النبي ﷺ ما دام كلام المؤلف؟
الشيخ: إيه نعم، يقول: قال مَن قال مِن الصحابة: ذكر المحشي أنه رواه ابن مبارك في كتابه الزهد مِن قول سعيد المسيب والحكيم الترمذي عن أبي هريرة في نوادر الأصول والبغوي في تفسيره وذكره القرطبي مرفوعًا في تفسيره دون أن يذكر سنده والمروزي ذكره في تعظيم قدر الصلاة يمعن المسيب وعبد الرزاق في مصنفه مِن قول المسيب، فالمؤلف رحمه الله نسبه إلى الصحابة.
يقول المؤلف رحمه الله: " فَلَا بُدَّ فِي إيمَانِ الْقَلْبِ مِنْ حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا" يعني هذا لابد منه بإيمان القلب، لابد مِن حب الله ورسوله؛ لأن هذه أعمال القلب، لابد مِن أعمال القلب؛ لأن التصديق المجرد بدون عمل لا يكفي في إيمان القلب، التصديق المجرد بمعانيه المجردة، كما سبق هذا هو قول الجهم.
الجهم يرى أن الإيمان هو مجرد المعرفة بالقلب، فالتصديق المجرد هو نفس المعرفة، لكن إذا كان معه عملٌ كحب الله ورسوله، والصدق، والمحبة، والإخلاص، والرغبة، وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، هذا هو إيمان القلب، كما قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165].
يقول المؤلف: "فَوَصَفَ الَّذِينَ آمَنُوا بِأَنَّهُمْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِأَنْدَادِهِمْ"؛ لما استقر في قلوبهم مِن محبة الله ورسوله ومن الصدق والإخلاص التي هي أعمال القلوب، نعم.
(المتن)
وَفِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: قِيلَ: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهَ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْهُمْ لِأَوْثَانِهِمْ. وَقِيلَ: يُحِبُّونَهُمْ كَمَا يُحِبُّونَ اللَّهَ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْهُمْ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ؛ وَالْأَوَّلُ قَوْلٌ مُتَنَاقِضٌ، وَهُوَ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يُحِبُّونَ الْأَنْدَادَ مِثْلَ مَحَبَّةِ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ وَتَسْتَلْزِمُ الْإِرَادَةَ، وَالْإِرَادَةُ التَّامَّةُ مَعَ الْقُدْرَةِ تَسْتَلْزِمُ الْفِعْلَ.
فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُحِبًّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ؛ مُرِيدًا لِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إرَادَةً جَازِمَةً مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ لَا يَفْعَلُهُ فَإِذَا لَمْ يَتَكَلَّمْ الْإِنْسَانُ بِالْإِيمَانِ مَعَ قُدْرَتِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ.
(الشرح)
نعم، المؤلف رحمه الله يبيِّن أن في هذه الآية؛ وهي قول الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165]، فيها قولان لأهل العلم، ورجح أحد القولين وأبطل القول الآخر.
القول الأول: قال: "يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهَ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ. يعني الذين يتخذون الأنداد يحبون أندادهم كحب المؤمنين الله، وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165] وقيل: يحبونهم كما يحبون الله، وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165] منهم لله.
يقول المؤلف: الصواب هو القول الثاني، وهو أن المعنى يحبونهم كما يحبون الله، يعني أهل الأنداد يحبون أندادهم كما يحبون الله، فمحبة أهل الأنداد مشتركة، فهم يحبون أندادهم ويحبون الله، فهم يحبون الأنداد كما يحبون الله، وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165] يعني منهم لله، يعني أشد حبًّا مِن محبة أهل الأنداد لأندادهم؛ لأن محبتهم هي خالصة، ومحبة أهل الأنداد مشتركة، فالمحبة الخالصة، أقوى مِن المحبة المشتركة.
أما القول الأول يقول المؤلف: "هَذَا هُوَ الصَّوَابُ"؛ لأن القول الأول يقول: "يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهَ" يقول: هذا متناقض، لماذا؟ وهو باطل؛ لأن المشركين لا يحبون الأنداد مثل محبة المؤمنين لله، وتستلزم الإرادة؛ لأن المؤمنين يحبون الله وهذه المحبة تستلزم الإرادة، يعني إرادة العمل، والإرادة التامة مع القدرة تستلزم الفعل، فالمؤمنون يحبون الله محبةً خالصة؛ ولهذا فإن هذه المحبة تستلزم الإرادة التي في القلب.
والإرادة تستلزم القدرة، الإرادة التامة مع القدرة، لابد أن يقع معها عمل، إذا وُجدت إرادةٌ تامة، وقدرة لابد أن يقع الفعل، وهذا لا يمكن أن يصدر مِن المؤمنين؛ لأن المؤمنين لا، ليست محبتهم، لا تستلزم محبتهم، هذا لا يحصل مِن المشركين؛ لأن المشركين محبتهم لا تستلزم الإرادة، فلهذا لا يقع منهم فعل، تخلَّف، فلهذا لم يوحدوا الله ولم يخلصوا له العبادة.
بخلاف المؤمنين، فإن محبتهم خالصة وهي تستلزم الإرادة، والإرادة التامة مع القدرة لابد معها أن يقع الفعل، بخلاف المشركين، فإنهم وإن أحبوا الله إلا أنها محبة مشتركة ولا تستلزم الإرادة، ولهذا أبطل المؤلف رحمه الله هذا القول، أنهم " يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهَ".
يقول المؤلف رحمه الله: " فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُحِبًّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ؛ مُرِيدًا لِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إرَادَةً جَازِمَةً مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ لَا يَفْعَلُهُ" هذا لا يمكن إذا كان مريدًا، محبًّا لله ورسوله ومريدًا إرادةً جازمة وهو قادر على الفعل ولا يفعل، ما يمكن، إذا كان محبًّا لله ورسوله، وهو مريدٌ للعمل، وعنده قدرة ويمتنع مِن الصلاة أو مِن النطق بالشهادتين، ما يمكن، ما دام أنه مريد، وعنده إرادة تامة مع القدرة فلا يمكن أن يتخلف.
ولهذا يقول المؤلف رحمه الله: "فَإِذَا لَمْ يَتَكَلَّمْ الْإِنْسَانُ بِالْإِيمَانِ مَعَ قُدْرَتِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ" لماذا؟ لأنه الآن عنده إرادة، والإرادة، وعنده قدرة، فكيف يتخلف؟ فإذا تخلف دلَّ على أنه ليس عنده إرادة، وتخلُّف الإرادة، دليلٌ على أنه ليس عنده إيمان، نعم.
القارئ: فيه عبارة يبدو لي يا شيخ أنها يعني ما أظن أن شيخ الإسلام ما دام أنه رجح القول الثاني أنها تكون مستقيمة هكذا " فَوَصَفَ الَّذِينَ آمَنُوا بِأَنَّهُمْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِأَنْدَادِهِمْ" لو شيلت كلمة لله، استقام المعنى مع ترجيحه الثاني.
الشيخ: إيه، فوصف المؤمنين،
القارئ: هو يتكلم بعد الآية قال: "فَوَصَفَ الَّذِينَ آمَنُوا بِأَنَّهُمْ أَشَدُّ حُبًّا" بعض الطبعات ما فيها (لله) وطبعتنا فيها (لله) مِن المشركين لأندادهم، يعني أنا رأيت لأكثر مِن طبعة ولذلك شطبتها أنا لأنها فعلًا مُرجحة، لكن يوم قرأتَها عليك أنت وضعتَ لله.
القارئ: "فَوَصَفَ الَّذِينَ آمَنُوا بِأَنَّهُمْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِأَنْدَادِهِمْ"، ما يستقيم مع ترجيحه الثاني؛ لأنه يقول: أن القول الأول متناقض، "فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يُحِبُّونَ الْأَنْدَادَ مِثْلَ مَحَبَّةِ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ وَتَسْتَلْزِمُ".
ثم ذكر وإنما المراد أن الذين آمنوا أشد حبًّا لله، قيل: هو يُحِبُّونَهُمْ كَمَا يُحِبُّونَ اللَّهَ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْهُمْ لله وهذا هو الصواب، فترجيحه الثاني يقتضي حذف لفظ الجلالة هنا.
(أحد الحضور): هنا عندنا ما في لفظة الجلالة.
القارئ: أحسنت، أنا رجعت لأكثر مِن طبعة ما فيها لفظ الجلالة ولذلك،
الشيخ: هي هذه ذكرها أئمة الدعوة في كتاب التوحيد موجودة لأنها،
القارئ: إيه
الشيخ: لابد منها، لو ما ذكِرت لابد منها، المراد أشد حبًّا لله، أشد حبًّا لله منهم لله، الذين آمنوا أشد حبًّا لله منهم مِن المشركين لله،
القارئ: بس ماهي بهنا لله يا شيخ، مِن المشركين لأندادهم.
الشيخ: لا محبة المشركين لله، لأنهم يحبون الله،
القارئ: ولذلك تُلغى لفظ الجلالة.
الشيخ: لا، لا هم يحبون الله المشركين، يحبون الله ويحبون الأنداد.
القارئ: أها..
الشيخ: لكن المؤمنين أشد حبًّا لله،
القارئ: منهم لأندادهم،
الشيخ: إيه، لا، منهم لله
القارئ: ممتاز، لكن هنا ما قال: لله يا شيخ، هنا في اللفظ، في السطر اللي قبل قال: فَوَصَفَ الَّذِينَ آمَنُوا بِأَنَّهُمْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِأَنْدَادِهِمْ، فإذا أضيفت لله ما يصير، إلا إذا كانت لله،
الشيخ: وين، وين اللفظ؟
القارئ: بعد الآية مباشرة يا شيخ، بعد الآية،
الشيخ: والذين آمنوا أشد حبًّا لله منهم لله،
(أحد الحضور): عندنا طبعة مع لفظ الجلالة،
الشيخ: إيه نعم يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهَ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْهُمْ لِأَوْثَانِهِمْ. وَقِيلَ: هذا المعنى الثاني، وقيل يحبونهم،
القارئ: لا اللي قبل يا شيخ، اللي قبل الله يحفظك.
الشيخ: إيه، قِيلَ: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الْمُؤْمِنِينَ
القارئ: هذا الآية، فَوَصَفَ الَّذِينَ آمَنُوا بِأَنَّهُمْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِأَنْدَادِهِمْ، أغلب الطبعات ما فيها لله، حبًّا مِن المشركين لأندادهم.
الشيخ: إيه، هذي يعني؟
القارئ: إيه نعم..
الشيخ: إيه..
القارئ: لأنه يستقيم فعلًا هكذا.
(المتن)
توقفنا عند قول المؤلف رحمه الله:
وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ خَطَأُ قَوْلِ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ، وَمَنْ اتَّبَعَهُ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَعِلْمِهِ، لَمْ يَجْعَلُوا أَعْمَالَ الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ، وَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ مُؤْمِنًا كَامِلَ الْإِيمَانِ بِقَلْبِهِ، وَهُوَ مَعَ هَذَا يَسُبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُعَادِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُعَادِي أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَيُوَالِي أَعْدَاءَ اللَّهِ، وَيَقْتُلُ الْأَنْبِيَاءَ، وَيَهْدِمُ الْمَسَاجِدَ، وَيُهِينُ الْمَصَاحِفَ، وَيُكْرِمُ الْكُفَّارَ غَايَةَ الْكَرَامَةِ، وَيُهِينُ الْمُؤْمِنِينَ غَايَةَ الْإِهَانَةِ.
قَالُوا: وَهَذِهِ كُلُّهَا مَعَاصٍ لَا تُنَافِي الْإِيمَانَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ بَلْ يَفْعَلُ هَذَا وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ عِنْدَ اللَّهِ مُؤْمِنٌ قَالُوا: وَإِنَّمَا ثَبَتَ لَهُ فِي الدُّنْيَا أَحْكَامُ الْكُفَّارِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ أَمَارَةٌ عَلَى الْكُفْرِ لِيُحْكَمَ بِالظَّاهِرِ، كَمَا يُحْكَمُ بِالْإِقْرَارِ وَالشُّهُودِ، وَإِنْ كَانَ الْبَاطِنُ قَدْ يَكُونُ بِخِلَافِ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَبِخِلَافِ مَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ.
فَإِذَا أُوْرِدَ عَلَيْهِمْ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ كَافِرٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُعَذَّبٌ فِي الْآخِرَةِ، قَالُوا: فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ التَّصْدِيقِ وَالْعِلْمِ مِنْ قَلْبِهِ فَالْكُفْرُ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْجَهْلُ وَالْإِيمَانُ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْعِلْمُ أَوْ تَكْذِيبُ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقُهُ فَإِنَّهُمْ مُتَنَازِعُونَ هَلْ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ شَيْءٌ غَيْرُ الْعِلْمِ أَوْ هُوَ هُوَ؟
وَهَذَا الْقَوْلُ مَعَ أَنَّهُ أَفْسَدُ قَوْلٍ قِيلَ فِي الْإِيمَانِ فَقَدْ ذَهَبَ إلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُرْجِئَةِ.
وَقَدْ كَفَّرَ السَّلَفُ -كَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ- مَنْ يَقُولُ بِهَذَا الْقَوْلِ.
وَقَالُوا: إبْلِيسُ كَافِرٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا كُفْرُهُ بِاسْتِكْبَارِهِ وَامْتِنَاعِهِ عَنْ السُّجُودِ لِآدَمَ لَا لِكَوْنِهِ كَذَّبَ خَبَرًا. وَكَذَلِكَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14]، وَقَالَ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ [الإسراء:102]، بَعْدَ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إسْرَائِيلَ إذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء:101-102].
فَمُوسَى وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ يَقُولُ: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ [الإسراء:102].
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْآيَاتِ وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ خَلْقِ اللَّهِ عِنَادًا وَبَغْيًا لِفَسَادِ إرَادَتِهِ وَقَصْدِهِ لَا لِعَدَمِ عِلْمِهِ.
قَالَ تَعَالَى: إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص:4]، وَقَالَ تَعَالَى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14]. وَكَذَلِكَ الْيَهُودُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146].
وَكَذَلِكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33].
(الشرح)
فإن المؤلف رحمه الله بعد أن بين فيما سبق مُسمى الإيمان المطلق، والذي دلَّت، مسمى الإيمان المطلق في النصوص في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وأنه يشمل تصديق القلب وإقراره، وعمل القلب، والنطق باللسان، وعمل الجوارح، وأن هذا الذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وأجمع عليه سلف الأمة.
بيَّن مذهب جهم في الإيمان وأنه مَن أفسد قولٍ قيل في تعريف الإيمان، ومع ذلك فقد اتبعه على ذلك كثيرٌ مِن أهل الكلام، وأن.
وبيَّن المؤلف رحمه الله أن مذهبه أن مسمى الإيمان هو المعرفة، مجرد المعرفة والتصديق في القلب، مِن دون عملٍ، مِن دون عمل القلب وعمل الجوارح.
فقال رحمه الله: "وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ خَطَأُ قَوْلِ " جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ " وَمَنْ اتَّبَعَهُ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَعِلْمِهِ لَمْ يَجْعَلُوا أَعْمَالَ الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ" إذًا لم يجعلوا أعمال الجوارح مِن باب أولى، فهم ظنوا وتوهموا أن الإيمان مجرد تصديق القلب وعلمه، يعني مجرد المعرفة، ولم يجعلوا أعمال القلب مِن الإيمان كالإخلاص، إخلاص العمل لله، ومحبة الله ومحبة رسوله، وخوف الله ورجائه، والتوكل عليه والرغبة إليه والرهبة منه، لم يجعلوا هذا الأعمال القلوب من، لم يجعلوها مِن الإيمان.
كما أنهم لم يجعلوا أعمال الجوارح مِن الإيمان، ولهذا توهموا أن الإنسان إذا صدق بقلبه، وعلِم بقلبه؛ فإنه يُسمى مؤمن، ولو فعل نواقض الإسلام، ولو فعل جملةً مِن نواقض الإسلام.
ولهذا بين المؤلف رحمه الله أن هذا التوهم وهذا القول؛ مِن أفسد قولٍ قيل في تعريف الإيمان، حيث أنهم ظنوا أن الإنسان قد يفعل نواقض الإسلام وهو مؤمن؛ بسبب ما يوجد في قلبه مِن التصديق والمعرفة.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ خَطَأُ قَوْلِ " جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ " وَمَنْ اتَّبَعَهُ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَعِلْمِهِ لَمْ يَجْعَلُوا أَعْمَالَ الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ" هذا مذهب المرجئة، مذهب الجهم بن صفوان يُقال لهم: المرجئة، مرجئة الجهمية، ويُقال لهم: المرجئة المحضة، ويُقال لهم: المرجئة الغلاة، تفريقًا بينهم وبين مرجئة الفقهاء الذين يضمون إلى تصديق القلب قول اللسان، ويرون أيضًا أن أعمال الجوارح لابد منها وإن كانت لا تُسمَّى إيمانًا.
فهؤلاء الجهمية ظنوا أن الإنسان يكون مؤمن ولو فعل نواقض الإسلام، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ مُؤْمِنًا كَامِلَ الْإِيمَانِ بِقَلْبِهِ وَهُوَ مَعَ هَذَا يَسُبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُعَادِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُعَادِي أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَيُوَالِي أَعْدَاءَ اللَّهِ وَيَقْتُلُ الْأَنْبِيَاءَ وَيَهْدِمُ الْمَسَاجِدَ وَيُهِينُ الْمَصَاحِفَ وَيُكْرِمُ الْكُفَّارَ غَايَةَ الْكَرَامَةِ وَيُهِينُ الْمُؤْمِنِينَ غَايَةَ الْإِهَانَةِ" كيف يستقيم هذا؟
هذا لا يقوله مؤمن بالله ورسوله، يعني هذه كلها نواقض من نواقض الإسلام، يكفي واحد منها، إذا وُجد ناقض مِن نواقض الإسلام، فلا يمكن أن يجتمع مع الإيمان، فمن سب الله، أو سب رسوله، أو عادى الله ورسوله، أو عادى المؤمنين، فهذا، فقد فعل ناقضًا مِن نواقض الإسلام فلا يمكن أن يُسمى مؤمن.
