(المتن)
توقفنا عن قول المؤلف رحمه الله:
وَلِهَذَا لَمَّا كَشَفَهُمْ اللَّهُ بِسُورَةِ بَرَاءَةٌ بِقَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ، وَمِنْهُمْصَارَ يَعْرِفُ نِفَاقَ نَاسٍ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ نِفَاقَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ وَصَفَهُمْ بِصِفَاتِ عَلِمَهَا النَّاسُ مِنْهُمْ؛ وَمَا كَانَ النَّاسُ يَجْزِمُونَ بِأَنَّهَا مُسْتَلْزِمَةٌ لِنِفَاقِهِمْ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَظُنُّ ذَلِكَ وَبَعْضُهُمْ يَعْلَمُهُ؛ فَلَمْ يَكُنْ نِفَاقُهُمْ مَعْلُومًا عِنْدَ الْجَمَاعَةِ بِخِلَافِ حَالِهِمْ لَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ.
وَلِهَذَا لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ بَرَاءَةٌ كَتَمُوا النِّفَاقَ وَمَا بَقِيَ يُمْكِنُهُمْ مِنْ إظْهَارِهِ أَحْيَانًا مَا كَانَ يُمْكِنُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب: 60 - 62] فَلَمَّا تُوُعِّدُوا بِالْقَتْلِ إذَا أَظْهَرُوا النِّفَاقَ كَتَمُوهُ. وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِتَابَةِ الزِّنْدِيقِ. فَقِيلَ: يُسْتَتَابُ.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقْبَلُ عَلَانِيَتَهُمْ وَيَكِلُ أَمْرَهُمْ إلَى اللَّهِ؛ فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَبَعْدَ هَذَا أَنْزَلَ اللَّهُ: مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا فَعَلِمُوا أَنَّهُمْ إنْ أَظْهَرُوهُ كَمَا كَانُوا يُظْهِرُونَهُ قُتِلُوا فَكَتَمُوهُ.
وَالزِّنْدِيقُ: هُوَ الْمُنَافِقُ وَإِنَّمَا يَقْتُلُهُ مَنْ يَقْتُلُهُ إذَا ظَهَرَ مِنْهُ أَنَّهُ يَكْتُمُ النِّفَاقَ قَالُوا: وَلَا تُعْلَمُ تَوْبَتُهُ لِأَنَّ غَايَةَ مَا عِنْدَهُ أَنَّهُ يُظْهِرُ مَا كَانَ يُظْهِرُ؛ وَقَدْ كَانَ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ وَهُوَ مُنَافِقٌ؛ وَلَوْ قُبِلَتْ تَوْبَةُ الزَّنَادِقَةِ لَمْ يَكُنْ سَبِيلٌ إلَى تَقْتِيلِهِمْ وَالْقُرْآنُ قَدْ تَوَعَّدَهُمْ بِالتَّقْتِيلِ.
(الشرح)
بسم الله الرحمن الرحيم والحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد؛
فإن المؤلف رحمه الله قد بيَّن فيما سبق في الحلقات السابقة أن، أن المنافقين تُجرى عليهم أحكام الإسلام؛ لأنهم يُظهرون الإسلام، إلا من أظهر منهم نفاقه، فإنه تُجرى عليه أحكامُ أهل الرِّدة، وأن الناس قسمان: قِسمٌ يُظهِر الكفر، تُجرى عليه أحكام الكفر، وقِسمٌ يُظهِر الإيمان، تُجرى عليهم أحكامُ أهل الإسلام، وإن كانوا منافقين في الباطن.
قال المؤلف رحمه الله: " وَلِهَذَا" يعني لما كانت الأحكام تُجرى على المنافقين في الظاهر، تُجرى عليهم أحكامُ الإسلام؛ لأجل إظهارهم الإسلام، ولهذا لما كشف الله كشفهم الله بسورة البراءة بقوله: وَمِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ، الله تعالى ذكرها من أوصافها قال: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ [التوبة: 58، 59]، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [التوبة: 49]، وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ [التوبة: 75].
فلمْ يزل الله تعالى يُنزل وَمِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ حتى خاف بعض المنافقين أن يُسموا بأعيانهم، بأسمائهم، بأعيانهم، قال المؤلف رحمه الله: "وَلِهَذَا لَمَّا كَشَفَهُمْ اللَّهُ بِسُورَةِ بَرَاءَةٌ بِقَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ صَارَ يَعْرِفُ نِفَاقَ نَاسٍ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ نِفَاقَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ" لأن الله جلى أوصافهم في سورة براءة.
قال المؤلف رحمه الله: "فَإِنَّ اللَّهَ وَصَفَهُمْ بِصِفَاتِ عَلِمَهَا النَّاسُ مِنْهُمْ؛ وَمَا كَانَ النَّاسُ يَجْزِمُونَ بِأَنَّهَا مُسْتَلْزِمَةٌ لِنِفَاقِهِمْ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَظُنُّ ذَلِكَ وَبَعْضُهُمْ يَعْلَمُهُ؛ فَلَمْ يَكُنْ نِفَاقُهُمْ مَعْلُومًا عِنْدَ الْجَمَاعَةِ بِخِلَافِ حَالِهِمْ لَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ". فإن الله تعالى جلى أوصافهم فظهر منهم ما، ما لم يظهر قبل ذلك.
ولذلك قال المؤلف رحمه الله: "بِخِلَافِ حَالِهِمْ لَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ؛ وَلِهَذَا لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ بَرَاءَةٌ كَتَمُوا النِّفَاقَ" يعني خوفٌ من أن تُجرى عليهم أحكامُ أهل الرِدة، أحكامُ الكفر، الكفرة " وَلِهَذَا لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ بَرَاءَةٌ كَتَمُوا النِّفَاقَ وَمَا بَقِيَ يُمْكِنُهُمْ مِنْ إظْهَارِهِ أَحْيَانًا مَا كَانَ يُمْكِنُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى" يعني في فعل المنافقين، لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب: 60 - 62].
يعني توعدهم الله بالقتل، قال المؤلف رحمه الله: " فَلَمَّا تُوُعِّدُوا بِالْقَتْلِ إذَا أَظْهَرُوا النِّفَاقَ كَتَمُوهُ" يعني خوفًا من أن تُجرى عليهم أحكامُ الإسلام، خوفًا من أن تُقطع رقابهم، وتُؤخذ أموالهم، فكتموا النفاق حتى تسلم دماءهم وأموالهم.
القارئ: ما معنى كلامه رحمه الله: "وَمَا بَقِيَ يُمْكِنُهُمْ مِنْ إظْهَارِهِ أَحْيَانًا مَا كَانَ يُمْكِنُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ" فيه استقامة هذا الكلام يا شيخ؟
الشيخ: نعم..
القارئ: متناسق مع ما قبله؟
الشيخ: وما كان يُظهرهم...
(المتن)
(الشرح)
يعني صاروا الآن بعد نزول أوصافهم يكتمون شيئًا كانوا يظهرونه فيما سبق، يعني ما بقي لهم حالٌ يمكنهم فيها إظهار ما كانوا يُظهرونه من قبل، بل كانوا قبل أن تُجلى أوصافهم يُظهرون شيئًا، يُظهرون شيئًا؛ لأنهم آمنون، فلما جلى الله أوصافهم صاروا يكتمون.
القارئ: لكن الأولى عليه يقول ما كان يمكنهم بعد ذلك بدل قبل ذلك؟
الشيخ: ايه وما كان إيش...
(المتن)
(الشرح)
ما بقي لهم يعني حالٌ يمكنهم من إظهاره أحيانًا الذي كان يُمكنهم قبل ذلك، مستقيم. يقول المؤلف رحمه الله: " وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِتَابَةِ الزِّنْدِيقِ" يعني على قول العلماء تنازع العلماء في استتابة الزنديق، الزنديق: هو المنافق إذا أظهر نفاقه، هل يُستتاب قبل أن يُقتل، أو يُقتل ولا يُستتاب؟
على قولين لأهل العلم يقول المؤلف: " وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقْبَلُ عَلَانِيَتَهُمْ" يعني استدل من قال باستتابتهم بالمنافقين الذين كان النبي ﷺ يقبل علانيتهم، ويكل أمرهم إلى الله، فيقال له.
والمؤلف رحمه الله يؤيد القول الثاني، وهو لا يُستتابون، فيقال له يعني ردًا عليه: "هَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَبَعْدَ هَذَا أَنْزَلَ اللَّهُ: مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا فَعَلِمُوا أَنَّهُمْ إنْ أَظْهَرُوهُ" يعني الكفر كما كانوا يُظهرونه " قُتِلُوا فَكَتَمُوهُ".
وهذا يؤيد أن الزنديق لا يُستتاب، وهذا هو الراجح عند جمع من المحققين أن الزنديق الذي، الزنديق لا يُستتاب هو الذي يُبطن الكفر إذا أظهر الكفر على الإسلام، وكذلك الساحر، وكذلك من تكررت رِدَّته، والمُستهزئ بالله أو برسوله أو بدينه، كل هؤلاء يُقتلون ولا تُقبل، تُقبل توبتهم في أحكام الدنيا في الظاهر زجرًا لأمثالهم، حتى لا يتجرؤوا على مثل هذا الكفر الغليظ. أما في الآخرة فأمرهم إلى الله، فإن كان صادقًا فالله تعالى يقبل توبته، لكن لا تُقبل في أحكام الدنيا، هذا هو القول الراجح عند المؤلف رحمه الله وجمعٌ من المحققين.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَلَوْ قُبِلَتْ تَوْبَةُ الزَّنَادِقَةِ لَمْ يَكُنْ سَبِيلٌ إلَى تَقْتِيلِهِمْ" هذا فيه، ليبين ترجيح القول بعدم استتابتهم، ولأن غاية ما عندهم، ما عنده يعني المنافق، أنه يُظهر ما كان يُظهر، يعني المنافق، وقد كان يُظهر الإيمان، وهو منافق، فإذا أظهر التوبة صار حكمه حكم الحال السابق. "وَلَوْ قُبِلَتْ تَوْبَةُ الزَّنَادِقَةِ لَمْ يَكُنْ سَبِيلٌ إلَى تَقْتِيلِهِمْ"والقرآن قال أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا " وَالْقُرْآنُ قَدْ تَوَعَّدَهُمْ بِالتَّقْتِيلِ" نعم.
(المتن)
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ إنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ تِلْكَ الْأُمَّةِ بِالْإِيمَانِ الظَّاهِرِ الَّذِي عُلِّقَتْ بِهِ الْأَحْكَامُ الظَّاهِرَةُ وَإِلَّا فَقَدَ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّ سَعْدًا لَمَّا شَهِدَ لِرَجُلِ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ قَالَ: أو مُسْلِمٌ وَكَانَ يُظْهِرُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا تُظْهِرُهُ الْأُمَّةُ وَزِيَادَةً فَيَجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ أَحْكَامِ الْمُؤْمِنِينَ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَحْكُمُ فِيهَا النَّاسُ فِي الدُّنْيَا وَبَيْنَ حُكْمِهِمْ فِي الْآخِرَةِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.
فَالْمُؤْمِنُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْجَنَّةِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا فِي الْبَاطِنِ بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ حَتَّى الكَرَّامِيَة الَّذِينَ يُسَمُّونَ الْمُنَافِقَ مُؤْمِنًا وَيَقُولُونَ: الْإِيمَانُ هُوَ الْكَلِمَةُ يَقُولُونَ: إنَّهُ لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ إلَّا الْإِيمَانُ الْبَاطِنُ.
وَقَدْ حَكَى بَعْضُهُمْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَهُوَ غَلَطٌ عَلَيْهِمْ؛ إنَّمَا نَازَعُوا فِي الِاسْمِ لَا فِي الْحُكْمِ بِسَبَبِ شُبْهَةِ الْمُرْجِئَةِ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَتَفَاضَلُ.
وَلِهَذَا أَكْثَرُ مَا اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي الرَّقَبَةِ الَّتِي تُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ الْعَمَلُ الظَّاهِرُ فَتَنَازَعُوا هَلْ يُجْزِئُ الصَّغِيرُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ لِلسَّلَفِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد، فَقِيلَ: لَا يُجْزِئُ عِتْقُهُ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَالصَّغِيرُ لَمْ يُؤْمِنْ بِنَفْسِهِ إنَّمَا إيمَانُهُ تَبَعٌ لِأَبَوَيْهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا؛ وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدٌ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فِي الْبَاطِنِ؛ وَقِيلَ: بَلْ يُجْزِئُ عِتْقُهُ لِأَنَّ الْعِتْقَ مِنْ الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ وَهُوَ تَبَعٌ لِأَبَوَيْهِ؛ فَكَمَا أَنَّهُ يَرِثُ مِنْهُمَا وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُصَلَّى إلَّا عَلَى مُؤْمِنٍ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ.
(الشرح)
نعم، يقول المؤلف رحمه الله: المقصود يعني انصرافًا من البحث السابق أن الأحكام إنما تُجرى على طلب واحد، فمن أظهر الإسلام تُجرى عليه أحكامُ الإسلام سواء كان مؤمنًا في الباطن، أو كافرًا في الباطن، ومن أظهر الكفر أُجريت عليه أحكام الكفر، هذا هو الخلاصة.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ إنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ تِلْكَ الْأُمَّةِ بِالْإِيمَانِ الظَّاهِرِ الَّذِي عُلِّقَتْ بِهِ الْأَحْكَامُ الظَّاهِرَةُ" يعني الأَمَة التي أعتقها معاوية بن الحكم السُلمي لما صك عن الجارية وسدد عليه النبي ﷺ وقال له اعتقها سأله عن قال: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسولُ الله ﷺ، قال: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ.
فالرسول ﷺ أخبر عن تلك الأَمَة بالإيمان الظاهر الذي عُلقت به الأحكام الظاهرة، أما الباطن هذا أمره إلى الله، فالنبي ﷺ حكم عليها بالإيمان؛ لأنها أظهرت الإيمان، وإلا يقول المؤلف رحمه الله: " وَإِلَّا فَقَدَ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّ سَعْدًا لَمَّا شَهِدَ لِرَجُلِ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ قَالَ: أو مُسْلِماً وَكَانَ يُظْهِرُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا تُظْهِرُهُ الْأُمَّةُ وَزِيَادَةً".
يعني في قصة سعد أن النبي ﷺ لما أعطى في بعض الغزوات، إذا أُعطي عليه ﷺ شيء مما يتألف، يتألفُ مع الإسلام يتقوى إيمانهم، فقال سعدٌ فأعطى النبي ﷺ أناس، وترك رجل هو أعجبهم إليه، فقال سعد: ما لك عن مؤمن؟ مالك عن فلان؟ والله إني لأراه مؤمنًا، فقال النبي ﷺ: أو مُسلماً، يعني ما بلغ درجة الإيمان، مسلم، المسلم هو الذي هو الذي تُجرى عليه أحكامُ الإسلام، وقد يكون عنده تقصير في الواجبات، أو فعل بعض المحرمات، أما المؤمن الذي يُطلق عليه الإيمان هو الذي أدى الواجبات، وترك المحرمات.
يعني هذا الرجل الذي وصفه الآن ما وصل إلى درجة الإيمان المطلق، قال أو مسلمًا، فسكت سعد، فقال: ثم غلبني ما أعرف عنه، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ ما لَك عَنْ فُلَانٍ؟ فَوَاَللَّهِ إنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أو مُسْلِمًا، ثم سكت، ثم في الثالثة قال: غلبني ما أعرف عنه، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ ما لَك عَنْ فُلَانٍ؟ فَوَاَللَّهِ إنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أو مُسْلِمًا ثُمَّ قَالَ: إنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ.
يعني النبي ﷺ إنما يُعطي ليتألف على الإسلام، فيعطي الرجل مخافة أن يرتد عن دينه، فيعطيه ليتقوى إيمانه، ولهذا أعطى النبي ﷺ في غزوة أُحد أعطى رؤساء القبائل مائةً مائةً من الإبل حتى يتقوى إيمانهم، رؤساء القبائل من نجد الذين أسلموا حديثًا، فالنبي ﷺ بيَّن له أنما يعطي عليه الصلاة والسلام لا للهوى، ولا لأجل الدنيا، وإنما يعطي لمصلحة الإسلام والمسلمين ليتألفهم على الإسلام.
فهذا الرجل الذي قال فيه سعد: إني لأراه مؤمنًا، قال النبي ﷺ أو مُسْلِمًا، يعني ما بلغ درجة الإيمان، فدلَّ على أن هناك فرق بين الأحكام في الظاهر، بين أحكام الناس في الدنيا، وأحكامهم في الآخرة، فأحكامهم في الدنيا حكم على هذه الأَمَة بأنها، بالإيمان الظاهر، وأما سعد الذي قال عن فلان أنه مؤمن، فأخبر النبي ﷺ أنه أو مُسْلِمًا ، يعني ما بلغ درجة الإيمان عند تقسيم بعد الواجبات، أو فعل بعض المحرمات. وكان يُظهر من الإيمان ما تُظهر الأَمَة وزيادة.
ولهذا قال المؤلف: "فَيَجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ أَحْكَامِ الْمُؤْمِنِينَ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَحْكُمُ فِيهَا النَّاسُ فِي الدُّنْيَا وَبَيْنَ حُكْمِهِمْ فِي الْآخِرَةِ" يعني لابد أن نفرق بين أحكام الدنيا وأحكام الآخرة، فأحكام الدنيا تُجرى الأحكام على الظاهر، وأما في الآخرة، فإنها تُجرى على الظاهر والباطن، الباطن يعني.
ولهذا فإن النبي حكم النبي ﷺ حكم في الدنيا على هذه الأَمَة بأنها مؤمنة، وأما الرجل الذي وصفه سعد بالإيمان، فالنبي حكم عليه بالإسلام، فقال إنه لم يصل درجة وصفه، أن يُوصف بالإيمان المطلق.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَيَجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ أَحْكَامِ الْمُؤْمِنِينَ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَحْكُمُ فِيهَا النَّاسُ فِي الدُّنْيَا وَبَيْنَ حُكْمِهِمْ فِي الْآخِرَةِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ؛ فَالْمُؤْمِنُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْجَنَّةِ لَا بُدَّ
أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا فِي الْبَاطِنِ بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ" يعني المؤمن الذي يُحكم عليه في الآخرة لأنه مؤمن بأنه من الجنة لابد أن يكون مؤمنًا في الباطن، في الباطن أو في الظاهر.
"بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ حَتَّى الكَرَّامِيَة الَّذِينَ يُسَمُّونَ الْمُنَافِقَ مُؤْمِنًا وَيَقُولُونَ: الْإِيمَانُ هُوَ الْكَلِمَةُ يَقُولُونَ: إنَّهُ لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ إلَّا الْإِيمَانُ الْبَاطِنُ" الكَرامية محمد بن إكرام يقولون: الإيمان هو الكلمة، يعني هو النطق إذا نطق بالشهادتين، فهو مؤمن عندهم، لكن يقولون: في الآخرة الحكم على الباطن، فإن كان مُصدقًا مؤمنًا في الباطن والظاهر، فهذا من أهل الجنة، وإن كان مُظهرًا الإيمان في الباطن، وهم مُكذبٌ، في الظاهر وهو مكذبٌ في الباطن فإنه يكون مُخلد في النار.
ولهذا قالوا قولين متناقضين، فقالوا: إن من نطق بالشهادتين، فهو مؤمنٌ كاملُ الإيمان، وإن كان مُكذبًا في الباطن، فهو في الدرك الأسفل من النار، المنافقون في الدرك الأسفل من النار، فجمعوا بين قولين متناقضين، لزمهم أن يكون المؤمن كامل الإيمان مُخلد في النار، قالوا: هو مؤمن كاملُ الإيمان لإظهاره الإيمان، ومُخلد في النار لاعتقاده الكفر في الباطن. يعني حتى الكَرامية هؤلاء يقولون أنه لا ينفع الإيمان إلا في الباطن.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَقَدْ حَكَى بَعْضُهُمْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَهُوَ غَلَطٌ عَلَيْهِمْ" يعني حُكي عن، عن بعضهم، عن، حكى بعضهم عنهم أنهم يجعلون المنافقين من أهل الجنة، ويعني الكَرامية إنهم يجعلون المنافقين من أهل الجنة، وهو غلطٌ عليهم، هذا غلطٌ ليس بصحيح؛ لأنهم يقولون....
يقول المؤلف: " إنَّمَا نَازَعُوا فِي الِاسْمِ لَا فِي الْحُكْمِ بِسَبَبِ شُبْهَةِ الْمُرْجِئَةِ" يعني من حكى عن المُرجئة أنهم يقولون إن من نطق بالشهادتين فهو، فهو من أهل الجنة يقول هذا غلطٌ على المذهب، والسبب أن، أن هؤلاء إنما نزاعهم في الاسم لا في الحكم، فهم يقولون: من نطق بالشهادتين وهو مكذبٌ في الباطن، فهو من أهل من الدرك الأسفل، ويُخلد في النار، لكن في الاسم، الاسم يُسمى مؤمن، وأما الحكم فهو كافر، حكمه حكم الكفرة.
فنزاعهم هو في الاسم لا في الحكم، الحكم وافقوا على السنة والجماعة في أن من اعتقد الكفر خُلِد في النار، لكن نازعوا في الاسم، وسبب هذا النزاع في الاسم قال: بسبب شبهة المُرجئة، ما هي شبهة المُرجئة؟ بسبب شبهة المُرجئة في أن الإيمان لا يتبعض ولا يتفاضل.
هذه شبهة جميع المُرجئة، جميع من خالف أهل السنة والجماعة، هي سنة الجهمية، وهي سنة الكَرامية، وهي سنة المُرجئة الفقهاء، كلهم يقولون الإيمان لا يتبعض ولا يتفاضل، الإيمان شيءٌ واحد إذا زال زال جميعه، وإذا ثبت ثبت جميعه؛ حتى الخوارج المعتزلة، ولم ينفصل من هذا، هذه الشبهة إلا جمهورٌ أهل السنة الذين يقولون إن الإيمان يتبعض ويتفاضل ويزيد وينقص ويقوى ويضعف ويذهب بعضه، ويبقى بعضه، أما ما عداهم أهل السنة والجماعة فإنهم يقولون الإيمان شيءٌ واحد إذا زال زال جميعه، وإذا ثبت ثبت جميعه؛ لأن الإيمان حقيقةٌ مركبة، والحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها، هذه شبهة.
قال بهذه الشبهة الخوارج والمعتزلة والجهمية والكَرامية، والأشعرية، والكُلابية، كلهم قالوا، كلهم شبهتهم هذه، حتى الخوارج والمعتزلة يقولون إن الإيمان قولٌ وعمل، وإقرار باللسان، وافقوا أهل السنة في أن الإيمان، دخول العمل في مُسمى الإيمان، لكن خالفوهم، قالوا: إذا زال بعض العمل، ترك بعض الواجبات، وفعل بعض المُحرمات، زال الإيمان كله، وصار كافرًا مُخلدًا في النار.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَلِهَذَا أَكْثَرُ مَا اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي الرَّقَبَةِ الَّتِي تُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ الْعَمَلُ الظَّاهِرُ "، يعني بعضهم اشترط في الرقبة التي تُجزئ الكفارة مع الإيمان الظاهر العمل، يعني العمل في الظاهر يدل على العمل في الباطن.
قال: "فَتَنَازَعُوا هَلْ يُجْزِئُ الصَّغِيرُ؟" يعني تعتق الرقبة، "عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ لِلسَّلَفِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد؛ فَقِيلَ: لَا يُجْزِئُ عِتْقُهُ لِأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَالصَّغِيرُ لَمْ يُؤْمِنْ بِنَفْسِهِ إنَّمَا إيمَانُهُ تَبَعٌ لِأَبَوَيْهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا؛ وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدٌ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فِي الْبَاطِنِ".
أكثر ما اُشترط الإيمان الظاهر، ولم يشترط أحدٌ الإيمان في الباطن، الإيمان في الباطن لا يعلمه إلا الله، والقول الثاني: يُجزئ عتقه، ولو لم يعمل في الظاهر؛ لأن العتق من الأحكام الظاهرة وهو تبعٌ لأبويه، لأن الصغير يعني يُجزئ، ولو ... عمل.
" لِأَنَّ الْعِتْقَ مِنْ الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ و الصغير تَبَعٌ لِأَبَوَيْهِ؛ فَكَمَا أَنَّهُ يَرِثُ مِنْهُمَا وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُصَلَّى إلَّا عَلَى مُؤْمِنٍ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ"، يعني الصغير تبعٌ لأبويه، يرث منهما، ويُصلى عليه، فالصغير من المؤمنين تبع لأبويه، والصغير من الكُفار تبعٌ لأبويه في أحكام التسجيل، ولا يُصلى إلا على مؤمن، "فَكَمَا أَنَّهُ يَرِثُ مِنْهُمَا وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُصَلَّى إلَّا عَلَى مُؤْمِنٍ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ"، نعم.
(المتن)
قال رحمه الله:
وَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ لَمْ يُظْهِرُوا نِفَاقَهُمْ يُصَلَّى عَلَيْهِمْ إذَا مَاتُوا، وَيُدْفَنُونَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ، وَالْمَقْبَرَةُ الَّتِي كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ فِي حَيَاتِهِ وَحَيَاةِ خُلَفَائِهِ وَأَصْحَابِهِ يُدْفَنُ فِيهَا كُلُّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا فِي الْبَاطِنِ.
وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُنَافِقِينَ مَقْبَرَةٌ يَتَمَيَّزُونَ بِهَا عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ دِيَارِ الْإِسْلَامِ كَمَا تَكُونُ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَقْبَرَةٌ يَتَمَيَّزُونَ بِهَا وَمَنْ دُفِنَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ صَلَّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَالصَّلَاةُ لَا تَجُوزُ عَلَى مَنْ عُلِمَ نِفَاقُهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الْإِيمَانِ الظَّاهِرِ، وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ حَتَّى نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ.
وَعُلِّلَ ذَلِكَ بِالْكُفْرِ فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَافِرٌ بِالْبَاطِنِ جَازَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُ وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ بِدْعَةٌ وَإِنْ كَانَ لَهُ ذُنُوبٌ.
(الشرح)
الشيخ: في الباطن هنا؟ كان هذا دليل على أن كل من يُعلم كافرٌ.
القارئ: جَازَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ"
الشيخ: كافرٌ ايش؟
القارئ: كَافِرٌ بِالْبَاطِنِ.
الشيخ: كل من يُعلم أنه كافرٌ بالظاهر جازت الصلاة عليه. هكذا النسخة عندكم؟
القارئ: النسخة عندنا بالباطن.
الشيخ: في الظاهر، هذا سياق الكلام، كل من يُعلم أنه كافرٌ بالظاهر يُصلى عليه، أما في الباطن لا يعلمه إلا الله، هذا سياق الكلام اللي ذكره المؤلف رحمه الله.
طيب يقول المؤلف رحمه الله: "وَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ لَمْ يُظْهِرُوا نِفَاقَهُمْ يُصَلَّى عَلَيْهِمْ إذَا مَاتُوا وَيُدْفَنُونَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ " يعني إجراءً للأحكام على ظاهرها، يعني تُجرى عليهم أحكام الإسلام في الظاهر، فالمنافقون الذين لا يُظهرون نفاقهم يُصلى عليهم إذا ماتوا، ويُدفنوا في مقابر المسلمين من عهد النبي ﷺ.
"وَالْمَقْبَرَةُ الَّتِي كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ فِي حَيَاتِهِ وَحَيَاةِ خُلَفَائِهِ وَأَصْحَابِهِ يُدْفَنُ فِيهَا كُلُّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا فِي الْبَاطِنِ" هذا من باب إجراء الأحكام على الظاهر، يقول المؤلف: "وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُنَافِقِينَ مَقْبَرَةٌ يَتَمَيَّزُونَ بِهَا عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ دِيَارِ الْإِسْلَامِ كَمَا تَكُونُ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَقْبَرَةٌ يَتَمَيَّزُونَ بِهَا" يعني في ديار المسلمين يكون مقربتان؛ مقبرة للمسلمين، ومقبرة لأهل الذمة.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَمَنْ دُفِنَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ صَلَّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَالصَّلَاةُ لَا تَجُوزُ عَلَى مَنْ عُلِمَ نِفَاقُهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ" يشير إلى قول الله تعالى: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة: 84]، هذا التعليل، إنهم كفروا. فمن عُلم كفره لا يُصلى عليه، ومن لم يُعلم كفره يُصلى عليه، بنص القرآن الصلاة لا تصل على أحد علم نفاقه: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة: 84].
يقول المؤلف رحمه الله: "فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الْإِيمَانِ الظَّاهِرِ وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ" يعني يُصلى عليه إجراءً للأحكام على ظاهرها، وأما السرائر فالله تعالى هو الذي يتولاها، قال المؤلف رحمه الله: " وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ"يعني المنافقين " حَتَّى نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ" كان قبل ذلك، مثل ما سبق أنه صلى على عبد الله بن أُبي قبل أن تنزل الآية، ثم نزلت الآية وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة: 84]، فلم يصلِ على منافق بعد هذه الآية.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَعُلِّلَ ذَلِكَ بِالْكُفْرِ" يشير إلى الآية، إنهم كفروا بالله، هذه العلة، هذه العلة، فمن وُجد فيه هذه العلة لا يُصلى عليه، ومن لو توجد يُصلى عليه، "وَعُلِّلَ ذَلِكَ بِالْكُفْرِ فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَافِرٌ بِالْظاهر جَازَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُ وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ بِدْعَةٌ وَإِنْ كَانَ لَهُ ذُنُوبٌ"
فمن لم يُعلم أنه كافر في الظاهر يُصلى عليه، ويُستغفر له، ولو كان عنده بعض البدع، ولو كان عنده ذنوب، لا تُخْرِجه من المِلَّة، نعم.
(المتن)
(الشرح)
المؤلف رحمه الله يبيِّن أن الأحكام تُجرى على الظاهر، وأن أهل العلم يجرون الأحكام على الظاهر عملًا بالنصوص، يقول المؤلف رحمه الله: "وَإِذَا تَرَكَ الْإِمَامُ أَوْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ " الصَّلَاةَ " عَلَى بَعْضِ الْمُتَظَاهِرِينَ بِبِدْعَةِ أَوْ فُجُورٍ زَجْرًا عَنْهَا" وهذا لا يمنع من الصلاة عليه والاستغفار له.
القارئ: عندكم لا يجوز يا شيخ؟
الشيخ: نعم.
القارئ: عندنا ببدعةٍ أو فجور، في نسخة وإذا ترك الإمام أو أهل العلم والدين الصلاة على بعض المتظاهرين ببدعة أو فجور.
الشيخ: نعم فجور زجرًا، "لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُحَرِّمًا لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُ" يعني إذا ترك الإمام، إمام المسلمين، أو أهل العلم وأهلُ الأعيان، وأهل الأعيان من العلماء والوجهاء تركوا الصلاة على بعض العُصاة، فهذا يكون من باب الزجر للأحياء؛ حتى لا يفعلوا مثل فعلهم، ولكن صلى عليه عامة الناس، وهذا يكونُ اقتداءً بالنبي ﷺ، وكونهم يصلون، يمتنعون من الصلاة عليهم، لا يمنع ذلك الاستغفار له، والدعاء له؛ لأنه مسلم، وكذلك صلاة عامة الناس.
يقول المؤلف رحمه الله: "بَلْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِيمَنْ كَانَ يَمْتَنِعُ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْغَالُّ وَقَاتِلُ نَفْسِهِ وَالْمَدِينُ الَّذِي لَا وَفَاءَ لَهُ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ([2])" الغال هو الذي يأخذ من الغنيمة، يختلس من الغنيمة، فيُسمى غلولًا -قبل قسمتها-، ومثلها مَن أخذ من بيت المال، أو من الصدقات التي جُمعت، وكل هذا غُلول.
وكذلك القاتل لنفسه، فإنه ثبتَ في سنن النسائي عن أبي سمرة أن رجلًا قتل نفسه بمشاقِصَ، فقال رسول الله ﷺ: أمَّا أنا فلا أُصلِّي عليه([3]).
والمشاقص: جمعُ مشقص، وهو: نصلُ السهم.
وكذلك قاتلُ النفس، قد ثبت في سنن أبي داود عن زياد بن خالد أن رجلًا من أصحاب النبي ﷺ تُوفي يوم خيبر، فذكروا ذلك لرسول الله ﷺ، فقال صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، فتغيرت وجوه الناس، فقال إن صاحبكم غال في سبيل الله، فالقاتل كما سبق لا يُصلى عليه، امتنع النبي ﷺ من الصلاة عليه، وكذلك الغال، وكذلك المدين الذي لا وفاء له كما في قصة المعروفة عن النبي ﷺ لما عرض أن يُصلي على مَدِينٍ، سأل عنه، قال: عليه شيء؟ قالوا: عليه ديناران، فتأخَّر النبيُّ، وقال: صَلُّوا على صاحبكم([4]).
فالنبي ﷺ إنما امتنع من الصلاة عليه أن الغال والقاتل نفسه والمدين الذي لا وفاء له زجرًا للأحياء حتى لا يفعلوا مثل فعلهم، ولكن ليس معنى ذلك أنه لا يستغفر لهم، بل هو يستغفر لهم عليه الصلاة والسلام ، بل يستغفر لهم ويدعو لهم، ويصلي عليهم أعيان الناس؛ لأنه مسلم.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَغْفِرُ لِلرَّجُلِ فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ يَدَعُ ذَلِكَ زَجْرًا عَنْ مِثْلِ مَذْهَبِهِ" يعني يجمعُ بين المصلحتين، وهو عليه الصلاة والسلام يدعُ الصلاة عليه؛ زجرًا للأحياء، حتى لا يفعلون مثل فعله، ويُصلي عليه، ويستغفر له، ويدعو له؛ لأنه مُسْلِم؛ رجاءَ أنْ ينفعه الله ذلك.
"كَمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ مُحَلَّمِ بْنِ جَثَّامَةَ" اسمه يزيد بن القيس بن ربيعة الكناني الذي قيل أنه قتل عمرو بن عقبة الأشجعي بعد أن أعلن إسلامه، وتوفي في عهد النبي ﷺ.
المقصود: أن النبي ﷺ يتأخر عن بعضهم، عن الصلاة عن بعض العصاة زجرًا للأحياء فلا يفعلوا مثل فعلهم، ولكنهم مع ذلك يستغفر لهم، ويدعو لهم، ويقول للناس صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ.
أخذ العلماء من هذا أن هؤلاء العُصاة إذا تأخر الإمام أو الأعيان من العلماء والوجهاء ورؤساء القبائل عن الصلاة عليهم؛ زجرًا للأحياء، فهذا حَسَنٌ، ويُصلي عليهم سائر الناس؛ لأنه مسلم، وهم يدعون له في الباطن، يعني يدعون له ويستغفرون له في غير وقتِ جنازته، والصلاة عليه، نعم.
(المتن)
توقفنا عند قول المؤلف رحمه الله:
وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُظْهِرُونَ لِلْإِسْلَامِ إلَّا قِسْمَانِ: مُؤْمِنٌ أَوْ مُنَافِقٌ فَالْمُنَافِقُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَالْآخَرُ مُؤْمِنٌ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ نَاقِصَ الْإِيمَانِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ الْمُطْلَقُ وَقَدْ يَكُونُ تَامَّ الْإِيمَانِ وَهَذَا يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَأَسْمَاءِ الْفُسَّاقِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ.
لَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا أَنَّهُ لَا يُجْعَلُ أَحَدٌ بِمُجَرَّدِ ذَنْبٍ يذنبه وَلَا بِبِدْعَةِ ابْتَدَعَهَا -وَلَوْ دَعَا النَّاسَ إلَيْهَا- كَافِرًا فِي الْبَاطِنِ إلَّا إذَا كَانَ مُنَافِقًا.
فَأَمَّا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ وَمَا جَاءَ بِهِ وَقَدْ غَلِطَ فِي بَعْضِ مَا تَأَوَّلَهُ مِنْ الْبِدَعِ فَهَذَا لَيْسَ بِكَافِرِ أَصْلًا وَالْخَوَارِجُ كَانُوا مِنْ أَظْهَرِ النَّاسِ بِدْعَةً وَقِتَالًا لِلْأُمَّةِ وَتَكْفِيرًا لَهَا وَلَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ يُكَفِّرُهُمْ لَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَلَا غَيْرُهُ بَلْ حَكَمُوا فيهِمْ بِحُكْمِهِمْ فِي الْمُسْلِمِينَ الظَّالِمِينَ الْمُعْتَدِينَ كَمَا ذَكَرَتْ الْآثَارُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
(الشرح)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، والصلاةُ والسلامُ على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أمَّا بعد؛
فإن المؤلف رحمه الله لا يزال يذكرُ الأدلة في أن، في أن الإسلام تُجرى، في أن أحكام الإسلام تُجرى على الظاهر، وأن المنافقين الذين يُظهرون الإسلام تُجرى عليهم أحكام المسلمين، وإن كانوا يُبطون الكفر.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُظْهِرُونَ لِلْإِسْلَامِ إلَّا قِسْمَانِ: مُؤْمِنٌ أَوْ مُنَافِقٌ فَالْمُنَافِقُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَالْآخَرُ مُؤْمِنٌ" يعني المُظهرون للإسلام في الكتاب والسنة قسمان؛ مؤمن في الباطن والظاهر، ومنافق وهو مؤمن في الظاهر كافرٌ في الباطن، وهذا الثاني في الدرك الأسفل من النار.
وأما الآخر المؤمن في الباطن والظاهر قد يكون ناقص الإيمان، وقد يكون كامل الإيمان. فإذا كان مؤديًا للواجبات، منتهيًا عن المحرمات فهو كامل الإيمان، وإذا كان يفعل بعض المحرمات، أو يقصر في بعض الواجبات فهو ناقص الإيمان.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَالْآخَرُ مُؤْمِنٌ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ نَاقِصَ الْإِيمَانِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ الْمُطْلَقُ وَقَدْ يَكُونُ تَامَّ الْإِيمَانِ" يعني فتناوله الاسمُ المطلق، الاسمُ المطلق يعني يُطلق عليه اسمُ الإيمان، الاسمُ المطلق يعني هو تمامُ الإيمان، الذي يُطلق عليه الاسم المطلق يقال هو مؤمن، هذا الاسمُ المطلق. هذا إنما يُطلق على المؤمن الذي أدى الواجبات وترك المحرمات، فإن كان عاصيًا، فإنه لا يُطلق عليه اسم الإيمان في المطلق، بل لابد من التقييد، سيقال مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمنٌ بإيمانه فاسق بكبيرته.
وكذلك إذا نُفي عنه الإيمان، لا يُنفى عنه الإيمان بإطلاق، بل لابد من التقييد، فيقال: ليس بمؤمنٍ حقًا، ليس بصادق الإيمان، هذا معنى قول المؤلف رحمه الله: " ثُمَّ قَدْ يَكُونُ نَاقِصَ الْإِيمَانِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ الْمُطْلَقُ" يعني ما يقال مؤمن بإطلاق؛ لأن لو قلنا أنه مؤمن بإطلاق لوافقنا المُرجئة، ولا يُنفى عنه الاسم المطلق بإطلاق فلا يقال: ليس بمؤمن، لأن إذا نفينا الإيمان وافقنا الخوارج، والمعتزلة.
فلابد من التقييد في النفي وفي الإثبات:
ففي الإثبات: يُقال: مؤمنٌ ناقصُ الإيمان، مؤمنٌ ضعيفُ الإيمان، مؤمنٌ بإيمانه فاسقٌ بكبيرته.
وفي النفي: لابد من التقييد، ما يُقال: ليس بمؤمن، بل يُقال: ليس بصادق الإيمان، ليس بمؤمن حقًّا، هذا معنى قول المؤلف: "ُثمَّ قَدْ يَكُونُ نَاقِصَ الْإِيمَانِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ الْمُطْلَقُ" يعني مؤمن، ما يتناوله؛ لأنه فعل بعض المحرمات، ولكن يُعطى مطلق الاسم، فيقال، فيعطى مطلق الاسم، يعني أصل الإيمان، مطلق الاسم هو مؤمن ليس بكافر، عنده أصل الإيمان، فيُعطى مطلق الاسم، ولا يُعطى الاسم المطلق. فمطلق الاسم أصلُ الإيمان، والاسم المطلق تمام الإيمان، لا يتناول، لا يُعطى تمامُ الإيمان، وإنما يُعطى أصل الإيمان.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَقَدْ يَكُونُ تَامَّ الْإِيمَانِ وَهَذَا يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَأَسْمَاءِ الْفُسَّاقِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ؛ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا أَنَّهُ لَا يُجْعَلُ أَحَدٌ بِمُجَرَّدِ ذَنْبٍ يذنبه وَلَا بِبِدْعَةِ ابْتَدَعَهَا - وَلَوْ دَعَا النَّاسَ إلَيْهَا - كَافِرًا فِي الْبَاطِنِ إلَّا إذَا كَانَ مُنَافِقًا".
هذا.. عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة؛ أن المذنب اللي فعل الذنب من المسلمين، حتى ولو كان بدعة، ولو دعا الناس إليها، لا يُسمى كافر، لا يُسمى كافرًا في الباطن، وإنما يُقال مؤمن، مؤمن ناقصُ الإيمان، ضعيف الإيمان، إلا إذا كان منافقًا، إذا كان منافقًا مُكذبًا لله ورسوله في الباطن، فإنه يُقال إنه كافرٌ في الباطن، أما إذا كان مؤمنًا بالله ورسوله في الباطن، وإنما فعل بدعة، أو فعل معصية ولو دعا إليها، فهذا لا يزال في عداد المسلمين، وعداد المؤمنين، داخلًا في دائرة الإسلام، والمؤمنين وإن كان عنده نقص وتقصير.
يقول المؤلف رحمه الله: "فَأَمَّا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ وَمَا جَاءَ بِهِ وَقَدْ غَلِطَ فِي بَعْضِ مَا تَأَوَّلَهُ مِنْ الْبِدَعِ فَهَذَا لَيْسَ بِكَافِرِ أَصْلًا وَالْخَوَارِجُ كَانُوا مِنْ أَظْهَرِ النَّاسِ بِدْعَةً وَقِتَالًا لِلْأُمَّةِ وَتَكْفِيرًا لَهَا وَلَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ يُكَفِّرُهُمْ لَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَلَا غَيْرُهُ بَلْ حَكَمُوا فِيهِمْ بِحُكْمِهِمْ فِي الْمُسْلِمِينَ الظَّالِمِينَ الْمُعْتَدِينَ كَمَا ذَكَرَتْ الْآثَارُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ".
يعني الخوارج الآن يُظهرون البدع، وهي بدعةٌ شنيعة، وأنهم كفروا المسلمين بالمعاصي، ومع ذلك مع هذه البدع الشنيعة، يقول المؤلف رحمه الله: أن الصحابة يجرون عليهم أحكام الإسلام، وأحكام المسلمين، ولم يكفرهم أحد لا علي بن أبي طالب ولا غيره، بل كانوا يحكمون فيهم بحكم المسلمين الظالمين المعتدين؛ لأنهم متأولون.
وقد سُئل علي بن أبي طالب فقال: هل هم كفار؟ الخوارج، فقال: من الكفر فرض، وللإمام أحمد بن حنبل روايتان مشهور عنه أنهم لا يكفرون، وروى عنه أنهم يكفرون عملًا بظاهر الأحاديث التي فيها، التي فيها التصريح بخروجهم من الإيمان، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ([5])، وفي بعضها: يمرقون من الدين ثم لا يعودون إليه([6])، وفي رواية: لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل عاد([7])، شبَّههم بقومِ عاد؛ وهم كفار.
فهذه الأدلة ظاهرها أنهم كفار، ولهذا كفَّرهم بعض أهل العلم، وهي رواية عن الإمام أحمد، ولكن المشهور عدم تكفيرهم، وهو الذي عليه عملُ الصحابة كما ذكر المؤلف رحمه الله، نعم.
(المتن)
وَكَذَلِكَ سَائِرُ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُنَافِقًا فَهُوَ كَافِرٌ فِي الْبَاطِنِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا بَلْ كَانَ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي الْبَاطِنِ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ أَخْطَأَ فِي التَّأْوِيلِ كَائِنًا مَا كَانَ خَطَؤُهُ؛ وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِهِمْ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ النِّفَاقِ وَلَا يَكُونُ فِيهِ النِّفَاقُ الَّذِي يَكُونُ صَاحِبُهُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ.
وَمَنْ قَالَ: إنَّ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَكْفُرُ كُفْرًا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ بَلْ وَإِجْمَاعَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِ الْأَرْبَعَةِ فَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ كَفَّرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الثِّنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَإِنَّمَا يُكَفِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِبَعْضِ الْمَقَالَاتِ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَإِنَّمَا قَالَ الْأَئِمَّةُ بِكُفْرِ هَذَا لِأَنَّ هَذَا فَرْضُ مَا لَا يَقَعُ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِمَّا أُمِرَ بِهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَيَفْعَلُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ مِثْلَ الصَّلَاةِ بِلَا وُضُوءٍ وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَنِكَاحِ الْأُمَّهَاتِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُؤْمِنٌ فِي الْبَاطِنِ؛ بَلْ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا لِعَدَمِ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي قَلْبِهِ.
وَلِهَذَا كَانَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ يُكَفِّرُونَ أَنْوَاعًا مِمَّنْ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ وَيَجْعَلُونَهُ مُرْتَدًّا بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مَعَ النِّزَاعِ اللَّفْظِيِّ الَّذِي بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَبَيْنَ الْجُمْهُورِ فِي الْعَمَلِ: هَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ أَمْ لَا؟ وَلِهَذَا فَرَضَ مُتَأَخِّرُو الْفُقَهَاءِ مَسْأَلَةً يَمْتَنِعُ وُقُوعُهَا وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ مُقِرًّا بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ فَدُعِيَ إلَيْهَا وَامْتَنَعَ وَاسْتُتِيبَ ثَلَاثًا مَعَ تَهْدِيدِهِ بِالْقَتْلِ فَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى قُتِلَ هَلْ يَمُوتُ كَافِرًا أَوْ فَاسِقًا؟
عَلَى قَوْلَيْنِ: وَهَذَا الْفَرْضُ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ فِي الْفِطْرَةِ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَهَا عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يُعَاقِبُهُ عَلَى تَرْكِهَا وَيَصْبِرُ عَلَى الْقَتْلِ وَلَا يَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَهُ فِي ذَلِكَ هَذَا لَا يَفْعَلُهُ بَشَرٌ قَطُّ بَلْ وَلَا يُضْرَبُ أَحَدٌ مِمَّنْ يُقِرُّ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ إلَّا صَلَّى لَا يَنْتَهِي الْأَمْرُ بِهِ إلَى الْقَتْلِ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَتْلَ ضَرَرٌ عَظِيمٌ لَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ إلَّا لِأَمْرِ عَظِيمٍ مِثْلَ لُزُومِهِ لِدِينِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ إنْ فَارَقَهُ هَلَكَ فَيَصْبِرُ عَلَيْهِ حَتَّى يُقْتَلَ وَسَوَاءٌ كَانَ الدِّينُ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا أَمَّا مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّ الْفِعْلَ يَجِبُ عَلَيْهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَلَا يَكُونُ فِعْلُ الصَّلَاةِ أَصْعَبَ عَلَيْهِ مِنْ احْتِمَالِ الْقَتْلِ قَطُّ.
(الشرح)
نعم، يقول المؤلف رحمه الله: "وَكَذَلِكَ سَائِرُ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُنَافِقًا فَهُوَ كَافِرٌ فِي الْبَاطِنِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا بَلْ كَانَ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي الْبَاطِنِ لَمْ كَافِرًا فِي الْبَاطِنِ" يعني أن الثنتين والسبعين فرقة التي قال فيها النبي ﷺ: افترقت اليهود على إحدى وسبعين، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاثٍ وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة([8]) يقول المؤلف رحمه الله أن هذه الفرق من فرق المبتدعة، ليسوا كفارًا، وهم متوعدون بالنار؛ لأنهم مبتدعة، والناجية هي فرقةٌ واحدة، هي التي وصفها النبي ﷺ، قال: مَن كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي([9]).
وأما هذه الفرق، فإنهم متوعدون بالنار؛ لفسقهم وبدعتهم، ولا يلزم من هذا أن يكونوا كُفارًا بدليل أن العلماء قالوا: إن الرافضة والجهمية خارجون من الثنتين والسبعين فِرقة؛ لكفرهم وضلالهم، والقدرية الأُوْلَى الذين أنكروا عِلْمَ الله خرجوا من الثنتين والسبعين فرقة، كذلك الجهمية الذين أنكروا أسماء الله وصفاته، وكذلك الرافضة خرجوا من الثنتين والسبعين فرقة يعني أنهم كفار، فدل على أن الثنتين والسبعين فرقة ليسوا كفارًا، وإنما هم مبتدعة.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَكَذَلِكَ سَائِرُ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُنَافِقًا فَهُوَ كَافِرٌ فِي الْبَاطِنِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا بَلْ كَانَ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي الْبَاطِنِ" ولو كان عنده بعض البدع، فلا يكون كافرًا في الباطن، يقول المؤلف: "وَإِنْ أَخْطَأَ فِي التَّأْوِيلِ كَائِنًا مَا كَانَ خَطَؤُهُ؛ وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِهِمْ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ النِّفَاقِ وَلَا يَكُونُ فِيهِ النِّفَاقُ الَّذِي يَكُونُ صَاحِبُهُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ".
قد يكون بعضهم فيه شُعْبَة من شعب النفاق، وهي معصية؛ كالكذب في الحديث، وإخلاف الوعد، وخيانة الأمانة، والفجور، كما سبق الحديث في وصفهم: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ([10])، أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا ([11])، فهذه معاصٍ، نفاقٌ عملي توصل إلى النفاق الأكبر، ولكن صاحبه لا يكون منافقًا، بأن يكون كافرًا في الباطن.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَمَنْ قَالَ: إنَّ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَكْفُرُ كُفْرًا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ بَلْ وَإِجْمَاعَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِ الْأَرْبَعَةِ"، يعني لما قال إنهم كفار.
يعني ظاهر الحديث أنهم ليسوا كفارًا، بل هم مبتدعة، متوعدون لأجل ما عملوه من المعاصي التي توعد فيهم بالنار، فيكونوا كسائر المتوعدين من أهل الكبائر، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "يَكْفُرُ كُفْرًا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ بَلْ وَإِجْمَاعَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِ الْأَرْبَعَةِ فَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ كَفَّرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الثِّنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَإِنَّمَا يُكَفِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِبَعْضِ الْمَقَالَاتِ". يعني بعض المقالات التي يتكلمون بها قد يكفروا كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ".
قال المؤلف رحمه الله: " وَإِنَّمَا قَالَ الْأَئِمَّةُ بِكُفْرِ هَذَا لِأَنَّ هَذَا فَرْضُ مَا لَا يَقَعُ" يشير المؤلف رحمه الله إلى ما سبق في رواية الإمام أحمد رحمه الله، لما قال -فيما سبق-: حدثنا خلف بن حيان، حدثنا مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَبْسِيُّ، قال قدم علينا سَالِمٌ الْأَفْطَسِيُّ بِالْإِرْجَاءِ، فنفر منه أصحابنا من قريش شَدِيدًا، منهم: مَيْمُونَ بْنَ مِهْرَانَ وَعَبْدَ الْكَرِيمِ بْنَ مَالِكٍ؛ فَإِنَّهُ عَاهَدَ اللَّهَ أَلَّا يُؤْوِيَهِ وَإِيَّاهُ سَقْفُ بَيْتِ إِلَّا الْمَسْجِدَ.
ثم قال مَعْقِلٌ: فَحَجَجْتُ، فَدَخَلْتُ عَلَى عَطَاءِ، وصارَ يسأله عنهم، ثم قال بعد ذلك: فقال: قال رسول الله ﷺ: أُمِرْتُ أَنْ أَضْرِبَهُمْ بِالسُّيُوفِ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ([12])، فقال: قلتُ له: قلتُ: إنهم يقولون: نحن نقر بأن الصلاة فرض ولا نصلي، وبأن الخمر حرام ونشربها، وأن نكاح الأمهات حرام ونحن ننكح، فَنَتَرَ يده من يدي، وقال: مَن فعلَ هذا فهو كافر.
لأن هؤلاء استحلوا ما حرَّم الله، فكفَرُوا بالاستحلال، ولو كانوا يقولون: نحن نقر بأن الصلاة فرض ولا نصلي، فهم رفضوا أمر الله وأمر رسوله، وردوا أمر الله وأمر رسوله، وأبوا عن الانقياد لحُكْمِ الله، وحُكْمِ رسوله، فلذلك قال: إنهم كفروا.
يقول المؤلف رحمه الله يشير إلى هذا: "وَإِنَّمَا قَالَ الْأَئِمَّةُ بِكُفْرِ هَذَا" يعني هؤلاء الذين قالوا بأن الصلاة فرض ولا نصلي، وبأن الخمرة حرام ونشربها، وأن نكاح الأمهات حرام ونحن ننكح، يقول هؤلاء: قال الأئمة بكفرهم، لماذا؟ "لِأَنَّ هَذَا فَرْضُ مَا لَا يَقَعُ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِمَّا أُمِرَ بِهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَيَفْعَلُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ" وهو مع ذلك مؤمن في الباطن، يمتنع، لو كان مؤمن لفعل، أدى الصلاة، يقول المؤمن: أنا مؤمن وأقرُ بأن الصلاة فرض، ولايصلي، ويقول: أنا مؤمن بأن الخمرة حرام ويشرب ويستحلها، ولا ينقاد، ولا يأتي بحرمة الإيمان، يكتفي بالإقرار، ما يكفي الإقرار، لو كان الإقرار يكفي لكفى إبليس أقر، كما فرعون أقَّر.
فالمؤلف رحمه الله قال: إنما قال الأئمة بكفر هذا؛ لأن هذا فرض ما لا يقع، ما هو الفرض الذي لا يكون؟ قال: "فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِمَّا أُمِرَ بِهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَيَفْعَلُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ مِثْلَ الصَّلَاةِ بِلَا وُضُوءٍ وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَنِكَاحِ الْأُمَّهَاتِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُؤْمِنٌ فِي الْبَاطِنِ" ما يمكن هذا، ما التزم به، ولا أقَّر بشرع الله ودينه، شخصٌ يقول إنه مؤمن، ومع ذلك لا يفعل الواجبات، ويفعل جميع المحرمات، هل هذا مؤمن؟
قال المؤلف: "وَإِنَّمَا قَالَ الْأَئِمَّةُ بِكُفْرِ هَذَا لِأَنَّ هَذَا فَرْضُ مَا لَا يَقَعُ" لأنه فرض ما يمكن وقوعه، هو يمتنع أن يكون الرجل لا يؤدي شيء من الواجبات، ويفعل جميع المحرمات، ويدَّعي أنه مؤمن بقلبه، هذا ليس بالصحيح، لو كان هناك إيمانٌ في القلب لفعل الواجبات، وترك المحرمات؛ لأن الإيمان لا يكفيه المعرفة، بل لابد من الحركة، والمحبة، الحركة والمحبة تبعث الإنسان على فعل الواجبات وترك المحرمات، فهذا فرضُ ما لا يقع.
يُقال: شخصٌ يدَّعي الإيمان، ثم يترك جميع الواجبات، ويفعلُ جميع المحرمات، ما يَقْدِرُ عليه من المحرمات، هل هذا مؤمن؟ هذا ليس بمؤمن، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "بَلْ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا لِعَدَمِ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي قَلْبِهِ وَلِهَذَا كَانَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ يُكَفِّرُونَ أَنْوَاعًا مِمَّنْ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ وَيَجْعَلُونَهُ مُرْتَدًّا بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مَعَ النِّزَاعِ اللَّفْظِيِّ الَّذِي بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَبَيْنَ الْجُمْهُورِ فِي الْعَمَلِ".
يعني أصحاب الإمام أبي حنيفة ذكروا في باب حُكْمِ المرتد، أنواعًا كثيرًا من الرِّدة حتى إنهم أوصلوا أنواع الرِّدة إلى ما يقارب خمسمائة أو أربعمائة، وهم من أكثر المذاهب في بيان أنواع الرِّدة، الأحناف؛ حتى إنهم قالوا: مَن قال: مُصْحَف مُصَيْحِف، مَسْجِد مُسَيْجِد، مستخفًّا بذلك كفر.
فالمؤلف رحمه الله قال: "وَلِهَذَا كَانَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ يُكَفِّرُونَ أَنْوَاعًا مِمَّنْ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ وَيَجْعَلُونَهُ مُرْتَدًّا بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ" بعض هذه الأنواع التي ذُكرت هنا مَعَ النِّزَاعِ اللَّفْظِيِّ الَّذِي بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَبَيْنَ الْجُمْهُورِ فِي الْعَمَلِ" جمهور أهل السُنة، لذا جمهور أهل السُنة يُدخلون الأعمال في مُسمى الإيمان، وأبو حنيفة وأصحابه يُخرجون الأعمال من مُسمى الإيمان، وإن كانوا يتفقون على أن العمل لابد منه، هم يتفقوا على أن العمل لابد منه، الواجبات واجبات، والمحرمات محرمات، لكن النزاع في التسمية، الجمهور يسمون الإيمان، هم لا يسمونه إيمان. ومع ذلك، هم مع ذلك من أكثر الناس ذِكرًا لأنواع الرِدة التي يكفر بها الإنسان.
ولذلك يقول المؤلف رحمه الله: "مَعَ النِّزَاعِ اللَّفْظِيِّ الَّذِي بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَبَيْنَ الْجُمْهُورِ فِي الْعَمَلِ: هَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ أمْ لَا؟ وَلِهَذَا فَرَضَ مُتَأَخِّرُو الْفُقَهَاءِ مَسْأَلَةً يَمْتَنِعُ وُقُوعُهَا" دخل الفقهاء المتأخرون من الفقهاء مسألةً فرضية لا يمكن وقوعها، وهي يقولون: "وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ مُقِرًّا بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ فَدُعِيَ إلَيْهَا وَامْتَنَعَ وَاسْتُتِيبَ ثَلَاثًا مَعَ تَهْدِيدِهِ بِالْقَتْلِ فَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى قُتِلَ هَلْ يَمُوتُ كَافِرًا أَوْ فَاسِقًا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ".
هذه المسألة لا يُمْكِن تقع، شخصٌ يقر بوجوب الصلاة ثم يُدعى إليها، ويُقال له: صلِّ وإلا قتلناك، فيقول: اقتلوني ولا أصلي! هذا لا يمكن، ما يمكن إلا إذا كان جاحدًا، أما شخصٌ يقر بوجوب الصلاة، ثم يستسلم، ويمتنع حتى يُقتل هذا ليس بالصحيح؛ لأنه لو كان مُقِرًّا بالصلاة لصلى، ولا يستسلم للقتل، لا يستسلم للقتل إلَّا الجاحد، أما شخصٌ يقرُّ بشيء ثم يمتنع منه حتى يُقتل وهو مصرٌّ على ذلك، هذا لا يمكن، مسألة فرضية لا يمكن وقوعها.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: هذه مسألة فرضية، لا يمكن وقوعها هذه التي ذكرها المتأخرون، يقولوا هذا الفرض ناقص، يعني يُفرض أن شخص يمتنع من الصلاة، وهو مقرٌ بالصلاة، ويستسلم حتى يُقتل هذا فرضٌ باطل، لا يفترض وقوعه.
لذلك قال: "فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ فِي الْفِطْرَةِ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَهَا عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يُعَاقِبُهُ عَلَى تَرْكِهَا وَيَصْبِرُ عَلَى الْقَتْلِ وَلَا يَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَهُ فِي ذَلِكَ هَذَا لَا يَفْعَلُهُ بَشَرٌ قَطُّ بَلْ وَلَا يُضْرَبُ أَحَدٌ مِمَّنْ يُقِرُّ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ إلَّا صَلَّى لَا يَنْتَهِي الْأَمْرُ بِهِ إلَى الْقَتْلِ".
لو قيل له: صلِ وإلا ضربناك، صلى إذا كان مُقرا، إلا إذا كان ما هو مُقر، لكن ما يعتقد وجوبها، يقول المؤلف: "وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَتْلَ ضَرَرٌ عَظِيمٌ لَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ إلَّا لِأَمْرِ عَظِيمٍ مِثْلَ لُزُومِهِ لِدِينِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ إنْ فَارَقَهُ هَلَكَ"، إذا كان يعتقد أن هذا الشيء الذي يُضرب أهل الدين يدين الله به، سواءٌ كان دين حقًا أو باطلًا، إذا كان يعتقد أن ما عليه هو الحق، وأنه فارك وهلك هذا له، أما شخص يعتقد أن الصلاة واجبة ويُقال له صلِ، ويقول: لا أصلي حتى يُقتل هذا لا يمكن.
والمؤلف "لُزُومِهِ لِدِينِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ إنْ فَارَقَهُ هَلَكَ فَيَصْبِرُ عَلَيْهِ حَتَّى يُقْتَلَ وَسَوَاءٌ كَانَ الدِّينُ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا أَمَّا مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّ الْفِعْلَ يَجِبُ عَلَيْهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَلَا يَكُونُ فِعْلُ الصَّلَاةِ أَصْعَبَ عَلَيْهِ مِنْ احْتِمَالِ الْقَتْلِ قَطُّ". نعم.
(المتن)
وَنَظِيرُ هَذَا لَوْ قِيلَ: إنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ قِيلَ لَهُ: تَرْضَّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَامْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ مَعَ مَحَبَّتِهِ لَهُمَا وَاعْتِقَادِهِ فَضْلَهُمَا وَمَعَ عَدَمِ الْأَعْذَارِ الْمَانِعَةِ مِنْ التَّرَضِّي عَنْهُمَا فَهَذَا لَا يَقَعُ قَطُّ. وَكَذَلِكَ لَوْ قِيلَ: إنَّ رَجُلًا يَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَقَدْ طُلِبَ مِنْهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ هُنَاكَ رَهْبَةٌ وَلَا رَغْبَةٌ يَمْتَنِعُ لِأَجْلِهَا فَامْتَنَعَ مِنْهَا حَتَّى قُتِلَ فَهَذَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَاطِنِ يَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.
وَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ الظَّاهِرُ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي لَا نَجَاةَ لِلْعَبْدِ إلَّا بِهِ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين إلَّا الْجَهْمِيَّة - جَهْمًا وَمَنْ وَافَقَهُ - فَإِنَّهُ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ مَعْذُورٌ لِكَوْنِهِ أَخْرَسَ أَوْ لِكَوْنِهِ خَائِفًا مِنْ قَوْمٍ إنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ آذَوْهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ لَا يَتَكَلَّمُ مَعَ إيمَانٍ فِي قَلْبِهِ كَالْمُكْرَهِ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل: 106] وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ جَهْمٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ فَإِنَّهُ جَعَلَ كُلَّ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ مِنْ أَهْلِ وَعِيدِ الْكُفَّارِ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ.
(الشرح)
يقول المؤلف رحمه الله مُبينًا أن الإنسان إذا كان يعتقدُ وجوب شيءٍ فإنه لا يستسلم للقتل إذا دُعي إليه، بل لابد أن يفعل، يقول: "وَنَظِيرُ هَذَا لَوْ قِيلَ: إنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ قِيلَ لَهُ: تَرْضَّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَامْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ مَعَ مَحَبَّتِهِ لَهُمَا وَاعْتِقَادِهِ فَضْلَهُمَا" هل يمكنكم تخيل هذا؟ شخص من أهل السُّنة والجماعة قيل له ترض عن أبي بكر، فامتنع من الترضي، قيل له ترضى عنه وإلا قتلناك، فامتنع حتى قُتل، وهو يعتقد فضْلَ الشيخين، هذا مستحيل، إلا إذا كان من الرافضة، أما إذا كان من أهل السُّنة مستحيل هذا، لا يمكن، شخصٌ يعني من أهل السُّنة وقيل تراضٍ عنه وإلا قتلناك، فيمتنع، وهو ليس له مانع، هذا فرضٌ لا، لا يمكن وقوعه.
يقول المؤلف: "وَمَعَ عَدَمِ الْأَعْذَارِ الْمَانِعَةِ مِنْ التَّرَضِّي عَنْهُمَا فَهَذَا لَا يَقَعُ قَطُّ" ومثله أيضًا، ذكر التنظير أيضًا، فقال: "وَكَذَلِكَ لَوْ قِيلَ: إنَّ رَجُلًا يَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَقَدْ طُلِبَ مِنْهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ هُنَاكَ رَهْبَةٌ وَلَا رَغْبَةٌ يَمْتَنِعُ لِأَجْلِهَا فَامْتَنَعَ مِنْهَا حَتَّى قُتِلَ" يعني شخص يشهدُ أن محمدًا رسول الله طُلب منه، قيل له اشهد أن محمدًا رسول الله، فقال: لا، امتنع، وليس هناك رغبة ولا رهبة يمتنع لأجلها، فامتنع، قيل له: اشهد أن محمدًا رسول الله وإلا قتلناك، فامتنع حتى قُتل، هذا مستحيل، هذا فرض لا يمكن وقوعه.
قال المؤلف رحمه الله: "وَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ الظَّاهِرُ مِنْ الْإِيمَانِ... خبر كان، يعني كان القول الظاهر داخلًا في مسمى الإيمان، "وَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ الظَّاهِرُ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي لَا نَجَاةَ لِلْعَبْدِ إلَّا بِهِ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين إلَّا الْجَهْمِيَّة" يعني عامة السلف يُدخلون الأعمال في مُسمى الإيمان.
وقال المؤلف: عند عامة السلف حتى يُخرج مُرجئة الفقهاء، لأنهم ما يقولون بذلك، ولهذا كان قول الإمام الظاهر من الإيمان، يعني داخلة في مُسمى الإيمان " الَّذِي لَا نَجَاةَ لِلْعَبْدِ إلَّا بِهِ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين إلَّا الْجَهْمِيَّة - جَهْمًا وَمَنْ وَافَقَهُ –" فإنهم لا يدخلون العمل في مُسمى الإيمان.
قال المؤلف: "فَإِنَّهُ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ مَعْذُورٌ لِكَوْنِهِ أَخْرَسَ أَوْ لِكَوْنِهِ خَائِفًا مِنْ قَوْمٍ إنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ آذَوْهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ لَا يَتَكَلَّمُ مَعَ إيمَانٍ فِي قَلْبِهِ كَالْمُكْرَهِ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ" يعني الذي قيل له انطق بالشهادتين، تكلم بالشهادتين وهو يعتقد يشهد أن لا إله إلا الله في الباطن، ويشهد أن محمدًا رسول الله، فهذا لا يمكن أن يمتنع إلا إذا كان له عذر، لكونه أخرس ما يستطيع الكلام، أو لكونه خائفًا من قومٍ إذا أظهر الإسلام آذوه، هذا يمكن يكون له عُذر، أما الشخص الذي ليس له عُذر، ويمتنع أن ينطق بالشهادتين، وهو مُقرٌ في الباطن، مؤمنٌ في الباطن، فهذا لا يمكن.
ولهذا قال المؤلف: "فَإِنَّهُ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ مَعْذُورٌ لِكَوْنِهِ أَخْرَسَ أَوْ لِكَوْنِهِ خَائِفًا مِنْ قَوْمٍ إنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ آذَوْهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ لَا يَتَكَلَّمُ مَعَ إيمَانٍ فِي قَلْبِهِ كَالْمُكْرَهِ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ" المُكره نعم، المكره هذا معذور "قال الله تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل: 106] وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ جَهْمٍ" يعني جهم بن صفوان يقول: الإيمان مجرد المعرفة بالقلب، والكفر هو جهل الرب بالقلب.
"فَإِنَّهُ جَعَلَ كُلَّ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ مِنْ أَهْلِ وَعِيدِ الْكُفَّارِ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ". يعني الله تعالى جعل من تكلم بالكفر عليه الوعيد، عليه وعيد الكفار إلا المُكره فإنه معذور، بشرط أن يكون قلبه مطمئنًا بالإيمان، نعم.
(المتن)
توقفنا عن قول المؤلف رحمه الله:
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [النحل: 106].
قِيلَ: وَهَذَا مُوَافِقٌ لِأَوَّلِهَا فَإِنَّهُ مَنْ كَفَرَ مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ فَقَدْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا وَإِلَّا نَاقَضَ أَوَّلُ الْآيَةِ آخِرَهَا وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِمَنْ كَفَرَ هُوَ الشَّارِحُ صَدْرَهُ وَذَلِكَ يَكُونُ بِلَا إكْرَاهٍ لَمْ يُسْتَثْنَ الْمُكْرَهُ فَقَطْ بَلْ كَانَ يَجِبُ أَنْ يُسْتَثْنَى الْمُكْرَهُ وَغَيْرُ الْمُكْرَهِ إذَا لَمْ يَشْرَحْ صَدْرَهُ وَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ طَوْعًا، فَقَدْ شَرَحَ بِهَا صَدْرًا وَهِيَ كُفْرٌ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة: 64 - 66].
فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ مَعَ قَوْلِهِمْ: إنَّا تَكَلَّمْنَا بِالْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ لَهُ بَلْ كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ وَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِآيَاتِ اللَّهِ كُفْرٌ وَلَا يَكُونُ هَذَا إلَّا مِمَّنْ شَرَحَ صَدْرَهُ بِهَذَا الْكَلَامِ وَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ مَنَعَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَذَا الْكَلَامِ.
وَالْقُرْآنُ يُبَيِّنُ أَنَّ إيمَانَ الْقَلْبِ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ الظَّاهِرَ بِحَسَبِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ [النور: 47 - 49] إلَى قَوْلِهِ: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور: 51] فَنَفَى الْإِيمَانَ عَمَّنْ تَوَلَّى عَنْ طَاعَةِ الرَّسُولِ وَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ سَمِعُوا وَأَطَاعُوا؛ فَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ.
(لشرح)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
فقد سبق أن بيَّن المؤلف رحمه الله أن من أقرَّ، أن من أقرَّ بالصلاة، فرضية الصلاةِ وامتنع عن الصلاة، وأقرَّ بتحريم الخمر، وقال إنه يشربها، وهو يدَّعي الإيمان بيَّن المؤلف رحمه الله أن هذا، أن هذا هو الكفر في الاصطلاح كما سبق، كما نقل هذا عن عطاء بن أبي رباح، وغيره، وذلك لأنه ردَّ على، ردَّ أمر الله وأمر رسوله، وكان مُستكثر عن عبادة الله، ولم يكن منقادًا لواجبات التوحيد، فلهذا بيَّن الأئمة أن هذا كُفر، وذكر أن هذا في كفر إبليس، وفرعون، فإن كفرهما بالإباء والاستكبار.
ثم أيضًا أن فرض هذا لا يقع، وذلك أنه لا يمكن أن يكون الشخص مؤمنًا بالله ورسوله، مصدقًا بالله ورسوله، ثم يمتنع عن العمل، ولا يعمل، لا يصلي، ولا يُزكي، ولا يصوم، ويفعل جميع ما يقدر عليه من المحرمات، قال المؤلف: "هَذَا فَرْضُ مَا لَا يَقَعُ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِمَّا أُمِرَ بِهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَيَفْعَلُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ مِثْلَ الصَّلَاةِ بِلَا وُضُوءٍ وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَنِكَاحِ الْأُمَّهَاتِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُؤْمِنٌ فِي الْبَاطِنِ؛ بَلْ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا لِعَدَمِ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي قَلْبِهِ".
ثم بيَّن المؤلف رحمه الله أن لذلك نظائر من ذلك "لَوْ قِيلَ: إنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ قِيلَ لَهُ: تَرْضَّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَامْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ مَعَ مَحَبَّتِهِ لَهُمَا وَاعْتِقَادِهِ فَضْلَهُمَا وَمَعَ عَدَمِ الْأَعْذَارِ الْمَانِعَةِ مِنْ التَّرَضِّي عَنْهُمَا فَهَذَا لَا يَقَعُ قَطُّ"، يعني الفضل لا يقع.
وكذلك لو قيل لرجل، لو قيل لشخص اشهد أن محمدًا رسول الله باطنًا وظاهرًا، وطُلب منه أن ينطق بالشهادتين، فامتنع، حتى قُتل، وليس هناك رغبةً ولا رهبة، فإن، فهذا يمتنع أن يكون في الباطن يشهدُ أن محمدًا رسول الله.
ولهذا فإن "الْقَوْلُ الظَّاهِرُ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي لَا نَجَاةَ لِلْعَبْدِ إلَّا بِهِ"، القول الظاهر من الإيمان، والعمل الظاهر من الإيمان "الَّذِي لَا نَجَاةَ لِلْعَبْدِ إلَّا بِهِ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين إلَّا الْجَهْمِيَّة" فإنه يكتفي بالتصديق، التصديق الذي في القلب الذي هو معرفةُ القلب، وهذا لا يمكن أن يكونَ، لا يمكن أن يقع من الشخص المؤمن الاكتفاء بالتصديق، والمعرفة، فلابد أن يعمل، العمل لابد منه إلا إذا قُدر أنه معذور؛ كالأخرس الذي لا يستطيع أن يتلفظ بالشهادتين، أو لكونه خائفًا من قومٍ إذا أظهر الإسلام آذوه، فهذا يمكن ألا يتكلم مع إيمانٍ في قلبه؛ كالمُكره على كلمة الكفر، فإنه معذور إذا كان قلبه مطمئنًا بالإيمان.
كما قال الله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل: 106]، يقول المؤلف: وهذه الآية تدلُ على فساد قول جهم في مُسمى الإيمان، وهو أن الإيمان، أن مُسمى الإيمان هو معرفة الرب بالقلب.
ثم قال المؤلف رحمه الله: "فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [النحل: 106] قِيلَ: وَهَذَا مُوَافِقٌ لِأَوَّلِهَا فَإِنَّهُ مَنْ كَفَرَ مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ فَقَدْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا وَلَّا نَاقَضَ أَوَّلُ الْآيَةِ آخِرَهَا" كلُ من كفر بدونِ إكراه؛ كفر بالقول، أو بالفعل من غير إكراه، فإنه قد شرح بالكفر صدرًا، وعلى ذلك فيكون أولُ الآية يوافقُ آخرها.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَإِلَّا نَاقَضَ أَوَّلُ الْآيَةِ آخِرَهَا وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِمَنْ كَفَرَ هُوَ الشَّارِحُ صَدْرَهُ وَذَلِكَ يَكُونُ بِلَا إكْرَاهٍ لَمْ يُسْتَثْنَ الْمُكْرَهُ فَقَطْ بَلْ كَانَ يَجِبُ أَنْ يُسْتَثْنَى الْمُكْرَهُ وَغَيْرُ الْمُكْرَهِ إذَا لَمْ يَشْرَحْ صَدْرَهُ" فلما استثنى الله تعالى من شرح بالكفر صدرًا، دلَّ على أن الاستثناء خاصٌ بالمُكره.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ طَوْعًا فَقَدْ شَرَحَ بِهَا صَدْرًا وَهِيَ كُفْرٌ" إذا تكلم بها طوعًا باختياره من دون إكراه، فقد شرح بها صدرًا، ولا يُعذر إلا إذا كان مُكرهًا.
ثم قال المؤلف رحمه الله: "وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة: 64 - 66]. فَقَدْ أَخْبَرَ" أخبر الله تعالى: "فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ مَعَ قَوْلِهِمْ: إنَّا تَكَلَّمْنَا بِالْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ لَهُ" لأنهم اعتذروا للنبي ﷺ، وقالوا: نحن لا نعتقد ما نقول، نحن نتحدث حديث الرَّكْب، نقطعُ به عنا الطريق.
ولكن الله أخبر بأنهم كفروا بعد إيمانهم، لأنهم استهزئوا بآيات الله، وبيَّن أن الاستهزاء بآيات الله هو كفر، ولا يكونُ هذا إلا ممن شرح صدره بهذا الكلام، لأنهم ليس عندهم إكراه، فإنهم فعلوا هذا طوعًا واختيارًا، وذلك أن مَن تكلم بكلمة الكفر، سواءٌ كان استهزاءً أو غيره، قاصدًا لذلك عالمًا ذاكرًا، فإنه يكون كافرًا، ولا يُستثنى إلا المُكره إذا كان، إذا كان قلبه مطمئنًا بالإيمان، فمن تكلم بكلمة الكفر، أو فعل الكفر قاصدًا له عالمًا ذاكرًا، فإنه يكونُ كافرًا.
وكذلك من تكلم بكلمة الكفرِ مُستهزئًا، يكونُ كافرًا، وكذلك من تكلم بكلمة الكفر خائفًا يكونُ كافرًا، وكذلك من تكلم بكلمة الكفر جادًا يكونُ كافرًا، ولا يُستثنى إلا من تكلم بكلمة الكفر مُكرهًا؛ لأن الله لا يستثنى إلا مُكرها، فدلَّ على أن من تكلم بكلمة الكفرِ مستهزئًا، يعني هازلًا لاعبًا يكفر، ومن تكلم بكلمة الكفر قاصدًا يكفر، ومن تكلم بكلمة الكفرِ خائفًا فإنه يكفر، ولم يستثنى إلا المُكره.
القارئ: ما تدخل في عموم الأدلة، العفو عن الخطأ؟
الشيخ: الخطأ معفو، إذا أخطأ، إذا أخطأ يعني سبق لسانه هذا معفو قال الرجل الذي ضل راحلته قال: اللهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ، أستغفر الله، هذا قالها عن غير قصد، لابد أن يكون قاصدا.
القارئ: المستهزئ لا يعتبر مخطئًا حتى.
الشيخ: المستهزئ لا يعتبر مخطئ، قاصد سواءٌ كان جادًّا أو هازلًا، أو خائفًا، ولا يبقى إلا المُكره، أو مُكرهًا وانشرح صدره بالإيمان، فيكونون أربع حالات يكون كافرًا، والحالة الخامسة لا يَكفر.
إذا تكلم بكلامٍ كفريٍّ جادًّا يكفر، إذا تكلم بكلمة الكفر هازلًا يكفر، إذا تكلم بكلمة الكفر خائفًا يكفر، إذا تكلم بكلمة الكفر مُكرهًا، وانشرح صدره بالكفر يكون كافرًا، إذا تكلم بكلمة الكفر مُكرهًا وقلبه مطمئن بالإيمان فلا يكفر؛ الحالة الخامسة.
القارئ: لأنه قد تَرِد أسئلة كثيرة وحقيقة هي وردت لكن أنا ما أود أطرحها لأنكم تتفضلون بشرحه، ربما يتساءل كثير من الإخوة ما الفرق بين الاستهزاء بالشخص، والاستهزاء بدينه؟ يعني يقول بعض الناس عندما يستهزئ مثلًا ببعض الملتزمين، يقول: أنا أستهزئُ بالشخص لا أستهزئ بالدين، مع أن أولئك المنافقين استهزئوا بالصحابة في أشخاصهم بطونهم، ومع ذلك نزل الكفر في حقهم، "ما رأينا أرغب بطونًا من قرائنا هؤلاء، ولا أجبن عند اللقاء، ومع ذلك حكم الله بكفرهم، هل يُحكم بكل من استهزئ بأهل الدين؟ استهزئ بشكله، بلحيته، بالمسواك.
الشيخ: هؤلاء الذين استهزئوا، قالوا: "ما رأينا مثل قرائنا، أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء"، يتعلق كله، يتعلق بالدين، الجبن عند اللقاء، الجهاد في سبيل الله، ما يتعلق بالأشخاص، تتعلق بالدين، دينهم، الجبن عند اللقاء، ولا أكذب ألسنًا، ولا أرغب بطونًا، كل هذا لأن، لأن الصدق في الحديث واجب، وكذلك أيضًا الجُبن عند اللقاءأيضًا، أي ولكن لو استهزئ بشخص لذاته، بشخصه، يعني ما استهزئ به لدينه، هذا لا يكفر، ما يكفر إلا إذا استهزئ به لدينه.
القارئ: يعني يا شيخ الآن بعض الناس يستهزئون للأسف ببعض مظاهر الدين، يستهزئ باللحية، وبالثوب القصير، والمسواك.
الشيخ: إذا استهزئ به لكونه عمل هذه السُنة، هذا نسأل الله العافية يكفر، أما إذا استهزئ به لذاته هذا فلا يكفر، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَقَدْ أَخْبَر"يعني الربَ تبارك وتعالى " أَنَّهُمْ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ مَعَ قَوْلِهِمْ: إنَّا تَكَلَّمْنَا بِالْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ لَهُ بَلْ كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ وَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِآيَاتِ اللَّهِ كُفْرٌ وَلَا يَكُونُ هَذَا إلَّا مِمَّنْ شَرَحَ صَدْرَهُ بِهَذَا الْكَلَامِ" يقول المؤلف رحمه الله: "وَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ مَنَعَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَذَا الْكَلَامِ".
ثم قال المؤلف رحمه الله: "وَالْقُرْآنُ يُبَيِّنُ أَنَّ إيمَانَ الْقَلْبِ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ الظَّاهِرَ بِحَسَبِهِ" يعني إيمان القلب يستلزم، بحسب ما في القلب، لابد أن يعمل، أما أن يدَّعي الإيمان في قلبه وهو لا يعمل، يترك حجية العمل، ليس عنده عمل، فهذا لا يكون مؤمنًا؛ لأن هذا هوكفر إبليس وفرعون، ليس عندهم عمل، إنما كفرٌ بالإباء والاستكبار، وأما المعرفة فهي موجودة فيهم، إبليسُ يَعْرِفُ ربَّه، وفرعون كذلك يعرف، كما قال الله : وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14]، قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الأعراف: 14].
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَالْقُرْآنُ يُبَيِّنُ أَنَّ إيمَانَ الْقَلْبِ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ الظَّاهِرَ بِحَسَبِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى. وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ [النور: 47 - 49] إلَى قَوْلِهِ: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور: 51]".
قال المؤلف رحمه الله: "فَنَفَى الْإِيمَانَ عَمَّنْ تَوَلَّى عَنْ طَاعَةِ الرَّسُولِ"، قال: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى [النور: 47]، ما فيه عمل تولي، يعني الإيمان بالله والرسول يدعو إلى، إلى قبول حكم الله، وحكم رسوله، فإذا تولى دلَّ على انتفاء الإيمان، ولهذا قال: "فَنَفَى الْإِيمَانَ عَمَّنْ تَوَلَّى عَنْ طَاعَةِ الرَّسُولِ وَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ سَمِعُوا وَأَطَاعُوا؛ فَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ".
إذًا الله تعالى ذكر حال المنافقين، وذكر حال المؤمنين، فذكر أن المنافقين، وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى [النور: 47]، عن الطاعة والانقياد، ثم ذكر حال المؤمنين، فقال: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور: 51]، فموقف المؤمنين السمعُ والطاعة، وموقف المنافقين التولي والإعراض.
فبيَّن أن هذا من لوازم الإيمان، يعني من لوازم الإيمان السمع والطاعة لله ولرسوله، والذي لا يسمع ولا يطيع الله ورسوله في أي عمل، فهذا لا يكون من الإيمان، لابد أن يسمع ويطيع، من جنس العمل، حتى يكون، حتى يتحقق الإيمان؛ لأن التصديق الذي في الباطن لا يتحقق إلا بالعمل، كما أن العمل الذي يعمل يصلي ويصوم ويحج، ويعمل لا يصح هذا العمل إلا بإيمان في القلب يصححه، وإلا صار كإسلام المنافقين؛ المنافقين يعملون، لكن ليس عندهم إيمان صحيح، وكذلك الذي يصدق في الباطن، لا يتحقق هذا التصديق والإيمان الذي في الباطن إلا بالعمل، وإلا صار كإيمان إبليس وفرعون، فلابد من الأمرين، لابد من التصديق في الباطن، والعمل في الظاهر، التصديق الذي في الباطن، الإيمان الذي في الباطن لا يتحقق إلا بالعمل، والعمل في الظاهر لا يصح إلا بالتصديق في الباطن، نعم.
(المتن)
قال رحمه الله:
فَصْلٌ:
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ فَمَتَى ذَهَبَ بَعْضُ ذَلِكَ بَطَلَ الْإِيمَانُ فَيَلْزَمُ تَكْفِيرُ أَهْلِ الذُّنُوبِ كَمَا تَقُولُهُ الْخَوَارِجُ أَوْ تَخْلِيدُهُمْ فِي النَّارِ وَسَلْبُهُمْ اسْمَ الْإِيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَكِلَا هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ فَإِنَّ الْمُرْجِئَةَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ الْمَذْكُورِينَ عِنْدَ الْأُمَّةِ بِخَيْرِ وَأَمَّا الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ فَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ مُطْبِقُونَ عَلَى ذَمِّهِمْ.
قِيلَ: أَوَّلًا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي لَمْ يُوَافِقْ الْخَوَارِجَ وَالْمُعْتَزِلَةَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ هُوَ الْقَوْلُ بِتَخْلِيدِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فِي النَّارِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ الْبِدَعِ الْمَشْهُورَةِ وَقَدْ اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ؛ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ أَحَدٌ مِمَّنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّ نَبِيَّنَا ﷺ يَشْفَعُ فِيمَنْ يَأْذَنُ اللَّهُ لَهُ بِالشَّفَاعَةِ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مَنْ أُمَّتِهِ.
فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنِّي اخْتَبَأْت دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ([13]) وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مَذْكُورَةٌ فِي مَوَاضِعِهَا.
وَقَدْ نَقَلَ بَعْضُ النَّاسِ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ خِلَافًا كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْقَاتِلَ لَا تَوْبَةَ لَهُ وَهَذَا غَلَطٌ عَلَى الصَّحَابَةِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَا يَشْفَعُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ، وَلَا قَالَ: إنَّهُمْ يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ وَلَكِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ قَالَ: إنَّ الْقَاتِلَ لَا تَوْبَةَ لَهُ وَعَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ رِوَايَتَانِ أَيْضًا وَالنِّزَاعُ فِي التَّوْبَةِ غَيْرُ النِّزَاعِ فِي التَّخْلِيدِ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَتْلَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ فَلِهَذَا حَصَلَ فِيهِ النِّزَاعُ.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله عرض في هذا سؤال وجوابه، قال فإن قيل: "فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ فَمَتَى ذَهَبَ بَعْضُ ذَلِكَ بَطَلَ الْإِيمَانُ فَيَلْزَمُ تَكْفِيرُ أَهْلِ الذُّنُوبِ كَمَا تَقُولُهُ الْخَوَارِجُ أَوْ تَخْلِيدُهُمْ فِي النَّارِ وَسَلْبُهُمْ اسْمَ الْإِيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَكِلَا هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ".
يقول، هذا الاعتراض إذا قيل أن الإيمان المطلق يتناول جميع ما أمر الله به ورسوله، يشمل الأقوال، والأفعال، يشمل تصديق القلب، وأعمال الجوارح، وأعمال القلوب، إذا كان يشملها كلها، ويتناولها، إذًا متى ذهب بعضُ ذلك بطل الإيمان، هذا قول الخوارج والمعتزلة؛ لأن الخوارج والمعتزلة يوافقون أهل السُنة في مُسمى الإيمان، وأن مُسمى الإيمان تصديق القلب، وعملُ القلب، وعملُ الجوارح، والإقرار باللسان، لكنهم يخالفونهم في أن المسلم إذا فعل كبيرة، أو ترك واجبًا ذهب الإيمان بالكلية، فهم يكفرونه.
يقول المؤلف رحمه الله: "فَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ" الأقوال والأفعال والاعتقاد، "فَمَتَى ذَهَبَ بَعْضُ ذَلِكَ بَطَلَ الْإِيمَانُ فَيَلْزَمُ تَكْفِيرُ أَهْلِ الذُّنُوبِ كَمَا تَقُولُهُ الْخَوَارِجُ أَوْ تَخْلِيدُهُمْ فِي النَّارِ وَسَلْبُهُمْ اسْمَ الْإِيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ"، فالمعتزلة والخوارج يتفقون على تخليد العصاة في النار؛ لأن العاصي مرتكب الكبيرة مُخلدٌ في النار، لكن اختلفوا في حكمه في الدنيا.
فالخوارج قالوا: إنه خرج من الإيمان ودخل في الكفر، فيكفرونه، ويستحلون دمه وماله، والمعتزلة قالوا: خرج من الإيمان، ولم يدخل في الكفر، بل كان في منزلة بين منزلتين، يُسمى فاسق لا مؤمن ولا كافر، فلا يستحلون منه ما يستحله الخوارج، ما يستحله منه الخوارج إلا أنهم اتفقوا على تخليده في النار.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَكِلَا هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ" يعني قول المعتزلة وقول الخوارج فضلٌ من قول المُرجئة، بيانُ ذلك، يقول المؤلف: "فَإِنَّ الْمُرْجِئَةَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ الْمَذْكُورِينَ عِنْدَ الْأُمَّةِ بِخَيْرِ وَأَمَّا الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ فَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ مُطْبِقُونَ عَلَى ذَمِّهِمْ".
يعني المُرجئة يريد بالمُرجئة مُرجئة الفقهاء، فلا شك أن فيهم جماعة من العلماء والعُباد وهو مذهب الإمام أبي حنيفة وأصحابه وأهلُ الكوفة العُباد، فإنهم يقولون إن الإيمان تصديقٌ بالقلب، وإقرارٌ باللسان، ولا يُدخلون الأعمال في مُسمى الإيمان، لكن نقول فهي مطلوبة الأعمال، الواجبات واجبات، والمُحرمات مُحرمات، لكن لا يُسموه في مُسمى الإيمان.
المؤلف رحمه الله أجاب على هذا السؤال، أو هذا الاعتراض، فقال: "قِيلَ: أَوَّلًا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي لَمْ يُوَافِقْ الْخَوَارِجَ وَالْمُعْتَزِلَةَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ هُوَ الْقَوْلُ بِتَخْلِيدِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فِي النَّارِ". يعني يقول المؤلف رحمه الله: نحن الآن نبين أن القول الشنيع الذي لم يوافق عليه أحد من أهل السُنة هو القول بتخليد أهل الكبائر في النار، هذا قولٌ شنيع، مصادمٌ للنصوص، هو القول بأن مَن ارتكب الكبيرة يُخلد في النار، كما يقوله الخوارج والمعتزلة يقولون الزاني مُخلد في النار، والسارق مُخلد في النار، والمُرابي مُخلد في النار، والعاق لوالديه مُخلد في النار، هذا قول ٌ شنيع لم يوافقهم عليه أحد.
قال المؤلف رحمه الله: "فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ الْبِدَعِ الْمَشْهُورَةِ وَقَدْ اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ؛ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ أَحَدٌ مِمَّنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّ نَبِيَّنَا ﷺ يَشْفَعُ فِيمَنْ يَأْذَنُ اللَّهُ لَهُ بِالشَّفَاعَةِ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مَنْ أُمَّتِهِ"، ونصوص الشفاعة متواترة، من النصوص المتواترة، بلغت حد التواتر، وهو أنه لا يخلدُ في النار أحدٌ من أهل التوحيد مهما عظمت المعاصي وكثُرت، هذا دلت عليه الأدلة المتواترة.
ومع ذلك أنكرها الخوارج والمعتزلة، ولهذا أنكر عليهم أهل السنة وبدعوهم وضللوهم وصاحوا بهم، وأنكروا عليهم أشد الإنكار؛ لأنهم صادموا النصوص المتواترة، من هذه الأدلة، يقول المؤلف رحمه الله: " فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنِّي اخْتَبَأْت دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ([14])" والأحاديث في هذا كثيرة بلغت حد التواتر.
ولهذا قال المؤلف: "وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مَذْكُورَةٌ فِي مَوَاضِعِهَا" ودلت النصوص على أنه لا يُخلد في النار من في قلبه مثقال ذرةٍ من إيمان.
القارئ: يهربون من هذه النصوص بأنها آحاد يا شيخ؟
الشيخ: الخوارج والمعتزلة.
القارئ: يردونها، ويقولون إن هذه النصوص إنما في الكفار، يحملونها على الكفار، فيقولوا أن النصوص التي وردت في الكفار التي تفيد كثرة من في النار، يحملونها على العُصاة، والأحاديث الشفاعة يردونها، ويبطلونها، نعم.
الشيخ: هذا من طريقتهم إنكار الآحاد، نعم، وهذه مما أنكره عليهم الأئمة، وبينوا أن أخبار الآحاد يُعملُ بها في العقائد، وفي الأعمال، ولهذا بوب البخاري في صحيحه قول الخبر الواحد، والأدلة في هذا كثيرة مشهورة فيه في قبول أخبار الآحاد.
القارئ: لكن هذا بناءً على قولهم بتخليد أصحاب الكبائر، أم لهم رأي آخر في ردَّ الشفاعة؟ أم فقط رأيهم في التخليد؟ يعني ردهم لأحاديث الشفاعة بناءً على قولهم بتخليد أهل الكبائر؟
الشيخ: نعم، وهم أيضًا لهم منهجٌ في ردِّ أخبار الآحاد، يقولون لا نَقْبَلُ أخبار الآحاد في العقائد، وهذا من الظلم الباطل.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَقَدْ نَقَلَ بَعْضُ النَّاسِ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ خِلَافًا كَمَا
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْقَاتِلَ لَا تَوْبَةَ لَهُ وَهَذَا غَلَطٌ عَلَى الصَّحَابَةِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَا يَشْفَعُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ وَلَا قَالَ: إنَّهُمْ يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ وَلَكِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ قَالَ: إنَّ الْقَاتِلَ لَا تَوْبَةَ لَهُ وَعَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ رِوَايَتَانِ أَيْضًا وَالنِّزَاعُ فِي التَّوْبَةِ غَيْرُ النِّزَاعِ فِي التَّخْلِيدِ".
يقول المؤلف رحمه الله ما روى عن ابن عباس من أن القاتل لا توبة له ليس فيه موافقة للخوارج، ابن عباس يرى أن أهل الكبائر لهم شفاعة، ولكن القاتل فيه خلاف، رُوى عن ابن عباس أنه قال: لا توبة له، ورُوى عن أنه رجع وقال له توبة، ورُوى عن الإمام أحمد أيضًا في قبول توبة، هل تُقبل توبة القاتل، أو لا تُقبل؟ لكن النزاع في التوبة غير النزاع في التخليد.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَالنِّزَاعُ فِي التَّوْبَةِ غَيْرُ النِّزَاعِ فِي التَّخْلِيدِ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَتْلَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ فَلِهَذَا حَصَلَ فِيهِ النِّزَاعُ" ثم أيضًا القول بأن القاتل لا توبة له ليس من معناه أنه يُخلد في النار، فالمعني أنه لابد أن يُعاقب، ولهذا قال: هذا جزاء جزاء، لابد أن يُعاقب، يعني لا يُعفى عنه، لا يكون داخلًا تحت المشيئة.
قال: هذا القول لا يكون داخلًا تحت المشيئة، فلابد أن يُعاقب، إما أن يُقابل بالحسنات، وإما أن يُعذب في النار ثم يُخرج، ما يُقصد من ذلك التخليد في النار، فهناك فرقٌ في القول بأن القاتل لا توبة له، وفرقٌ بين نفيالشفاعة.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَالنِّزَاعُ فِي التَّوْبَةِ غَيْرُ النِّزَاعِ فِي التَّخْلِيدِ" هذا شيء وهذا شيء، والسبب النزاع في توبة القاتل، إن القتل يتعلق بحق آدمي.
([1]) – أخرجه البخاري رقم (2298)، ومسلم رقم (1619) من حديث أبي هريرة ، وفي الباب عن:" سلمة بن الأكوع، وأبي قتادة
([2]) – سبق تخريجه (....)
([3]) – أخرجه النسائي رقم(1964) بهذا اللفظ من حديث جابر ابن سمرة ، وأصله في الصحيحين.
([4]) – سبق تخريجه (...).
([5]) – أخرجه البخاري (3610) ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري .
وفي الباب عن ( أبي ذر، وجابر ابن عبد الله ، وعلي بن أبي طالب ، وأنس ، وابن مسعود وغيرهم )
([6]) – أخرجه أحمد رقم (20346) من حديث أبي ذرٍ بلفظ إِنَّ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَلَاقِيمَهُمْ، يَخْرُجُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ، شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ
([7]) – أخرجه البخاري (7432) ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري .
([8]) – أخرجه أبوداود رقم (4596)، والترمذي رقم (2831) وقال حسن صحيح، وابن ماجه رقم (3991)،وابن حبان في صحيحه "التقاسيم" رقم (3143)،والحاكم (1/47) من حديث أبي هريرة . سكت عنه أبو داود فهو عنده صالح وصححه: الترمذي وابن حبان والحاكم وقال " هذا حديث كثر في الأصول «وقد روي عن سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمرو، وعوف بن مالك، عن رسول الله ﷺ مثله.» وقد احتج مسلم بمحمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة واتفقا جميعا على الاحتجاج بالفضل بن موسى وهو ثقة " قال الذهبي معلقًا" ما احتج مسلم بمحمد بن عمرو منفردا بل بانضمامه إلى غيره.
وفي الباب من حديث " ابن عمر، وابن مسعود، وأبي الدرداء، وواثلة، وعلي بن أبي طالب، وأنس، وسعد ابن أبي وقاص، ومعاوية، وعمرو بن عوف المزني، وعوف بن مالك، وأبي أمامه، وجابر بن عبد الله وغيرهم "
قال الامام الحاكم في المستدرك (1/ 218)"هذه أسانيد تقام بها الحجة في تصحيح هذا الحديث.
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (3/ 345) "صحيح مشهور في السنن والمساند"
وقال العراقي في المغني على حمل الأسفار(2/885):" وأسانيدها جياد"
([9]) – أخرجه الترمذي رقم(2641) وقال:" هذا حديث مفسر غريب، لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه" والحاكم في المستدرك (1/ 218) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وانظر الحديث السابق
([10]) – سبق تخريجه
([11]) – سبق تخريجه (...)
([12]) – سبق تخريجه (....)
([13]) – أخرجه البخاري رقم (6304)، ومسلم رقم (199) من حديث أبي هريرة .
([14]) – سبق تخريجه (...)