(المتن)
قال رحمه الله:
وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ ذَمَّهُمْ لِكَوْنِهِمْ مَنَّوْا بِإِسْلَامِهِمْ لِجَهْلِهِمْ وَجَفَائِهِمْ وَأَظْهَرُوا مَا فِي أَنْفُسِهِمْ مَعَ عِلْمِ اللَّهِ بِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [الحجرات: 16] فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي قُلُوبِهِمْ شَيْءٌ مِنْ الدِّينِ لَمْ يَكُونُوا يُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِهِمْ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ الظَّاهِرَ يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ. وَدَخَلَتْ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ لِأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى يُخْبِرُونَ وَيُحَدِّثُونَ كَأَنَّهُ قَالَ: أَتُخْبِرُونَهُ وَتُحَدِّثُونَهُ بِدِينِكُمْ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ.
وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي أَخْبَرُوا بِهِ اللَّهَ هُوَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: آمَنَّا فَإِنَّهُمْ أَخْبَرُوا عَمَّا فِي قُلُوبِهِمْ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ: "هَاتَانِ الْآيَتَانِ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَحْلِفُونَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ صَادِقُونَ فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ".
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا صَادِقِينَ أَوَّلًا فِي دُخُولِهِمْ فِي الدِّينِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَجَدَّدْ لَهُمْ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ جِهَادٌ حَتَّى يَدْخُلُوا بِهِ فِي الْآيَةِ إنَّمَا هُوَ كَلَامٌ قَالُوهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَالَ: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَلَفْظُ: لَمَّا يَنْفِي بِهِ مَا يَقْرُبُ حُصُولُهُ وَيَحْصُلُ غَالِبًا كَقَوْلِهِ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ [آل عمران: 142].
وَقَدْ قَالَ السدي: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَعْرَابِ مزينة وَجُهَيْنَةَ وَأَسْلَمَ وَأَشْجَعَ وَغِفَارٍ وَهُمْ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ وَكَانُوا يَقُولُونَ: آمَنَّا بِاَللَّهِ لِيَأْمَنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَلَمَّا اسْتَنْفَرُوا إلَى الْحُدَيْبِيَةِ تَخَلَّفُوا؛ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ.
(الشرح)
والحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
فإن المؤلف رحمه الله يبيِّن، لا يزال يبيِّن أن الأعراب الذين نفى الله عنهم الإيمان في سورة الحجرات في قوله: قالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14]، أن هذا الإيمان، هذا الإسلام، هذا الإيمان الذي نُفى عنهم الإيمانُ الكامل الذي يستحقون به دخول الجنة، والنجاة من النار، كما نُفى عن العُصاة، وأنهم ليسوا منافقين، وليس الإسلام الذي أُثبت لهم إسلامٌ في الظاهر كما قاله بعضُ، كما قاله بعض أهل السنة؛ كالإمام البخاري، وكما ذهب إليه الخوارج والمعتزلة إلى أن الإسلام والإيمان شيءٌ واحد.
فالمؤلف يقرر أن الإيمان هو الإسلام ليس شيئًا واحدًا، بل الإيمان والإسلام إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، فإذا أُطلق الإسلام دخل فيه الإيمان، وإذا أُطلق الإيمان دخل فيه الإسلام، وإذا اجتمع فُسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، وفُسر الإيمان بالأعمال الباطنة، كما في حديث جبريل، فإنه لما سأل النبي ﷺ عن الإسلام فُسر بالأعمال الظاهرة، ولما سأل عن الإيمان فُسر بالأعمال الباطنة.
فالمؤلف رحمه الله يبيِّن أن هؤلاء الأعراب الذين نُفى عنهم الإيمان ليسوا منافقين، وليس الإيمان، ولا يلزم من نفي الإيمان نفي الإسلام؛ لأن الإيمان والإسلام ليس شيئًا واحدًا، خلافًا لما قال أنه شيء واحد؛ كالخوارج والمعتزلة، ومن وافقهم من أهل السنة؛ كالإمام البخاري وجماعة.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ ذَمَّهُمْ لِكَوْنِهِمْ مَنَّوْا بِإِسْلَامِهِمْ لِجَهْلِهِمْ وَجَفَائِهِمْ وَأَظْهَرُوا مَا فِي أَنْفُسِهِمْ مَعَ عِلْمِ اللَّهِ بِهِ"، لهذا قال: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا [الحجرات: 17]، فهم منوا بإسلامهم بسبب جهلهم وجفائهم، وأظهروا ما في أنفسهم مع علم الله به، " فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [الحجرات: 16]"، يقول المؤلف رحمه الله: "فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي قُلُوبِهِمْ شَيْءٌ مِنْ الدِّينِ لَمْ يَكُونُوا يُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِهِمْ"، أثبت لهم دينًا في قلوبهم، قال: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ [الحجرات: 16]. فلو لم يكن في قلوبهم شيء من الدين لم يكونوا يعلمون الله بدينهم.
يقول المؤلف رحمه الله: "فَإِنَّ الْإِسْلَامَ الظَّاهِرَ يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ"، الإسلام الظاهر، يكون مستسلم في الظاهر، الذي يراه كلُ أحد، لكن الدين الذي في القلب هذا لا يعلمه إلا الله، "وَدَخَلَتْ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ لِأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى يُخْبِرُونَ وَيُحَدِّثُونَ".
يشير المؤلف رحمه الله إلى أن علم ما تتعدى بالباء، علم وعلم، لكن إذا ضُمن الفعل معنى فعلٍ آخر يتعدى بالباء جاز دخول الباء عليه، قال: أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ، أي أتخبرون الله وتحدثون بدينكم، فضُمن معنى تعلمون، يُخبرون ويُحدثون، ولهذا دخلت الباء هنا، أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ.
قال: "كَأَنَّهُ قَالَ: أَتُخْبِرُونَهُ وَتُحَدِّثُونَهُ بِدِينِكُمْ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ".
يقول المؤلف رحمه الله: "وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي أَخْبَرُوا بِهِ اللَّهَ هُوَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: آمَنَّا فَإِنَّهُمْ أَخْبَرُوا عَمَّا فِي قُلُوبِهِمْ"، والإيمانُ والدين شيءٌ واحد.
يقول المؤلف رحمه الله: " وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحجرات: 16]، قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14]، أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَحْلِفُونَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ صَادِقُونَ فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا صَادِقِينَ أَوَّلًا فِي دُخُولِهِمْ فِي الدِّينِ"، كانوا صادقين في دخولهم في الدين، ولكنهم ليسوا صادقين في زعمهم أن حقائق الإيمان دخلت قلوبهم، فهم صادقون في أن أصل الإيمان معهم، وليسوا صادقين في زعمهم أن حقيقة الإيمان دخلت قلوبهم، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا صَادِقِينَ أَوَّلًا فِي دُخُولِهِمْ فِي الدِّينِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَجَدَّدْ لَهُمْ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ جِهَادٌ حَتَّى يَدْخُلُوا بِهِ فِي الْآيَةِ إنَّمَا هُوَ كَلَامٌ قَالُوهُ".
يعني: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14] نفى الله عنهم حقيقة الإيمان، وأثبت لهم الإسلام، والإسلام لابد له من إيمانٍ يصححه، ثم لم يتجدد لهم بعد نزول هذه الآية الجهاد، ما جاهدوا حتى يدخلوا حقيقة الإيمان، وإنما هو كلامٌ قالوه، ولهذا قال الله: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] حتى الآن ما دخلت حقيقة الإيمان في قلوبهم، ولم يدخل الإيمان في قلوبكم، ولفظُ وَلَمَّايُنفى به ما يقرب دخوله، ويحصل غالبًا.
يعني لما هي نفىٌ للشيء الذي لم يحصل، لكن يتوقع حصوله، مثل قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ [آل عمران: 142]، يعني ويتوقع أن يعلم الله، يعني فإن علم الله علم ظهور، وإلا فالله يعلم ما في قلوبهم، المراد علم ظهور، علم ظهوريُثابون عليه، علم ظهور يظهر للناس، هوالجهاد، وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ مثل قول القائل لما يُثمر بستاننا وقد أثمرت البساتين، يعني أثمرت البساتين ولم يثمر بستانه وهويتوقع أن يُثمر، فيُنفى بها ما يقربُ حصوله.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَقَدْ قَالَ السدي: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَعْرَابِ مزينة وَجُهَيْنَةَ وَأَسْلَمَ وَأَشْجَعَ وَغِفَارٍ وَهُمْ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ وَكَانُوا يَقُولُونَ: آمَنَّا بِاَللَّهِ لِيَأْمَنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَلَمَّا اسْتَنْفَرُوا إلَى الْحُدَيْبِيَةِ تَخَلَّفُوا؛ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ"، يعني السُدي يقول نزلت في هؤلاء الأعراب مزينة، وُجهينة وأسلم وأشجع وغفار لأنهم جُفاة، جُفاة دخلوا في الإسلام من جديد، ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم، ولم يدخل إلى قلوبهم حقائق الإيمان، ولهذا لما استنفروا إلى الحُديبية تخلفوا، ما جاء أحد منهم، ولو جاهدوا لكانوا مؤمنين حقًا، نعم.
(المتن)
وَعَنْ مُقَاتِلٍ: كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَكَانُوا إذَا مَرَّتْ بِهِمْ سَرِيَّةٌ مِنْ سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالُوا: آمَنَّا لِيَأْمَنُوا عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَلَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلَى الْحُدَيْبِيَةِ اسْتَنْفَرَهُمْ فَلَمْ يَنْفِرُوا مَعَهُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي أَعْرَابِ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَة ([1]) وَوَصَفَ غَيْرُهُ حَالَهُمْ. فَقَالَ: قَدِمُوا الْمَدِينَةَ فِي سَنَةٍ مُجْدِبَةٍ فَأَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَلَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَأَفْسَدُوا طُرُقَ الْمَدِينَةِ بِالْعَذِرَاتِ وَأَغْلَوْا أَسْعَارَهُمْ وَكَانُوا يَمُنُّونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَقُولُونَ: أَتَيْنَاك بِالْأَثْقَالِ وَالْعِيَالِ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَقَدْ قَالَ قتادة فِي قَوْلِهِ: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات: 17] قَالَ: مَنَّوْا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ حِينَ جَاءُوا فَقَالُوا: إنَّا أَسْلَمْنَا بِغَيْرِ قِتَالٍ لَمْ نُقَاتِلْك كَمَا قَاتَلَك بَنُو فُلَانٍ وَبَنُو فُلَانٍ فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ [الحجرات: 17].
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: هُمْ أَعْرَابُ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَة قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَيْنَاك بِغَيْرِ قِتَالٍ وَتَرَكْنَا الْعَشَائِرَ وَالْأَمْوَالَ وَكُلُّ قَبِيلَةٍ مِنْ الْعَرَبِ قَاتَلَتْك حَتَّى دَخَلُوا كُرْهًا فِي الْإِسْلَامِ؛ فَلَنَا بِذَلِكَ عَلَيْك حَقٌّ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات: 17]، فَلَهُ بِذَلِكَ الْمَنُّ عَلَيْكُمْ.
وَفِيهِمْ أَنْزَلَ اللَّهُ: وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد: 33] وَيُقَالُ: مِنْ الْكَبَائِرِ الَّتِي خُتِمَتْ بِنَارِ كُلُّ مُوجِبَةٍ مَنْ رَكِبَهَا وَمَاتَ عَلَيْهَا لَمْ يَتُبْ مِنْهَا. وَهَذَا كُلُّهُ يبيِّن أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا فِي الْبَاطِنِ؛ وَلَا كَانُوا قَدْ دَخَلُوا فِيمَا يَجِبُ مِنْ الْإِيمَانِ؛ وَسُورَةُ الْحُجُرَاتِ قَدْ ذَكَرَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافَ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الحجرات: 4] وَلَمْ يَصِفْهُمْ بِكُفْرِ وَلَا نِفَاقٍ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يُخْشَى عَلَيْهِمْ الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ وَلِهَذَا ارْتَدَّ بَعْضُهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُخَالِطْ الْإِيمَانُ بَشَاشَةَ قُلُوبِهِمْ وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ.
(الشرح)
يقول المؤلف رحمه الله، ذكر المؤلف رحمه الله أقوال أهل العلم في سبب نزول هذه الآيات من سورة الحجرات: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14]، نقل: "وَعَنْ مُقَاتِلٍ: أن هؤلاء الأعراب "كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَكَانُوا إذَا مَرَّتْ بِهِمْ سَرِيَّةٌ مِنْ سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالُوا: آمَنَّا لِيَأْمَنُوا عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَلَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلَى الْحُدَيْبِيَةِ اسْتَنْفَرَهُمْ فَلَمْ يَنْفِرُوا مَعَهُ".
المعنى أن معهم، المعنى أن معهم أصلُ الإيمان الذي يصحح إسلامهم، ولكنه، ولكنهم ليس معهم حقائق الإيمان، ولهذا لم يجاهدوا مع النبي ﷺ لما استنفرهم لم ينفروا معه، وذكر قول: "مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي أَعْرَابِ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَة وَوَصَفَ غَيْرُهُ حَالَهُمْ. فَقَالَ: قَدِمُوا الْمَدِينَةَ فِي سَنَةٍ مُجْدِبَةٍ فَأَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَلَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَأَفْسَدُوا طُرُقَ الْمَدِينَةِ بِالْعَذِرَاتِ وَأَغْلَوْا أَسْعَارَهُمْ" ويسببوا بذلك الفخاخ لهم، ولم تدخل حقائقُ الإيمان في قلوبهم، عندهم أصلُ الإيمان أسلموا، دخلوا في الإسلام من جديد، ولم تدخل حقائق الإيمان في قلوبهم، فلهذا حصل ما حصل منهم، بسبب ضعفِ إيمانهم، ولهذا أظهروا الإسلام، ولم يكونوا، وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات، وأغلوا أسعارهم.
"وَكَانُوا يَمُنُّونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَقُولُونَ: أَتَيْنَاك بِالْأَثْقَالِ وَالْعِيَالِ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ وَقَدْ قَالَ قتادة فِي قَوْلِهِ: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات: 17] قَالَ: مَنَّوْا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ حِينَ جَاءُوا فَقَالُوا: إنَّا أَسْلَمْنَا بِغَيْرِ قِتَالٍ لَمْ نُقَاتِلْك كَمَا قَاتَلَك بَنُو فُلَانٍ وَبَنُو فُلَانٍ"، فلهذا أنكر الله عليهم، "فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ [الحجرات: 17] . وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: هُمْ أَعْرَابُ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَة قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَيْنَاك بِغَيْرِ قِتَالٍ وَتَرَكْنَا الْعَشَائِرَ وَالْأَمْوَالَ وَكُلُّ قَبِيلَةٍ مِنْ الْعَرَبِ قَاتَلَتْك حَتَّى دَخَلُوا كُرْهًا فِي الْإِسْلَامِ؛ فَلَنَا بِذَلِكَ عَلَيْك حَقٌّ" هذا من مَنَّهم على الرسول ﷺ.
"فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات: 17]. فَلَهُ بِذَلِكَ الْمَنُّ عَلَيْكُمْ وَفِيهِمْ أَنْزَلَ اللَّهُ: وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد: 33] وَيُقَالُ: مِنْ الْكَبَائِرِ الَّتِي خُتِمَتْ بِنَارِ كُلُّ مُوجِبَةٍ مَنْ رَكِبَهَا وَمَاتَ عَلَيْهَا لَمْ يَتُبْ مِنْهَا"، مثل في قوله تعالى في أكل مال اليتيم: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النساء: 10]، فالمعصية التي خُتمت بنار تكون موجبة من ركبها ومات عليها يكون مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب، فيكون ضعيف الإيمان.
ومثل قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93]، فهذه الكبائر تُضعف الإيمان، فيكون صاحبها ضعيف الإيمان، ولكنه لا يخرج من الإيمان إذا لم يستحله، كذلك هؤلاء الأعراب عندهم ضعف الإيمان؛ كأهل الكبائر، إيمانهم ضعيف مثل أهل الكبائر.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَهَذَا كُلُّهُ يبيِّن أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا فِي الْبَاطِنِ؛ وَلَا كَانُوا قَدْ دَخَلُوا فِيمَا يَجِبُ مِنْ الْإِيمَانِ" يعني ليسوا كفارًا في الباطن كالمنافقين، وليس عندهم حقائق الإيمان الذي يكبرُ به إيمانهم" وَسُورَةُ الْحُجُرَاتِ قَدْ ذَكَرَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافَ" قد ذكرت أصناف من الناس كلهم عندهم نقص في الإيمان، وضعف الإيمان.
"فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحجرات: 4، 5]"، هؤلاء الجُفاة الذين جاءوا إلى النبي ﷺ، وجعلوا ينادونه بصوتٍ مرتفع، بعض القبائل من بني حنيفة وغيرهم، قالوا: يا محمد، اخرج إلينا، يا محمد، اخرج إلينا، أنكر الله عليهم، إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحجرات: 4، 5].
"وَلَمْ يَصِفْهُمْ بِكُفْرِ وَلَا نِفَاقٍ" لكنه ضعف إيمان، بسبب الجفاء، يقول المؤلف: " لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يُخْشَى عَلَيْهِمْ الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ وَلِهَذَا ارْتَدَّ بَعْضُهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُخَالِطْ الْإِيمَانُ بَشَاشَةَ قُلُوبِهِمْ"، إذًا ضعيفُ الإيمان يُخشى عليه من الردة؛ لأن ضعْفَ إيمانه قد يتسبب في خروجه من الإيمان، ولهذا ينبغي على الإنسان أن يقوي إيمانه؛ بالعمل الصالح، وأداءِ الواجبات، وتركِ المحرمات، وقال المؤلف رحمه الله: "وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ"، نعم.
(المتن)
وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6] الْآيَةَ وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ وَكَانَ قَدْ كَذَبَ فِيمَا أَخْبَرَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي "الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ لِيَقْبِضَ صَدَقَاتِهِمْ وَقَدْ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَسَارَ بَعْضَ الطَّرِيقِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: إنَّهُمْ مَنَعُوا الصَّدَقَةَ وَأَرَادُوا قَتْلِي فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْبَعْثَ إلَيْهِمْ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ".
وَهَذِهِ الْقِصَّةُ مَعْرُوفَةٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي تَمَامِهَا: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ [الحجرات: 7] وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى [الحجرات: 9] الْآيَةَ.
ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَسْخَرَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ وَعَنْ اللَّمْزِ وَالتَّنَابُزِ بِالْأَلْقَابِ وَقَالَ: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ [الحجرات: 11] وَقَدْ قِيلَ: مَعْنَاهُ: لَا تُسَمِّيهِ فَاسِقًا وَلَا كَافِرًا بَعْدَ إيمَانِهِ وَهَذَا ضَعِيفٌ بَلْ الْمُرَادُ: بِئْسَ الِاسْمُ أَنْ تَكُونُوا فُسَّاقًا بَعْدَ إيمَانِكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الَّذِي كَذَبَ: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6] فَسَمَّاهُ فَاسِقًا.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: سبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ([2])، يَقُولُ: فَإِذَا سَابَبْتُمْ الْمُسْلِمَ وَسَخِرْتُمْ مِنْهُ وَلَمَزْتُمُوهُ اسْتَحْقَقْتُمْ أَنْ تُسَمُّوا فُسَّاقًا وَقَدْ قَالَ فِي آيَةِ الْقَذْفِ: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور: 4].
يَقُولُ: فَإِذَا أَتَيْتُمْ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي تَسْتَحِقُّونَ بِهَا أَنْ تُسَمُّوا فُسَّاقًا كُنْتُمْ قَدْ اسْتَحْقَقْتُمْ اسْمَ الْفُسُوقِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَإِلَّا فَهُمْ فِي تَنَابُزِهِمْ مَا كَانُوا يَقُولُونَ: فَاسِقٌ كَافِرٌ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَبَعْضُهُمْ يُلَقِّبُ بَعْضًا.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله يبيِّن أن هؤلاء الأعراب الذين نُفي عنهم الإيمان، وأُثبت لهم الإسلام، وأن المراد به هو أن الإسلام إسلام صحيح، ولا ينفى عنه حقائق الإيمان من الأدلة على ذلك أن هذه الآية جاءت في سورة الحجرات، وسورة الحجرات تُسمى بسورة الآداب، وقد ذكر الله فيها أصنافًا من الناس عندهم ضعف الإيمان، فذكر في أولها الفاسق الذي يأتي بخبر، قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6]، والفاسق هذا ضعيفُ الإيمان.
"وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ وَكَانَ قَدْ كَذَبَ فِيمَا أَخْبَرَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ لِيَقْبِضَ صَدَقَاتِهِمْ وَقَدْ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَسَارَ بَعْضَ الطَّرِيقِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: إنَّهُمْ مَنَعُوا الصَّدَقَةَ وَأَرَادُوا قَتْلِي فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْبَعْثَ إلَيْهِمْ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
يعني هذا الوليد بن عقبة فاسق، "وَهَذِهِ الْقِصَّةُ مَعْرُوفَةٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي تَمَامِهَا: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ [الحجرات: 7]"، فذكر في أولها الفاسق الذي يأتي بنبأ، ثم ذَكرَ قتال المؤمنين فيما بينهم، وأن قتال المؤمنين معصية تُضْعِف الإيمان، ثم ذكر السخرية بالمؤمنين، مع أنَّ السخرية أيضًا تُضْعِفُ الإيمان، ثم ذكر بعد ذلك الأعراب..
فدلَّ على أن هذه السورة ذكر الله فيها أصنافًا من الناس، ضعفاء الإيمان، وليسوا كفرة، فكون أن هذه الآية جاءت في هذه السورة، والسورة ذكر الله فيها أصنافًا من الناس هذا مما يدل على أن إسلامهم إسلامٌ صحيح، وأنَّ الذي نُفي عنهم إنما هو كمال الإيمان، لا أصلُ الإيمان.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى [الحجرات: 9]" فهؤلاء ضعفاء الإيمان، ومع ذلك أثبت لهم أصلُ الإيمان، " وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى [الحجرات: 9] الْآيَةَ. ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَسْخَرَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ وَعَنْ اللَّمْزِ وَالتَّنَابُزِ بِالْأَلْقَابِ وَقَالَ: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ [الحجرات: 11] "، فالتنابز بالألقاب، والسخرية واللمز هذا فسوق يُضعف الإيمان.
قال المؤلف رحمه الله: "وَقَدْ قِيلَ: مَعْنَاهُ: لَا تُسَمِّيهِ فَاسِقًا وَلَا كَافِرًا بَعْدَ إيمَانِهِ وَهَذَا ضَعِيفٌ بَلْ الْمُرَادُ: بِئْسَ الِاسْمُ أَنْ تَكُونُوا فُسَّاقًا بَعْدَ إيمَانِكُمْ"، يعني تكونوا فُساقًا بالسخرية والهمز واللمز، "كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الَّذِي كَذَبَ: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6] فَسَمَّاهُ فَاسِقًا. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: سبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْر([3])" فالفسوق يضعف الإيمان.
"يَقُولُ: فَإِذَا سَابَبْتُمْ الْمُسْلِمَ وَسَخِرْتُمْ مِنْهُ وَلَمَزْتُمُوهُ اسْتَحْقَقْتُمْ أَنْ تُسَمُّوا فُسَّاقًا وَقَدْ قَالَ فِي آيَةِ الْقَذْفِ: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور: 4] " ، هو قال ليس كافرًا، وإنما هو ضعيف الإيمان، "يَقُولُ: فَإِذَا أَتَيْتُمْ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي تَسْتَحِقُّونَ بِهَا أَنْ تُسَمُّوا فُسَّاقًا كُنْتُمْ قَدْ اسْتَحْقَقْتُمْ اسْمَ الْفُسُوقِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَإِلَّا فَهُمْ فِي تَنَابُزِهِمْ مَا كَانُوا يَقُولُونَ: فَاسِقٌ كَافِرٌ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَبَعْضُهُمْ يُلَقِّبُ بَعْضًا".
مقصود المؤلف رحمه الله أن هؤلاء الأعراب ضعفاء الإيمان، ويدل على ذلك سياق الآيات، السباقٌ لحق، فما ذكره الله في من أوصافهم يدل على أنهم مسلمون، وإن كان إيمانهم ضعيف، وما ذكر الله قبلهم من العُصاة الذين سماهم، وصفهم باسم الفسق يدل على أنهم مؤمنون عندهم أصل الإيمان، نعم.
(المتن)
وَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَا تُسَمِّيهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِدِينِهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَقَوْلِهِ لِلْيَهُودِيِّ إذَا أَسْلَمَ: يَا يَهُودِيُّ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ كَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ والقرظي وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ: يَا كَافِرُ يَا مُنَافِقُ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: هُوَ تَسْمِيَةُ الرَّجُلِ بِالْأَعْمَالِ كَقَوْلِهِ: يَا زَانِي يَا سَارِقُ يَا فَاسِقُ.
وَفِي تَفْسِيرِ العوفي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ تَعْيِيرُ التَّائِبِ بِسَيِّئَاتِ كَانَ قَدْ عَمِلَهَا.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ اسْمَ الْكُفْرِ وَالْيَهُودِيَّةِ وَالزَّانِي وَالسَّارِقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ السَّيِّئَاتِ لَيْسَتْ هِيَ اسْمَ الْفَاسِقِ فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ [الحجرات: 11] لَمْ يُرِدْ بِهِ تَسْمِيَةَ الْمَسْبُوبِ بِاسْمِ الْفَاسِقِ فَإِنَّ تَسْمِيَتَهُ كَافِرًا أَعْظَمُ بَلْ إنَّ السَّابَّ يَصِيرُ فَاسِقًا لِقَوْلِهِ: سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ([4]).
ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات: 11] فَجَعَلَهُمْ ظَالِمِينَ إذَا لَمْ يَتُوبُوا مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانُوا يَدْخُلُونَ فِي اسْمِ الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ ذَكَرَ النَّهْيَ عَنْ الْغِيبَةِ ثُمَّ ذَكَرَ النَّهْيَ عَنْ التَّفَاخُرِ بِالْأَحْسَابِ وَقَالَ: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13].
ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ الْأَعْرَابِ: آمَنَّا. فَالسُّورَةُ تَنْهَى عَنْ هَذِهِ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ الَّتِي فِيهَا تَعَدٍّ عَلَى الرَّسُولِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَالْأَعْرَابُ الْمَذْكُورُونَ فِيهَا مِنْ جِنْسِ الْمُنَافِقِينَ أَهْلُ السِّبَابِ.
الشيخ: جنس ايش؟
القارئ: جنس المنافقين وأهل السباب.
الشيخ: هذه خطأ
القارئ: نعم، " فَالْأَعْرَابُ الْمَذْكُورُونَ فِيهَا مِنْ جِنْسِ الْمُنَافِقِينَ وَأَهْلُ السِّبَابِ وَالْفُسُوقِ وَالْمُنَادِينَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ"
الشيخ: كم جنس أهل السباب والفسوق.
(المتن)
(الشرح)
المؤلف رحمه الله لا يزال يقرر أن هؤلاء الأعراب الذين نُفى عنهم الإيمان، وأُثبت لهم الإسلام، أنه إسلامٌ صحيح، وليس إسلام المنافقين، وأن الإيمان الذي أسس لهم هو أصلُ الإيمان، والمؤلف رحمه الله أطال النفس في هذا؛ لأن المسألة فيها مُختلف فيها، والخلافُ فيها قول.
ولهذا قال المؤلف: "وَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ" يعني في قول: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ [الحجرات: 11].
"لَا تُسَمِّيهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِدِينِهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَقَوْلِهِ لِلْيَهُودِيِّ إذَا أَسْلَمَ: يَا يَهُودِيُّ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ"، " وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ: يَا كَافِرُ يَا مُنَافِقُ"؛ يعني يقصد بعد أن منَّ الله عليه بالتوبة، يقصد لاه تعايره بذنبه،؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
"وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: هُوَ تَسْمِيَةُ الرَّجُلِ بِالْأَعْمَالِ كَقَوْلِهِ: يَا زَانِي يَا سَارِقُ يَا فَاسِقُ وَفِي تَفْسِيرِ العوفي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ تَعْيِيرُ التَّائِبِ بِسَيِّئَاتِ كَانَ قَدْ عَمِلَهَا"يقول المؤلف رحمه الله: "وَمَعْلُومٌ أَنَّ اسْمَ الْكُفْرِ وَالْيَهُودِيَّةِ وَالزَّانِي وَالسَّارِقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ السَّيِّئَاتِ لَيْسَتْ هِيَ اسْمَ الْفَاسِقِ فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ [الحجرات: 11] لَمْ يُرِدْ بِهِ تَسْمِيَةَ الْمَسْبُوبِ بِاسْمِ الْفَاسِقِ فَإِنَّ تَسْمِيَتَهُ كَافِرًا أَعْظَمُ بَلْ إنَّ السَّابَّ يَصِيرُ فَاسِقًا".
فالمقصود بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ [الحجرات: 11] يعني: السَّابَّ، السَّابُّ وهو الذي يكون فاسقًا؛ لأنه هو الذي فعل المعصية، وليس المراد به تسميته باسم الفاسق، ليس المراد أنه يُسمِّي المسبوب باسم الفاسق، بل إنه بِسَبِّه إذا سَبَّ؛ بهذا السَّبِّ يكون فاسقًا.
ولهذا في قوله ﷺ: سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ([5])، " ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات: 11] فَجَعَلَهُمْ ظَالِمِينَ إذَا لَمْ يَتُوبُوا مِنْ ذَلِكَ" والظالم هو الفاسق بمعنى واحد، فهو ظالم ظلم نفسه بالمعاصي، وهو فاسق لخروجه عن طاعة الله، "وَإِنْ كَانُوا يَدْخُلُونَ فِي اسْمِ الْمُؤْمِنِينَ"، يعني أصل الإيمان، معه أصل الإيمان، لكن موصوفٌون بالظلم بسبب تعديهم وفعلهم المعاصي، موصوفون بالمعاصي وموصوفون بالفسق.
"ثُمَّ ذَكَرَ النَّهْيَ عَنْ الْغِيبَةِ ثُمَّ ذَكَرَ النَّهْيَ عَنْ التَّفَاخُرِ بِالْأَحْسَابِ" ففاعل الغيبة ضعيف الإيمان، ناقص الإيمان، "وَقَالَ: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13]. ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ الْأَعْرَابِ:آمَنَّا" فتدلُ على أن السورة كلها على وتيرة واحدة.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَالسُّورَةُ تَنْهَى عَنْ هَذِهِ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ الَّتِي فِيهَا تَعَدٍّ عَلَى الرَّسُولِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ"، من ذلك أولًا قد ذكر الفاسق الذي يأتي بالنبأ تعدي على النبي ﷺ، وقال إنهم منعوا الصدقة، وأرادوا قتلي، ثم ذكر قتال المؤمنين، ثم ذكر بعد ذلك التفاخر بالأحساب والهمز واللمز، ثم ذكر الغيبة والنميمة، ثم ذكر الأعراب، فالأعراب من جنسهم، من جنس هؤلاء العُصاة، ضعفاء الإيمان.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَالْأَعْرَابُ الْمَذْكُورُونَ فِيهَا مِنْ جِنْسِ وَأَهْلُ السِّبَابِ وَالْفُسُوقِ وَالْمُنَادِينَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ وَأَمْثَالُهُمْ لَيْسُوا مِنْ الْمُنَافِقِينَ"، يعني كما قاله البخاري رحمه الله وجماعة، ليسوا كما قاله الخوارج والمعتزلة ليسوا من المنافقين؛ كما قال الخوارج والمعتزلة وبعض أهل السُنة. "وَلِهَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إنَّهُمْ الَّذِينَ اُسْتُنْفِرُوا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَأُولَئِكَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فَلَمْ يَكُونُوا فِي الْبَاطِنِ كُفَّارًا مُنَافِقِينَ"، نعم.
(المتن)
قال رحمه الله:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: لَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْعُمْرَةَ - عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ - اسْتَنْفَرَ مَنْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي وَالْأَعْرَابِ لِيَخْرُجُوا مَعَهُ خَوْفًا مِنْ قَوْمِهِ أَنْ يَعْرِضُوا لَهُ بِحَرْبِ أَوْ بِصَدِّ فَتَثَاقَلَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، فَهُمْ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ بِقَوْلِهِ: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا [الفتح: 11] أَيْ: اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا تَخَلُّفَنَا عَنْك([6]).يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح: 11]؛ أَيْ مَا يُبَالُونَ اسْتَغْفَرْت لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَهَذَا حَالُ الْفَاسِقِ الَّذِي لَا يُبَالِي بِالذَّنْبِ وَالْمُنَافِقُونَ قَالَ فِيهِمْ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [المنافقون: 5، 6] وَلَمْ يَقُلْ مِثْلَ هَذَا فِي هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ بَلْ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ صَدَقُوا فِي طَلَبِ الِاسْتِغْفَارِ نَفَعَهُمْ اسْتِغْفَارُ الرَّسُولِ لَهُمْ.
ثُمَّ قَالَ: سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح: 16] فَوَعَدَهُمْ اللَّهُ بِالثَّوَابِ عَلَى طَاعَةِ الدَّاعِي إلَى الْجِهَادِ وَتَوَعَّدَهُمْ بِالتَّوَلِّي عَنْ طَاعَتِهِ.
وَهَذَا كَخِطَابِ أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ وَالْكَبَائِرِ؛ بِخِلَافِ مَنْ هُوَ كَافِرٌ فِي الْبَاطِنِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ بِمُجَرَّدِ طَاعَةِ الْأَمْرِ حَتَّى يُؤْمِنَ أَوَّلًا وَوَعِيدُهُ لَيْسَ عَلَى مُجَرَّدِ تَوَلِّيهِ عَنْ الطَّاعَةِ فِي الْجِهَادِ فَإِنَّ كُفْرَهُ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا.
فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ فُسَّاقِ الْمِلَّةِ فَإِنَّ الْفِسْقَ يَكُونُ تَارَةً بِتَرْكِ الْفَرَائِضِ وَتَارَةً بِفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ وَهَؤُلَاءِ لَمَّا تَرَكُوا مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْجِهَادِ وَحَصَلَ عِنْدَهُمْ نَوْعٌ مِنْ الرَّيْبِ الَّذِي أَضْعَفَ إيمَانَهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ الصَّادِقِينَ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ وَإِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي أَنَّهُمْ فِي الْبَاطِنِ مُتَدَيِّنُونَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ.
(الشرح)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، والحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
فإن المؤلف رحمه الله لا يزال يقرر أن الأعراب الذين نُفى عنهم الإيمان في سورة الحُجرات في قوله تعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14]، أنهم ضعفاء الإيمان، وأن إسلامهم إسلامٌ صحيح، وأنهم ليسوا منافقين، المؤلف رحمه الله أطال النفس في هذا، وساق أدلة كثيرة مضت في حلقاتٍ سابقة بيَّن فيها المؤلف رحمه الله رجح رأي الجمهور، جمهور أهل السنة القائلين بأن هؤلاء الأعراب الذي نُفى عنهم الإيمان، وأُثبت لهم الإسلام في سورة الحجرات أنهم ليسوا منافقين، وإنما هم مؤمنون دخل، معهم إسلام، معهم إسلامٌ يصح به، معهم إيمانٌ يصح به إسلامهم، ولكنهم لم تدخل حقيقة الإيمان في قلوبهم.
ذكر أدلة كثيرة وقصد من ذلك الرد على الخوارج والمعتزلة، وطائفة من أهل السُنة الذين يقولون إن الإسلام والإيمان شيءٌ واحد، وأنه إذا نُفى الإيمان، وأنه إذا نُفى الإيمان انتفى الإسلام؛ لأنهما شيءٌ واحد، وبيَّن رحمه الله أن الإسلام والإيمان ليسا شيئًا واحدًا، بل إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، وأن هؤلاء الأعراب ليسوا منافقين، ولكنهم ضعفاء الإيمان.
قال: نقل عن ابن إسحاق، وهو محمد ابن إسحاق في السيرة وهومعروفٌ في سيرته، وما يرويه في السيرة فهو جيد، يعتمد عليه أهل العلم في الغالب، "قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: لَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْعُمْرَةَ - عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ - اسْتَنْفَرَ مَنْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي وَالْأَعْرَابِ لِيَخْرُجُوا مَعَهُ خَوْفًا مِنْ قَوْمِهِ أَنْ يَعْرِضُوا لَهُ بِحَرْبِ أَوْ بِصَدِّ فَتَثَاقَلَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، فَهُمْ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ بِقَوْلِهِ: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا [الفتح: 11] أَيْ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا تَخَلُّفَنَا عَنْك"، فهؤلاء الأعراب ضعفاء الإيمان، ولهذا تركوا الجهاد، وتثاقلوا عن الجهاد، ولهذا لم تدخل حقيقة الإيمان في قلوبهم، ولم يتذوقوا حلاوة الإيمان، وبشاشة الإيمان، وإن كانوا مسلمين، ومعهم إيمانٌ يصح إسلامهم.
فهؤلاء الأعراب هم الذين قال الله فيهم: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14]، ثم قال: "يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح: 11] أَيْ مَا يُبَالُونَ اسْتَغْفَرْت لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَهَذَا حَالُ الْفَاسِقِ الَّذِي لَا يُبَالِي بِالذَّنْبِ"، فدل على أن هؤلاء الأعراب ضعفاء الإيمان، حالهم كحال الفاسق الذي لا يبالي بالذنب، والمنافقون لهم وصفٌ آخر غير وصف هؤلاء الأعراب.
ولهذا قال: "وَالْمُنَافِقُونَ قَالَ فِيهِمْ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [المنافقون: 5، 6] " ففرق بين ضعفاء الإيمان وبين المنافقين، فالمنافقون وصفهم بأنهم وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [المنافقون: 5]، وأما ضعفاء الإيمان فإنه قال فيهم: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح: 11]، أي ما يبالون استغفرت لهم، أم لم تستغفر لهم لضعف إيمانهم، وهذا حال ضعيفُ الإيمان والفاسق.
ولهذا قال: "وَلَمْ يَقُلْ مِثْلَ هَذَا فِي هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ" ما قال في العرب أنهم لووا رؤوسهم، وأنهم استكبروا، بل الآية، يقول المؤلف الآية: " بَلْ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ صَدَقُوا فِي طَلَبِ الِاسْتِغْفَارِ نَفَعَهُمْ اسْتِغْفَارُ الرَّسُولِ لَهُمْ"، أما المنافقون فلا يسعهم في كفرهم، ثم قال يعني في الأعراب ضعفاء الإيمان: ".
ثُمَّ قَالَ: سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح: 16]"، ثم بيَّن المؤلف وجه الدلالة من الآية.
فقال: "فَوَعَدَهُمْ اللَّهُ بِالثَّوَابِ عَلَى طَاعَةِ الدَّاعِي إلَى الْجِهَادِ وَتَوَعَّدَهُمْ بِالتَّوَلِّي عَنْ طَاعَتِهِ"، وهذا يدل على أنهم مسلمون، وأنه، وأنهم تنفعهم الطاعات، وتضرهم المعصية، فالطاعة تنفعهم وتزيد في إيمانهم، ولهم ثوابٌ عليها، والمعصية تنقص من إيمانهم، ويتعرضون للوعيد عليها.
يقول المؤلف: "وَهَذَا كَخِطَابِ أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ وَالْكَبَائِرِ"، فدل على أن هؤلاء الأعراب من جنس أهل الذنوب والكبائر الذين معهم أصل الإيمان وليسوا كالمنافقين، ولهذا قال: "بِخِلَافِ مَنْ هُوَ كَافِرٌ فِي الْبَاطِنِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ بِمُجَرَّدِ طَاعَةِ الْأَمْرِ حَتَّى يُؤْمِنَ أَوَّلًا".
الكافر لو فعل طاعة، ما يستحق الثواب، فهذه الطاعة يُطعم بها طعم في الدنيا، يجاز بها صحةٌ في بدنه، ولذلك الكافر إذا وصل رحمه، أو أحسن إلى جيرانه، أو تصدق لا يصح عند الله في الآخرة، لكن تنفعه في الدنيا، قد يُجاز بها في الدنيا، بخلاف المؤمن، فإنه يُثاب عليها.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَهَذَا كَخِطَابِ أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ وَالْكَبَائِرِ؛ بِخِلَافِ مَنْ هُوَ كَافِرٌ فِي الْبَاطِنِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ بِمُجَرَّدِ طَاعَةِ الْأَمْرِ حَتَّى يُؤْمِنَ أَوَّلًا" لأن الطاعات لا تصح إلا مع الإيمان، "وَوَعِيدُهُ لَيْسَ عَلَى مُجَرَّدِ تَوَلِّيهِ عَنْ الطَّاعَةِ فِي الْجِهَادِ فَإِنَّ كُفْرَهُ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا"، يعني إذا تولى عن الجهاد، هذه تولى معصية، لكنها، لكن الوعيد ليس عليه وحده، ولكن الوعيد على كفره، فالكفر أعظم.
يقول المؤلف رحمه الله: "فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ فُسَّاقِ الْمِلَّةِ" يعني الأعراب، الأعراب من الفساق، والفُساق معهم أصلُ الإيمان، وليسوا من الكفرة، ليسوا من المنافقين، فإن الفسق، يقول المؤلف رحمه الله: "فَإِنَّ الْفِسْقَ يَكُونُ تَارَةً بِتَرْكِ الْفَرَائِضِ وَتَارَةً بِفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ". فالعاصي إذا فعل المحرمات أو ترك الفرائض صار فاسقًا، وهؤلاء الأعراب تركوا فريضة، وهي فريضة الجهاد بعد أمر الله لهم بالجهاد، وبعد استغفار النبي ﷺ لهم، فصاروا عُصاةً بذلك ضعفاء الإيمان.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَهَؤُلَاءِ لَمَّا تَرَكُوا مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْجِهَادِ وَحَصَلَ عِنْدَهُمْ نَوْعٌ مِنْ الرَّيْبِ" يعني الشك" الَّذِي أَضْعَفَ إيمَانَهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ الصَّادِقِينَ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ"، لم يكونوا من الصادقين الذين وصفهم، لم يكونوا من الصادقين في قول الله : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15]، ليسوا من الصادقين في إيمانهم، ولهذا يقال عن ضعيف الإيمان ليس بصادق الإيمان، ليس بمؤمنٍ حقًا، ولكن لا يُنفى عنهم الإيمان، فلا يُقال ليس بمؤمن، لكن بقيد، فهؤلاء نفى عنهم الصدق الإيمان، لم يكونوا صادقين، لم يكونوا من صادقين الذين وصفهم.
يقول المؤلف: "وَإِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي أَنَّهُمْ فِي الْبَاطِنِ مُتَدَيِّنُونَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ"، فالصدق صدقان: فأصلُ الإيمان، هو صادقٌ في أصل الإيمان، وأصلُ التدين، والإسلام، ولكنهم ليسوا صادقين صدق الشمائل، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "لَمْ يَكُونُوا مِنْ الصَّادِقِينَ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ وَإِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي أَنَّهُمْ فِي الْبَاطِنِ مُتَدَيِّنُونَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ"، هذا الصدقُ الذي يصح به إسلامهم، ويدخلون به في دائرة الإسلام، نعم.
(المتن)
وَقَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ: لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ نَفْيٌ لِمَا نَفَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ كَمَا نَفَاهُ عَنْ الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَالشَّارِبِ وَعَمَّنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ وَعَمَّنْ لَا يُحِبُّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ؛ وَعَمَّنْ لَا يُجِيبُ إلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ.
وَقَدْ يُحْتَجُّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ [الحجرات: 11] كَمَا قَالَ: سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ([8]) فَذَمَّ مَنْ اسْتَبْدَلَ اسْمَ الْفُسُوقِ بَعْدَ الْإِيمَانِ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابَ مِنْ جِنْسِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ لَا مِنْ جِنْسِ الْمُنَافِقِينَ.
(الشرح)
نعم، يقول المؤلف رحمه الله: "وَقَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ: لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ نَفْيٌ"، ليس مقصودهم نفي أصل الإيمان، وإنما المقصود نفي كمال الإيمان، يعني مقصودهم نفي الإيمان الذي نفاه الله عنهم، والله نفى عنهم كمال الإيمان، ولم ينف عنهم أصل الإيمان.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَقَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ: لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ نَفْيٌ لِمَا نَفَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ كَمَا نَفَاهُ عَنْ الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَالشَّارِبِ وَعَمَّنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ وَعَمَّنْ لَا يُحِبُّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ؛ وَعَمَّنْ لَا يُجِيبُ إلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ".
كل هؤلاء نُفى عنهم كمال الإيمان، لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُو مُؤْمِنٌ([9])، وقول: لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ([10])، وقول: لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ([11])، هذا نفيٌ لكمال الإيمان، يدل على أن صاحب ذلك أخل بالواجب، قد أخل بالواجب نُفي عنه كمال الإيمان الواجب.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَقَدْ يُحْتَجُّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ [الحجرات: 11] كَمَا قَالَ: سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ([12]) فَذَمَّ مَنْ اسْتَبْدَلَ اسْمَ الْفُسُوقِ بَعْدَ الْإِيمَانِ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا"، يعني يُطلق، لا يُقال مؤمن بإطلاق، بل لابد من القيد، قال: مؤمنٍ ليس بمؤمنٍ حقًا، ليس بصادق الإيمان، "فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابَ مِنْ جِنْسِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ لَا مِنْ جِنْسِ الْمُنَافِقِينَ""، يعني هؤلاء الأعراب الذين نُفي عنهم الإيمان في سورة الحجرات، قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14] من جنس أهل الكبائر، وأهل الكبائر ينفى عنهم كمال الإيمان، لا من جنس المنافقين الذين نُفى عنهم أصل الإيمان، أهل الكبائر نُفى عنهم كمالُ الإيمان، والمنافقون نُفى عنهم أصلُ الإيمان، والأعراب من الصنف الأول الذين نُفي عنهم كمالُ الإيمان، نعم.
(المتن)
وَأَمَّا مَا نُقِلَ مِنْ أَنَّهُمْ أَسْلَمُوا خَوْفَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ؛ فَهَكَذَا كَانَ إسْلَامُ غَيْرِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَسْلَمُوا رَغْبَةً وَرَهْبَةً؛ كَإِسْلَامِ الطُّلَقَاءِ مِنْ قُرَيْشٍ بَعْدَ أَنْ قَهَرَهُمْ النَّبِيُّ ﷺ وَإِسْلَامِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَمِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَسْلَمَ لِرَغْبَةِ أَوْ رَهْبَةٍ كَانَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ؛ بَلْ يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ وَالطَّاعَةِ وَلَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ تَكْذِيبٌ وَمُعَادَاةٌ لِلرَّسُولِ وَلَا اسْتَنَارَتْ قُلُوبُهُمْ بِنُورِ الْإِيمَانِ وَلَا اُسْتُبْصِرُوا فِيهِ؛ وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَحْسُنُ إسْلَامُ أَحَدِهِمْ فَيَصِيرُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ كَأَكْثَرِ الطُّلَقَاءِ وَقَدْ يَبْقَى مِنْ فُسَّاقِ الْمِلَّةِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَصِيرُ مُنَافِقًا مُرْتَابًا إذَا قَالَ لَهُ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هاه هاه لَا أَدْرِي سَمِعْت النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْته.
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُمْ أَسْلَمُوا بِغَيْرِ قِتَالٍ؛ فَهَؤُلَاءِ كَانُوا أَحْسَنَ إسْلَامًا مِنْ غَيْرِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ إنَّمَا ذَمَّهُمْ لِكَوْنِهِمْ مَنَّوْا بِالْإِسْلَامِ وَأَنْزَلَ فِيهِمْ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد: 33] وَأَنَّهُمْ مِنْ جِنْسِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ.
(الشرح)
لا يزال المؤلف رحمه الله يقرر ويذكر من الأدلة واستنباطات من النصوص التي تدلُ على أن هؤلاء الأعراب الذين نُفى عنهم الإيمان، أنهم ليسوا منافقين، وإنما هم ضعفاء الإيمان، قال: "وَأَمَّا مَا نُقِلَ مِنْ أَنَّهُمْ أَسْلَمُوا خَوْفَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ؛ فَهَكَذَا كَانَ إسْلَامُ غَيْرِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَسْلَمُوا رَغْبَةً وَرَهْبَةً"، يعني يقول هذا ليس خاصًا بهم، ما نُقل من أنهم أسلموا خوف القتل والسبي فهذا ليس خاصًا بهم، بل كثير، الكثير ممن أسلم من غير المهاجرين والأنصار دخلوا في الإسلام لرغبة معروف فضلهم، وسبقهم في الإسلام، لكن غيرهم أسلم، كثيرٌ منهم أسلموا رغبةٌ ورهبة.
"كَإِسْلَامِ الطُّلَقَاءِ" الطُلقاء الذين أسلموا من أهل مكة، بعد فتح مكة، منهم أبو سفيان بن حرب، وابناه معاوية ويزيد، يقال لهم الطلقاء؛ لأن النبي ﷺ منَّ عليهم فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، هؤلاء ليس إسلامهم كإسلام المهاجرين والأنصار، فهؤلاء إنما أسلموا بعد أن قهرهم النبي ﷺ؛ لأن النبي ﷺ فتح مكة عنوة، فلما فتح مكة عنوة أسلموا بعد القهر، فلم يأتوا إلى النبي ﷺ قبل فتح مكة، وباختيارهم.
يقول المؤلف: "وَإِسْلَامِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ وَمِنْ أَهْلِ نَجْدٍ"، وكذلك إسلام المؤلفة قلوبهم؛ المؤلفة قلوبهم ليسوا كفارًا، ولكنهم دخلوا في الإسلام، ولم يتمكن الإيمان من قلوبهم، ولم تخالط بشاشة الإيمان في قلوبهم، ولم يكن في قلوبهم حقيقة الإيمان، ولهذا يُعطون من الزكاة مالًا، يُعطون من الزكاة، صنْفٌ من أصناف أهل الزكاة؛ حتى يتقوى إيمانهم.
ومن ذلك كان النبي ﷺ كان يعطي يَقْسِم الغنائم ويعطي ضعفاء الإيمان، ويترك قوي الإيمان، ويقول: إني أعطي قومًا، وأدعُ قومًا مخافة أن يكبهم الله على وجوههم في النار([13])، يعني: مخافة أنْ يرتدوا، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَإِسْلَامِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ وَمِنْ أَهْلِ نَجْدٍ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَسْلَمَ لِرَغْبَةِ أَوْ رَهْبَةٍ كَانَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ".
نعم، الذين أسلموا رغبة ورهبة عندهم أصلُ الإيمان، ولكن الإيمان ضعيف في قلبه، يقول المؤلف رحمه الله: "بَلْ يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ وَالطَّاعَةِ وَلَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ تَكْذِيبٌ وَمُعَادَاةٌ لِلرَّسُولِ"، بخلاف المنافقين؛ لأن المنافقين عندهم تكذيب ومعاداة، أما هؤلاء أسلموا رغبةً ورهبة، والإيمان ضعيفٌ في قلوبهم، ولم يتمكن الإيمان من قلوبهم، ولكن ليس عندهم تكذيب ولا معاداة.
"وَلَا اسْتَنَارَتْ قُلُوبُهُمْ بِنُورِ الْإِيمَانِ وَلَا اُسْتُبْصِرُوا فِيه" ثم بيَّن المؤلف أن هذا ضعف الإيمان أقصى منهم من يبقى على إيمانه الضعيف، ومنهم من يقوى إيمانه على حسب ما ييسره الله له، ييسر الله له من يهديه، ومن يبيِّن له محاسن الإسلام، ومن يسر الله من يقتدى به يتقوى إيمانه، ومن بقى على حاله فسيبقى ضعيف الإيمان.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَحْسُنُ إسْلَامُ أَحَدِهِمْ فَيَصِيرُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ كَأَكْثَرِ الطُّلَقَاءِ"، الطلقاء الذين أسلموا يوم فتح مكة، "وَقَدْ يَبْقَى مِنْ فُسَّاقِ الْمِلَّةِ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يَصِيرُ مُنَافِقًا مُرْتَابًا إذَا قَالَ لَهُ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ"، ومنهم مَن يرتد أعوذ بالله، "إذَا قَالَ لَهُ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هاه هاه لَا أَدْرِي سَمِعْت النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْته"، يقول المؤلف: " وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُمْ أَسْلَمُوا بِغَيْرِ قِتَالٍ"؛ ولهذا مَنَّوا بإسلامهم على النبي ﷺ، وقالوا: نحن جئناك بغير قتال، وغيرنا أسلمَ بقتالٍ.
يقول المؤلف رحمه الله: "فَهَؤُلَاءِ كَانُوا أَحْسَنَ إسْلَامًا مِنْ غَيْرِهِمْ"، يعني: أحسَنَ إسلام ممن أسلمَ بالقتال، " وَأَنَّ اللَّهَ إنَّمَا ذَمَّهُمْ لِكَوْنِهِمْ مَنَّوْا بِالْإِسْلَامِ وَأَنْزَلَ فِيهِمْ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد: 33] وَأَنَّهُمْ مِنْ جِنْسِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ"، نعم.
(المتن)
وَأَيْضًا قَوْلُهُ: وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] وَلَمَّا إنَّمَا يَنْفِي بِهَا مَا يُنْتَظَرُ وَيَكُونُ حُصُولُهُ مُتَرَقَّبًا كَقَوْلِهِ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 142] وَقَوْلِهِ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 214].
فَقَوْلُهُ: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دُخُولَ الْإِيمَانِ مُنْتَظَرٌ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ ابْتِدَاءً لَا يَكُونُ قَدْ حَصَلَ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانُ لَكِنَّهُ يَحْصُلُ فِيمَا بَعْدُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «كَانَ الرَّجُلُ يُسْلِمُ أَوَّلَ النَّهَارِ رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا فَلَا يَجِيءُ آخِرَ النَّهَارِ إلَّا وَالْإِسْلَامُ أَحَبُّ إلَيْهِ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ»([14]).
وَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا رَغْبَةً وَرَهْبَةً دَخَلَ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ؛ وَقَوْلُهُ: وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14] أَمْرٌ لَهُمْ بِأَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ وَالْمُنَافِقُ لَا يُؤْمَرُ بِشَيْءِ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [الحجرات: 14] وَالْمُنَافِقُ لَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حَتَّى يُؤْمِنَ أَوَّلًا.
(الشرح)
يقول المؤلف رحمه الله أن من الأدلة على أن هؤلاء الأعراب عندهم أصل الإيمان، وليسوا منافقين من الأدلة قول الله تعالى: وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14]، ووجه الدلالة قوله: وَلَمَّا إنَّمَا يَنْفِي بِهَا مَا يُنْتَظَرُ وَيَكُونُ حُصُولُهُ مُتَرَقَّبًا"؛ لأنها تنفي الشيء، تنفي حصول الشيء، ولكن هذا الشيء يُتوقع حصوله؛ مثلُ قول القائل: أثمرت البساتين، ولما يثمر بستاننا، يعني ما حصل الثمر، ولكن ترقب حصوله قريبًا.
"كَقَوْلِهِ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 142] وَقَوْلِهِ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 214] فقوله وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دُخُولَ الْإِيمَانِ مُنْتَظَرٌ مِنْهُمْ" يعني ما دخل، ولكنه مُتوقع، والمراد حقائق الإيمان، ليس المراد أصل الإيمان.
"فَإِنَّ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ ابْتِدَاءً لَا يَكُونُ قَدْ حَصَلَ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانُ لَكِنَّهُ يَحْصُلُ فِيمَا بَعْدُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «كَانَ الرَّجُلُ يُسْلِمُ أَوَّلَ النَّهَارِ رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا فَلَا يَجِيءُ آخِرَ النَّهَارِ إلَّا وَالْإِسْلَامُ أَحَبُّ إلَيْهِ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ»([15])"، وهذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، وأخرجه الإمام أحمد في المسند.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا رَغْبَةً وَرَهْبَةً دَخَلَ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ"، يعني تقوى إيمانهم، " وَقَوْلُهُ: وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14] أَمْرٌ لَهُمْ بِأَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ وَالْمُنَافِقُ لَا يُؤْمَرُ بِشَيْءِ"، يعني هذه من الأدلة على أن إسلامهم ليس كإسلام المنافقين؛ لأن الله أمرهم أن يقولوا أسلمنا، والمنافق لا يُقال له قل أسلمنا، المنافق كافر عنده كفر في قلبه، فلا يُقال.
"ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [الحجرات: 14]"، يعني أن الله تعالى أثبت لهم الطاعة، طاعة لله ولرسوله، وأثبت لهم الثواب عليها، قال: ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [الحجرات: 14]، يعني لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئًا، يقول المؤلف: "وَالْمُنَافِقُ لَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حَتَّى يُؤْمِنَ أَوَّلًا"، فلهذا فدلَّ على أنهم عندهم أصل الإيمان، إلا أن إيمانهم ضعيف، نعم.
(المتن)
وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا احْتَجَّ بِهَا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَثْنَى فِي الْإِيمَانِ دُونَ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ أَصْحَابَ الْكَبَائِرِ يَخْرُجُونَ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ. قَالَ الميموني: سَأَلْت أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ رَأْيِهِ فِي: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ؟ فَقَالَ: أَقُولُ: مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَأَقُولُ: مُسْلِمٌ وَلَا أَسْتَثْنِي قَالَ: قُلْت لِأَحْمَدَ: تُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ؟ فَقَالَ لِي: نَعَمْ فَقُلْت لَهُ: بِأَيِّ شَيْءٍ تَحْتَجُّ؟ قَالَ لِي: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14] وَذَكَرَ أَشْيَاءَ.
وَقَالَ الشالنجي: سَأَلْت أَحْمَد عَمَّنْ قَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ عِنْدَ نَفْسِي مِنْ طَرِيقِ الْأَحْكَامِ وَالْمَوَارِيثِ وَلَا أَعْلَمُ مَا أَنَا عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَيْسَ بِمُرْجِئِ. وَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْهَاشِمِيُّ: الِاسْتِثْنَاءُ جَائِزٌ وَمَنْ قَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا وَلَمْ يَقُلْ: عِنْدَ اللَّهِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ؛ فَذَلِكَ عِنْدِي جَائِزٌ وَلَيْسَ بِمُرْجِئِ وَبِهِ قَالَ أَبُو خيثمة وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ؛ وَذَكَرَ الشالنجي أَنَّهُ سَأَلَ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ الْمُصِرِّ عَلَى الْكَبَائِرِ يَطْلُبُهَا بِجُهْدِهِ أَيْ يَطْلُبُ الذَّنْبَ بِجُهْدِهِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصَّوْمَ؛ هَلْ يَكُونُ مُصِرًّا مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ؟ قَالَ: هُوَ مُصِرٌّ مِثْلَ قَوْلِهِ: لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ([16]) يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ وَيَقَعُ فِي الْإِسْلَامِ وَمِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ: وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ([17]) وَمِنْ نَحْوِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ فَقُلْت لَهُ: مَا هَذَا الْكُفْرُ؟ قَالَ: كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ مِثْلَ الْإِيمَانِ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ؛ فَكَذَلِكَ الْكُفْرُ حَتَّى يَجِيءَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ لَا يَكُونُ مُسْتَكْمِلَ الْإِيمَانِ يَكُونُ نَاقِصًا مِنْ إيمَانِهِ([18]).
(الشرح)
نعم، المؤلف رحمه الله لا يزال يقرر أن الإسلام الذي أسسه الله للأعراب إسلامٌ صحيح معه أصل الإيمان الذي يصححه، وليس كإسلام المنافقين، ولهذا احتج الإمام أحمد رحمه الله على الاستثناء في الإيمان في هذه الآية دون الإسلام، وأن أصحاب الكبائر يخرجون من الإيمان إلى الإسلام؛ لأن الإيمان لا يُطلق إلا على من أدى الواجبات وترك المحرمات، بخلاف الإسلام، فالإسلام يُطلق على أهل المعاصي، العاصي يقال له مُسلم بإطلاق، أما الإيمان فلا يقال العاصي مؤمن بإطلاق، بل لابد من التقييد.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا احْتَجَّ بِهَا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَثْنَى فِي الْإِيمَانِ دُونَ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ أَصْحَابَ الْكَبَائِرِ يَخْرُجُونَ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ"، يعني يخرجون من الإيمان الكامل إلى الإسلام بسبب معصيتهم، أو إخلالهم ببعض الواجبات، وفعلهم بعض المحرمات.
"قَالَ الميموني: سَأَلْت أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ رَأْيِهِ فِي: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ؟ فَقَالَ: أَقُولُ: مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَأَقُولُ: مُسْلِمٌ وَلَا أَسْتَثْنِي"، أي أنه يستثنى في الإيمان، ولا يستثنى في الإسلام؛ لأن الإسلام يُطلق على العاصي، أما الإيمان فلا يُطلق إلا على من أدى الواجبات وترك المحرمات، وهذا فيه رد على المُرجئة، المُرجئة لا يستثنون، فلا يستثنون في الإيمان، ولهذا لأن المُرجئة لا يُدخلون الأعمال في مُسمى الإيمان، فلا يستثنون، ولهذا من قال عندهم أنا مؤمن إن شاء الله يسمونه شاكك، يقولون أنت شاك في إيمانك، يسمون المؤمنين الشكاكة لا يستثنون، لو أنت تشكك في إيمانك تعلم أنك مؤمن، كما تعلم أنك صليت، كما تعلم أنك قرأت الفاتحة، كما تعلم أنك تحبُّ الرسول، وكما تعلم أنك تبغض اليهود، فكيف تستثنى؟ لأن الإيمان هو التصديق، وأنت تعلم من قلبك أنك مُصدِّق.
وأما أهل السُّنة فيقولون: الأعمال داخلة في مُسمى الإيمان، والإثتثناء راجعٌ إلى الأعمال، والأعمال متعددة، ولا يُجزَم لإنسانٍ بأنه أدَّى ما عليه، ولا يزكي نفسه، ولهذا يستثنى.
أمَّا إذا قصدَ، شكَّ في أصلِ إيمانه، فهذا ممنوع، وكذلك يجوز للإنسان أن يستثني إذا قصد التبرك بذكر اسم الله، أو إذا أراد عدم علمه بالعاقبة، فلهذا يقول الإمامُ أحمد بن حنبل: أقول مؤمنٌ إن شاء الله؛ لأن هذا راجع إلى الأعمال، وأقول مُسْلِم: ولا أستثني؛ لأن الإسلام يُطلَق على المُقصِّر في الواجبات، ومَن فعلَ المحرَّمات.
قال: "قُلْت لِأَحْمَدَ: تُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ؟ فَقَالَ لِي: نَعَمْ فَقُلْت لَهُ: بِأَيِّ شَيْءٍ تَحْتَجُّ؟ قَالَ لِي: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14]" وجه الدلالة أن الله أثبت لهم الإسلام، ونفى عنهم الإيمان، فالإسلام يُثبت للعاصي، والإيمان يُنفى عن العاصي، وذكر أدلة أخرى.
"وَقَالَ الشالنجي: سَأَلْت أَحْمَد عَمَّنْ قَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ عِنْدَ نَفْسِي مِنْ طَرِيقِ الْأَحْكَامِ وَالْمَوَارِيثِ وَلَا أَعْلَمُ مَا أَنَا عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَيْسَ بِمُرْجِئِ"، لأنه أثبت، فيقول: أنا مؤمن عند نفسي، أي: أنه يؤدي يعني يجتهد في أداء الأحكام، ولا يعلم أنه هو مؤمنٌ عند الله، يعني لا يُزكى نفسه، ولا يجزم أنه أدَّى ما عليه.
"وَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْهَاشِمِيُّ: الِاسْتِثْنَاءُ جَائِزٌ وَمَنْ قَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا وَلَمْ يَقُلْ: عِنْدَ اللَّهِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ؛ فَذَلِكَ عِنْدِي جَائِزٌ وَلَيْسَ بِمُرْجِئِ وَبِهِ قَالَ أَبُو خيثمة وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ" يعني الاستثناء جائز؛ لأنه راجعٌ إلى، إلى الأعمال، ومن قال: أنا مؤمنٌ حقًا، ولم يقل عند الله، ولم يستثنى فذلك عندي جائز؛ لأنه ما قال عند الله، يعني قال: فيما يظهر له، هذا المؤمن الحق، ولا يُعتبر من المُرجئة؛ لأنه ما قال أنا مؤمن عند الله، والمُرجئة يقول أنا مؤمن عند الله أعرفُ نفسي أنا مصدق.
"وَذَكَرَ الشالنجي أَنَّهُ سَأَلَ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ الْمُصِرِّ عَلَى الْكَبَائِرِ يَطْلُبُهَا بِجُهْدِهِ أَيْ يَطْلُبُ الذَّنْبَ بِجُهْدِهِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصَّوْمَ؛ هَلْ يَكُونُ مُصِرًّا مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ؟ قَالَ: هُوَ مُصِرٌّ"، ما دام يطلب بجهده، فهو مصرٌ على الذنب فهو" مِثْلَ قَوْلِهِ: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ([19]) يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ وَيَقَعُ فِي الْإِسْلَامِ"، يخرجُ من الإيمان بسبب إصراره على الكبيرة، ويقعُ في الإسلام؛ لأن الإسلام يُطلق على العاصي.
وكذلك "قَوْلِهِ: وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ([20])" كل هؤلاء نُفى عنهم الإيمان، وأُطلق عليهم الإسلام، وكذلك "وَمِنْ نَحْوِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ"([21]) رُوى عن ابن عباس أنه يقول: كفرٌ دون كفر، يقول: "فَقُلْت لَهُ: مَا هَذَا الْكُفْرُ؟ قَالَ: كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ" يعني كفر دون كفر لأنه في العمل، لا في الإيمان بعضه دون بعض، وكذلك الكفر، كفر دون كفر، والإيمان إيمان دون إيمان، فكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمر لا يُختلفُ فيه، حتى يجئ أمرٌ واضح لا لبس فيه، أو أنه كفرٌ صريح.
"وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ لَا يَكُونُ مُسْتَكْمِلَ الْإِيمَانِ يَكُونُ نَاقِصًا مِنْ إيمَانِهِ"([22])، يعني المراد نفي الكمال، كمال الإيمان الواجب، وليس المراد أصل الإيمان، نعم.
(المتن)
توقفنا عند قول المؤلف رحمه الله:
قَالَ الشالنجي: وَسَأَلْت أَحْمَد عَنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ. فَقَالَ: الْإِيمَانُ قَوْل وَعَمَلٌ؛ وَالْإِسْلَامُ: إقْرَارٌ قَالَ: وَبِهِ قَالَ أَبُو خيثمة.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: لَا يَكُونُ إسْلَامٌ إلَّا بِإِيمَانِ وَلَا إيمَانٌ إلَّا بِإِسْلَامِ؛ وَإِذَا كَانَ عَلَى الْمُخَاطَبَةِ فَقَالَ: قَدْ قَبِلْت الْإِيمَانَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْإِسْلَامِ؛ وَإِذَا قَالَ: قَدْ قَبِلْت الْإِسْلَامَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْإِيمَانِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي: وَحَكَى غَيْرُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ سَأَلَ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ([23]) فَقَالَ: مَنْ أَتَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ أَوْ مِثْلَهُنَّ أَوْ فَوْقَهُنَّ فَهُوَ مُسْلِمٌ وَلَا أُسَمِّيهِ مُؤْمِنًا وَمَنْ أَتَى دُونَ ذَلِكَ يُرِيدُ دُونَ الْكَبَائِرِ أُسَمِّيهِ مُؤْمِنًا نَاقِصَ الْإِيمَانِ.
قُلْت: أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ كَانَ يَقُولُ تَارَةً بِهَذَا الْفَرْقِ وَتَارَةً كَانَ يَذْكُرُ الِاخْتِلَافَ وَيَتَوَقَّفُ وَهُوَ الْمُتَأَخِّرُ عَنْهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ فِي السُّنَّةِ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ مَا تَقُولُ فِيهِ؟ فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَعِيبُهُ أَيْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَعِيبُهُ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إذَا كَانَ يَقُولُ: إنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ فَاسْتَثْنَى مَخَافَةً وَاحْتِيَاطًا لَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ عَلَى الشَّكِّ؛ إنَّمَا يُسْتَثْنَى لِلْعَمَلِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح: 27] أَيْ أَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ بِغَيْرِ شَكٍّ، وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي أَهْلِ الْقُبُورِ: وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ([24]) أَيْ: لَمْ يَكُنْ يَشُكُّ فِي هَذَا وَقَدْ اسْتَثْنَاهُ، وَذَكَرَ قَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ وَعَلَيْهَا نُبْعَثُ إنْ شَاءَ اللَّهُ([25]) يَعْنِي مِنْ الْقَبْرِ.
وَذَكَرَ قَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ([26]) قَالَ: هَذَا كُلُّهُ تَقْوِيَةٌ لِلِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ.
قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: وَكَأَنَّك لَا تَرَى بَأْسًا أَنْ لَا يُسْتَثْنَى. فَقَالَ: إذَا كَانَ مِمَّنْ يَقُولُ الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ؛ فَهُوَ أَسْهَلُ عِنْدِي؛ ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إنَّ قَوْمًا تَضْعُفُ قُلُوبُهُمْ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ كَالتَّعَجُّبِ مِنْهُمْ وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَقِيلَ لَهُ: شَبَّابَةُ أَيُّ شَيْءٍ تَقُولُ فِيهِ؟
فَقَالَ: شَبَّابَةُ كَانَ يَدَّعِي الْإِرْجَاءَ قَالَ: وَحُكِيَ عَنْ شَبَّابَةَ قَوْلٌ أَخْبَثُ مِنْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ مَا سَمِعْت عَنْ أَحَدٍ بِمِثْلِهِ؛ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ شَبَّابَةُ: إذَا قَالَ: فَقَدْ عَمِلَ بِلِسَانِهِ كَمَا يَقُولُونَ فَإِذَا قَالَ فَقَدْ عَمِلَ بِجَارِحَتِهِ أَيْ بِلِسَانِهِ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ؛ ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: هَذَا قَوْلٌ خَبِيثٌ مَا سَمِعْت أَحَدًا يَقُولُ بِهِ وَلَا بَلَغَنِي قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: كُنْت كَتَبْت عَنْ شَبَّابَةَ شَيْئًا؟
فَقَالَ: نَعَمْ كُنْت كَتَبْت عَنْهُ قَدِيمًا يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ نَعْلَمَ أَنَّهُ يَقُولُ بِهَذَا قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: كَتَبْت عَنْهُ بَعْدُ؟ قَالَ: لَا وَلَا حَرْفًا.
قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: يَزْعُمُونَ أَنَّ سُفْيَانَ كَانَ يَذْهَبُ إلَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ. فَقَالَ: هَذَا مَذْهَبُ سُفْيَانَ الْمَعْرُوفُ بِهِ الِاسْتِثْنَاءُ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: مَنْ يَرْوِيهِ عَنْ سُفْيَانَ فَقَالَ كُلُّ مَنْ حَكَى عَنْ سُفْيَانَ فِي هَذَا حِكَايَةً كَانَ يَسْتَثْنِي قَالَ وَقَالَ وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ: النَّاسُ عِنْدَنَا مُؤْمِنُونَ فِي الْأَحْكَامِ وَالْمَوَارِيثِ؟ وَلَا نَدْرِي مَا هُمْ عِنْدَ اللَّهِ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَأَنْتَ بِأَيِّ شَيْءٍ تَقُولُ؟ . فَقَالَ: نَحْنُ نَذْهَبُ إلَى الِاسْتِثْنَاءِ.
(الشرح)
نعم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
فإن المؤلف رحمه الله لا يزال يقرر أن الإسلام والإيمان بينهما فرق، وأنه إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، وأن الإسلام إذا أُطلق وحده دخل فيه الإيمان، والإيمان إذا أُطلق وحده دخل فيه الإسلام، وأنهما إذا اجتمعا فُسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، وفُسر الإيمان بالأعمال الباطنة، وأن قول من يقول إن الإسلام والإيمان شيءٌ واحد أنه خطأ، وهو قول الخوارج والمعتزلة، وقول بعض أهل السنة، والدليلُ على ذلك أن الله تعالى أثبت الإسلام للأعراب، ونفى عنهم الإيمان، كما نُفى عن العُصاة في قوله تعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14]، وهذه الآية تدلُ على جواز الاستثناء في الإيمان، وأن للمسلم أن يقول: أنا مؤمنٌ إن شاء الله إذا قصد أن الأعمال داخلة في مُسمى الإيمان، وأنه لا يُزكى نفسه، وأن الأعمال، وأن الإنسان لا يجزم بأنه اجتمع عليه.
نقل عن الإمام أحمد نقول تدلُ على ذلك، قال: " قَالَ الشالنجي: وَسَأَلْت أَحْمَد([27]) عَنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ. فَقَالَ: الْإِيمَانُ قَوْل وَعَمَلٌ؛ وَالْإِسْلَامُ: إقْرَارٌ"، يعني إذا أقر بالشهادتين دخل في الإسلام، ولو قصر في بعض الواجبات يُطلق عليهم اسم الإسلام، لكنه لا يُطلق عليه الإيمان إلا إذا أدى الواجبات وترك المحرمات، قال: "قَالَ: وَبِهِ قَالَ أَبُو خيثمة. وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: لَا يَكُونُ إسْلَامٌ إلَّا بِإِيمَانِ وَلَا إيمَانٌ إلَّا بِإِسْلَامِ"، يعني لا يكونُ إسلام إلا بإيمانٍ صحيح، ولا يكونُ إيمان إلا بعمل، لا يكون إسلام إلا بإيمان؛ لأنه، لأن الإيمان، الإسلام لا يصح إلا بإيمان يصححه، وهو أصلُ الإيمان، ولا يكونُ، ولا إيمان إلا بإسلام يعني لا يمكن أن يكون إيمانٌ كامل إلا بالعمل، وإذا كان.. يقول المؤلف رحمه الله: "وَإِذَا كَانَ عَلَى الْمُخَاطَبَةِ فَقَالَ: قَدْ قَبِلْت الْإِيمَانَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْإِسْلَامِ؛ وَإِذَا قَالَ: قَدْ قَبِلْت الْإِسْلَامَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْإِيمَانِ"؛ لأن الإسلام هو الأعمال، والإيمان هو الأعمال الباطنة، هذا عند اجتماعهما، وأما إذا افترقا فيدخل أحدهما في الآخر.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي: وَحَكَى غَيْرُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ سَأَلَ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَقَالَ: مَنْ أَتَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ أَوْ مِثْلَهُنَّ أَوْ فَوْقَهُنَّ فَهُوَ مُسْلِمٌ وَلَا أُسَمِّيهِ مُؤْمِنًا"([28]) الأربعة الزنا والسرقة، والخمر والنُهبة، لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُو مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ إِلَيْهِ فِيهَا النَّاسُ أَعْيُنَهُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ([29])، هذه أربعة أشياء، الزنا والسرقة وشرب الخمر والنُهبة، فقال: ومن أتى هذه الأربعة أو مثلهن أو فوقهن فهو مسلم، يعني وإن فعل هذه المعاصي؛ لأنه يُطلق عليه الإسلام، والعاصي يُطلق عليه اسم الإسلام، ولا أسميه مؤمنًا، يعني بإطلاق لكونه عاصيًا، لكونه ارتكب هذه الكبائر، فلا يُسمى مؤمنًا بإطلاق، وإن كان عنده أصل الإيمان الذي يصحح إسلامه.
"وَمَنْ أَتَى دُونَ ذَلِكَ يُرِيدُ دُونَ الْكَبَائِرِ أُسَمِّيهِ مُؤْمِنًا نَاقِصَ الْإِيمَانِ"، يعني مَن أتى المعاصي دون الكبائر نسميه مؤمنًا ناقص الإيمان، والمؤلف رحمه الله يقول: "قُلْت: أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ كَانَ يَقُولُ تَارَةً بِهَذَا الْفَرْقِ وَتَارَةً كَانَ يَذْكُرُ الِاخْتِلَافَ وَيَتَوَقَّفُ"، يعني تارةً يُفرِّق كما سبق فيقول: العاصي يُطلق عليه اسم الإسلام، ولا يُطلق عليه اسم الإيمان، وتارةً كان يذكرُ الاختلاف ويتوقف، وهو المتأخِّرُ عنه، يعني كان الإمامُ أحمد له قولان؛ قولٌ بالتفريق، وقولٌ بالتوقُّف.
قال: "قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ فِي " السُّنَّةِ " سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ مَا تَقُولُ فِيهِ؟ فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَعِيبُهُ أَيْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَعِيبُهُ"([30]) يعني من الناس من يعيب، من يعيب الاستثناء كالمُرجئة، ومنهم من لا يعيبه، فيقول: أما أنا فلا أعيبه، هذا يدل على أنه يقول بالتوقف أحيانًا، "قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إذَا كَانَ يَقُولُ: إنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ فَاسْتَثْنَى مَخَافَةً وَاحْتِيَاطًا لَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ عَلَى الشَّكِّ؛ إنَّمَا يُسْتَثْنَى لِلْعَمَلِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح: 27] أَيْ أَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ بِغَيْرِ شَكٍّ".
يعني إذا كان يقول الإيمان قولٌ وعمل يزيد وينقص، ثم يستثني، فلا حرج عليه؛ لأن الله استثنى في شيءٍ محقق، لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح: 27]، وكذلك "قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي أَهْلِ الْقُبُورِ: وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ([31])".
فهذا شيءٌ مُحقَّق، ...، يلحق بأصحاب القبور، ولكن الاستثناء قد يكون للتبرك بذكر اسم الله، يقول: "أَيْ لَمْ يَكُنْ يَشُكُّ فِي هَذَا وَقَدْ اسْتَثْنَاهُ وَذَكَرَ قَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ وَعَلَيْهَا نُبْعَثُ إنْ شَاءَ اللَّهُ([32]) يَعْنِي مِنْ الْقَبْرِ وَذَكَرَ قَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ([33])". وهذا استثناء، وهو أخشاهم لله ، لكن قاله من باب التواضع عليه الصلاة والسلام.
فقال: "قَالَ: هَذَا كُلُّهُ تَقْوِيَةٌ لِلِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ. قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: وَكَأَنَّك لَا تَرَى بَأْسًا أَنْ لَا يُسْتَثْنَى. فَقَالَ: إذَا كَانَ مِمَّنْ يَقُولُ الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ؛ فَهُوَ أَسْهَلُ عِنْدِي"، يعني: إذا كان يقول: الإيمان قولُ وعمل، يزيد وينقص ثم استثنى، فلا حرج؛ لأنَّه خرجَ من المُرجئة، بخلاف ما إذا كان يقول بقول المُرجئة؛ أن الإيمان هو تصديقٌ فقط، ثم منع من الاستثناء هذا قول المُرجئة، أما إذا كان يقول: الإيمان قولٌ وعمل، يزيد وينقص، ثم استثنى، أو لم يستثنِ، فالأمر واسع في هذا.
"ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إنَّ قَوْمًا تَضْعُفُ قُلُوبُهُمْ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ كَالتَّعَجُّبِ مِنْهُمْ"، يعني تتعجب منهم كيف تضعف قلوبهم عن الاستثناء مع أن الأعمال والواجبات متعددة، ولا يجزمُ إنسانٌ بأنه دام عليه. يقول: "وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَقِيلَ لَهُ: شَبَّابَةُ أَيُّ شَيْءٍ تَقُولُ فِيهِ؟ : فَقَالَ: شَبَّابَةُ كَانَ يَدَّعِي الْإِرْجَاءَ قَالَ: وَحُكِيَ عَنْ شَبَّابَةَ قَوْلٌ أَخْبَثُ مِنْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ مَا سَمِعْت عَنْ أَحَدٍ بِمِثْلِهِ؛ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ شَبَّابَةُ: إذَا قَالَ: فَقَدْ عَمِلَ بِلِسَانِهِ كَمَا يَقُولُونَ فَإِذَا قَالَ فَقَدْ عَمِلَ بِجَارِحَتِهِ أَيْ بِلِسَانِهِ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ؛ ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: هَذَا قَوْلٌ خَبِيثٌ مَا سَمِعْت أَحَدًا يَقُولُ بِهِ وَلَا بَلَغَنِي"، وذلك لأنه هذا قول المُرجئة، إذا قال بلسانه يعني يكفي هذا في الإيمان، هذا قول، قول المُرجئة، قول الكَرامية الذين يقولوا إذا تكلم بلسانه الإيمان هو النطق باللسان.
ولهذا قال الإمام أحمد هذا قولٌ خبيث، إذا عمل بلسانه، قيل لشبابه: إذا قال، قال: إذا قال عمل بلسانه، وعمل بجارحته، يعني سيكفي، ولهذا قال الإمام أحمد ردًا عليه: هذا قولٌ خبيث ما سمعت عن أحد مثله، ولا بلغني، يعني هذا قول الكَرامية وهم طائفة من المُرجئة، وهم يرون الجهمية، الجهمية يقولون: الإيمان هو معرفة الرب بالقلب، والكفر هو جهلُ الرب بالقلب، وهذا أخبث قول قيل في مُسمى الإيمان، ثم يليهم الكَرامية الذين يقولون الإيمان قولٌ باللسان، يقول: إذا نطق بلسانه فهو مؤمن، وإن كان مُكذبًا في قلبه فهو مخلدًا في النار، فيجمعون بين قولين متناقضين، فيقولون: من تكلم بلسانه مؤمنًا كاملُ الإيمان، وهو يُخلد في النار لكونه مُكذبًا بقلبه، فيكون مؤمن، المؤمن الكاملُ الإيمان يُخلد في النار، وهذا جمع بين قولين متناقضين، ولهذا قال الإمام أحمد: هذا قول خبيث، ما سمعت أحدًا يقول به، ولا بلغني.
"قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: كُنْت كَتَبْت عَنْ شَبَّابَةَ شَيْئًا؟ فَقَالَ: نَعَمْ كُنْت كَتَبْت عَنْهُ قَدِيمًا يَسِيرًا"، يعني كتب عنه لأنه لم يعلم بحاله، ثم لما علم بحاله ترك الكتابة عنه، "قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: كَتَبْت عَنْهُ بَعْدُ؟ قَالَ: لَا وَلَا حَرْفًا. قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: يَزْعُمُونَ أَنَّ سُفْيَانَ كَانَ يَذْهَبُ إلَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ. فَقَالَ: هَذَا مَذْهَبُ سُفْيَانَ الْمَعْرُوفُ بِهِ الِاسْتِثْنَاءُ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: مَنْ يَرْوِيهِ عَنْ سُفْيَانَ فَقَالَ كُلُّ مَنْ حَكَى عَنْ سُفْيَانَ فِي هَذَا حِكَايَةً كَانَ يَسْتَثْنِي قَالَ وَقَالَ وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ: النَّاسُ عِنْدَنَا مُؤْمِنُونَ فِي الْأَحْكَامِ وَالْمَوَارِيثِ؟ وَلَا نَدْرِي مَا هُمْ عِنْدَ اللَّهِ".
يعني الآن نحن نعمل بالظاهر في الأحكام، نُجرى عليهم الأحكام ما داموا يعملون تُجرى عليهم الأحكام، وكذلك في المواريث، نُورث هذا من هذا ما دام نُورث المسلم من الميت مسلم إذا كان يُصلي ويصوم ويؤدي العمل، أما عند الله، فالله تعالى هو الذي يعلم ما في القلوب، والذي يعلم حقيقة الإيمان، فهم عندنا مؤمنون في الأحكام، وفي المواريث، وفي الدنيا تُجرى عليهم أحكامُ الإسلام، ولا ندري ما هم عند الله. "قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَأَنْتَ بِأَيِّ شَيْءٍ تَقُولُ؟ . فَقَالَ: نَحْنُ نَذْهَبُ إلَى الِاسْتِثْنَاءِ"، يعني فإذا استثنى في الإيمان نظر إلى أن الأعمال متعدِّدة، نعم.
القارئ: شبابة مُخرَّجٌ له في الصحيحين، بعضُ أهلِ التاريخ يقولون: بأنه رجع عن قوله في الإرجاء، وأنه يقول: الإيمان قولٌ وعمل، يزيد وينقص.
الشيخ: نعم، قد يروي أهلُ الحديث.. قد يُروَى عن بعض المبتدعة إذا كان صادقَ اللهجة، كما رُوي عن عمران بن حطان، وكان خارجيًّا؛ لأنَّه صادق، نعم.
(المتن)
قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَأَمَّا إذَا قَالَ: أَنَا مُسْلِمٌ فَلَا يُسْتَثْنَى؟ فَقَالَ: نَعَمْ لَا يُسْتَثْنَى إذَا قَالَ: أَنَا مُسْلِمٌ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: أَقُولُ: هَذَا مُسْلِمٌ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ([34]) وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ النَّاسُ مِنْهُ فَذَكَرَ حَدِيثَ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ: فَنَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الْكَلِمَةُ وَالْإِيمَانَ الْعَمَلُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: حَدَّثْنَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَنَقُولُ: الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ؟
فَقَالَ: حَدِيثُ النَّبِيِّ ﷺ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَذَكَرَ قَوْلَهُ أَخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ كَذَا أَخْرِجُوا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ كَذَا([35])، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَذُكِرَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عِيسَى الْأَحْمَرُ وَقَوْلُهُ فِي الْإِرْجَاءِ فَقَالَ: نَعَمْ، وَذَلِكَ خَبِيثُ الْقَوْلِ وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ سَمِعْت هِشَامًا يَقُولُ: كَانَ الْحَسَنُ وَمُحَمَّدٌ يَقُولَانِ: مُسْلِمٌ. وَيَهَابَانِ: مُؤْمِنٌ.
قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: رَوَاهُ غَيْرُ سويد؟ قَالَ: مَا عَلِمْت بِذَلِكَ وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ. قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَالْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ([36]) قَالَ: لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَقُولُ: إنَّهَا مُؤْمِنَةٌ يَقُولُونَ أَعْتِقْهَا.
قَالَ: وَمَالِكٌ سَمِعَهُ مِنْ هَذَا الشَّيْخِ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ لَا يَقُولُ فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا مُؤْمِنَةٌ فَهِيَ حِينَ تُقِرُّ بِذَاكَ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمُؤْمِنَةِ هَذَا مَعْنَاهُ. قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: تُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ؟
فَقَالَ: قَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ وَكَانَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ -زَعَمُوا- يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ قِيلَ لَهُ: مَنْ الْمُرْجِئَةُ؟ قَالَ: الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ بِلَا عَمَل.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله ينقل عن الإمام أحمد في التفريق بين الإسلام والإيمان، وأنه يُستثنى في الإيمان، ولا يُستثنى في الإسلام؛ وذلك لأن الإيمان لا يُطلق على من أدى الواجبات وترك المحرمات، أما الإسلام فإنه يُطلق على العاصي، فقال: "قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَأَمَّا إذَا قَالَ: أَنَا مُسْلِمٌ فَلَا يُسْتَثْنَى؟ فَقَالَ: نَعَمْ لَا يُسْتَثْنَى إذَا قَالَ: أَنَا مُسْلِمٌ"؛ لأنه أى الإسلام يُطلق على من قصر في بعض الواجبات، وفعل بعض المحرمات، بخلاف الإيمان، فلا يُطلق عليه الإيمان، فلا يُطلق عليه الإيمان إلا، فلا يُطلق عليه الإيمان إلا إذا أدى الواجبات وترك المحرمات.
"قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: أَقُولُ: هَذَا مُسْلِمٌ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ([37]) وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ النَّاسُ مِنْهُ فَذَكَرَ حَدِيثَ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ: فَنَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الْكَلِمَةُ وَالْإِيمَانَ الْعَمَلُ"، يعني الإسلامُ الكلمة المراد بها الشهادتان، شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدًا رسول الله، وهذا مروى عن الزُهري أن الإسلامُ الكلمة، والإيمانُ العمل، يعني مقصوده أنه إذا نطق بالشهادتين، فقد دخل في الإسلام، والإيمان العمل يعني أنه لا، أنه لا يُطلق عليه الإيمان حتى يعمل، يؤدي الواجبات، وينتهي عن المحرمات.
ثم قال: "قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: حَدَّثْنَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَنَقُولُ: الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ؟ فَقَالَ: حَدِيثُ النَّبِيِّ ﷺ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ"، ثم ذكر الأدلة، قال: "فَذَكَرَ قَوْلَهُ أَخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ كَذَا أَخْرِجُوا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ كَذَا([38])"، هذا يدل على أن الإيمان يزيد وينقص؛ لأنه، لأن الإيمان ما بقي منه إلا مثقال ذرة، خرج به من النار، وهذا يدل على أن المعاصي إن عظمت، وإن كثرت لا تقضي على الإيمان، لا يقضي على الإيمان إلا الكفر الأكبر، أو النفاق الأكبر، أو الشرك الأكبر، أما المعاصي وإن كثرت وإن عظمت لا تقضي على الإيمان، بل لابد لها، لكنها تُضعف الإيمان، حتى لا يبقى منه إلا مثقال ذرة، لكن لا يُخلد في النار، ولهذا يخرج من النار بهذا الإيمان، والتوحيد، يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ولا يكون الحكم حكم الكفره، الكافر ينتهي الإيمان، ولا يبقى مثقال ذرة، أما المؤمن، فلابد أن يبقى معه شيءٌ من الإيمان يخرج به من النار إذا دخل النار.
يقول: "فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ"، يعني هذا الحديث يدلُ على أن الإيمان يزيد وينقص، "وَذُكِرَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عِيسَى الْأَحْمَرُ وَقَوْلُهُ فِي الْإِرْجَاءِ"، وهو عيسى بن مسلم سفارة الأحمري معروف عنه الإرجاع، "فَقَالَ: نَعَمْ وَذَلِكَ خَبِيثُ الْقَوْلِ وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ سَمِعْت هِشَامًا يَقُولُ: كَانَ الْحَسَنُ وَمُحَمَّدٌ يَقُولَانِ: مُسْلِمٌ. وَيَهَابَانِ: مُؤْمِنٌ" يعني يقولان هذا هو مسلم، وهذا من باب التواضع، ومن باب التوقي، وعدم الجزم، فهم يقولون أنا مسلم، ويهابان أن يقال مؤمن، يعني خشية أن يكون قصر في بعض الواجبات، وفعل بعض المحرمات.
"قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: رَوَاهُ غَيْرُ سويد؟ قَالَ: مَا عَلِمْت بِذَلِكَ وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ. قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَالْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ([39])"، هذا الحديث رواه الإمام مسلم، وهذه القصة جاءت في قصة معاوية بن حُكم السُلمي لما صك الجارية، وجاء النبي ﷺ وعظم عليه ذلك، قال، قال: أعتقها فإنها مؤمنة، فأتى بها إلى النبي ﷺ وسألها قال: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: ومن أنا؟ قالت: مُعطى الصدقات، قال: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ.
"قَالَ: لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَقُولُ: إنَّهَا مُؤْمِنَةٌ يَقُولُونَ أَعْتِقْهَا. قَالَ: وَمَالِكٌ سَمِعَهُ مِنْ هَذَا الشَّيْخِ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ لَا يَقُولُ فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا مُؤْمِنَةٌ فَهِيَ حِينَ تُقِرُّ بِذَاكَ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمُؤْمِنَةِ هَذَا مَعْنَاهُ" هذا هو الصواب، الصواب أنها مؤمنة؛ لأن النبي ﷺ حكم لها بالإيمان، نعم، قلت لأبي عبد الله.
القارئ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَأَمَّا إذَا قَالَ: أَنَا مُسْلِمٌ فَلَا يُسْتَثْنَى؟.
الشيخ: "قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: تُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ؟ فَقَالَ: قَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ وَكَانَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ - زَعَمُوا - يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ قِيلَ لَهُ: مَنْ الْمُرْجِئَةُ؟ قَالَ: الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ بِلَا عَمَلٍ"، يعني هذا قول المُرجئة، يعني قول القلب، وقول اللسان، قول القلب هو التصديق، والمُرجئة الفقهاء يقولون تصديق القلب، وقول اللسان، هذا هم المُرجئة، نعم.
(المتن)
قُلْت: فَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لَمْ يُرِدْ قَطُّ أَنَّهُ سَلَبَ جَمِيعَ الْإِيمَانِ فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ مِنْهُ شَيْءٌ كَمَا تَقُولُهُ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُ قَدْ صَرَّحَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: بِأَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مَعَهُمْ إيمَانٌ يَخْرُجُونَ بِهِ مِنْ النَّارِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ أَخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ([40]).
وَلَيْسَ هَذَا قَوْلَهُ وَلَا قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ بَلْ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْفُسَّاقَ الَّذِينَ لَيْسُوا مُنَافِقِينَ مَعَهُمْ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ يَخْرُجُونَ بِهِ مِنْ النَّارِ هُوَ الْفَارِقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ لَكِنْ إذَا كَانَ مَعَهُ بَعْضُ الْإِيمَانِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَدْخُلَ فِي الِاسْمِ الْمُطْلَقِ الْمَمْدُوحِ، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ قَدْ نَفَى الِاسْمَ عَنْ هَؤُلَاءِ فَقَالَ: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ([41])، وَقَالَ: لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ([42])، وَقَالَ: لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ([43]) وَأَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ مَرَّاتٍ، وَقَالَ: الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ([44]) .
وَالْمُعْتَزِلَةُ يَنْفُونَ عَنْهُ اسْمَ الْإِيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ وَاسْمَ الْإِسْلَامِ أَيْضًا وَيَقُولُونَ: لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَيَقُولُونَ: نُنْزِلُهُ مَنْزِلَةً بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ فَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّهُ يُخَلَّدُ فِي النَّارِ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا بِالشَّفَاعَةِ.
وَهَذَا هُوَ الَّذِي أُنْكِرَ عَلَيْهِمْ وَإِلَّا لَوْ نَفَوْا مُطْلَقَ الِاسْمِ وَأَثْبَتُوا مَعَهُ شَيْئًا مِنْ الْإِيمَانِ يَخْرُجُ بِهِ مِنْ النَّارِ لَمْ يَكُونُوا مُبْتَدِعَةً، وَكُلُّ أَهْلِ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ سُلِبَ كَمَالُ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ فَزَالَ بَعْضُ إيمَانِهِ الْوَاجِبِ لَكِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ وَإِنَّمَا يُنَازِعُ فِي ذَلِكَ مَنْ يَقُولُ: الْإِيمَانُ لَا يَتَبَعَّضُ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُرْجِئَةِ فَيَقُولُونَ: إنَّهُ كَامِلُ الْإِيمَانِ.
فَاَلَّذِي يَنْفِي إطْلَاقَ الِاسْمِ يَقُولُ: الِاسْمُ الْمُطْلَقُ مَقْرُونٌ بِالْمَدْحِ وَاسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ كَقَوْلِنَا: مُتَّقٍ وَبَرٌّ وَعَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فَإِذَا كَانَ الْفَاسِقُ لَا تُطْلَقُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ فَكَذَلِكَ اسْمُ الْإِيمَانِ وَأَمَّا دُخُولُهُ فِي الْخِطَابِ فَلِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِاسْمِ الْإِيمَانِ كُلُّ مَنْ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْهُ لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَهُمْ فَمَعَاصِيهِمْ لَا تَسْقُطُ عَنْهُمْ الْأَمْرُ.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله يبيِّن أن العاصي يُنفى عنه كمالُ الإيمان، ولا يُنفى عنه جميع الإيمان؛ لأن نفي أصل الإيمان، إنما هو قول الخوارج والمعتزلة، وأهل السُنة يبرئون إلى الله من قول الخوارج والمعتزلة.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "قُلْت: فَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لَمْ يُرِدْ قَطُّ أَنَّهُ سَلَبَ جَمِيعَ الْإِيمَانِ"، يعني عن العاصي، " فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ مِنْهُ شَيْءٌ كَمَا تَقُولُهُ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُ"، يعني الإمام أحمد "قَدْ صَرَّحَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: بِأَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مَعَهُمْ إيمَانٌ يَخْرُجُونَ بِهِ مِنْ النَّارِ"، يعني أصل الإيمان، "وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ أَخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ([45])"، هذا دليل على أن العاصي يبقى معه شيءٌ من الإيمان، ولهذا خرج من النار، دخل النار بالمعاصي، وخرج من النار بما معه من الإيمان، فدل على أن معه أصلُ الإيمان.
يقول: "وَلَيْسَ هَذَا قَوْلَهُ وَلَا قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ بَلْ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْفُسَّاقَ الَّذِينَ لَيْسُوا مُنَافِقِينَ مَعَهُمْ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ يَخْرُجُونَ بِهِ مِنْ النَّارِ"، كما في الحديث أَخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ([46])، "هُوَ الْفَارِقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ"، يعني الفارق بين العُصاة وبين الكفار والمنافقين أن العُصاة معهم أصلُ الإيمان الذي يُدخلهم في دائرة الإسلام، والذين يخرجون به من النار إذا دخلوها، وأما الكفار ليس معهم أصل الإيمان، بل هم مخلدون في النار.
يقول المؤلف: "لَكِنْ إذَا كَانَ مَعَهُ بَعْضُ الْإِيمَانِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَدْخُلَ فِي الِاسْمِ الْمُطْلَقِ الْمَمْدُوحِ"، يعني إذا كان العاصي معه أصلُ الإيمان فلا يدخل في اسمِ الإيمان، في الاسم المطلق، وهو كمال الإيمان الممدوح الذي مُدح أهله، وعد الله عليه بدخول الجنة، والنجاة من النار كما في آية الأنفال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2]، ثم قال بعد ذلك: أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال: 4]، وقال في آية الحجرات: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15]، هذا مدح ما يدخل العاصي في هذا المدح، أولئك هم الصادقون، أولئك هم المؤمنون حقًا، هذا الاسم المطلق الممدوح إنما يحصل لمن أدى الواجبات، وترك المحرمات.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَصَاحِبُ الشَّرْعِ قَدْ نَفَى الِاسْمَ عَنْ هَؤُلَاءِ" صاحب الشرع هو النبي ﷺ، صاحب الشرع، "قَدْ نَفَى الِاسْمَ عَنْ هَؤُلَاءِ" عن العصاة، الزاني والسارق وشارب الخمر والناهب، "فَقَالَ: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ([47])"، هذا نفي، المنفي هو كمالُ الإيمان، " وَقَالَ: لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ([48])" يعني لا يؤمنُ الإيمان الكامل الواجب الذي تبرأُ به ذمته، ويستحق به دخول الجنة والنجاة من النار، "وَقَالَ: لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ([49]) وَأَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ مَرَّاتٍ" قال وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، قيل: من يا رسول الله؟ قال: لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ([50])، أقسم مرات، والمراد لا يؤمن الإيمان الكامل، "وَقَالَ: الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ([51])" والذي لا يأمنه الناس على دمائهم وأموالهم معه أصل الإيمان، ضعيفُ الإيمان، ولكن المؤمن الكامل هو الذي يأمنه الناس على دمائهم وأموالهم.
قال المؤلف رحمه الله: "وَالْمُعْتَزِلَةُ يَنْفُونَ عَنْهُ اسْمَ الْإِيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ وَاسْمَ الْإِسْلَامِ أَيْضًا"، المعتزلة ينفون عن العاصي اسم الإيمان، واسم الإسلام؛ لأن الإسلام والإيمان شيءٌ واحد عندهم، فإذا عصى قالوا: خرج من الإيمان، وخرج من الإسلام.
"وَيَقُولُونَ: لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَيَقُولُونَ: نُنْزِلُهُ مَنْزِلَةً بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ"، يسمونه فاسقًا، لا مؤمن ولا كافر، "فَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّهُ يُخَلَّدُ فِي النَّارِ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا بِالشَّفَاعَةِ"، في الآخرة يُخلِّدونه في النار، وأما في الدنيا فيخرجونه من الإيمان والإسلام جميعًا، ولا يُدْخِلُونه في الكفر، يقولون: هو فاسق، لا مؤمن ولا كافر.
والخوارج يقولون: خرج من الإيمان ودخل في الكفر، ثم يتفق الخوارجُ والمعتزلة في الآخرة في أنه يُخلَّد في النار، ولا يخرج منها بالشفاعة.
ولهذا أنكر عليهم أهل السُّنَّة وبدَّعوهم، وأنكروا عليهم، قالوا: إن نصوص الشفاعة في إخراج العُصاة متواترة، فكيف تُنكرونها؟! فهم أنكروا نصوص الشفاعة مع أنها متواترة.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَهَذَا هُوَ الَّذِي أُنْكِرَ عَلَيْهِمْ" أنكر على المعتزلة كونهم يُخلدون في النار، وكونهم يخرجونهم من الإيمان، "وَإِلَّا لَوْ نَفَوْا مُطْلَقَ الِاسْمِ وَأَثْبَتُوا مَعَهُ شَيْئًا مِنْ الْإِيمَانِ يَخْرُجُ بِهِ مِنْ النَّارِ لَمْ يَكُونُوا مُبْتَدِعَةً"، لو أثبتوا مُطلق الاسم، مطلق اسم الإيمان، وهو الإيمانُ الذي يصحُ به إسلامهم، وأثبتوه وجعلوه يَخْرُجُ من النار، بهذا الإيمان "لَمْ يَكُونُوا مُبْتَدِعَةً".
يقول: "وَكُلُّ أَهْلِ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ سُلِبَ كَمَالُ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ فَزَالَ بَعْضُ إيمَانِهِ الْوَاجِبِ لَكِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ"، يعني أهل السُنة متفقون على أن العاصي ومرتكب الكبيرة سُلب كمال الإيمان الواجب، لكنه لمْ يُسلَب أصْلَ الإيمان، "فَزَالَ بَعْضُ إيمَانِهِ الْوَاجِبِ" وبقي أصلُ الإيمان، " لَكِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ"، مُتوَعَّد بسبب ارتكابه للكبائر.
يقول: "وَإِنَّمَا يُنَازِعُ فِي ذَلِكَ مَنْ يَقُولُ: الْإِيمَانُ لَا يَتَبَعَّضُ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُرْجِئَةِ"، الجهمية والمُرجئة يقولون: إن الإيمان شيءٌ واحد لا يزيد ولا ينقص، إذا زال زال جميعه، وإذا ثبت ثبت جميعه، هؤلاء هم الَّذِينَ ينازعون؛ فيقولون: لا يمكن أن يبقى بعض الإيمان، يُسلب عنه بعضُ الإيمان، ويبقى بعض الإيمان.
أمَّا أهلُ السُّنَّة فإنهم يقولون: يُسلب عنه كمال الإيمان، ويبقى عنده بعض الإيمان، أما الجهمية، والمُرجئة فيقولون: إنه كاملُ الإيمان، كاملُ الإيمان؛ لأن الإيمان عندهم هو تصديقُ القلب، مَن صدَّقَ فهو كامل الإيمان؛ لأن الأعمال لا يُدخلونها في مُسمى الإيمان.
"فَاَلَّذِي يَنْفِي إطْلَاقَ الِاسْمِ يَقُولُ -وهُمْ أهلُ السُّنَّة-: الِاسْمُ الْمُطْلَقُ مَقْرُونٌ بِالْمَدْحِ وَاسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ" الاسم المطلق اسمُ المؤمن، هذا مقرونٌ بالمدح، وهو الذي يؤدي الواجبات، وينتهي عن المحرمات، فالاسم المطلق مقرون بالمدح واستحقاق الثواب، "كَقَوْلِنَا: مُتَّقٍ وَبَرٌّ وَعَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ"، يقول: مؤمن، قال: هو ممدوح، هذا أدى الواجبات، وترك المحرمات، كما لو قال متقي، بر على الصراط المستقيم.
يقول المؤلف: "فَإِذَا كَانَ الْفَاسِقُ لَا تُطْلَقُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ"، يعني لا يُطلق عليه اسم مؤمن، اسم متقٍّ، اسم بَرٍّ، " فَكَذَلِكَ اسْمُ الْإِيمَانِ" إذا كان لا يُطلق عليه اسمُ متقٍّ، واسمُ بَرٍّ وعلى الصراط المستقيم، فكذلك اسمُ الإيمان لا يُطلق عليه، يعني: إلا بقيد.
"وَأَمَّا دُخُولُهُ فِي الْخِطَابِ"، يقول: يا أيها الذين آمنوا، أقيموا الصلاة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة: 208]، فهذا يدخل، لماذا؟ قال: "لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِاسْمِ الْإِيمَانِ كُلُّ مَنْ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْهُ".
هذا الخطاب مُوجَّه لكل شخص معه شيءٌ من الإيمان؛ لأنه أمرٌ لهم بأن يؤدوا هذا الأمر، فمعاصيهم لا تُسْقِطُ عنهم الأمر.
فَرْقٌ بين الخطاب المُوَجَّه، وبين الاسم المطلق، فالاسم المطلق لا يُطلق على العاصي، أما الخطاب فإنه يُوجَّه إلى العاصي؛ لأن معه أصلُ الإيمان، فيُوجَّه إليه؛ حتى يفعلَ الأوامر، ويجتنبَ النواهي، نعم.
([1]) – تفسير ابن جرير (21/388)
([2]) – أخرجه البخاري رقم (6044)، ومسلم رقم (64) من حديث عبد الله بن مسعود .
([3]) – سبق تخريجه (...)
([4]) – سبق تخريجه (...)
([5]) – سبق تخريجه (...)
([6]) –
([7]) –
([8]) –سبق تخريجه ()
([9]) – سبق تخريجه ()
([10]) – سبق تخريجه ()
([11]) – سبق تخريجه ()
([12]) – سبق تخريجه ()
([13]) – سبق تخريجه ()
([14]) –111111111111111
([15]) – سبق تخريجه ()
([16]) – سبق تخريجه ()
([17]) – سبق تخريجه ()
([18]) – سبق تخريجه ()
([19]) – سبق تخريجه ()
([20]) – سبق تخريجه ()
([21]) –
([22]) – 11111111
([23]) – سبق تخريجه ()
([24]) – أخرجه مسلم رقم (249) من حديث أبي هريرة وأخرجه كذلك رقم (974) من حديث عائشة رضي الله عنها.
([25]) – 11111
([26]) – أخرجه مسلم رقم (1110).
([27]) –
([28]) –
([29]) –
([30]) –
([31]) – سبق تخريجه ()
([32]) – سبق تخريجه ()
([33]) – سبق تخريجه ()
([34]) – أخرجه البخاري رقم (10-6484) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وأخرجه مسلم (41) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
([35]) –
([36]) – سبق تخريجه ().
([37]) – سبق تخريجه ().
([38]) – أخرجه البخاري رقم (22) من أبي سعيد الخدري بلفظ :يَدْخُلُ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ. فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا قَدِ اسْوَدُّوا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الحَيَا، أَوِ الحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الحِبَّةُ فِي جَانِبِ السَّيْلِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهَا تَخْرُجُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً
([39]) –
([40]) – سبق تخريجه ().
([41]) – سبق تخريجه ().
([42]) – سبق تخريجه ().
([43]) – سبق تخريجه ().
([44]) – أخرجه ابن ماجه رقم (3934) من حديث فضالة بن عبيد .قال الإمام البوصيري في مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه (4/ 164):" هذا إسناد صحيح "
([45]) – سبق تخريجه ()
([46]) – سبق تخريجه ()
([47]) – سبق تخريجه ()
([48]) – سبق تخريجه ()
([49]) – سبق تخريجه ()
([50]) – سبق تخريجه ()
([51]) – سبق تخريجه ()