شعار الموقع
  1. الصفحة الرئيسية
  2. الدروس العلمية
  3. العقيدة
  4. شرح كتاب الإيمان الكبير
  5. شرح كتاب الإيمان الكبير_24 من قوله وَالْمُرْجِئَةُ الَّذِينَ قَالُوا الْإِيمَانُ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَقَوْلُ اللِّسَانِ... - إلى فَصْلٌ الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ غَلَطِ الْمُرْجِئَةِ

شرح كتاب الإيمان الكبير_24 من قوله وَالْمُرْجِئَةُ الَّذِينَ قَالُوا الْإِيمَانُ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَقَوْلُ اللِّسَانِ... - إلى فَصْلٌ الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ غَلَطِ الْمُرْجِئَةِ

00:00
00:00
تحميل
118

(المتن)

توقفنا عند قول المؤلف رحمه الله:

وَالْمُرْجِئَةُ الَّذِينَ قَالُوا: الْإِيمَانُ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَقَوْلُ اللِّسَانِ وَالْأَعْمَالُ لَيْسَتْ مِنْهُ كَانَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ وَعُبَّادِهَا؛ وَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُمْ مِثْلَ قَوْلِ جَهْمٍ؛ فَعَرَفُوا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْإِيمَانِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ.

وَعَرَفُوا أَنَّ إبْلِيسَ وَفِرْعَوْنَ وَغَيْرَهُمَا كُفَّارٌ مَعَ تَصْدِيقِ قُلُوبِهِمْ لَكِنَّهُمْ إذَا لَمْ يُدْخِلُوا أَعْمَالَ الْقُلُوبِ فِي الْإِيمَانِ لَزِمَهُمْ قَوْلُ جَهْمٍ وَإِنْ أَدْخَلُوهَا فِي الْإِيمَانِ لَزِمَهُمْ دُخُولُ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ أَيْضًا فَإِنَّهَا لَازِمَةٌ لَهَا وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ حُجَجٌ شَرْعِيَّةٌ بِسَبَبِهَا اشْتَبَهَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَّقَ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ؛ فَقَالَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:277].

وَرَأَوْا أَنَّ اللَّهَ خَاطَبَ الْإِنْسَانَ بِالْإِيمَانِ قَبْلَ وُجُودِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجمعة:9].

وَقَالُوا: لَوْ أَنَّ رَجُلًا آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ ضَحْوَةً وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَعْمَالِ مَاتَ مُؤْمِنًا وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ.

وَقَالُوا: نَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ كُلَّمَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةً وَجَبَ التَّصْدِيقُ بِهَا فَانْضَمَّ هَذَا التَّصْدِيقُ إلَى التَّصْدِيقِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ؛ لَكِنْ بَعْدَ كَمَالِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مَا بَقِيَ الْإِيمَانُ يَتَفَاضَلُ عِنْدَهُمْ بَلْ إيمَانُ النَّاسِ كُلِّهِمْ سَوَاءٌ؛ إيمَانُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَإِيمَانُ أَفْجَرِ النَّاسِ كَالْحَجَّاجِ وَأَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا.

وَالْمُرْجِئَةُ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْهُمْ وَالْفُقَهَاءُ مِنْهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْأَعْمَالَ قَدْ تُسَمَّى إيمَانًا مَجَازًا لِأَنَّ الْعَمَلَ ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ وَمُقْتَضَاهُ وَلِأَنَّهَا دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَيَقُولُونَ: قَوْلُهُ ﷺ: الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَفْضَلُهَا قَوْلُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ([1]): مَجَازٌ.

(الشرح)

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فالمؤلف رحمه الله يبيِّن في هذا المقطع الذي سمعنا قراءته: مذهب المرجئة في الإيمان، مذهب مرجئة الفقهاء، وهم الذين يقولون: الإيمان تصديقٌ بالقلب وقولٌ باللسان، قد سبق في الحلقة الماضية والتي قبلها: أن بيَّن المؤلف رحمه الله مذهب جهم في الإيمان وبين خطأه، وهو أن الإيمان عندهم مجرد تصديق القلب وعلمه، ولم يجعلوا أعمال القلوب مِن الإيمان ولا أعمال الجوارح.

 ثم بيَّن هنا، بيَّن المؤلف رحمه الله مذهب مرجئة الفقهاء، وهم الذين يقولون: إن الإيمان شيئان: تصديق القلب، وقول اللسان، والأعمال ليست داخلةً في مسمى الإيمان.

 ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَالْمُرْجِئَةُ الَّذِينَ قَالُوا: الْإِيمَانُ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَقَوْلُ اللِّسَانِ وَالْأَعْمَالُ لَيْسَتْ مِنْهُ كَانَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ وَعُبَّادِهَا" وهم الذين يُقال لهم مرجئة الفقهاء، يقول المؤلف رحمه الله: " وَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُمْ مِثْلَ قَوْلِ جَهْمٍ" يعني هناك فرق بين قول مرجئة الفقهاء وقول جهم بن صفوان.

 فجهم، فالجهم يرى أن الإيمان هو مجرد ما في القلب وإن لم يتكلم بلسانه، وأما مرجئة الفقهاء فإنهم يقولون: لابد أن يتكلم بلسانه، مع ما في قلبه.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله في بيان الفرق بين مذهب جهم ومذهب مرجئة الفقهاء، قال: "؛ فَعَرَفُوا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْإِيمَانِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ" يعني مرجئة الفقهاء.

 هذا فرقٌ بينهم وبين مذهب المرجئة، فالمرجئة يقولون: يكون مؤمنًا ولو لم يتكلم بلسانه، وأما مرجئة الفقهاء " فَعَرَفُوا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْإِيمَانِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ" إذا كان قادرًا، أما إذا كان أخرس، هذا يكون معذور، لكن إذا كان قادرًا لابد أن ينطق بلسانه، ولابد أن يتكلم بما في قلبه، ولا يُحكم له بالإيمان حتى يتكلم.

 يقول المؤلف رحمه الله: ". وَعَرَفُوا أَنَّ إبْلِيسَ وَفِرْعَوْنَ وَغَيْرَهُمَا كُفَّارٌ مَعَ تَصْدِيقِ قُلُوبِهِمْ" أيضًا هذا فارق بين مذهب مرجئة الفقهاء وبين مذهب جهم؛، فإن مذهب جهم يَلزَمُه أن يكون إبليس وفرعون وغيرهما كفار، مؤمنون؛ لأن قلوبهم مصدقة، هذا لازمٌ على مذهب الجهم.

 أما مرجئة الفقهاء، فإن إبليس وفرعون عندهم كفار، مع تصديق قلوبهم، لأنهم لم يتكلموا بألسنتهم، ولا يكفيهم مجرد ما في القلب.

يقول المؤلف رحمه الله في بيان إلزامه لمرجئة الفقهاء بإدخال الأعمال: يقول: "لَكِنَّهُمْ إذَا لَمْ يُدْخِلُوا أَعْمَالَ الْقُلُوبِ فِي الْإِيمَانِ لَزِمَهُمْ قَوْلُ جَهْمٍ" يعني مِن باب الإلزام، يعني إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان، لزمهم أن يكون مذهبهم هو مذهب جهم؛ لأن مذهب جهم هو تصديق القلب وعلمه.

 فإذا قالوا: إن الإيمان هو تصديق القلب وعلمه مع الإقرار باللسان، ولم يُدخلوا أعمال القلوب، لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم أعمال الجوارح أيضًا؛ فإنها لازمة لها، فالمؤلف رحمه الله يُلزِم مرجئة الفقهاء بإدخال أعمال القلوب وأعمال الجوارح.

 فيقول: إن هناك فرق بين مذهب مرجئة الفقهاء وبين مذهب جهم، فإن جهم يرى أن الإيمان مجرد تصديق القلب وعلمه، وأما مرجئة الفقهاء فإنهم يرون أن الإيمان شيئان؛ تصديق القلب وإقرارٌ باللسان، ثم بعد ذلك يُلزمهم فيقول: إن لم يُدخلوا أعمال القلوب في مسمى الإيمان؛ فإنه يَلزمهم قول جهم، وإن أدخلوا أعمال القلوب في مسمى الإيمان لزمهم إدخال أعمال الجوارح، فهذا مِن باب الإلزام.

 ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " لَكِنَّهُمْ إذَا لَمْ يُدْخِلُوا أَعْمَالَ الْقُلُوبِ فِي الْإِيمَانِ لَزِمَهُمْ قَوْلُ جَهْمٍ وَإِنْ أَدْخَلُوهَا فِي الْإِيمَانِ لَزِمَهُمْ دُخُولُ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ أَيْضًا فَإِنَّهَا لَازِمَةٌ لَهَا".

ثم بيَّن المؤلف رحمه الله أن مرجئة الفقهاء لهم حجج شرعية؛ ليسوا كالجهمية، وإن كان المؤلف رحمه الله ألزمهم بإدخال أعمال القلوب وأعمال الجوارح، لكنهم لهم حججٌ شرعية بخلاف الجهمية، فليس لهم حججٌ شرعية.

 ذكر المؤلف رحمه الله: ثلاث حُجج مِن حُجج مرجئة الفقهاء، يقول: "اشتبه الأمر عليهم بسبب أنهم تعلقوا ببعض النصوص الشرعية ولم يفهموها على حقيقتها، ولم يجمعوا بينها وبين النصوص، ذكر الحُجة الأولى قال: " فَإِنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَّقَ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ؛ فَقَالَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:277]".

 هذه الحجة الأولى، الحجة الأولى مِن حجج مرجئة الفقهاء الذين لم يدخلوا الأعمال في مسمى الإيمان: أنهم رأوا أن الله تعالى قد فرَّق في كتابه العظيم بين الإيمان والعمل، فقال في غير موضع: إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.

 ثم ذكر الحجة الثانية، فقال: وَرَأَوْا أَنَّ اللَّهَ خَاطَبَ الْإِنْسَانَ بِالْإِيمَانِ قَبْلَ وُجُودِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6] الآية، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجمعة:9]، هذه شبهة ثانية.

 وذلك أن الله تعالى خاطب المؤمنين بالعمل قبل أن يعملوا، خاطبهم بالعمل قبل أن يؤمنوا، قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خاطبهم بالإيمان ولكن طلب منهم العمل، خاطبهم بالإيمان، ناداهم باسم الإيمان وطلب منهم العمل قبل أن يعملوا، فلما خاطبهم بالإيمان قبل أن يعملوا، وطلب منهم العمل، وأمرهم بالعمل قبل أن يعملوا؛ دل على أن الأعمال غير داخلةٍ في مسمى الإيمان، هذه شبهتهم.

 قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا طلب منهم العمل مع أنه ناداهم باسم الإيمان، قبل أن يعملوا، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ.

 ثم ذكر الشبهة الثالثة، فقال: "وَقَالُوا: لَوْ أَنَّ رَجُلًا آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ ضَحْوَةً وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَعْمَالِ مَاتَ مُؤْمِنًا وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ" دلت هذه الحجج الثلاث: على أن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان.

 الشبهة الثالثة، يقول: "لَوْ أَنَّ رَجُلًا آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ ضَحْوَةً" ولم يتمكن مِن العمل آمن في الضحى قبل أن يأتي وقت الظهر، آمن في الضحى ثم مات قبل أن تأتي صلاة الظهر، هذا مات قبل أن يعمل وهو مِن أهل الجنة، قال: " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ".

 وقالوا أيضًا: يعني مرجئة الفقهاء، "نَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيد" فسَّروا بالزيادة، قالوا: "بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ كُلَّمَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةً وَجَبَ التَّصْدِيقُ بِهَا فَانْضَمَّ هَذَا التَّصْدِيقُ إلَى التَّصْدِيقِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ؛ لَكِنْ بَعْدَ كَمَالِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مَا بَقِيَ الْإِيمَانُ يَتَفَاضَلُ عِنْدَهُمْ" يعني يقولون: إن الإيمان يزيد بمعنى: أنه كلما أنزل الله آية، وجب التصديق بها والإيمان بها فتُضَم إلى الإيمان والتصديق السابق، فيزداد، فإذا أمر الله مثلًا بوجوب الصلاة، آمنوا بها فوجب الإيمان، أمر الله بوجوب، أمر الله بالحج فآمنوا بها فزاد إيمانهم، هذا هو الزيادة معهم.

 الزيادة عندهم، أن كلما أنزل الله آية، وجب التصديق بها فينضم هذا التصديق إلى التصديق الذي كان قبله، يقولون: " لَكِنْ بَعْدَ كَمَالِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مَا بَقِيَ الْإِيمَانُ يَتَفَاضَلُ بَلْ إيمَانُ النَّاسِ كُلِّهِمْ سَوَاءٌ؛ إيمَانُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَإِيمَانُ أَفْجَرِ النَّاسِ كَالْحَجَّاجِ" يعني الحجاج بن يوسف الذي أسرف في القتل، وهو فاسقٌ ظالم، " كَالْحَجَّاجِ وَأَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا".

 ثم قال المؤلف رحمه الله: بيَّن مذهب مرجئة الفقهاء في العمل، وإن العمل وإن كان مطلوب، يقولون: العمل مطلوب لكنه ليس مِن الإيمان، بخلاف المرجئة المحضة كالجهمية، يقولون: الأعمال ليست مطلوبة، لكن هؤلاء يقولون: العمل مطلوب، لكن لا نسميه إيمانًا.

 ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَالْمُرْجِئَةُ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْهُمْ وَالْفُقَهَاءُ مِنْهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْأَعْمَالَ قَدْ تُسَمَّى إيمَانًا مَجَازًا" لأنها ليست مِن الإيمان، لماذا؟

 يقولون: " لِأَنَّ الْعَمَلَ ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ وَمُقْتَضَاهُ" وثمرة الشيء غير الشيء، العمل مطلوب لكن ليست مِن الإيمان، لكنه ارتبط، ارتبط مع الإيمان، فالعمل ثمرة الإيمان ومقتضى الإيمان ودليلٌ على الإيمان، ولهذا قالوا: " لِأَنَّ الْعَمَلَ ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ وَمُقْتَضَاهُ وَلِأَنَّهَا دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَيَقُولُونَ: قَوْلُهُ" يعني قول النبي ﷺ في الحديث الصحيح: الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَفْضَلُهَا قَوْلُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ([2]).

 قالوا: هذا مجاز، يعني سمَّى الأعمال إيمانًا مجاز، لا حقيقة، لماذا سماها مجازًا؟ قال: لأنها ثمرة الإيمان، سُميت إيمانًا، لأنها ثمرة؛ لأن هناك صلة بينها وبين الإيمان، حيث لما كانت ثمرة الإيمان، ولما كانت دليلًا على الإيمان ومقتضى الإيمان، سماها إيمانًا لأنها مجاز، وإلا فليست داخلةً في مسمى الإيمان وإن كانت مطلوبة، نعم.

(المتن)

وَالْمُرْجِئَةُ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ مُجَرَّدُ مَا فِي الْقَلْبِ ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُدْخِلُ فِيهِ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ وَهُمْ أَكْثَرُ فِرَقِ الْمُرْجِئَةِ كَمَا قَدْ ذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ أَقْوَالَهُمْ فِي كِتَابِهِ وَذَكَرَ فِرَقًا كَثِيرَةً يَطُولُ ذِكْرُهُمْ لَكِنْ ذَكَرْنَا جُلَّةَ أَقْوَالِهِمْ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُدْخِلُهَا فِي الْإِيمَانِ كَجَهْمِ وَمَنْ اتَّبَعَهُ كالصالحي وَهَذَا الَّذِي نَصَرَهُ هُوَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مَنْ يَقُولُ: هُوَ مُجَرَّدُ قَوْلِ اللِّسَانِ وَهَذَا لَا يُعْرَفُ لِأَحَدِ قَبْلَ الكَرَّامِيَة.

وَالثَّالِثُ: تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَقَوْلُ اللِّسَانِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْعِبَادَةِ مِنْهُمْ وَهَؤُلَاءِ غَلِطُوا مِنْ وُجُوهٍ.

(الشرح)

نعم، هذا، بيَّن المؤلف رحمه الله في هذا أصناف المرجئة، قال: "وَالْمُرْجِئَةُ ثَلَاثَةُ أَصْنَاف" المرجئة مِن الإرجاء، وهو التأخر؛ لأنهم أخروا الأعمال فلم يدخلوها في مسمى الإيمان.

 فالقاسم المشترك بين أصناف المرجئة أنهم يُرجئون أعمال القلوب فلا يدخلونها في مسمى الإيمان؛ فلهذا سُمُّوا مرجئة، مِن الإرجاء، وهو التأخير، أخروا الأعمال فلم يدخلوها في مسمى الإيمان، هذا مُشتَرك بين طوائف المرجئة.

 فقال المؤلف رحمه الله: "وَالْمُرْجِئَةُ ثَلَاثَةُ أَصْنَاف":

الصنف الأول: "الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ مُجَرَّدُ مَا فِي الْقَلْبِ" وهذا يشمل الجهمية، ويشمل الماترودية والأشعرية، كلهم يقولون: الإيمان مجرد ما في القلب، فالجهمية يقولون: معرفة القلب وتصديقه، والماترودية والأشعرية يقولون: الإيمان تصديق القلب، فهذا يشمل طائفتين.

 يقول المؤلف رحمه الله: " ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُدْخِلُ فِيهِ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ وَهُمْ أَكْثَرُ فِرَقِ الْمُرْجِئَةِ كَمَا قَدْ ذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ أَقْوَالَهُمْ فِي كِتَابِهِ" في كتابه مقالات الإسلاميين، ذكر أن أكثر فرق المرجئة، يُدخلون أعمال القلوب، ومنهم مَن يُخرج أعمال القلوب مِن الإيمان.

 يقول: " وَذَكَرَ فِرَقًا كَثِيرَةً يَطُولُ ذِكْرُهُمْ لَكِنْ ذَكَرْنَا جُلَّةَ أَقْوَالِهِمْ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُدْخِلُهَا فِي الْإِيمَانِ كَجَهْمِ وَمَنْ اتَّبَعَهُ كالصالحي" أبو الحسين الصالحي مِن القدرية، لا يُدخلون الأعمال في مسمى الإيمان، يقولون: إن الإيمان مجرد تصديق القلب وعلمه، يقول المؤلف رحمه الله: "وَهَذَا" يعني قول الجهم والصالحي، " وَهَذَا الَّذِي نَصَرَهُ هُوَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ" يعني نصره أبو الحسن الأشعري، والحسن الأشعري نصر قول جهم؛ لأنه قال إن الإيمان تصديق القلب فقط، والتصديق المجرد يعسُر الفرق بينه وبين المعرفة؛ ولهذا قال: "وَهَذَا الَّذِي نَصَرَهُ هُوَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ".

 ثم قال المؤلف: " وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مَنْ يَقُولُ: هُوَ مُجَرَّدُ قَوْلِ اللِّسَانِ وَهَذَا لَا يُعْرَفُ لِأَحَدِ قَبْلَ الكَرَّامِيَة" القول الثاني؛ قول المرجئة الذين يقولون: الإيمان الإقرار باللسان فقط، سبق المؤلف ذكر قولهم، يقولون: الإيمان مجرد الإقرار باللسان، فمن أقرَّ بلسانه فهو مؤمن، وإن كان مكذبًا بقلبه فهو في الدرك الأسفل مِن النار، فهو منافق، فيقولون: هو مؤمن كامل الإيمان؛ لأنه أقر بلسانه، وهو مخلدٌ في النار؛ لكونه مكذبًا بقلبه، فجمعوا بين القولين، بين الأمرين المتناقضين.

والثالث: " تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَقَوْلُ اللِّسَانِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْعِبَادَةِ مِنْهُمْ" وهم مرجئة الفقهاء.

فالمؤلف رحمه الله: جعل المرجئة ثلاثة أصناف، ويمكن جعلهم أربعةً أيضًا، إذا قلنا: إن الإيمان مجرد ما في القلب: هذا يشمل طائفتين، يشمل قول الجهم وقول الماترودية والأشعرية، فالجهمية يقولون: إن الإيمان هو معرفة القلب، والماترودية والأشعرية يقولون: تصديق القلب، والثالث: قول الكرَّامية: أن الإيمان هو الإقرار باللسان، والرابع: قول مرجئة الفقهاء هو تصديق القلب وقول اللسان، نعم.

(المتن)

(أَحَدُهَا): ظَنُّهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ مُتَمَاثِلٌ فِي حَقِّ الْعِبَادِ وَأَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي يَجِبُ عَلَى شَخْصٍ يَجِبُ مِثْلُهُ عَلَى كُلِّ شَخْصٍ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ أَتْبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْإِيمَانِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَأَوْجَبَ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنْ الْإِيمَانِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ عَلَى غَيْرِهِمْ.

وَالْإِيمَانُ الَّذِي كَانَ يَجِبُ قَبْلَ نُزُولِ جَمِيعِ الْقُرْآنِ لَيْسَ هُوَ مِثْلَ الْإِيمَانِ الَّذِي يَجِبُ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، وَالْإِيمَانُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى مَنْ عَرَفَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ مُفَصَّلًا لَيْسَ مِثْلَ الْإِيمَانِ الَّذِي يَجِبُ عَلَى مَنْ عَرَفَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مُجْمَلًا، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ مِنْ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ، لَكِنْ مَنْ صَدَّقَ الرَّسُولَ وَمَاتَ عَقِبَ ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ غَيْرُ ذَلِكَ.

وَأَمَّا مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ وَالْأَحَادِيثُ وَمَا فِيهِمَا مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْأَوَامِرِ الْمُفَصَّلَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ التَّصْدِيقِ الْمُفَصَّلِ بِخَبَرِ خَبَرٍ وَأَمْرِ أَمْرٍ مَا لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إلَّا الْإِيمَانُ الْمُجْمَلُ لِمَوْتِهِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ شَيْءٌ آخَرُ.

(الشرح)

نعم، المؤلف رحمه الله يبيِّن في هذا غلط مرجئة الفقهاء؛ الذين يقولون: إن الإيمان هو تصديق القلب وقول اللسان، ولا يُدخلون أعمال الجوارح في مسمى الإيمان، بين أنهم غلِطوا مِن وجوه.

 فالوجه الأول مِن وجوه غلطهم: أنهم توهَّموا وظنُّوا أن الإيمان الذي فرضه الله على العباد متماثلٌ في حق العباد، هذا مِن أغلاطهم، ومن توهماتهم التي توهموا بها؛ أن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، التي بسببها قالوا أو قرروا: أن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، وأنهم ظنوا وتوهموا أن الإيمان الذي فرضه الله على العباد متماثلٌ في حق العباد، وأن الإيمان الذي يجب على شخص، يجب مثله على كل شخص، هذا الغلط الأول.

 ظنوا أن الإيمان الذي أوجبه الله على الناس، على العباد متماثل، كلهم سواء، أوجب الله عليهم شيئًا واحدًا، فيقول المؤلف رحمه الله: هذا غلط، وليس الأمر كذلك، فالإيمان الذي أوجب الله، فرضه الله على عباده متفاوت، يختلف باختلاف الأشخاص، باختلاف أحوالهم.

 ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فَإِنَّ أَتْبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْإِيمَانِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ": هذا فيه بيان أن الإيمان الواجب متفاوت، الذي، فأتباع الأنبياء السابقين، أوجب الله عليهم مِن الإيمان ما لم يوجبه على أمة محمد ﷺ، " وَأَوْجَبَ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنْ الْإِيمَانِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ عَلَى غَيْرِهِمْ"؛ لأن الشرائع تختلف، شرائع الأنبياء السابقين تختلف.

 وشرائع، قال الله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48]، فهناك أحكام في التوراة والإنجيل لا يجب علينا العمل بها، وإن كنا نؤمن بها، وكذلك في شريعة نبينا محمد ﷺ مِن الأعمال ما لم يكن واجبًا على الأمم السابقة، فدلَّ على أن الإيمان الواجب على الناس متفاوت.

 ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَالْإِيمَانُ الَّذِي كَانَ يَجِبُ قَبْلَ نُزُولِ جَمِيعِ الْقُرْآنِ لَيْسَ هُوَ مِثْلَ الْإِيمَانِ الَّذِي يَجِبُ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ" نعم، الإيمان الواجب على المسلم بعد نزول القرآن، يجب عليه أن يؤمن بالقرآن كله، وبما أنزل الله في القرآن مِن أحكام، أما قبل نزول القرآن جميعه؛ فإن الإنسان يجب عليه أن يؤمن بما نزل مِن القرآن، وأما الأحكامُ التي لم تنزل بعد؛ فلا يجب عليه.

 ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَالْإِيمَانُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى مَنْ عَرَفَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ مُفَصَّلًا لَيْسَ مِثْلَ الْإِيمَانِ الَّذِي يَجِبُ عَلَى مَنْ عَرَفَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مُجْمَلًا" يعني أيضًا هذا في بيان تفاوت الناس، فالذي عرف ما أخبر به الرسول مفصلًا عليه الصلاة والسلام، مثل أهل العلم الذين يعلمون التفاصيل كوسيلة للأحكام الشرعية، لا يجب على مَن عرف ذلك مجملًا مِن العامة ومن أشباههم.

 فإن العامة يجب عليهم أن يؤمنوا إيمانًا مجملًا، أوجب أن، أن الله أوجب عليهم أن يؤمنوا بالقرآن إجمالًا لكن تفاصيل، تفاصيل أحكام البيع والشراء والتجارات وغيرها هذه إنما يجب على أهل العلم، ولا يجب على العامة، لأنهم لا يدركون ذلك، فدل على أن الإيمان متفاوت، الإيمان الواجب متفاوت.

 ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ مِنْ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ" عليه الصلاة والسلام، " لَكِنْ مَنْ صَدَّقَ الرَّسُولَ أوَ مَاتَ عَقِبَ ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ غَيْرُ ذَلِكَ" مَن صدَّق الرسول إجمالًا، أو مات عقب التصديق، لم يجب عليه مِن الإيمان غير ذلك؛ لأن هذا هو الذي أوجبه الله عليه.

 ثم قال: "وَأَمَّا مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ وَالْأَحَادِيثُ وَمَا فِيهِمَا مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْأَوَامِرِ الْمُفَصَّلَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ التَّصْدِيقِ الْمُفَصَّلِ بِخَبَرِ خَبَرٍ وَأَمْرِ أَمْرٍ مَا لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إلَّا الْإِيمَانُ الْمُجْمَلُ لِمَوْتِهِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ شَيْءٌ آخَرُ" وهذا واضح، فالمسلم والمؤمن الذي بلغه القرآن والأحاديث والأخبار والأوامر المفصلة وعرفها؛ يجب عليه التصديق، يجب عليه التصديق المفصَّل، بكل خبر، كل خبر يجب عليه أن يؤمن به، وكل أمر يجب عليه أن يؤمن به، أما مَن لم، أما مَن مات قبل أن يبلغه التفاصيل والأوامر، وكذلك أيضًا مَن لم يبلغه إلا الإيمان المجمل، فهذا يجب عليه القدر، على قدر ما بلغه، فتبين بهذا أن الإيمان الواجب على الناس متفاوت، نعم.

(المتن)

وَأَيْضًا لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ عَاشَ فَلَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَامَّةِ أَنْ يَعْرِفَ كُلَّ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ، وَكُلَّ مَا نَهَى عَنْهُ، وَكُلَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ، بَلْ إنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ هُوَ، وَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ فَمَنْ لَا مَالَ لَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ أَمْرَهُ الْمُفَصَّلَ فِي الزَّكَاةِ.

وَمَنْ لَا اسْتِطَاعَةَ لَهُ عَلَى الْحَجِّ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ أَمْرَهُ الْمُفَصَّلَ بِالْمَنَاسِكِ، وَمَنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مَا وَجَبَ لِلزَّوْجَةِ، فَصَارَ يَجِبُ مِنْ الْإِيمَانِ تَصْدِيقًا وَعَمَلًا عَلَى أَشْخَاصٍ مَا لَا يَجِبُ عَلَى آخَرِينَ.

(الشرح)

نعم، وهذا أيضًا أمرٌ آخر يبيِّن فيه المؤلف رحمه الله أن الإيمان الواجب متفاوت، فيقول: "أيْضًا لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ عَاشَ"؛ يعني إنسان آمن بالرسول ﷺ، وعاش ولكنه مِن العامة، فإنه يجب عليه بقدر ما بلغه، فالعلماء يجب عليهم مِن الإيمان التفصيلي ما لا يجب على العامة.

 ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَ " أَيْضًا " لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ عَاشَ فَلَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَامَّةِ أَنْ يَعْرِفَ كُلَّ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَكُلَّ مَا نَهَى عَنْهُ وَكُلَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ بَلْ إنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ هُوَ وَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ" هو، ومثَّل بالأمثلة، " فَمَنْ لَا مَالَ لَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ أَمْرَهُ الْمُفَصَّلَ فِي الزَّكَاةِ": يعني الذي ليس عنده مال، ما يجب عليه أن يعرف أحكام الزكاة، ليس عنده مال، ومن عنده مال يجب عليه أن يعرف أحكام الزكاة.

 يعرف أنه يجب عليه أن يؤدي زكاة على المال إذا حال عليه الحول، وإذا بلغ النصاب، يعرف النصاب في الذهب، والنصاب في الفضة إذا كان عنده ذهب وفضة، يعرف النصاب في الإبل إذا كان عنده إبل، النصاب في السائمة والبقر، يجب عليه هذا، لأنه لا يتم أداء الواجب إلا بذلك.

 وكذلك أيضًا، مَن لم يكن مستطيعَا للحج، لا يجب عليه أن يتعلم المناسك، ومن وجب، ومن استطاع الحج، يجب عليه أن يتعلم المناسك، يجب عليه أن يعلم أنه يجب على، أنه عليه أن يحرم وأنه إذا وصل إلى الميقات وأنه يتجرد مِن المخيط إذا كان رجل، ويجب عليه أن يلبي ويلبي بالحج أو بالحج والعمرة، أو بهما معًا، لابد مِن هذا؛ لأنه لا يتم أداء الواجب إلا بذلك.

 فتبين بهذا أن الواجب متفاوت، وكذلك أيضًا مَن لم يتزوج، الأعزب، لا يجب عليه أن يعرف ما وجب للزوجة وحكم الزوجة مِن النفقة وغيرها، والمتزوج يجب عليه أن يعلم، حتى يؤدي ما أجب الله عليه مِن حكم الزوجة والأولاد.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: ". وَمَنْ لَا اسْتِطَاعَةَ لَهُ عَلَى الْحَجِّ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ أَمْرَهُ الْمُفَصَّلَ بِالْمَنَاسِكِ وَمَنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مَا وَجَبَ لِلزَّوْجَةِ فَصَارَ" هذه النتيجة، " فَصَارَ يَجِبُ مِنْ الْإِيمَانِ تَصْدِيقًا وَعَمَلًا عَلَى أَشْخَاصٍ مَا لَا يَجِبُ عَلَى آخَرِينَ" فالإيمان متفاوت، الإيمان الواجب تصديقًا وعملًا متفاوت، بحسب أحوال الناس.

(المتن)

وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: خُوطِبُوا بِالْإِيمَانِ قَبْلَ الْأَعْمَالِ.

فَنَقُولُ: إنْ قُلْتُمْ: إنَّهُمْ خُوطِبُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تَجِبَ تِلْكَ الْأَعْمَالُ فَقَبْلَ وُجُوبِهَا لَمْ تَكُنْ مِنْ الْإِيمَانِ وَكَانُوا مُؤْمِنِينَ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ مَا خُوطِبُوا بِفَرْضِهِ فَلَمَّا نَزَلَ إنْ لَمْ يُقِرُّوا بِوُجُوبِهِ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ.

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97].

وَلِهَذَا لَمْ يَجِئْ ذِكْرُ الْحَجِّ فِي أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ كَحَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ وَحَدِيثِ الرَّجُلِ النَّجْدِيِّ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ وَغَيْرُهُمَا وَإِنَّمَا جَاءَ ذِكْرُ الْحَجِّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَجِبْرِيلَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَجَّ آخِرُ مَا فُرِضَ مِنْ الْخَمْسِ فَكَانَ قَبْلَ فَرْضِهِ لَا يَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَلَمَّا فُرِضَ أَدْخَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْإِيمَانِ إذَا أُفْرِدَ وَأَدْخَلَهُ فِي الْإِسْلَامِ إذَا قُرِنَ بِالْإِيمَانِ وَإِذَا أُفْرِدَ وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَتَى فُرِضَ الْحَجُّ.

(الشرح)

نعم المؤلف رحمه الله أجاب على الشبهة الثانية والحجة الثانية مِن حُجج مرجئة الفقهاء، سبق أنه ذكر لهم ثلاث حُجج، وهذه هي الحجة الثانية، والشبهة الثانية، وهو قولهم: إن الله خاطب الإنسان بالإيمان قبل وجود الأعمال، يقول المؤلف رحمه الله: " وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: خُوطِبُوا بِالْإِيمَانِ قَبْلَ الْأَعْمَالِ. فَنَقُولُ: إنْ قُلْتُمْ: إنَّهُمْ خُوطِبُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تَجِبَ تِلْكَ الْأَعْمَالُ" نقول: " فَقَبْلَ وُجُوبِهَا لَمْ تَكُنْ مِنْ الْإِيمَانِ".

 قبل أن تجب لم تكن مِن الإيمان، لأنهم لا، الإنسان لا يُكَلَّف إلا بما علم، بما بلغه مِن كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، فقبل وجوبها لم تكن مِن الإيمان، وكانوا مؤمنين الإيمان الواجب عليهم قبل أن يفرض عليهم ما خوطبوا بفرضه، يعني إن قلتم: إنهم خوطبوا قبل أن تجب الأعمال نقول: قبل وجوبها لم تكن مِن الإيمان، إنما تكون مِن الإيمان لما فرضها الله عليهم، وبلغهم ذلك، فلما نزل، فلما نزلت وفُرِضت، فهم بين أحد أمرين، إما أن يُقِروا، أو لا يُقِروا، فإن لم يقروا بوجوبها لم يكونوا مؤمنين، وإن أقروا كانوا مؤمنين، وزاد إيمانهم بما أوجب الله عليهم.

يقول المؤلف رحمه الله: "وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]، وَلِهَذَا لَمْ يَجِئْ ذِكْرُ الْحَجِّ فِي أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ كَحَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ وَحَدِيثِ الرَّجُلِ النَّجْدِيِّ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ وَغَيْرُهُمَا وَإِنَّمَا جَاءَ ذِكْرُ الْحَجِّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَجِبْرِيلَ"

 المعنى الحج كان فرضه متأخر، فقبل أن يُفرَض لم يجب عليهم، لم يجب على الإنسان أن يؤمن به ولا أن يعمل به، ثم لما فُرِض، صار مِن الإيمان الواجب.

 يقول المؤلف رحمه الله: " وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَجَّ آخِرُ مَا فُرِضَ مِنْ الْخَمْسِ" يعني مِن الخمس أركان الإسلام الخمسة، " فَكَانَ قَبْلَ فَرْضِهِ لَا يَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ" قبل أن يُفرض لا يدخل، " فَلَمَّا فُرِضَ أَدْخَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْإِيمَانِ إذَا أُفْرِدَ" إذا أُفرِد الإيمان دخل فيه الحج، وكذلك " أُفْرِدَ وَأَدْخَلَهُ فِي الْإِسْلَامِ إذَا قُرِنَ بِالْإِيمَانِ وَإِذَا أُفْرِدَ" أيضًا، فيدخل الحج في الإيمان إذا أُفرِد، ويدخل في الإسلام إذا أُفرد، ويدخل في الإسلام أيضًا، إذا قُرِن بالإيمان، نعم.

(المتن)

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: مَنْ آمَنَ وَمَاتَ قَبْلَ وُجُوبِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ مَاتَ مُؤْمِنًا فَصَحِيحٌ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَالْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ وَجَبَ عَلَيْهِ بَعْدُ فَهَذَا مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْرَفَ فَإِنَّهُ تَزُولُ بِهِ شُبْهَةٌ حَصَلَتْ لِلطَّائِفَتَيْنِ.

فَإِذَا قِيلَ: الْأَعْمَالُ الْوَاجِبَةُ مِنْ الْإِيمَانِ. فَالْإِيمَانُ الْوَاجِبُ مُتَنَوِّعٌ لَيْسَ شَيْئًا وَاحِدًا فِي حَقِّ جَمِيعِ النَّاسِ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ يَقُولُونَ: جَمِيعُ الْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ وَاجِبُهَا وَمُسْتَحَبُّهَا مِنْ الْإِيمَانِ أَيْ مِنْ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ بِالمُسْتَحَبّاتِ. لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ.

وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ بِالمُسْتَحَبّاتِ كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: الْغُسْلُ يَنْقَسِمُ إلَى مُجْزِئٍ وَكَامِلٍ. فَالْمُجْزِئُ: مَا أَتَى فِيهِ بِالْوَاجِبَاتِ فَقَطْ. وَالْكَامِلُ: مَا أَتَى فِيهِ بِالمُسْتَحَبّاتِ. وَلَفْظُ الْكَمَالِ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْكَمَالُ الْوَاجِبُ.

وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْكَمَالُ الْمُسْتَحَبُّ.

(الشرح)

فقد سبق في الحلقة الماضية أن المؤلف رحمه الله بين مذهب مرجئة الفقهاء في مسمى الإيمان، وأنهم يرون أن الإيمان هو تصديق القلب والإقرار باللسان، وأنهم بهذا انفصلوا عن مذهب الجهمية: الذين يرون أن الإيمان هو مجرد ما في القلوب، وسبق أن المؤلف رحمه الله ألزمهم، ألزم مرجئة الفقهاء بإدخال الأعمال، أعمال القلوب في مسمى الإيمان.

 وقال: إن أدخلوا أعمال القلوب في مسمى الإيمان، إن لم يدخلوا أعمال القلوب في مسمى الإيمان فإنهم يلزمهم مذهب جهم، لا فرق بينهم وبين مذهب جهم، وإن أدخلوا أعمال القلوب في مسمى الإيمان فإنه يلزمهم إدخال أعمال الجوارح، إذ لا فرق بينهم، لكن عذَرَهم المؤلف وبيَّن أن لهم شُبَه وحُجج شرعية ذكرها وذُكِرت في الحلقة السابقة.

 وهو أن الله تعالى فرَّق في كتابه بين الإيمان والأعمال، وأن الله، وأن الإنسان، وأن الله خاطب الإنسان بالإيمان قبل وجود الأعمال، وأن الإنسان لو آمن ثم مات قبل العمل، فإنه يكون مؤمنًا ويكون مِن أهل الجنة.

 وفي هذا المقطع الذي قُرِئ يبيِّن المؤلف رحمه الله: الرد على شبهتهم الثالثة، وهي قولهم: "لَوْ أَنَّ رَجُلًا آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ ضَحْوَةً وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَعْمَالِ مَاتَ مُؤْمِنًا وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ".

المؤلف رحمه الله يقول: هذا الصحيح أن مَن آمن ومات قبل وجوب العمل مات مؤمنًا، "صَحِيحٌ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَالْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ وَجَبَ عَلَيْهِ بَعْدُ فَهَذَا مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْرَفَ فَإِنَّهُ تَزُولُ بِهِ شُبْهَةٌ حَصَلَتْ لِلطَّائِفَتَيْنِ".

 يعني هذا الذي آمن ثم مات قبل أن يعمل هذا أدَّى ما عليه؛ لأن العمل ما وجب عليه، لكنه مُتهيِّئ، عنده تَهيُّؤ واستعداد، حيث أنه لو جاء وقت العمل لعمل، لو أدرك وقت الصلاة لصلى، لكنه ما أدرك وقت الصلاة فيكون معذورًا؛ لأن العمل ما وجب عليه بعد.

 ويقول المؤلف رحمه الله: إذا عُرِف هذا زالت الشبهة التي حصلت للطائفتين، وهما مرجئة الفقهاء والجهمية والماترودية، الذين لا يُدخلون الأعمال في مسمى الإيمان، لو فهموا هذا تزول شبهتهم، وهو أن هذا الذي آمن ومات قبل أن يبلغ، قبل أن يعمل، معذور؛ لأنه لم يكن وجب عليه العمل، لم يأت وقته بعد، وقت العمل.

 لكن لو جاء وقت العمل ولم يعمل فإنه لا يكون معذورًا، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فَإِذَا قِيلَ: الْأَعْمَالُ الْوَاجِبَةُ مِنْ الْإِيمَانِ. فَالْإِيمَانُ الْوَاجِبُ مُتَنَوِّعٌ لَيْسَ شَيْئًا وَاحِدًا فِي حَقِّ جَمِيعِ النَّاسِ" هذا سبق أن الإيمان الواجب يختلف باختلاف أحوال الناس، فالعلماء الذين يعرفون التفاصيل الشريعة يجب عليهم مِن الإيمان التفصيلي ما لا يجب على العامة.

 ولهذا يقول المؤلف رحمه الله: " وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ يَقُولُونَ: جَمِيعُ الْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ وَاجِبُهَا وَمُسْتَحَبُّهَا مِنْ الْإِيمَانِ أَيْ مِنْ الْإِيمَانِ" يعني مِن الإيمان الكامل، "الْكَامِلِ بِالمُسْتَحَبّاتِ."  الإيمان جميع الأعمال الحسنة الواجب والمستحب، كلها مِن الإيمان الكامل بالمستحبات، يقول: ليست مِن الإيمان الواجب، " وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ بِالمُسْتَحَبّاتِ كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ".

 يعني هناك إيمانٌ كامل، واجب، إيمانٌ كاملٌ بالواجبات، وإيمانٌ كاملٌ بالمستحبات، فالإيمان الواجب والإيمان الكامل بالمستحبات، الإيمان الكامل بالواجبات والإيمان الكامل بالمستحبات، الإيمان الكامل بالواجبات هو الذي، هو المؤمن الذي أدى ما أوجب الله عليه مِن الأعمال، والإيمان الكامل بالمستحبات هو الذي زاد على ذلك وأتى بالنوافل والمستحبات، وهذا، وهو يُقال: يُقسم الإيمان إلى كامل بالواجبات، وكامل بالمستحبات، كما يُقسم الغُسل؛ فيقال: " الْغُسْلُ يَنْقَسِمُ إلَى مُجْزِئٍ وَكَامِلٍ. فَالْمُجْزِئُ: مَا أَتَى فِيهِ بِالْوَاجِبَاتِ فَقَطْ. وَالْكَامِلُ: مَا أَتَى فِيهِ بِالمُسْتَحَبّاتِ. وَلَفْظُ الْكَمَالِ" يقول المؤلف: " وَلَفْظُ الْكَمَالِ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْكَمَالُ الْوَاجِبُ. وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْكَمَالُ الْمُسْتَحَبُّ" وهذا واضح، نعم.

(المتن)

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ اللَّهَ فَرَّقَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ فِي مَوَاضِعَ فَهَذَا صَحِيحٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِيمَانَ إذَا أُطْلِقَ أَدْخَلَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِيهِ الْأَعْمَالَ الْمَأْمُورَ بِهَا.

وَقَدْ يُقْرَنُ بِهِ الْأَعْمَالُ وَذَكَرْنَا نَظَائِرَ لِذَلِكَ كَثِيرَةً. وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَ الْإِيمَانِ هُوَ مَا فِي الْقَلْبِ.

وَالْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ لَازِمَةٌ لِذَلِكَ. لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ إيمَانِ الْقَلْبِ الْوَاجِبِ مَعَ عَدَمِ جَمِيعِ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ بَلْ مَتَى نَقَصَتْ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ كَانَ لِنَقْصِ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ؛ فَصَارَ الْإِيمَانُ مُتَنَاوِلًا لِلْمَلْزُومِ وَاللَّازِمِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ مَا فِي الْقَلْبِ؛ وَحَيْثُ عُطِفَتْ عَلَيْهِ الْأَعْمَالُ فَإِنَّهُ أُرِيدَ أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِإِيمَانِ الْقَلْبِ بَلْ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.

(الشرح)

المؤلف رحمه الله يُجيب على شبهة، الشبهة الأولى لمرجئة الفقهاء، وهي قولهم: إن الله عطف العمل على الإيمان، فدلَّ على أن الأعمال، لما عطف الله العمل على الإيمان دَّل على أن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، يُجيب المؤلف رحمه الله عن هذه الشبهة فيقول: " وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ اللَّهَ فَرَّقَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ فِي مَوَاضِعَ فَهَذَا صَحِيحٌ".

 يعني فرق بينهما فعطف العمل على الإيمان، هذا صحيح، يقول: " وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِيمَانَ إذَا أُطْلِقَ أَدْخَلَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِيهِ الْأَعْمَالَ الْمَأْمُورَ بِهَا.

وَقَدْ يُقْرَنُ بِهِ الْأَعْمَالُ" الإيمان إذا أُطلِق دخل فيه الأعمال الواجبة والمستحبة، دخلت فعل الأوامر وترك النواهي، وإذا قُرِن بالأعمال، يقول: سبب ذلك؛ "أَنَّ أَصْلَ الْإِيمَانِ هُوَ مَا فِي الْقَلْبِ. وأن َالْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ لَازِمَةٌ له" و" لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ إيمَانِ الْقَلْبِ الْوَاجِبِ مَعَ عَدَمِ جَمِيعِ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ".

 ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِيمَانَ إذَا أُطْلِقَ أَدْخَلَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِيهِ الْأَعْمَالَ الْمَأْمُورَ بِهَا. وَقَدْ يُقْرَنُ بِهِ الْأَعْمَالُ وَذَكَرْنَا نَظَائِرَ لِذَلِكَ كَثِيرَةً. وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَ الْإِيمَانِ هُوَ مَا فِي الْقَلْبِ. وَالْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ لَازِمَةٌ لِذَلِكَ. لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ إيمَانِ الْقَلْبِ الْوَاجِبِ مَعَ عَدَمِ جَمِيعِ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ بَلْ مَتَى نَقَصَتْ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ كَانَ لِنَقْصِ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ".

 يعني المعنى أن العمل والإيمان متلازمان، ولا يمكن فِكاك أحدهما عن الآخر، فلا يمكن وجود الإيمان بدون العمل، ولا يمكن وجود الإيمان بدون عمل، وكذلك الأعمال لا تصح إلا بالإيمان، فكما أن الإيمان الذي في القلب لابد له مِن عملٍ يتحقق فيه فكذلك الأعمال، أعمال الجوارح، لابد لها مِن إيمانٍ يصححها.

 الأعمال لابد لها مِن إيمان يصححها والتصديق الذي في القلب لابد له مِن أعمالٍ تتحقق فيه، فهما متلازمان، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ إيمَانِ الْقَلْبِ الْوَاجِبِ مَعَ عَدَمِ جَمِيعِ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ بَلْ مَتَى نَقَصَتْ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ كَانَ لِنَقْصِ الْإِيمَانِ" إذا نقصت الأعمال نقص الإيمان الذي في القلب، وإذا كمُلت الأعمال، كمل الإيمان الذي في القلب.

 ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "؛ فَصَارَ الْإِيمَانُ مُتَنَاوِلًا لِلْمَلْزُومِ وَاللَّازِمِ" الملزوم هو ما في القلب، واللازم هي الأعمال، وإن كان أصله ما في القلب، وهذا هو معنى قول العلماء: إن جنس العمل واجب، جنس العمل واجب لابد منه، جنس العمل واجبٌ لابد منه، فلا يمكن أن يكون هناك إيمانٌ مِن دون عمل، لابد أن يكون هناك شيء مِن العمل يتحقق به هذا الإيمان، وإلا صار كإيمان إبليس وفرعون.

 إيمان إبليس وفرعون لا، إنما هو تصديقٌ في القلب، لم يتحقق في، بالعمل، ليس عندهما انقياد، وليس عندهما قبول، بل عندهما رفض وترك، ورد ومعارضة لأمر الله وأمر رسوله، إبليس عنده، عارض، قابل أمر الله بالاستكبار والرد والمعارضة، ولم يقابل أمر الله بالتكذيب، ما كذّب، ولكنه عارض أمر الله بالرد.

 قال: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، وكذلك فرعون قابل نبي الله موسى بالرفض والرد، قال: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون:47]، قال الله: فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ [المؤمنون:48]، فدلَّ على أنه لا يمكن أن ينفصل العمل، أن يكون هناك إيمانٌ مستقل عن العمل، لابد منه، جنس العمل لابد منه.

 لا يتحقق الإيمان الذي في القلب، التصديق الذي في القلب لا يتحقق إلا بالعمل، كما أن العمل الذي، أعمال الجوارح لا تصح إلا بإيمان في القلب، يصححها، وإلا صار كأعمال المنافقين، أعمال المنافقين يعملون بجوارحهم لكن ليس عندهم إيمانٌ يصححها.

 وإبليس وفرعون مصدقان بقلوبهم، لكن إيمانهم، لا، لم يتحقق بالعمل والانقياد، ليس عندهم انقياد ولا قبول ولا عمل، وهذا معنى قول المؤلف رحمه الله: " لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ إيمَانِ الْقَلْبِ الْوَاجِبِ مَعَ عَدَمِ جَمِيعِ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ بَلْ مَتَى نَقَصَتْ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ كَانَ لِنَقْصِ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ؛ فَصَارَ الْإِيمَانُ مُتَنَاوِلًا لِلْمَلْزُومِ وَاللَّازِمِ" يعني للملزوم وهو ما في القلب، واللازم وهي الأعمال، وإن كان أصله ما في القلب.

 ثم قال المؤلف رحمه الله: " وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ مَا فِي الْقَلْبِ؛ وَحَيْثُ عُطِفَتْ عَلَيْهِ الْأَعْمَالُ فَإِنَّهُ أُرِيدَ أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِإِيمَانِ الْقَلْبِ بَلْ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ" وهذه، البحث هذا يعني بحثٌ عظيم، وبه، هذا التحقيق وهذا البيان الذي بينه المؤلف رحمه الله تنجلي الغمة عن كثيرٍ مِن الشبه التي، أو الشبهة التي التبس فيها الأمر على كثيرٍ مِن الناس في هذا الزمن.

 يعني مسألة الإرجاء الآن غرَّبت وشرَّقت وانتشرت الآن وحصل فيها لبس، لبسٌ كثير، فلو تمَعَّنوا في كلام المؤلف رحمه الله، كلام شيخ الإسلام رحمه الله وما استدل به مِن الأدلة لزالت عنهم هذه الشُّبَهة، وأنه لابد من، لابد مِن الإيمان الذي في القلب مِن عملٍ يتحقق به وإلا صار كإيمان إبليس وفرعون، كما أن العمل الظاهر لابد له مِن إيمان يصححه وإلا صار كأعمال المنافقين، نعم.

القارئ: ولهذا بعض الأهواء جرتهم والعياذ بالله إلى أن يخرج بعضهم الآن يقول: حتى لو سمعت شخصًا يقول: إن الله ثالث ثلاثة، لا نحكم بكفره والعياذ بالله.

الشيخ: فَلْنَرُدَّ الأمرَ لله، اللهُ تَعَالَى صرَّح في القرآن الكريم، قال: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ [المائدة:73]، فالذي لا يكفِّر، مَن لم يكفِّر اليهود والنصارى فهو ليس بمؤمن، مِن نواقض الإسلام عدمُ تكفير الكافر، مَن لم يُكفِّر الكفار أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم فهو كافر مثلهم، نسأل الله العافية.

(المتن)

قال رحمه الله:

ثُمَّ لِلنَّاسِ فِي مِثْلِ هَذَا قَوْلَانِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْمَعْطُوفُ دَخَلَ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أَوَّلًا.