كذلك مَن وَالَى أعداء الله، مَن قتل الأنبياء، مَن هدم المساجد، مَن أهان المصاحف، مَن أكرم الكفار، مَن أهان المؤمنين، كل هذه نواقض مِن نواقض الإسلام، فلا يمكن أن تكون مع الإيمان، ولا يمكن أن تجامع الإيمان، ولهذا فإن هذا التعريف، تعريف الإيمان عند الجهم، مِن أفسد، أفسدُ قولٍ في تعريف الإيمان.
وظنوا أن هذه النواقض، نواقض الإسلام، مجرد معاصي وأنها لا تنافي الإيمان الذي في القلب، ولهذا قال المؤلف رحمه الله في بيان مذهبهم، قالوا: " وَهَذِهِ كُلُّهَا مَعَاصٍ لَا تُنَافِي الْإِيمَانَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ بَلْ يَفْعَلُ هَذَا وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ عِنْدَ اللَّهِ مُؤْمِنٌ قَالُوا: وَإِنَّمَا ثَبَتَ لَهُ فِي الدُّنْيَا أَحْكَامُ الْكُفَّارِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ أَمَارَةٌ عَلَى الْكُفْرِ" يعني يقولون: حتى يعني إذا فعل هذه النواقض، وإن أُقيم عليه الحد، وإن قُتل، فلا يدل على أنه ليس بمؤمن.
بل إن هذه أمارة، أمارةٌ على الكفر، يُؤاخَذ بها في الدنيا، وقد يكون، وهو في الباطن إذا كان عنده تصديق القلب وعلمه؛ فإنه يكون مؤمنًا، يقول: "لِأَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ أَمَارَةٌ عَلَى الْكُفْرِ لِيُحْكَمَ بِالظَّاهِرِ كَمَا يُحْكَمُ بِالْإِقْرَارِ وَالشُّهُودِ وَإِنْ كَانَ الْبَاطِنُ قَدْ يَكُونُ بِخِلَافِ مَا أَقَرَّ بِهِ وَبِخِلَافِ مَا شَهِدَ بِهِ" يعني فلو شهِد الإنسان، أقر بشيءٍ أو شهد عليه الشهود، فإنه يُحكم بالإقرار والشهود، وإن كان خلاف الواقع.
قالوا: كذلك الإنسان إذا فعل هذه النواقض يُحكَم بها ويُقتل أخذًا بالأحكام؛ يعني لأن هذه الأحكام لابد مِن العمل بها؛ لأن هذه، يعني هذه الأعمال، لابد أن يُحكم بها في حكم الشرع الظاهر، بخلاف الإيمان، هكذا زعموا، وهذا مِن أبطل الباطل.
ومن فساد مذهبهم أنهم إذا "أُوْرِدَ عَلَيْهِمْ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ كَافِرٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُعَذَّبٌ فِي الْآخِرَةِ" يعني مَن سبَّ الله أو سبَّ الرسول عليه الصلاة والسلام، أو عادى الله، أو عادى أولياء الله، أو قتل الأنبياء، أو هدم المساجد، إذا أُورِد عليهم دلت النصوص على أن هذا كافر وأنه مخلَّد في النار، قالوا: "هَذَا دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ التَّصْدِيقِ وَالْعِلْمِ مِنْ قَلْبِهِ".
قالوا: هذا دليلٌ، يعني أمارة ودليل، على انتفاء التصديق والعلم مِن قلبه، يعني والمعوَّل إنما هو على التصديق والعلم، المعوَّل في ثبوت الإيمان وانتفائه على مجرد العلم والتصديق في القلب، فإذا سبَّ الله، أو سبَّ الرسول عليه الصلاة والسلام، أو وَالَى أعداء الله، أو قتل نبيًّا أو هدم مسجد، قالوا: هذا دليل على أن العلم زال مِن قلبه، والتصديق زال مِن قلبه، وهذا ليس مِن الصحيح.
هذا يناقض المحسوس، فإن الإنسان لا يزول العلم والتصديق مِن قلبه، هو عالِم مصدق ويفعل الأفعال الكفرية.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فَالْكُفْرُ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْجَهْلُ وَالْإِيمَانُ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْعِلْمُ أَوْ تَكْذِيبُ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقُهُ" يعني مذهب الجهمية: أن الإيمان مجرد ما في القلب مِن العلم والتصديق، والكفر هو الجهل، إذا جَهِل بقلبه ولم يعلم، ولم يعلم ربه بقلبه فإنه يكون كافرًا، أما إذا علم فإنه يكون مؤمنًا.
يقول: " فَإِنَّهُمْ مُتَنَازِعُونَ هَلْ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ شَيْءٌ غَيْرُ الْعِلْمِ أَوْ هُوَ هُوَ؟" يعني هل تصديق القلب هو العلم أو هو شيءٌ آخر؟ والأقرب أنهما يعني متقاربان، القول بأنهما شيءٌ واحد، قولٌ له وجاهته.
يقول المؤلف رحمه الله في بيان فساد هذا القول: " وَهَذَا الْقَوْلُ مَعَ أَنَّهُ أَفْسَدُ قَوْلٍ قِيلَ فِي " الْإِيمَانِ " فَقَدْ ذَهَبَ إلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ " أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُرْجِئَةِ" مع كونه قولًا فاسدًا ذهب إليه كثير مِن أهل الكلام والمرجئة.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَقَدْ كَفَّرَ السَّلَفُ - كَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ" شيخ الشافعي رحمه الله وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ، وَأَبِي عُبَيْدٍ القاسم بن سلام الهروي، وغيرهم مَن يقول بهذا القول، يعني كفَّروا مَن يقول بقول جهم: الإيمان هو مجرد العلم والتصديق، أنه لو فعل نواقض الإسلام فإنها لا تنافي الإيمان.
وقالوا: يعني في الرد في بطلان هذا القول والرد على أصحابه، قالوا: "إبْلِيسُ كَافِرٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ" الله تعالى أخبر، قال: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة:34]، "وَإِنَّمَا كُفْرُهُ بِاسْتِكْبَارِهِ وَامْتِنَاعِهِ عَنْ السُّجُودِ لِآدَمَ لَا لِكَوْنِهِ كَذَّبَ خَبَرًا" هو ما كَّذب خبر الله، تلقى أمر الله بالإباء والاستكبار، ولم يتلق أمر الله بالتكذيب، ولا هو معترف، تلقى أمر الله بالإباء والاستكبار والامتناع والرفض، ولم يتلق أمر الله بالتكذيب.
فهو مُصدِّق الخبر لكنه عنده إباء واستكبار، عارض أمر الله وأمر رسوله، وقاس قياسًا فاسدًا، عنده النص لما قال الله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ [البقرة:34]، بين الله أنه قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، اعتراض، لم يتلق أمر الله بالتكذيب، هو مصدق لكنه تلقى أمر الله بالإباء والاستكبار، والاعتراض على أمر الله ورسوله وقاس قياسًا فاسدًا.
هو يقول: كيف يسجد الفاضل للمفضول؟ عنصر آدم الطين، وعنصر إبليس النار، والنار خير مِن الطين، ولا يمكن أن يسجد الفاضل للمفضول، أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، فهو تلقى أمر الله بالإباء والاستكبار والرفض، ولم يتلق أمر الله بالتكذيب.
يقول المؤلف: " وَكَذَلِكَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14]" يعني فرعون وقومه لم يكذبوا، عندهم علم وتصديق، قال: وَاسْتَيْقَنَتْهَا استيقنتها نفوسهم وقلوبهم، إذًا عندهم يقين، ومع ذلك كفروا، لأنهم لم يتابعوا، لم يتابعوا رسول الله ﷺ ولم يؤمنوا برسول الله ﷺ ولم ينقادوا لشرع الله ودينه.
ولهذا قال الله: أو قال موسى عليه الصلاة والسلام لفرعون: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ [الإسراء:102] والعلم هو يقين القلب إذًا فرعون ليس عنده، لم، ليس عنده جهل، كما يقول الجهم، ولكن عنده علم وتصديق وإنما إباؤه بشيءٍ آخر، وإنما كفره بشيءٍ آخر وهو الإباء والاستكبار، وعدم الانقياد، لشرع الله واتباع رسوله عليه الصلاة والسلام.
بعده يقول المؤلف رحمه الله: يعني قال موسى لفرعون: لَقَدْ عَلِمْتَ بعد قوله: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إسْرَائِيلَ إذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء:101-102].
يقول المؤلف رحمه الله: " فَمُوسَى وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ يَقُولُ: لَقَدْ عَلِمْتَ" فأثبت أن فرعون عالِم، عنده علم، ليس عنده جهل، هذا فيه الرد على الجهم القائل: بأن الإيمان هو العلم، علم القلب، والكفر هو جهل القلب، فدل على أن فرعون كان عالِمًا بأن الله أنزل الآيات، وهو مِن أكبر خلق الله عنادًا وبغيًا بفساد إرادته وقصده لا لعدم علمه، إذًا كفر فرعون ليس بالجهل، عنده علم، ولكن بفساد القصد والإرادة، فساد القصد والإرادة، لم يرد الخير، ولم يرد الإيمان، ولم يرد الانقياد والمتابعة، ولم يرد العمل بشرع الله ودينه، لفساد إرادته.
القارئ: بماذا يؤولون علم فرعون وعلم إبليس وغيرهم المرجئة وأمثالهم؟
الشيخ: يقولون هذا الآن عدم الانقياد كما سبق، عدم الانقياد يدل على زوال العلم، يقولون هذا أمارة، أمارة على زوال العلم مِن قلبه.
القارئ: لكن اللفظ جاء مجازًا أنه علم
الشيخ: لاشك أنها، يقولون أقوال يعني أقوال المرجئة والجهمية في معارضتهم للنصوص أقوالٌ فاسدة، لاشك أنهم يؤولونها ويقولون مجاز، نقول: المجاز هذا مِن الأقوال الباطلة كما سبق.
يقول المؤلف رحمه الله: قال الله تعالى عن فرعون مبينًا فساد إرادته وقصده: إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص:4].
إذًا فرعون عنده فساد قصد وإرادة، عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ إذًا هو مُفسد، عنده فساد قصد وإرادة، وليس عنده جهل بربه، وقال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14].
وَكَذَلِكَ الْيَهُودُ الَّذِينَ لم ينقادوا لشرع الله ودينه، ولم يؤمنوا برسوله محمدًا ﷺ، ليس عندهم جهل، العلم موجود عندهم، ولكن الذي منعهم مِن الإيمان هو الحسد والبغي، وكذلك المشركين، مشركي مكة، يعلمون صدق النبي ﷺ، ولكن منعهم مِن ذلك العناد والجحد والبغي والحسد، قال الله تعالى عن اليهود: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]، يعني يعرفون النبي ﷺ، وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:146]، وقال عن المشركين: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ [الأنعام:33]، خطاب للرسول عليه الصلاة والسلام: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ، نعم.
(المتن)
فَهَؤُلَاءِ غَلِطُوا فِي أَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: ظَنُّهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ تَصْدِيقٍ وَعِلْمٍ فَقَطْ لَيْسَ مَعَهُ عَمَلٌ وَحَالٌ وَحَرَكَةٌ وَإِرَادَةٌ وَمَحَبَّةٌ وَخَشْيَةٌ فِي الْقَلْبِ؛ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ غَلَطِ الْمُرْجِئَةِ مُطْلَقًا، فَإِنَّ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ الَّتِي يُسَمِّيهَا بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ أَحْوَالًا وَمَقَامَاتٍ أَوْ مَنَازِلَ السَّائِرِينَ إلَى اللَّهِ، أَوْ مَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، كُلُّ مَا فِيهَا مِمَّا فَرَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَهُوَ مِنْ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ وَفِيهَا مَا أَحَبَّهُ، وَلَمْ يَفْرِضْهُ فَهُوَ مِنْ الْإِيمَانِ الْمُسْتَحَبِّ.
فَالْأَوَّلُ لَا بُدَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْهُ وَمَنْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فَهُوَ مِنْ الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَمَنْ فَعَلَهُ وَفَعَلَ الثَّانِيَ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ، وَذَلِكَ مِثْلُ حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَلْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، بَلْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ.
وَمِثْلَ: خَشْيَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ خَشْيَةِ الْمَخْلُوقِينَ وَرَجَاءِ اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ رَجَاءِ الْمَخْلُوقِينَ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ الْمَخْلُوقِينَ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ مَعَ خَشْيَتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق:32-33]، وَمِثْلَ الْحُبِّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضِ فِي اللَّهِ وَالْمُوَالَاةِ لِلَّهِ وَالْمُعَادَاةِ لِلَّهِ.
(الشرح)
نعم، المؤلف رحمه الله بيَّن غلط الجهمية في مُسمى الإيمان؛ وأنهم حينما عرفوا الإيمان بأنه مجرد علم القلب وتصديقه، غلِطوا في أصلين، أصَّلُوهما، الأصل الأول: أنهم ظنوا أن الإيمان إنما يحصل بالعلم المجرد، والمعرفة المجردة في القلب، دون عملٍ، دون أي عملٍ مِن أعمال، مِن أعمال القلوب.
فهذا الأصل الذي أصَّلوه، جعلهم يظنون أن الإيمان يكفي فيه مجرد تصديق القلب وعلمه، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَهَؤُلَاءِ غَلِطُوا فِي " أَصْلَيْنِ "أَحَدُهُمَا: ظَنُّهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ تَصْدِيقٍ وَعِلْمٍ فَقَطْ لَيْسَ مَعَهُ عَمَلٌ وَحَالٌ وَحَرَكَةٌ وَإِرَادَةٌ وَمَحَبَّةٌ وَخَشْيَةٌ فِي الْقَلْبِ" يعني نَفَوا أعمال القلوب، ولم يُدخِلوها في مسمى الإيمان.
محبة الله، ومحبة رسوله، وخشية الله وتقواه، إرادة فعل الخير، التوكل على الله، الرغبة والرهبة والخشية، كل هذه ظنوا أنها غير داخلةٍ في مسمى الإيمان.
يقول المؤلف: " وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ غَلَطِ الْمُرْجِئَةِ مُطْلَقًا" هذا مِن أعظم غلط المرجئة مطلقًا يعني جميع المرجئة، أهل الإرجاء الذين لم يُدخِلوا الأعمال في مسمى الإيمان، هذا مِن أعظم أغلاطهم، مِن أعظم أغلاطهم، مِن الغلط الذي غلطوه والأصل الذي أصَّلوه أن أعمال القلوب لا تدخل في مسمى الإيمان، هذا مِن أعظم أغلاطهم، وذلك أن أعمال القلوب لابد منها؛ لأن النصوص دلت على أن الله فرضها، في كتابه وعلى لسان رسوله ﷺ.
فالتوكل على الله، قال الله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23]، مِن أعمال القلوب، مع أعمال الجوارح والله تعالى جعله شرطًا في صحة الإيمان، وأثنى الله تعالى على المؤمنين في خوفهم ورجائهم، ومحبتهم لله ورسوله.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فَإِنَّ " أَعْمَالَ الْقُلُوبِ " الَّتِي يُسَمِّيهَا بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ أَحْوَالًا وَمَقَامَاتٍ أَوْ مَنَازِلَ السَّائِرِينَ إلَى اللَّهِ أَوْ مَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ كُلُّ مَا فِيهَا مِمَّا فَرَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهُوَ مِنْ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ وَفِيهَا مَا أَحَبَّهُ وَلَمْ يَفْرِضْهُ فَهُوَ مِنْ الْإِيمَانِ الْمُسْتَحَبِّ".
يعني أعمال القلوب منها ما هو فرض، ومنها ما هو مستحب، فالفرض لابد منه، لابد منه في الإيمان، والمستحب يكون، تبعًا يقول المؤلف رحمه الله: " فَالْأَوَّلُ لَا بُدَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْهُ وَمَنْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فَهُوَ مِنْ الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَمَنْ فَعَلَهُ وَفَعَلَ الثَّانِيَ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ" يعني أن الناس على طبقتين، المؤمنين على طبقتين؛ الطبقة الأولى: مَن أتى بالإيمان المستحب والواجب، فهؤلاء يُسمون المقربين وهم السابقون الأولون الذي أتوا، أدوا الواجبات والفرائض، أعمال القلوب وأعمال الجوارح، وأدوا النوافل مِن أعمال القلوب وأعمال الجوارح، هؤلاء هم السابقون المقربون، هم السابقون بالخيرات، وهم المقربون.
والطبقة الثانية: الذين اقتصروا على أداء الواجبات، مِن أعمال القلوب، وأداء الواجبات مِن أعمال الجوارح، ولم يكن عندهم نشاطٌ في فعل المستحبات والنوافل، مِن أعمال القلوب ومن أعمال الجوارح، هؤلاء يقال لهم: المقتصِدون، يقول: يُقال لهم: أصحاب اليمين، وكلٌّ مِن الطائفتين يدخل الجنة مِن أول وهلة، فضلًا مِن الله تعالى وإحسانًا، وإن كانت درجات السابقين أعلى.
فإن الناس يتفاوتون في منازلهم عند الله ، بحسب أعمالهم، وهناك طبقة ثالثة مِن المؤمنين: وهم الظالمون لأنفسهم، الذين قصَّروا في بعض الواجبات أو فعلوا بعض المحرمات مِن أعمال القلوب وأعمال الجوارح، فهؤلاء ظلموا أنفسهم بفعل المعاصي وإن كانوا مؤمنين ومصدقين، ولم يقع في عملهم شرك.
وهم مِن أهل الجنة؛ نهايتهم إلى الجنة لكنهم على خطر، منهم مَن يُعفى عنه، ويُغفر له، يغفر الله له بالتوحيد وإيمانه وإسلامه ومنهم مَن يُعذب، ومنه مَن تصيبه أهوال وشدائد في موقف القيامة، ومنهم مَن يُعذَّب في قبره، ومنهم مَن يُعذب في النار، ولكن نهايتهم ومآلهم إلى السلامة والخروج مِن النار ولا يُخلدون فيها.
فلهذا يقول المؤلف رحمه الله: "فَالْأَوَّلُ لَا بُدَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْهُ" يعني الواجب، " وَمَنْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فَهُوَ مِنْ الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَمَنْ فَعَلَهُ" يعني فعل الواجب، " وَفَعَلَ الثَّانِيَ "المستحب" كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ"، ثم مثَّل المؤلف رحمه الله قال: " وَذَلِكَ مِثْلُ حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَلْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا. حب الله ورسوله لابد منه، أصل حب الله ورسوله لابد منه، مَن لم يحب الله ورسوله فهو كافر، لكن كمال الإيمان أن يُقدِّم محبة الله ومحبة رسوله على محبة النفس والمال والأهل والولد.
فإن قدم شيئًا مِن ذلك على محبة الله ورسوله تعرَّض للعقوبة، في، إذا قدم شيئًا مِن الدنيا على محبة الله ورسوله فقصر في بعض الواجبات أو فعل بعض المحرمات، فعليه الوعيد الشديد، كما بين الله تعالى في كتابه في قوله: قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24].
بين الله سبحانه أن مَن قدم شيئًا مِن الأصناف الثمانية على محبة الله ورسوله والجهاد في سبيله عليه مِن الوعيد الشديد وهو مِن الفاسقين، فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ، والأصناف الثمانية الآباء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال والتجارة والمساكن.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَذَلِكَ مِثْلُ حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَلْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا بَلْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَمِثْلَ خَشْيَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ خَشْيَةِ الْمَخْلُوقِينَ وَرَجَاءِ اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ رَجَاءِ الْمَخْلُوقِينَ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ الْمَخْلُوقِينَ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ مَعَ خَشْيَتِهِ" كل هذه مِن أعمال القلوب، " كَمَا قَالَ تَعَالَى: هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق:32-33]، وَمِثْلَ الْحُبِّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضِ فِي اللَّهِ وَالْمُوَالَاةِ لِلَّهِ وَالْمُعَادَاةِ لِلَّهِ" كل هذه مِن أعمال القلوب، وقد تكون، ويكون لها صلة بأعمال الجوارح، نعم.
(المتن)
توقفنا عند قول المؤلف رحمه الله:
وَالثَّانِي: ظَنُّهُمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ حَكَمَ الشَّارِعُ بِأَنَّهُ كَافِرٌ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ فَإِنَّمَا ذَاكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ. وَهَذَا أَمْرٌ خَالَفُوا بِهِ الْحِسَّ وَالْعَقْلَ وَالشَّرْعَ، وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ طَوَائِفُ بَنِي آدَمَ السليمي الْفِطْرَةِ وَجَمَاهِيرُ النُّظَّارِ.
فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْرِفُ أَنَّ الْحَقَّ مَعَ غَيْرِهِ وَمَعَ هَذَا يَجْحَدُ ذَلِكَ لِحَسَدِهِ إيَّاهُ، أَوْ لِطَلَبِ عُلُوِّهِ عَلَيْهِ، أَوْ لِهَوَى النَّفْسِ، وَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ الْهَوَى عَلَى أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِ، وَيَرُدَّ مَا يَقُولُ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَهُوَ فِي قَلْبِهِ يَعْلَمُ أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ.
وَعَامَّةُ مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ عَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُمْ وَأَنَّهُمْ صَادِقُونَ، لَكِنْ إمَّا لِحَسَدِهِمْ وَإِمَّا لِإِرَادَتِهِمْ الْعُلُوَّ وَالرِّيَاسَةَ، وَإِمَّا لِحُبِّهِمْ دِينَهُمْ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ وَمَا يَحْصُلُ لَهُمْ بِهِ مِنْ الْأَغْرَاضِ كَأَمْوَالِ وَرِيَاسَةٍ وَصَدَاقَةِ أَقْوَامٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَيَرَوْنَ فِي اتِّبَاعِ الرُّسُلِ تَرْكَ الْأَهْوَاءِ الْمَحْبُوبَةِ إلَيْهِمْ، أَوْ حُصُولَ أُمُورٍ مَكْرُوهَةٍ إلَيْهِمْ فَيُكَذِّبُونَهُمْ وَيُعَادُونَهُمْ فَيَكُونُونَ مِنْ أَكْفَرِ النَّاسِ كإبليس وَفِرْعَوْنَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ وَالرُّسُلَ عَلَى الْحَقِّ.
وَلِهَذَا لَا يَذْكُرُ الْكُفَّارُ حُجَّةً صَحِيحَةً تَقْدَحُ فِي صِدْقِ الرُّسُلِ إنَّمَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ أَهْوَائِهِمْ كَقَوْلِهِمْ لِنُوحِ: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء:111].
وَمَعْلُومٌ أَنَّ اتِّبَاعَ الْأَرْذَلِينَ لَهُ لَا يَقْدَحُ فِي صِدْقِهِ؛ لَكِنْ كَرِهُوا مُشَارَكَةَ أُولَئِكَ كَمَا طَلَبَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ النَّبِيِّ ﷺ إبْعَادَ الضُّعَفَاءِ كَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وخباب بْنِ الْأَرَتِّ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَبِلَالٍ وَنَحْوِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ فِي الصَّحَابَةِ أَهْلُ الصُّفَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام:52-53].
وَمِثْلُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون:47]، وَقَوْلِ فِرْعَوْنَ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [الشعراء:18-19].
وَمِثْلَ قَوْلِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ: إنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا [القصص:57]، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا [القصص:57].
وَمِثْلَ قَوْلِ قَوْمِ شُعَيْبٍ لَهُ: أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ [هود:87]، وَمِثْلَ قَوْلِ عَامَّةِ الْمُشْرِكِينَ: إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23].
(الشرح)
فإن المؤلف رحمه الله يبيِّن غلط الجهمية في تعريفهم للإيمان؛ حينما عرَّفوا الإيمان بأنه علم القلب وتصديقه، وأخرجوا أعمال القلوب وأعمال الجوارح من مسمى الإيمان، بيَّن رحمه الله أن غلطهم، أنهم غلطوا في أصلين، وسبق الكلام على الأصل الأول في الحلقة الماضية، وأن الأصل الأول أنهم ظنوا أن الإيمان مجرد تصديقٍ وعلمٍ فقط مِن دون أعمال القلوب.
وأما الأصل الثاني الذي غلطوا فيه، بينه المؤلف رحمه الله هنا قال: "الثَّانِي: ظَنُّهُمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ حَكَمَ الشَّارِعُ بِأَنَّهُ كَافِرٌ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ فَإِنَّمَا ذَاكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ"، هذا الأصل الثاني ظنوا أن كل مَن حَكَم الشارع بأنه كافر مخلدٌ في النار، ظنوا أن سببه، أنه لم يكن في قلبه شيءٌ مِن العلم والتصديق.
فظنوا مثلًا أن مَن سبَّ الله وسبَّ رسوله لم يكن في قلبه شيءٌ مِن العلم والتصديق، ما عنده علم، ما عنده علمٌ بالله ورسوله، وكذلك أيضًا مَن استحلَّ أمرًا معلومًا مِن الدين بالضرورة، مَن وَالَى الكفار، ومن عادى المؤمنين، ومن لم يكن في قلبه حب الله ورسوله، كل هذا يظنون أنه، أنهم فعلوا ذلك؛ لأن ليس في قلوبهم العلم والتصديق.
يقول المؤلف رحمه الله: " وَهَذَا أَمْرٌ خَالَفُوا بِهِ الْحِسَّ وَالْعَقْلَ وَالشَّرْعَ وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ طَوَائِفُ بَنِي آدَمَ السليمي الْفِطْرَةِ وَجَمَاهِيرُ النُّظَّارِ" يعني هذا الأمر خرجوا فيه عن الأدلة بجميع أنواعها؛ لأن الدليل يكون مِن الحس ويكون مِن العقل ويكون مِن الشرع، فإن، فإنه معلومٌ لكل أحد، أن الإنسان، قد يفعل شيئًا مِن الأنواع الكفرية، يفعل نوعًا مِن أنواع الكفر، وأنواعًا مِن أنواع الكفر والتصديق موجودٌ في قلبه، والعلم موجودٌ في قلبه ما يزول.
كونه يفعل ناقضًا مِن نواقض الإسلام ما يدل على أنه ليس في قلبه العلم والتصديق، ما يلزم مِن هذا أن يكون مَن فعل مُكَفِّرًا أن يكون جاهلًا بقلبه، وأنه لم يكن، لم يعلم نبوة محمدٍ ﷺ، ولم يعلم وجوب توحيد الله وأن الله يجب إفراده بالعبادة، قد يفعل الكفر وهذا موجودٌ في قلبه، العلم موجودٌ في قلبه، وهذا معلوم عند الخاصَّة والعامة.
ولهذا قال المؤلف: " وَهَذَا أَمْرٌ خَالَفُوا بِهِ الْحِسَّ وَالْعَقْلَ وَالشَّرْعَ" يعني خالفوا الأدلة الشرعية وخالفوا الأدلة الحسية وخالفوا الأدلة العقلية، وخالفوا ما أجمع عليه طوائف بني آدم السليمي الفطرة؛ لأن العبرة بسليم الفطرة، أما مَن فطرت، مَن انتكست فطرته، وعميت بصيرته فلا عبرة به، تغير، جاء للفطرة ما يُغيِّرها، لكن إذا كانت الفطرة سليمة فإن كل إنسان يُدرك بفطرته أن الإنسان لا يزول الإيمان في، ولا العلم في قلبه ولو فعل الكفر، ولو فعل الشرك.
وأيضًا يقول المؤلف: خالفوا جماهير النُّظَّار، جماهير النُّظَّار الذين ينظُرُون في الأدلة، ويستدلون، ويكون دليلهم عن طريق النَّظَر والتأمُّل، فإن كل هؤلاء يعلمون أن الإنسان لا يزول العلم ولا التصديق مِن قلبه إذا فعل ناقضًا مِن نواقض الإسلام، أن الشارع قد يحكم على الشخص بأنه كافر وهو مُخلَّدٌ في النار، والعلم والتصديق موجودٌ في قلبه، هذا معلوم عند جميع طوائف بني آدم إلا مَن فسدت فطرته، ومعلومٌ عند جماهير النُّظَّار.
يقول المؤلف رحمه الله: " فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْرِفُ أَنَّ الْحَقَّ مَعَ غَيْرِهِ وَمَعَ هَذَا يَجْحَدُ ذَلِكَ لِحَسَدِهِ إيَّاهُ أَوْ لِطَلَبِ عُلُوِّهِ عَلَيْهِ أَوْ لِهَوَى النَّفْسِ" هذا معلوم عند الخاصة والعامة، أن الإنسان يعرف الحق مع غيره ولكن يجحد الحق، يَشْبُه، إما أنه يجحد الحق لأنه حسد عليه، يحسدونه عليه، يحسد صاحبه عليه؛ فلذلك يجحد الحق وإن كان يعلم أن معه الحق.
أو لطلب علوٍّ عليه، يريد أن يعلو عليه ولا يريد أن يكون له فضلٌ عليه، أو لهوًى في نفسه، ثم هذا الهوى يحمله على أن يتعدى عليه وأن يؤذيَ صاحبه بقولٍ أو بفعل، ولهذا قال المؤلف: " وَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ الْهَوَى عَلَى أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِ وَيَرُدَّ مَا يَقُولُ بِكُلِّ طَرِيقٍ وَهُوَ فِي قَلْبِهِ يَعْلَمُ أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ".
يقول المؤلف رحمه الله: " مَعَهُ وَعَامَّةُ مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ عَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُمْ وَأَنَّهُمْ صَادِقُونَ" وهذا هو الواقع، عامة مَن كذَّب الرسل يعلمون أن الحق معهم، وأنهم صادقون، لكن حملهم على التكذيب أمور.
منها الحسد، ومنها إرادة العلوّ، ومنها بقائهم على دينهم ومحبتهم لدينهم الذي كانوا عليه؛ كما قال النبي ﷺ لهرقل لما، ملك الروم، لما جمع قومه، بعد مقالة أبي سفيان، لما لقي أبا سفيان ومن معه وسأله الأسئلة التي تزيد على العشرة، ثم جمع أهل مملكته وبيَّن لهم أن النبي ﷺ هو رسول الله حقًّا وأن هذا هو النبي المنتظَر([9]).
وقال: هل لكم في سعة الدنيا والآخرة وأن يبقى لكم ملككم، وكان قد احتاط لنفسه وأغلق الأبواب، فلم يعجبهم قوله، وحاصوا إلى الأبواب حيصة الحمر يريدون أن ينقلبوا عليه ويقتلوه، لكنه قد احتاط لنفسه، أغلق الأبواب وجعل المفاتيح معه، فقال: ردوهم علي، فلما جلسوا، أخذوا أمكنتهم اطَّلع عليهم مِن فوق، مِن علو وقال: إنما قلت هذا الكلام لأختبر صبركم على دينكم وثباتكم عليه فسجدوا له، هذا آخر عمره فلما بلغ النبي ﷺ أمره، قال عليه الصلاة والسلام: ضَنَّ الخَبِيثُ بِمُلْكِه([10])، يعني بخل وشح، شح بملكه وآثر الدنيا على الآخرة، فهذا هرقل يعلم أن رسول الله، أنه رسول الله حقًّا وأنه على حق لكن منعه الشح والبخل بملكه وآثر الدنيا على الآخرة.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَعَامَّةُ مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ عَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُمْ وَأَنَّهُمْ صَادِقُونَ لَكِنْ إمَّا لِحَسَدِهِمْ وَإِمَّا لِإِرَادَتِهِمْ الْعُلُوَّ وَالرِّيَاسَةَ وَإِمَّا لِحُبِّهِمْ دِينَهُمْ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ وَمَا يَحْصُلُ لَهُمْ بِهِ مِنْ الْأَغْرَاضِ كَأَمْوَالِ وَرِيَاسَةٍ وَصَدَاقَةِ أَقْوَامٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيَرَوْنَ فِي اتِّبَاعِ الرُّسُلِ تَرْكَ الْأَهْوَاءِ الْمَحْبُوبَةِ إلَيْهِمْ أَوْ حُصُولَ أُمُورٍ مَكْرُوهَةٍ إلَيْهِمْ فَيُكَذِّبُونَهُمْ وَيُعَادُونَهُمْ"؛ لأن الالتزام بشرع الله ودينه يُقيِّدهم ويمنعهم مِن أهوائهم وشهواتهم الباطلة، ويمنعهم مِن العلو والفساد في الأرض وهم يريدون أن يفسدوا في الأرض، ويريدون أن تبقى لهم رئاستهم وأماكنهم وشهواتهم وكبرياءهم وعظمتهم، والإسلام يقيدهم ويمنعهم.
ولهذا كان أتباع الأنبياء في الغالب هم الضعفاء؛ لأنهم ليسوا عندهم مانع يمنعهم، بخلاف الكبراء والرؤساء وأصحاب المناصب والجاه والأموال؛ فإنه يمنعهم ما هم فيه مِن الرياسة والمآكل والأموال، يمنعهم مِن اتباع الرسل، ولهذا قال قوم نوح، قالوا: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا [هود:27].
كما بين المؤلف رحمه الله، وكذلك أيضًا أسفاف قريش قالوا للنبي ﷺ: اطرد هؤلاء الضعفاء حتى نتبعك، يعني سعد بن أبي وقاص وخباب بن الأرت، كما بين المؤلف رحمه الله، يقول المؤلف رحمه الله: " فَيَكُونُونَ مِنْ أَكْفَرِ النَّاسِ كإبليس وَفِرْعَوْنَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ وَالرُّسُلَ عَلَى الْحَقِّ" يعني ومع علمهم أن الرسل على الحق.
يقول المؤلف رحمه الله: " وَلِهَذَا لَا يَذْكُرُ الْكُفَّارُ حُجَّةً صَحِيحَةً تَقْدَحُ فِي صِدْقِ الرُّسُلِ إنَّمَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ أَهْوَائِهِمْ" يعني الكفرة حينما يُعادون الرسل ما يذكرون حجةً تقدح في صدق الرُّسُل، فهم معترفون بصدق الرسل، لكن يعتمدون على مخالفة أهوائهم، كقولهم لنوح: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء:111].
يقول المؤلف رحمه الله: "وَمَعْلُومٌ أَنَّ اتِّبَاعَ الْأَرْذَلِينَ لَهُ لَا يَقْدَحُ فِي صِدْقِه" هو صادق، كون الأرذلين يتبعونه لا يدل على كذبه، لكن يقول المؤلف: "لَكِنْ كَرِهُوا مُشَارَكَةَ أُولَئِكَ" كرهوا، الأنَفَة والكبرياء عندهم منعتهم مِن مشاركة الضعفاء، " كَمَا طَلَبَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ النَّبِيِّ ﷺ إبْعَادَ الضُّعَفَاءِ كَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وخباب بْنِ الْأَرَتِّ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَبِلَالٍ وَنَحْوِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ فِي الصَّحَابَةِ أَهْلُ الصُّفَّةِ"، أهل الصفة إنما كانوا في المدينة بعد الهجرة، قال: " فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام:52-53]" هذا يدل على أن منعهم مِن ذلك الحسد والأنَفَة والكبرياء مِن مشاركة الضعفاء.
يقول المؤلف رحمه الله: " وَمِثْلُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون:47]" ففرعون ما قابل موسى عليه الصلاة والسلام وهارون بتكذيب، وإنما قابله بالأنَفَة والكبر، قال: كيف نؤمن لبشرين مثلنا وهما موسى وهارون وقومهما لنا عابدون، أَنَفَة وكبرياء، أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا يعني موسى وهارون، مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ، ما يمكن.
وقول فرعون لموسى أيضًا: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ [الشعراء:18]، يعني كيف نتبعك ثمْ تربيت عندنا في البيت سنين، وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [الشعراء:19] يعني قتله القبطي، فأجاب موسى: قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء20-21].
يقول المؤلف: "وَمِثْلَ قَوْلِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ: إنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا [القصص:57]" يعني ما ذكروا حجةً تقدح في صدقه، قالوا: إنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا يعني العرب تتخطفنا، قال الله ردًّا عليهم: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا [القصص:57].
ومثاله أيضًا "مِثْلَ قَوْلِ قَوْمِ شُعَيْبٍ لَهُ: أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ [هود:87]" ما ذكروا شيئًا يقدح في صدقه وإنما هذا، وإنما المعارضة، عارضوا، وَمِثْلَ قَوْلِ عَامَّةِ الْمُشْرِكِينَ: إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23]، على أمَّة يعني على دين، الأمة لها معاني؛ إنا وجدنا آباءنا على دين وإنا على آثارهم مقتدون؛ لا يمكن أن نترك دين الآباء والأجداد، ولم يذكروا يعني شيء يعانوا منه مِن الرسل إلا أنهم اتبعوا الأجداد والآباء في الباطل، والأمة لها معاني تأتي بمعنى الجماعة وتأتي بمعنى الدين، نعم.
(المتن)
(الشرح)
نعم، المؤلف رحمه الله يقول: إن هذا الأمور التي عارض بها الكفرة الرسل؛ ليست حججًا تقدح في صدقهم، بل هي تدل على أنها، على أن الرسل خالفوا أهواءهم وإراداتهم وعاداتهم، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَهَذِهِ الْأُمُورُ" يعني التي عارض بها الكفرة الرسل، ليس، " وَأَمْثَالُهَا لَيْسَتْ حُجَجًا تَقْدَحُ فِي صِدْقِ الرُّسُلِ بَلْ تُبَيِّنُ أَنَّهَا تُخَالِفُ إرَادَتَهُمْ وَأَهْوَاءَهُمْ وَعَادَاتِهِمْ فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَّبِعُوهُمْ" فيكون عدم اتباعهم ليس مِن أجل زوال العلم والتصديق مِن القلب، بل مِن أجل الهوى، مخالفة الهوى والإرادة والعادة.
يقول المؤلف: " وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ كُفَّارٌ" كلهم كفار، الذين عارضوا الرسل ولم ينقادوا للرسل، ولم يتبعوهم كلهم كفار وإن اختلفت يعني معارضتهم للرسل، سواءٌ كان معارضتهم؛ لأنها تخالف الرياسة؛ أو تخالف الأهواء؛ أو لأنها تمنعهم مِن أن يفعلوا بأموالهم ما يشاؤون كما أخبر الله عن قوم شعيب، فكلهم كفار.
يقول المؤلف رحمه الله: " بَلْ أَبُو طَالِبٍ وَغَيْرُهُ كَانُوا يُحِبُّونَ النَّبِيَّ ﷺ وَيُحِبُّونَ عُلُوَّ كَلِمَتِهِ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ حَسَدٌ لَهُ وَكَانُوا يَعْلَمُونَ صِدْقَهُ وَلَكِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ فِي مُتَابَعَتِهِ فِرَاقَ دِينِ آبَائِهِمْ وَذَمَّ قُرَيْشٍ لَهُمْ فَمَا احْتَمَلَتْ نُفُوسُهُمْ تَرْكَ تِلْكَ الْعَادَةِ وَاحْتِمَالَ هَذَا الذَّمِّ" يعني أن الكافر قد يكون في قلبه العلم والتصديق، وقد يكون يُحب الداعية ويحب الرسول ويود أيضًا علوَّ دينه، ومع ذلك لا يكون مؤمنًا إذا لم ينقد لشرع الله ودينه، ولم يترك ما عليه مِن عبادة الأصنام والأوثان، ولم يشهد على، ولم يشهد بالكفر على ما كان عليه آباؤه وأجداده مِن الشرك، لابد مِن هذا.
فأبو طالب محبًّا للنبي ﷺ، ومدافعًا عنه، يؤويه، ويحميه ويدافع عنه، ويحب علو كلمته، ومع ذلك لم يكن مؤمنًا؛ لأنه لم يشهد؛ لأنه لم يحتمل ترك ما عليه الآباء والأجداد مِن عبادة الأصنام والأوثان، بل هو يعظم آباءه وأجداده، وما هم عليه مِن الشرك، فكان بذلك مستكبرًا عن عبادة الله وطاعة رسوله، وقد بين في قصيدته المعروفة أنه منعه مِن ذلك ما عليه الآباء والأجداد، ومن خوف الملامة، والسب والعار التي تُجرُّ على الأشياخ، ولهذا يقول في قصيدته المعروفة:
وَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِيْنَ مُحَمَّدٍ | مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ البَرِيَّةِ دِينًا |
لَوْلَا المَلَامَةُ أَوْ حَذَارِي سُبَّةٍ | لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينًا |
ولذا خفَّ كفره، أبو طالب، لما خفَّ كفره بسبب النصرة، ونصرته النبي ﷺ، خُفِّف عنه العذاب، شفع عنه، فيه النبي ﷺ شفاعة تخفيف، يُخفف عنه العذاب ويكون مِن أهون أهل النار عذابًا، وإن كان مُخلَّدًا في النار نعوذ بالله، جاء في الحديث الصحيح، في صحيح مسلم وغيره: أن النبي سئل وقيل له إن أبا طالب يحميك ويذود عنك فهل نفعته؟ قال: نَعَم وَجَدتُه فِي غَمَراتٍ مِن نَارٍ فَأخْرجتُه إِلَى ضَحْضَاحٍ مِنْهَا يَغلِي دِمَاغُه([11]). وفي لفظٍ: إِنَّ أَهوَن النَّارِ عَذابًا أَبُو طَالِب وَإِنَّه فِي ضَحْضَاحٍ مِنهَا يَغلِي مِنها دِمَاغُه([12])، وفي لفظٍ: إِنَّ أَهوَنَ أَهلِ النَّارِ عَذابًا لَرَجُلٌ فِي أَخْمَصَيهِ جَمْرَتَان يَغْلِي مِنهُما دِمَاغُه([13])، وفي لفظٍ: إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذابًا لَرَجُلٌ لَه شَرَاكَانِ مِن نَارٍ يغْلِي مِنهَا دِمَاغُه([14])، وهو يظن أنه أشد أهل النار عذابًا؛ بسبب ما يجد مِن الألم والعذاب، وهو في الواقع أخفهم، نسأل الله السلامة والعافية.
فيقول المؤلف رحمه الله: إن هؤلاء الذين لم ينقادوا لشرع الله ودينه، ولم يؤمنوا بالرسل، لم يتركوا العلم لعدم العلم والتصديق في قلوبهم، بل لهوى النفس.
قال المؤلف: " فَلَمْ يَتْرُكُوا الْإِيمَانَ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِصِدْقِ الْإِيمَانِ بِهِ؛ بَلْ لِهَوَى النَّفْسِ فَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّ كُلَّ كَافِرٍ إنَّمَا كَفَرَ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِاَللَّهِ" يعني كيف يقول الجهمية هذا؟
هذا مِن أبطل الباطل، نعم.
(المتن)
وَلَمْ يَكْفِ الْجَهْمِيَّة أَنْ جَعَلُوا كُلَّ كَافِرٍ جَاهِلًا بِالْحَقِّ، حَتَّى قَالُوا: هُوَ لَا يَعْرِفُ أَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ حَقٌّ، وَالْكُفْرُ عِنْدَهُمْ لَيْسَ هُوَ الْجَهْلُ بِأَيِّ حَقٍّ كَانَ؛ بَلْ الْجَهْلُ بِهَذَا الْحَقِّ الْمُعَيَّنِ.
وَنَحْنُ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ يَرَوْنَ خَلْقًا مِنْ الْكُفَّارِ يَعْرِفُونَ فِي الْبَاطِنِ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ حَقٌّ وَيَذْكُرُونَ مَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ، إمَّا مُعَادَاةُ أَهْلِهِمْ، وَإِمَّا مَالٌ يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ جِهَتِهِمْ يَقْطَعُونَهُ عَنْهُمْ، وَإِمَّا خَوْفُهُمْ إذَا آمَنُوا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمْ حُرْمَةٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ كَحُرْمَتِهِمْ فِي دِينِهِمْ.
وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ أَغْرَاضِهِمْ الَّتِي يُبَيِّنُونَ أَنَّهَا الْمَانِعَةُ لَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ حَقٌّ وَدِينَهُمْ بَاطِلٌ. وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ حَقٌّ يُوجَدُ مَنْ يَعْرِفُ بِقَلْبِهِ أَنَّهَا حَقٌّ وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ يَجْحَدُ ذَلِكَ وَيُعَادِي أَهْلَهُ لِظَنِّهِ أَنَّ ذَلِكَ يَجْلِبُ لَهُ مَنْفَعَةً وَيَدْفَعُ عَنْهُ مَضَرَّةً.
قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ [المائدة:51-53].
وَالْمُفَسِّرُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ قَوْمٍ مِمَّنْ كَانَ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَفِي قَلْبِهِ مَرَضٌ خَافَ أَنْ يَغْلِبَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ فَيُوَالِي الْكُفَّارَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ لِلْخَوْفِ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ؛ لَا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ مُحَمَّدًا كَاذِبٌ وَالْيَهُودَ وَالنَّصَارَى صَادِقُونَ.
وَأَشْهَرُ النُّقُولِ فِي ذَلِكَ: «أَنَّ عبادة بْنَ الصَّامِتِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي مَوَالِيَ مِنْ الْيَهُودِ وَإِنِّي أَبْرَأُ إلَى اللَّهِ مِنْ وِلَايَةِ يَهُودَ فَقَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي: لَكِنِّي رَجُلٌ أَخَافُ الدَّوَائِرَ وَلَا أَبْرَأُ مِنْ وِلَايَةِ يَهُودَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ»([15]).
(الشرح)
نعم، المؤلف رحمه الله يبيِّن فساد مذهب الجهمية في تعريف الإيمان وفي مسمى الإيمان، أن الجهمية لم يكتفوا بأن، بقولهم: إن كل كافر جاهلًّا بالحق، بل قالوا: هو لا يعرف أن الله موجود حق، فهذا يعني في بيان فساد مذهب الجهمية، وأنه فاسدٌ فسادًا إلى أبعد الحدود، لم يكتفوا بالقول بأن كل كافرٍ يجهل الحق، بل قالوا: إنه لا يعرف أن الله موجودٌ حق، كيف يقول هذا؟
كيف يقول هذا إنسان عاقل! ولهذا قال المؤلف: "وَلَمْ يَكْفِ الْجَهْمِيَّة أَنْ جَعَلُوا كُلَّ كَافِرٍ جَاهِلًا بِالْحَقِّ حَتَّى قَالُوا: هُوَ لَا يَعْرِفُ أَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ حَقٌّ وَالْكُفْرُ عِنْدَهُمْ لَيْسَ هُوَ الْجَهْلُ بِأَيِّ حَقٍّ كَانَ؛ بَلْ الْجَهْلُ بِهَذَا الْحَقِّ الْمُعَيَّنِ" يعني الجهل بأن الله موجود.
يقول المؤلف رحمه الله يبيِّن فساد هذا: "وَنَحْنُ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ يَرَوْنَ خَلْقًا مِنْ الْكُفَّارِ يَعْرِفُونَ فِي الْبَاطِنِ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ حَقٌّ وَيَذْكُرُونَ مَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْإِيمَان" يعني هذا أمرٌ معروف للخاصة والعامة، يقول: " وَنَحْنُ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ يَرَوْنَ خَلْقًا مِنْ الْكُفَّارِ يَعْرِفُونَ فِي الْبَاطِنِ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ حَقٌّ" وهذا هو الواقع مِن الكفرة، يعلمون أن دين الإسلام هو الحق لكن يذكرون أن هناك شيء يمنعهم مِن الأيمان، ما هو هذا الشيء؟
إما الحسد، وإما البغي، وإما ما هو فيه مِن الرياسة، وإما ما هو فيه مِن الأموال، وإما ما هو فيه مِن الكبرياء والعظمة مِن قِبَل الناس، هذا الذي يمنعهم، ليس المانع لهم أنهم لا يعرفون أن دين الإسلام هو الحق، بل هذه الأمور هي التي تمنعهم.
ولهذا قال المؤلف: "وَيَذْكُرُونَ مَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ إمَّا مُعَادَاةُ أَهْلِهِمْ وَإِمَّا مَالٌ يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ جِهَتِهِمْ يَقْطَعُونَهُ عَنْهُمْ وَإِمَّا خَوْفُهُمْ إذَا آمَنُوا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمْ حُرْمَةٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ كَحُرْمَتِهِمْ فِي دِينِهِمْ" يعني يزول ما هم فيه مِن العظمة والكبرياء، " وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ أَغْرَاضِهِمْ الَّتِي يُبَيِّنُونَ أَنَّهَا الْمَانِعَةُ لَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ حَقٌّ وَدِينَهُمْ بَاطِلٌ. وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ حَقٌّ يُوجَدُ مَنْ يَعْرِفُ بِقَلْبِهِ أَنَّهَا حَقٌّ وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ يَجْحَدُ ذَلِكَ" يقول: هذا ليس خاصًّا بالإيمان، بل حتى في غير الإيمان، تجد بعض الناس يعرف الحق ثم يجحده لأسباب، ويعادي أهله لظنه أن ذلك يجلب له منفعة، ويدفع عنه مضرة.
ثم استدلّ بقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ [المائدة:51-53]
فهذه الآية يقول المؤلف رحمه الله: "وَالْمُفَسِّرُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ قَوْمٍ مِمَّنْ كَانَ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَفِي قَلْبِهِ مَرَضٌ خَافَ أَنْ يَغْلِبَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ فَيُوَالِي الْكُفَّارَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ" هو يعلم أن دين الإسلام هو الحق، لكن في قلبه مرض؛ فخشي أن يُغلَب أهل الإسلام، وينتصر اليهود والنصارى، فتجده يوالي اليهود والنصارى، يواليهم: يجعل معهم يده، حتى إذا صارت الدائرة لهم، صار له عندهم يد، ولو صارت الدائرة عند المسلمين صار عندهم يد.
فهو مذبذب لعدم ثبات الإيمان في قلبه، لوجود المرض في قلبه؛ ولهذا قال: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وهذا مرض النفاق والشك، يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ يقولون: نخشى أن تكون الدائرة على اليهود والنصارى، فنحن نواليهم، حتى يكون معنا، معهم يد، إذا غلبوا، وإن غلب المسلمون صارت لنا معهم يد.
يقول الأخ: قال الله ردًّا عليهم: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ
يقول المؤلف رحمه الله: هؤلاء إنما فعلوا ذلك لا لكونهم لا يعلمون صدق الرسل؛ بل لمرضٍ في قلوبهم، للخوف الذي في قلوبهم، لا لاعتقادهم أن محمدًا كاذب، واليهود والنصارى صادقون.
ثم بين أن هذه، المؤلف رحمه الله أشهر النقول في ذلك، أنها نزلت في عُبادة بن الصامت وعبد الله بن أُبَيّ، فعبادة بْنَ الصَّامِتِ «قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي مَوَالِيَ مِنْ الْيَهُودِ وَإِنِّي أَبْرَأُ إلَى اللَّهِ مِنْ وِلَايَةِ يَهُودَ فَقَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي –وهو رئيس المنافقين-: لَكِنِّي رَجُلٌ أَخَافُ الدَّوَائِرَ وَلَا أَبْرَأُ مِنْ وِلَايَةِ يَهُودَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ»([16])، عبد الله بن أُبَيّ منافق يقول: أنا أخاف الدوائر، أخاف أن تكون الدائرة لليهود فلا أتبرأ منهم لمرض في قلبه وهو رئيس المنافقين نسأل الله السلامة والعافية، نعم.
([1]) – أخرجه البخاري رقم: (52) ،ومسلم رقم: (1599) من حديث النعمان بن بشير .
([2]) – أخرجه معمر بن راشد في جامعه رقم:(985).
([3]) – سبق تخريجه (....)
([4]) - سبق تخريجه (....)
([5]) – سبق تخريجه ) )
([6]) - سبق تخريجه (....)
([7]) –قال الحافظ العراقي: رواه الحكيم الترمذي في النوادر من حديث أبي هريرة بسند ضعيف والمعروف أنه من قول سعيد بن المسيب رواه ابن أبي شيبة في المصنف وفيه رجل لم يسم اهـ. ينظر تخريج أحاديث إحياء علوم الدين (1/ 339).وقال في طرح التثريب (2/373): فيه سليمان بن عمرو مجمع على ضعفه.
([8]) –سبق تخريجه (...)
([9]) – أخرجه البخاري رقم (7) من حديث بن عباس رضي الله عنهما ، في محاورة هرقل مع أبي سفيان.
([10]) –؟؟؟؟؟؟
([11]) – أخرجه مسلم رقم (209) من حديث العباس بن عبد المطلب .
([12]) – أخرجه البخاري رقم (3885) ومسلم رقم(210) من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ : لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ، يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ.
([13]) – أخرجه البخاري رقم (6562) ومسلم رقم(213) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما .
([14]) – أخرجه مسلم رقم (213) من حديث من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
([15]) – أخرجه ابن جرير في تفسيره (8/504)
([16]) –سبق تخريجه (000)