شعار الموقع
  1. الصفحة الرئيسية
  2. الدروس العلمية
  3. العقيدة
  4. شرح كتاب الإيمان الكبير
  5. شرح كتاب الإيمان الكبير_25 من أثر أحمد بن حنبل عن مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَبْسِيُّ قَالَ قَدِمَ عَلَيْنَا سَالِمٌ الْأَفْطَسُ بِالْإِرْجَاءِ - إلى وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ فِي الْكَفَّارَةِ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ

شرح كتاب الإيمان الكبير_25 من أثر أحمد بن حنبل عن مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَبْسِيُّ قَالَ قَدِمَ عَلَيْنَا سَالِمٌ الْأَفْطَسُ بِالْإِرْجَاءِ - إلى وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ فِي الْكَفَّارَةِ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ

00:00
00:00
تحميل
74

(المتن)

قال المؤلف رحمه الله:

قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ([1]): حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ حَيَّانَ حَدَّثَنَا مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَبْسِيُّ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا سَالِمٌ الْأَفْطَسُ بِالْإِرْجَاءِ فَنَفَرَ مِنْهُ أَصْحَابُنَا نُفُورًا شَدِيدًا مِنْهُمْ مَيْمُونُ بْنُ مهران وَعَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ مَالِكٍ فَإِنَّهُ عَاهَدَ اللَّهَ أَنْ لَا يُؤْوِيَهُ وَإِيَّاهُ سَقْفُ بَيْتٍ إلَّا الْمَسْجِدُ قَالَ مَعْقِلٌ: فَحَجَجْت فَدَخَلْت عَلَى عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِي وَهُوَ يَقْرَأُ: حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا [يوسف:110]، قُلْت: إنَّ لَنَا حَاجَةً فأخلنا فَفَعَلَ؛ فَأَخْبَرْته أَنَّ قَوْمًا قَبْلَنَا قَدْ أَحْدَثُوا وَتَكَلَّمُوا وَقَالُوا: إنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ لَيْسَتَا مِنْ الدِّينِ؛ فَقَالَ: أَوَلَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5].

فَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ مِنْ الدِّينِ قَالَ: فَقُلْت: إنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَيْسَ فِي الْإِيمَانِ زِيَادَةٌ فَقَالَ: أَوَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ فِيمَا أَنْزَلَ: لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ [الفتح:4]، هَذَا الْإِيمَانَ.

فَقُلْت: إنَّهُمْ انتحلوك. وَبَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ ذَرٍّ دَخَلَ عَلَيْك فِي أَصْحَابٍ لَهُ؛ فَعَرَضُوا عَلَيْك قَوْلَهُمْ فَقَبِلْته.

فَقُلْت هَذَا الْأَمْرَ فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: قَدِمْت الْمَدِينَةَ فَجَلَسْت إلَى نَافِعٍ فَقُلْت: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إنَّ لِي إلَيْك حَاجَةً فَقَالَ: سِرٌّ أَمْ عَلَانِيَةٌ؟ فَقُلْت: لَا بَلْ سِرٌّ: قَالَ: رُبَّ سِرٍّ لَا خَيْرَ فِيهِ.

فَقُلْت: لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فَلَمَّا صَلَّيْنَا الْعَصْرَ قَامَ وَأَخَذَ بِثَوْبِي ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْخَوْخَةِ وَلَمْ يَنْتَظِرْ الْقَاصَّ فَقَالَ: حَاجَتُك؟ قَالَ: فَقُلْت: أخلني هَذَا. فَقَالَ: تَنَحَّ؛ قَالَ: فَذَكَرْت لَهُ قَوْلَهُمْ. فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أُمِرْت أَنْ أَضْرِبَهُمْ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؛ فَإِذَا قَالُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ([2])، قَالَ: قُلْت: إنَّهُمْ يَقُولُونَ: نَحْنُ نُقِرُّ بِأَنَّ الصَّلَاةَ فَرْضٌ وَلَا نُصَلِّي؛ وَبِأَنَّ الْخَمْرَ حَرَامٌ وَنَشْرَبُهَا؛ وَأَنَّ نِكَاحَ الْأُمَّهَاتِ حَرَامٌ وَنَحْنُ نَنْكِحُ. فَنَثَرَ يَدَهُ مِنْ يَدِي وَقَالَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا فَهُوَ كَافِرٌ.

قَالَ مَعْقِلٌ: فَلَقِيت الزُّهْرِيَّ فَأَخْبَرْته بِقَوْلِهِمْ. فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَقَدْ أَخَذَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْخُصُومَاتِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ؛ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ([3]).

قَالَ مَعْقِلٌ: فَلَقِيت الْحَكَمَ بْنَ عُتَيبة فَقُلْت لَهُ: إنَّ عَبْدَ الْكَرِيمِ وَمَيْمُونًا بَلَغَهُمَا أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْك نَاسٌ مِنْ الْمُرْجِئَةِ فَعَرَضُوا بِقَوْلِهِمْ عَلَيْك فَقَبِلْت قَوْلَهُمْ؛ قَالَ فَقَبِلَ ذَلِكَ عَلَيَّ مَيْمُونٌ؛ وَعَبْدُ الْكَرِيمِ لَقَدْ دَخَلَ عَلَيَّ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا وَأَنَا مَرِيضٌ فَقَالُوا: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ بَلَغَك «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَتَاهُ رَجُلٌ بِأَمَةِ سَوْدَاءَ أَوْ حَبَشِيَّةٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيَّ رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ أَفَتَرَى هَذِهِ مُؤْمِنَةً؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَتَشْهَدِينَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. فَقَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: وَتَشْهَدِينَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟: قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ: وَتَشْهَدِينَ أَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ: وَتَشْهَدِينَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُك مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ؟ . قَالَتْ نَعَمْ؛ قَالَ: فَأَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ([4]): فَخَرَجُوا وَهُمْ يَنْتَحِلُونَ ذَلِكَ.

قَالَ مَعْقِلٌ: ثُمَّ جَلَسْت إلَى مَيْمُونِ بْنِ مهران فَقُلْت يَا أَبَا أَيُّوبَ لَوْ قَرَأْت لَنَا سُورَةً فَفَسَّرْتهَا قَالَ: فَقَرَأَ: إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير:1]، حَتَّى إذَا بَلَغَ: مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:21]، قَالَ: ذَاكُمْ جِبْرِيلُ وَالْخَيْبَةُ لِمَنْ يَقُولُ: أَنَّ إيمَانَهُ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ، وَرَوَاهُ حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَد.

وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: لَقَدْ أَتَى عَلَيَّ بُرْهَةٌ مِنْ الدَّهْرِ وَمَا أَرَانِي أُدْرِكُ قَوْمًا يَقُولُ أَحَدُهُمْ: إنِّي مُؤْمِنٌ مُسْتَكْمِلُ الْإِيمَانِ ثُمَّ مَا رَضِيَ حَتَّى قَالَ: إيمَانِي عَلَى إيمَانِ جِبْرِيلَ وميكائيل وَمَا زَالَ بِهِمْ الشَّيْطَانُ حَتَّى قَالَ أَحَدُهُمْ: إنِّي مُؤْمِنٌ وَإِنْ نَكَحَ أُخْتَهُ وَأُمَّهُ وَبِنْتَهُ وَاَللَّهِ لَقَدْ أَدْرَكْت كَذَا وَكَذَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ مَا مَاتَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَّا وَهُوَ يَخْشَى النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ.

وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ قَالَ: أَدْرَكْت ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ؛ مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إيمَانُهُ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ([5]).

وَرَوَى البغوي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُنْت عِنْدَ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فَجَاءَ ابْنُهُ يَعْقُوبُ فَقَالَ: يَا أَبَتَاهُ إنَّ أَصْحَابًا لِي يَزْعُمُونَ أَنَّ إيمَانَهُمْ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ؛ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ لَيْسَ إيمَانُ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ كَإِيمَانِ مَنْ عَصَى اللَّهَ([6]).

(الشرح)

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

قد سبق في الحلقة الماضية أن المؤلف رحمه الله بيَّن مذهب مرجئة الفقهاء؛ الذين يرون أن ُمسمى الإيمان هو التصديق والإقرار، تصديق القلب والإقرار باللسان، وبيَّن أن، أنهم إن أدخلوا أعمال القلوب في، إن لم يدخلوا أعمال القلوب في مُسمَّى الإيمان؛ فإنهم يوافقون الجهم في تعريفه الإيمان: بأنه مجرد ما في القلب مِن المعرفة، وإن أدخلوا أعمال القلوب لزمهم إدخال أعمال الجوارح.

 لكن عَذَرهم المؤلف، وبيَّن أن لهم حجج شرعية، ثم بيَّن غلطهم، وشُبههم في، بيَّن الأمور التي غلطوا بها، وأن مِن شبههم، ومن الأمور التي غلطوا بها؛ هو ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تامًّا بدون شيءٍ مِن الأعمال، وأن هذا، هذا الأمر الذي توهموه مِن أسباب غلطهم في مُسمَّى الإيمان، وهو كون، كونهم يظنون أن الإيمان، يظنون ويتوهمون أن الإيمان الذي في القلب يكون تامًّا ولو لم يعمل، ولو لم يؤدِّ الإنسان شيئًا مِن الأعمال، وهذا غلط.

 فإن الإيمان لا يكون تامًّا إلا بالعمل، فإذا نقص العمل، وتخلف العمل، تخلف ما في القلب مِن الإيمان، فالإيمان الذي في القلب ينقص بنقصان العمل، ويتم بتمام العمل، فكونهم يتوهمون ويظنون أن الإيمان يكون تامًّا بدون شيءٍ مِن الأعمال، هذا مِن أسباب أغلاطهم، مِن غلطهم الذي غلطوه، ومن أوهامهم التي توهموها، ثم ذكر هذه القصة التي ذكر المؤلف رحمه الله: قصة رُوِيت عن الإمام أحمد؛ وفيها بيان أن السَّلف: يرون أن الأعمال لابد منها في مُسمَّى الإيمان.

 وأن الإيمان، وأنه إذا تخلف العمل، يتخلف الإيمان، وأن مجرد ما في القلب مِن التصديق والمعرفة إذا فعل الإنسان ما يناقض الإيمان، فإنه، فإنه، إذا فعل الإنسان أعمالًا تنقض الإيمان، و، فإنه ينتقض إيمانه، ينتقض دعواه الإيمان، ولا يُسمى مؤمن، ولا يُسمى مؤمنًا بمجرد ما في القلب، فإن الأعمال لازمة، وإذا تخلف اللازم، تخلف الملزوم، فشخصٌ لا يعمل، وإنما يدعي أنه مؤمن، هذا لا يُسلَّم له، وهذه القصة فيها بيان أن السلف والأئمة والعلماء كلهم يقررون ما دلت عليه النصوص مِن كتاب الله وسنة رسوله ﷺ ؛ مِن أن الأعمال لابد منها في مُسمَّى الإيمان.

وأنه إذا تخلف العمل ولم يوجد جنس العمل مِن الشخص فإنه لا يكون مؤمنًا، وإنما يكون إيمانه كإيمان إبليس وفرعون، فإن إبليس وفرعون مصدقان، ولكنها لم ينقادا لشرع الله ودينه؛ فلذلك كانا كافرَين، فكفر إبليس بالإباء والاستكبار، وكفر فرعون بالإباء والاستكبار، ولهذا نقل عن لسان أحمد بن حنبل، نقل عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله بسنده، ثم ذكر قصة قدوم سعد بن الأفطس بالإرجاء، وهو مشهورٌ سالم الأفطس مشهورٌ عنه الإرجاء، وأنه نفر منه.

 قال: معقل بن عبيد الله العبسي قال: لما " قَدِمَ عَلَيْنَا سَالِمٌ الْأَفْطَسُ بِالْإِرْجَاءِ فَنَفَرَ مِنْهُ أَصْحَابُنَا نُفُورًا شَدِيدًا مِنْهُمْ مَيْمُونُ بْنُ مهران وَعَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ مَالِكٍ فَإِنَّهُ عَاهَدَ اللَّهَ أَنْ لَا يُؤْوِيَهُ وَإِيَّاهُ سَقْفُ بَيْتٍ إلَّا الْمَسْجِدُ" يريد أن يبتعد عن العصاة وأهل الإرجاء، "قَالَ مَعْقِلٌ: فَحَجَجْت فَدَخَلْت عَلَى عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِي وَهُوَ يَقْرَأُ: حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا [يوسف:110]، قُلْت: إنَّ لَنَا حَاجَةً فأخْلِنا" يعني نريد أن نخلوا بك، " فَفَعَلَ؛" فأخبره، قال: " فَأَخْبَرْته أَنَّ قَوْمًا قَبْلَنَا قَدْ أَحْدَثُوا وَتَكَلَّمُوا وَقَالُوا: إنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ لَيْسَتَا مِنْ الدِّينِ" فأنكر عليهم.

 أنكر عليهم عطاء ، رحمه الله، وقال: ردًّا عليهم: " أَوَلَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]." فالله تعالى أدخل الصلاة والزكاة، في العبادة، فكيف يقولون ليس مِن الدين؟ قال: " فَقُلْت: إنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَيْسَ فِي الْإِيمَانِ زِيَادَةٌ" يعني لا يزيد الإيمان، فأنكر عليهم ورد عليهم بقوله: فقال: " أَوَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ فِيمَا أَنْزَلَ: لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ [الفتح:4]، هَذَا الْإِيمَانَ. فَقُلْت: إنَّهُمْ انتحلوك" يعني نسبوا هذا إليك، ". وَبَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ ذَرٍّ دَخَلَ عَلَيْك فِي أَصْحَابٍ لَهُ".

 وابن ذر هذا هو عمر بن ذر بن عبد الله بن زرارة الهمداني المرهبي، أبو ذر الكوفي، وكان رأسًا في الإرجاء، فقالوا له: " أَنَّ ابْنَ ذَرٍّ دَخَلَ عَلَيْك فِي أَصْحَابٍ لَهُ؛ فَعَرَضُوا عَلَيْك قَوْلَهُمْ فَقَبِلْته. فَقُلْت هَذَا الْأَمْرَ فَقَالَ" فأنكر، وقال: "لَا وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: قَدِمْت الْمَدِينَةَ فَجَلَسْت إلَى نَافِعٍ" ونافع هذا مولى ابن عمر رضي الله عنهما، وسأله: " فَقُلْت: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إنَّ لِي إلَيْك حَاجَةً فَقَالَ: سِرٌّ أَمْ عَلَانِيَةٌ؟ فَقُلْت: لَا بَلْ سِرٌّ: قَالَ: رُبَّ سِرٍّ لَا خَيْرَ فِيهِ فَقُلْت: لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ" يعني ليس هذا مِن السر الذي لا خير فيه، قال: فلما صلينا العصر " فَقُلْت: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إنَّ لِي إلَيْك حَاجَةً فَقَالَ: سِرٌّ أَمْ عَلَانِيَةٌ؟ فَقُلْت: لَا بَلْ سِرٌّ: قَالَ: رُبَّ سِرٍّ لَا خَيْرَ فِيهِ فَقُلْت: لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ" يعني لم ينتظر الواعظ الذي يعظ في المسجد، فقال: " حَاجَتُك؟" أو حاجتَك، يعني هات حاجتك، أو ما حاجتك، " قَالَ فَقُلْت: أخلني هَذَا" يعني أخلو بك، كان معهم واحد فقال له: تنحَّ.

 فذكر له قول المرجئة، فقال ردًّا عليهم: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أُمِرْت أَنْ أَضْرِبَهُمْ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يعني استدل الحديث: أُمِرْت أَنْ أَضْرِبَهُمْ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ -وأن محمدًا رسول الله-؛ فَإِذَا قَالُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ([7])، يعني أن النبي ﷺ أُمِر بترك مَن آمن، بشرط أن يأتي بحقوق التوحيد، حقوق الإيمان، وحقوق التوحيد والإيمان هو العمل، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ([8]).

 قال: "قلتُ له:" يعني قلت لنافع: " إنَّهُمْ يَقُولُونَ:" يعني المرجئة، " نَحْنُ نُقِرُّ بِأَنَّ الصَّلَاةَ فَرْضٌ وَلَا نُصَلِّي؛ وَبِأَنَّ الْخَمْرَ حَرَامٌ وَنَشْرَبُهَا؛ وَأَنَّ نِكَاحَ الْأُمَّهَاتِ حَرَامٌ وَنَحْنُ نَنْكِحُ" يعني أنهم يُقرُّون ولا يعملون، قال: " فَنَثَرَ يَدَهُ مِنْ يَدِي وَقَالَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا فَهُوَ كَافِرٌ" يعني لا يكفي التصديق بالقلب، إذا فعل ما يوجب الكفر؛ فإنه يكفر، ولا ينفعه التصديق والعلم، قال معقل:" فَلَقِيت الزُّهْرِيَّ فَأَخْبَرْته بِقَوْلِهِمْ. فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَقَدْ أَخَذَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْخُصُومَاتِ" يتعجب مِن الناس الذين يتكلمون بمثل هذا الكلام ثم استدل الزهري بقول الرسول ﷺ.

 قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ؛ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ([9])، يعني النبي ﷺ نفى الإيمان عمن يفعل الكبائر والجرائم، وهذا النفي إنما هو نفيٌ لكمال الإيمان الواجب، يعني أن إيمانه ضعيف، وإن كان عنده أصل الإيمان، إلا إذا استحل الخمر، فهذا شيءٌ آخر، لكنه إذا لم يستحلها يكون إيمانه ضعيف، ولهذا نفى الإيمان، الرسول ﷺ الإيمان عنه.

 "قَالَ مَعْقِلٌ. فَلَقِيت الْحَكَمَ بْنَ عتبة فَقُلْت لَهُ: إنَّ عَبْدَ الْكَرِيمِ وَمَيْمُونًا بَلَغَهُمَا أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْك نَاسٌ مِنْ الْمُرْجِئَةِ فَعَرَضُوا بِقَوْلِهِمْ عَلَيْك فَقَبِلْت قَوْلَهُمْ؛ قَالَ فَقِيلَ ذَلِكَ عَلَيَّ مَيْمُونٌ؛ وَعَبْدُ الْكَرِيمِ لَقَدْ دَخَلَ عَلَيَّ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا وَأَنَا مَرِيضٌ فَقَالُوا: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ بَلَغَك «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَتَاهُ رَجُلٌ بِأَمَةِ سَوْدَاءَ أَوْ حَبَشِيَّةٍ»([10]) وهي قصة المرأة الأمة الحبشية.

 ومع، وأصل الحديث أصله في مسلم، قصة، مع معاوية بن حَكَم السُّلَمي لما كانت له جارية ترعى خلف أحد، وأنه جاء الذئب وأخذ واحد مِن الغنم فصكَّها فعَظُمَ عليه ذلك، فلما أخبر النبي بذلك شدَّ عليه، فقال: إني أُعتِقها، فسألها النبي ﷺ، قال للجارية: قال لها: أين الله؟ قالت في السماء، مَن أنا؟ قالت أنت رسول الله، قال أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ.

 هنا ذكر في هذه الرواية أنه قال: أَتَاهُ رَجُلٌ بِأَمَةِ سَوْدَاءَ أَوْ حَبَشِيَّةٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيَّ رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ أَفَتَرَى هَذِهِ مُؤْمِنَةً؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَتَشْهَدِينَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. فَقَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: وَتَشْهَدِينَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ: وَتَشْهَدِينَ أَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ: وَتَشْهَدِينَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُك مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ؟  قَالَتْ نَعَمْ؛ قَالَ: فَأَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ، فَخَرَجُوا وَهُمْ يَنْتَحِلُونَ ذَلِكَ، يعني يستدلون بهذه القصة، بهذه، ويستدلون بها على أن الأعمال غير داخلةٍ في مُسمَّى الإيمان.

 وأن الرسول اكتفى منها بالاعتقاد، " قَالَ مَعْقِلٌ: ثُمَّ جَلَسْت إلَى مَيْمُونِ بْنِ مهران فَقُلْت يَا أَبَا أَيُّوبَ لَوْ قَرَأْت لَنَا سُورَةً فَفَسَّرْتهَا قَالَ: فَقَرَأَ: إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير:1] حَتَّى إذَا بَلَغَ: مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:21]، قَالَ: ذَاكُمْ جِبْرِيلُ وَالْخَيْبَةُ لِمَنْ يَقُولُ: أَنَّ إيمَانَهُ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ" يعني مَن يقول: أن إيمانه كإيمان جبريل وهو يعمل المعاصي أو يقصر في الطاعات، ولا يكون الإنسان إيمانه كإيمان جبريل، فإن الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

 ثم قال: " وَرَوَاهُ حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَد وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: لَقَدْ أَتَى عَلَيَّ بُرْهَةٌ مِنْ الدَّهْرِ وَمَا أَرَانِي أُدْرِكُ قَوْمًا يَقُولُ أَحَدُهُمْ: " إنِّي مُؤْمِنٌ مُسْتَكْمِلُ الْإِيمَانِ ثُمَّ مَا رَضِيَ حَتَّى قَالَ: إيمَانِي عَلَى إيمَانِ جِبْرِيلَ وميكائيل وَمَا زَالَ بِهِمْ الشَّيْطَانُ حَتَّى قَالَ أَحَدُهُمْ: إنِّي مُؤْمِنٌ وَإِنْ نَكَحَ أُخْتَهُ وَأُمَّهُ وَبِنْتَهُ" يعني أبو مليكة تعجَّب وقال: يعني كنت أظن أنه لا يأتي علي زمن أدرك هؤلاء الذين يُخرجون الإيمان مِن مُسمَّى الإيمان، والذين يفعلون الجرائم ويقول أحدهم: أنا مؤمن إيماني كإيمان جبريل وميكائيل وهو يفعل الجرائم، ينكح أخته وأمه وبنته، ثم قال: " وَاَللَّهِ لَقَدْ أَدْرَكْت كَذَا وَكَذَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ" عبد الله بن مليكة مِن التابعين، يقول: أدرك عدد مِن أصحاب النبي ﷺ، " وَسَلَّمَ مَا مَاتَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَّا وَهُوَ يَخْشَى النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ" إذا كان هذا أصحاب رسول الله فكيف بغيرهم!

ثم قال: ذكر هذا المعنى البخاري في صحيحه: " قَالَ: أَدْرَكْت ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ([11])؛ مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إيمَانُهُ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ" وهذا يدل على أن الإيمان يتفاوت، وأن العمل هو الذي يكمِّل الإيمان في القلب.

 ثم ذكر رواية البغوي عن ابن مجاهد، قال: "كُنْت عِنْدَ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فَجَاءَ ابْنُهُ يَعْقُوبُ فَقَالَ: يَا أَبَتَاهُ إنَّ أَصْحَابًا لِي يَزْعُمُونَ أَنَّ إيمَانَهُمْ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ؛ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ لَيْسَ إيمَانُ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ كَإِيمَانِ مَنْ عَصَى اللَّه"، فالمؤلف رحمه الله يبيِّن أن السلف في هذا يستدلون بالنصوص مِن كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، ويبينون أن الأعمال لابد منها في مُسمَّى الإيمان، وأن العاصي الذي يفعل الجرائم أو يترك الواجبات إيمانه ضعيف، ناقص، ولا يتم الإيمان إلا بالعمل وإذا فُقِد العمل ولم يكن هناك عمل انتفى الإيمان؛ لأن الأعمال لازمة للإيمان، وإذا انتفى اللازم، انتفى الملزوم، نعم.

(المتن)

قال رحمه الله:

قُلْت: قَوْلُهُ عَنْ الْمُرْجِئَةِ: إنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ لَيْسَتَا مِنْ الدِّينِ قَدْ يَكُونُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ فَإِنَّهُمْ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ: لَيْسَتَا مِنْ الْإِيمَانِ وَأَمَّا مِنْ الدِّينِ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَقُولُ: لَيْسَتَا مِنْ الدِّينِ؛ وَلَا نُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ هُمَا مِنْ الدِّينِ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ اسْمِ الْإِيمَانِ وَاسْمِ الدِّينِ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ الَّتِي يَقُولُونَهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ: وَلَمْ أَرَ أَنَا فِي كِتَابِ أَحَدٍ مُهِمٍّ أَنَّهُ قَالَ: الْأَعْمَالُ لَيْسَتْ مِنْ الدِّينِ، بَلْ يَقُولُونَ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ.

وَكَذَلِكَ حَكَى أَبُو عُبَيْدٍ عَمَّنْ نَاظَرَهُ مِنْهُمْ فَإِنَّ أَبَا عُبَيْدٍ وَغَيْرَهُ يَحْتَجُّونَ بِأَنَّ الْأَعْمَالَ مِنْ الدِّينِ؛ فَذَكَرَ قَوْلَهُ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]، إنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فَأَخْبَرَ أَنَّهُ إنَّمَا كَمَّلَ الدِّينَ الْآنَ فِي آخِرِ الْإِسْلَامِ فِي حَجَّةِ النَّبِيِّ ﷺ وَزَعَمَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ كَانَ كَامِلًا قَبْلَ ذَلِكَ بِعِشْرِينَ سَنَةً مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ بِمَكَّةَ حِينَ دَعَا النَّاسَ إلَى الْإِقْرَارِ حَتَّى قَالَ: لَقَدْ اُضْطُرَّ بَعْضُهُمْ حِينَ أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْحُجَّةُ إلَى أَنْ قَالَ: إنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ بِجَمِيعِ الدِّينِ وَلَكِنَّ الدِّينَ ثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ: الْإِيمَانُ جُزْءٌ؛ وَالْفَرَائِضُ جُزْءٌ وَالنَّوَافِلُ جُزْءٌ.

قُلْت: هَذَا الَّذِي قَالَهُ هَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْقَوْمِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَهَذَا غَيْرُ مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ أَلَا تَسْمَعُ إلَى قَوْلِهِ: إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران:19]، وَقَالَ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85].

وَقَالَ: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة:3]، فَأَخْبَرَ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الدِّينُ بِرُمَّتِهِ؛ وَزَعَمَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ ثُلُثُ الدِّينِ. قُلْت: إنَّمَا قَالُوا: إنَّ الْإِيمَانَ ثُلُثٌ وَلَمْ يَقُولُوا إنَّ الْإِيمَانَ ثُلُثُ الدِّينِ.

لَكِنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ مُسمَّى الْإِيمَانِ وَمُسَمَّى الدِّينِ، وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَلَامَ فِي مُسمَّى هَذَا، وَمُسَمَّى هَذَا، فَقَدْ يُحْكَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَقُولُ لَيْسَتَا مِنْ الدِّينِ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ اسْمِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ كِلَاهُمَا مِنْ الدِّينِ، وَالشَّافِعِيُّ كَانَ مُعَظِّمًا لِعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَيَقُولُ: لَيْسَ فِي التَّابِعِينَ أَتْبَعُ لِلْحَدِيثِ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ: مَا رَأَيْت مِثْلَ عَطَاءٍ، وَقَدْ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ هَذِهِ الْحُجَّةَ عَنْ عَطَاءٍ.

فَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ: حَدَّثَنَا أَبِي عبد الملك بن حميد الميموني حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ بْنُ محمدٍ الشَّافِعِيِّ سَمِعْت أَبِي يَقُولُ لَيْلَةً للحميدي: مَا يُحْتَجُّ عَلَيْهِمْ يَعْنِي أَهْلَ الْإِرْجَاءِ بِآيَةِ أَحَجُّ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5].

(الشرح)

نعم، المؤلف رحمه الله يقول: "قُلْت: قَوْلُهُ"؛ يعني الحسن، "عَنْ الْمُرْجِئَةِ: إنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ لَيْسَتَا مِنْ الدِّينِ قَدْ يَكُونُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ" يعني بعض المرجئة، ليس قولًا لكلهم، يقولون عن المرجئة، إنهم يقولون: " إنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ لَيْسَتَا مِنْ الدِّينِ قَدْ يَكُونُ هذا قَوْلُ بَعْضِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَيْسَتَا مِنْ الْإِيمَانِ" يعني المرجئة المعروفون يقولون: ليستا مِن الإيمان، وأما الدين فهذا، كونه مِن الدين فهذا فيه خلافٌ بين المرجئة لكن المرجئة يقولون: الصلاة والزكاة ليستا مِن الإيمان، أما القول بأنه ليستا مِن الدين، فهذا ليس قولًا للجميع، ولكنه قولٌ لبعضهم.

 والواقع والصواب: أن مُسمَّى الإيمان هو مُسمَّى الدين عند الإطلاق، لكن هم المرجئة هكذا هم يقولون: الصلاة والزكاة ليستا مِن الإيمان، أما مِن الدين: فقال بعضهم: إنها مِن الدين؛ لأن الدين غير الإيمان عندهم، الدين عمل، والإيمان هو التصديق في القلب، فلهذا المرجئة يقولون: إن الصلاة والزكاة ليستا مِن الدين، ليستا مِن الإيمان، ويقولون: إنهما مِن الدين، وبعضهم يقول: ليستا مِن الدين.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " قُلْت: قَوْلُهُ عَنْ " الْمُرْجِئَةِ ": إنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ لَيْسَتَا مِنْ الدِّينِ قَدْ يَكُونُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ فَإِنَّهُمْ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ: لَيْسَتَا مِنْ الْإِيمَانِ"؛ لأن الإيمان هو التصديق في القلب وأما الدين هو العمل؛ فلهذا اختلفوا، وأما مِن الدين فقد حُكِي عن بعضهم أنه يقول: ليستا مِن الدين ولا نُفرق بين الإيمان والدين، ومنهم مَن يقول: بل هما مِن الدين، ويفرق بين اسم الإيمان واسم الدين، كما سبق؛ لأن اسم الإيمان هو التصديق في القلب، والدين هو عمل، وهم يفرقون، وهذا هو المعروف مِن أقوالهم، التي يقولونها على أنفسهم، أنهم يُفرِّقون.

 يقول المؤلف: " وَلَمْ أَرَ أَنَا فِي كِتَابِ أَحَدٍ مُهِمٍّ أَنَّهُ قَالَ: الْأَعْمَالُ لَيْسَتْ مِنْ الدِّينِ بَلْ يَقُولُونَ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ وَكَذَلِكَ" أبو عبيد القاسم بن سلَّام رحمه الله حَكَى " عَمَّنْ نَاظَرَهُ مِنْهُمْ فَإِنَّ أَبَا عُبَيْدٍ وَغَيْرَهُ يَحْتَجُّونَ بِأَنَّ الْأَعْمَالَ مِنْ الدِّينِ؛ فَذَكَرَ قَوْلَهُ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]" إذًا الدين يَكمُل وكذلك الإيمان، والدين هو الإيمان عند الإطلاق، قال: "إنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ رحمه الله: فَأَخْبَرَ أَنَّهُ إنَّمَا كَمَّلَ الدِّينَ الْآنَ فِي آخِرِ الْإِسْلَامِ فِي حَجَّةِ النَّبِيِّ ﷺ وَزَعَمَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ كَانَ كَامِلًا قَبْلَ ذَلِكَ بِعِشْرِينَ سَنَةً مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ بِمَكَّةَ حِينَ دَعَا النَّاسَ إلَى الْإِقْرَارِ" يعني يقول: إن النصوص تدل على بطلان قول المرجئة.

 فالمرجئة يقولون: الإيمان كامل من أول، قبل عشرين سنة، مِن أول ما نزل على النبي ﷺ الوحي، والله تعالى أخبر أن الدين إنما كَمُل في حجة الوداع؛ لأن هذه الآية نزلت على النبي ﷺ وهو واقفٌ بعرفة، آية المائدة: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة:3]، فأخبر أنه كمُل الآن، والدين هو الإسلام، وهو الإيمان، فإنه كَمُل الدين الآن في آخر الإسلام في حجة الوداع، في حجة النبي ﷺ، وزعم هؤلاء المرجئة أنه كان كاملًا قبل ذلك بعشرين سنة، مِن أول ما نزل عليه الوحي عليه الصلاة والسلام حين دعا الناس إلى الإقرار.

حتى قال: " لَقَدْ اُضْطُرَّ بَعْضُهُمْ حِينَ أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْحُجَّةُ إلَى أَنْ قَالَ: إنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ بِجَمِيعِ الدِّينِ وَلَكِنَّ الدِّينَ ثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ: الْإِيمَانُ جُزْءٌ؛ وَالْفَرَائِضُ جُزْءٌ وَالنَّوَافِلُ جُزْءٌ" أبو عبيدة، أبو عبيد القاسم أبو سلام، القاسم بن سلَّام، يقول: لما ألجأ المرجئة واضطرَّهم، إلى، ألزمهم الحجة ولا يستطيعون الخصام، ولا يستطيعون الإجابة، قالوا: "الْإِيمَانَ لَيْسَ بِجَمِيعِ الدِّينِ وَلَكِنَّ الدِّينَ ثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ" جزَّأوه ثلاثة أجزاء، فرارًا مِن إلزام أبي عُبيد لهم، " الْإِيمَانُ جُزْءٌ؛ وَالْفَرَائِضُ جُزْءٌ وَالنَّوَافِلُ جُزْءٌ" يقول المؤلف رحمه الله: " قُلْت: هَذَا الَّذِي قَالَهُ هَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْقَوْمِ"، يعني هو مذهب المرجئة.

" قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَهَذَا غَيْرُ مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ أَلَا تَسْمَعُ إلَى قَوْلِهِ: إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران:19]، وَقَالَ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]. وَقَالَ: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة:3]، فَأَخْبَرَ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الدِّينُ بِرُمَّتِهِ" الإسلام هو الدين، وهو الإيمان برمَّته، وزعم هؤلاء المرجئة أنه ثلُث الدين، يعني قسَّموه إلى ثلاثة أجزاء، قالوا: الدين، الإيمان جزء، والفرائض جزء، والنوافل جزء.

 والنصوص دلت على أن الإيمان إذا أُطلِق فإنه يشمل جميع الأعمال، ما في القلوب، أعمال القلوب وأعمال الجوارح، وكذلك الإسلام إذا أُطلِق، وكذلك الدين إذا أُطلِق، قال المؤلف رحمه الله: " قُلْت: إنَّمَا قَالُوا: إنَّ الْإِيمَانَ ثُلُثٌ وَلَمْ يَقُولُوا إنَّ الْإِيمَانَ ثُلُثُ الدِّينِ.

لَكِنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ مُسمَّى الْإِيمَانِ وَمُسَمَّى الدِّينِ" هذا هو السبب، قالوا إن الإيمان ثلُث ولم يقولوا إن الإيمان ثلُث الدين؛ لأنه، لكونهم فرَّقوا بين مُسمَّى الإيمان ومسمى الدين.

ثم قال المؤلف رحمه الله: " وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَلَامَ فِي مُسمَّى هَذَا وَمُسَمَّى هَذَا وأنه يُحْكَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَقُولُ لَيْسَتَا مِنْ الدِّينِ" يعني الصلاة والزكاة، ويُفرِّق بين اسم الإيمان واسم الدين.

 ومنهم مَن يقول بل كلاهما مِن الدين، وذكر قول ما نُقل عن الشافعي رحمه الله، أنه كان مُعظمًا لعطاء بن أبي رباح، وأنه ليس، يقول: ليس في التابعين أتبع للحديث، وكذلك أبو حنيفة، الإمام أبو حنيفة قال: ما رأيت مثل عطاء، وقد أخذ الشافعي هذه الحجة عن عطاء، وذكر بسنده أنه قال: " سَمِعْت أَبِي يَقُولُ لَيْلَةً للحميدي: مَا يُحْتَجُّ عَلَيْهِمْ يَعْنِي أَهْلَ الْإِرْجَاءِ بِآيَةِ أَحَجُّ مِن هذه الآية، وهي قوله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]"، وذلك أنه بيَّن أن العبادة، أن الله تعالى أوجب العبادة، قال: لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، والدين هو العبادة، ثم أدخل، ثم خصَّ الصلاة والزكاة تخصيصًا بعد تعميم، فدل على أنهما داخلتان في العبادة.

(المتن)

توقفنا عند قول المؤلف رحمه الله:

"َقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ فِي (بَابِ النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ: يُحْتَجُّ بِأَنْ لَا تُجْزِئَ صَلَاةٌ إلَّا بِنِيَّةِ بِحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ([12]).

ثُمَّ قَالَ: وَكَانَ الْإِجْمَاعُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ومَنْ بَعْدِهِمْ وَمَنْ أَدْرَكْنَاهُمْ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ لَا يُجْزِئُ وَاحِدٌ مِنْ الثَّلَاثِ إلَّا بِالْآخَرِ.

وَقَالَ حَنْبَلٌ: حَدَّثَنَا الحميدي قَالَ: وَأُخْبِرْت أَنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: مَنْ أَقَرَّ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَلَمْ يَفْعَلْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا حَتَّى يَمُوتَ وَيُصَلِّيَ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ حَتَّى يَمُوتَ؛ فَهُوَ مُؤْمِنٌ مَا لَمْ يَكُنْ جَاحِدًا إذَا عَلِمَ أَنَّ تَرْكَهُ ذَلِكَ فِيهِ إيمَانُهُ إذَا كَانَ مُقِرًّا بِالْفَرَائِضِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فَقُلْت: هَذَا الْكُفْرُ الصُّرَاحُ وَخِلَافُ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5]، الْآيَةَ. وَقَالَ حَنْبَلٌ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: مَنْ قَالَ هَذَا فَقَدَ كَفَرَ بِاَللَّهِ وَرَدَّ عَلَى أَمْرِهِ وَعَلَى الرَّسُولِ مَا جَاءَ بِهِ عَنْ اللَّهِ.