ثُمَّ ذَكَرَ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ تَخْصِيصًا لَهُ لِئَلَّا يَظُنَّ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْأَوَّلِ وَقَالُوا: هَذَا فِي كُلِّ مَا عُطِفَ فِيهِ خَاصٌّ عَلَى عَامٍّ كَقَوْلِهِ: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [البقرة:98]، وَقَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب:7]، وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [محمد:2]، فَخُصَّ الْإِيمَانُ بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:9]، وَهَذِهِ نَزَلَتْ فِي الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَوْلِهِ: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، وَقَوْلِهِ: وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ [البينة:5].

وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ مِنْ الْعِبَادَةِ فَقَوْلُهُ: آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة: 25]، كَقَوْلِهِ: وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ [البينة: 5].

فَإِنَّهُ قَصَدَ أَوَّلًا: أَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا لِغَيْرِهِ ثُمَّ أُمِرَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ لِيَعْلَمَ أَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ وَاجِبَتَانِ فَلَا يُكْتَفَى بِمُطْلَقِ الْعِبَادَةِ الْخَالِصَةِ دُونَهُمَا.

(الشرح)

نعم، المؤلف رحمه الله يحيب عما تعلق به مرجئة الفقهاء مِن عطف العمل على الإيمان، ويقول: إن عطف العمل على الإيمان للناس فيه قولان؛ جوابان:

الجواب الأول: هو جوابٌ مشهور؛ أن المعطوف داخلٌ في المعطوف عليه، ويكون المعطوف عليه ذُكِر مستقلًّا تخصيصًا بعد تعميم لأهميته، لئلا يُظَن أنه لم يدخل في الأول، وهذا قالوا: ويقولون: " هَذَا فِي كُلِّ مَا عُطِفَ فِيهِ خَاصٌّ عَلَى عَامٍّ" يقولون: هذا مِن باب التنبيه، والأهمية.

 " لِئَلَّا يَظُنَّ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْأَوَّلِ" وإن كان داخلًا في الأول.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " ثُمَّ لِلنَّاسِ فِي مِثْلِ هَذَا قَوْلَانِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْمَعْطُوفُ دَخَلَ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أَوَّلًا. ثُمَّ ذَكَرَ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ تَخْصِيصًا لَهُ لِئَلَّا يَظُنَّ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْأَوَّلِ وَقَالُوا: هَذَا فِي كُلِّ مَا عُطِفَ فِيهِ خَاصٌّ عَلَى عَامٍّ كَقَوْلِهِ: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [البقرة:98]" فجبريل وميكال ملَكان، دخلا في قوله: وَمَلَائِكَتِهِ لكن خُصِّصا للتنبيه لمزيتهما ومثله قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب:7] فقوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ عام، دخل فيه جميع الأنبياء ثم خصَّ أولوا العزم الخمسة لمزيتهم.

 ومثله قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [محمد:2] فخصَّ الإيمان بما نُزِّل على محمد بعد قوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا، فقوله: بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ داخلٌ في الإيمان، ولكن خصه تمييزًا له، لأهمية الإيمان بما أنزل على محمدٍ ﷺ.

 ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَخُصَّ الْإِيمَانُ بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:9]، وَهَذِهِ نَزَلَتْ فِي الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ. ومثله قوله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238] وقوله: وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى داخلة في الصلاة، ذكرها تخصيصًا بعد التعميم، ومثل قوله: وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ [البينة:5].

 يقول المؤلف رحمه الله: " وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ مِنْ الْعِبَادَةِ" يعني فهما داخلتان في قوله: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فالدين هو العبادة، يعني مخلصين له العبادة، ومن ذلك الصلاة والزكاة، يقول: فقوله: الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة: 25]، كَقَوْلِهِ: وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ [البينة: 5]. فَإِنَّهُ قَصَدَ " أَوَّلًا " أَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ لِلَّهِ، قوله: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لا لغيره " ثُمَّ أُمِرَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ لِيَعْلَمَ أَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ وَاجِبَتَانِ فَلَا يُكْتَفَى بِمُطْلَقِ الْعِبَادَةِ الْخَالِصَةِ دُونَهُمَا" يعني ذكرهما لأهميتهما ولأنهما أعظم الأعمال، أعمال الجوارح، وأعظم العبادات بعد الشهادتين، نعم.

(المتن)

وَكَذَلِكَ يَذْكُرُ الْإِيمَانَ أَوَّلًا لِأَنَّهُ الْأَصْلُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ ثُمَّ يَذْكُرُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ فَإِنَّهُ أَيْضًا مِنْ تَمَامِ الدِّينِ لَا بُدَّ مِنْهُ فَلَا يَظُنُّ الظَّانُّ اكْتِفَاءَهُ بِمُجَرَّدِ إيمَانٍ لَيْسَ مَعَهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: الم ۝ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ۝ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ۝ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ۝ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة: 1 - 5].

وَقَدْ قِيلَ: إنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ كَابْنِ سلام وَنَحْوِهِ وَإِنَّ هَؤُلَاءِ نَوْعٌ غَيْرُ النَّوْعِ الْمُتَقَدِّمِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَقَدْ قِيلَ: هَؤُلَاءِ جَمِيعُ الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ مَنْ قَبْلِهِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَهُمْ صِنْفٌ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا عُطِفُوا لِتَغَايُرِ الصِّفَتَيْنِ؛ كَقَوْلِهِ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ۝ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ۝ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ۝ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى ۝ فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى [الأعلى:1-5]، فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ وَعَطَفَ بَعْضَ صِفَاتِهِ عَلَى بَعْضٍ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، وَهِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ. وَالصِّفَاتُ: إذَا كَانَتْ مَعَارِفَ كَانَتْ لِلتَّوْضِيحِ وَتَضَمَّنَتْ الْمَدْحَ أَوْ الذَّمَّ.

تَقُولُ: هَذَا الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي فَعَلَ كَذَا وَهُوَ الَّذِي فَعَلَ كَذَا وَهُوَ الَّذِي فَعَلَ كَذَا تُعَدِّدُ مَحَاسِنَهُ وَلِهَذَا مَعَ الْإِتْبَاعِ قَدْ يَعْطِفُونَهَا وَيَنْصِبُونَ أَوْ يَرْفَعُونَ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ لَمْ يَكُونُوا عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَلَا مُفْلِحِينَ وَلَا مُتَّقِينَ.

وَكَذَلِكَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ مَنْ قَبْلِهِ إنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقَهُمْ اللَّهُ يُنْفِقُونَ لَمْ يَكُونُوا عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَلَمْ يَكُونُوا مُفْلِحِينَ وَلَمْ يَكُونُوا مُتَّقِينَ.

فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَمِيعَ صِفَةُ الْمُهْتَدِينَ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ إلَى مُحَمَّدٍ فَقَدْ عُطِفَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ عَلَى تِلْكَ مَعَ أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِيهَا.

لَكِنَّ الْمَقْصُودَ صِفَةُ إيمَانِهِمْ وَأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ؛ وَإِلَّا فَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ إلَّا الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ فَقَدْ يَقُولُ: مَنْ يُؤْمِنُ بِبَعْضِ وَيَكْفُرُ بِبَعْضِ: نَحْنُ نُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ.

(الشرح)

نعم، المؤلف رحمه الله بين أيضًا مِن الفوائد ومن الحكم في عطف العمل على الإيمان: أن الإيمان هو الأصل الذي في القلوب، يُذكَر، أن الإيمان يذكره الله أولًا لأنه الأصل الذي في القلوب، ثم يُذكر العمل عليه؛ لأنه مِن تمام الدين ولأنه لابد منه ولأهميته، ولهذا كان، ولئلا يُظَن أنه يُكتفَى بإيمان القلب.

 ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَكَذَلِكَ يُذْكَرُ الْإِيمَانَ أَوَّلًا لِأَنَّهُ الْأَصْلُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ ثُمَّ يُذْكَرُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ فَإِنَّهُ أَيْضًا مِنْ تَمَامِ الدِّينِ لَا بُدَّ مِنْهُ فَلَا يَظُنُّ الظَّانُّ اكْتِفَاءَهُ بِمُجَرَّدِ إيمَانٍ لَيْسَ مَعَهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ" يعني هذه مِن الفوائد ومن الحكَم، أنه يُذكَر الإيمان أولًا لأنه الأصل الذي لابد منه، الإيمان أصل ما في القلوب، ثم ُيُذكر العمل لأنه مِن تمام الدين، ولئلا يُظَن الاكتفاء بمجرد الإيمان الذي في القلب، الذي ليس معه العمل الصالح.

 ومثَّل لذلك قال: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: الم ۝ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2]، ذكر أوصافهم، فقال: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ۝ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ۝ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:3-5] فهل هذه الأوصاف لطائفتين؟ أو لطائفة واحدة؟

 فيه خلاف بين أهل التفسير، يقول: وَقَدْ قِيلَ: إنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ كَابْنِ سلام وَنَحْوِهِ وَإِنَّ هَؤُلَاءِ نَوْعٌ غَيْرُ النَّوْعِ الْمُتَقَدِّمِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ، يعني قيل أن هذه الصفات لطائفتين؛ الطائفة الأولى: هم المؤمنون مِن أمة محمد ﷺ، وصفهم بقوله: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، الطائفة الثانية: أهل الكتاب، وصفهم بقوله: وَاَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْك وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ فيكون وصَف طائفتين.

وقد قيل: إنهم طائفةٌ واحدة، " هَؤُلَاءِ جَمِيعُ الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ مَنْ قَبْلِهِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَهُمْ صِنْفٌ وَاحِدٌ" قيل: إنهم صنفٌ واحد، لكن عُطِفوا لتغايُر الصفتين، يعني: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ قال: في صفاتهم، ثم عطف وَاَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْك وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ؛ لأنها صفات أخرى، فعطفها مِن باب عطف الصفات على الصفات وإن كانوا طائفةً واحدة.

والقول الأول: أنهم طائفتان، وعلى القول بأنهم طائفة واحدة، أنهم عُطِفوا لتغايُر الصفات، والعطف لتغاير الصفات هذا معروف في اللغة العربية، ذكر رحمه الله له تنظير فقال: وَإِنَّمَا عُطِفُوا لِتَغَايُرِ الصِّفَتَيْنِ كَقَوْلِهِ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ۝ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ۝ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ۝ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى ۝ فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى [الأعلى:1-5].

هذه صفاتٌ عدة صفات للرب ، فهو سبحانه واحد، وعطف بعض صفاته على بعض، فقال، فعطف قوله: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ثم وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى صفة ثانية، وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى صفة ثالثة، فالعطف إنما هو لتغايُر الصفات.

ومثله قوله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238] يقول: وهي صلاة العصر.

 يقول المؤلف رحمه الله: القاعدة أن الصفات " إذَا كَانَتْ مَعَارِفَ كَانَتْ لِلتَّوْضِيحِ وَتَضَمَّنَتْ الْمَدْحَ أَوْ الذَّمَّ" فهذه صفات للتوضيح، لتوضيح صفات المؤمنين، ويُعطف، تُعطف الصفات بعضها على بعض للتوضيح وللمدح، إذا كانت صفات مدح، وللذم إذا كانت صفات ذم، كما تقول العرب، مثَّل، كما يقول الإنسان، كما تقول: هَذَا الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي فَعَلَ كَذَا وَهُوَ الَّذِي فَعَلَ كَذَا وَهُوَ الَّذِي فَعَلَ كَذَا تُعَدِّدُ مَحَاسِنَهُ، وإن كان مذمومًا تعدد سيئاته، تقول: هَذَا الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي فَعَلَ كَذَا وَهُوَ الَّذِي فَعَلَ كَذَا وَهُوَ الَّذِي فَعَلَ كَذَا مِن السيئات.

 يقول المؤلف رحمه الله: "وَلِهَذَا مَعَ الْإِتْبَاعِ قَدْ يَعْطِفُونَهَا وَيَنْصِبُونَ أَوْ يَرْفَعُونَ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ" يعني مع الإتْبَاع قد يُعطف، وقد يُنصب أو يُرفع، قد يُنصب إذا كانت الصفات السابقة منصوبة وقد يُرفع على الاستئناف.

يقول المؤلف: "وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ": يعني القول بأنهم، هذه الصفات صفات لطائفةٍ واحدة، وأنهم صنفٌ واحد،  لأن قولان في آية البقرة: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ.

ثم قال: وَاَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْك قيل: هذا وصْفٌ لطائفتين، وقيل: وصْفٌ لطائفةٍ واحدة، وصنفٌ واحد، والقول بأنهم صنفٌ واحد يقول المؤلف: هو الصواب.

وبيان ذلك أن المؤمنين، قال: " الصَّوَابُ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ لَمْ يَكُونُوا عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَلَا مُفْلِحِينَ وَلَا مُتَّقِينَ وَكَذَلِكَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ مَنْ قَبْلِهِ إنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقَهُمْ اللَّهُ يُنْفِقُونَ لَمْ يَكُونُوا عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَلَمْ يَكُونُوا مُفْلِحِينَ وَلَمْ يَكُونُوا مُتَّقِينَ".

 يعني أن هذه الصفات متلازمة، فلما كانت متلازمة ومرتبطة بعضها ببعض ولا تصح صفةٌ منها بدون الصفة الأخرى، دل على أنهم صنفٌ واحد؛ لأن الذين يؤمنون بالغيب لابد أن يؤمنوا بما أُنزِل على الرسول وما أُنزِل مِن قبله، وإلا فلا يكونوا مؤمنين، وكذلك الذين يؤمنون بالرسول وبما أُنزِل إليه وما أُنزِل مِن قبله، لابد أن يؤمنوا بالغيب، فلما كانت هذه الصفات متلازمة دل على أنهم صنف واحد.

يقول المؤلف رحمه الله: ولهذا قال: "فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَمِيعَ صِفَةُ الْمُهْتَدِينَ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ إلَى مُحَمَّدٍ فَقَدْ عُطِفَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ عَلَى تِلْكَ مَعَ أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِيهَا" يعني صفة: وَاَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْك وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك عطفها على صفة، الصفة السابقة: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ، مع أنها داخلةٌ فيها؛ لأن المقصود صفة الإيمان.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فِيهَا لَكِنَّ الْمَقْصُودَ صِفَةُ إيمَانِهِمْ وَأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ؛ وَإِلَّا فَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ إلَّا الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ فَقَدْ يَقُولُ: مَنْ يُؤْمِنُ بِبَعْضِ وَيَكْفُرُ بِبَعْضِ: نَحْنُ نُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ".

 يعني لو لم تُذكر إلا الصفة الأولى قد يأتي بعض الناس ويقول: أنا أؤمن بالغيب وإن كان يؤمن ببعضٍ ويكفر ببعض، لكن لما جاءت الصفات تفصيل، صار فيها تفصيل للمؤمنين وأنهم يؤمنون بالغيب ويؤمنون بما أُنزِل على النبي ﷺ وما أُنزِل مِن قبله، فلم يكن هناك مجال لمن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، أن يقول: أنا مؤمنٌ بالغيب، نعم.

القارئ: أحسن الله إليك، هل يمكن مِن خلال رد شيخ الإسلام رحمه الله أن نبين الفرق الجوهري بين مذهب السلف ومذهب مرجئة الفقهاء في مسمى الإيمان بناءً على ردوده هنا، هل يكون للخلاف جوهر؟

الشيخ: نعم، سيأتي، المؤلف رحمه الله كل هذا الكتاب، كله في بيان، في الرد على المرجئة وبيان مذهب أهل السنة والجماعة، سيأتي أن هناك ثمرة لهذا الخلاف، سيأتي في كلام المؤلف رحمه الله.

 لكن مِن ثمرة الخلاف أن أهل السنة، جمهور أهل السنة آمنوا بما أُنزِل، آمنوا بالنصوص لفظًا ومعنًى، وأما مرجئة الفقهاء فإنهم يعني عملوا بالنصوص معنًى، ولم، وخالفوها لفظًا، يعني أهل السنة، جمهور أهل السنة وافقوا النصوص لفظًا ومعنًى، ومرجئة الفقهاء خالفوا النصوص، وافقوها معنًى، وخالفوهما لفظًا، ولا يجوز للإنسان أن يخالِف النصوص لا في اللفظ ولا في المعنى، ويجب عليه أن يوافقها لفظًا ومعنًى.

 ومن أيضًا مِن ثمرة الخلاف أن مرجئة الفقهاء فتحوا باب للمرجئة المحضة مِن الجهمية وغيرهم، لما قالوا: إن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، قالت المرجئة المحضة: ليست مطلوبة مطلقًا، وكذلك فتحوا باب للفساق والعصاة الذين يقول أحدهم: أنا مؤمن كامل الإيمان إيماني كجبريل وميكائيل، وكإيمان أبي بكرٍ وعمر، وهو سكِّيرٌ عربيد يشرب الخمور ويرتكب المحرمات ويترك الواجبات، هذا مِن ثمرة الخلاف، نعم.

(المتن)

توقفنا عند قول المؤلف رحمه الله:

وَلَمَّا كَانَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ سَنَامَ الْقُرْآنِ؛ وَيُقَالُ: إنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ افْتَتَحَهَا اللَّهُ بِأَرْبَعِ آيَاتٍ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَآيَتَيْنِ فِي صِفَةِ الْكَافِرِينَ وَبِضْعِ عَشْرَةَ آيَةٍ فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّهُ مِنْ حِينِ هَاجَرَ النَّبِيُّ ﷺ صَارَ النَّاسُ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: إمَّا مُؤْمِنٌ وَإِمَّا كَافِرٌ مُظْهِرٌ لِلْكُفْرِ وَإِمَّا مُنَافِقٌ؛ بِخِلَافِ مَا كَانُوا وَهُوَ بِمَكَّةَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُنَافِقٌ.

وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ: لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مُنَافِقٌ وَإِنَّمَا كَانَ النِّفَاقُ فِي قَبَائِلِ الْأَنْصَارِ؛ فَإِنَّ مَكَّةَ كَانَتْ لِلْكُفَّارِ مُسْتَوْلِينَ عَلَيْهَا فَلَا يُؤْمِنُ وَيُهَاجِرُ إلَّا مَنْ هُوَ مُؤْمِنٌ لَيْسَ هُنَاكَ دَاعٍ يَدْعُو إلَى النِّفَاقِ؛ وَالْمَدِينَةُ آمَنَ بِهَا أَهْلُ الشَّوْكَةِ؛ فَصَارَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهَا عِزٌّ وَمَنَعَةٌ بِالْأَنْصَارِ فَمَنْ لَمْ يُظْهِرْ الْإِيمَانَ آذَوْهُ.

فَاحْتَاجَ الْمُنَافِقُونَ إلَى إظْهَارِ الْإِيمَانِ مَعَ أَنَّ قُلُوبَهُمْ لَمْ تُؤْمِنْ؛ وَاَللَّهُ تَعَالَى افْتَتَحَ الْبَقَرَةَ وَوَسَطَ الْبَقَرَةِ وَخَتَمَ الْبَقَرَةَ بِالْإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ؛ فَقَالَ فِي أَوَّلِهَا مَا تَقَدَّمَ، وَقَالَ فِي وَسَطِهَا: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ۝ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ [البقرة:136] الْآيَةَ: وَقَالَ فِي آخِرِهَا: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285] وَالْآيَةُ الْأُخْرَى.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: الْآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: مَنْ قَرَأَ بِهِمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ([3])، وَالْآيَةُ الْوُسْطَى قَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ «أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ بِهَا فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ: وبـ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64] الْآيَةَ تَارَةً. وبـ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكفرون:1]، وَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] تَارَةً»([5]). فَيَقْرَأُ بِمَا فِيهِ ذِكْرُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ أَوْ بِمَا فِيهِ ذِكْرُ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ.

(الشرح)

فقد سبق في الحلقة الماضية أن المؤلف رحمه الله شيخ الإسلام ابن تيمية بيَّن أن مذهب مرجئة الفقهاء في مُسمى الإيمان هو تصديق القلب والإقرار باللسان، وأنهم يخالفون ما عليه الجهمية مِن أن مُسمى الإيمان هو مجرد ما في القلب، وبين لهم أنهم إن لم يدخلوا أعمال القلوب فلا فرق بين مذهبهم ومذهب الجهم، وإن أدخلوا أعمال القلوب فليلزمهم إدخال أعمال الجوارح.

 ولكن بين المؤلف رحمه الله أن لهم شُبهًا شرعية؛ حيث لم يدخلوا الأعمال في مُسمى الإيمان، لهم شُبهٌ شرعية وأدلةٌ شرعية ومن شبههم: أن الله فرق بين الإيمان والعمل الصالح؛ فعطف العمل الصالح على الإيمان وأجاب المؤلف رحمه الله عن هذه الشبهة: وبين أن للناس في ذلك قولان؛ منهم مَن يقول: المعطوف داخلٌ في المعطوف عليه أولًا، وأنه يُذكَر الخاص بعد العام؛ تخصيصًا له، لئلا يُظَن أنه لم يدخل في الأول.

 وقد يُعطف عليه لاختلاف، وقد يكون العطف لاختلاف الصفات، ومثَّل بذلك في الآيات الأربع مِن أول سورة البقرة: الم ۝ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ۝ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ثم قال: وَاَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْك وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ فالعطف هنا لاختلاف الصفات، والمعطوف بها صنفٌ واحد في أصح قولَيْ العلماء.

والقول الثاني أنهما صنفان، لكن المؤلف رحمه الله اختار أنه صنفٌ واحد، وأن العطف إنما هو لاختلاف الصفات.

 ثم بين المؤلف رحمه الله أن هذه الآيات، مِن أول سورة البقرة، وأن سورة البقرة هي سنام القرآن، وأن الله تعالى افتتحها بأربع آيات في صفات المؤمنين وآيتين في صفات الكافرين، وبضع عشرة آيات في صفات المنافقين، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَلَمَّا كَانَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ سَنَامَ الْقُرْآنِ؛ وَيُقَالُ: إنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ افْتَتَحَهَا اللَّهُ بِأَرْبَعِ آيَاتٍ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ" هي الآيات التي سبقت: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ۝ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ثم قال: وَاَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْك إلى قوله: أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.

 " وَآيَتَيْنِ فِي صِفَةِ الْكَافِرِينَ" فيقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ۝ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:6-7]، " وَبِضْعِ عَشْرَةَ آيَةٍ فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ" في قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8].

 ذكر أوصافهم، وأن أوصافهم الخداع، وأن أوصافهم يسمون الإيمان سفه، ويصفون المؤمنين بالسفه، وضرب لهم مثلًا مائيًّا ومثلًا ناريًّا، بضع عشرة آية! ذكر المنافقين في بضع عشرة آية لالتباسهم وشدة عداوتهم للمسلمين؛ ولأنهم عدوٌّ يعيش بين المسلمين، فهم يُظهِرون الإسلام ويُبطنون الكفر.

 بخلاف الكفَّار فإن ظاهرهم وباطنهم سواء، فلهذا ذكر الله تعالى أوصاف المنافقين في بضع عشرة آية لِيُجلي أوصافهم للمؤمنين؛ حتى لا ينخدعوا بهم؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فَإِنَّهُ مِنْ حِينِ هَاجَرَ النَّبِيُّ ﷺ صَارَ النَّاسُ " ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ ": إمَّا مُؤْمِنٌ" يعني ظاهرًا وباطنًا، " وَإِمَّا كَافِرٌ مُظْهِرٌ لِلْكُفْرِ" يعني كافر ظاهرًا وباطنًا، " وَإِمَّا مُنَافِقٌ" وهو الذي يُظهِر الإيمان ويُبطن الكفر.

 وبين المؤلف رحمه الله أن النفاق إنما وُجِد في المدينة، نَجَمَ النفاق في المدينة، وذلك بعد غزوة بدر، لما هزم الله الكفْر، الكفَّار وانتصر المؤمنون وقَوِيَ أمر النبي ﷺ، قال عبد الله بن أُبَيّ ومن معه، هذا أمرٌ توجَّه، فأظهر الإيمان وأخفى الكفر، أما في مكة فلا حاجة إلى، ليس هناك حاجة إلى إخفاء الكفر؛ لأن القوة والغلبة للكفار.

 ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "بِخِلَافِ مَا كَانُوا وَهُوَ بِمَكَّةَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُنَافِقٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ رحمه الله وَغَيْرُهُ: لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مُنَافِقٌ وَإِنَّمَا كَانَ النِّفَاقُ فِي قَبَائِلِ الْأَنْصَارِ" والسبب؛ بين المؤلف السبب قال: "فَإِنَّ مَكَّةَ كَانَتْ لِلْكُفَّارِ مُسْتَوْلِينَ عَلَيْهَا فَلَا يُؤْمِنُ وَيُهَاجِرُ إلَّا مَنْ هُوَ مُؤْمِنٌ لَيْسَ هُنَاكَ دَاعٍ يَدْعُو إلَى النِّفَاقِ؛ وَالْمَدِينَةُ آمَنَ بِهَا أَهْلُ الشَّوْكَةِ؛ فَصَارَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهَا عِزٌّ وَمَنَعَةٌ بِالْأَنْصَارِ فَمَنْ لَمْ يُظْهِرْ الْإِيمَانَ آذَوْهُ. فَاحْتَاجَ الْمُنَافِقُونَ إلَى إظْهَارِ الْإِيمَانِ مَعَ أَنَّ قُلُوبَهُمْ لَمْ تُؤْمِنْ"

 وهذا كان بعد غزوة بدر، ثم قال المؤلف رحمه الله: " وَاَللَّهُ تَعَالَى افْتَتَحَ الْبَقَرَةَ وَوَسَطَ الْبَقَرَةِ وَخَتَمَ الْبَقَرَةَ بِالْإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ؛ فَقَالَ فِي أَوَّلِهَا مَا تَقَدَّمَ" يعني في قوله: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ۝ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ إلى آخر الآيات الأربع، وقال في وسطها: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ۝ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ [البقرة:136]، وَقَالَ فِي آخِرِهَا: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285]

 وَالْآيَةُ الْأُخْرَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، إلى آخر الآية.

ثم قال المؤلف رحمه الله: وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: الْآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: مَنْ قَرَأَ بِهِمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ([6]) يعني الآيتان: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ والآية التي بعدها: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وفي هذا الحديث: فضل قراءة هاتين الآيتين في كل ليلة، يُستَحب للمسلم أن يقرأهما في كل ليلة، قال العلماء معنى قوله:مَنْ قَرَأَ بِهِمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاه([7])، قيل: كَفَتاه مِن قيام الليل، وقيل: كَفَتاه مِن كل سوء.

والآية الأخرى: قد ثبت في الصحيح أنه كان يقرأ بها في ركعتي الفجر، الآية الوسطى وهي قوله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ في وسطها يعني في وسط البقرة، قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا ويقرأ في الركعة الأخرى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64]، وتارةً يعني يقرأ بهما تارة، وتارة يقرأ بـ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكفرون:1]، وَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1].

فتارةً يقرأ بما فيه ذكر الإسلام والإيمان كما في الآيتين، أو بما فيه ذكر التوحيد والإخلاص كما في السورتين، سورتي الإخلاص، نعم.

(المتن)

فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ يُقَالُ: الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الْمَعْطُوفَةُ عَلَى الْإِيمَانِ دَخَلَتْ فِي الْإِيمَانِ وَعُطِفَ عَلَيْهِ عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ؛ إمَّا لِذِكْرِهِ خُصُوصًا بَعْدَ عُمُومٍ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ إذَا عُطِفَ كَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَامِّ.

وَقِيلَ: بَلْ الْأَعْمَالُ فِي الْأَصْلِ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّ أَصْلَ الْإِيمَانِ هُوَ مَا فِي الْقَلْبِ، وَلَكِنْ هِيَ لَازِمَةٌ لَهُ فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْهَا كَانَ إيمَانُهُ مُنْتَفِيًا؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ لَكِنْ صَارَتْ بِعُرْفِ الشَّارِعِ دَاخِلَةً فِي اسْمِ الْإِيمَانِ إذَا أُطْلِقَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ ﷺ فَإِذَا عُطِفَتْ عَلَيْهِ ذُكِرَتْ لِئَلَّا يَظُنَّ الظَّانُّ أَنَّ مُجَرَّدَ إيمَانِهِ بِدُونِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ اللَّازِمَةِ لِلْإِيمَانِ يُوجِبُ الْوَعْدَ؛ فَكَانَ ذِكْرُهَا تَخْصِيصًا وَتَنْصِيصًا لِيَعْلَمَ أَنَّ الثَّوَابَ الْمَوْعُودَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْجَنَّةُ بِلَا عَذَابٍ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا؛ لَا يَكُونُ لِمَنْ ادَّعَى الْإِيمَانَ وَلَمْ يَعْمَلْ.

وَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الصَّادِقَ فِي قَوْلِهِ: آمَنْت لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِالْوَاجِبِ وَحَصْرُ الْإِيمَانِ فِي هَؤُلَاءِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَائِهِ عَمَّنْ سِوَاهُمْ.

(الشرح)

نعم، المؤلف رحمه الله يبيِّن قولَيْ العلماء فيما إذا عُطِف العمل على الإيمان، قال: " فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ" يعني القول الأول وهو عطف العمل على الإيمان مِن باب عطف الخاص على العام، تخصيصًا بعد تعميم.

 قال: "عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ يُقَالُ: الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الْمَعْطُوفَةُ عَلَى الْإِيمَانِ دَخَلَتْ فِي الْإِيمَانِ وَعُطِفَ عَلَيْهِ عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ" هذا هو القول الأول، عُطفت عليه عطفًا خاصًّا: يعني إما بذكره خصوصًا بعد عموم، وإما لكونه إذا عُطِف كان دليلًا على أنه لم يدخل في العام.

 ثم ذكر القول الثاني للعلماء في عطف العمل على الإيمان، قال: "قِيلَ: بَلْ الْأَعْمَالُ فِي الْأَصْلِ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّ أَصْلَ الْإِيمَانِ هُوَ مَا فِي الْقَلْبِ وَلَكِنْ هِيَ لَازِمَةٌ لَهُ فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْهَا كَانَ إيمَانُهُ مُنْتَفِيًا؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ" يعني القول الثاني أن الأعمال في الأصل ليست مِن الإيمان؛ لأن أصل الإيمان هو ما في القلب ولكن الأعمال لازمة، لازمةٌ له، لكن، واللازم لابد منه.

 ولذلك قال المؤلف: " فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْهَا كَانَ إيمَانُهُ مُنْتَفِيًا؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ" انتفاء اللازم وهي الأعمال، يقتضي انتفاء الملزوم، وهو الإيمان الذي في القلب، إذا انتفت الأعمال، انتفى الإيمان الذي في القلب، يقول المؤلف: " لَكِنْ صَارَتْ بِعُرْفِ الشَّارِعِ دَاخِلَةً فِي اسْمِ الْإِيمَانِ إذَا أُطْلِقَ".

 يعني الشارع سمَّى الأعمال وأدخلها في مُسمى الإيمان فصارت في عُرف الشرع داخلةٌ في مسمى الإيمان، وإن كانت يعني لغةً لم تدخل، لكنها بعرف الشارع صارت داخلة في اسم الإيمان إذا أُطلِق، كما، يقول المؤلف: "كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ ﷺ فَإِذَا عُطِفَتْ عَلَيْهِ ذُكِرَتْ لِئَلَّا يَظُنَّ الظَّانُّ أَنَّ مُجَرَّدَ إيمَانِهِ بِدُونِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ اللَّازِمَةِ لِلْإِيمَانِ يُوجِبُ الْوَعْد".

 يعني فتُعطف الأعمال على الإيمان لئلا يظن الظانّ ويتوهم المتوهم، أن الإيمان، أن مجرد الإيمان وهو التصديق في القلب بدون العملـ يترتب عليه الوعد، يعني الوعد الذي توعَّد الله، وعَد الله أصحابه بالدخول إلى الجنة والنجاة مِن النار، هذا الوعد لا يكون إلا مَن أتى بالإيمان والعمل، فتعطف، يُعطف العمل على الإيمان لئلا يتوهم مُتوهِّم أن الوعد الكريم الذي وعَد الله به المؤمنين بدخول الجنة يحصل بدون العمل.

 ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "؛ فَكَانَ ذِكْرُهَا تَخْصِيصًا وَتَنْصِيصًا" يعني خُصِّصَت ونُصَّ عليها، " لِيَعْلَمَ أَنَّ الثَّوَابَ الْمَوْعُودَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْجَنَّةُ بِلَا عَذَابٍ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا؛ لَا يَكُونُ لِمَنْ ادَّعَى الْإِيمَانَ وَلَمْ يَعْمَلْ" يعني فيكون على هذا، يُنص عليها وإن لم تكن داخلة.

 وإن كانت داخلة في عُرْف الشارع لبيان أن الوعد الكريم الذي وعد الله به المؤمنين بدخول الجنة لابد فيه مِن الأمرين؛ الإيمان والعمل، ولا يكون لمن ادَّعَى الإيمان ولم يعمل.

ثم قال المؤلف رحمه الله: " مَوْضِعٍ أَنَّ الصَّادِقَ فِي قَوْلِهِ: آمَنْت لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِالْوَاجِبِ" يعني إذا كان صادقًا في إيمانه لابد أن يؤدي الواجبات، أما إذا تخلف العمل دلَّ على عدم الصدق في إيمانه، أن يكون صادقًا، الصادق لابد أن يعمل، فإن لم يعمل دل على عدم الصدق.

 ثم قال المؤلف رحمه الله: " وَحَصْرُ الْإِيمَانِ فِي هَؤُلَاءِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَائِهِ عَمَّنْ سِوَاهُمْ"، يعني كما في آية الأنفال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ  الأنفال:2]، إلى قوله: أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:4]، هذا حصْر، حَصَر الإيمان فيهم، ومثل قوله تعالى في سورة الحجرات: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15].

 فحصْر الإيمان يدل على انتفائه عمن سواهم، يعني حصْر؛ لأن هذا هو المفهوم مِن الحصْر، المفهوم مِن الحصْر؛ أن يُحصر الشيء فيما دخلت عليه أداة الحصر، ومفهومه أنه ينتفي عمن لم يدخل في الحصْر، فدل على أن الإيمان في هؤلاء، في الذين يعملون، وأن مَن لم يعمل لا يدخل فيه؛ لأن مَن لم يعمل لا يدخل في الحصْر، نعم.

(المتن)

وللجهمية هُنَا سُؤَالٌ ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ فِي كِتَابِ " الْمُوجِزِ " وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ نَفَى الْإِيمَانَ عَنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ كَقَوْلِهِ: إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، وَلَمْ يَقُلْ: إنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ مِنْ الْإِيمَانِ قَالُوا: فَنَحْنُ نَقُولُ: مَنْ لَمْ يَعْمَلْ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا لِأَنَّ انْتِفَاءَهَا دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْعِلْمِ مِنْ قَلْبِهِ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّكُمْ سَلَّمْتُمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَازِمَةٌ لِإِيمَانِ الْقَلْبِ فَإِذَا انْتَفَتْ لَمْ يَبْقَ فِي الْقَلْبِ إيمَانٌ وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ؛ وَبَعْدَ هَذَا فَكَوْنُهَا لَازِمَةً أَوْ جُزْءًا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ.

الثَّانِي: أَنَّ نُصُوصًا صَرَّحَتْ بِأَنَّهَا جُزْءٌ كَقَوْلِهِ: الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً([8]).

الثَّالِثُ: إنَّكُمْ إنْ قُلْتُمْ بِأَنَّ مَنْ انْتَفَى عَنْهُ هَذِهِ الْأُمُورُ فَهُوَ كَافِرٌ خَالٍ مَنْ كُلِّ إيمَانٍ كَانَ قَوْلُكُمْ قَوْلَ الْخَوَارِجِ وَأَنْتُمْ فِي طَرَفٍ وَالْخَوَارِجُ فِي طَرَفٍ فَكَيْفَ تُوَافِقُونَهُمْ وَمِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ إقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَالْحَجُّ وَالْجِهَادُ وَالْإِجَابَةُ إلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا تُكَفِّرُونَ تَارِكَهُ وَإِنْ كَفَّرْتُمُوهُ كَانَ قَوْلُكُمْ قَوْلَ الْخَوَارِجِ.

الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: إنَّ انْتِفَاءَ بَعْضِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ مِنْ التَّصْدِيقِ بِأَنَّ الرَّبَّ حَقٌّ قَوْلٌ يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ.

الْخَامِسُ: أَنَّ هَذَا إذَا ثَبَتَ فِي هَذِهِ ثَبَتَ فِي سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ فَيَرْتَفِعُ النِّزَاعُ الْمَعْنَوِيُّ".

(الشرح)

نعم، المؤلف رحمه الله ذكر سؤالًا للجهمية نقله عن أبي الحسن الأشعري، في كتابه المُوجَز، هذا السؤال يقول: إن القرآن نفى الإيمان عن غير هؤلاء الذين حصَر فيهم الإيمان، الذين ذكر صفاتهم، في قوله: "إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، وَلَمْ يَقُلْ: إنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ مِنْ الْإِيمَانِ قَالُوا: فَنَحْنُ نَقُولُ: مَنْ لَمْ يَعْمَلْ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا لِأَنَّ انْتِفَاءَهَا دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْعِلْمِ مِنْ قَلْبِهِ".

 يعني خُلاصة السؤال يقول: لما حصَر الله المؤمنين الذين اتصفوا بالإيمان وعملوا الأعمال الصالحة، دل على أن مَن لم تتوفر فيه هذه الصفات وهذه الأعمال دل على أن العلم قد انتفى مِن قلبه، يعني لما انتفت هذه الصفات دلَّ على انتفاء العلم، وعلى هذا فيكون المعوِّل على العلم الذي في القلب، لكن لما حصَر الله الإيمان في الذين اتصفوا بهذه الصفات، دل على أن العلم ينتفي مِن قلوبهم؛ لأن الجهمية يرون أن الإيمان هو العلم، هو معرفة الرب في القلب، والعلم الذي في القلب.

 يقول: فهؤلاء الذين حصر الله الإيمان بهم، يدل على أن الذين لا تتخلف هذه الصفات عنهم، أن العلم ينتفي، وهذا ليس بصحيح، فليس، فالعلم موجودٌ في القلب، سواءٌ عمل أو بم يعمل.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وللجهمية هُنَا سُؤَالٌ ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ فِي كِتَابِ " الْمُوجِزِ " وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ نَفَى الْإِيمَانَ عَنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ كَقَوْلِهِ: إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2].

وَلَمْ يَقُلْ: إنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ مِنْ الْإِيمَانِ قَالُوا: فَنَحْنُ نَقُولُ: مَنْ لَمْ يَعْمَلْ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا لِأَنَّ انْتِفَاءَهَا دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْعِلْمِ مِنْ قَلْبِهِ".

أجاب المؤلف رحمه الله على هذا السؤال الذي أورده عن الجهمية بخمسة أجوبة، فقال: "أَحَدُهَا: أَنَّكُمْ سَلَّمْتُمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَازِمَةٌ لِإِيمَانِ الْقَلْبِ فَإِذَا انْتَفَتْ لَمْ يَبْقَ فِي الْقَلْبِ إيمَانٌ وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ؛ وَبَعْدَ هَذَا فَكَوْنُهَا لَازِمَةً أَوْ جُزْءًا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ" يعني هم سلَّموا أن الأعمال لازمةٌ لإيمان القلب، ومن المعلوم لجميع الطوائف أن اللازم، أنه لابد منه، وأنه إذا انتفى اللازم، انتفى الملزوم؛ لأنهما مترابطان، فالولد لازمٌ للوالد، فإذا انتفى الولد انتفت الولادة.

القارئ: وهم يسلمون فعلًا يا شيخ بهذا؟

الشيخ: هذا، نعم، سبق، سبق أن المؤلف نقل عنهم أنهم قالوا: لازم، أن الأعمال لازمة، وإذا كانت لازمة، فإن اللازم لابد منه، ولا يتم الملزوم إلا به، فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم، وحينئذٍ إذا سلمتم بهذا وأنها لازمة وأن الملزوم ينتفي بانتفاء اللازم، بعد هذا كونكم تقولون: إنها لازمة أو جزءًا، هي جزءٌ مِن الإيمان أو لازم يكون هذا نزاع لفظي، ولا يهمنا هذا، المهم المعنى.

الجواب الثاني قال: أن النصوص صرَّحت أن الأعمال جزءٌ مِن الأعمال، كحديث الإيمان المشهور، حديث شعب الإيمان: الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً([9]) فهذا يدل على أن الإيمان له شُعَب متعددة توزع منه.

الجواب الثالث: يقول: " إنَّكُمْ إنْ قُلْتُمْ بِأَنَّ مَنْ انْتَفَى عَنْهُ هَذِهِ الْأُمُورُ فَهُوَ كَافِرٌ خَالٍ مَنْ كُلِّ إيمَانٍ" إذا قلتم هذا فقد وافقتم الخوارج، وكيف توافقون الخوارج وهم ضدٌ لكم؟ الخوارج في طرف وأنتم في طرف، الخوارج يكفرون مَن لم يعمل، وأنتم تقولون: العمل ليس بواجب.

 فالخوارج يقولون: العمل واجب ومن ترك العمل كفر، وأنتم تقولون: العمل ليس بواجب، فكيف توافقونهم وهم ضدٌ لكم، ولهذا قال المؤلف: "الثَّالِثُ: إنَّكُمْ إنْ قُلْتُمْ بِأَنَّ مَنْ انْتَفَى عَنْهُ هَذِهِ الْأُمُورُ فَهُوَ كَافِرٌ خَالٍ مَنْ كُلِّ إيمَانٍ كَانَ قَوْلُكُمْ قَوْلَ الْخَوَارِجِ وَأَنْتُمْ فِي طَرَفٍ وَالْخَوَارِجُ فِي طَرَفٍ فَكَيْفَ تُوَافِقُونَهُمْ" يقول: "وَمِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ إقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَالْحَجُّ وَالْجِهَادُ وَالْإِجَابَةُ إلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا تُكَفِّرُونَ تَارِكَهُ وَإِنْ كَفَّرْتُمُوهُ كَانَ قَوْلُكُمْ قَوْلَ الْخَوَارِجِ".

 فالمؤلف رحمه الله يبيِّن لهم، يقول: إن قلتم: إن مَن انتفت عنه هذه الأمور فهو كافر؛ كان قولكم قول الخوارج، وإن كفرتموه كان قولكم قول الخوارج، وأنتم والخوارج ضدان.

ثم الجواب الرابع: بين أن، أنه إذا انتفت هذه الأعمال يستلزم انتفاء التصديق الذي في القلب، قولكم: إذا انتفت هذه الأعمال، إذا تخلفت دل على أن التصديق الذي في القلب ينتفي، هذا قولٌ فاسد، معلومٌ فساده بالاضطرار، يعني إذا، يضطر الإنسان إلى معرفة فساده.

 والعلم الاضطراري هو الذي يدركه الإنسان بلا تأمل ولا استدلال، يعني هذا معلومٌ لكل أحد، فإذا قال شخص إن الذي لا يصلي ولا يؤدي الأعمال ما عنده علمٌ في قلبه، ما يعلم الحق، هذا معلوم فساده لكل أحد، هناك بل مَن يعلم الحق ولا يعمل، فليست، فليس الذي لا يعلم معناه إنه، الذي لا يعمل إنه لا يعلم بقله، بل يعمل بقلبه، ولا، يعلم بقلبه ولكن يتخلف العمل.

 ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: إنَّ انْتِفَاءَ بَعْضِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ مِنْ التَّصْدِيقِ بِأَنَّ الرَّبَّ حَقٌّ قَوْلٌ يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ" يعني يضطر الإنسان إلى معرفة فساده؛ لأنه؛ لأن لمخالفته للواقع، الواقع أن كثيرًا مِن الذين يعلمون الحق لا يعملون به.

الخامس يقول المؤلف رحمه الله: " إذَا ثَبَتَ فِي هَذِهِ ثَبَتَ فِي سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ فَيَرْتَفِعُ النِّزَاعُ الْمَعْنَوِيُّ" يعني إن ثبت هذا في سائر الواجبات أنها إذا تخلفت انتفى الملزوم، يرتفع النزاع المعنوي، نعم.

(المتن)

فَصْلٌ: الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ غَلَطِ الْمُرْجِئَةِ:

ظَنُّهُمْ أَنَّ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ لَيْسَ إلَّا التَّصْدِيقَ فَقَطْ دُونَ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ؛ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ جهمية الْمُرْجِئَةِ. الثَّالِثُ ظَنُّهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي فِي الْقَلْبِ يَكُونُ تَامًّا بِدُونِ شَيْءٍ مِنْ الْأَعْمَالِ وَلِهَذَا يَجْعَلُونَ الْأَعْمَالَ ثَمَرَةَ الْإِيمَانِ وَمُقْتَضَاهُ بِمَنْزِلَةِ السَّبَبِ مَعَ الْمُسَبِّبِ وَلَا يَجْعَلُونَهَا لَازِمَةً لَهُ؛ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ إيمَانَ الْقَلْبِ التَّامِّ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ الظَّاهِرَ بِحَسَبِهِ لَا مَحَالَةَ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقُومَ بِالْقَلْبِ إيمَانٌ تَامٌّ بِدُونِ عَمَلٍ ظَاهِرٍ.

وَلِهَذَا صَارُوا يُقَدِّرُونَ مَسَائِلَ يَمْتَنِعُ وُقُوعُهَا لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الِارْتِبَاطِ الَّذِي بَيْنَ الْبَدَنِ وَالْقَلْبِ مِثْلَ أَنْ يَقُولُوا: رَجُلٌ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْإِيمَانِ مِثْلَ مَا فِي قَلْبِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَهُوَ لَا يَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً وَلَا يَصُومُ رَمَضَانَ وَيَزْنِي بِأُمِّهِ وَأُخْتِهِ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ نَهَارَ رَمَضَانَ؛ يَقُولُونَ: هَذَا مُؤْمِنٌ تَامُّ الْإِيمَانِ فَيَبْقَى سَائِرُ الْمُؤْمِنِينَ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ غَايَةَ الْإِنْكَارِ.

(الشرح)

نعم، المؤلف رحمه الله سبق أنْ بيَّن أنَّ المرجئة؛ وهم مرجئة الفقهاء الذين يقولون: إن الأعمال غير داخلٍ في مسمى الإيمان، أنهم غلِطوا مِن وجوه، وسبق أن بين الوجه الأول مِن غلطهم، وهو ظنهم وتوهمهم أن الإيمان الذي فرضه الله على العباد متماثل، في حق العباد، وأن الإيمان الذي يجب على شخص، يجب على، مثله على الشخص.

وبيَّن أنَّ هذا ليس بصحيح، فإن الإيمان الذي أوجبه الله على العباد مختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، ثم قال: "الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ غَلَطِ " الْمُرْجِئَةِ ":

ظَنُّهُمْ أَنَّ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ لَيْسَ إلَّا التَّصْدِيقَ فَقَطْ دُونَ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ؛ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ جهمية الْمُرْجِئَةِ" يعني ظنوا أن الذي في القلب لا يكون إلا التصديق ولا يكون فيه عمل، وهذا، هذا غلط، وهذا هو مذهب الجهمية المرجئة يقولون: إن الإيمان هو مجرد المعرفة، وهذا ليس بصحيح، بل الإيمان، القلب يكون فيه محبة الله ورسوله، يكون فيه الخوف والرجاء والرغبة والرهبة والتوكل، كل هذه مِن أعمال القلوب.

" الثَّالِثُ" الوجه الثالث مِن غلط المرجئة: توهمهم " أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي فِي الْقَلْبِ يَكُونُ تَامًّا بِدُونِ شَيْءٍ مِنْ الْأَعْمَالِ" يعني توهموا أن الإيمان الذي في القلب يتم دون العمل، وهذا ليس بصحيح، فالإيمان لا يتم إلا مع الأعمال، فإذا تخلف العمل، دل على أن الإيمان في القلب ناقص.

 ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "الثَّالِثُ ظَنُّهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي فِي الْقَلْبِ يَكُونُ تَامًّا بِدُونِ شَيْءٍ مِنْ الْأَعْمَالِ وَلِهَذَا يَجْعَلُونَ الْأَعْمَالَ ثَمَرَةَ الْإِيمَانِ وَمُقْتَضَاهُ بِمَنْزِلَةِ السَّبَبِ مَعَ الْمُسَبِّبِ" يعني فالإيمان سبب والأعمال مسبب، وهذا ليس بصحيح، فإن الإيمان الذي في القلب يتم بالعمل، وينقص بتخلف العمل، إذا نقص العمل نقص، وإذا كمل العمل، وإذا أتى بالأعمال تم.

 ولهذا قال المؤلف رحمه الله: يجعلون الأعمال، " وَلِهَذَا يَجْعَلُونَ الْأَعْمَالَ ثَمَرَةَ الْإِيمَانِ وَمُقْتَضَاهُ بِمَنْزِلَةِ السَّبَبِ مَعَ الْمُسَبِّبِ وَلَا يَجْعَلُونَهَا لَازِمَةً لَهُ" ثم بين رحمه الله التحقيق في المسألة، فقال: " وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ إيمَانَ الْقَلْبِ التَّامِّ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ الظَّاهِرَ بِحَسَبِهِ لَا مَحَالَةَ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقُومَ بِالْقَلْبِ إيمَانٌ تَامٌّ بِدُونِ عَمَلٍ ظَاهِرٍ".

 يعني التحقيق أن إيمان القلب يتم، لابد فيه مِن العمل، مِن العمل الظاهر، ولا يمكن أن يكون في القلب إيمانٌ تامٌّ إلا مع العمل، وهذا يدل على أن جنس العمل لابد منه في الإيمان، لابد منه في الإيمان، جنس العمل، ولا يمكن أن يتم الإيمان في القلب إلا بالعمل.

يقول المؤلف رحمه الله: " وَلِهَذَا صَارُوا يُقَدِّرُونَ مَسَائِلَ" يقدرون مسائل يعني يفرضون، يفرضون مسائل يمتنع وقوعها لعدم تحقق الإيمان، " لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الِارْتِبَاطِ الَّذِي بَيْنَ الْبَدَنِ وَالْقَلْبِ" مثال للمسائل الفرضية التي يفرضونها يقولون: ": رَجُلٌ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْإِيمَانِ مِثْلَ مَا فِي قَلْبِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَهُوَ لَا يَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً وَلَا يَصُومُ رَمَضَانَ وَيَزْنِي بِأُمِّهِ وَأُخْتِهِ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ نَهَارَ رَمَضَانَ؛ يَقُولُونَ: هَذَا مُؤْمِنٌ تَامُّ الْإِيمَانِ فَيَبْقَى سَائِرُ الْمُؤْمِنِينَ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ غَايَةَ الْإِنْكَارِ".

 هذا فرضي، هذا فرضٌ مستحيل، ولا يمكن، أما لو كان في إيمانه إيمانٌ أقل، يعني، أقل إيمانًا مِن المؤمنين الذين يعملون لم يفعل هذه الجرائم، هذه الجرائم تنافي الإيمان، نسأل الله السلامة والعافية، نعم.


1- سبق تخريجه(...)

2- سبق تخريجه(...)

3- أخرجه البخاري رقم (5040) من حديث أبي مسعود الأنصاري

4-أخرجه مسلم رقم (727) من حديث ابن عباس  رضي الله عنهما. 

5- أخرجه مسلم رقم (726) من حديث أبي هريرة  .

6- سبق تخريجه(...).

7- سبق تخريجه(...).

8- سبق تخريجه(...).

9- سبق تخريجه(...).

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد