(المتن)
توقفنا عند قول المؤلف رحمه الله:
الْخَامِسُ: أَنَّ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ مِثْلَ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَجَائِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ هِيَ كُلُّهَا مِنْ الْإِيمَانِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتِّفَاقُ السَّلَفِ؛ وَهَذِهِ يَتَفَاضَلُ النَّاسُ فِيهَا تَفَاضُلًا عَظِيمًا.
السَّادِسُ: أَنَّ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ مَعَ الْبَاطِنَةِ هِيَ أَيْضًا مِنْ الْإِيمَانِ وَالنَّاسُ يَتَفَاضَلُونَ فِيهَا.
السَّابِعُ: ذِكْرُ الْإِنْسَانِ بِقَلْبِهِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَاسْتِحْضَارُهُ لِذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ غَافِلًا عَنْهُ؛ أَكْمَلُ مِمَّنْ صَدَّقَ بِهِ وَغَفَلَ عَنْهُ؛ فَإِنَّ الْغَفْلَةَ تُضَادُّ كَمَالَ الْعِلْمِ؛ وَالتَّصْدِيقُ وَالذِّكْرُ وَالِاسْتِحْضَارُ يُكْمِلُ الْعِلْمَ وَالْيَقِينَ.
وَلِهَذَا قَالَ عُمَيْرُ بْنُ حَبِيبٍ مِنْ الصَّحَابَةِ إذَا ذَكَرْنَا اللَّهَ وَحَمِدْنَاهُ وَسَبَّحْنَاهُ فَتِلْكَ زِيَادَتُهُ؛ وَإِذَا غَفَلْنَا وَنَسِينَا وَضَيَّعْنَا فَذَلِكَ نُقْصَانُهُ وَهُوَ كَذَلِكَ.
وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: اجْلِسُوا بِنَا سَاعَةً نُؤْمِنُ قَالَ تَعَالَى وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الكهف: 28]، وَقَالَ تَعَالَى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55]، وَقَالَ تَعَالَى: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى [الأعلى: 10، 11].
ثُمَّ كُلَّمَا تَذَكَّرَ الْإِنْسَانُ مَا عَرَفَهُ قَبْلَ ذَلِكَ؛ وَعَمِلَ بِهِ حَصَلَ لَهُ مَعْرِفَةُ شَيْءٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ عَرَفَهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَعَرَفَ مِنْ مَعَانِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ مَا لَمْ يَكُنْ عَرَفَهُ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا فِي الْأَثَرِ مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ([1]) وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ فِي نَفْسِهِ كُلُّ مُؤْمِنٍ.
(الشرح)
والحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وصلى اللهم وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
فإن المؤلف رحمه الله بيَّن في هذا الفصل أوجه زيادة الإيمان، وذكر أن زيادة الإيمان تتبين من أوجهٍ متعددة، الوجهُ الأول: الإجمال والتفصيل فيما أُمروا به العباد، والوجه الثاني الإجمال والتفصيل فيما وقع منهم، الوجه الثالث أن العلم والتصديق نفسه يكونُ بعضه أقوى من بعض، وأثبت وأبعد عن الشك، وهذا أمر يشهده كل إنسان من نفسه، الخامس: أن أعمال القلوب كلها من الإيمان.
مثَّل المؤلف رحمه الله بأعمال القلوب: "مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَجَائِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ هِيَ كُلُّهَا مِنْ الْإِيمَانِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتِّفَاقُ السَّلَفِ؛ وَهَذِهِ يَتَفَاضَلُ النَّاسُ فِيهَا تَفَاضُلًا عَظِيمًا"، إذًا مادام الناس يتفاضلون في هذه، في هذه، في أعمال القلوب، فإن هذا يدلُ على أن الإيمان يزيد وينقص، ويتفاضل الناس فيه، يتفاضلون في محبة الله ورسوله، ليست محبة الله ورسوله في قلوب الناس سواء، وكذلك خشية الله ورجاؤه وتصديقه والإنابة إليه، والتوكل عليه، والرغبة إليه، والرهبة منه، كلُ هذه أعمال القلوب يتفاضل الناس فيها.
ثم قال المؤلف رحمه الله: السادس، يعني من أوجه زيادة الإيمان، " أَنَّ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ مَعَ الْبَاطِنَةِ هِيَ أَيْضًا مِنْ الْإِيمَانِ وَالنَّاسُ يَتَفَاضَلُونَ فِيهَا"، المعنى أن الناس يتفاضلون في الأعمال الظاهرة والباطنة؛ الأعمال الباطنة مثل ما سبق أعمال القلوب، محبة الله ورسوله، وخشيته ورجائه، وخوفه والإنابة إليه، والأعمالُ الظاهرة مثلُ الصلاة، والصيام والزكاة والحَج وبرُ الوالدين، وصلة اللأرحام، والصدقات، والإحسان إلى الناس، هذه الأعمال يتفاضل الناس فيها.
الناس يتفاضلون في الأعمال الظاهرة ويتفاضلون في الأعمال الباطنة، وهذا يدل على أن الإيمان يزيد وينقص ويكون ناقصًا، ويكون قويًا، ويكون ضعيفًا بحسب أحوال الناس، والمؤلف رحمه الله يقصد من هذا الرد على المُرجئة الذين يقولون إن الإيمان شيءٌ واحد لا يزيد ولا ينقص، ولا يتفاضل الناس فيه، فيقول: الإيمان أعبد الناس وأفسقُ الناس سواء، وإيمانُ أهل الأرض، وأهل السماء سواء، فالتفاضل بينهم ليس في الإيمان، إنما التفاضل في التقوى، وهي الأعمال؛ لأن الأعمال لا يدخلُونها في مُسمى الإيمان.
ثم قال المؤلف رحمه الله: السابع، يعني من أوجه زيادة الإيمان: "ذِكْرُ الْإِنْسَانِ بِقَلْبِهِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَاسْتِحْضَارُهُ لِذَلِكَ"، يعني إذا ذكر الإنسان بقلبه أوامر الله، ونواهيه واستحضر، واستحضر لذلك، واستحضر ذلك في قلبه، فإنه يزيد إيمانه؛ لأن الإيمان، المسلم حينما يذكر أوامر الله ونواهيه يكون في قلبه خشية لله، التعظيم وإجلال، بخلاف الغافل؛ الغافل يكون عنده نقص في إيمانه بسبب غفلته وإعراضه، فليس الغافل والمُعرض كالمتذكر، المتيقظ.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: السابع يعني من أوجه زيادة الإيمان، "ذِكْرُ الْإِنْسَانِ بِقَلْبِهِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَاسْتِحْضَارُهُ لِذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ غَافِلًا عَنْهُ؛ أَكْمَلُ مِمَّنْ صَدَّقَ بِهِ وَغَفَلَ عَنْهُ؛ فَإِنَّ الْغَفْلَةَ تُضَادُّ كَمَالَ الْعِلْمِ؛ وَالتَّصْدِيقُ وَالذِّكْرُ وَالِاسْتِحْضَارُ يُكْمِلُ الْعِلْمَ وَالْيَقِينَ" فإن الغفلة تضادُ كمال العلم، وتضادُ كمال التصديق، والذكرُ والاستحضار يكمل العلم واليقين. فإذًا المستحضر المتذكر إيمانه أقوى من الغافل المُعرض.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَلِهَذَا قَالَ عُمَيْرُ بْنُ حَبِيبٍ مِنْ الصَّحَابَةِ إذَا ذَكَرْنَا اللَّهَ وَحَمِدْنَاهُ وَسَبَّحْنَاهُ فَتِلْكَ زِيَادَتُهُ؛ وَإِذَا غَفَلْنَا وَنَسِينَا وَضَيَّعْنَا فَذَلِكَ نُقْصَانُهُ وَهُوَ كَذَلِكَ"، وهذا واضح، هذا شيء يجده الإنسان في نفسه.
القارئ: يعني العبارة تُقرأ بالصورة التالية: "فَإِنَّ الْغَفْلَةَ تُضَادُّ كَمَالَ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقُ، وَالذِّكْرُ وَالِاسْتِحْضَارُ يُكْمِلُ الْعِلْمَ وَالْيَقِينَ"؛ لأنها عندنا جاءت في النسخة أن التصديق والذكر جاءت مع بعض في فصلةٍ واحدة..
الشيخ: العلم والتصديق شيءٌ واحد، والذكر والاستحضار، "وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: اجْلِسُوا بِنَا سَاعَةً نُؤْمِنُ"، يعني يذكرون الله ويسبحون ويهللون، ويقرأون القرآن، فيزدادُ الإيمان، نؤمن ساعة نؤمن، يزيد إيماننا.
"قَالَ تَعَالَى وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الكهف: 28] " أعلن الله أن الغافل عنده نقص في إيمانه، "وَقَالَ تَعَالَى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55] وَقَالَ تَعَالَى: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى [الأعلى: 10، 11] "، نفهم من الآيتين أن الذكر، أن التذكر يزيد الإيمان بخلاف الغافل المعرض.
يقول المؤلف رحمه الله: "ثُمَّ كُلَّمَا تَذَكَّرَ الْإِنْسَانُ مَا عَرَفَهُ قَبْلَ ذَلِكَ؛ وَعَمِلَ بِهِ
حَصَلَ لَهُ مَعْرِفَةُ شَيْءٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ عَرَفَهُ قَبْلَ ذَلِكَ" إذا تذكر الإنسان ما عرفه وعمل به، فإنه يحصل معرفة شيءٍ آخر القرآن، إذا تذكر القرآن تذكر معانيه، وتذكر الآيات القرآنية، وتأملها، حصل له من العلم والمعرفة ما لم يكن حصل له قبل ذلك.
القارئ: لكن هل خاص بالمعرفة الذهنية، أم تكن حتى في القلب؟ يعني زيادة الإيمان.
الشيخ: أقصد زيادة الإيمان وزيادة علم، زيادة علم ومعرفة، فتدبر القرآن يكون فيه الهدى، العلم تحت تدبر القرآن، يقول المؤلف رحمه الله: "ثُمَّ كُلَّمَا تَذَكَّرَ الْإِنْسَانُ مَا عَرَفَهُ قَبْلَ ذَلِكَ؛ وَعَمِلَ بِهِ حَصَلَ لَهُ مَعْرِفَةُ شَيْءٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ عَرَفَهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَعَرَفَ مِنْ مَعَانِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ مَا لَمْ يَكُنْ عَرَفَهُ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا".
وهذا واضح تأمل آيات الله، أسماء الله، اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، إذا تدبر هذه المعاني، لا إله إلا الله لا معبودٍ بحق إلا الله، الأحد الذي ليس له من مثيل ولا شريك، الواحد واحدٌ في ذاته، وأسمائه وأفعاله، وقال: الذي لم يلد ولم يولد، الصمد: الذي تصمد له الخلائق في حوائجها، وصمدٌ في نفسه، وتصمد له الخلائق في حوائجها.
فرق بين من يتذكر هذه الأسماء ويتأمل معانيها، وبين من هو غافل، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَعَرَفَ مِنْ مَعَانِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ مَا لَمْ يَكُنْ عَرَفَهُ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا فِي الْأَثَرِ مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ([2]) وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ فِي نَفْسِهِ كُلُّ مُؤْمِنٍ".
المؤلف رحمه الله ساق هذا الأثر وظاهر، وظاهر المؤلف أنه يرعى أنه، أنه صحيح، أو أنه ثابت ذكر في الحاشية أنه أبو نعيمٍ في الحِلية عن أنس بن مالك مرفوعا، وقال: وقال الشوكاني في روايةٍ مجموعة، رواه أبو نُعيم وهو ضعيف، وعلى كل حال معناه صحيح، مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ([3])، وهذا أمرٌ يجده، يقول المؤلف: "وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ فِي نَفْسِهِ كُلُّ مُؤْمِنٍ".، نعم.
(المتن)
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَاَلَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ([4]). قَالَ تَعَالَى: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال: 2]، وَذَلِكَ أَنَّهَا تَزِيدُهُمْ عِلْمَ مَا لَمْ يَكُونُوا قَبْلَ ذَلِكَ عَلِمُوهُ وَتَزِيدُهُمْ عَمَلًا بِذَلِكَ الْعِلْمِ وَتَزِيدُهُمْ تَذَكُّرًا لِمَا كَانُوا نَسُوهُ وَعَمَلًا بِتِلْكَ التَّذْكِرَةِ وَكَذَلِكَ مَا يُشَاهِدُهُ الْعِبَادُ مِنْ الْآيَاتِ فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ.
قَالَ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت: 53] أَيْ إنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53].
فَإِنَّ اللَّهَ شَهِيدٌ فِي الْقُرْآنِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ؛ فَآمَنَ بِهِ الْمُؤْمِنُ ثُمَّ أَرَاهُمْ فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ الْآيَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى مِثْلِ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ فَبَيَّنَتْ لَهُمْ هَذِهِ الْآيَاتُ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ مَعَ مَا كَانَ قَدْ حَصَلَ لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَقَالَ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [ق: 6 - 8].
فَالْآيَاتُ الْمَخْلُوقَةُ وَالْمَتْلُوَّةُ فِيهَا تَبْصِرَةٌ وَفِيهَا تَذْكِرَةٌ: تَبْصِرَةٌ مِنْ الْعَمَى وَتَذْكِرَةٌ مِنْ الْغَفْلَةِ؛ فَيُبْصِرُ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَرَفَ حَتَّى يَعْرِفَ وَيَذْكُرُ مَنْ عَرَفَ وَنَسِيَ وَالْإِنْسَانُ يَقْرَأُ السُّورَةَ مَرَّاتٍ حَتَّى سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَيَظْهَرُ لَهُ فِي أَثْنَاءِ الْحَالِ مِنْ مَعَانِيهَا مَا لَمْ يَكُنْ خَطَرَ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى كَأَنَّهَا تِلْكَ السَّاعَةُ نَزَلَتْ؛ فَيُؤْمِنُ بِتِلْكَ الْمَعَانِي وَيَزْدَادُ عِلْمُهُ وَعَمَلُهُ.
وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي كُلِّ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ بِتَدَبُّرِ بِخِلَافِ مَنْ قَرَأَهُ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْهُ ثُمَّ كُلَّمَا فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا أُمِرَ بِهِ اسْتَحْضَرَ أَنَّهُ أُمِرَ بِهِ فَصَدَّقَ الْأَمْرَ فَحَصَلَ لَهُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مِنْ التَّصْدِيقِ فِي قَلْبِهِ مَا كَانَ غَافِلًا عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَذِّبًا مُنْكِرًا.
(الشرح)
نعم، هنا المُؤلِّف رحمه الله يذكر الأدلة على أن الإنسان إذا تذكر بقلبه الأوامر والنواهي، فإنه يزدادُ إيمانه، قال: " وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ: مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَاَلَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ([5])".
النبي ﷺ. والحديث رواه البخاري في الدعوات عن أبي موسى الأشعري ، والحديث فيه بيّن النبي ﷺ أن هناك فرقٌ عظيم بين الذاكر وغير الذاكر، وأن بينهما من الفرق كما بين الحي والميت؛ فالذاكر حي، والتارك للذكر ميت.
"قَالَ تَعَالَى: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال: 2]"، الله تعالى بيَّن بتلاوة الآية يزدادُ الإيمان، ولاسيما مع التدبر، "وَذَلِكَ أَنَّهَا تَزِيدُهُمْ عِلْمَ مَا لَمْ يَكُونُوا قَبْلَ ذَلِكَ عَلِمُوهُ"، فإذا تُليت عليهم آياتُ الله ازدادوا علمًا لم يكونوا علموه قبل ذلك، يقول المؤلف رحمه الله: "وَذَلِكَ أَنَّهَا تَزِيدُهُمْ عِلْمَ مَا لَمْ يَكُونُوا قَبْلَ ذَلِكَ عَلِمُوهُ وَتَزِيدُهُمْ عَمَلًا بِذَلِكَ الْعِلْمِ وَتَزِيدُهُمْ تَذَكُّرًا لِمَا كَانُوا نَسُوهُ وَعَمَلًا بِتِلْكَ التَّذْكِرَةِ".
فيكون الزيادة مثل هذابالتوجه، الوجه الأول أنهم يزدادون علمًا، والوجه الثاني أنهم يزدادون تذكرًا لما كانوا نسوه، الوجه الثالث أنهم يعلمون في تلك التذكرة، يزدادوا إيمانهم بالعمل، "عَمَلًا بِذَلِكَ الْعِلْمِ وَتَزِيدُهُمْ تَذَكُّرًا لِمَا كَانُوا نَسُوهُ وَعَمَلًا بِتِلْكَ التَّذْكِرَةِ".
يقول المؤلف رحمه الله: "وَكَذَلِكَ مَا يُشَاهِدُهُ الْعِبَادُ مِنْ الْآيَاتِ فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ -يزداد بها الإيمان-، قَالَ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت: 53] أَيْ إنَّ الْقُرْآنَ حَقّ"، في آياتنا، في الآفاق، آفاق السماوات والأرض، آيات: الليل والنهار والشمس والقمر، السماوات والأرضين والنجوم والبحار والأشجار، وفي الأنفس؛ في نفس الإنسان، تدبر الإنسان نفسه، تطور، كيف تطور في خلقته؟ وكيف أعطاه الله السمع والبصر والفؤاد، وأعطاه العقل، وميَّزه عن الحيوانات، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21].
" ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53] . فَإِنَّ اللَّهَ شَهِيدٌ فِي الْقُرْآنِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ" الله تعالى شهيد في القرآن بما أخبر به، "فَآمَنَ بِهِ الْمُؤْمِنُ ثُمَّ أَرَاهُمْ فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ الْآيَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى مِثْلِ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ" يعني الله شهيد في القرآن بما أخبر به، فعمل به المؤمنون، ثم الله تعالى أراهم الآيات في أنفسهم، وفي الآفاق ما يدل على مثل ما أخبر به في القرآن، فبينت لهم هذه الآيات أن القرآن حق مع ما كان قد حصل لهم قبل ذلك.
ثم ذكر دليل آخر، "وَقَالَ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [ق: 6 – 8]"، الله تعالى أراد العباد إلى هذه الآيات المخلوقة، وهي السماء أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق: 6]، ليس فيها شقوق، وليس فيها من عيوب، والأرض: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7)} [ق: 7]، ثم قال الله تعالى: تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [ق: 8].
"فَالْآيَاتُ الْمَخْلُوقَةُ وَالْمَتْلُوَّةُ فِيهَا تَبْصِرَةٌ وَفِيهَا تَذْكِرَةٌ "، الآيات المخلوقة مثل السماوات والأراضين، والليل والنهار، والبحار والأشجار، والآيات المتلوة آيات القرآن التي أنزلها الله، الآيات الكريمة، الآيات التي أنزلها الله تعالى في كتابه، فيها تبصرة وفيها تذكرة، "تَبْصِرَةٌ مِنْ الْعَمَى وَتَذْكِرَةٌ مِنْ الْغَفْلَةِ "، لكن ليس لكل أحد، بل لكل عبدٍ منيب، العبدُ المنيب هو الذي يستفيد، هو الذي يستفيد من الآيات، وهو الذي يستفيد تبصرةً وتذكرة، أما من سبقت عليه الشقاوة، فلا حيلة فيه.
يقول المؤلف رحمه الله: "فَيُبْصِرُ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَرَفَ حَتَّى يَعْرِفَ وَيَذْكُرُ مَنْ عَرَفَ وَنَسِيَ وَالْإِنْسَانُ يَقْرَأُ السُّورَةَ مَرَّاتٍ حَتَّى سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَيَظْهَرُ لَهُ فِي أَثْنَاءِ الْحَالِ مِنْ مَعَانِيهَا مَا لَمْ يَكُنْ خَطَرَ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى كَأَنَّهَا تِلْكَ السَّاعَةُ نَزَلَتْ"، وهذا يجده الإنسان من نفسه، أحيانًا يكون الإنسان ذهنه حاضر، فيتدبر، ويتأمل وأحيانًا يكون عنده غفله، فلا يحصل له، فلا يحصل له مثل ما يحصل له في حال تذكره.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَيُؤْمِنُ بِتِلْكَ الْمَعَانِي وَيَزْدَادُ عِلْمُهُ وَعَمَلُهُ"، يعني إذا قرأ الفاتحة، أو قرأ غيرها بتذكر وذهنه حاضر، ويتأمل يزداد علمه وعمله، وهذا موجودٌ في كل من قرأ القرآن بتدبر، بخلاف من قرأه مع الغفلة، "ثُمَّ كُلَّمَا فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا أُمِرَ بِهِ اسْتَحْضَرَ أَنَّهُ أُمِرَ بِهِ فَصَدَّقَ الْأَمْرَ فَحَصَلَ لَهُ"، وهذا إيمانٌ جديد أيضًا، كلما فعل الإنسان شيئًا مما أُمر به يستحضر أن الله أمر بذلك، فيصدق الأمر، وهذا تصديق إيمان.
"فَحَصَلَ لَهُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مِنْ التَّصْدِيقِ فِي قَلْبِهِ مَا كَانَ غَافِلًا عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَذِّبًا" هو في الأول ما كان مُكذب، ولكن عنده غفلة، عنده نسيان، عنده غفلة، فإذا استحضر زاد إيمانه، نعم.
(المتن)
الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ مُكَذِّبًا وَمُنْكِرًا لِأُمُورِ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الرَّسُولَ أَخْبَرَ بِهَا وَأَمَرَ بِهَا وَلَوْ عَلِمَ ذَلِكَ لَمْ يَكْذِبْ وَلَمْ يُنْكِرْ. بَلْ قَلْبُهُ جَازِمٌ بِأَنَّهُ لَا يُخْبِرُ إلَّا بِصِدْقِ وَلَا يَأْمُرُ إلَّا بِحَقِّ ثُمَّ يَسْمَعُ الْآيَةَ أَوْ الْحَدِيثَ أَوْ يَتَدَبَّرُ ذَلِكَ أَوْ يُفَسِّرُ لَهُ مَعْنَاهُ أَوْ يَظْهَرُ لَهُ ذَلِكَ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ فَيُصَدِّقُ بِمَا كَانَ مُكَذِّبًا بِهِ وَيَعْرِفُ مَا كَانَ مُنْكِرًا وَهَذَا تَصْدِيقٌ جَدِيدٌ وَإِيمَانٌ جَدِيدٌ ازْدَادَ بِهِ إيمَانُهُ وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ كَافِرًا بَلْ جَاهِلًا.
وَهَذَا وَإِنْ أَشْبَهَ الْمُجْمَلَ وَالْمُفَصَّلَ لِكَوْنِ قَلْبِهِ سَلِيمًا عَنْ تَكْذِيبٍ وَتَصْدِيقٍ لِشَيْءِ مِنْ التَّفَاصِيلِ وَعَنْ مَعْرِفَةٍ وَإِنْكَارٍ لِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ فَيَأْتِيهِ التَّفْصِيلُ بَعْدَ الْإِجْمَالِ عَلَى قَلْبِ سَاذِجٍ؛ وَأَمَّا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بَلْ مِنْ أَهْلِ الْعُلُومِ وَالْعِبَادَاتِ فَيَقُومُ بِقُلُوبِهِمْ مِنْ التَّفْصِيلِ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ تُخَالِفُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّهَا تُخَالِفُ فَإِذَا عَرَفُوا رَجَعُوا وَكُلُّ مَنْ ابْتَدَعَ فِي الدِّينِ قَوْلًا أَخْطَأَ فِيهِ أَوْ عَمِلَ عَمَلًا أَخْطَأَ فِيهِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِالرَّسُولِ أَوْ عَرَفَ مَا قَالَهُ وَآمَنَ بِهِ لَمْ يَعْدِلْ عَنْهُ؛ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَكُلُّ مُبْتَدِعٍ قَصْدُهُ مُتَابَعَةُ الرَّسُولِ فَهُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ فَمَنْ عَلِمَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَعَمِلَ بِهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ أَخْطَأَ ذَلِكَ؛ وَمَنْ عَلِمَ الصَّوَابَ بَعْدَ الْخَطَأِ وَعَمِلَ بِهِ فَهُوَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ".
(الشرح)
نعم، وهذا الوجه الثامن من الوجوه، من وجوه زيادة الإيمان، وهذه الوجوه فيها ردٌ على المُرجئة الذين يقولون إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، "الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ مُكَذِّبًا وَمُنْكِرًا لِأُمُورِ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الرَّسُولَ أَخْبَرَ بِهَا وَأَمَرَ بِهَا" ثم بعد ذلك يتبين له، فيصدق فيزداد إيمانه. في الأول يكون مُكذب، أو مُنكر، أو غافل، ثم بعد ذلك يتبين له الصواب، فيؤمن، فيزدادُ إيمانه، هذا كله دليل على زيادة الإيمان في الرد على المرُجئة الذين يقولون إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص.
يقول المؤلف: "أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ مُكَذِّبًا وَمُنْكِرًا لِأُمُورِ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الرَّسُولَ أَخْبَرَ بِهَا وَأَمَرَ بِهَا وَلَوْ عَلِمَ ذَلِكَ لَمْ يَكْذِبْ وَلَمْ يُنْكِر"، لأن هذا شأن المؤمن، لكن سببُ ذلك الجهل، سبب الإنكار الجهل، "بَلْ قَلْبُهُ جَازِمٌ بِأَنَّهُ لَا يُخْبِرُ إلَّا بِصِدْقِ" يعني الرسول عليه الصلاة والسلام، "وَلَا يَأْمُرُ إلَّا بِحَقِّ ثُمَّ يَسْمَعُ الْآيَةَ أَوْ الْحَدِيثَ أَوْ يَتَدَبَّرُ ذَلِكَ أَوْ يُفَسِّرُ لَهُ مَعْنَاهُ أَوْ يَظْهَرُ لَهُ ذَلِكَ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ فَيُصَدِّقُ بِمَا كَانَ مُكَذِّبًا بِهِ وَيَعْرِفُ مَا كَانَ مُنْكِرًا وَهَذَا تَصْدِيقٌ جَدِيدٌ وَإِيمَانٌ جَدِيدٌ ازْدَادَ بِهِ إيمَانُهُ". وهذا واضح في الرد على المُرجئة الذين يقولون إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص.
"وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ كَافِرًا" ليس كافرًا لأنه غير مُكذب، غير مُكذب، لكنه جاهل، ولهذا قال المؤلف: "وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ كَافِرًا بَلْ جَاهِلًا" ثم زال الجهل، الجهل كأنه غطاء، والجهل والنسيان غطاء على القلب، فيزول هذا الغشاء بالعلم والتذكر، فيزدادُ الإيمان.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَهَذَا وَإِنْ أَشْبَهَ الْمُجْمَلَ وَالْمُفَصَّلَ لِكَوْنِ قَلْبِهِ سَلِيمًا عَنْ تَكْذِيبٍ وَتَصْدِيقٍ لِشَيْءِ مِنْ التَّفَاصِيلِ وَعَنْ مَعْرِفَةٍ وَإِنْكَارٍ لِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ فَيَأْتِيهِ التَّفْصِيلُ بَعْدَ الْإِجْمَالِ عَلَى قَلْبِ سَاذِجٍ" يعني يشبه من جهة، يشبه من جهة أن المجمل و المفصل كأنه، كأنه هو الأول مؤمن إيمانًا مُجملًا، ثم بعد ذلك لما زال، زالت الغفلة، والجهل صدق، فصار كأنه تفصيلٌ بعد إجمال.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَأَمَّا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ" يعني يشبه المُجمل والمفصل من جهة، ولكنه ليس، لا يشبهه من جميع الوجوه، بل هو إيمانٌ يزيد جد له بعد أن كان، بعد أن لم يكن موجودًا، يقول المؤلف رحمه الله: "وَأَمَّا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بَلْ مِنْ أَهْلِ الْعُلُومِ وَالْعِبَادَاتِ فَيَقُومُ بِقُلُوبِهِمْ مِنْ التَّفْصِيلِ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ تُخَالِفُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّهَا تُخَالِفُ فَإِذَا عَرَفُوا رَجَعُوا"، يعني فيزداد إيمانهم.
"وَكُلُّ مَنْ ابْتَدَعَ فِي الدِّينِ قَوْلًا أَخْطَأَ فِيهِ أَوْ عَمِلَ عَمَلًا أَخْطَأَ فِيهِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِالرَّسُولِ أَوْ عَرَفَ مَا قَالَهُ وَآمَنَ بِهِ لَمْ يَعْدِلْ عَنْهُ؛ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ"، يعني من ابتدع في الدين قولًا غير متعمد أخطأ فيه، ثم تبين له السُنة، فعمل بالسُنة، زاد إيمانه، وكذلك من عمل عملًا أخطأ فيه ثم تبين له وجه الخطأ، وعرف الصواب زاد إيمانه.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَكُلُّ مُبْتَدِعٍ قَصْدُهُ مُتَابَعَةُ الرَّسُولِ فَهُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ" كلُ مبتدع لم يتعمد البدعة قصده متابعة الرسول، لكنه ابتدع بسبب الجهل، أو بحسب، بحسب فهمه الذي فهمه، فهو من هذا الباب.
يقول المؤلف رحمه الله: " فَمَنْ عَلِمَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَعَمِلَ بِهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ أَخْطَأَ ذَلِكَ"، لا شك أن من علم ما جاء به الرسول وعمل به أكمل ممن أخطأ ذلك، "وَمَنْ عَلِمَ الصَّوَابَ بَعْدَ الْخَطَأِ وَعَمِلَ بِهِ فَهُوَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ"، وهذا واضح، وإن لم يكن الأول مكذب، من علم ما جاء به الرسول وعمل به أكمل ممن لم يعلم، وكذلك من علم الصواب بعد الخطأ، وعمل به أكمل ممن لم يكن كذلك، وإن كان الذي عمل بالخطأ معذور، قد يكون معذور، وكذلك الذي لم يعلم معذور، ولكن من علم ثم عمل أكمل ممن لم يعلم، ولم يعمل، والله الموفق، نعم.
القارئ: شيخ الإسلام رحمه الله ذكر هذه الثمان نقاط في الرد على مَن؟ وكيف كان تفصيله لها، لهذه المسألة؟ فقط لتجميع الذاكرة للإخوة أحسن الله إليك.
الشيخ: هذا الفصل بيَّن فيه المؤلف رحمه الله أوجه زيادة الإيمان، أن الإيمان يزداد، يعني مِن وجوه متعددة، كل هذه الأدلة على زيادة الإيمان، وفيها الرد على المُرجئة الذين يقولون أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ الأول: الإجمال والتفصيل فيما أُمر به العباد، فإن، فإن الناس يختلفون منهم من يجب عليه من التفصيل ما لا يجب على غيره، الناس اختلفوا، العلماء غير العامة، يجب على العلماء ما لا يجب على العامة، وكذلك الوجه الثاني الإجمال والتفصيل فيما وقع من العباد، الذي يقع من العباد، أعمالهم ليست واحدة، وكذلك أيضًا العلم والتصديق في نفسه، يكون بعضهم أصدق من بعض، وأثبت، وكذلك أعمال القلوب تتفاوت، وكذلك أيضًا الأعمال الظاهرة، أعمال البدن، وكذلك أيضًا كون الإنسان يكونُ مُكذبًا، ومنكرًا لأمور، ثم يتبين له وجه الصواب، فيعلم الصواب ويعمل به، فيزدادُ إيمانه، فيعلم الصواب ويعمل به، فيزدادُ إيمانه هذه نقاط واضحة، وهذه الأمور واضحة، واضحٌ أمرها، وهي دليل على بطلان مذهب المُرجئة في قولهم أن الإيمان شيءٌ واحد لا يزيد ولا ينقص، نعم.
(المتن)
توقفنا عند قول المؤلف رحمه الله:
فَصْلٌ: وَقَدْ أَثْبَتَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ إسْلَامًا بِلَا إيمَانٍ فِي قَوْله تَعَالَى قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [الحجرات: 14].
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: أَعْطَى النَّبِيُّ ﷺ رَهْطًا وَفِي رِوَايَةٍ قَسَمَ قَسْمًا وَتَرَكَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يُعْطَهُ وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إلَيَّ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ ما لَك عَنْ فُلَانٍ؟ فَوَاَللَّهِ إنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أو مُسْلِمًا. أَقُولُهَا ثَلَاثًا وَيُرَدِّدُهَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: إنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ.([6]).
وَفِي رِوَايَةٍ: فَضَرَبَ بَيْنَ عُنُقِي وَكَتِفِي وَقَالَ: أَقَتَّالٌ أَيْ سَعْدٌ. فَهَذَا الْإِسْلَامُ الَّذِي نَفَى اللَّهُ عَنْ أَهْلِهِ دُخُولَ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ هَلْ هُوَ إسْلَامٌ يُثَابُونَ عَلَيْهِ؟ أَمْ هُوَ مِنْ جِنْسِ إسْلَامِ الْمُنَافِقِينَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إسْلَامٌ يُثَابُونَ عَلَيْهِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ.
وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِين وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِي وَأَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ؛ وَهُوَ قَوْل حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري وَأَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَالْحَقَائِقِ. قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ إسْحَاقَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْت هِشَامًا يَقُولُ: كَانَ الْحَسَنُ وَمُحَمَّدٌ يَقُولَانِ: مُسْلِمٌ وَيَهَابَانِ: مُؤْمِنٌ.
وَقَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ الخزاعي قَالَ: قَالَ مَالِكٌ وَشَرِيكٌ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ: " الْإِيمَانُ " الْمَعْرِفَةُ وَالْإِقْرَارُ وَالْعَمَلُ إلَّا أَنَّ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ يَجْعَلُ الْإِيمَانَ خَاصًّا وَالْإِسْلَامَ عَامًّا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْإِسْلَامَ: هُوَ الِاسْتِسْلَامُ خَوْفَ السَّبْيِ وَالْقَتْلِ مِثْلَ إسْلَامِ الْمُنَافِقِينَ. قَالُوا: وَهَؤُلَاءِ كُفَّارٌ فَإِنَّ الْإِيمَانَ لَمْ يَدْخُلْ فِي قُلُوبِهِمْ وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ فَهُوَ كَافِرٌ. وَهَذَا اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي وَالسَّلَفُ مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ.
(الشرح)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وصلى اللهم وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:
قال المؤلِّف رحمه الله: " فَصْلٌ"
هذا الفصل عقده المؤلف رحمه الله لبيان الإسلام والإيمان والفرق بينهما، وهل هناك فرقٌ بينهما، أو ليس هناك فرق؟ يقول المؤلف رحمه الله: "وَقَدْ أَثْبَتَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ إسْلَامًا بِلَا إيمَانٍ فِي قَوْله تَعَالَى قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [الحجرات: 14]"، فهذه الآية وهي آية الحُجرات أثبت الله تعالى للأعراب الإيمان الإسلام، نفى عنهم الإيمان، قالت الأعراب آمنا، نفى الله عنهم الإيمان، قال: قل لم تؤمنوا، ولكن قولوا أسلمنا، ولما يدخل الإيمان في قلوبكم، وكذلك "وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: أَعْطَى النَّبِيُّ ﷺ رَهْطًا وَفِي رِوَايَةٍ قَسَمَ قَسْمًا"يعني في الغنيمة وَتَرَكَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يُعْطَهُ وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إلَيَّ"([7]).
كان النبي ﷺ يعطي العطية والغنائم لله، لا للهوى، ولكنه يتألف مع الإسلام، فمن كان ضعيف الإيمان يعطيه حتى يتقوى إيمانه، ومن كان قوي الإيمان لا يعطيه، يكيله إلى إيمانه.
فالنبي ﷺ أعطي عطية، قسم قسمًا في بعض المغازي، يقول سعد بن أبي وقاص، "وَتَرَكَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يُعْطَهُ وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إلَيَّ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ ما لَك عَنْ فُلَانٍ؟ فَوَاَللَّهِ إنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أو مُسْلِمًا"؛ يعني ما بلغ درجة الإيمان، أو مسلمًا، المسلم هو الذي من كان عنده نقص في إيمانه، في الأعمال يُطلق عليه الإسلام، ولا يُطلق عليه الإيمان، من كان عنده تقصير في بعض الواجبات، وفعل بعض المُحرمات، يقال مسلم، ولا يقال مؤمن، وإن كان أصل الإيمان لابد منه.
"أَقُولُهَا ثَلَاثًا وَيُرَدِّدُهَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثَلَاثًا" ثم بيَّن النبي ﷺ وجه أن يعطي بعض الناس، ولا يعطي بعض.
إنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ ([8])؛ يعني يعطي الرجل لأنه ضعيف الإيمان، حتى يتقوى إيمانه؛ لأن لو لم يُعطى لارتد عن الإيمان، فكبه الله على وجهه في النار، فيُعطى من المال من الغنيمة حتى يتقوى إيمانه، وأما الآخر فلا يُعطى لأن إيمانه قوي.
ولهذا قال النبي: إنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ يعني هذا الرجل، هذا الذي أعطيته على وجهه في النار، يعني خشية أن يرتد عن دينه، لضعف إيمانه، "وَفِي رِوَايَةٍ: فَضَرَبَ بَيْنَ عُنُقِي وَكَتِفِي وَقَالَ: أَقَتَّالٌ أَيْ سَعْدٌ".
فهذه الآية، الآيات الكريمة والحديث فيهما إثبات في الإسلام ونفي الإيمان، يقول المؤلف رحمه الله: "فَهَذَا الْإِسْلَامُ الَّذِي نَفَى اللَّهُ عَنْ أَهْلِهِ دُخُولَ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ هَلْ هُوَ إسْلَامٌ يُثَابُونَ عَلَيْهِ؟ أَمْ هُوَ مِنْ جِنْسِ إسْلَامِ الْمُنَافِقِينَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ"، ذكر المؤلف قولان؛ القول الأول: قول الجمهور، أنه إسلام يُثابون عليه، وأن هؤلاء إيمانهم ضعيف، نفى عنهم الإيمان؛ لأن، نفى عنهم الإيمان يعني كمال الإيمان الذي يستلزم ترك، فعل الواجبات، وترك المحرمات، هذا منتفي عن هؤلاء الأعراب، لكن يثبت لهم الإسلام. هذا هو قول الجمهور.
والقول الثاني: أن، أن هذا الإسلام الذي أُثبت لهم إسلامٌ في الظاهر، وهم منافقون في الباطن، فهم كفار، وهذا اختيار الإمام والبخاري وجماعة، والمؤلِّف رحمه الله رجَّح قول الجمهور، وهو الصواب، والآية لعل المؤلف يبين فيما بعد أن الآية.. سباق الآية ولحاقها يدلُّ على أنها في المؤمنين.
قال: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [الحجرات: 14]، بإمتثال طاعة الله ورسوله، لا يتلكم: لا ينقصكم من ثوابكم، ولو كانوا منافقين، لم يكن لهم طاعة يُثابون عليها، ثم قال: يمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا [الحجرات: 17] في آخر الآيات، فأثبتَ لهم إسلامهم.
فالمؤلف رحمه الله يقول: "فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إسْلَامٌ يُثَابُونَ عَلَيْهِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِين وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِي
وَأَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ؛ وَهُوَ قَوْل حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري وَأَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَالْحَقَائِقِ"، كلهم ذهبوا إلى أن هذا الإسلام إسلامٌ يُثابون عليه، وأنهم داخلون في دائرة الإسلام والإيمان، إلا أنهم، إلا أنَّ عندهم ضعفًا في إيمانهم.
"قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ إسْحَاقَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْت هِشَامًا يَقُولُ: كَانَ الْحَسَنُ وَمُحَمَّدٌ يَقُولَانِ: مُسْلِمٌ وَيَهَابَانِ: مُؤْمِنٌ" يهابان من باب الورع، يعني ايه من باب الورع؟ يقولون: في حق هؤلاء العاصي يقولون مسلم، ويهابان القول بإطلاق الإيمان عليهم.
"وَقَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ الخزاعي قَالَ: قَالَ مَالِكٌ وَشَرِيكٌ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ: " الْإِيمَانُ " الْمَعْرِفَةُ وَالْإِقْرَارُ وَالْعَمَلُ" يعني لابد من العمل، وهؤلاء عندهم نقصٌ في العمل، فلذلك عندهم نقصٌ في العمل، في أداء الواجبات، أو في عندهم ارتكاب بعض المحرمات، فلهذا نُفي عنهم الإيمان.
"إلَّا أَنَّ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ يَجْعَلُ الْإِيمَانَ خَاصًّا وَالْإِسْلَامَ عَامًّا.
وَ (الْقَوْلُ الثَّانِي) : أَنَّ هَذَا الْإِسْلَامَ: هُوَ الِاسْتِسْلَامُ خَوْفَ السَّبْيِ وَالْقَتْلِ مِثْلَ إسْلَامِ الْمُنَافِقِينَ"، يعني هذا، في معنى قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14]، بل قولوا استسلمنا، وانقدنا للإيمان ظاهرًا نفاقًا، وهؤلاء هم كفار؛ لأن الله نفى دخول الإيمان في قلوبهم، فدل على أن إسلامهم في الظاهر، وهو إسلامُ المنافقين.
"قَالُوا: وَهَؤُلَاءِ كُفَّارٌ فَإِنَّ الْإِيمَانَ لَمْ يَدْخُلْ فِي قُلُوبِهِمْ وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ فَهُوَ كَافِرٌ. وَهَذَا اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي وَالسَّلَفُ مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ" ثم ذكر أقوال العلماء في هذا نعم.
القارئ: يعني القول الثاني كأنه لا ينص على أن الإسلام والإيمان متفقان؟
الشيخ: القول الثاني يقول إن الإسلام، نعم، بلى البخاري يرى ذلك
القارئ: ينص على هذا؟
الشيخ: أي نعم, فإن نُفى عنهم الإسلام، نُفى عنهم الإيمان، فإن نُفى عنهم الإيمان، نُفى عنهم الإسلام.
يُعرف عن أحد غير البخاري رحمه الله الشيخ نعم محمدبن نَصْرٍالمروزي
(المتن)
قال محمد بن نصر: حَدَّثَنَا إسْحَاقُ أَنْبَأَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ قَالَ: أَتَيْت إبْرَاهِيمَ النَّخَعِي فَقُلْت: إنَّ رحد غير البخاري رحمه الله، نعم.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ َجُلًا خَاصَمَنِي يُقَالُ لَهُ: سَعِيدٌ الْعَنْبَرِيُّ فَقَالَ إبْرَاهِيمُ لَيْسَ بِالْعَنْبَرِيِّ وَلَكِنَّهُ زُبَيْدِيٌّ. قَوْلُهُ: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14] فَقَالَ: هُوَ الِاسْتِسْلَامُ فَقَالَ إبْرَاهِيمُ: لَا هُوَ الْإِسْلَامُ. وَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَان عَنْ مُجَاهِدٍ: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14] قَالَ: اسْتَسْلَمْنَا خَوْفَ السَّبْيِ وَالْقَتْلِ.
وَلَكِنَّ هَذَا مُنْقَطِعٌ سُفْيَانُ لَمْ يُدْرِكْ مُجَاهِدًا. وَاَلَّذِينَ قَالُوا: إنَّ هَذَا الْإِسْلَامَ هُوَ كَإِسْلَامِ الْمُنَافِقِينَ لَا يُثَابُونَ عَلَيْهِ قَالُوا: لِأَنَّ اللَّهَ نَفَى عَنْهُمْ الْإِيمَانَ وَمَنْ نُفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ فَهُوَ كَافِرٌ.
وَقَالَ هَؤُلَاءِ: الْإِسْلَامُ هُوَ الْإِيمَانُ وَكُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٌ. وَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَمَنْ جَعَلَ الْفُسَّاقَ مُسْلِمِينَ غَيْرَ مُؤْمِنِينَ لَزِمَهُ أَنْ لَا يَجْعَلَهُمْ دَاخِلِينَ فِي قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ [المائدة: 6] وَفِي قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجمعة: 9] وَأَمْثَالِ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ إنَّمَا دُعُوا بِاسْمِ الْإِيمَانِ لَا بِاسْمِ الْإِسْلَامِ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا لَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ.
(الشرح)
هذه حجة القائل، هذه أدلة القائلين بأن، بأن هؤلاء منافقون، وبأن الإسلام، والمراد بالإسلام هنا إسلام المنافقين، "قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: حَدَّثَنَا إسْحَاقُ أَنْبَأَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ قَالَ: أَتَيْت إبْرَاهِيمَ النَّخَعِي فَقُلْت: إنَّ رَجُلًا خَاصَمَنِي يُقَالُ لَهُ: سَعِيدٌ الْعَنْبَرِيُّ فَقَالَ إبْرَاهِيمُ لَيْسَ بِالْعَنْبَرِيِّ وَلَكِنَّهُ زُبَيْدِيٌّ. قَوْلُهُ: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14] فَقَالَ: هُوَ الِاسْتِسْلَامُ فَقَالَ إبْرَاهِيمُ: لَا هُوَ الْإِسْلَامُ. وَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُجَاهِدٍ: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14] قَالَ: اسْتَسْلَمْنَا خَوْفَ السَّبْيِ وَالْقَتْلِ"، يعني هذه من حجتهم أن المراد بالإسلام هنا إسلام المنافقين.
يقول المؤلف: "وَلَكِنَّ هَذَا مُنْقَطِعٌ سُفْيَانُ لَمْ يُدْرِكْ مُجَاهِدًا"، وعلى هذا لا يكون حجة، لأنه منقطع ضعيف، يقول المؤلف رحمه الله: "وَاَلَّذِينَ قَالُوا: إنَّ هَذَا الْإِسْلَامَ هُوَ كَإِسْلَامِ الْمُنَافِقِينَ لَا يُثَابُونَ عَلَيْهِ قَالُوا: لِأَنَّ اللَّهَ نَفَى عَنْهُمْ الْإِيمَانَ وَمَنْ نُفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ فَهُوَ كَافِرٌ" هذه حجتهم، قال: قل لم تؤمنوا، فنفى عنهم الإيمان، " ِأَنَّ اللَّهَ نَفَى عَنْهُمْ الْإِيمَانَ وَمَنْ نُفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ فَهُوَ كَافِرٌ".
"وَقَالَ هَؤُلَاءِ: الْإِسْلَامُ هُوَ الْإِيمَانُ وَكُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٌ. وَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ"، يعني هؤلاء الذين يقولون إن المراد بهم المنافقون، يرون أن الإسلام والإيمان شيءٌ واحد، هذا قول أهل السُنة، وهو قول الخوارج والمعتزلة أيضًا، يقولون أن الإسلام والإيمان شيءٌ واحد، ويستدلون بقول الله تعالى في سورة الذاريات: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات: 35، 36]، فهو بيتٌ واحد وُصف أهله بالإيمان والإسلام.
والجمهور يجيبون بأن هذا البيت اتصف بالإيمان والإسلام يكون هذا اتصف بالإيمان والإسلام لا يلزم أن يكون كل أحد يتصف بها، يقول، يقول المؤلف رحمه الله: من حجتهم، من يقولون أن الإيمان والإسلام شيء واحد، يقولون: " وَمَنْ جَعَلَ الْفُسَّاقَ مُسْلِمِينَ غَيْرَ مُؤْمِنِينَ"، يعني كما هو قول الجمهور، الجمهور يقولون الفاسق يُسمى مؤمن، يُسمى مسلم ولا يُسمى مؤمن، "لَزِمَهُ أَنْ لَا يَجْعَلَهُمْ دَاخِلِينَ فِي قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ [المائدة: 6] وَفِي قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجمعة: 9] وَأَمْثَالِ ذَلِكَ".
فهذه من حجتهم، يقولون: أنتم من تقولون إن الإيمان شيء والإسلام شيء آخر يلزمكم ألا يدخل الفُساق في هذه الآية، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ [المائدة: 6]، مع أن الفُساق مخاطبون بإقامة الصلاة، وكذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجمعة: 9]، وجه الدلالة يقول: "إنَّمَا دُعُوا بِاسْمِ الْإِيمَانِ لَا بِاسْمِ الْإِسْلَامِ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا لَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ" الجمهور أجابوا عن هذا، نعم.
(المتن)
وَجَوَابُ هَذَا أَنْ يُقَالَ: الَّذِينَ قَالُوا مِنْ السَّلَفِ: إنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ لَمْ يَقُولُوا: إنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ بَلْ هَذَا قَوْلُ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا يَقُولُونَ: الْفُسَّاقُ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ.
وَإِنَّ مَعَهُمْ إيمَانًا يَخْرُجُونَ بِهِ مِنْ النَّارِ. لَكِنْ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ اسْمُ الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الثَّوَابَ وَدُخُولَ الْجَنَّةِ وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهِ وَهُمْ يَدْخُلُونَ فِي الْخِطَابِ بِالْإِيمَانِ لِأَنَّ الْخِطَابَ بِذَلِكَ هُوَ لِمَنْ دَخَلَ فِي الْإِيمَانِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهُ فَإِنَّهُ إنَّمَا خُوطِبَ لِيَفْعَلَ تَمَامَ الْإِيمَانِ فَكَيْفَ يَكُونُ قَدْ أَتَمَّهُ قَبْلَ الْخِطَابِ وَإِلَّا كُنَّا قَدْ تَبَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْمَأْمُورَ مِنْ الْإِيمَانِ قَبْلَ الْخِطَابِ.
وَإِنَّمَا صَارَ مِنْ الْإِيمَانِ بَعْدَ أَنْ أُمِرُوا بِهِ فَالْخِطَابُ بِـ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا غَيْرُ قَوْلِهِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الحجرات: 15] وَنَظَائِرِهَا فَإِنَّ الْخِطَابَ بِـ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.
أَوَّلًا: يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا فِي الْبَاطِنِ يَدْخُلُ فِيهِ فِي الظَّاهِرِ فَكَيْفَ لَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا. وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا يُقَالُ فِيهِ: إنَّهُ مُسْلِمٌ وَمَعَهُ إيمَانٌ يَمْنَعُهُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ.
لَكِنْ هَلْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِيمَانِ؟ هَذَا هُوَ الَّذِي تَنَازَعُوا فِيهِ فَقِيلَ: يُقَالُ مُسْلِمٌ وَلَا يُقَالُ: مُؤْمِنٌ. وَقِيلَ: بَلْ يُقَالُ: مُؤْمِنٌ.
(الشرح)
نعم، المؤلف رحمه الله يجيب على قول من قال إن الإسلام والإيمان شيءٌ واحد، وأنه يلزم من فرق بينهما ألا يكون الفُساق داخلين في عموم الأيات
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، يقول المؤلف رحمه الله: "وَجَوَابُ هَذَا أَنْ يُقَالَ: الَّذِينَ قَالُوا مِنْ السَّلَفِ: إنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ لَمْ يَقُولُوا: إنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ"، بل معهم أصل الإيمان الذي يصح به الذي يدخلون به الإسلام؛ لأن الإسلام لابد له من إيمان يصححه، فهم يقولون معهم أصل الإيمان، لابد منه، ولا يقولون إنه ليس معهم أصل الإيمان؛ لأن الذي يقول ليس معهم شيءٌ من الإيمان، هذا قول الخوارج والمعتزلة.
وأهل السُنة "الْفُسَّاقُ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ. وَإِنَّ مَعَهُمْ إيمَانًا يَخْرُجُونَ بِهِ مِنْ النَّارِ"، قد تواترت الأخبار عن النبي ﷺ، أنه يخرجُ من النار، جملة من الكبائر، معهم أصل الإيمان، إلا أنهم ماتوا على كبائر، ماتوا على كبائر أصروا عليها، لم يتوبوا منها، فهم دخلوا النار، ثم يخرجون من النار بشفاعة الشافعين، أو برحمة أرحم الراحمين.
وبعضهم يطول مُكْثُه؛ لشدةِ، لكثرة الجرائم أو لغلظِها وفحشها، القاتل أخبَرَ اللهُ أنه يُخلَّد في النار، والخلود هو المُكْثُ الطويل، فهم معهم أصلُ الإيمان، لا يقولون إنَّه ليس معهم أصل الإيمان، لكن الكلام في إطلاق الإيمان عليهم، لابد فيه من التقييد.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَأَهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا يَقُولُونَ: الْفُسَّاقُ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ. وَإِنَّ مَعَهُمْ إيمَانًا يَخْرُجُونَ بِهِ مِنْ النَّارِ. لَكِنْ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ اسْمُ الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الثَّوَابَ وَدُخُولَ الْجَنَّةِ وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهِ"، يعني لا يُطلق، فيقال: لا يُقال فاسق مؤمن بإطلاق؛ لأنهم إذا قيل: مؤمن، صار.. معناه: المؤمن الذي أدَّى الواجبات وتركَ المُحرمات، وهذا لا ينطبق على الفاسق، فلا يُطلق على الفاسق، بل لابد من التقييد؛ يُقال: مؤمنٌ ناقصُ الإيمان، أو مؤمنٌ ضعيف الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسقٌ بكبيرته، كما بيَّن المؤلف رحمه الله.
والفُساق يدخلون في خطاب الإيمان، "وَهُمْ يَدْخُلُونَ فِي الْخِطَابِ" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة: 6]، هذا يدخل فيه كل، كل مسلم، سواء مطيع أو عاصي يدخل مأمورٌ بإقامة الصلاة، وهم يدخلون في خطاب الإيمان، يقولون: بأن الخطاب بذلك هو الإيمان دخل في الإيمان، وإن لم يستكمله، هو خوطب ليستكمل الإيمان، يا أيها الذين ثبت لكم الإيمان، امتثلوا لهذا الأمر، وهذا يشمل المؤمن التقي، والمؤمن العاصي.
"بِالْإِيمَانِ لِأَنَّ الْخِطَابَ بِذَلِكَ هُوَ لِمَنْ دَخَلَ فِي الْإِيمَانِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهُ فَإِنَّهُ إنَّمَا خُوطِبَ لِيَفْعَلَ تَمَامَ الْإِيمَانِ فَكَيْفَ يَكُونُ قَدْ أَتَمَّهُ قَبْلَ الْخِطَابِ"، لو لم يكن، لو كان الخطاب هذا إنما هو لمن أتم الإيمان، كيف يخاطب وقد تم إيمانه؟ ما يمكن هذا، وإلا كنا قد تبينا أن هذا المأمور من الإيمان قبل الخطاب، لو كان الخطاب خاص بالمؤمنين الأتقياء؛ لكنا تبينا أن هذا المأمور من الإيمان قبل الخطاب يكون هذا، هذا المأمور به، المأمور من الإيمان قبل الخطاب؛ لأنه لما خوطب كمُل إيمانه.
فينبغي أن يكون هذا الخطاب سابقًا، يقول المؤلف: "وَإِنَّمَا صَارَ مِنْ الْإِيمَانِ بَعْدَ أَنْ أُمِرُوا بِهِ فَالْخِطَابُ بِـ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا غَيْرُ قَوْلِهِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الحجرات: 15] "، قولهم إنما المؤمنون هذا وصف، وصف للمؤمنين الذين امتثلوا الأوامر، واجتنبوا النواهي، أما قوله يا أيها الذين آمنوا هذا خطاب، خطابٌ لجميع من دخل في الإسلام؛ ليفعل ما يتمُ به إيمانه.
فرقٌ بين الأمرين، فرقٌ بين الوصف؛ وصف المؤمنين الكُمل، وبين الخطاب الذي يُوجه إلى كل من دخل في دائرة الإسلام، يقول المؤلف رحمه الله: "فَإِنَّ الْخِطَابَ بِـ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوَّلًا: يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا فِي الْبَاطِنِ يَدْخُلُ فِيهِ فِي الظَّاهِرِ"، حتى المنافق يدخل في يا أيها الذين آمنوا؛ لأن المنافقين يصلون مع النبي ﷺ، ويجاهدون، "فَكَيْفَ لَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا".
يعني من باب أولى إذا كان المنافق يدخل في باب قول يا أيها الذين آمنوا، فيدخل فيه ضعيف الإيمان من باب أولى، يعني فيقول: يا أيها الذين آمنوا يدخل فيه ثلاث طبقات؛ الطبقة الأولى المؤمنون الُكمل، المؤمنون الكُمل الذين أدوا الواجبات، وتركوا المُحرمات، والطبقة الثانية المؤمنون ضُعفاء الإيمان، الطبقة الثالثة: المنافقون الذين أظهروا الإسلام، يعني تُجرى عليهم أحكام الإسلام، أظهروا الإسلام وإن كانوا أبطنوا الكفر.
فإذا كان المنافق يدخلُ فيه، فمن باب أولى أن يدخل فيه ضعيف الإيمان، هذا معنى قول المؤلف رحمه الله: "فَإِنَّ الْخِطَابَ بِـ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوَّلًا: يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا فِي الْبَاطِنِ يَدْخُلُ فِيهِ فِي الظَّاهِرِ فَكَيْفَ لَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا. وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا يُقَالُ فِيهِ: إنَّهُ مُسْلِمٌ"، يعني الذي قصر في بعض الواجبات، وترك بعض المحرمات، يقال إنه مسلم، "وَمَعَهُ إيمَانٌ يَمْنَعُهُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ" أنه مسلم داخل في دائرة الإيمان، وأن معه إيمان يمنعه من الخلود في النار، لكن لا يمنع من دخوله النار.
"وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ" أما محل النزاع "لَكِنْ هَلْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِيمَانِ؟ هَذَا هُوَ الَّذِي تَنَازَعُوا فِيهِ فَقِيلَ: يُقَالُ مُسْلِمٌ وَلَا يُقَالُ: مُؤْمِنٌ. وَقِيلَ: بَلْ يُقَالُ: مُؤْمِنٌ" قولان لأهل العلم، لأهل السُنة؛ القول الأول أنه يُقال: المؤمن والثاني يقال مسلم ولا يقال مؤمن، وهذا هو الأرجح كما سيبين المؤلف رحمه الله.
القارئ: لكن فيه فرق بين إطلاق الإسلام والخطاب؟ النداء يا أيها الذين آمنوا، يا أيها الذين أسلموا؟
الشيخ: يا أيها الذين آمنوا أدعم، يشمل ثلاث طبقات من الناس؛ يشمل المؤمنين الكُمل، ويشمل ضعاف الإيمان، ويشمل المنافقين.
القارئ: لكن له أصلٌ لغوي، إذا خوطب الإنسان بنداءٍ معين، يصح ألا يكون يندرج تحته؟
الشيخ: إذا خوطب يندرج تحته كل ما ثبت له الإيمان في الظاهر، أو في الباطن.
القارئ: ما الذي يمنع أن يُطلق عليه الاسم إذًا؟ مؤمن؟
الشيخ: الاسم هذا، الاسم هذا إنما يُطلق على من اتصف بالصفات الإيمان المُطلق، وهي أداء الواجبات، وتركُ المحرمات.
(المتن)
وَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ وَلَا يُعْطَى اسْمَ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ نَفَيَا عَنْهُ الِاسْمَ الْمُطْلَقَ؛ وَاسْمُ الْإِيمَانِ يَتَنَاوَلُهُ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ إيجَابٌ عَلَيْهِ وَتَحْرِيمٌ عَلَيْهِ وَهُوَ لَازِمٌ لَهُ كَمَا يَلْزَمُهُ غَيْرُهُ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي اسْمِ الْمَدْحِ الْمُطْلَقِ.
وَعَلَى هَذَا فَالْخِطَابُ بِالْإِيمَانِ يَدْخُلُ فِيهِ ثَلَاثُ طَوَائِفَ: يَدْخُلُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ حَقًّا وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُنَافِقُ فِي أَحْكَامِهِ الظَّاهِرَةِ وَإِنْ كَانُوا فِي الْآخِرَةِ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ؛ وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ يَنْفِي عَنْهُ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ وَفِي الظَّاهِرِ يَثْبُتُ لَهُ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ الظَّاهِرُ؛ وَيَدْخُلُ فِيهِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا وَإِنْ لَمْ تَدْخُلْ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ؛ لَكِنْ مَعَهُمْ جُزْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ يُثَابُونَ عَلَيْه.
ثُمَّ قَدْ يَكُونُونَ مُفْرِطِينَ فِيمَا فُرِضَ عَلَيْهِمْ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مِنْ الْكَبَائِرِ مَا يُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ كَأَهْلِ الْكَبَائِرِ لَكِنْ يُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِ الْمَفْرُوضَاتِ وَهَؤُلَاءِ كَالْأَعْرَابِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ وَغَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: آمَنَّا مِنْ غَيْرِ قِيَامٍ مِنْهُمْ بِمَا أُمِرُوا بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا.
فَلَا دَخَلَتْ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ وَلَا جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ كَانَ دَعَاهُمْ النَّبِيُّ ﷺ إلَى الْجِهَادِ وَقَدْ يَكُونُونَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الْمُعَرَّضِينَ لِلْوَعِيدِ؛ كَاَلَّذِينَ يُصَلُّونَ وَيُزَكُّونَ وَيُجَاهِدُونَ وَيَأْتُونَ الْكَبَائِرَ؛ وَهَؤُلَاءِ لَا يَخْرُجُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ؛ بَلْ هُمْ مُسْلِمُونَ وَلَكِنْ بَيْنَهُمْ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ: هَلْ يُقَالُ: إنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ؟
(الشرح)
المؤلف رحمه الله بيَّن التحقيق في هذه المسألة، عندما ذكر أن المؤمن الذي قصر في بعض الواجبات، وفعل بعض المحرمات، هل يُطلق عليه اسمُ الإيمان، أو لا يُطلق؟ وذكر قولين، قال: "وَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ" يعني خلاصة ما رجح المؤلف رحمه الله أن المؤمن الذي فعل بعض المحرمات، وقصر في بعض الواجبات لا يُعطى اسمُ الإيمان المطلق، ولا يُنفى اسمُ الإيمان المطلق، بل لابد من التقييد في النفي والإثبات.
في الإثبات لا يقال مؤمن، بل يقيد، قال: مؤمنٌ ناقصُ الإيمان، مؤمنٌ ضعيف الإيمان، مؤمن بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته، وفي النفي ما يُنفى عنه الإيمان، فلا يقال: ليس بمؤمن، بل لابد من القيد، نقول: ليس بصادق الإيمان، ليس بمؤمن حق، وبيانُ ذلك أنه لو أُطلق عليه اسم الإيمان، وقيل: هو مؤمن، لوافق مذهب المُرجئة، وإذا نُفى عنه الإيمان، وقال: ليس بمؤمن، وافق مذهب الخوارج والمعتزلة، فلابد من التقييد في النفي والإثبات.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ" هذا في الإثبات، "مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ" هذا تعبيرٌ آخر، يقال: مؤمنٌ ناقصُ الإيمان، تعبيرٌ آخر مؤمنٌ بإيمانه فاسقٌ بكبيرته، تعبيرٌ آخر مؤمنٌ ضعيف الإيمان، "وَلَا يُعْطَى اسْمَ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ نَفَيَا عَنْهُ الِاسْمَ الْمُطْلَقَ؛ وَاسْمُ الْإِيمَانِ يَتَنَاوَلُهُ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ".
يعني فرق بين إطلاق اسم الإيمان عليه، وبين الإيمان اسمُ الإيمان الذي يتناوله في الأوامر والنواهي، فاسمُ الإيمان الذي يتناوله فيما أمر الله به ورسوله، هذا يدخل فيه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة: 104]؛ لأن ذلك إيجابٌ عليه، وتحريمٌ عليه، وهو لازمٌ، ما يلزم غيره.
فرقٌ بين الخطاب وبين الاسمُ المطلق، الخطاب يدخل فيه ضعيف الإيمان يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة: 104]، وإنما الكلام في اسم المدح المطلق، بل هو مؤمن.
وعلى هذا يقول المؤلف: الخطاب بالإيمان يدخلُ فيه ثلاث طوائف كما سبق؛ يدخل فيه المؤمن حقًّا، هذا المؤمن الذي أدَّى الواجبات وتركَ المحرمات، ويدخلُ فيه المنافق، في أحكامه الظاهرة، وإن كان في الآخرة في الدرك الأسفل من النار، وهو في الباطن يُنفى عنه اسمُ الإسلام والإيمان، وفي الظاهر يُثبت له الإسلام والإيمان الظاهر، ويدخلُ فيه -هذه الطائفة الثالثة-، ويدخل فيه الذين أسلموا، ولم تدخل حقيقة الإيمان في قلوبهم، فهم ضعفاء الإيمان، لكن معهم جزءٌ من الإيمان، وإسلامٌ يُثابون عليه.
"ثُمَّ قَدْ يَكُونُونَ مُفْرِطِينَ فِيمَا فُرِضَ عَلَيْهِمْ"يعني مقصرين في الواجبات" وَلَيْسَ مَعَهُمْ مِنْ الْكَبَائِرِ مَا يُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ كَأَهْلِ الْكَبَائِرِ لَكِنْ يُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِ الْمَفْرُوضَاتِ وَهَؤُلَاءِ كَالْأَعْرَابِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ" قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14]، "؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: آمَنَّا مِنْ غَيْرِ قِيَامٍ مِنْهُمْ بِمَا أُمِرُوا بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا. يعني ما أدوا الواجبات فَلَا دَخَلَتْ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ وَلَا جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ كَانَ دَعَاهُمْ النَّبِيُّ ﷺ إلَى الْجِهَادِ وَقَدْ يَكُونُونَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الْمُعَرَّضِينَ لِلْوَعِيدِ؛ كَاَلَّذِينَ يُصَلُّونَ وَيُزَكُّونَ وَيُجَاهِدُونَ وَيَأْتُونَ الْكَبَائِرَ؛ وَهَؤُلَاءِ لَا يَخْرُجُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ؛ بَلْ هُمْ مُسْلِمُونَ وَلَكِنْ بَيْنَهُمْ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ: هَلْ يُقَالُ: إنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ؟" نعم.
(المتن)
توقفنا عند قول المؤلف رحمه الله:
وَأَمَّا الْخَوَارِجُ؛ وَالْمُعْتَزِلَةُ فَيُخْرِجُونَهُمْ مِنْ اسْمِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ عِنْدَهُمْ وَاحِدٌ؛ فَإِذَا خَرَجُوا عِنْدَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ خَرَجُوا مِنْ الْإِسْلَامِ؛ لَكِنَّ الْخَوَارِجَ تَقُولُ: هُمْ كُفَّارٌ؛ وَالْمُعْتَزِلَةَ تَقُولُ: لَا مُسْلِمُونَ وَلَا كُفَّارُ؛ يُنْزِلُونَهُمْ مَنْزِلَةً بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ إسْلَامٌ يُثَابُونَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مُنَافِقِينَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14]، ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [الحجرات: 14].
فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ إذَا أَطَاعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ مَعَ هَذَا الْإِسْلَامِ؛ آجَرَهُمْ اللَّهُ عَلَى الطَّاعَةِ. وَالْمُنَافِقُ عَمَلُهُ حَابِطٌ فِي الْآخِرَةِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ وَصَفَهُمْ بِخِلَافِ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ وَصَفَهُمْ بِكُفْرِ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَنَّهُمْ يُبْطِنُونَ خِلَافَ مَا يُظْهِرُونَ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة: 8 - 10] الْآيَاتِ.
وَقَالَ: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون: 1] فَالْمُنَافِقُونَ يَصِفُهُمْ فِي الْقُرْآنِ بِالْكَذِبِ؛ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَبِأَنَّ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْكُفْرِ مَا يُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ؛ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَصِفْهُمْ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ لَكِنْ لَمَّا ادَّعَوْا الْإِيمَانَ قَالَ لِلرَّسُولِ: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [الحجرات: 14].
(الشرح)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، والحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن المؤلف رحمه الله تحدث في هذا الفصل عن الإسلام والإيمان، والفرق بينهما، وبيَّن رحمه الله فيما سبق في الحلقة الماضية أن، أن لأهل السُنة والجماعة قولين في الإسلام، والإيمان، هل هما شيءٌ واحد؟ القول الأول: أن، بيَّن المؤلف رحمه الله في هذا الفصل أن الله تعالى أثبت في القرآن الإسلام، ونفى الإيمان عن الأعراب، في قوله: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14]، ، هل مؤمنون معهم أصلُ الإسلام معهم أصلُ الإيمان، والإسلام إسلام صحيح، أو أنهم منافقون؟
على قولهم، قول جمهور العلماء أنهم ليسوا منافقين، وأن معهم إسلام يثابون عليه، إلا أنه لم تدخل حقيقة الإيمان في قلوبهم، وهذا هو قول الجمهور، واختيار المؤلف رحمه الله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والقولُ الثاني: أن هؤلاء الأعراب منافقون، وأن الإسلام الذي أسس لهم إسلامٌ في الظاهر، وهم منافقون في الباطن، وهذا اختيار الإمام البخاري وجماعةواختلف العلماء في هؤلاء الأعراب.
وهل الإسلام والإيمان شيءٌ واحد، أو يفترقان؟ قال: ذهب الإمام البخاري رحمه الله إلى أن الإسلام والإيمان شيءٌ واحد، وأن الإسلام والإيمان شيءٌ واحد، وهو قول الخوارج والمعتزلة، والقول الثاني لأهل العلم، وهو قول جمهور العلماء أن الإسلام هو الإيمان إذا افترقا اجتمعا، وإذا اجتمعا افترقا، فإذا أُطلق الإسلام وحده دخل فيه الإيمان، وإذا أُطلق الإيمان وحده دخل فيه الإسلام، وإذا اجتمعا فُسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، وفُسر الإيمان بالأعمال الباطنة، والجمهور الذين قالوا: إن هؤلاء الأعراب يُطلق عليهم الإسلام، ولا يُطلق عليهم الإيمان، لم يقولوا إنهم ليس في قلوبهم شيءٌ من الإيمان، بل قالوا: إن معهم أصل الإيمان الذي يُصحح إسلامهم، وليسوا كالخوارج والمعتزلة الذين يقولون إنهم خرجوا من الإيمان، وأن ليس معهم شيء من الإيمان.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله، يقارن بين قول من قال إن هؤلاء العرب مسلمون معهم أصل الإيمان الذي يصح به إسلامهم، وبين قول الخوارج الذين يقولون إنهم ليس معهم شيءٌ من الإيمان، فيقول رحمه الله: "وَأَمَّا " الْخَوَارِجُ "؛ " وَالْمُعْتَزِلَةُ " فَيُخْرِجُونَهُمْ مِنْ اسْمِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ عِنْدَهُمْ وَاحِدٌ" وهو قول طائفة من أهل السنة وعلى رأسهم الإمام البخاري رحمه الله.
"فَإِذَا خَرَجُوا عِنْدَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ خَرَجُوا مِنْ الْإِسْلَامِ" إذا كان العُصاة يخرجون من الإيمان عند الخوارج والمعتزلة، وعند طائفة من أهل السُنة، فإنهم يخرجون من الإسلام؛ لأن الإسلام والإيمان شيءٌ واحد.
يقول المؤلف رحمه الله: إلا أن هناك فرق بين الخوارج والمعتزلة: "لَكِنَّ الْخَوَارِجَ تَقُولُ: هُمْ كُفَّارٌ" يعني خرجوا من الإيمان ودخلوا في الكفر، فيستحلون دماءهم وأموالهم في الدنيا ويخلدونهم في النار في الآخرة، وأما المعتزلة: فإنهم يقولون: لا مسلمون، ولا كفار.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَالْمُعْتَزِلَةَ تَقُولُ: لَا مُسْلِمُونَ وَلَا كُفَّارُ؛ يُنْزِلُونَهُمْ مَنْزِلَةً بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ" وإن كانوا يوافقون الخوارج في القول بخلودهم في النار، إلا أنهم يخالفونهم في الدنيا، ولا يستحلون دماءهم ولا أموالهم، يقولون: خرجوا من الإيمان، ولم يدخلوا في الكفر، والمؤلف رحمه الله يبين أن قول أهل السُّنة، جمهور أهل السُّنة الذين قالوا: إن الأعراب ضعفاء الإيمان، إنهم يُطلق عليهم مسلمون، ولا يُطلق عليهم اسمُ الإيمان، قولهم يخالف قول الخوارج والمعتزلة؛ لأن إسلامهم هذا إسلامٌ يُثابون عليه، إلا أنه لم تدخل حقيقة الإيمان في قلوبهم.
ولهذا يقول المؤلف رحمه الله: "وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ إسْلَامٌ يُثَابُونَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مُنَافِقِينَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14]" " هُوَ إسْلَامٌ يُثَابُونَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مُنَافِقِينَ "، يعني كما قاله البخاري وجماعة " أَنَّهُ قَالَ: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [الحجرات: 14]".
قال المؤلف رحمه الله: "فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ إذَا أَطَاعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ مَعَ هَذَا الْإِسْلَامِ؛ آجَرَهُمْ اللَّهُ عَلَى الطَّاعَةِ. وَالْمُنَافِقُ عَمَلُهُ حَابِطٌ فِي الْآخِرَةِ"، لو كانوا منافقين لما كان لهم إسلامٌ يُثابون عليه؛ لأن المنافق عمله حابط، فدلَّ على أن هؤلاء الأعراب الذين نفى الله عنهم حقيقة الإيمان، عندهم أصلُ الإيمان الذي يصحُ به إسلامهم.
ولهذا فإن الله تعالى أسس لهم طاعة الله ورسوله، وأثبت لهم الأجر إذا أطاعوا الله ورسوله، وأيضًا، يقول المؤلف رحمه الله: "وَأَيْضًا فَإِنَّهُ وَصَفَهُمْ بِخِلَافِ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ" المؤلف رحمه الله يريد أن يرد على الخوارج والمعتزلة الذين قالوا: أنهم خرجوا من الإيمان ودخلوا في الكفر، ويرد أيضًا على قول بعض أهل السُنة الذين قالوا: إن هؤلاء الأعراب منافقون.
يقول: "فَإِنَّهُ وَصَفَهُمْ بِخِلَافِ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ وَصَفَهُمْ بِكُفْرِ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَنَّهُمْ يُبْطِنُونَ خِلَافَ مَا يُظْهِرُونَ" يعني في قوله تعالى في سورة البقرة، يعني "كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة: 8]"، أثبت لهم الإيمان بألسنتهم، ورفع عنهم الإيمان بقلوبهم، ثم قال: "يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة: 9، 10]" والمرض الشك والنفاق.
وقال في الآية الأخرى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون: 1]، وصفهم بالكذب، وهم يشهدون بألسنتهم وقلوبهم مُكذبة، يقول المؤلف رحمه الله: "فَالْمُنَافِقُونَ يَصِفُهُمْ فِي الْقُرْآنِ بِالْكَذِبِ؛ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَبِأَنَّ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْكُفْرِ مَا يُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ؛ وَهَؤُلَاءِ"، يعني الأعراب الذين ذُكروا في الآية: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14]، " وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَصِفْهُمْ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ لَكِنْ لَمَّا ادَّعَوْا الْإِيمَانَ قَالَ لِلرَّسُولِ: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14]يعني: لمْ تدخل حقيقة الإيمان في قلوبكم، وإن كان إسلامهم إسلامٌ صحيح، ولابد من إيمانٍ يصح هذا الإسلام، إلا أنه لم تدخل حقيقة الإيمان في قلوبهم؛ ولهذا قال: "قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [الحجرات: 14]" يعني لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئًا، نعم.
(المتن)
قال رحمه الله:
وَنَفْيُ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: يسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأنفال: 1] ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال: 2 - 4].
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ يَكُونُ مُنَافِقًا مِنْ أَهْلِ الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ بَلْ لَا يَكُونُ قَدْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ فَنُفِيَ عَنْهُ كَمَا يُنْفَى سَائِرُ الْأَسْمَاءِ عَمَّنْ تَرَكَ بَعْضَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ الْأَعْرَابُ لَمْ يَأْتُوا بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ؛ فَنُفِيَ عَنْهُمْ لِذَلِكَ وَإِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يُثَابُونَ عَلَيْهِ.
(الشرح)
نعم، يقول المؤلف رحمه الله: أن هؤلاء الأعراب نُفى عنهم الإيمان المطلق، ونفي الإيمان المُطلق لا يستلزمُ الكفر، يعني نفي الإيمان المُطلق يُنفى عن الأعراب، نُفي عنهم الإيمان المطلق، الإيمان الكامل، الذي يستلزم أداء الواجبات، وترك المحرمات، هذا يُنفى عن العُصاة، الزاني، والسارق، وشارب الخمر، لا يزني الزاني وهو مؤمن، ليس معه الإيمان المطلق الكامل الذي يستحقه به دخول الجنة والنجاة من النار، وهو أداء الواجبات، وترك المحرمات، لكن معه أصلُ الإيمان، معه الإسلام، والإسلام لابد له من إيمانٍ يصححه. فهؤلاء الأعراب نُفي عنهم الإيمان المُطلق، ولم يُنفى عنهم مُطلق الإيمان، فرقٌ بين الإيمانُ المطلق، وهو الإيمانُ الكامل، وبين مُطلق الإيمان، وهو أصلُ الإيمان.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَنَفْيُ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ" لأن معهم أصل الإيمان، " كَمَا فِي قَوْلِهِ: يسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأنفال: 1]"، ثم وصف المؤمنين الكُمل، فقال: "ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال: 2 - 4]".
فالآية فيها حصرٌ للمؤمنين، والحصر مع إثبات الشيء ونفيه عما سواه، فالله تعالى أثبت الإيمان لهؤلاء الذين اتصفوا بالصفات، ومفهومه: نفي الإيمان عمن لم يتصف بهذه الصفات، لكن ما هو هذا الإيمان الذي جاء بصيغة الحصر في هذه؟ الإيمان الكامل الذي يستحق به دخول الجنة، والنجاة من النار.
المعنى: إنما المؤمنون الكُمل الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [الأنفال: 2-3]؛ ولهذا قال: أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال: 4]، وغيرهم لا يُنفى عنه الإيمان، معه وصفُ الإيمان، لكن يُقال: ليس بمؤمنٍ حقًّا، هو مؤمن لكن ليس بمؤمن حقًّا.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ يَكُونُ مُنَافِقًا مِنْ أَهْلِ الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ" معلوم أن الذي لا يأتي بالإيمان الكامل لا يكون منافقًا، بل يكون ضعيف الإيمان، ناقص الإيمان، بخلاف المنافق الذي عنده كفر في قلبه، هذا في الدرك الأسفل من النار.
ومعلوم أنه ليس من لم يكن كذلك، لا يكون منافقًا من أهل الدرك الأسفل من النار، بل لا يكون قد أتى بالإيمان الواجب؛ يعني الذي نُفي عنه الإيمان لا يجب أن يُنفى عنه أصلُ الإيمان، بل عنده أصلُ الإيمان، ولكن نُفى عنه الإيمان؛ لأنه لم يأتِ بالإيمان الواجب، فنُفي عنه كما يُنفى سائر الأسماء عمَّن تركَ ما يجبُ عليه، عما يجبُ فيها.
مثل قوله عليه الصلاةُ والسلام: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُو مُؤْمِنٌ([9]) نفَى عنه الإيمان؛ لأنه لم يتم الإيمان الواجب. لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ([10])، «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»([11])، مثل ما تُنفى الصلاة عمن ترك واجبًا، أو ركنًا، مَن لم يأتِ بالواجب مثلًا، لم يصلِّ، يعني: لم يصلِّ صلاةً كاملة.
فنفيُ الإيمان عن العاصي كما يُنفى سائر العصمة عمَّن تركَ ما يجبُ فيها، فكذلك الأعرابُ نُفي عنهم الإيمان؛ لأنهم لم يأتوا بالإيمان الواجب، فنُفي عنهم لذلك، وإن كانوا مسلمين، معهم من الإيمان ما يُثابون عليه؛ لأن الإسلام لابد له من إيمان يُصحِّحه، وهو أصلُ الإيمان، نعم.
(المتن)
وَهَذَا حَالُ أَكْثَرِ الدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ ابْتِدَاءً؛ بَلْ حَالُ أَكْثَرِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقَائِقَ الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا قُوتِلَ حَتَّى أَسْلَمَ كَمَا كَانَ الْكُفَّارُ يُقَاتِلُونَ حَتَّى يُسْلِمُوا، أَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْأَسْرِ، أَوْ سَمِعَ بِالْإِسْلَامِ فَجَاءَ فَأَسْلَمَ؛ فَإِنَّهُ مُسْلِمٌ مُلْتَزِمٌ طَاعَةَ الرَّسُولِ وَلَمْ تَدْخُلْ إلَى قَلْبِهِ الْمَعْرِفَةُ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَحْصُلُ لِمَنْ تَيَسَّرَتْ لَهُ أَسْبَابُ ذَلِكَ؛ إمَّا بِفَهْمِ الْقُرْآنِ وَإِمَّا بِمُبَاشَرَةِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالِاقْتِدَاءِ بِمَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ، وَإِمَّا بِهِدَايَةِ خَاصَّةٍ مِنْ اللَّهِ يَهْدِيهِ بِهَا.
وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَظْهَرُ لَهُ مِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ مَا يَدْعُوهُ إلَى الدُّخُولِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ وُلِدَ عَلَيْهِ وَتَرَبَّى بَيْنَ أَهْلِهِ فَإِنَّهُ يُحِبُّهُ فَقَدْ ظَهَرَ لَهُ بَعْضُ مَحَاسِنِهِ وَبَعْضُ مَسَاوِئِ الْكُفَّارِ. وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ يَرْتَابُ إذَا سَمِعَ الشُّبَهَ الْقَادِحَةَ فِيهِ وَلَا يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ فَلَيْسَ هُوَ دَاخِلًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الحجرات: 15].
وَلَيْسَ هُوَ مُنَافِقًا فِي الْبَاطِنِ مُضْمِرًا لِلْكُفْرِ فَلَا هُوَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا وَلَا هُوَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَلَا هُوَ أَيْضًا مِنْ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ بَلْ يَأْتِي بِالطَّاعَاتِ الظَّاهِرَةِ وَلَا يَأْتِي بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا؛ فَهَذَا مَعَهُ إيمَانٌ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا وَيُثَابُ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ الطَّاعَاتِ.
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14] وَلِهَذَا قَالَ: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات: 17] يَعْنِي فِي قَوْلِكُمْ: آمَنَّا.
يَقُولُ: إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَاَللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ؛ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ قَدْ يَكُونُونَ صَادِقِينَ فِي قَوْلِهِمْ: آمَنَّا.
ثُمَّ صَدَقَهُمْ إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ اتِّصَافُهُمْ بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15] وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا كَالْمُنَافِقِينَ بَلْ مَعَهُمْ إيمَانٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَدَّعُوا مُطْلَقَ الْإِيمَانِ.
وَهَذَا أَشْبَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ؛ لِأَنَّ النِّسْوَةَ الْمُمْتَحِنَاتِ قَالَ فِيهِنَّ: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ [الممتحنة: 10] وَلَا يُمْكِنُ نَفْيُ الرَّيْبِ عَنْهُنَّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلِأَنَّ اللَّهَ إنَّمَا كَذَّبَ الْمُنَافِقِينَ وَلَمْ يُكَذِّبْ غَيْرَهُمْ؛ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يُكَذِّبْهُمْ وَلَكِنْ قَالَ: لَمْ تُؤْمِنُوا كَمَا قَالَ: لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ([12]) وَقَوْلُهُ: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ([13]) وَ لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ([14]) وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مُنَافِقِينَ.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله لا يزال يبين الأدلة التي تدل على أن الأعراب الذين نُفي عنهم الإيمان ليسوا منافقين، وإنما نُفي عنهم حقيقة الإيمان، يقول المؤلف رحمه الله: "وَهَذَا حَالُ أَكْثَرِ الدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ ابْتِدَاءً؛ بَلْ حَالُ أَكْثَرِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقَائِقَ الْإِيمَانِ"، يعني أكثر الداخلين في الإسلام ابتداءً، لا تدخل حقيقة الإيمان في قلوبهم، يُكون عندهم أصلُ الإيمان، ولكن يحتاجون إلى فترة حتى تثبت حقيقة الإيمان في قلوبهم لأسباب، لأسباب كما بيَّن المؤلف لمباشرة أهل الإيمان، والاقتداء بما يصدر منهم، أو بهداية خاصة من الله.
ولهذا قال المؤلف: "بَلْ حَالُ أَكْثَرِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقَائِقَ الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا قُوتِلَ حَتَّى أَسْلَمَ كَمَا كَانَ الْكُفَّارُ يُقَاتِلُونَ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْأَسْرِ أَوْ سَمِعَ بِالْإِسْلَامِ فَجَاءَ فَأَسْلَمَ؛ فَإِنَّهُ مُسْلِمٌ مُلْتَزِمٌ طَاعَةَ الرَّسُولِ وَلَمْ تَدْخُلْ إلَى قَلْبِهِ الْمَعْرِفَةُ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ"، وهذا معلوم الكافر إذا قوتل ثم أسلم، دخل في الإسلام ابتداءً، ولم تباشر حقيقة الإيمان في قلبه، يحتاج إلى فترة حتى يتعلم، ويتفقه، ويتبصر، ويخالف أهل الإيمان.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "بَلْ حَالُ أَكْثَرِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقَائِقَ الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا قُوتِلَ حَتَّى أَسْلَمَ كَمَا كَانَ الْكُفَّارُ يُقَاتِلُونَ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْأَسْرِ أَوْ سَمِعَ بِالْإِسْلَامِ فَجَاءَ فَأَسْلَمَ؛ فَإِنَّهُ مُسْلِمٌ مُلْتَزِمٌ طَاعَةَ الرَّسُولِ"، يعني عنده أصلُ الإيمان الذي يُصحح إسلامه، "وَلَمْ تَدْخُلْ إلَى قَلْبِهِ الْمَعْرِفَةُ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ فَإِنَّ هَذَا"يعني حقائق الإيمان" إنَّمَا يَحْصُلُ لِمَنْ تَيَسَّرَتْ لَهُ أَسْبَابُ ذَلِكَ؛ إمَّا بِفَهْمِ الْقُرْآنِ وَإِمَّا بِمُبَاشَرَةِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالِاقْتِدَاءِ بِمَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ وَإِمَّا بِهِدَايَةِ خَاصَّةٍ مِنْ اللَّهِ يَهْدِيهِ بِهَا".
وما ذكره المؤلف رحمه الله واضح، قال المؤلف: "وَلَمْ تَدْخُلْ إلَى قَلْبِهِ الْمَعْرِفَةُ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَحْصُلُ لِمَنْ تَيَسَّرَتْ لَهُ أَسْبَابُ ذَلِكَ؛ إمَّا بِفَهْمِ الْقُرْآنِ وَإِمَّا بِمُبَاشَرَةِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالِاقْتِدَاءِ بِمَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ وَإِمَّا بِهِدَايَةِ خَاصَّةٍ مِنْ اللَّهِ يَهْدِيهِ بِهَا"، فليس هو داخلًا في الآية، ليس من المؤمنين حقًا، وليس من المنافقين.
ولهذا قال المؤلف: "فَلَيْسَ هُوَ دَاخِلًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الحجرات: 15] "، وهؤلاء هم المؤمنون الكُمل الذين حققوا إيمانهم بالعمل الصالح، والجهاد، والإيمان بالله ورسوله، وعدم الريب والشك، والجهاد بالمال والنفس، وليس هو منافقًا في الباطن مُضمرًا للكفر، ليس من هؤلاء، وليس من هؤلاء، ليس منافقًا، وليس هو كامل الإيمان، بل هو مؤمنٌ عنده أصلُ الإيمان، ولكنه لم يرتقِ إلى الكمال.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَلَا هُوَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا وَلَا هُوَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ" لا هو من المؤمنين حقًا الذين أتوا بالواجبات، وتركوا المحرمات، وأتوا بحقائق الإيمان، وباشر الإيمان قلوبهم، ولا هو من المنافقين، ولا هو من أصحاب الكبائر، يعني ما يعمل الكبائر، بل يأتي بالطاعات الظاهرة، ولا يأتي بحقائق الإيمان التي يكونُ بها من المؤمنين حقًا، إذًا ماذا يكون؟ ليس من المؤمنين الكُمل، وليس من المنافقين، وليس من العُصاة الذين فعلوا الكبائر، يكونون قسمٌ رابع، القسم الرابع ما فعل الكبائر، ولا دخل الإيمان في قلبه، ولكنه لم يأتِ بحقائق الإيمان، يحتاج إلى فترة، ويحتاج إلى من يكون سببًا في مباشرة حقائق بقلبه، فهو يأتي بالطاعات الظاهرة يُصلي، ويصوم، ولكنه لم يأتي بحقائق الإيمان.
ولهذا قال المؤلف: "بَلْ يَأْتِي بِالطَّاعَاتِ الظَّاهِرَةِ وَلَا يَأْتِي بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا" فهم الكُمل، يقول: "فَهَذَا مَعَهُ إيمَانٌ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا وَيُثَابُ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ الطَّاعَاتِ"، وإن كان ضعيف الإيمان، ومعه أصل الإيمان يُثاب؛ لأن الطاعات يصحها الإيمان، إذا كان أصل الإيمان موجود، فإن الطاعات تصحح هذا الإيمان، ويُثاب عليها، بخلاف المنافقين، فالمنافق لا يُثاب، الكافر لا يُثاب على أي عمل يعمله، ولو كان طاعة، إذا فعل الكافر طاعة هو يُثاب عليها في الدنيا: صحةً في بدنه، أو مالًا، أو جاهًا، ثم يُفْضِي إلى الآخرة: ولا حسنة له -نعوذ بالله-.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَهَذَا مَعَهُ إيمَانٌ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا وَيُثَابُ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ الطَّاعَاتِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14] " أثبتَ لهم الإسلام، فدلَّ على أنهم ليسوا منافقين؛ "وَلِهَذَا قَالَ: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات: 17] يَعْنِي فِي قَوْلِكُمْ: آمَنَّا. يَقُولُ: إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَاَللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ؛ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ قَدْ يَكُونُونَ صَادِقِينَ فِي قَوْلِهِمْ: آمَنَّا. ثُمَّ صَدَقَهُمْ" بماذا يحصل؟
يقول المؤلف: "ثُمَّ صَدَقَهُمْ إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ اتِّصَافُهُمْ بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15] وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا كَالْمُنَافِقِينَ" يعني صدقهم يكون بفعلِ الواجبات التي يكون بها قد حقق الإيمان؛ كالإيمان بالله ورسوله، وعدم الريب والشك، والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس، وإما أن يُراد به أنهم لم يكونوا كالمنافقين، ليس عندهم كذب في قلوبهم.
"بَلْ مَعَهُمْ إيمَانٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَدَّعُوا مُطْلَق يعني الإيمان المطلق الكامل "وَهَذَا أَشْبَهُ "، الأشبه يعني، وهذا أقرب يعني للصواب، الأقرب: أنهم معهم إيمان، ولكنهم لم يصلوا إلى كمال الإيمان؛ "لِأَنَّ النِّسْوَةَ الْمُمْتَحِنَاتِ قَالَ فِيهِنَّ: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ [الممتحنة: 10]"، يعني في سورة الممتحنة قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ [الممتحنة: 10]، " قَالَ فِيهِنَّ: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ [الممتحنة: 10] وَلَا يُمْكِنُ نَفْيُ الرَّيْبِ عَنْهُنَّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ"، قد يكون عندهم شك في المستقبل.
"وَلِأَنَّ اللَّهَ إنَّمَا كَذَّبَ الْمُنَافِقِينَ وَلَمْ يُكَذِّبْ غَيْرَهُمْ"، قال: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون: 1]، والله كذب المنافقين، لم يكذب غيرهم، وهؤلاء العرب ليسوا منافقين، لم يكذبهم الله في قولهم: آمَنَّا. وهؤلاء.
ولهذا قال المؤلف: "وَهَؤُلَاءِ لَمْ يُكَذِّبْهُمْ وَلَكِنْ قَالَ: لَمْ تُؤْمِنُوا كَمَا قَالَ: لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ([15])"، يعني نفى الإيمان عمن لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
القارئ: نفى الإيمان الكامل؟
الشيخ: المراد الإيمان الكامل، يعني نُفي عنهم، نفى النبي ﷺ الإيمان عمن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، الكامل، يعني الواجب، نفي الإيمان الكامل المستحب، كمال الواجب.
ومثله "وَقَوْلُهُ: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ([16]) وَ لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ([17]) وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مُنَافِقِينَ"، عُصاة، فكذلك هؤلاء الأعراب نُفى عنهم الإيمان كما نُفى عن هؤلاء، لا لأنهم منافقين، بل لأنهم بعدوا عن أصل الإيمان، ولم يأتوا بالإيمان الواجب الذي يستحقون به دخول الجنة، والنجاة من النار، وهو أداءُ الواجبات، وترْكُ المحرمات، نعم.
القارئ: والمؤلف في هذا يسوق الأدلة ليثبت أن السلف رحمهم الله يعني عندما يقولون بأن هذا يعني يفرقون بين الإيمان الكامل، والإيمان الواجب، وأيضًا إذا نُفى الإيمان عن الشخص، فلا يعني نفي كامل الإيمان، وبالتالي هذا مُراد المؤلف رحمه الله بسياق الأدلة.
الشيخ: نعم، مراده أن يُبين أن نفي الإيمان عن الأعراب الذين دخلوا في الإسلام ليس معناه أنهم منافقون، بل نُفى عنهم كمالُ الإيمان، وإن كان معهم أصلُ الإيمان، مثل كما نُفى الإيمان عن بعض العُصاة، نُفى الزاني، وعمن لا يأمن جاره بوائقه، وكما نُفى الإيمان عمن لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ليس معنى ذلك أنهم كفار، بل معهم أصلُ الإيمان، ولكن نُفي عنهم كمالُ الإيمان، كمال الإيمان الواجب الذي يستحقون به دخول الجنة، والنجاة من النار.
القارئ: وبالتالي فيه رد على
الشيخ: فيه رد على من قال أن هؤلاء الأعراب منافقين، كما قال البخاري وجماعة، قالوا: نُفي عنهم الإيمان، أصلُ الإيمان، والإسلام الذي أُسس لهم إسلامٌ في الظاهر؛ كإسلامُ المنافقين، المؤلف رحمه الله بيَّن من عدة وجوه أن هؤلاء الأعراب ليسوا منافقين؛ لأن الله أثبت لهم الإسلام.
القارئ: لكن هذه الآية تمسك بها أيضًا بعض المبتدعة في ماذا يا شيخ تمسكوا بها؟ في الاستدلال بماذا؟
الشيخ: تمسك بها الإمام البخاري وجماعة، ومن وافقه في أن من، في أن الإيمان والإسلام شيءٌ واحد، وأن من نُفى عنه الإيمان نُفى عنه الإسلام.
القارئ: هذا فيما استدلوا به رحمهم الله، لكن أيضًا مثل المُرجئة، وغيرهم استدلوا بهذه الآية في شيء يخص الإيمان؟
الشيخ: المُرجئة يقولون الأعمال لا تدخلُ في مُسمى الإيمان، لا هو يعني تمسك بها الإمام البخاري وجماعة، وأفراد المعتزلة الذين يقولون أن الإيمان هو الإسلام شيءٌ واحد، إذا نُفى الإيمان، إذا نُفى الإسلام نُفى الإيمان، قالوا: هذا نُفى عنه الإيمان، فدل على أن الإسلام منفي عنه.
فالمؤلف يقول: لا الإسلام مثبت لهم، وإن كان الإيمان نُفى عنهم، يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا [الحجرات: 17]، فلما أثبت لهم طاعة، وأثبت لهم ثواب إذا فعلوا الطاعة، فدل على أنهم ليسوا منافقين، وأن الإيمان والإسلام ليسا شيئًا واحدًا، نعم.
([1]) –لم اهتد اليه
([2]) – سبق تخريجه (000)
([3]) – سبق تخريجه (000) واستقامة جوارحه، فالمعرفة لأسماء الله وصفاته وأفعاله توجب للعبد التمييز بين الإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، والإقرار والتعطيل، وتنزيه الرب عما لا يليق به ووصفه بما هو أهله من الجلال والإكرام. واستقامة جوارحه، فالمعرفة لأسماء الله وصفاته وأفعاله توجب للعبد التمييز بين الإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، والإقرار والتعطيل، وتنزيه الرب عما لا يليق به ووصفه بما هو أهله من الجلال والإك
([4]) – أخرجه البخاري رقم (6407) ، ومسلم رقم (779) واللفظ للبخاري من حديث أبي موسى الأشعري .
([5]) – سبق تخريجه (...)
([6]) – أخرجه البخاري رقم (27 و1478)، ومسلم رقم (150) من حديث سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص .
([7]) – سبق تخريجه (...)
([8]) – سبق تخريجه (...)
([9]) – سبق تخريجه
([10]) – أخرجه البخاري رقم (6016) عن أبي شريح بلفظ : وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ ومسلم رقم (46) عن أبي هريرة بلفظ : لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ.
([11]) – سبق تخريجه
([12]) – سبق تخريجه
([13]) – سبق تخريجه
([14]) – سبق تخريجه
([15]) – سبق تخريجه .
([16]) – سبق تخريجه .
([17]) – سبق تخريجه .