(الشرح)

فقد سبق أن بيَّن المؤلف رحمه الله أن المرجئة ثلاثة أصناف؛ الصنف الأول: الذين يقولون: الإيمان مجرد ما في القلب، ومِن هؤلاء مَن يُدخل أعمال القلوب، وهم أكثر فرق المرجئة، ومنهم مَن لا يدخل أعمال القلوب، كجهم بن صفوان، والصالحي، أبو الحسين الصالحي.

 والقول الثاني: ممن يقول إن الإيمان هو مجرد قول اللسان، وهذا قول الكرَّامية.

والقول الثالث: مَن يقول إن الإيمان هو تصديق القلب وقول اللسان، وهذا هو مذهب مرجئة الفقهاء.

ثم بيَّن المؤلف رحمه الله غلط هؤلاء، وأن هؤلاء، قال: إن هؤلاء غلطوا مِن وجوه.

 الوجه الأول: أنهم ظنوا أن الإيمان الذي فرضه الله على العباد متماثل في حق العباد، وأن الإيمان الذي يجب على شخصٍ، يجب مثله على كل شخص، وليس الأمر كذلك.

والوجه الثاني: أنهم، مِن غلط المرجئة، أنهم ظنوا أنما في القلب مِن الإيمان ليس إلا التصديق، فقط، دون أعمال القلوب.

 والوجه الثالث: أنهم ظنوا أن الإيمان الذي في القلب يكون تامًّا بدون شيءٍ مِن الأعمال؛ ولهذا يجعلون الأعمال ثمرة الإيمان ومقتضاه، بمنزلة السبب مع المسبَّب، ولا يجعلونها لازمةً له، والتحقيق: أن إيمان القلب التام يستلزم العمل الظاهر، بحسبه لا محالة، ويمتنع أن يقوم بالقلب إيمانٌ تام، بدون عملٍ ظاهر.

 ثم بيَّن المؤلف رحمه الله قول المرجئة إنهم، أجاب عن قول المرجئة: إن الصلاة والزكاة ليسا مِن الدين، لما قال معقِل بن عبد الله العبسي لعطاء بن أبي رباح، قال: إنهم يقولون: إن الصلاة والزكاة ليستا مِن الدين، يقول المؤلف رحمه الله: هذا القول قد يكون لبعضهم، فإنهم كلهم يعني المرجئة يقولون: ليسا مِن الإيمان، وأما مِن الدين، فقد حُكِي عن بعضهم إنه يقول: ليستا مِن الدين، ولم يُفرِّقوا بين الإيمان والدين، ومنهم مَن يقول: بل هو مِن الدين.

 ثم بيَّن المؤلف رحمه الله أن هؤلاء المرجئة يُرَد عليهم بقول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3] وهذه الآية نزلت في حجة الوداع، فأخبر أنه تعالى، إنما كَمُل الدين في آخر الإسلام، وقال: وزعم أن هؤلاء يعني المرجئة أنه كن كاملًا قبل ذلك بعشرين سنة، مِن أول ما نزل عليه الوحي بمكة، حين دعا الناس إلى الإقرار.

وقال المؤلف رحمه الله: قلت: هذا الذي قاله هو مذهب القوم، وقال أبو عبيد: هذا مُخالف للكتاب، ألم تسمع إلى قوله تعالى: إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران:19]، وَقَالَ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]. وَقَالَ: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة:3].

 فَأَخْبَرَ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الدِّينُ بِرُمَّتِهِ؛ وَزَعَمَ هَؤُلَاءِ" يعني المرجئة " أَنَّهُ ثُلُثُ الدِّينِ" لأنهم يقولون: أن الدين ثلاثة أجزاء، الإيمان جزء، والفرائض جزء، والنوافل جزء.

ثم رد عليهم المؤلف رحمه الله بالكتاب والسنة وبأقوال العلماء.

ثم قال: " وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " فِي بَابِ النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ: يُحْتَجُّ" يعني على المرجئة بأن الأعمال والنية داخلة في مُسمَّى الإيمان، يُحتَجُّ عليهم " بِأَنْ لَا تُجْزِئَ صَلَاةٌ إلَّا بِنِيَّةِ بِحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ([13])" وهذا الحديث أخرجه الشيخان.

ثم قال: يعني الإمام الشافعي رحمه الله، " وَكَانَ الْإِجْمَاعُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ومَنْ بَعْدِهِمْ وَمَنْ أَدْرَكْنَاهُمْ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ لَا يُجْزِئُ وَاحِدٌ مِنْ الثَّلَاثِ إلَّا بِالْآخَرِ".

 هذا فيه رد على المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان هو القول فقط، نقل الإمام الشافعي رحمه الله، الإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ومن أدركهم أنهم يقولون: إن الإيمان قولٌ وعملٌ ونية، قول القلب وقول اللسان وعمل القلب وعمل الجوارح ونية، لا يُجزِئ واحد مِن الثلاث إلا بالآخر، لا يُجزِئ القول بدون العمل، ولا يُجزِئ العمل إلا بالنية.

 ثم قال المؤلف رحمه الله: "وَقَالَ حَنْبَلٌ: حَدَّثَنَا الحميدي قَالَ: وَأُخْبِرْت أَنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: مَنْ أَقَرَّ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَلَمْ يَفْعَلْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا حَتَّى يَمُوتَ وَيُصَلِّيَ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ حَتَّى يَمُوتَ؛ فَهُوَ مُؤْمِنٌ مَا لَمْ يَكُنْ جَاحِدًا إذَا عَلِمَ" يعني الجاحد، التارك، "إذَا عَلِمَ أَنَّ تَرْكَهُ ذَلِكَ فِيهِ إيمَانُهُ إذَا كَانَ مُقِرًّا بِالْفَرَائِضِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فَقُلْت: هَذَا الْكُفْرُ الصُّرَاحُ" القائل الحُمَيدي، " فَقُلْت: هَذَا الْكُفْرُ الصُّرَاحُ وَخِلَافُ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ" وإنما كفَّرَهم الحُمَيدي؛ لأنهم لم ينقادوا لشرع الله ودينه؛ لأنهم أبَوا واستكبروا، يعني هو أبى واستكبر عن عبادة الله.

 فالذي يقول: يُقِرّ بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولا يفعل شيئًا مِن ذلك حتى يموت، ويصلي مستدبر القلبة حتى يموت، هذا قد أبى واستكبر عن عبادة الله، وردَّ أمر الله وأمر رسوله، فكان كفره مثل كفر إبليس، وفرعون، واليهود، لا ينفعهم الإقرار، كما لم ينفع إبليس إقراره بأمر الله، بل لابد في الإيمان بالله وبرسوله ﷺ مِن الانقياد لحكم التوحيد، والصلاة والزكاة والحج وغيرها؛ ولهذا قال الحميدي رحمه الله عن هؤلاء الذين يُقرون، مَن يقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولا يفعل شيئًا مِن ذلك حتى يموت ويُصلي مستدبر القبلة حتى يموت، هذا لم ينقد لشرع الله ودينه.

 ولهذا قال: " فَقُلْت: هَذَا الْكُفْرُ الصُّرَاحُ وَخِلَافُ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ".

ثم استدل بقول الله تعالى، قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5] فبين أن الدين هو إخلاص العبادة لله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وذلك دين القيمة.

 ثم قال المؤلف رحمه الله: " وَقَالَ حَنْبَلٌ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ رحمه الله يَقُولُ: مَنْ قَالَ هَذَا فَقَدَ كَفَرَ بِاَللَّهِ" يعني مَن قال: إنه يُقر بالصلاة والزكاة والصوم ولا يفعل، ولا يمتثل أمر الله وأمر رسوله، مَن قال هذا: فقد كفر بالله ورد على أمره وعلى الرسول ﷺ ما جاء بع عن الله، هذا كفرٌ؛ لأنه رد، رد أمر الله وأمر الرسول، أبى، أبى واستكبر عن عبادة الله، فلهذا كفَّرَهم الإمام أحمد رحمه الله والحُمَيدي، نعم.

 فدل هذا على أن، أنه لابد في الإيمان مِن العمل، ما يكفي الإقرار والتصديق؛ بل لابد مِن العمل؛ لأن العمل مِن حقوق التوحيد، لابد مِن الانقياد، يعني يؤمن الإنسان ويُقر ثم ينقاد لشرع الله ودينه، ينقاد بحقوق التوحيد والإيمان، حقوق التوحيد هي الأعمال الواجبة يفعلها المسلم ابتغاء مرضاة الله والمحرمات يتركها، أما مَن يدَّعي أنه مؤمنٌ بقلبه ولا يعمل ولا ينقاد لشرع الله ودينه هذا مستكبر عن عبادة الله، وهذا هو إيمان إبليس وإيمان فرعون، وإيمان اليهود الذين أبوا واستكبروا، نسأل الله السلامة والعافية، نعم.

(المتن)

قُلْت: وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِهِ لِلْأَمَةِ أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ([14])، فَهُوَ مِنْ حُجَجِهِمْ الْمَشْهُورَةِ، وَبِهِ احْتَجَّ ابْنُ كُلَّابٍ وَكَانَ يَقُولُ: الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ وَالْقَوْلُ جَمِيعًا فَكَانَ قَوْلُهُ أَقْرَبَ مِنْ قَوْلِ جَهْمٍ وَأَتْبَاعِهِ، وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ.

لِأَنَّ الْإِيمَانَ الظَّاهِرَ الَّذِي تَجْرِي عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ فِي الدُّنْيَا لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ فِي الْبَاطِنِ الَّذِي يَكُونُ صَاحِبُهُ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]، هُمْ فِي الظَّاهِرِ مُؤْمِنُونَ يُصَلُّونَ مَعَ النَّاسِ، وَيَصُومُونَ وَيَحُجُّونَ وَيَغْزُونَ وَالْمُسْلِمُونَ يُنَاكِحُونَهُمْ ويوارثونهم كَمَا كَانَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.

وَلَمْ يَحْكُمْ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْمُنَافِقِينَ بِحُكْمِ الْكُفَّارِ الْمُظْهِرِينَ لِلْكُفْرِ لَا فِي مُنَاكَحَتِهِمْ وَلَا موارثتهم وَلَا نَحْوِ ذَلِكَ؛ بَلْ لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي ابْنُ سلول -وَهُوَ مِنْ أَشْهَرِ النَّاسِ بِالنِّفَاقِ- وَرِثَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَهُوَ مِنْ خِيَارِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَنْ كَانَ يَمُوتُ مِنْهُمْ يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ الْمُؤْمِنُونَ؛ وَإِذَا مَاتَ لِأَحَدِهِمْ وَارِثٌ وَرِثُوهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ.

(الشرح)

نعم، هذا رد من المؤلف رحمه الله على المرجئة في احتجاجهم بحديث الأمَة، الأمَة الجارية التي صكّها معاوية بن الحكم السلمي، وكانت ترعى في غنمٍ له، فلما أخذ الذئب واحدةً منها صكَّها، فجاء إلى النبي ﷺ، فأنكر عليه النبي ﷺ، فقال للنبي ﷺ: إني أعتقها، فقال: ائت بها، فسألها، فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: مَن أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَة([15]).

 احتج، والحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه، احتج المرجئة بقصة الأمَة، بقول النبي ﷺ للأمة: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَة([16]) على أن الأعمال لا تدخل في مُسمَّى الإيمان؛ لأن النبي ﷺ سألها عن الله، وسألها عنه، فلما أقرَّت وصدَّقت اكتفى بذلك ولم يأمرها بالعمل، فدل على أنها، الأعمال ليست داخلةٌ في مُسمَّى الإيمان.

 قال المؤلف رحمه الله في الرد عليهم: " قُلْت: وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِهِ" يعني بقول النبي ﷺ للأمَة: "أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَة([17])، فَهُوَ مِنْ حُجَجِهِمْ الْمَشْهُورَةِ" يعني مِن حجج المرجئة المشهورة، " وَبِهِ احْتَجَّ ابْنُ كُلَّابٍ وَكَانَ يَقُولُ: الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ وَالْقَوْلُ جَمِيعًا" ابن كُلَّاب، عبد الله بن سعيد بن كُلَّاب هو الذي جاء بعد الأشاعرة، وثم سار على طريقته أبو الحسن الأشعري، فصاروا يُثبتون الصفات الذاتية وينكرون الصفات الاختيارية.

 فكانوا بين المعتزلة وبين أهل السنة، وفي الإيمان، يقولون: الإيمان هو التصديق والقول جميعًا، وهذا هو الذي يعتقده أهل الكوفة، العُبَّاد مِن أهل الكوفة.

 ومذهب الإمام أبي حنيفة، يقول: " الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ وَالْقَوْلُ جَمِيعًا" يعني التصديق بالقلب والإقرار باللسان، وأما الأعمال فلا تدخل في مُسمَّى الإيمان، وأما الجهمية فإنهم يقولون: الإيمان هو التصديق، هو التصديق بالقلب، يعني هو المعرفة فقط، يقول المؤلف رحمه الله: " فَكَانَ قَوْلُهُ أَقْرَبَ مِنْ قَوْلِ جَهْمٍ وَأَتْبَاعِهِ" قول ابن كُلَّاب أقرب إلى الحق مِن قول جهم، لماذا؟

 لأن جهمًا يرى أن الإيمان هو معرفة الرب بالقلب، يكفي معرفة الرب بالقلب، المعرفة التصديق المجرد بالقلب، وأما ابن كُلَّاب فقال: هو التصديق بالقلب والقول باللسان، وهذا هو مذهب مرجئة الفقهاء؛ ولهذا كان قول ابن كُلَّاب أقرب إلى الحق مِن قول جهمٍ وأتباعه.

 قال المؤلف رحمه الله: " وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ" يعني احتجاجهم بحديث الأمة على أن الأعمال لا تدخل في مُسمَّى الإيمان، لا حجة لهم فيه، بيَّن المؤلف رحمه الله السبب؛ قال: " لِأَنَّ الْإِيمَانَ الظَّاهِرَ الَّذِي تَجْرِي عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ فِي الدُّنْيَا لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ فِي الْبَاطِنِ الَّذِي يَكُونُ صَاحِبُهُ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فِي الْآخِرَةِ" لأن، بيَّن المؤلف رحمه الله أن هذه الجارية أجرى عليها النبي ﷺ حكم الإيمان في الدنيا، وأما أحكام الآخرة فتختلف، فأحكام الدنيا تختلف عن أحكام الآخرة، ففي الدنيا مَن أظهر الإيمان وأظهر الالتزام بالشريعة، تُجرَى عليه أحكام الإسلام.

 وقد يكون منافقًا في الباطن فيكون في الدرك الأسفل مِن النار، فيكون حكمه في الآخرة مُخَلدٌ في النار، وحكمه في الدنيا تُجرَى عليه أحكام الإسلام، وبهذا فلا تكون قصة الأمَة حجة للمرجئة؛ لأن النبي ﷺ، أجرى عليها الأحكام في الظاهر، قال: قال لمعاوية: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَة([18])، هذا الحكم حكمٌ في الدنيا، وأما في الآخرة فأمرها إلى الله، إن كانت مُصدِّقة في الباطن فهي مؤمنة، ظاهرًا وباطنًا، وإن كانت مكذبة في الباطن فلا ينفعها الإيمان؛ فتكون، فيكون هذا هو النفاق ولا ينفعها إجراء الأحكام عليها في الظاهر.

 قال المؤلف رحمه الله: " فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]، هُمْ فِي الظَّاهِرِ مُؤْمِنُونَ يُصَلُّونَ مَعَ النَّاسِ. وَيَصُومُونَ وَيَحُجُّونَ وَيَغْزُونَ وَالْمُسْلِمُونَ يُنَاكِحُونَهُمْ ويوارثونهم" يعني المنافقين الذين حكم الله عليهم بالكفر في قوله : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]، أثبت لهم الإيمان باللسان، ونفى عنهم الإيمان بالقلب، يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ هذا بألسنتهم، وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ بقلوبهم.

 هؤلاء في الظاهرِ مؤمنون، الأحكام الظاهرة، يُجرَى، تُجرَى عليهم أحكام الإسلام، لماذا؟ لأنهم يُظهرون، هم يظهرون أنهم ملتزمون بأحكام لإسلام؛ فيصلون مع الناس ويصومون ويحجون ويغزون والمسلمون يناكحونهم ويوارثونهم، من مات منهم ورثه أقاربه المسلمون، وكذلك في النكاح، وفي الموت، إذا مات غُسِّل وصُلِّي عليه، إلا إذا أظهر كفره وردته.

 كما كان المنافقون، يقول المؤلف: "كَمَا كَانَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَلَمْ يَحْكُمْ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْمُنَافِقِينَ بِحُكْمِ الْكُفَّارِ الْمُظْهِرِينَ لِلْكُفْرِ لَا فِي مُنَاكَحَتِهِمْ وَلَا موارثتهم وَلَا نَحْوِ ذَلِكَ" بل النبي ﷺ حكم في المنافقين بحكم المسلمين، فالأحكام في الدنيا.

 فالناس قسمان في الدنيا:

القسم الأول: مَن أظهر الإسلام والإيمان مِن المؤمنين ومِن المنافقين، حكمهم؛ تُجرى عليهم أحكام الإسلام.

والقسم الثاني: مَن أظهر الكفر تُجرَى عليهم أحكام الكفر.

وأما في الآخرة فالناس ثلاثة أقسام:

مَن كان مؤمنًا ظاهرًا وباطنًا هذا هو المؤمن، ومَن كان كافرًا ظاهرًا وباطنًا؛ هذا كافر ظاهراً وباطنًا، ومَن كان كافرًا في الباطن مؤمنًا في الظاهر؛ فهذا هو المنافق في الدرك الأسفل مِن النار، مِن الكفار، بل المنافقون أشد، المنافقون أشد عذابًا مِن الكفار ظاهرًا وباطنًا؛ لأنهم وافقوا الكفار في الكفر وزادوا في الخداع والتلبيس.

 يقول المؤلف رحمه الله: " بَلْ لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي ابْنُ سلول - وَهُوَ مِنْ أَشْهَرِ النَّاسِ بِالنِّفَاقِ - وَرِثَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَهُوَ مِنْ خِيَارِ الْمُؤْمِنِينَ" عبد الله بن أُبَيّ بن سلول هذا رئيس المنافقين، وهو مِن أشهر الناس بالنفاق، لكنه يُظهِر الإسلام، ولما مات ورثه ابنه عبد الله، أجرِيَت عليه الأحكام في الدنيا، أجرِيَت عليه أحكام المسلمين في الدنيا، ورثه ابنه عبد الله، وابنه عبد الله مِن خيار المؤمنين، ومن أصلح المؤمنين.

 " وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَنْ كَانَ يَمُوتُ مِنْهُمْ" يعني مِن المنافقين، " يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ الْمُؤْمِنُونَ؛ وَإِذَا مَاتَ لِأَحَدِهِمْ وَارِثٌ وَرِثُوهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ"؛ لأن الأحكام في الدنيا تُجرى على مَن أظهر، أحكام المسلمين تُجرى على مَن أظهر الإسلام، ولو كان منافقًا في الباطن، فهذا إنما يكون أمره إلى الله، وأما في الدنيا فإنه تُجرَى عليه أحكام الإسلام، وبهذا يتبين أنه لا حجة للمرجئة بحديث الأمة، وأن النبي ﷺ اكتفى منها بالإيمان والتصديق؛ لأن النبي ﷺ أجرى عليها الأحكام، أحكام الإسلام في الظاهر، نعم.

(المتن)

وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُنَافِقِ الزِّنْدِيقِ الَّذِي يَكْتُمُ زَنْدَقَتَهُ هَلْ يَرِثُ وَيُورَثُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَرِثُ وَيُورَثُ وَإِنْ عُلِمَ فِي الْبَاطِنِ أَنَّهُ مُنَافِقٌ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُوَالَاةِ الظَّاهِرَةِ لَا عَلَى الْمَحَبَّةِ الَّتِي فِي الْقُلُوبِ فَإِنَّهُ لَوْ عُلِّقَ بِذَلِكَ لَمْ تُمْكِنْ مَعْرِفَتُهُ وَالْحِكْمَةُ إذَا كَانَتْ خَفِيَّةً أَوْ مُنْتَشِرَةً عُلِّقَ الْحُكْمُ بِمَظِنَّتِهَا وَهُوَ مَا أَظْهَرَهُ مِنْ مُوَالَاةِ الْمُسْلِمِينَ.

فَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ([19]) لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْمُنَافِقُونَ وَإِنْ كَانُوا فِي الْآخِرَةِ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ؛ بَلْ كَانُوا يُورَثُونَ وَيَرِثُونَ؛ وَكَذَلِكَ كَانُوا فِي الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ وَيُزَكُّونَ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَقَالَ: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة:54]، وَقَالَ إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا [النساء:142].

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا([20])، وَكَانُوا يَخْرُجُونَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْمَغَازِي كَمَا خَرَجَ ابْنُ أبي فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَقَالَ فِيهَا: لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون:8].

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي سَفَرٍ أَصَابَ النَّاسَ فِيهَا شِدَّةٌ؛ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي لِأَصْحَابِهِ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ. وَقَالَ: لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون:8]، فَأَتَيْت النَّبِيَّ ﷺ فَأَخْبَرْته فَأَرْسَلَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي؛ فَسَأَلَهُ فَاجْتَهَدَ يَمِينَهُ مَا فَعَلَ فقَالُوا: كَذَبَ زَيْدٌ رَسُولَ اللَّهِ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِمَّا قَالُوه شِدَّةٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقِي إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ [المنافقون:1]، قال: ثم دَعَاهُمْ النَّبِيُّ ﷺ لِيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ فلووا رُءُوسَهُمْ.

وَفِي غَزْوَةِ تَبُوكَ اسْتَنْفَرَهُمْ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا اسْتَنْفَرَ غَيْرَهُمْ فَخَرَجَ بَعْضُهُمْ مَعَهُ وَبَعْضُهُمْ تَخَلَّفُوا وَكَانَ فِي الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ مَنْ هَمَّ بِقَتْلِهِ فِي الطَّرِيقِ هَمُّوا بِحَلِّ حِزَامِ نَاقَتِهِ لِيَقَعَ فِي وَادٍ هُنَاكَ فَجَاءَهُ الْوَحْيُ فَأَسَرَّ إلَى حُذَيْفَةَ أَسْمَاءَهُمْ وَلِذَلِكَ يُقَالُ: هُوَ صَاحِبُ السِّرِّ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُه.

كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ، وَمَعَ هَذَا فَفِي الظَّاهِرِ تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ أَهْلِ الْإِيمَانِ.

(الشرح)

نعم هنا يبيِّن المؤلف رحمه الله نزاع الفقهاء في المنافق الزنديق، الزنديق اسمٌ للمنافق، كان المنافق الذي يُظهر الإسلام ويُبطن الكفر، كان يُسمى في زمن النبي ﷺ منافقًا، ثم صار بعد ذلك يُسمى، يُسمى الزنديق، وهي كلمة، أصلها كلمة فارسية، والزنديق هو المنافق الذي يُظهر الإسلام ويُبطن الكفر، وصار يُسمى في هذا الزمن عَلْماني، العلماني، فالمنافق والزنديق والعلماني، كلها أسماء، مُسماها الشخص الذي يُبطن الإسلام ويبطن الكفر، المنافق، هو المنافق، نسأل الله السلامة والعافية.

 يقول المؤلف رحمه الله: " وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُنَافِقِ الزِّنْدِيقِ الَّذِي يَكْتُمُ زَنْدَقَتَهُ هَلْ يَرِثُ وَيُورَثُ؟" يعني تنازع الفقهاء في الشخص الذي يُظهر الإسلام، لكنه في الباطن كافر، هل يرث ويورث؟ على قولين؛ يعني مِن العلماء مَن قال: يرث ويورث، ومنهم مَن قال: لا يرث ولا يورث.

ثم قال المؤلف رحمه الله: " وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَرِثُ وَيُورَثُ وَإِنْ عُلِمَ فِي الْبَاطِنِ أَنَّهُ مُنَافِقٌ" يعني أصح القولين: أنه يرث ويورث ولو عُلِم في الباطن أنه منافق ما دام أنه لم يُظهر ما في قلبه مِن النفاق، والدليل عليه، استدل المؤلف رحمه الله قال: " كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ" يعني يورثون المنافقين ويرثونهم، والنبي ﷺ يُقرهم على ذلك.

 ثم بيَّن المؤلف رحمه الله وجه التنظير فقال: " لِأَنَّ الْمِيرَاثَ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُوَالَاةِ الظَّاهِرَةِ" الميراث مبنيٌ على الموالاة الظاهرة، وهم في الظاهر مسلمون، في الظاهرِ يُظهرون الإسلام، وينطقون بالشهادتين، ويصلون مع النبي ﷺ، ويُجاهدون ويَغزون، ويَحجون؛ فلما كان الميراث مبناه على الموالاة الظاهرة وُرِّثُو.

 فالميراث إنما هو مبناه على الموالاة الظاهرة، لا على المحبة التي في القلوب، لماذا؟ لأنه لو عُلِّق على المحبة في القلوب لما أمكن معرفته.

واستدل المؤلف رحمه الله بقاعدة شرعية: أن الحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة فإنه يُعلَّق الحكم بمظنتها، الآن الحكمة الآن، غير معروفة الآن، غير معروف يعني إيمانه مِن كفره في الباطن، فلما كانت ذلك غير معروف، عُلِّق الحُكْم بشيءٍ معروف، وهو إظهار الالتزام بأحكام الإسلام في الظاهر.

 فالحِكْمة هنا خفية، ومنتشرة وغير ظاهرة، فلا يُعلَّق الحُكْم بها؛ لأنه لو عُلِّق الحُكْم بالإيمان في الباطن ما، لخفِيَ ذلك، وإنما عُلِّق بمَظَنتِها وهو الالتزام بأحكام الإسلام في الظاهر، مثل السفر، الحكمة، رخص، رخص السفر المقصود منها التخفيف، دفع المشقة، لكن دفع المشقة خفية، فلما كانت خفية عُلِّق الحكم بوصفٍ ظاهر وهو السفر، فصارت الرخص تتعلق بالسفر.

 سواءٌ كان في السفر مشقة، أو لم يكن مشقة؛ لأن الحِكْمة خفية، لو عُلق بالمشقة صارت خفية، ولم يُمكن معرفتها، فلما كانت الحكمة خفية، عُلِقت، عُلِّق الحُكم بمظنتها وهو السفر لأنه السفر مظنته المشقة، فصار الحُكم مُعلَّق بالسفر، فالمسافر يترخص رخص السفر، يقصر الرباعية ركعتين، ويُفطِر في نهار رمضان، ويجمع بين الصلاتين، بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، ويمسح على خفيه ثلاثة أيام بلياليها، سواءٌ وجدت المشقة أم لم توجد؛ لأن المشقة خفية، فرُبِط الحُكم، عُلِّق الحُكم بمظنتها وهو السفر.

كذلك هنا الحِكْمة خفية لا يُعلَم الكفر، لو عُلِّق الحُكم بالإيمان الباطن لما، لصار في ذلك مشقة ولما عُلِم، فلما كانت الحكمة خفية عُلِّق الحُكم بمظنتها وهو إظهار الإسلام، والالتزام بأحكام الإسلام، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَالْحِكْمَةُ إذَا كَانَتْ خَفِيَّةً أَوْ مُنْتَشِرَةً عُلِّقَ الْحُكْمُ بِمَظِنَّتِهَا وَهُوَ مَا أَظْهَرَهُ مِنْ مُوَالَاةِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ في الحديث الصحيح: لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ([21])" هذا الحديث رواه الشيخان، مِن حديث أسامة بن زيد .

 يقول المؤلف رحمه الله: " لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْمُنَافِقُونَ" لا يدخلون في هذا الحديث: لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ([22])" لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْمُنَافِقُونَ وَإِنْ كَانُوا فِي الْآخِرَةِ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ؛ بَلْ كَانُوا يُورَثُونَ وَيَرِثُونَ" بناءً على الأحكام الظاهرة، وكذلك يقول المؤلف: " وَكَذَلِكَ كَانُوا فِي الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ" يعني يُعامَلون مُعامَلة المسلمين، ما دام أنهم لم يُظهِروا ما في قلوبهم مِن الكفر، فهذا أمرهم إلى الله، فيُعاملون معاملة المسلمين، نعم.

القارئ: كنا قرأنا نصًّا لشيخ الإسلام رحمه الله وتوقفنا عند منتصف هذا النص تقريبًا نعيد قراءته، قال رحمه الله: " الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ وَيُزَكُّونَ وَمَعَ هَذَا لَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ" ثم ساق الآية رحمه الله.

الشيخ: نعم، سبق في الحلقة السابقة الكلام على نِزاع الفقهاء في المنافق الزنديق، الذي يكتم زندقته ونفاقه، هل يرث ويورث؟

ذكر المؤلف رحمه الله أن الفقهاء تنازعوا فيه على قولين؛ قيل: يرث ويورث، وقيل: لا يرث ولا يورث، ورجح القول: بأنه يرث ويورث، ولو عُلم في الباطن أنه منافق؛ لأن الميراث مبناه على المولاة الظاهرة لا على المحبة التي في القلوب؛ ولهذا كان المنافق لا يدخل في قول النبي ﷺ: لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ([23]) الذي رواه الشيخان عن أسامة بن زيد، لا يدخلون في هذا بل تُجرَى عليهم أحكام الإسلام في الظاهر، فيرثون ويورثون، وإن كانوا في الآخرة في الدرك الأسفل مِن النار.

 وكذلك في سائر الحقوق والحدود، يُعامَلون مُعامَلة المسلمين، مادام أنهم لم يُظهِروا ما في قلوبهم مِن النفاق.

ثم قال المؤلف رحمه الله: " وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ" يعني عن المنافقين، " أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ وَيُزَكُّونَ وَمَعَ هَذَا لَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ" لم يقبل الله ذلك منهم؛ لأنهم؛ لأن الصلاة والزكاة لا تصح إلا مع الإيمان، وهؤلاء ليس عندهم إيمان، ولهذا قال الله تعالى: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة:54].

فبين الله أن سبب عدم قبول نفقاتهم الكفر، الكفر بالله وبرسوله، وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إلَّا وَهُمْ كُسَالَى؛ لأن ليس عندهم إيمان، وَلَا يُنْفِقُونَ إلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ لأنهم إنما يُصلون رياءً، هذا رياء المنافقين، ويزكون رياءً، فليس عندهم إيمان يدفعهم إلى، يحملهم على إتيان الصلاة بنشاط، وليس عندهم إيمان يبعثهم على الإنفاق بانشراح صدر، ولكنهم يصلون رياءً وهم كُسالى، وينفقون رياءً وهم كارهون، نسأل الله السلامة والعافية.

 وقال سبحانه في وصف المنافقين: إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا [النساء:142] فهذا وصف المنافقين، فالواجب على المسلم أن يحذر صفات المنافقين، الله تعالى ذكر صفات المنافقين، وبينها ليحذرها المسلم، وليبتعد عن صفاتهم، ولا يتشبه بهم.

ثم قال المؤلف رحمه الله: " وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أنه قَالَ: تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا([24])".

 وهذا الحديث رواه الإمام مسلم رحمه الله عن أنسٍ ، وفيه وصْف المنافق، وصَف النبي ﷺ المنافق، بوصْفين؛ الوصف الأول: تأخير الصلاة عن وقتها، فهو يؤخرها إلى غروب الشمس، يؤخر صلاة العصر إلى غروب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني شيطان وسجد لها الكفار؛ قام يصلي فشابه الكفار.

 والوصف الثاني: أنه ينقرها نقرًا ولا يُتم ركوعها ولا سجودها.

والوصف الثالث: أنه لا يذكر الله فيها إلا قليلًا.

ففي هذا الحديث ثلاث أوصاف للمنافقين، الوصف الأول: تأخير الصلاة عن وقتها، والوصف الثاني: نقرها وعد الطمأنينة فيها، والوصف الثالث: عدم ذكر الله فيها إلا قليلًا.

 فالواجب على المسلم أن يحذر مِن هذه الصفات؛ حتى لا يتشبَّه بالمنافقين، عليه أن يؤدي الصلاة في وقتها، وأن يطمئن في صلاته وأن يُكثر مِن ذكر الله، قال المؤلف رحمه الله: " وَكَانُوا يَخْرُجُونَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْمَغَازِي" يعني المنافقين، " كَمَا خَرَجَ ابْنُ أبي فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ" كما خرج: يعني عبد الله بن أُبَيّ رئيس المنافقين، " فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ" يقول: المحشي، هذه الغزوة في السنة السادسة مِن الهجرة: أنها خرج فيها جمعٌ غفير مِن المنافقين، وفي هذه الغزوة قال فيها عبد الله بن أُبَيّ: لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون:8]. هذا أَبَى إلا أن يَخرُجَ ما في نفسه مِن الحقد الدفين، ولكن النبي ﷺ يتلطف معه، ولا يُعاقبه كما جاء في الحديث الآخر مِن الموانع، أن النبي ﷺ قال: لِئَلَّا يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ([25]).

والمقصود مِن هذا أن المنافقين يخرجون مع النبي ﷺ للجهاد كما يخرج سائر المسلمين، ويُجرى عليهم أحكام الإسلام.

 ثم قال المؤلف رحمه الله: "وَفِي الصَّحِيحَيْنِ([26]) عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي سَفَرٍ أَصَابَ النَّاسَ فِيهَا شِدَّةٌ؛ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي"؛ وهو رئيس المنافقين، "أبي لِأَصْحَابِهِ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ. وَقَالَ: لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون:8]".

 قال هذا بينه وبين أصحابه، وكان زيد يسمعه، قال زيد: " فَأَتَيْت النَّبِيَّ ﷺ فَأَخْبَرْته" يعني بمقالة عبد الله بن أُبَيّ، " فَأَرْسَلَ" يعني النبي ﷺ " إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي؛ فَسَأَلَهُ" عن مقالته، " فَاجْتَهَدَ يَمِينَهُ مَا فَعَلَ" اجتهد يحلف أنه ما فعل ولم يَقُل، " فقَالُوا:" قال الصحابة: " كَذَبَ زَيْدٌ رَسُولَ اللَّهِ" ﷺ " قالوا: زيد كذب على النبي ﷺ، اتهم عبد الله بن أُبَيّ بشيءٍ لم يَقُله.

 قال زيد: " َوَقَعَ فِي نَفْسِي مِمَّا قَالُوه شِدَّةٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقِي إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1]".

 وفي رواية([27]) أن النبي ﷺ دعا زيدًا وقرأها عليه وقال: صدَّقَك ربك، قال: ": ثم دَعَاهُمْ النَّبِيُّ ﷺ لِيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ" المنافقين، " فلووا رُءُوسَهُمْ" أنزل الله تعالى في ذلك: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [المنافقون:5].

 قال المؤلف رحمه الله: " وَفِي غَزْوَةِ تَبُوكَ اسْتَنْفَرَهُمْ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا اسْتَنْفَرَ غَيْرَهُمْ" لأنهم تجري عليهم أحكام الإسلام في الظاهر، استنفر الناس فخرج المسلمون ومعهم طائفة مِن المنافقين، ولهذا قال المؤلف: " فَخَرَجَ بَعْضُهُمْ مَعَهُ وَبَعْضُهُمْ تَخَلَّفُوا وَكَانَ فِي الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ" الذين خرجوا مع النبي ﷺ مِن المنافقين، " مَنْ هَمَّ بِقَتْلِهِ فِي الطَّرِيقِ" هموا بقتل النبي ﷺ في الطريق، " هَمُّوا بِحَلِّ حِزَامِ نَاقَتِهِ لِيَقَعَ فِي وَادٍ هُنَاكَ فَجَاءَهُ الْوَحْيُ".

 نزل الوحي على رسول الله ﷺ، فأسَرَّ النبي ﷺ فأسرَّ إلى حذيفة أسماءهم، أسَرَّ النبي ﷺ ببعض الأسماء إلى حذيفة وأخبره بهم، " وَلِذَلِكَ يُقَالُ: هُوَ صَاحِبُ السِّرِّ" يعني حذيفة، " الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُه" كما ثبت ذلك في الصحيح، وثبت أن عمر  كان لا يُصلِّي على مَن لا يُصلِّ عليه حذيفة، لأنه صاحب السر، يقول المؤلف رحمه الله: " وَمَعَ هَذَا فَفِي الظَّاهِرِ تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ أَهْلِ الْإِيمَانِ" نعم.

(المتن)

وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنْ شُبُهَاتٍ كَثِيرَةٍ تُورِدُ فِي هَذَا الْمَقَامِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مَا بَقِيَ فِي الْمُظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ عِنْدَهُمْ إلَّا عَدْلٌ أَوْ فَاسِقٌ وَأَعْرَضُوا عَنْ حُكْمِ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقُونَ مَا زَالُوا وَلَا يَزَالُونَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالنِّفَاقُ شُعَبٌ كَثِيرَةٌ وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يَخَافُونَ النِّفَاقَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.

فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا ائتمن خَانَ([28])، وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ: وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ([29]).

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ. أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا ائتمن خَانَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ([30]).

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَوَّلًا يُصَلِّي عَلَيْهِمْ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ حَتَّى نَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84]، وَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة:80]، فَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ وَلَا يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ وَلَكِنْ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ مَعْصُومَةٌ لَا يَسْتَحِلُّ مِنْهُمْ مَا يَسْتَحِلُّهُ مِنْ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَا يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بَلْ يُظْهِرُونَ الْكُفْرَ دُونَ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ ﷺ قَالَ: أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ([31]).

وَلَمَّا قَالَ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: أَقَتَلْته بَعْدَ مَا قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: إنَّمَا قَالَهَا تَعَوُّذًا. قَالَ: هَلَّا شَقَقْت عَنْ قَلْبِهِ؟([32]) وَقَالَ: إنِّي لَمْ أومر أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ([33])، وَكَانَ إذَا اُسْتُؤْذِنَ فِي قَتْلِ رَجُلٍ يَقُولُ: أَلَيْسَ يُصَلِّي أَلَيْسَ يَتَشَهَّدُ؟ فَإِذَا قِيلَ لَهُ: إنَّهُ مُنَافِقٌ. قَالَ: ذَاكَ([34]).

فَكَانَ حُكْمُهُ ﷺ فِي دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ كَحُكْمِهِ فِي دِمَاءِ غَيْرِهِمْ لَا يَسْتَحِلُّ مِنْهَا شَيْئًا إلَّا بِأَمْرِ ظَاهِرٍ مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ نِفَاقَ كَثِيرٍ مِنْهُمْ؛ وَفِيهِمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ نِفَاقَهُ. قَالَ تَعَالَى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ [التوبة:101]، وَكَانَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ صَلَّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَافِقٌ وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مُنَافِقٌ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ.

وَكَانَ عُمَرُ إذَا مَاتَ مَيِّتٌ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهِ حُذَيْفَةُ لِأَنَّ حُذَيْفَةَ كَانَ قَدْ عَلِمَ أَعْيَانَهُمْ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّار [الممتحنة:10]، فَأَمَرَ بِامْتِحَانِهِنَّ هُنَا وَقَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ.

(الشرح)

نعم، يقول المؤلف رحمه الله: " وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنْ شُبُهَاتٍ كَثِيرَةٍ تُورِدُ فِي هَذَا الْمَقَامِ" يعني بإجراء أحكام الإسلام على المنافقين في الظاهر، بإجراء أحكام الإسلام في الظاهر على المنافقين، يظهر الجواب عن شبهاتٍ كثيرة، تُورد في هذا المقام، وهو أن يُقال: ماذا يُعمَل بالإنسان الذي يُظهر الإسلام ويُبطِن الكفر؟

فيقال: تُجرَى عليه أحكام الإسلام، فيكون الناس قسمان؛ قسمٌ يُظهر الإسلام، وقسمٌ يُظهر الكفر، فالذي يُظهر الإسلام تُجرَى عليه أحكام الإسلام، والذي يظهر الكُفْر تُجْرَى عليه أحكام الكُفْر، والذي يُظهر الإسلام طائفتان؛ طائفةٌ يُظهرون الإسلام ويبطنون الإسلام، وطائفةٌ يظهرون الإسلام ويبطنون الكُفر، والحكم واحد في الدنيا، وأما في الآخرة فيختلف الحكم.

 ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنْ شُبُهَاتٍ كَثِيرَةٍ تُورِدُ فِي هَذَا الْمَقَامِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مَا بَقِيَ فِي الْمُظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ عِنْدَهُمْ إلَّا عَدْلٌ أَوْ فَاسِقٌ" بعض المتأخرين الذين ليس عندهم بصيرة.

قالوا: المظهرون للإسلام، قسمان؛ عدلٌ وفاسق، فالعدل هو المستقيم على طاعات الله، الذي أدى الواجبات وانتهى عن المحرمات، والفاسق هو الذي قصَّر في بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات، وتركوا القسم الثالث وهو المنافق.

 ما بقي في المظهرين للإسلام عندهم إلا الصنفان؛ عادلٌ وفاسق، وتركوا قسمًا ثالثًا وهو المنافق الذي يظهر الإسلام وأبطن الكفر، ولهذا قال المؤلف: " وَأَعْرَضُوا عَنْ حُكْمِ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقُونَ مَا زَالُوا وَلَا يَزَالُونَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" ولاشك أن المنافقون لا يزالون إلى يوم القيامة، لكن إذا قَوِيَ أهل الإسلام، وصارت القوة للمسلمين، اختفى المنافقون، يختفون ولا يظهرون، وإذا ضَعُف المسلمون، وضَعُف أهل السنة والجماعة، قَوِي المنافقون وظهروا، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَالْمُنَافِقُونَ مَا زَالُوا وَلَا يَزَالُونَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالنِّفَاقُ شُعَبٌ كَثِيرَةٌ وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يَخَافُونَ النِّفَاقَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ" نعم ومن ذلك أن عمر جاء إلى حذيفة من شدة خوفه وقال: هل عدّني رسول الله ﷺ مِن المنافقين؟ قال حذيفة: لا، ولا أزكي بعدك أحدًا أبدًا.

 ثم قال المؤلف رحمه الله: " فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا ائتُمِن خَانَ([35]) وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ: وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ([36]) " آية المنافق يعني علامة المنافق، علامة المنافق ثلاث، : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا ائتمن خَانَ فهذه معاصي، وهي مِن النفاق العملي، مِن النفاق العملي الذي يجر إلى النفاق الاعتقادي.

 فالنفاق نفاقان؛ نفاق العمل، وهذه معاص مثل الكذب في الحديث، ما ذُكِر في هذا الحديث؛ الكذب في الحديث، والخُلْفُ في الوعد، والخيانة في الأمانة، يقول: " وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ: وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ([37]) " وزعم أنه مسلم يعني وزعم أنه مسلمٌ حقًّا، هو مسلم، لكنه ليس مسلمًا حقًّا، عنده نقص في إسلامه، بسبب ارتكابه لهذه المعاصي.

 ثم قال المؤلف رحمه الله: "وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو"؛ يعني ابن العاص رضي الله عنهما، "عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْهُنَّ([38]). ذكَر شعبة، والموجود في الحديث، البخاري خصلة، مَنْ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنهُن، كَانَتْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا ائتمن خَانَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ([39]) ، فهذه مِن صفات المنافقين.

 هذه معاص، كبائر، الكذب في الحديث، والخيانة في الأمانة، والغدر في العهود، والفجور في الخصومة، فالنبي ﷺ قال: أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا([40]) ، قال العلماء: إن هذه الخصال، كل واحدةٍ مِن هذه الخصال الأربع معصية، وكبيرة مِن كبائر الذنوب؛ لكنها إن اجتمعت في الشخص واستحكمت وكمُلَت فإنها تجره إلى النفاق الأكبر وهو النفاق الاعتقادي والعياذ بالله.

 وإلا فهذه معاصي، كبائر، هذه مِن النفاق العملي، لكنها إذا استحكمت وكَمُلت، فإنها تجره إلى النفاق الأكبر؛ ولهذا قال النبي ﷺ: أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا؛ يعني هذه تجره إلى النفاق الخالِص، لا تستحكم وتكمُل إلى في المنافق الخالص.

 ثم قال المؤلف رحمه الله: "وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَوَّلًا يُصَلِّي عَلَيْهِمْ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ"؛ يعني المنافقين "حَتَّى نَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84]" كان قبل ذلك يصلي عليهم ويستغفر لهم، قبل أن يُنهَ، ومن ذلك أنه صلى على عبد الله بن أُبَيّ، لما مات عبد الله بن أُبَي، كما ثبت في صحيح البخاري، جاءه النبي ﷺ واستخرجه مِن حفرته -يعني لما دُلِّيَ في حفرته- ونفث فيه من ريقه وألبسه قميصه وصلى عليه.

 فلما أراد أن يصلي جاء عمر وأخذ بثوبه، قال: أتصلي على منافق وقد قال يوم كذا، كذا وكذا، كذا وكذا، فقال النبي ﷺ: أَخِّر عَنِّي يَا عُمَر فَإِنَّي خُيِّرتُ، فَقِيلَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً، فَلَو أَعْلَمُ أَنِّي لَوْ زِدْتُ عَلَى السَّبعِين أَن يُغفَرَ لهُم لَزِدْتُ عَلَى السَّبعِين([41])، قال عمر: عليه الصلاة والسلام، فعجبتُ مِن جرأتي على ذلك، وكان النبي ﷺ إنما فعل ذلك أولًا: مُجازاة لعبد الله بن أبي، لما ألبسه قميصه؛ لأنه أعطى عمه العباس يوم بدر قميصًا، فأراد أن يكافئه؛ لأن العباس كان طويلًا، وكان عبد الله بن أُبَيّ طويلًا، ولم يوجد ثوبٌ إلا ثوب عبد الله، فالنبي ﷺ أعطاه قميصه مكافأةً له.

 وأيضًا مراعاةً لرهطه الأوس، ومراعاةً لابنه عبد الله فإنه مِن خيار المؤمنين، ورجاء أن يغفر الله له، والنبي ﷺ لم يُنهَ عن ذلك، فصلى عليه، ثم بعد ذلك لما صلى عليه، نزلت الآية: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة:84]، فلم يصلِّ بعد ذلك على منافق؛ لأن الله تعالى بيَّن العلة، فقال: إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ هذه هي العلة في ترك الصلاة، فمن كان كافِرًا فلا يُصلَّ عليه، ومن لم يكفر فإنه يُصلَّى عليه ولو كان مبتدع، ولو كان عنده بعض البدع وبعض الفسق، ولهذا قال الله تعالى: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84].

قال المؤلف رحمه الله: وَقَالَ، يعني قال الله تعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة:80]، فَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ وَلَا يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ" يعني بعد نزول الآية، وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا [التوبة:84].

 يقول المؤلف رحمه الله: " وَلَكِنْ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ مَعْصُومَةٌ لَا يَسْتَحِلُّ مِنْهُمْ مَا يَسْتَحِلُّهُ مِنْ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَا يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ" نعم؛ لأن تُجرَى عليهم أحكام الإسلام في الظاهر، دماؤهم معصومة وأموالهم معصومة، تُجرَى عليهم أحكام الإسلام، بخلاف الكفَّار ظاهرًا وباطنًا، اليهود والوثنيين، فهؤلاء ليست دماؤهم معصومة ولا أموالهم معصومة، إلا مَن كان له عهد أو ذمة.

 بخلاف، " لَا يَسْتَحِلُّ مِنْهُمْ مَا يَسْتَحِلُّهُ مِنْ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَا يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بَلْ يُظْهِرُونَ الْكُفْرَ دُونَ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ ﷺ قَالَ: أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ([42]) " هذا الحديث رواه الشيخان، البخاري ومسلم رحمهما الله.

 وفيه أن النبي ﷺ، بيَّن أن، أنه مأمورٌ مِن ربه بقتال الناس حتى يُظهِروا التوحيد، حتى يؤمنوا، يشهدوا لله تعالى بالوحدانية، ويشهدوا لنبيه محمد ﷺ بالرسالة، وفي اللفظ الآخر: وَيُقيمُوا الصَّلَاة وَيُؤتُوا الزَّكَاة ثم قال النبي ﷺ: فَإِذَا قَالُوهَا يعني الشهادتين، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ صارت دماؤهم وأموالهم معصومة إلَّا بِحَقِّهَا وحقها هو العمل، أداء الواجب، الواجبات وترك المحرمات، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ.

ثم قال المؤلف رحمه الله: " وَلَمَّا قَالَ" يعني النبي ﷺ، " لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ" يعني في بعض الغزوات لما قتل، لما رفع السيف على رجل مِن الكفار، قال: لا إله إلا الله، فقتله زيد ، فقتله أسامة ، ظنًّا منه أنه قالها متعوِّذًا مِن القتل، فعاتبه النبي ﷺ وشدد عليه فقال له: أَقَتَلْته بَعْدَ مَا قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ قَالَ–يعني أسامة-: إنَّمَا قَالَهَا تَعَوُّذًا" إنما قالها تعوذًا، يعني خشية القتل، قال عليه الصلاة والسلام: هَلَّا شَقَقْت عَنْ قَلْبِهِ؟.

ما تعلم هل قالها تعوذًا، أو قالها عن صدق وإخلاص؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إنِّي لَمْ أومر أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ([43]) ، وهذا الحديث رواه الشيخان أيضًا لما أمر النبي ﷺ، لما قال خالد بن الوليد في بعض الغزوات: دعني أقتل هذا المنافق، قال: أليس يصلي؟ قال: فيصلي ولا صلاة له، قال: إني نُهيت عن قتل المصلين وقال: إنِّي لَمْ أومر أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ.

 يعني يُجرِي الأحكام على الظاهر، والباطن له الله، وكان، قال المؤلف رحمه الله: «وَكَانَ –رسول الله- إذَا اُسْتُؤْذِنَ فِي قَتْلِ رَجُلٍ يَقُولُ: أَلَيْسَ يُصَلِّي أَلَيْسَ يَتَشَهَّدُ –يعني يشهد أن لا إله إلا الله-؟ فَإِذَا قِيلَ لَهُ: إنَّهُ مُنَافِقٌ. قَالَ: ذَاكَ.([44]) ، ذاك يعني أمره إلى الله، ذاك الحُكْم يُجرَى عليه في الآخرة.

 قال المؤلف رحمه الله: " فَكَانَ حُكْمُهُ ﷺ فِي دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ كَحُكْمِهِ فِي دِمَاءِ غَيْرِهِمْ لَا يَسْتَحِلُّ مِنْهَا شَيْئًا إلَّا بِأَمْرِ ظَاهِرٍ" إلا بأمرٍ ظاهر وهو الردة، يعني أمر ظاهر أظهر الردة، مَن أظهر الكفر، يُستَحل دمه وماله، وأما مَن لم يُظهر شيئًا مِن ذلك، فإنه تُجرَى عليه أحكام الإسلام.

 قال المؤلف رحمه الله: " مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ نِفَاقَ كَثِيرٍ مِنْهُمْ" مِن المنافقين، " وَفِيهِمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ نِفَاقَهُ" يعني بعض المنافقين يعلمهم، وبعضهم لا يعلمهم، كما قال الله تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ [التوبة:101].

 يقول المؤلف رحمه الله: "وَكَانَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ صَلَّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَافِقٌ وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مُنَافِقٌ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ. وَكَانَ عُمَرُ إذَا مَاتَ مَيِّتٌ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهِ حُذَيْفَةُ لِأَنَّ حُذَيْفَةَ كَانَ قَدْ عَلِمَ أَعْيَانَهُمْ" وهذا يدل على أن المنافقين تُجرَى عليهم أحكام الإسلام.

 ثم قال المؤلف رحمه الله: " وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّار [الممتحنة:10]، فَأَمَرَ بِامْتِحَانِهِنَّ هُنَا وَقَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ" يعني أمر بامتحانهن في الظاهر، فتُمتَحن المرأة وتُسأل فإذا تبين إيمانها، وظهر إيمانها حُكِم عليها بالإيمان، وأما في الباطن فالله أعلم بإيمانها، ولهذا قال: فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ نعم.

(المتن)

وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ فِي الْكَفَّارَةِ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لَمْ يَكُنْ عَلَى النَّاسِ أَلَّا يُعْتِقُوا إلَّا مَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا كَمَا لَوْ قِيلَ لَهُمْ: اُقْتُلُوا إلَّا مَنْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ. وَهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا أَنْ يُنَقِّبُوا عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا يَشُقُّوا بُطُونَهُمْ؛ فَإِذَا رَأَوْا رَجُلًا يُظْهِرُ الْإِيمَانَ جَازَ لَهُمْ عِتْقُهُ وَصَاحِبُ الْجَارِيَةِ لَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ هَلْ هِيَ مُؤْمِنَةٌ؟

إنَّمَا أَرَادَ الْإِيمَانَ الظَّاهِرَ الَّذِي يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَكَذَلِكَ مَنْ عَلَيْهِ نَذْرٌ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُعْتِقَ إلَّا مَنْ عَلِمَ أَنَّ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ مُطْلَقًا؛ بَلْ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ يَعْلَمُ ذَلِكَ مُطْلَقًا. وَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَعْلَمُ الْخَلْقِ وَاَللَّهُ يَقُولُ لَهُ: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ [التوبة:101].

فَأُولَئِكَ إنَّمَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَحْكُمُ فِيهِمْ كَحُكْمِهِ فِي سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ؛ وَلَوْ حَضَرَتْ جِنَازَةُ أَحَدِهِمْ صَلَّى عَلَيْهَا وَلَمْ يَكُنْ مَنْهِيًّا عَنْ الصَّلَاةِ إلَّا عَلَى مَنْ عَلِمَ نِفَاقَهُ؛ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَيَعْلَمَ سَرَائِرَهُمْ وَهَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بَشَرٌ.

(الشرح)

نعم المؤلف رحمه الله يبيِّن الأدلة التي تدل على أن الأحكام في الدنيا إنما تُجرَى على الظاهر، وأن مَن أظهر الإسلام فإنه يُحكَم عليه بالإسلام، ومن أظهر الكفر والردة فإنه يُحكَم عليه بالكفر.

 فمن الأدلة، ومن ذلك قول المؤلف رحمه الله تعالى: "لَمَّا أَمَرَ فِي الْكَفَّارَةِ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لَمْ يَكُنْ عَلَى النَّاسِ أَلَّا يُعْتِقُوا إلَّا مَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا كَمَا لَوْ قِيلَ لَهُمْ: اُقْتُلُوا إلَّا مَنْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِه" يعني لا يجب على الناس أن يعلموا ما في قلوبهم؛ لأنها؛ لأن هذا لا يمكن الوصول إليه.

 ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فَإِنَّ هَذَا كَمَا لَوْ قِيلَ لَهُمْ: اُقْتُلُوا إلَّا مَنْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ" لا يستطيعون أن يعلموا هذا، وهم، قال: "وَهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا أَنْ يُنَقِّبُوا عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا يَشُقُّوا بُطُونَهُمْ" يعني فدل هذا على أن الأحكام إنما تُجرَى على الظاهر، فإذا أُمِر الإنسان بعتق رقبةٍ مؤمنة، يُعتق الرقبة التي أظهرت الإيمان.

 ويقول المؤلف رحمه الله: " فَإِذَا رَأَوْا رَجُلًا يُظْهِرُ الْإِيمَانَ جَازَ لَهُمْ عِتْقُهُ" ويكون، وتبرأ به الذمة، مَن عليه عتق رقبة، إذا رأى رقبةً تُظهر الإيمان، رأى رجلًا يظهر الإيمان ثم أعتقه برِئت ذمته، وأما، وقد يكون في المنافقين، في الباطن منافقًا، لكن ليس، هذا ليس عليه.

 قال المؤلف رحمه الله: " وَصَاحِبُ الْجَارِيَةِ لَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ هَلْ هِيَ مُؤْمِنَةٌ؟ إنَّمَا أَرَادَ الْإِيمَانَ الظَّاهِرَ" لما سأل النبي ﷺ: هل هي مؤمنة، إنما أراد الإيمان الظاهر الذي يُفَرق به بين المسلم والكافر، يعني صاحب الجارية معاوية بن الحكم السُّلَمي الذي صكَّ الجارية وأراد أن يُعتقها، سأل النبي هل هي مؤمنة؟ إنما أراد الإيمان الظاهر الذي يُفَرق به بين المسلم والكافر.

 وكذلك، يقول المؤلف: " وَكَذَلِكَ مَنْ عَلَيْهِ نَذْرٌ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُعْتِقَ إلَّا مَنْ عَلِمَ أَنَّ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ مُطْلَقًا" يعني إذا نذر شخصٌ أن يُعتق رقبة، فإنه يُعتق رقبةً تُظهر الإيمان، ولا يلزمه أن يعلم ما في قلب هذه الرقبة؛ لأن هذا لا يمكن الوصول إليه.

 يقول المؤلف رحمه الله: " بَلْ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ يَعْلَمُ ذَلِكَ مُطْلَقًا" لا يعلم ما في القلوب إلا الله.

قال المؤلف رحمه الله: " وَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَعْلَمُ الْخَلْقِ وَاَللَّهُ يَقُولُ لَهُ: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ [التوبة:101]" فإذا كان النبي ﷺ أعلم الخلق وهناك منافقون ولا يعلمهم، فغيره مِن باب أولى.

 ثم قال المؤلف رحمه الله: " فَأُولَئِكَ إنَّمَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَحْكُمُ فِيهِمْ كَحُكْمِهِ فِي سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ" يعني أولئك الذين يظهرون الإسلام مِن المنافقين يَحكُم فيهم كسائر حُكْمه في المنافقين، إجراءً للأحكام على الظواهر، ثم قال المؤلف رحمه الله: " وَلَوْ حَضَرَتْ جِنَازَةُ أَحَدِهِمْ صَلَّى عَلَيْهَا" لو حضرت جنازة أحدٍ مِن المنافقين وهو يُظهر الإسلام صلَّى عليه، " وَلَمْ يَكُنْ مَنْهِيًّا عَنْ الصَّلَاةِ إلَّا عَلَى مَنْ عَلِمَ نِفَاقَهُ".

 إذا عُلِم نفاقه بأن أظهر النفاق، فإنه لا يُصلَّ عليه لقول الله تعالى: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة:84] بيَّن العلة، قال المؤلف رحمه الله: " وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَيَعْلَمَ سَرَائِرَهُمْ وَهَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بَشَرٌ" وإلا لو كان الإنسان مُكلَّف بأن لا يُجرِي أحكام الإسلام إلا مَن عَلِمَ باطنه لكان مأمورًا بأن يُنقِّب عن قلوب الناس وهذا مخالف للنص، إنِّي لَمْ أومر أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ ([45]) ، ثم إن هذا لا يقدر عليه بشر، لا يقدر عليه أحد، لا يقدر عليه إلا الله.


([1]) – أخرجه من طريق الإمام أحمد: أبو بكر الخلال في"السنة" رقم (1105) ، وابن بطة في "الإبانة الكبرى" رقم (1101) ،واللالكائي "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" رقم(1732).

([2]) – أخرجه البخاري رقم (25)، ومسلم رقم (22) من حديث عبد الله بن عمر رضى الله عنهما بلفظ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ وفي الباب حديث " أبي هريرة، وعمر بن الخطاب، وجابر ابن عبد الله، وغيرهم"

([3]) – سبق تخريجه (...).

([4]) – أخرجه مالك في الموطأ-عبد الباقي- (2/777)، والبيهقي في الكبرى رقم (15271) ؟؟؟؟؟؟؟؟ لم ينتهي.

([5]) – أخرجه البخاري معلقًا تحت باب "باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر" (1/18)

([6]) – أخرجه من طريق البغوي اللالكائي في شرح أصول أهل السنة والجماعة رقم (1734).

([7]) – سبق تخريجه (...).

([8]) – سبق تخريجه (...).

([9]) – سبق تخريجه (...).

([10]) – سبق تخريجه (….).

([11]) – سبق تخريجه (….).

([12]) – أخرجه البخاري رقم (1) بهذا اللفظ ، وأخرجه البخاري رقم (6689)، ومسلم رقم (1907) بلفظ إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ.

([13]) – سبق تخريجه (...)

([14]) – (.....)

([15]) – أخرجه مسلم رقم (537) من حديث معاوية بن الحكم السلمي .

([16]) – سبق تخريجه (.....)

([17]) – سبق تخريجه (.....)

([18]) – سبق تخريجه (.....)

([19]) – أخرجه البخاري رقم (6764) ومسلم رقم (1614) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.

([20]) – أخرجه مسلم رقم (622) من حديث أنس بن مالك .

([21]) – سبق تخريجه (000).

([22]) – سبق تخريجه (….).

([23]) – سبق تخريجه (000)

([24]) – سبق تخريجه (000)

([25]) – أخرجه البخاري رقم (4907) ومسلم رقم (2584) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما

([26]) – أخرجه البخاري رقم (4903) ومسلم رقم (2772) من حديث زيد بن أرقم .

([27]) – ؟؟؟؟؟؟

([28]) – أخرجه البخاري رقم (33) ومسلم رقم (59) من حديث أبي هريرة .

([29]) – أخرجه مسلم رقم (59) من حديث أبي هريرة

([30]) – أخرجه البخاري رقم (34) ومسلم رقم (58) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

([31]) – سبق تخريجه (....)

([32]) – أخرجه البخاري رقم (4269) ومسلم رقم (96) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما بلفظ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى الحُرَقَةِ، فَصَبَّحْنَا القَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ، قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَكَفَّ الأَنْصَارِيُّ فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قُلْتُ: كَانَ مُتَعَوِّذًا، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا، حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ اليَوْمِ.

([33]) – أخرجه البخاري رقم (4351) ومسلم رقم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري .

([34]) – ؟؟؟؟؟؟؟؟

([35]) – سبق تخريجه (...)

([36]) – سبق تخريجه (...)

([37]) – سبق تخريجه (...)

([38]) – سبق تخريجه (...)

([39]) – سبق تخريجه (...)

([40]) – سبق تخريجه (...)

([41]) – ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

([42]) – سبق تخريجه (...)

([43]) – سبق تخريجه (...)

([44]) – سبق تخريجه (...)

([45]) – سبق تخريجه (...)

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد