شعار الموقع
  1. الصفحة الرئيسية
  2. الدروس العلمية
  3. العقيدة
  4. شرح كتاب الإيمان الكبير
  5. شرح كتاب الإيمان الكبير_31 من قوله فَالْإِسْلَامُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ - إلى وَكَانَ يَجْرِي ذَلِكَ لِأَسْبَابِ مِنْهَا أَمْرُ الْقِبْلَةِ لَمَّا حُوِّلَتْ

شرح كتاب الإيمان الكبير_31 من قوله فَالْإِسْلَامُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ - إلى وَكَانَ يَجْرِي ذَلِكَ لِأَسْبَابِ مِنْهَا أَمْرُ الْقِبْلَةِ لَمَّا حُوِّلَتْ

00:00
00:00
تحميل
68

(المتن)

توقفنا عند قول المؤلّف-رَحِمَهُ اللهُ:

فَالْإِسْلَامُ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، وَهَذَا دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ دِينًا غَيْرَهُ لَا مِنْ الْأَوَّلِينَ وَلَا مِنْ الآخرين، وَلَا تَكُونُ عِبَادَتُهُ مَعَ إرْسَالِ الرُّسُلِ إلَيْنَا إلَّا بِمَا أَمَرَتْ بِهِ رُسُلُهُ لَا بِمَا يُضَادُّ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ ضِدَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ.

وَقَدْ خَتَمَ اللَّهُ الرُّسُلَ بِمُحَمَّدِ -ﷺ-، فَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا إلَّا مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ بِهَا يَدْخُلُ الْإِنْسَانُ فِي الْإِسْلَامِ. فَمَنْ قَالَ: الْإِسْلَامُ الْكَلِمَةُ وَأَرَادَ هَذَا فَقَدَ صَدَقَ.

ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الْتِزَامِ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ كَالْمَبَانِي الْخَمْسِ، وَمَنْ تَرَكَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا نَقَصَ إسْلَامُهُ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: مَنْ انْتَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا فَهُوَ سَهْمٌ مِنْ الْإِسْلَامِ تَرَكَهُ([1])

وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ إذَا عَمِلَهَا الْإِنْسَانُ مُخْلِصًا لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُثِيبُهُ عَلَيْهَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا مَعَ إقْرَارِهِ بِقَلْبِهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَيَكُونُ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ هَذَا الْإِقْرَارُ. وَهَذَا الْإِقْرَارُ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ مَعَهُ مِنْ الْيَقِينِ مَا لَا يَقْبَلُ الرَّيْبَ، وَلَا أَنْ يَكُونَ مُجَاهِدًا، وَلَا سَائِرَ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْمُؤْمِنُ عَنْ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَيْسَ بِمُؤْمِنِ.

وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا مَعَهُمْ هَذَا الْإِسْلَامُ بِلَوَازِمِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَلَمْ يَصِلُوا إلَى الْيَقِينِ وَالْجِهَادِ، فَهَؤُلَاءِ يُثَابُونَ عَلَى إسْلَامِهِمْ وَإِقْرَارِهِمْ بِالرَّسُولِ مُجْمَلًا، وَقَدْ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُ جَاءَ بِكِتَابٍ، وَقَدْ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُ جَاءَهُ مَلَكٌ، وَلَا أَنَّهُ أَخْبَرَ بِكَذَا، وَإِذَا لَمْ يَبْلُغْهُمْ أَنَّ الرَّسُولَ أَخْبَرَ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ الْإِقْرَارُ الْمُفَصَّلُ بِهِ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ صَادِقٌ فِي كُلِّ مَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ.

(الشرح)

بسم الله الرحمن الرحيم والحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد: -

فإن المؤلّف-رَحِمَهُ اللهُ-لا يزال يبيِّن الفرق بين الإسلام والإيمان، وأن الإسلام: هو الأعمال الظاهرة، وأن الإيمان: هو الأمور الباطنة. وأن الإسلام الذي هو الأعمال الظاهرة لا بُد له من إيمانٍ في الباطن يُصححه، ثم هذا الإيمان الذي يُصحح هذا الإسلام لا يستلزم أن يكون إيمانًا كاملًا، ولا يستلزم أن يكون معه اليقين الكامل، ولا يستلزم الجهاد، وإنما هو إيمانٌ يصح به إسلامه ويدخل في دائرة الإسلام، أما الإيمان الذي يستلزم أداء الواجبات وترك المحرمات هذا هو الإيمان الكامل يكون بعد ذلك.

ولهذا قال المؤلّف-رَحِمَهُ اللهُ-: "فَالْإِسْلَامُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ"، هذا الإسلام الصحيح؛ فالإسلام عبادة الله، استسلامٌ لله وانقيادٌ له، استسلامٌ لله بالتوحيد وانقيادٌ له بالطاعة، وخلوصٌ من الشرك، وبراءةٌ من الشرك وأهله؛ ولهذا قال المؤلّف-رَحِمَهُ اللهُ-: "فَالْإِسْلَامُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ".

فالدين هو العبادة، يعني مخلصًا له العبادة؛ لأن الدين له معاني: يُطلق على الجزاء والحساب، ويُطلق على العبادة، مثل: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] المراد به الجزاء والحساب. وهنا: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ  [الزمر:2] المراد بالدين العبادة.

يقول المؤلّف-رَحِمَهُ اللهُ-: "وَهَذَا دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ دِينًا غَيْرَهُ لَا مِنْ الْأَوَّلِينَ وَلَا مِنْ الآخرين" يعني دين الله الذي لا يقبل الله من أحدٍ دينًا غيره هو عبادة الله مع الإخلاص، عبادة الله وحده لا شريك له. فعبادة الله وحده لا شريك له هذا لا بُد منه، فلا يقبل الله من أحدٍ دينًا لا من الأولين ولا من الآخرين حتى يُخلص له العبادة ويبرأ من الشرك وأهله.

يقول المؤلّف رَحِمَهُ اللهُ: "وَلَا تَكُونُ عِبَادَتُهُ مَعَ إرْسَالِ الرُّسُلِ إلَيْنَا إلَّا بِمَا أَمَرَتْ بِهِ رُسُلُهُ لَا بِمَا يُضَادُّ ذَلِكَ" يعني عبادة الله إنما تكون التعبُّد إليه، لا بالهوى، ولا بما يهواه الإنسان ويناسبه، وإنما يتعبد لله بما شرعه الله في كتابه وأرسل به رسله، يبقي شرع بما جاءت به الرسل، وبعد بعثة نبينا محمد ﷺ تكون العبادة: ما شرعه الله في كتابه وعلى لسان رسوله ﷺ.

ولهذا قال المؤلّف-رَحِمَهُ اللهُ-: "وَلَا تَكُونُ عِبَادَتُهُ مَعَ إرْسَالِ الرُّسُلِ إلَيْنَا إلَّا بِمَا أَمَرَتْ بِهِ رُسُلُهُ لَا بِمَا يُضَادُّ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ ضِدَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ. وَقَدْ خَتَمَ اللَّهُ الرُّسُلَ بِمُحَمَّدِ ﷺ، فَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا إلَّا مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ"؛ يعني هذا الإسلام الخاص، الإسلام بمعناه العام: هو توحيد الله وطاعة كل نبيٍّ في زمانه. والإسلام بمعناه الخاص بعد بعثة نبينا محمد ﷺ هو توحيد الله، والشهادة لله تعالى بالوحدانية ولنبيه محمد ﷺ بالرسالة، واتباع ما جاء في الشريعة الخاتمة.

ولهذا قال المؤلّف-رَحِمَهُ اللهُ-: "وَقَدْ خَتَمَ اللَّهُ الرُّسُل بِمُحَمَّدِ ﷺ، فَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا إلَّا مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ"؛ يعني كلمة التوحيد (الشهادتان) "بِهَا يَدْخُلُ الْإِنْسَانُ فِي الْإِسْلَامِ. فَمَنْ قَالَ: الْإِسْلَامُ الْكَلِمَةُ وَأَرَادَ هَذَا فَقَدَ صَدَقَ" يعني الكلمة: التوحيد، " ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الْتِزَامِ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ" يعني ما يكفي النطق بالشهادتين؛ لابد من الالتزام بالأعمال الظاهرة "كَالْمَبَانِي الْخَمْسِ" وهي أركان الإسلام الخمسة، "وَمَنْ تَرَكَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا نَقَصَ إسْلَامُهُ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: مَنْ انْتَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا فَهُوَ سَهْمٌ مِنْ الْإِسْلَامِ تَرَكَهُ([2])".

أمَّا إذا لم يعمل شيئًا واكتفى بمجرد النطق بالشهادتين، فهذا لا يكفي؛ لأنه لا يتحقق الإسلام بشيء؛ لأن هذا إسلام المنافقين؛ ولهذا قال المؤلّف-رَحِمَهُ اللهُ-: "وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ إذَا عَمِلَهَا الْإِنْسَانُ مُخْلِصًا لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُثِيبُهُ عَلَيْهَا" الصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرها، "وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا مَعَ إقْرَارِهِ بِقَلْبِهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ"؛ يعني الأعمال الظاهرة لا تكون صحيحة ولا تكون نافعة إلا بإيمانٍ يُصححها، إيمانٍ في الباطن وهو أن يقر بقلبه أنه لا إله إلا الله، يعتقد بقلبه أنه لا معبود بحق إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، "فَيَكُونُ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ هَذَا الْإِقْرَارُ" هذا الإقرار لا بُد منه في صحة الإسلام؛ لا يصح الإسلام إلا به، ولكنه لا يلزم من هذا الإقرار أن يكون مع الإنسان حقيقة الإيمان، لا.

ولهذا قال المؤلّف-رَحِمَهُ اللهُ-: "وَهَذَا الْإِقْرَارُ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ مَعَهُ مِنْ الْيَقِينِ مَا لَا يَقْبَلُ الرَّيْبَ، وَلَا أَنْ يَكُونَ مُجَاهِدًا، وَلَا سَائِرَ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْمُؤْمِنُ عَنْ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَيْسَ بِمُؤْمِنِ" نعم، هذا ما يلزم، هذا إيمانٌ يصححه الإسلام، ولكن لا يلزم معه أن يكون الشخص قوي الإيمان أو كامل الإيمان، لا؛ هو قد يكون معه إيمانٌ يصح به إسلامه ويكون عنده شك وعنده ضعف، وليس عنده إقدام على الجهاد ولا إقدام على الأعمال الصالحة.

القارئ: لكن الريب المقصود به الشك عمومًا هكذا؟

الشيخ: نعم، يعني نوع من الشك.

القارئ: لكن لو جاء فيه الشَكْ؛ يُخرج من الملة.

الشيخ: المراد بالشك الذي ينافي كمال الإيمان، يعني قوة الإيمان، أمَّا الشك في أصل الدين فهذا يكون رِدّة عن الإسلام؛ الشك في ربوبية الله أو في ألوهيته، أو في أسمائه وصفاته، أو في بعثة نبينا محمدٍ ﷺ، أو في الجنة، أو في النار؛ هذا يُخرِج عن الإسلام.

يقول المؤلّف-رَحِمَهُ اللهُ-: "وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا مَعَهُمْ هَذَا الْإِسْلَامُ بِلَوَازِمِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَلَمْ يَصِلُوا إلَى الْيَقِينِ وَالْجِهَادِ" يعني ما وصلوا إلى كمال الإيمان ولا إلى حقيقة الإيمان، "فَهَؤُلَاءِ يُثَابُونَ عَلَى إسْلَامِهِمْ وَإِقْرَارِهِمْ بِالرَّسُولِ مُجْمَلًا، وَقَدْ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُ جَاءَ بِكِتَابٍ، وَقَدْ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُ جَاءَهُ مَلَكٌ، وَلَا أَنَّهُ أَخْبَرَ بِكَذَا"؛ لجهلهم يعني، ويكونوا معذورين بجهلهم، "وَإِذَا لَمْ يَبْلُغْهُمْ أَنَّ الرَّسُولَ أَخْبَرَ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ الْإِقْرَارُ الْمُفَصَّلُ بِهِ"؛ لا يكلفهم الله إلا بما في وِسعهم.

يقول المؤلّف: "لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ صَادِقٌ فِي كُلِّ مَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ" هذا لا بُد منه، كل مسلم لا بُد أن يُقر بأن محمدًا رسول الله وأنه صادق في كل ما يُخبر به، هذا إيمان إجباري لا بُد منه.

(المتن)

ثُمَّ الْإِيمَانُ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ فِيهِ تَفْصِيلٌ وَفِيهِ طُمَأْنِينَةٌ وَيَقِينٌ؛ فَهَذَا مُتَمَيِّزٌ بِصِفَتِهِ وَقَدْرِهِ فِي الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَتَفْصِيلِ الْمُعَادِ وَالْقَدَرِ مَا لَا يَعْرِفُهُ هَؤُلَاءِ.

وَأَيْضًا فَفِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْيَقِينِ وَالثَّبَاتِ وَلُزُومِ التَّصْدِيقِ لِقُلُوبِهِمْ مَا لَيْسَ مَعَ هَؤُلَاءِ، وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، وَكُلُّ مُؤْمِنٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَسْتَلْزِمُ الْأَعْمَالَ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا هَذَا الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِسْلَامَ لِلَّهِ وَالْعَمَلَ لَهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذَا الْإِيمَانِ الْخَاصِّ.

وَهَذَا الْفَرْقُ يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ وَيَعْرِفُهُ مِنْ غَيْرِهِ؛ فَعَامَّةُ النَّاسِ إذَا أَسْلَمُوا بَعْدَ كُفْرٍ أَوْ وُلِدُوا عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْتَزَمُوا شَرَائِعَهُ وَكَانُوا مِنْ أَهْلِ الطَّاعَةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَهُمْ مُسْلِمُونَ وَمَعَهُمْ إيمَانٌ مُجْمَلٌ.

وَلَكِنَّ دُخُولَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ إلَى قُلُوبِهِمْ إنَّمَا يَحْصُلُ شَيْئًا فَشَيْئًا إنْ أَعْطَاهُمْ اللَّهُ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَصِلُونَ لَا إلَى الْيَقِينِ وَلَا إلَى الْجِهَادِ، وَلَوْ شُكِّكُوا لَشَكُّوا، وَلَوْ أُمِرُوا بِالْجِهَادِ لَمَا جَاهَدُوا وَلَيْسُوا كُفَّارًا وَلَا مُنَافِقِينَ، بَلْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْ عِلْمِ الْقَلْبِ وَمَعْرِفَتِهِ وَيَقِينِهِ مَا يَدْرَأُ الرَّيْبَ، وَلَا عِنْدَهُمْ مِنْ قُوَّةِ الْحُبِّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ مَا يُقَدِّمُونَهُ عَلَى الْأَهْلِ وَالْمَالِ.

وَهَؤُلَاءِ إنْ سَلِموا مِنْ الْمِحْنَةِ وَمَاتُوا دَخَلُوا الْجَنَّةَ. وَإِنْ اُبْتُلُوا بِمَنْ يُورِدُ عَلَيْهِمْ شُبُهَاتٍ تُوجِبُ رَيْبَهُمْ فَإِنْ لَمْ يُنْعِمْ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِمَا يُزِيلُ الرَّيْبَ وَإِلَّا صَارُوا مُرْتَابِينَ وَانْتَقَلُوا إلَى نَوْعٍ مِنْ النِّفَاقِ.

(الشرح)

المؤلّف-رَحِمَهُ اللهُ- يبيِّن أن الإيمان الذي يُصححه الإسلام هذا لا بُدَّ منه في الدخول في الإسلام، ولا بُدَّ منه أيضًا مع، فالعصاة لا بُدَّ أن يكون معهم هذا الإيمان الذي يُصح إسلامهم، ولا يلزم من ذلك كمال الإيمان؛ ولهذا قال المؤلّف-رَحِمَهُ اللهُ-: "ثُمَّ الْإِيمَانُ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ فِيهِ تَفْصِيلٌ وَفِيهِ طُمَأْنِينَةٌ وَيَقِينٌ" يعني: الإيمان الذي يمتاز به قوي الإيمان مِن ضعيف الإيمان فيه تفصيل وفيه طمأنينة ويقين، فهذا متميُّز بصفته وقدْره في الكمية والكيفية؛ في الكمية يعني: كمية الإيمان أن يكون يعمل، يؤدي الواجبات وينتهي عن المحرمات، وهذا لا يعمل به ضعيف الإيمان، وفي الكيفية يعني: يكون عنده قوة إيمان في قلبه، وهذا قوة الإيمان الذي في قلبه هو الذي يحمله على أداء الواجبات وترك المحرمات.

يقول المؤلّف-رَحِمَهُ اللهُ-: "فَإِنَّ أُولَئِكَ مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَتَفْصِيلِ الْمُعَادِ وَالْقَدَرِ مَا لَا يَعْرِفُهُ هَؤُلَاءِ" يعني: الذين كَمُلَ إيمانهم معهم من التصديق في الباطن ما لا يعرفه ضعفاء الإيمان، معهم تصديق بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله [11:31] في قلوبهم ما لا يعرفه ضعفاء الإيمان.

"وَأَيْضًا فَفِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْيَقِينِ وَالثَّبَاتِ وَلُزُومِ التَّصْدِيقِ لِقُلُوبِهِمْ مَا لَيْسَ مَعَ هَؤُلَاءِ"، المؤلّف يقارن بين ضعفاء الإيمان وأقوياء الإيمان؛ فأقوياء الإيمان في قلوبهم من اليقين والثبات ولزوم التصديق لقلوبهم ما ليس مع ضعفاء الإيمان، وفي قلوبهم اليقين والطمأنينة، والإيمان الذي في قلوبهم ومعرفة الله والإيمان بالله والإيمان بملائكته وكتبه ورسله وتفصيل الميعاد والقدر هذا في قلوب المؤمنين أقوياء الإيمان ليس كالإيمان الذي في قلوب ضعفاء الإيمان.

يقول المؤلّف-رَحِمَهُ اللهُ-: "وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، الذين أدوا الواجبات وتركوا المحرمات، وَكُلُّ مُؤْمِنٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا"؛ لأن الإسلام هو الأعمال، كلُّ مؤمن لا يسمى مؤمن إلا إذا أتى بالواجبات وترك المحرمات، فإذًا الإيمان يستلزم الأعمال. وليس كل مسلمٍ مؤمنًا؛ لأن الإسلام يُطلق على العاصي ولا يطلق عليه الإيمان؛ فالعاصي يسمى مسلم ولا يسمى مؤمن؛ ولهذا قال المؤلّف-رَحِمَهُ اللهُ-: "وَكُلُّ مُؤْمِنٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا"، كل مؤمن لا بُد أن يكون مسلمًا أتى بالواجبات وترك المحرمات.

"َإِنَّ الْإِيمَانَ يَسْتَلْزِمُ الْأَعْمَالَ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا هَذَا الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ"؛ لأن الإسلام يُطلق على العاصي؛ ولهذا قال المؤلّف-رَحِمَهُ اللهُ-: "لِأَنَّ الِاسْتِسْلَامَ لِلَّهِ وَالْعَمَلَ لَهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذَا الْإِيمَانِ الْخَاصِّ" اللي هو أداء الواجبات وترك المحرمات.

يقول المؤلّف: "وَهَذَا الْفَرْقُ يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ وَيَعْرِفُهُ مِنْ غَيْرِهِ" هذا صحيح؛ يجد الإنسان في نفسه إذا أدى الواجبات وترك المحرمات صار عنده من اليقين، وعنده من التصديق والرغبة فيما عند الله والرغبة بما عنده، ما ليس عند غيره ممن لم يكن كذلك.

ولهذا قال المؤلّف-رَحِمَهُ اللهُ-: "فَعَامَّةُ النَّاسِ إذَا أَسْلَمُوا بَعْدَ كُفْرٍ أَوْ وُلِدُوا عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْتَزَمُوا شَرَائِعَهُ وَكَانُوا مِنْ أَهْلِ الطَّاعَةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَهُمْ مُسْلِمُونَ وَمَعَهُمْ إيمَانٌ مُجْمَلٌ" يعني أصل الإيمان "وَلَكِنَّ دُخُولَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ إلَى قُلُوبِهِمْ إنَّمَا يَحْصُلُ شَيْئًا فَشَيْئًا إنْ أَعْطَاهُمْ اللَّهُ ذَلِكَ" يعني دخول حقيقة الإيمان تكون بعد ذلك؛ إن أتاهم الله ذلك بسبب وُفِّقوا لمَن يخالطونهم من المؤمنين، وُفِّقوا للعمل الصالح، وُفِّقوا لتدبر القرآن، وُفِّقوا للجلوس في حِلق الذكر، فإن أعطاهم الله ذلك يكون دخول الإيمان يحصل شيئًا بعد شيء.

"وَإِلَّا فَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَصِلُونَ لَا إلَى الْيَقِينِ وَلَا إلَى الْجِهَادِ، وَلَوْ شُكِّكُوا لَشَكُّوا"؛ بسبب ضعف الإيمان ما عندهم إلا أصل الإيمان، وليس عندهم من الحصانة ما يقوِّي إيمانهم، الحصانة الدينية، وليس عندهم قوة الإيمان وقوة اليقين والاشتغال بتلاوة القرآن وحضور المجالس (مجالس الذكر) والأعمال الصالحة والجهاد في سبيله الذي يتقوى به الإيمان، ما عندهم هذا. فهؤلاء اقتصروا على الإسلام في الظاهر؛ ولهذا لو شُكِّكُوا لَشَكُّوا؛ بسبب ضعف إيمانهم، فمَن سلَّمه الله سَلِم، ومن شُكِّك شك.

ولهذا قال المؤلّف: "وَلَوْ أُمِرُوا بِالْجِهَادِ لَمَا جَاهَدُوا وَلَيْسُوا كُفَّارًا وَلَا مُنَافِقِينَ"، ماذا يكونون؟ ضعفاء إيمان، "بَلْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْ عِلْمِ الْقَلْبِ وَمَعْرِفَتِهِ وَيَقِينِهِ مَا يَدْرَأُ الرَّيْبَ" ضعف الإيمان الذي في قلوبهم لا يدرأ الريب إذا ورد. هم الآن ليس عندهم ريب، لكن قد يرِد الريب عليهم، فإذا ورد الريب والشك؛ شُكِّكوا لشكوا وانتقلوا عن الإسلام، ولو سلَّمهم الله وسلِموا من الريب ولم يُشككوا في دينهم بقوا على إيمانهم الضعيف.

ولهذا قال المؤلّف-رَحِمَهُ اللهُ-: "بَلْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْ عِلْمِ الْقَلْبِ وَمَعْرِفَتِهِ وَيَقِينِهِ مَا يَدْرَأُ الرَّيْبَ، وَلَا عِنْدَهُمْ مِنْ قُوَّةِ الْحُبِّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ مَا يُقَدِّمُونَهُ عَلَى الْأَهْلِ وَالْمَالِ" ولهذا لو طُلب منهم الجهاد ما جاهدوا.

"وَهَؤُلَاءِ إنْ سَلِموا مِنْ الْمِحْنَةِ وَمَاتُوا دَخَلُوا الْجَنَّةَ" إن سلِموا من المحنة، لم يحصل لهم محنة، لم يُشكَّكوا في دينهم، لم يُبتلوا في دينهم، إذا ماتوا وسلِموا دخلوا الجنة؛ لأن هذا الإيمان يدخلون به الجنة، وقد يصيبهم أهوال وشدائد يوم القيامة أو عذابٌ في القبر أو دخولٌ في النار لكن مآلهم الجنة والسلامة.

"وَإِنْ اُبْتُلُوا بِمَنْ يُورِدُ عَلَيْهِمْ شُبُهَاتٍ تُوجِبُ رَيْبَهُمْ" فهم بين أمرين: "فَإِنْ لَمْ يُنْعِمْ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِمَا يُزِيلُ الرَّيْبَ وَإِلَّا صَارُوا مُرْتَابِينَ وَانْتَقَلُوا إلَى نَوْعٍ مِنْ النِّفَاقِ" ولا حول ولا قوة إلا بالله.

(المتن)

وَكَذَلِكَ إذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ الْجِهَادُ وَلَمْ يُجَاهِدُوا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ؛ وَلِهَذَا لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ الْمَدِينَةَ أَسْلَمَ عَامَّةُ أَهْلِهَا، فَلَمَّا جَاءَتْ الْمِحْنَةُ وَالِابْتِلَاءُ نَافَقَ مَنْ نَافَقَ. فَلَوْ مَاتَ هَؤُلَاءِ قَبْلَ الِامْتِحَانِ لَمَاتُوا عَلَى الْإِسْلَامِ وَدَخَلُوا الْجَنَّةَ وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا الَّذِينَ اُبْتُلُوا فَظَهَرَ صِدْقُهُمْ.

قَالَ تَعَالَى: الم ۝ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ۝ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-3]، وَقَالَ تَعَالَى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179]، وَقَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11].

 وَلِهَذَا ذَمَّ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي الْإِيمَانِ ثُمَّ خَرَجُوا مِنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ۝ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [المنافقون:1،2] -إلَى قَوْلِهِ - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ [المنافقون:3].

وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ [التوبة:64] - إلَى قَوْلِهِ - قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ۝ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ إنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة:65،66] فَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ.

(الشرح)

المؤلّف-رَحِمَهُ اللهُ-يبيِّن أن أوصاف ضعفاء الإيمان، وأن من أوصافهم: ترك الجهاد، ومن أوصافهم: أنهم إذا حصل لهم فتنة؛ ارتدوا، وإذا شكِّكوا في دينهم؛ شكوا، فقال: "وَكَذَلِكَ إذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ الْجِهَادُ وَلَمْ يُجَاهِدُوا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ"؛ يعني متوعدون، كانوا من أهل الوعيد، كما في قوله تعالى في سورة التوبة: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24] .

فهؤلاء الذين يُقدِّمون شيئًا من الأصناف الثمانية، وهي: الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال والتجارة والمساكن، يقدمون شيئًا منها على محبة الله ورسوله وعلى الجهاد في سبيله هؤلاء ضعفاء الإيمان، توعَّدهم بقوله: فَتَرَبَّصُوا  يعني انتظروا ماذا يحل بكم من عقوبة الله، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ حكم عليهم بالفسق؛ بسبب ضعف إيمانهم، وإن لم يكونوا كفارًا فهم ضعفاء الإيمان، حكم الله عليهم بالفسق؛ لأنهم قدَّموا شيئًا من هذه الأصناف الثمانية على محبة الله ورسوله وعلى الجهاد في سبيله؛ ولهذا قال المؤلّف-رَحِمَهُ اللهُ-: "وَكَذَلِكَ إذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ الْجِهَادُ وَلَمْ يُجَاهِدُوا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ" كما في هذه الآية، آية التوبة.

"وَلِهَذَا لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ الْمَدِينَةَ أَسْلَمَ عَامَّةُ أَهْلِهَا، فَلَمَّا جَاءَتْ الْمِحْنَةُ وَالِابْتِلَاءُ نَافَقَ مَنْ نَافَقَ" نَجَم النفاق، والنفاق إنما نجم بعد غزوة بدر، لما نصر الله الإسلام والمسلمين وأعزَّ الله جنده وخذل الكفار، قال عبد الله بن أُبي: ليتضح هذا أمرًا توجَّه. فأظهر الإسلام وأبطن الكفر -والعياذ بالله-، جاءت المحنة، وهو قبل ذلك ما نَجَم النفاق؛ ولهذا قال المؤلّف-رَحِمَهُ اللهُ-: "وَلِهَذَا لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ الْمَدِينَةَ أَسْلَمَ عَامَّةُ أَهْلِهَا، فَلَمَّا جَاءَتْ الْمِحْنَةُ وَالِابْتِلَاءُ نَافَقَ مَنْ نَافَقَ".

 "فَلَوْ مَاتَ هَؤُلَاءِ قَبْلَ الِامْتِحَانِ لَمَاتُوا عَلَى الْإِسْلَامِ وَدَخَلُوا الْجَنَّةَ وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا الَّذِينَ اُبْتُلُوا فَظَهَرَ صِدْقُهُمْ"؛ يعني لو مات هؤلاء ضعفاء الإيمان ولم يحصل لهم الابتلاء والامتحان، ماتوا على الإسلام، "وَدَخَلُوا الْجَنَّةَ"؛ يعني مآلهم إلى الجنة، "وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا الَّذِينَ اُبْتُلُوا فَظَهَرَ صِدْقُهُمْ" لكنهم مسلمون معهم إيمانٌ صَحَّ إسلامهم، وهم تحت مشيئة الله في المعاصي التي فعلوها والكبائر والواجبات التي قصَّروا فيها، إن شاء الله غفر لهم، وإن شاء عذَّبهم، ولكن مآلهم إلى الجنة والسلامة.

" وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا الَّذِينَ اُبْتُلُوا فَظَهَرَ صِدْقُهُمْ" فأدوا الواجبات وتركوا المحرمات، وقدَّموا محبة الله ورسوله والجهاد في سبيله على أموالهم وأهليهم.

قَالَ تَعَالَى: الم ۝ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ۝ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-3]، وَقَالَ تَعَالَى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179]، في هاتين الآيتين بيان الابتلاء والامتحان، وأن الإنسان يُبتلى، وأنه إذا ابتُلي وصبر وقدَّم محبة الله ورسوله والجهاد في سبيله على الدنيا وتوابعها، فإنه يكون مؤمنًا حقًّا ويظهر صدقه.

وإن قدَّم شيئًا من ذلك أو ارتد عن دينه -والعياذ بالله-فمرجعه إلى أحد الأمرين: إما أن يُبتلى فيظهر صدقه، وإما أن ينقلب بسبب الفتنة والمحنة والريب والشك، نسأل الله العافية.

 وَقَالَ تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ، يعني على طرف؛ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11]، هؤلاء ضعفاء الإيمان، مَن يعبد الله على حرف يعني على طلب؛ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ إن أصابه رزق وسعة وخصب، قال: هذا دينٌ طيب، وإن أصابه جدب ومحنة وابتُلي؛ ارتد عن دينه؛ ولهذا قال: وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ، يعني ارتد عن دينه خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ نعوذ بالله.

قال المؤلّف-رَحِمَهُ الله-: "وَلِهَذَا ذَمَّ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي الْإِيمَانِ ثُمَّ خَرَجُوا مِنْهُ" نعوذ بالله، "بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ۝ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً"؛ يعني اتخذوها ستارًا يتسترون به، وليسوا مؤمنين؛ ولهذا قال: فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، "- إلَى قَوْلِهِ - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ [المنافقون:3]" فوصفهم الله بأنهم دخلوا في الإسلام ثم خرجوا منه -نعوذ بالله- بالكفر.

 "وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ [التوبة:64]-إلَى قَوْلِهِ - قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ۝ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ إنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة:65،66]، فَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ.

والشاهد أنه أثبت لهم الكفر بعد الإيمان، نعوذ بالله.

(المتن)

وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ: إنَّهُمْ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ بِلِسَانِهِمْ مَعَ كُفْرِهِمْ أَوَّلًا بِقُلُوبِهِمْ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللِّسَانِ مَعَ كُفْرِ الْقَلْبِ قَدْ قَارَنَهُ الْكُفْرُ فَلَا يُقَالُ: قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا كَافِرِينَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.

وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّكُمْ أَظْهَرْتُمْ الْكُفْرَ بَعْدَ إظْهَارِكُمْ الْإِيمَانَ فَهُمْ لَمْ يُظْهِرُوا لِلنَّاسِ إلَّا لِخَوَاصِّهِمْ وَهُمْ مَعَ خَوَاصِّهِمْ مَا زَالُوا هَكَذَا؛ بَلْ لَمَّا نَافَقُوا وَحَذِرُوا أَنْ تَنْزِلَ سُورَةٌ تُبَيِّنُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ النِّفَاقِ وَتَكَلَّمُوا بِالِاسْتِهْزَاءِ صَارُوا كَافِرِينَ بَعْدَ إيمَانِهِمْ، وَلَا يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَى أَنَّهُمْ مَا زَالُوا مُنَافِقِينَ.

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ۝ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [التوبة:73،74].

فَهُنَا قَالَ: وَكَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ، فَهَذَا الْإِسْلَامُ قَدْ يَكُونُ مِنْ جِنْسِ إسْلَامِ الْأَعْرَابِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: بَعْدَ إِيمَانُكُمْ وَبَعْدَ إسْلَامِهِمْ سَوَاءً، وَقَدْ يَكُونُونَ مَا زَالُوا مُنَافِقِينَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَالٌ كَانَ مَعَهُمْ فِيهَا مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ؛ لِكَوْنِهِمْ أَظْهَرُوا الْكُفْرَ وَالرِّدَّةَ.

وَلِهَذَا دَعَاهُمْ إلَى التَّوْبَةِ فَقَالَ: فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا بَعْدَ التَّوْبَةِ عَنْ التَّوْبَةِ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهَذَا إنَّمَا هُوَ لِمَنْ أَظْهَرَ الْكُفْرَ فَيُجَاهِدُهُ الرَّسُولُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَالْعُقُوبَةِ.

وَلِهَذَا ذَكَرَ هَذَا فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ: جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي تَمَامِهَا: وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [التوبة:74]".

(الشرح)

المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ- يتكلم على آية التوبة، وهي قوله تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ۝ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65،66]، يبيِّن المؤلّف-رَحِمَهُ اللهُ-أن هؤلاء كفروا بعد الإيمان، أن أثبت لهم الكفر بعد الإيمان، فدلَّ على أنهم في الأول عندهم إيمانٌ ضعيف ثم كفروا؛ ولهذا أمره الله أن يقول لهم: قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ.

ويبيِّن أن بعض الأقوال التي قيلت فيما معنى الآية وأنها لا تصح، فقال: "وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ: إنَّهُمْ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ بِلِسَانِهِمْ مَعَ كُفْرِهِمْ أَوَّلًا بِقُلُوبِهِمْ لَا يَصِحُّ" بعض الناس يقول: إن المراد كفروا بعد إيمانهم باللسان وإلا هم كفروا بقلوبهم، يقول: لا يصح، لماذا؟ "لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللِّسَانِ مَعَ كُفْرِ الْقَلْبِ قَدْ قَارَنَهُ الْكُفْرُ" الإيمان باللسان مع الكفر بالقلب لا يفيد، الإيمان باللسان مع الكفر بالقلب لا يسمى إيمانًا.

"فَلَا يُقَالُ: قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا كَافِرِينَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ" فكونه كافرًا بقلبه لا يزال ينطبق عليه وصف الكفر، وإن أظهر الإيمان بلسانه، لا يفيد هذا الإظهار؛ ولهذا قال المؤلّف-رَحِمَهُ اللهُ-: "وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّكُمْ أَظْهَرْتُمْ الْكُفْرَ بَعْدَ إظْهَارِكُمْ الْإِيمَانَ فَهُمْ لَمْ يُظْهِرُوا لِلنَّاسِ إلَّا لِخَوَاصِّهِمْ"؛ يعني إن أُريد أنهم أظهروا الكفر بعد إظهارهم الإيمان، فهم إنما لم يُظهروا للناس إلا لخواصهم، لم يُظهروا الكفر إلا لخواصهم، "وَهُمْ مَعَ خَوَاصِّهِمْ مَا زَالُوا هَكَذَا" ما زالوا كافرين.

 "بَلْ لَمَّا نَافَقُوا وَحَذِرُوا أَنْ تَنْزِلَ سُورَةٌ تُبَيِّنُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ النِّفَاقِ وَتَكَلَّمُوا بِالِاسْتِهْزَاءِ صَارُوا كَافِرِينَ بَعْدَ إيمَانِهِمْ" هذا نفاق، أنهم صاروا كافرين بعد الإيمان؛ لمَّا نافقوا، لمَّا حصل لهم النفاق وحذِروا أن تُنزَّل عليهم سورة تبيِّن ما في قلوبهم من النفاق وتكلموا بالاستهزاء.

يقول المؤلّف-رَحِمَهُ اللهُ-: "وَلَا يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَى أَنَّهُمْ مَا زَالُوا مُنَافِقِينَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ۝ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ هذا الشاهد: أنه ثبت لهم الكفر بعد الإسلام وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [التوبة:73،74]، فَهُنَا قَالَ: وَكَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ" يعني أثبت لهم الكفر بعد الإسلام، كما قال في الآيات الأخرى: قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ وأثبت لهم الكفر بعد الإيمان.

 ولهذا قال المؤلّف-رَحِمَهُ اللهُ-: "فَهَذَا الْإِسْلَامُ قَدْ يَكُونُ مِنْ جِنْسِ إسْلَامِ الْأَعْرَابِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: بَعْدَ إِيمَانُكُمْ وَبَعْدَ إسْلَامِهِمْ سَوَاءً، وَقَدْ يَكُونُونَ مَا زَالُوا مُنَافِقِينَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَالٌ كَانَ مَعَهُمْ فِيهَا مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ"؛ يعني يقول: كفرتم بعد إسلامكم، قد يراد بهذا الإسلام إسلامٌ صحيح مع الإيمان الضعيف أو أنه إسلام المنافقين، "فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَالٌ كَانَ مَعَهُمْ فِيهَا مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ لِكَوْنِهِمْ أَظْهَرُوا الْكُفْرَ وَالرِّدَّةَ. وَلِهَذَا دَعَاهُمْ إلَى التَّوْبَةِ فَقَالَ: فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا بَعْدَ التَّوْبَةِ عَنْ التَّوْبَةِ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهَذَا إنَّمَا هُوَ لِمَنْ أَظْهَرَ الْكُفْرَ فَيُجَاهِدُهُ الرَّسُولُﷺبِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَالْعُقُوبَةِ. وَلِهَذَا ذَكَرَ هَذَا فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ: جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي تَمَامِهَا: وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [التوبة:74]" فدل على أنهم كفروا بعد إسلامهم، وكفروا بعد إيمانهم.

(المتن)

وَهَؤُلَاءِ الصِّنْفُ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ غَيْرُ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ حَلَفُوا بِاَللَّهِ مَا قَالُوا وَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ الَّتِي كَفَرُوا بِهَا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ سَعَوْا فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَصِلُوا إلَى مَقْصُودِهِمْ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ: هَمُّوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا، لَكِنْ بِمَا لَمْ يَنَالُوا فَصَدَرَ مِنْهُمْ قَوْلٌ وَفِعْلٌ.

قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [التوبة:65] فَاعْتَرَفُوا وَاعْتَذَرُوا؛ وَلِهَذَا قِيلَ: لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ إنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة:66]، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ قَدْ أَتَوْا كُفْرًا؛ بَلْ ظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِكُفْرِ.

فَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُفْرٌ يَكْفُرُ بِهِ صَاحِبُهُ بَعْدَ إيمَانِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ إيمَانٌ ضَعِيفٌ فَفَعَلُوا هَذَا الْمُحَرَّمَ الَّذِي عَرَفُوا أَنَّهُ مُحَرَّمٌ وَلَكِنْ لَمْ يَظُنُّوهُ كُفْرًا وَكَانَ كُفْرًا كَفَرُوا بِهِ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوا جَوَازَهُ، وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ ضَرَبَ لَهُمْ الْمَثَلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّهُمْ أَبْصَرُوا ثُمَّ عَمُوا وَعَرَفُوا ثُمَّ أَنْكَرُوا وَآمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا.

(الشرح)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-بيَّن فيما سبق أن مسمى الإسلام للناس فيه أقوالٌ ثلاثة:

القول الأول: أن مسمى الإسلام والإيمان شيءٌ واحد، وأن مسمى الإيمان هو مسمى الإيمان ومسمى الإسلام هو مسمى الإيمان، وهذا قول طائفةٌ من أهل السُّنة وعلى رأسهم الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللهُ-، وهو قول خوارج المعتزلة.

والقول الثاني: أن الإسلام هو الكلمة، والإيمان هو العمل، والمراد بالكلمة كلمة التوحيد (شهادة أن لا إلا الله وشهادة أن محمد رسول الله)، وهذا القول يُنسب للزهري وهو رواية عن الإمام أحمد.

والقول الثالث: أن الإسلام والإيمان يختلف معناهما بالتجرد والاقتران، فإذا اقترن أحدهما بالآخر؛ صار لكل واحدٍ منهما معنى، فصار مسمى الإسلام هو العمل ومسمى الإيمان الأعمال الباطنة (التفسيق والأعمال الباطنة). وإذا افترقا، يعني ذُكر الإسلام وحده أو ذُكر الإيمان وحده دخل فيه الآخر؛ فهما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا.

فإذا اجتمعا كما في حديث جبريل؛ فيُفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالأعمال الباطنة، فإن النبي ﷺفسَّر الإسلام في حديث جبريل بالأعمال الظاهرة: الشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وفسَّر الإيمان بالإيمان بالأصول الستة: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره. 

أمَّا إذا ذُكر أحدهما وحده فإنه يشمل الآخر؛ يشمل الأعمال الباطنة والظاهرة، كقوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، وهو مسمى الدين، ومسمى الإسلام، ومسمى البر، ومسمى التقوى، ومسمى الهدى، واحد إذا أُطلق شمل الأعمال الظاهرة والباطنة، وإذا قُرن مع غيره صار له معنىً آخر.

وهذا القول اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية واختيار جماعة من المحققين، واختيار جمهور أهل السُّنة أن الإسلام والإيمان تختلف دلالتهما بالاقتران والتجرُّد. وعلى ذلك فالإسلام ليس هو الإيمان، فالعاصي الذي يقصِّر في بعض الواجبات أو يعمل شيء من الكبائر والمعاصي يُطلق عليه الإسلام ولا يُطلق عليه الإيمان، فيقال: هو مسلم، ولا يطلق عليه الإيمان وإن كان معه إيمانًا يصح إسلامه لكن لا يطلق عليه الإيمان إلا بالتقييد، يقال: مؤمنٌ ناقص الإيمان، مؤمن بإيمانه فاسقٌ بكبيرته، مؤمن ضعيف الإيمان. فإذا أدى الواجبات وترك المحرمات أُطلق عليه الإيمان.

ومن الأدلة على ذلك: أن الإسلام غير الإيمان والإيمان غير الإسلام، قول الله تعالى في سورة الحجرات: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14]، فالله تعالى نفى عنهم الإيمان وأثبت لهم الإسلام. فهؤلاء عندهم إيمانٌ ضعيف وهم مسلمون ولهم إسلامٌ صحيح يُثابون عليه؛ ولهذا قال تعالى في هذه الآيات: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [الحجرات:14]؛ يعني لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئًا؛ فلهم ثواب على أعمالهم، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وجمهور العلماء.

وقال آخرون من أهل العلم: إن هؤلاء منافقون، والإسلام الذي أظهروه إسلامٌ في الظاهر ليس معه إيمان. والصواب: القول الأول.

والمؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-شيخ الإسلام ابن تيمية لا زال يقرر هذا الأمر، ويبيِّن أن قول جمهور أهل السُّنة والجماعة هو الصواب، وأن الإسلام غير الإيمان، والإيمان غير الإسلام، وأن العاصي يُطلق عليه اسم الإسلام ولا يُطلق عليه اسم الإيمان.

ومن الأدلة على ذلك: آية الحجرات، وهي قول الله تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14]؛ فإن الله تعالى نفى عنهم الإيمان وأثبت لهم الإسلام، وهذا الإسلام إسلامٌ صحيح، ولا بُدَّ لهذا الإسلام من إيمانٍ يُصححه، فهؤلاء معهم إيمانٌ ضعيف.

ومن أدلة ذلك أيضًا: المنافقون الذين كفروا بعد إيمانهم الضعيف؛ لقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ۝ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65،66]، فأثبت لهم كفرًا بعد الإيمان؛ فهُم عندهم إيمانٌ ضعيف ومعهم إسلامٌ، وهذا الإسلام لا بُدَّ له من إيمان يُصححه، فهؤلاء إيمانهم ضعيف ثم كفروا بعد إسلامهم.

ولهذا قال المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَهَؤُلَاءِ الصِّنْفُ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ غَيْرُ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ"؛ يعني هؤلاء الصنف الذين عندهم إيمانٌ ضعيف ثم حصل لهم فتنة فانقلب كل واحدٍ منهم على وجهه، كما قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11]، هؤلاء الذين على طرف وهؤلاء الذين عندهم إيمانٌ ضعيف لا يثبتون للفتن، كثيرٌ منهم لا يثبت على الفتن؛ بل ينقلب على وجهه.

ومن ذلك: هؤلاء المنافقون الذين كانوا مع النبي ﷺفي غزوة تبوك، عندهم إيمانٌ ضعيف؛ فيُطلق عليهم اسم الإسلام ومعهم إيمانٌ يصحح هذا الإسلام، ثم بعد ذلك كفروا بعد إسلامهم لما سخروا بالرسول ﷺوبالقرَّاء؛ فهؤلاء الصنف كفروا بعد إسلامهم وهم غير الذين كفروا بعد إيمانهم، يعني غير الذين ارتدوا بعد الإيمان؛ هناك بعض الطوائف يكون مؤمنًا ثم يرتد -والعياذ بالله-عن إيمانه عن طواعية.

أمَّا هؤلاء الصنف فهم كفروا وهم يعتقدون أنهم لم يكفروا، يعتقدون أنهم على الإسلام؛ ولهذا هؤلاء الصنف جاءوا يعتذرون للنبي ﷺ، فقالوا: يا رسول الله إنا كنا نتحدث حديث الركب تقطع به عنَّا الطريق. ما ظنوا أنهم كفروا بعد إسلامهم، وكذلك الأعراب الذين نفى الله عنهم الإيمان، معهم إسلام، وهذا الإسلام لا بُدَّ له من إيمانٌ يصححه؛ ولهذا فرَّق المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-بينهما فقال: "وَهَؤُلَاءِ الصِّنْفُ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ غَيْرُ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِم".

يعني هؤلاء الصنف الذين كفروا بعد إسلامهم؛ بسبب كلمة الكفر التي كفروا بها وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ [التوبة:74] وهي قولهم: "مَا رأينا مِثْلَ قُرَّائِنَا هَؤُلاءِ لا أَرْغَبَ بُطُونًا، وَلا أَكْذَبَ أَلْسِنَةً، وَلا أَجْبَنَ عِنْدَ اللِّقَاءِ" يعنون رسول الله ﷺ وأصحابه القراء، كفروا بعد إسلامهم غير الذين كفروا بعد إيمانهم عن طواعية واختيار.

قال المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ- مبينًا الفرق بين هؤلاء الفئتين: "فإن هؤلاء حَلَفُوا بِاَللَّهِ مَا قَالُوا وَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ الَّتِي كَفَرُوا بِهَا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ سَعَوْا فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَصِلُوا إلَى مَقْصُودِهِمْ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ: هَمُّوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا لَكِنْ بِمَا لَمْ يَنَالُوا فَصَدَرَ مِنْهُمْ قَوْلٌ وَفِعْلٌ، قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [التوبة:65]  فَاعْتَرَفُوا وَاعْتَذَرُوا؛ وَلِهَذَا قِيلَ: لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ إنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة:66]  فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ قَدْ أَتَوْا كُفْرًا بَلْ ظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِكُفْرِ"، والدليل على ذلك: أنهم جاءوا يعتذرون إلى النبي ﷺ، والله تعالى أثبت لهم الكفر بعد الإيمان.

قال المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-: "فَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُفْرٌ يَكْفُرُ بِهِ صَاحِبُهُ بَعْدَ إيمَانِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ إيمَانٌ ضَعِيفٌ فَفَعَلُوا هَذَا الْمُحَرَّمَ الَّذِي عَرَفُوا أَنَّهُ مُحَرَّمٌ" يعني السخرية بالنبي ﷺوأصحابه القراء، "فَفَعَلُوا هَذَا الْمُحَرَّمَ الَّذِي عَرَفُوا أَنَّهُ مُحَرَّمٌ وَلَكِنْ لَمْ يَظُنُّوهُ كُفْرًا، وإن كَانَ كُفْرًا كَفَرُوا بِهِ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوا جَوَازَهُ".

قال المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ ضَرَبَ لَهُمْ الْمَثَلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّهُمْ أَبْصَرُوا ثُمَّ عَمُوا، وَعَرَفُوا ثُمَّ أَنْكَرُوا، وَآمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا".

فالمعنى أن المنافقين الذين ضرب الله لهم المثل أقسام وطوائف؛ منهم من عندهم إيمان ضعيف ثم ارتد، ومنهم من ليس عنده إيمان بالكلية. منهم من عندهم إيمان ضعيف فهم الذين أبصروا ثم عموا، وعرفوا ثم أنكروا، وآمنوا ثم كفروا، في قوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [البقرة:17].

القارئ: فضيلة الشيخ، إذًا هل هذا حكم الكفر هنا في هؤلاء، هل هو حكم خاص أو بكل من استهزئ بالدين؟

الشيخ: عام؛ كل مَن سخِر بالله وآياته وكتابه ورسوله كُفْر، هذا من أنواع الرِّدة، وقد بيَّن العلماء أنواع الرِّدة وأحكام الرِّدة، وأن من أنواع الرِّدة: السخرية بالله أو بكتابه أو برسوله أو بثوابه أو بعقابه أو بشيءٍ مما جاء به الشرع، هذا من أنواع الردة -والعياذ بالله-.

(المتن)

وَكَذَلِكَ قَالَ قتادة وَمُجَاهِدٌ: "ضُرِبَ الْمَثَلَ لِإِقْبَالِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؛ وَسَمَاعِهِمْ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَذَهَابِ نُورِهِمْ، قَالَ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ۝ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:17،18] إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالنُّورِ مَا حَصَلَ فِي الدُّنْيَا مِنْ حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَإِذَا مَاتُوا سُلِبُوا ذَلِكَ الضَّوْءَ كَمَا سُلِبَ صَاحِبُ النَّارِ ضَوْءُهُ؛ فَلَفْظُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ۝ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:17،18].

وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُونَ فِي الْعَذَابِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ۝ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ [الحديد:13،14] الْآيَةَ.

وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ: إنَّ الْمُنَافِقَ يُعْطَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ نُورًا ثُمَّ يُطْفَأُ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا [التحريم:8]. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إذَا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ نُورَ الْمُنَافِقِينَ يُطْفَأُ سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُتِمَّ لَهُمْ نُورَهُمْ وَيُبَلِّغَهُمْ بِهِ الْجَنَّة.

(الشرح)

يقول المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-: إن المنافقين طوائف وأقسام، منهم من عنده إيمانٌ ضعيف ثم يرتد -والعياذ بالله-، ومنهم من ليس عنده إيمان. وبيَّن أقوال العلماء في ذلك في آيات البقرة فإن الله تعالى ضرب في أول سورة البقرة ضرب مَثَلين للمنافقين: مثلًا مائيًّا، ومثلًا ناريًّا.

فالمثل الأول هو المثل المائي: هذا ضُرب للمنافقين الذين عندهم إيمان ضعيف ثم ارتدوا؛ ولهذا قال المؤلّف: "وَكَذَلِكَ قَالَ قتادة وَمُجَاهِدٌ: ضُرِبَ الْمَثَلَ لِإِقْبَالِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؛ وَسَمَاعِهِمْ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَذَهَابِ نُورِهِمْ قَالَ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ۝ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:17،18] إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ" يعني من الإيمان، فعندهم أصل الإيمان، عندهم إيمانٌ ضعيف ثم ارتدوا.

قال المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-:، وهناك أقوالٌ أخرى لأهل العلم، فسروا النور بما يحصل في الدنيا من حقن دمائهم، يقول: هذه أقوالٌ ضعيفة، لا تدل عليها، قال: "وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالنُّورِ مَا حَصَلَ فِي الدُّنْيَا مِنْ حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَإِذَا مَاتُوا سُلِبُوا ذَلِكَ الضَّوْءَ كَمَا سُلِبَ صَاحِبُ النَّارِ ضَوْءُهُ؛ فَلَفْظُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ".

بيان ذلك: قال: "إِنَّهُ قَالَ: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ۝ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:17،18]. وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُونَ فِي الْعَذَابِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13] الْآيَةَ " يعني يوم القيامة يكونوا في العذاب، وأمَّا الآية فلفظ الآية يدل على أن هذا في الدنيا.

يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ [الحديد:13،14] الْآيَةَ الْآيَةَ، وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ: إنَّ الْمُنَافِقَ يُعْطَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ نُورًا ثُمَّ يُطْفَأُ" لأنه كان معهم أصل النور، كان معهم أصل الإيمان في الدنيا ثم عرفوا ثم كفروا والجزاء من جنس العمل، فجوزوا بمثل عملهم؛ فكما أنهم أبصروا ثم عموا كذلك يوم القيامة يُعطون نورًا ثم يُطفأ، نسأل الله السلامة والعافية.

"وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا [التحريم:8]. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إذَا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ نُورَ الْمُنَافِقِينَ يُطْفَأُ سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُتِمَّ لَهُمْ نُورَهُمْ وَيُبَلِّغَهُمْ بِهِ الْجَنَّة"؛ يعني المؤمنون إذا رأوا المنافقون مُكر بهم -والعياذ بالله-وطفئ نورهم، سأل المؤمنون ربهم أن يتم لهم نورهم.

(المتن)

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَّا يُعْطَى نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَأَمَّا الْمُنَافِقُ فَيُطْفَأُ نُورُهُ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُشْفِقُ مِمَّا رَأَى مِنْ إطْفَاءِ نُورِ الْمُنَافِقِ فَهُوَ يَقُولُ: رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا [التحريم:8]، وَهُوَ كَمَا قَالَ: فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ -وَهُوَ ثَابِتٌ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ.

وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَهُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ أَطْوَلُهَا -وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ الَّذِي يُذْكَرُ فِيهِ أَنَّهُ: يُنَادَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لِتَتَّبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ؛ فَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ، وَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ، وَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْك، وَهَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ. فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، فَيَتَّبِعُونَهُ([3]).

وَفِي رِوَايَةٍ: فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ([4]).

وَفِي رِوَايَةٍ فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ فَتَعْرِفُونَهُ بِهَا؟([5]). فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقٍ فَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إلَّا أُذِنَ لَهُ بِالسُّجُودِ، وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ نِفَاقًا وَرِيَاءً إلَّا جَعَلَ اللَّهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ. فَتَبْقَى ظُهُورُهُمْ مِثْلَ صَيَاصِيِ الْبَقَرِ فَيَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ فَإِذَا نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ، وَيُطْفَأُ نُورُ الْمُنَافِقِينَ فَيَقُولُونَ ذَرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ.

فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يُحْشَرُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الظَّاهِرِ كَمَا كَانُوا مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ وَقْعتَ الْحَقِيقَةِ؛ هَؤُلَاءِ يَسْجُدُونَ لِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ السُّجُودِ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَسْجُدُوا فِي الدُّنْيَا لَهُ بَلْ قَصَدُوا الرِّيَاءَ لِلنَّاسِ، وَالْجَزَاءُ فِي الْآخِرَةِ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ فِي الدُّنْيَا؛ فَلِهَذَا أُعْطُوا نُورًا ثُمَّ طفئ لِأَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا دَخَلُوا فِي الْإِيمَانِ ثُمَّ خَرَجُوا مِنْهُ؛ وَلِهَذَا ضَرَبَ اللَّهُ لَهُمْ الْمَثَلَ بِذَلِكَ. وَهَذَا الْمَثَلُ هُوَ لِمَنْ كَانَ فِيهِمْ آمَنَ ثُمَّ كَفَرَ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُعْطَوْنَ فِي الْآخِرَةِ نُورًا ثُمَّ يُطْفَأُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ.

(الشرح)

المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-يستطرد ويبين أن المنافقين الذين كان معهم إيمانٌ ضعيف ثم ارتدوا تدل عليه الآية، تدل عليه الآية وكلام المفسرين، يقرر المؤلّف هذا -رَحِمَهُ اللهُ- ويبيِّن أن هؤلاء المنافقين الذين قال الله فيهم: لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:66] أنهم كان عندهم إيمانٌ ضعيف.

قال ابن عباس : "لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَّا يُعْطَى نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَأَمَّا الْمُنَافِقُ فَيُطْفَأُ نُورُهُ وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُشْفِقُ مِمَّا رَأَى مِنْ إطْفَاءِ نُورِ الْمُنَافِقِ فَهُوَ يَقُولُ: رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا [التحريم:8]".

نعم؛ لأن المنافقون الذين أظهروا النفاق في الدنيا، الذين أظهروا الإسلام وأخفوا الكفر والنفاق في الدنيا -كما سبق-طبقات؛ منهم من عنده إيمانٌ ضعيف ومنهم من ليس عنده إيمانٌ ضعيف، فهم يكونون مع المؤمنين في الدنيا ثم يُمكر بهم -والعياذ بالله -؛ لأنه لما كانوا معهم في الدنيا صاروا معهم في الآخرة من بين سائر الكفرة ثم بعد ذلك ينفصل المؤمنون عن المنافقين ويطفئ نورهم، ويبقون في العذاب -نسأل الله العافية-.

قال المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَهُوَ كَمَا قَالَ" يعني كما قال ابن عباس، ويدل لذلك ما ثبت في الصحيحين، يعني: المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-يؤيد ما قاله ابن عباس: "فلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَّا يُعْطَى نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَأَمَّا الْمُنَافِقُ فَيُطْفَأُ نُورُهُ وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُشْفِقُ مِمَّا رَأَى مِنْ إطْفَاءِ نُورِ الْمُنَافِق"([6]) يقول: يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين "منْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ -وَهُوَ ثَابِتٌ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ([7]) وَهُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ([8])وَهُوَ أَطْوَلُهَا - وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ الَّذِي يُذْكَرُ فِيهِ أَنَّهُ يُنَادَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ يعني ينادي المنادي لِتَتَّبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ؛ فَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ، وَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَر،َ وَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيت([9]).

وكل هذا يتساقط في النار -والعياذ بالله-،؛ مَن كان يعبد الشمس يتْبع الشمس ثم يُلقى في النار، والشمس تكون معهم إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُون [الأنبياء:98] تكون معهم زيادةً في عذابهم؛ ولهذا جاء في الحديث أن الشمس والقمر تُكوران يوم القيامة ويُلقيان في النار مع مَن عبدهما؛ فالذي يعبد الشمس يسقط، يتْبع الشمس ويسقط مع الشمس في النار، والذي يعبد القمر يتْبع القمر ويسقط مع القمر في النار، والذي يتْبع الطواغيت يتْبع الطواغيت ويتساقطون جميعًا في النار.

وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا؛ يعني المؤمنون والمنافقون، لماذا بقي المنافقون؟ لأن المنافقين كانوا يُظهرون الإيمان في الدنيا ويخفون الكفر؛ كانوا يصلون مع المؤمنين ويجاهدون. كان عبد الله بن أُبي -رئيس المنافقين-يصلي مع النبي ﷺويصلي معه يوم الجمعة، ويتكلم ويحث الناس على اتباع النبي ﷺ. وفي يوم أُحد كذلك ذهب للجهاد مع النبي ثم خذل بثلث الجيش. فلمَّا كانوا مع المؤمنين في الدنيا صاروا معهم في الآخرة ثم مُكِر بهم -والعياذ بالله-، يعني صاروا في أول الأمر معهم.

ولهذا في هذا الحديث يقول النبيﷺ: وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ؛ يعني هذا يدل على أنهم رأوه مرةً غير هذه المرة، رأوه المرة الأولى في صورة، ثم هذه المرة الثانية رأوه في صورةٍ غير الذي يعرفون؛ فيُنكرون، ثم يرونه في الصورة التي رأوه فيها أول مرة فيعرفونه ويسجدون، ثم إذا رفعوا رؤوسهم رأوه في صورةٍ أخرى، فهذا الحديث يدل على أن المؤمنين يرون ربهم أربع مرات:

المرة الأولى يرونه في صورة، ثم يرونه في صورة ثانية غير الصورة التي يعرفون؛ فينكرون، فيقولون: نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْك، وَهَذَا مَكَانُنَا، ثم يرونه في الصورة التي يعرفون؛ فيسجدون له، ثم يرفعون رؤوسهم فيرونه في المرة الرابعة، رأوه أربع مرات.

والحديث هذا معروف وهو حديث طويل وقد اعتنى به شيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ في كتابه العظيم "بيان تلبيس الجهمية"، وهو إن شاء الله تحت الطبع، وهو كتابٌ عظيم استقصى طُرُق هذا الحديث، وأنواع المرات التي يرى فيها المؤمنون ربهم، واستدل بالأدلة والأحاديث.

فهذا الحديث يدل على أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة أربع مرات؛ ولهذا قال المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-: وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْك استعاذوا بالله من الله؛ لأنهم رأوه في صورةٍ غير الصورة التي رأوه فيها أول مرة، هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ هذه المرة الثالثة، فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ: فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا فَيَتَّبِعُونَهُ.

وَفِي رِوَايَةٍ: فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ فَتَعْرِفُونَهُ بِهَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقٍ؛ يعني إذا أنكروا في المرة الثانية يقال: هل بينكم وبين ربكم آية؟ فيقولون: نعم، الساق. فيكشف الله عن ساقه، فيعرفونه فيسجدون؛ قال الله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ [القلم:42] يعني: المنافقين.

 يقول النبيﷺ: فَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إلَّا أُذِنَ لَهُ بِالسُّجُودِ، وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ نِفَاقًا وَرِيَاءً إلَّا جَعَلَ اللَّهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً([10])" وهم المنافقون، المنافقون يُصلون رياءً ونفاقًا، كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ. فَتَبْقَى ظُهُورُهُمْ مِثْلَ صَيَاصِيِ الْبَقَرِ؛ يعني مثل قرون البقر تكون طبق واحد صلب، ما ينثني، نسأل الله العافية، فَيَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ؛ يعني المؤمنون، فَإِذَا نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ وَيُطْفَأُ نُورُ الْمُنَافِقِينَ فَيَقُولُونَ ذَرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ؛ يعني يقول المنافقون للمؤمنين: ذَرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ؛ يعني أعطونا من نوركم.

قال المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-: "فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يُحْشَرُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الظَّاهِرِ كَمَا كَانُوا مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ وَقْعتَ الْحَقِيقَةِ" يقول: "هَؤُلَاءِ يَسْجُدُونَ لِرَبِّهِمْ"، يعني المؤمنون، "وَأُولَئِكَ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ السُّجُودِ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَسْجُدُوا فِي الدُّنْيَا لَهُ"، يعني لله، "بَلْ قَصَدُوا الرِّيَاءَ لِلنَّاسِ وَالْجَزَاءُ فِي الْآخِرَةِ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ فِي الدُّنْيَا" نعم، فالجزاء من جنس العمل، قال الله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7،8]؛ الجزاء من جنس العمل.

قال المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-: "فَلِهَذَا أُعْطُوا نُورًا ثُمَّ طفئ"، يعني المنافقين "لِأَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا دَخَلُوا فِي الْإِيمَانِ ثُمَّ خَرَجُوا مِنْهُ؛ وَلِهَذَا ضَرَبَ اللَّهُ لَهُمْ الْمَثَلَ بِذَلِكَ. وَهَذَا الْمَثَلُ هُوَ لِمَنْ كَانَ فِيهِمْ آمِنٌ ثُمَّ كَفَرَ"، يعني هذا المثل الذي ضربه الله لمَن كان عنده شيء من الإيمان، وهذا يدل على أن المنافقين أقسام، منهم مَن عنده إيمانٌ ضعيف ثم يَطفأ، أي يزول في الدنيا، ومنهم مَن ليس عنده إيمان.

ولهذا قال المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَهَذَا الْمَثَلُ هُوَ لِمَنْ كَانَ فِيهِمْ آمِنٌ ثُمَّ كَفَرَ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُعْطَوْنَ فِي الْآخِرَةِ نُورًا ثُمَّ يُطْفَأُ. وَلِهَذَا قَالَ: فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ"؛ يعني فهم لا يرجعون عن ضلالهم.

(المتن)

وَقَالَ قتادة وَمُقَاتِلٌ: عن قول الله تعالى: فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ؛ لَا يَرْجِعُونَ عَنْ ضَلَالِهِمْ.

وَقَالَ السدي: لَا يَرْجِعُونَ إلَى الْإِسْلَامِ يَعْنِي فِي الْبَاطِنِ وَإِلَّا فَهُمْ يُظْهِرُونَهُ، وَهَذَا الْمَثَلُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا الْمَثَلُ مَضْرُوبٌ لِبَعْضِهِمْ وَهُمْ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا.

وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَزَالُوا مُنَافِقِينَ فَضُرِبَ لَهُمْ الْمَثَلَ الْآخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ [البقرة:19] وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنَّ الْمُفَسِّرِينَ اخْتَلَفُوا هَلْ الْمَثَلَانِ مَضْرُوبَانِ لَهُمْ كُلِّهِمْ أَوْ هَذَا الْمَثَلُ لِبَعْضِهِمْ؟

عَلَى قَوْلَيْنِ، وَالثَّانِي هُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: أَوْ كَصَيِّبٍ [البقرة:19]، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِهَا أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ مَثَلُهُمْ هَذَا وَهَذَا فَإِنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ الْمَثَلَيْنِ؛ بَلْ بَعْضُهُمْ يُشْبِهُ هَذَا وَبَعْضُهُمْ يُشْبِهُ هَذَا وَلَوْ كَانُوا كُلُّهُمْ يُشْبِهُونَ الْمَثَلَيْنِ لَمْ يَذْكُرْ أَوْ بَلْ يَذْكُرْ الْوَاوَ الْعَاطِفَةَ.

وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: أَوْ هَاهُنَا لِلتَّخْيِيرِ -كَقَوْلِهِمْ: جَالِسْ الْحَسَنَ أَوْ ابْنَ سِيرِين - لَيْسَ بِشَيْءِ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ يَكُونُ فِي الْأَمْرِ وَالطَّلَبَ لَا يَكُونُ فِي الْخَبَرِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ أَوْ لِتَشْكِيكِ الْمُخَاطَبِينَ أَوْ الْإِبْهَامِ عَلَيْهِمْ لَيْسَ بِشَيْءِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ بِالْأَمْثَالِ الْبَيَانَ وَالتَّفْهِيمَ لَا يُرِيدُ التَّشْكِيكَ وَالْإِبْهَامَ.

وَالْمَقْصُودُ تَفْهِيمُ الْمُؤْمِنِينَ حَالَهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَثَلِ الْأَوَّلِ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [البقرة:18]، وَقَالَ فِي الثَّانِي: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ۝ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:19،20].

فَبَيَّنَ فِي الْمَثَلِ الثَّانِي أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ وَيُبْصِرُونَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ [البقرة:20] وَفِي الْأَوَّلِ كَانُوا يُبْصِرُونَ ثُمَّ صَارُوا فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ۝ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [البقرة:17،18].

وَفِي الثَّانِي كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ الْبَرْقُ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا فَلَهُمْ حَالَانِ: حَالُ ضِيَاءٍ وَحَالُ ظَلَامٍ وَالْأَوَّلُونَ بَقُوا فِي الظُّلْمَةِ.

فَالْأَوَّلُ حَالُ مَنْ كَانَ فِي ضَوْءٍ فَصَارَ فِي ظُلْمَةٍ، وَالثَّانِي حَالُ مَنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ لَا فِي ضَوْءٍ وَلَا فِي ظُلْمَةٍ؛ بَلْ تَخْتَلِفُ عَلَيْهِ الْأَحْوَالُ الَّتِي تُوجِبُ مَقَامَهُ وَاسْتِرَابَتَهُ.

(الشرح)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: -

فإن المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-بيَّن فيما سبق أن الإسلام والإيمان مسماهما يختلف بالاقتران والتجرد؛ وفالإسلام يُطلق على الأعمال فإذا قُرِن مع الإيمان؛ فإن مسماه الأعمال الظاهرة، والإيمان مسماه الأعمال الباطنة. والإيمان والإسلام ليسا شيئًا واحدًا كما يقوله بعض أهل العلم وكما يقوله بعض أهل البدع.

ومن الأدلة على ذلك: الأعراب الذين نفى الله عنهم الإيمان وأثبت لهم الإسلام في سورة الحجرات، قال تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14].

ومن ذلك: أن بعض المنافقين يكون عنده إيمانٌ ضعيف؛ فيطلق عليه الإسلام كالذين استهزءوا بالنبي ﷺوأصحابه القرَّاء في غزوة تبوك، أثبت الله لهم الكفر بعد الإيمان، قال: لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ [التوبة:66]، فهم عندهم في الأول إسلامٌ ضعيف ثم بعد ذلك ارتدوا بالسخرية وبهذه المقالة الكفرية.

ويدل على ذلك: يقول المؤلّف -رَحِمَهُ الله-يدل على ذلك الأمثال التي ضربها الله تعالى للمنافقين فإنها تختلف، فبعض الأمثال ضربها الله لمَن كان عنده إيمانٌ ضعيف ثم ارتد، وبعضها لمَن كان منافقًا واستمر على نفاقه، ومن ذلك المثلان اللذان ضربهما الله تعالى في سورة البقرة في المنافقين.

المثل الأول: المثل المائي: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17]، هذا مثل للمنافقين الذين عندهم إيمانٌ ضعيف ثم ارتدوا؛ ولهذا قال: اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ؛ يعني ما عنده نور، ثم قال: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ انطفأ النور.

والمثل الثاني: مثلٌ الناري للمنافقين الذين لا يزالون على كفرهم، وهو قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ [البقرة:19].

والمؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-يذكر: أقوال المفسرين التي تؤيد ذلك، فقال: "قَالَ قتادة وَمُقَاتِلٌ: لَا يَرْجِعُونَ عَنْ ضَلَالِهِمْ"؛ يعني المنافقين الذي ارتدوا بعد الإيمان الضعيف، فهم لا يرجعون عن ضلالهم.

"وَقَالَ السدي: لَا يَرْجِعُونَ إلَى الْإِسْلَامِ يَعْنِي فِي الْبَاطِنِ وَإِلَّا فَهُمْ يُظْهِرُونَهُ"، يقول المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَهَذَا الْمَثَلُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا وَهَذَا الْمَثَلُ مَضْرُوبٌ لِبَعْضِهِمْ وَهُمْ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا. وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَزَالُوا مُنَافِقِينَ فَضَرَبَ لَهُمْ الْمَثَلَ الْآخَرَ"؛ يعني وهو المثل المائي، "وَهُوَ قَوْلُهُ: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ [البقرة:19] وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ"؛ يعني هذا أصح القولين في المسألة؛ لأن بعض العلماء يقول: المثلان كلاهما ضُرِب للمنافقين الذين هم لم يزالوا مستمرين على كفرهم.

يقول: والقول الثاني: أن المثل الأول لمَن كان عنده إيمانٌ ضعيف ثم ارتد، والمثل الثاني لمَن كان مستمرٌ على كفره.

يقول المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ؛ فَإِنَّ الْمُفَسِّرِينَ اخْتَلَفُوا هَلْ الْمَثَلَانِ مَضْرُوبَانِ لَهُمْ كُلِّهِمْ أَوْ هَذَا الْمَثَلُ لِبَعْضِهِمْ؟ عَلَى " قَوْلَيْنِ ".

وَ " الثَّانِي " هُوَ الصَّوَابُ"؛ لأن المثل الأول لطائفة والمثل الثاني لطائفة أخرى؛ "لِأَنَّهُ قَالَ: أَوْ كَصَيِّبٍ [البقرة:19] وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِهَا أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ مَثَلُهُمْ هَذَا وَهَذَا فَإِنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ الْمَثَلَيْنِ؛ بَلْ بَعْضُهُمْ يُشْبِهُ هَذَا وَبَعْضُهُمْ يُشْبِهُ هَذَا، وَلَوْ كَانُوا كُلُّهُمْ يُشْبِهُونَ الْمَثَلَيْنِ لَمْ يَذْكُرْ أَوْ".

هذا كله مما يؤيد أن المثلين يختلفان، وأن كل مثلٍ مضروبٌ لطائفة؛ لأنه قال: "أوْ"، يقول المؤلّف: "وَلَوْ كَانُوا كُلُّهُمْ يُشْبِهُونَ الْمَثَلَيْنِ لَمْ يَذْكُرْ أَوْ بَلْ يَذْكُرْ الْوَاوَ الْعَاطِفَةَ" قال: وكصيب، "وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: أَوْ هَاهُنَا لِلتَّخْيِيرِ -كَقَوْلِهِمْ: جَالِسْ الْحَسَنَ أَوْ ابْنَ سِيرِين -لَيْسَ بِشَيْءِ" لماذا؟ "لِأَنَّ التَّخْيِيرَ يَكُونُ فِي الْأَمْرِ وَالطَّلَبَ لَا يَكُونُ فِي الْخَبَرِ" وهذا خبر؛ فالله تعالى أخبر، ضرب لهم مثلين، هذا خبر، والتخيير ما يكون في الخبر وإنما يكون في الأمر والطلب.

"وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ أَوْ لِتَشْكِيكِ الْمُخَاطَبِينَ أَوْ الْإِبْهَامِ عَلَيْهِمْ" أيضًا هذا ضعيف، لماذا؟ لأن الله يريد بالأمثال البيان والتفيهم، لا يريد بها التشكيك والإبهام؛ القرآن ما فيه تشكيك وإبهام، قال الله تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُون [العنكبوت:43]، يعني تُعقل ويعقلها العالِم، وليس فيها إبهام وتشكيك.

ولهذا يقول المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَالْمَقْصُودُ تَفْهِيمُ الْمُؤْمِنِينَ حَالَهُمْ" والمقصود أيضًا من ذلك التحذير، المقصود التحذير؛ تحذير هذه الأمة من أن تسلك مسلكهم، فيصيبها ما أصابهم.

الله تعالى ضرب الأمثال؛ لنعقلها، ولنفهمها، ولنتدبرها، وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43].

والمراد من العقل، والمراد من ذلك: فهمُها والعمل بما تدل عليه، من التحذير من صفات المنافقين، كما قال بعض السلف لدى القوم: ولا يدعون به سواكم، والمراد به التحذير؛ لأن الله تعالى ما قصَّ علينا خبر السابقين وصفات المنافقين؛ إلا لنحذرها.

ولهذا قال المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَالْمَقْصُودُ تَفْهِيمُ الْمُؤْمِنِينَ حَالَهُمْ" يعني: حتى يحذروا حال المنافقين السيئ، "وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي " الْمَثَلِ الْأَوَّلِ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [البقرة:18] وَقَالَ فِي " الثَّانِي"؛ يعني في المثل الثاني : يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ۝ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا؛ يعني وقفوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:19،20].

يقول المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-: "فَبَيَّنَ فِي " الْمَثَلِ الثَّانِي " أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ وَيُبْصِرُونَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ [البقرة:20] وَفِي "الْأَوَّل" يعني المثل الأول "كَانُوا يُبْصِرُونَ ثُمَّ صَارُوا فِي ظُلُمَاتٍ. إذًا المثل الأول كان عندهم إيمانٌ ضعيف، يُبصرون ثم بعد ذلك ارتدوا، صاروا فِي ظُلُمَاتٍ، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [البقرة:18]

"وَفِي "الثَّانِي" المثل الثاني، إذا أصابهم البرق مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا؛ إذا أصابهم البرق؛ مشوا، رأوا النور؛ فمشوا، وإذا جاءت الظلمة؛ وقفوا، "فَلَهُمْ " حَالَانِ ": حَالُ ضِيَاءٍ وَحَالُ ظَلَامٍ، وَالْأَوَّلُونَ بَقُوا فِي الظُّلْمَةِ" فالأول حال مَن كان في ضوءٍ فصار في ظُلمة، "بل فَالْأَوَّلُ حَالُ مَنْ كَانَ فِي ضَوْءٍ فَصَارَ فِي ظُلْمَةٍ، وَالثَّانِي حَالُ مَنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ لَا فِي ضَوْءٍ وَلَا فِي ظُلْمَةٍ؛ بَلْ تَخْتَلِفُ عَلَيْهِ الْأَحْوَالُ الَّتِي تُوجِبُ مَقَامَهُ وَاسْتِرَابَتَهُ".

والمقصود من هذا: أن المثلين ضربهما الله تعالى لطائفتين من المنافقين، فدل على أن المثل الأول لضعفاء الإيمان الذين ارتدوا، والمثل الثاني لمَن بقي على كفره، واستمر على كفره.

(المتن)

يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ضَرَبَ لِلْكُفَّارِ أَيْضًا مَثَلَيْنِ بِحَرْفِ أَوْ فَقَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ۝ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:39، 40].

فَالْأَوَّلُ مِثْلُ الْكُفْرِ الَّذِي يَحْسِبُ صَاحِبُهُ أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ وَهُوَ عَلَى بَاطِلٍ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا [فاطر:8] فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ؛ فَلِهَذَا مَثَّلَ بِسَرَابِ بِقِيعَةِ.

وَ " الثَّانِي، مِثْلُ الْكُفْرِ الَّذِي لَا يَعْتَقِدُ صَاحِبُهُ شَيْئًا بَلْ هُوَ فِي ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ [النور:40] مِنْ عِظَمِ جَهْلِهِ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ اعْتِقَادٌ أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ؛ بَلْ لَمْ يَزَلْ جَاهِلًا ضَالًّا فِي ظُلُمَاتٍ مُتَرَاكِمَةٍ.

(الشرح)

المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-يقول: الدليل على أن هذين المثلين المضروبين في سورة البقرة لطائفتين من الناس، وقد أتى بحرف (أو) يدل على ذلك أيضًا آيات أخرى في القرآن، فإن الله تعالى ضرب مثلين للكفار وأتى بحرف (أو)، دلَّ على أن حرف (أو) ليست بمعنى الواو كما يقوله بعض أهل العلم الذين قالوا إن (أو) بمعنى الواو.

فهذا يؤيد أن المراد بالمثلين طائفتين من المنافقين؛ لأن الله تعالى ضرب مثلين للكفار في سورة أخرى، في سورة النور، فكون الله تعالى ضرب مثلين للكفار في سورة النور وأتى بحرف (أو) يدل على أن المثلين المضروبين في سورة البقرة التي أتى فيها بحرف (أو) لطائفتين أيضًا.

ولهذا قال المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-: "يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ضَرَبَ لِلْكُفَّارِ أَيْضًا مَثَلَيْنِ بِحَرْفِ أَوْ فَقَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ [النور:39]".

السراب: هو ما يتراءى للإنسان في الصحراء. بقيعة: يعني القاع، القيعة جمع قاع، والقاع منبسطة من الأرض متسعة، يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَاب [النور:39]".

ثم بيَّن المثل الثاني، فقال: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40]".

فالله تعالى ضرب مثلين للكفار أحدهما أشد من الآخر، الثاني أشد من الأول.

"فَالْأَوَّلُ-المثل الأول-مِثْلُ الْكُفْرِ الَّذِي يَحْسِبُ صَاحِبُهُ أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ وَهُوَ عَلَى بَاطِلٍ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا [فاطر:8]؛ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ" فهذا يكون على ضلال ويظن أنه على حق، وهذا هو الجهل المركب.

الجهل نوعان: جهل بسيط، وجهل مركب.

فالجهل البسيط: هو الذي لا يدري صاحبه، لا يعلم، والجهل المركب: هو الذي يعتقد صاحبه غير الحق، يعتقد غير الحق حق؛ فهو لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، هذا الجهل المركب؛ لا يعلم ولا يعلم أنه لا يعلم. فالجهل البسيط لا يدري، والجهل المركب لا يدري ولا يدري أنه لا يدري.

فـإن كُنْـتَ لا تدري فَتِلْكَ مُصِيبَةٌ وإن كنت تَدْرِي فَالْمُصِيبةُ أَعْظَمُ

 وهذا كقول الله تعالى: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الأعراف:30]. فقوله: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا [فاطر:8]، هذا هو الجهل المركب.

فالمثل الأول مضروب للجاهل المركب، الكافر الذي يعمل الكفر ويظن أنه على حق، مثل بعض النصارى وبعض الكفار الذين يعتقدون أنهم على الحق وهم على الباطل -والعياذ بالله-، كما قال الله تعالى: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الأعراف:30].

ولهذا قال المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-: "فَالْأَوَّلُ مِثْلُ الْكُفْرِ الَّذِي يَحْسِبُ صَاحِبُهُ أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ وَهُوَ عَلَى بَاطِلٍ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا [فاطر:8]؛ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ؛ فَلِهَذَا مَثَّلَ بِسَرَابِ بِقِيعَةِ. وَ " الثَّانِي " مِثْلُ الْكُفْرِ الَّذِي لَا يَعْتَقِدُ صَاحِبُهُ شَيْئًا؛ بَلْ هُوَ فِي ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ [النور:40] مِنْ عِظَمِ جَهْلِهِ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ اعْتِقَادٌ أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ" لا يزال في حادث الظُلمات.

ولهذا قال المؤلّف: "بَلْ لَمْ يَزَلْ جَاهِلًا ضَالًّا فِي ظُلُمَاتٍ مُتَرَاكِمَةٍ" نسأل الله السلامة والعافية.

(المتن)

وَأَيْضًا فَقَدْ يَكُونُ الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ تَارَةً مُتَّصِفًا بِهَذَا الْوَصْفِ وَتَارَةً مُتَّصِفًا بِهَذَا الْوَصْفِ فَيَكُونُ التَّقْسِيمُ فِي الْمَثَلَيْنِ لِتَنَوُّعِ الْأَشْخَاصِ وَلِتَنَوُّعِ أَحْوَالِهِمْ، وَبِكُلِّ حَالٍ فَلَيْسَ مَا ضُرِبَ لَهُ هَذَا الْمَثَلُ هُوَ مُمَاثِلٌ لِمَا ضُرِبَ لَهُ هَذَا الْمَثَلُ؛ لِاخْتِلَافِ الْمَثَلَيْنِ صُورَةً وَمَعْنًى.

وَلِهَذَا لَمْ يُضْرَبْ لِلْإِيمَانِ إلَّا مَثَلٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ فَضُرِبَ مَثَلُهُ بِالنُّورِ، وَأُولَئِكَ ضُرِبَ لَهُمْ الْمَثَلُ بِضَوْءِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ. كَالسَّرَابِ بِالْقِيعَةِ أَوْ بِالظُّلُمَاتِ الْمُتَرَاكِمَةِ، وَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ يُضْرَبُ لَهُ الْمَثَلُ بِمَنْ أَبْصَرَ ثُمَّ عَمِيَ أَوْ هُوَ يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ مَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ.

فَتَبَيَّنَ أَنَّ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مَنْ كَانَ آمَنَ ثُمَّ كَفَرَ بَاطِنًا، وَهَذَا مِمَّا اسْتَفَاضَ بِهِ النَّقْلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالسِّيَرِ أَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ قَدْ آمَنُوا ثُمَّ نَافَقُوا وَكَانَ يَجْرِي ذَلِكَ لِأَسْبَابِ: مِنْهَا أَمْرُ الْقِبْلَةِ لَمَّا حُوِّلَتْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِيمَانِ لِأَجْلِ ذَلِكَ طَائِفَةٌ".

(الشرح)

يقول المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-: إن الأمثال المضروبة التي ذكرها الله في القرآن متنوعة؛ فلا يمكن أن تكون لشخصٍ واحد في حالٍ واحدة، أو لطوائف حالهم واحدة، بل هذه الأمثال إنما ضربها الله إما لطوائف متعددة أو لطائفة تختلف أحوالها، تتقلب من حال إلى حال.

ولهذا قال المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَأَيْضًا فَقَدْ يَكُونُ الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ تَارَةً مُتَّصِفًا بِهَذَا الْوَصْفِ وَتَارَةً مُتَّصِفًا بِهَذَا الْوَصْفِ فَيَكُونُ التَّقْسِيمُ فِي الْمَثَلَيْنِ لِتَنَوُّعِ الْأَشْخَاصِ وَلِتَنَوُّعِ أَحْوَالِهِم" فمثلًا في المثلين السابقين يكون الشخص أحيانًا يكون في حنادس الظلمات، مستمر في ظلمات لا يدري؛ فيكون له المثل الثاني، وأحيانًا يعتقد غير الحق؛ فيُضرب له المثل الأول.

ولهذا قال المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-: "فَيَكُونُ التَّقْسِيمُ فِي الْمَثَلَيْنِ لِتَنَوُّعِ الْأَشْخَاصِ وَلِتَنَوُّعِ أَحْوَالِهِمْ، وَبِكُلِّ حَالٍ فَلَيْسَ مَا ضُرِبَ لَهُ هَذَا الْمَثَلُ هُوَ مُمَاثِلٌ لِمَا ضُرِبَ لَهُ هَذَا الْمَثَلُ لِاخْتِلَافِ الْمَثَلَيْنِ صُورَةً وَمَعْنًى"؛ يعني تختلف هذه الأمثال "َولِهَذَا لَمْ يُضْرَبْ لِلْإِيمَانِ إلَّا مَثَلٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ فَضُرِبَ مَثَلُهُ بِالنُّورِ"؛ يعني في سورة النور في قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ [النور:35] هذا مثل ضربه الله للمؤمنين، ثم ضرب بعد ذلك مثلين للكفار.

فالمؤمنون ضرب الله لهم مثلًا واحدًا؛ لأن الحق واحد لا يتعدد، وأمَّا الكفرة فضُرِب لهم أمثال متعددة؛ لأن طرق الباطل متشعبة وكثيرة؛ ولهذا قال المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَأُولَئِكَ ضُرِبَ لَهُمْ الْمَثَلُ بِضَوْءِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ. كَالسَّرَابِ بِالْقِيعَةِ أَوْ بِالظُّلُمَاتِ الْمُتَرَاكِمَةِ" المثل الأول ضُرِب له بضوءٍ لا حقيقة له، كالسراب الذي يراه الإنسان بالقاع أو بالظلمات المتراكمة.

"وَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ يُضْرَبُ لَهُ الْمَثَلُ بِمَنْ أَبْصَرَ ثُمَّ عَمِيَ أَوْ هُوَ مُضْطَرِبٌ يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ مَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ" طائفة من المنافقين يكون عندهم بصيرة ثم يعمون، وطائفة يسمعون ويُبصرون ما لا ينتفعون به.

قال المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-: "فَتَبَيَّنَ أَنَّ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مَنْ كَانَ آمَنَ ثُمَّ كَفَرَ بَاطِنًا وَهَذَا مِمَّا اسْتَفَاضَ بِهِ النَّقْلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالسِّيَرِ أَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ قَدْ آمَنُوا ثُمَّ نَافَقُوا"؛ يعني أن هناك من الأنصار مَن كان مؤمنًا في الأول ثم بعد ذلك ارتد -والعياذ بالله-؛ بسبب أمور حصلت له.

ذكر المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ- منها: أقسام السبب التي ارتدوا بها، منها: تحويل القبلة، ومنها الهزيمة التي حصلت للمسلمين يوم أُحد، هذه ارتد بها أُناس كانوا مؤمنين فأظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر.

(المتن)

وَكَانَ يَجْرِي ذَلِكَ لِأَسْبَابِ: مِنْهَا أَمْرُ الْقِبْلَةِ لَمَّا حُوِّلَتْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِيمَانِ لِأَجْلِ ذَلِكَ طَائِفَةٌ، وَكَانَتْ مِحْنَةً امْتَحَنَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ.

قَالَ تَعَالَى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [البقرة:143]، قَالَ: أَيْ إذَا حُوِّلَتْ.

وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْكَعْبَةَ هِيَ الْقِبْلَةُ الَّتِي كَانَ فِي عِلْمِنَا أَنْ نَجْعَلَهَا قِبْلَتَكُمْ؛ فَإِنَّ الْكَعْبَةَ وَمَسْجِدَهَا وَحَرَمَهَا أَفْضَلُ بِكَثِيرِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهِيَ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ وَقِبْلَةُ إبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ قَطُّ أَحَدًا أَنْ يُصَلِّيَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَا مُوسَى وَلَا عِيسَى وَلَا غَيْرَهُمَا؛ فَلَمْ نَكُنْ لِنَجْعَلَهَا لَك قِبْلَةً دَائِمَةً، وَلَكِنْ جَعَلْنَاهَا أَوَّلًا قِبْلَةً لِنَمْتَحِنَ بِتَحْوِيلِك عَنْهَا النَّاسَ، فَيَتَبَيَّنُ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ، فَكَانَ فِي شَرْعِهَا هَذِهِ الْحِكْمَةُ.

(الشرح)

المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ- يبيِّن أن هناك من المنافقين مَن كان عنده إيمان ضعيف ثم ارتد، وأن المنافقين ليسوا على حالٍ واحدة، وليسوا على طبقةٍ واحدة؛ بل هم أقسام.

ويدلُّ على أن مِن المنافقين مَن كان عنده إيمانٌ ضعيف ثم ارتد: ما حصل في المدينة النبوية في زمن النبي ﷺ، فإن أُناسًا من الأنصار كان عندهم إيمانٌ ضعيف ثم لما حُوِّلت القبلة؛ ارتدوا -والعياذ بالله-فأظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر.

ولهذا قال المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَكَانَ يَجْرِي ذَلِكَ لِأَسْبَابِ: منْهَا أَمْرُ الْقِبْلَةِ لَمَّا حُوِّلَتْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِيمَانِ لِأَجْلِ ذَلِكَ طَائِفَةٌ وَكَانَتْ مِحْنَةً امْتَحَنَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ. قَالَ تَعَالَى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [البقرة:143]"، يعني إلا لنَعْلَم عِلْمَ ظهور؛ يَظْهَر للناس.

 قال المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-: "قَالَ: أَيْ إذَا حُوِّلَتْ؛ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْكَعْبَةَ هِيَ الْقِبْلَةُ الَّتِي كَانَ فِي عِلْمِنَا أَنْ نَجْعَلَهَا قِبْلَتَكُم".

الكعبة هي: القبلة التي كانت في علم الله أن تكون هي القبلة، لكن الله تعالى وجَّه المؤمنين إلى بيت المقدس أولًا، توجَّه النبي ﷺبعد الهجرة للمدينة، وجَّهه الله ستة عشر شهرًا أو سبعة عشرة شهرًا، ثم حُوِّلت القبلة ابتلاءً وامتحان.

ومن ذلك أيضًا: قول اليهود: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:142]؛ فهي ابتلاء وامتحان لليهود ولضعفاء الإيمان؛ ولهذا قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11].

 يقول المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-: " وَالْمَعْنَى أَنَّ الْكَعْبَةَ هِيَ الْقِبْلَةُ الَّتِي كَانَ فِي عِلْمِنَا أَنْ نَجْعَلَهَا قِبْلَتَكُمْ؛ فَإِنَّ الْكَعْبَةَ وَمَسْجِدَهَا وَحَرَمَهَا أَفْضَلُ بِكَثِيرِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ"، معلوم هذا؛ لأن المسجد الحرام وهو المسمى (مسجد إبراهيم) هو أفضل المساجد على الإطلاق، والصلاة فيه خيرٌ من مائة ألف صلاة فيما سواه، والمسجد النبوي (مسجد النبيﷺ) والصلاة فيه خيرٌ من ألف صلاة، وبيت المقدس (المسجد الأقصى) الصلاة فيه خيرٌ من خمسمائة صلاة. هذا جاء في الأحاديث الصحيحة.

ولهذا قال المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَهِيَ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ وَقِبْلَةُ إبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ قَطُّ أَحَدًا أَنْ يُصَلِّيَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَا مُوسَى وَلَا عِيسَى وَلَا غَيْرَهُمَا؛ فَلَمْ نَكُنْ لِنَجْعَلَهَا لَك قِبْلَةً دَائِمَةً، وَلَكِنْ جَعَلْنَاهَا أَوَّلًا قِبْلَةً لِنَمْتَحِنَ بِتَحْوِيلِك عَنْهَا النَّاسَ فَيَتَبَيَّنُ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ فَكَانَ فِي شَرْعِهَا هَذِهِ الْحِكْمَةُ"، يعني الله تعالى بيَّن هذه الحكمة ونص عليها كما ذكر هذا المؤلّف -رَحِمَهُ اللهُ-، فدل على أن هؤلاء الذين كان عندهم إيمانٌ ضعيف ارتدوا؛ بسبب هذه المسألة، بسبب تحويل القبلة.


([1]) – سبق تخريجه (...)

([2]) – سبق تخريجه (...)

([3]) – أخرجه البخاري رقم (7437) من حديث أبي هريرة .

([4]) – أخرجه البخاري رقم (7439) واللفظ له ومسلم رقم (183) من حديث أبي سعيد الخدري .

([5]) – أخرجه خرجه البخاري رقم (7439)، ومسلم رقم (183) واللفظ له من حديث أبي سعيد الخدري .

([6]) –  سبق تخريجه (...)

([7]) –  سبق تخريجه (...)

([8]) –  سبق تخريجه (...)

([9]) –  سبق تخريجه (...)

([10]) –  سبق تخريجه (...)

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد