شعار الموقع
  1. الصفحة الرئيسية
  2. الدروس العلمية
  3. العقيدة
  4. شرح كتاب الإيمان الكبير
  5. شرح كتاب الإيمان الكبير_32 من قوله وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَمَّا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ - إلى وَاسْمُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالنِّفَاقِ وَالْكُفْرِ هِيَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ

شرح كتاب الإيمان الكبير_32 من قوله وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَمَّا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ - إلى وَاسْمُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالنِّفَاقِ وَالْكُفْرِ هِيَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ

00:00
00:00
تحميل
71

(المتن)

وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَمَّا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ وَشُجَّ وَجْهُ النَّبِيِّ ﷺ وَكُسِرَتْ رُبَاعِيَّتُهُ ارْتَدَّ طَائِفَةٌ نَافَقُوا، قَالَ تَعَالَى: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ۝ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ۝ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 139-141].

وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ۝ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [آل عمران: 166، 167]، فَقَوْلُهُ: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا ظَاهِرٌ فِيمَنْ أَحْدَثَ نِفَاقًا وَهُوَ يَتَنَاوَلُ مَنْ لَمْ يُنَافِقْ قَبْلُ وَمَنْ نَافَقَ ثُمَّ جَدَّدَ نِفَاقًا ثَانِيًا.

وَقَوْلُهُ: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ، يُبَيِّنُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا قَبْلَ ذَلِكَ أَقْرَبَ مِنْهُمْ؛ بَلْ إمَّا أَنْ يَتَسَاوَيَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا لِلْإِيمَانِ أَقْرَبَ وَكَذَلِكَ كَانَ؛ فَإِنَّ ابْنَ أُبَي لَمَّا انْخَزَلَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ أُحُدٍ. انْخَزَلَ مَعَهُ ثُلُثُ النَّاسِ.

قِيلَ: كَانُوا نَحْوَ ثَلَاثِمِائَةٍ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا قَبْلَ ذَلِكَ كُلُّهُمْ مُنَافِقِينَ فِي الْبَاطِنِ إذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ دَاعٍ إلَى النِّفَاقِ. فَإِنَّ ابْنَ أبي كَانَ مُظْهِرًا لِطَاعَةِ النَّبِيِّ ﷺ وَالْإِيمَانِ بِهِ؛ وَكَانَ كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ يَقُومُ خَطِيبًا فِي الْمَسْجِدِ يَأْمُرُ بِاتِّبَاعِ النَّبِيِّ ﷺ، وَلَمْ يَكُنْ مَا فِي قَلْبِهِ يَظْهَرُ إلَّا لِقَلِيلِ مِنْ النَّاسِ إنْ ظَهَرَ، وَكَانَ مُعَظَّمًا فِي قَوْمِهِ؛ كَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ وَيَجْعَلُوهُ مِثْلَ الْمَلِكِ عَلَيْهِمْ.

فَلَمَّا جَاءَتْ النُّبُوَّةُ بَطَلَ ذَلِكَ فَحَمَلَهُ الْحَسَدُ عَلَى النِّفَاقِ وَإِلَّا فَلَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ دِينٌ يَدْعُو إلَيْهِ؛ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا فِي الْيَهُودِ، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِدِينِهِ، وَقَدْ ظَهَرَ حُسْنَهُ وَنُورَهُ مَالَتْ إلَيْهِ الْقُلُوبُ لَا سِيَّمَا لَمَّا نَصَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَنَصَرَهُ عَلَى يَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ صَارَ مَعَهُ الدِّينُ وَالدُّنْيَا؛ فَكَانَ الْمُقْتَضِي لِلْإِيمَانِ فِي عَامَّةِ الْأَنْصَارِ قَائِمًا، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يُعَظِّمُ ابْنَ أُبي تَعْظِيمًا كَثِيرًا وَيُوَالِيهِ وَلَمْ يَكُنْ ابْنُ أُبي أَظْهَرَ مُخَالَفَةً تُوجِبُ الِامْتِيَازَ؛ فَلَمَّا انْخَزَلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَقَالَ: يَدَعُ رَأْيِي وَرَأْيَهُ وَيَأْخُذُ بِرَأْيِ الصِّبْيَانِ -أَوْ كَمَا قَالَ- انْخَزَلَ مَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُنَافِقْ قَبْلَ ذَلِكَ.

(الشرح)

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أمَّا بعد:

فإن المؤلف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بيَّن فيما سبق: أن الإسلام والإيمان ليسا شيئًا واحدًا في أصحِّ أقوال أهل العلم، وكما يقوله بعض أهل السنة وعلى رأسهم الإمام البخاري، وهو أيضًا قول الخوارج والمعتزلة أن الإسلام والإيمان شيءٌ واحد.

بيَّن المؤلف رحمه الله أن الصواب: أن الإسلام والإيمان تختلف دلالتهما بالاقتران والتجرد، فإذا تجرد أحدهما دخل فيه الآخر، وشمل الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة، وإذا اجتمعا فُسِّر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بالأعمال الباطنة، هذا هو الصحيح، هذا هو أصح الأقوال. وهناك من قال من أهل العلم: إن الإسلام والإيمان شيءٌ واحد. ومنهم من قال: الإسلام هو الكلمة، والإيمان هو العمل.

وبيَّن المؤلف رحمه الله أن المنافقين منهم من كان عنده إيمان ضعيف، ثم ارتد، كالذين قال الله فيهم: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُون ۝ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65،66]، ومثل أيضًا الذين ضرب الله لهم مثلاً ناريًّا في قوله تعالى في سورة البقرة: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُون  [البقرة:17].

 بيَّن المؤلف رحمه الله هنا أن هؤلاء الذين ارتدوا، لذلك أسباب، ردتهم لها أسباب، منها تحويل القبلة، وهذا هو السبب الأول الذي ذكره المؤلف رحمه الله، ومنها السبب الثاني ذكره المؤلف هنا وهو: انهزام المسلمين يوم أُحد، فقال رحمه الله: " كَذَلِكَ أَيْضًا لَمَّا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ وَشُجَّ وَجْهُ النَّبِيِّ ﷺ وَكُسِرَتْ رُبَاعِيَّتُهُ" عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ "ارْتَدَّ طَائِفَةٌ نَافَقُوا"؛ لأن هؤلاء ضعفاء الإيمان.

هؤلاء عندهم ضعف في إيمانهم، وظنوا أن النبي ﷺ لا يصيبه ما يصيب الناس من الأمراض والأسقام، والله تعالى له حكمةٌ بالغة، من الحكم في كون النبي ﷺ يمرض ويُشج وجهه؛ ليعلم الناس أنه ليس إله يعبد، ولكنه نبيٌّ كريم يطاع ويتبع، وهو بشر يصيبه ما يصاب الناس، من أمراض وأسقام، ويُنصر ويهزم، ويأكل ويشرب كغيره من البشر، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لكنه نبيٌّ كريم، اختصَّه الله واصطفاه الله بالنبوة والرسالة، وجعله خاتم النبيين، وألزم الناس بطاعته واتباعه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

فلما انهزم المسلمون يوم أحد، وحصل ما حصل على النبي ﷺ من الجراحات، ارتد طائفة نافقوا، قالوا: كيف يصيبه هذا وهو نبي؟!، فقال الله تعالى: "وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ۝ إنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:139، 140]" ، بيَّن الله تعالى الحكمة من الهزيمة، لا تهنوا ولا تضعفوا أيها المؤمنون، وأنتم الأعلون، أنتم فوق الكفار، أنتم المصطفون.

ثم بيَّن الله تعالى الحكمة في ما حصل للمسلمين من الهزيمة، فقال: إنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران:140]، إن مسكم قرح وجراح، فقد مس القوم الكفار مثله، لكن لستم سواء، أنتم تثابون وتؤجرون، يعظم الله لكم الأجر، وهم كفار، لا يستفيدون من هذا مما أصابهم.

ثم قال الله تعالى: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، بيَّن الله أن الأيام دول، يومٌ لك ويومٌ عليك، هذه الدنيا لا تدوم على حالٍ واحدة، نصرٌ وهزيمة، فقرٌ وغنى، عزٌ وذل، وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140].

ثم قال سُبْحَانَهُ: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:140]، يعني يعلم علم ظهور؛ ليتبين المؤمن الصادق من ضعيف الإيمان الذي يرتد ولا يثبت على دينه، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:140]، يعني علم ظهور، وإلا فهو سُبْحَانَهُ الذي يعلم ما في القلوب، ولا يخفى عليه خافية، لكن الله يعلم علم ظهور، يظهر للناس في الواقع.

وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140]، هذه من الحِكَم، من الحكم في تسليط الكفار، وإدالة الكفار على المؤمنين أن الله تعالى يتخذ من المؤمنين شهداء، فيُعلي الله درجاتهم ويثيبهم، وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140].

وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:141] التمحيص، أيضًا هذه من الحِكَم، يمحص الله الذين آمنوا، يمحص إيمانهم، ويزول ما حصل لهم من الضعف، لما أصابهم من الشدة، وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:141]، هذه أيضًا كلها من الحكم في تسليط الأعداء وإدالة الأعداء عليهم، قال: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140]، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ  [آل عمران:141]، خمس حِكم.

وقال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ۝ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا [آل عمران:166، 167]، وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ جمع المؤمنين وجمع الكفار، فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ  يعني هذه حكمة، يعني ليعلم علم ظهور، ليتبين المؤمن، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا [آل عمران:167]، فلذلك الذي يظهر نفاق المنافق.

وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ [آل عمران:167]، وهذا قاله عبد الله بن أبيّ ومن معه، لما انخزل عبد الله بن أبيّ بثلث الجيش، وتبعه بعض المؤمنين، تبعهم ودعوهم إلى الرجوع، فقالوا: قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ [آل عمران:167]، لا نعلم أنه يحصل قتال، فأنزل الله هذه الآية: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ، ثم قال سبحانه: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [آل عمران:167]، هذا يدل على أنهم عندهم تقلبات، في حين يكونوا للإيمان أقرب، وفي حين يكونوا للكفر أقرب، هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ [آل عمران:167]، بسبب ما حصل لهم من المحنة والابتلاء، ضعف إيمانهم، فقربوا من الكفر، فارتد من ارتد.

هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ، ثم قال سبحانه: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ، قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ، يعلمون أن النبي ﷺ ما خرج من المدينة، إلا وتهيأ للقتال، ويعلمون مجيء الكفار، يعلمون أنه سيحصل قتال؛ ولهذا قال الله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ، ثم قال الله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [آل عمران:167].

قال المؤلف رحمه الله: " فَقَوْلُهُ: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا ظَاهِرٌ فِيمَنْ أَحْدَثَ نِفَاقًا"، يعني الآية دلت على أنه حصل نفاق، بسبب الهزيمة، يقول المؤلف:"يَتَنَاوَلُ مَنْ لَمْ يُنَافِقْ قَبْلُ وَمَنْ نَافَقَ ثُمَّ جَدَّدَ نِفَاقًا ثَانِيًا." يعني بعد الهزيمة منهم من ظهر النفاق، لكن منهم من كان ضعيف الإيمان ثم نافق، ومنهم من لم ينافق قبل، ومنهم من عنده نفاق وجدد النفاق؛ ولهذا قال المؤلف: "ظَاهِرٌ فِيمَنْ أَحْدَثَ نِفَاقًا وَهُوَ يَتَنَاوَلُ مَنْ لَمْ يُنَافِقْ قَبْلُ ذلك" يعني ويتناول من نافق ثم آمن؛ لأنهم مذبذبون، منهم من يكون عنده الإيمان، ثم يذهب ثم يعود وهكذا، "وَمَنْ نَافَقَ ثُمَّ جَدَّدَ نِفَاقًا ثَانِيًا".

قال المؤلف رحمه الله: " وَقَوْلُهُ: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يُبَيِّنُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا قَبْلَ ذَلِكَ أَقْرَبَ مِنْهُمْ بَلْ إمَّا أَنْ يَتَسَاوَيَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا لِلْإِيمَانِ أَقْرَبَ " يعني الله تعالى أخبر أنهم هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ بعد حصول الغزوة، بعد غزوة أحد، وكانوا قبل ذلك، لم يكونوا قبل ذلك أقرب منهم للإيمان، كانوا قبل ذلك لهم حالان:

إما أن يتساويا.

وإما أن يكونوا للإيمان أقرب.

يقول: " وَكَذَلِكَ كَانَ"، فعلى هذا يكون لهم ثلاثة أحوال:

الحالة الأولى: أن يتساويا.

والحالة الثانية: أن يكونوا للإيمان أقرب.

والحالة الثالثة: أن يكونوا للكفر أقرب.

قال المؤلف: " وَكَذَلِكَ كَانَ فَإِنَّ ابْنَ أُبَي لَمَّا انْخَزَلَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ أُحُدٍ. انْخَزَلَ مَعَهُ ثُلُثُ النَّاسِ قِيلَ: كَانُوا نَحْوَ ثَلَاثِمِائَةٍ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا قَبْلَ ذَلِكَ كُلُّهُمْ مُنَافِقِينَ فِي الْبَاطِنِ إذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ دَاعٍ إلَى النِّفَاقِ" يعني المؤلف رحمه الله يبين أن هؤلاء الذين انخزل بهم أبي ورجعوا ما كانوا منافقين قبل ذلك، إذًا ليس هذا داعٍ يدعو إلى النفاق، لكن لما حصل ما حصل؛ حصل لهم النفاق.

قال المؤلف رحمه الله: "فَإِنَّ ابْنَ أبي كَانَ مُظْهِرًا لِطَاعَةِ النَّبِيِّ ﷺ وَالْإِيمَانِ بِهِ؛ وَكَانَ كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ يَقُومُ خَطِيبًا فِي الْمَسْجِدِ يَأْمُرُ بِاتِّبَاعِ النَّبِيِّ ﷺ، وَلَمْ يَكُنْ مَا فِي قَلْبِهِ يَظْهَرُ إلَّا لِقَلِيلِ مِنْ النَّاسِ إنْ ظَهَرَ، وَكَانَ مُعَظَّمًا فِي قَوْمِهِ" وذلك لقوة المؤمنين، لما قوي المؤمنون، وأعزَّ الله جنده، وأظهر الإسلام، ظهر المسلمون، وقويت شوكتهم بعد غزوة بدر نافق من نافق، قال عبد الله بن أبي: "هذا أمرٌ توجَّه" ثم أظهر الإسلام، وأبطن الكفر، ولهذا كان عبد الله بن أبيّ يتستر، يستر ما في قلبه من النفاق، فكان يقوم كل جمعة يقوم خطيبًا بعد الجمعة في المسجد يأمر الناس باتباع النبي ﷺ.

" كَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ وَيَجْعَلُوهُ مِثْلَ الْمَلِكِ عَلَيْهِمْ" يعني قبل هجرة النبي ﷺ كان الأوس والخزرج اجتمعوا على أن يتوجوه، ويعصبوه بالعصابة ليجعلوه ملكًا عليهم، فلما هاجر النبي ﷺ فاته ذلك، فشرِقَ بالإسلام؛ ولهذا قال: " فَلَمَّا جَاءَتْ النُّبُوَّةُ بَطَلَ ذَلِكَ فَحَمَلَهُ الْحَسَدُ عَلَى النِّفَاقِ وَإِلَّا فَلَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ دِينٌ يَدْعُو إلَيْهِ"؛ لأنه كان كغيره لم يكن على دين اليهودية قبل ذلك، كان على ما كان عليه الأنصار، كانوا أهل شرك، فليس له دين يدعو إليه كما يدعو اليهود.

 ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَإِلَّا فَلَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ دِينٌ يَدْعُو إلَيْهِ؛ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا فِي الْيَهُودِ فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِدِينِهِ وَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ حُسْنَهُ وَنُورَهُ مَالَتْ إلَيْهِ الْقُلُوبُ لَا سِيَّمَا لَمَّا نَصَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَنَصَرَهُ عَلَى يَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ صَارَ مَعَهُ الدِّينُ وَالدُّنْيَا؛ فَكَانَ الْمُقْتَضِي لِلْإِيمَانِ فِي عَامَّةِ الْأَنْصَارِ قَائِمًا" ولما كان المقتضي للإيمان في الأنصار قائمًا صار مَنْ حدث له النفاق يخفيه.

ولهذا قال المؤلف: " وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يُعَظِّمُ ابْنَ أبي تَعْظِيمًا كَثِيرًا وَيُوَالِيهِ وَلَمْ يَكُنْ ابْنُ أبي أَظْهَرَ مُخَالَفَةً تُوجِبُ الِامْتِيَازَ؛ فَلَمَّا انْخَزَلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَقَالَ" يعني معترضًا على النبي، "يَدَعُ رَأْيِي وَرَأْيَهُ وَيَأْخُذُ بِرَأْيِ الصِّبْيَانِ - أَوْ كَمَا قَالَ - انْخَزَلَ مَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُنَافِقْ قَبْلَ ذَلِكَ " لكن حدث لهم نفاق بعد ذلك، نعم.

(المتن)

وَفِي الْجُمْلَةِ: فَفِي الْأَخْبَارِ عَمَّنْ نَافَقَ بَعْدَ إيمَانِهِ مَا يَطُولُ ذِكْرُهُ هُنَا؛ فَأُولَئِكَ كَانُوا مُسْلِمِينَ، وَكَانَ مَعَهُمْ إيمَانٌ، هُوَ الضَّوْءُ الَّذِي ضَرَبَ اللَّهُ بِهِ الْمَثَلَ، فَلَوْ مَاتُوا قَبْلَ الْمِحْنَةِ وَالنِّفَاقِ مَاتُوا عَلَى هَذَا الْإِسْلَامِ الَّذِي يُثَابُونَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا الَّذِينَ اُمْتُحِنُوا فَثَبَتُوا عَلَى الْإِيمَانِ، وَلَا مِنْ الْمُنَافِقِينَ حَقًّا الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَنْ الْإِيمَانِ بِالْمِحْنَةِ.

وَهَذَا حَالُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَانِنَا أَوْ أَكْثَرِهِمْ إذَا اُبْتُلُوا بِالْمِحَنِ الَّتِي يَتَضَعْضَعُ فِيهَا أَهْلُ الْإِيمَانِ يَنْقُصُ إيمَانُهُمْ كَثِيرًا وَيُنَافِقُ أَكْثَرُهُمْ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يُظْهِرُ الرِّدَّةَ إذَا كَانَ الْعَدُوُّ غَالِبًا؛ وَقَدْ رَأَيْنَا وَرَأَى غَيْرُنَا مِنْ هَذَا مَا فِيهِ عِبْرَةٌ. وَإِذَا كَانَتْ الْعَافِيَةُ أَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ ظَاهِرِينَ عَلَى عَدُوِّهِمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ. وَهُمْ مُؤْمِنُونَ بِالرَّسُولِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا لَكِنْ إيمَانًا لَا يَثْبُتُ عَلَى الْمِحْنَةِ.

(الشرح)

يقول المؤلف رحمه الله الخلاصة لما سبق: " فَفِي الْأَخْبَارِ عَمَّنْ نَافَقَ بَعْدَ إيمَانِهِ مَا يَطُولُ ذِكْرُهُ هُنَا " وهناك أدلة كثيرة، الأخبار يعني الأخبار عن النبي ﷺ، الأحاديث والآثار عن الصحابة كثيرة، الأخبار كثيرة تدل على أن هناك من نافق بعد إيمانه، المقصود: أن هناك من نافق بعد إيمانه، وكفر بعد إيمانه، وارتد بعد إيمانه وأخفى النفاق، يقول المؤلف: أدلته كثيرة من النصوص ومن الآثار يطول ذكره إذا أريد الاستكثار.

يقول المؤلف: " فَأُولَئِكَ كَانُوا مُسْلِمِينَ وَكَانَ مَعَهُمْ إيمَانٌ هُوَ الضَّوْءُ الَّذِي ضَرَبَ اللَّهُ بِهِ الْمَثَلَ فَلَوْ مَاتُوا قَبْلَ الْمِحْنَةِ وَالنِّفَاقِ مَاتُوا عَلَى هَذَا الْإِسْلَامِ الَّذِي يُثَابُونَ عَلَيْهِ " يعني يقول: إن هؤلاء الذين نافقوا كانوا في الأول عندهم إيمانٌ ضعيف، عندهم إيمانٌ ضعيف ولهذا ضرب الله لهم المثل بالضوء، كما قال : مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [البقرة:18]، هذا الضوء الذي ضرب الله به المثل هو الإيمان، والإيمان الضعيف؛ ولهذا قال: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ۝ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:17، 18]، عندهم ضوء، لكن هذا الضوء إن لم تأتِ المِحَن بقي معهم، وإن زالت المحن زال الضوء وارتدوا، هؤلاء ضعفاء الإيمان.

وضعيف الإيمان لا يثبت عند الشدائد والمحن، إن جاءته العافية والسلامة، بقي هذا الإيمان وهذا النور، وإن جاءته المحن والشدائد ارتد، كما قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ يعني على طرف فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ، يعني ارتد، خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11].

ولذلك قال المؤلف: " فَأُولَئِكَ كَانُوا مُسْلِمِينَ وَكَانَ مَعَهُمْ إيمَانٌ هُوَ الضَّوْءُ الَّذِي ضَرَبَ اللَّهُ بِهِ الْمَثَلَ فَلَوْ مَاتُوا قَبْلَ الْمِحْنَةِ " يعني قبل الاختبار والامتحان، " وَالنِّفَاقِ مَاتُوا عَلَى هَذَا الْإِسْلَامِ " هذا الإسلام الذي معه إيمانٌ ضعيف.

" الَّذِي يُثَابُونَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا " المؤمنين حقًّا يعني لم يكونوا من المؤمنين الكُمَّل الذين حققوا إيمانهم بأداء الواجبات وترك المحرمات؛ لأن المؤمنين الكُمَّل يثبتون عند الشدائد، يثبتهم الله عند الشدائد.

ولهذا قال المؤلف: " وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا الَّذِينَ اُمْتُحِنُوا فَثَبَتُوا عَلَى الْإِيمَانِ وَلَا مِنْ الْمُنَافِقِينَ حَقًّا الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَنْ الْإِيمَانِ بِالْمِحْنَةِ " يقول: هؤلاء صنف ثالث، ليسوا من المؤمنين الكُمَّل الذين يثبتون عند الشدائد والمحن، وليسوا منافقين، وليسوا من المنافقين حقًا الذين ارتدوا عن الإيمان بمحنة، هؤلاء عندهم إيمانٌ ضعيف، فهم سالمون إن لم تأتهم المحن، فإذا جاءت المحن ارتدوا فصاروا صنفًا ثالثًا، فتكون الأصناف ثلاثة:

الصنف الأول: منافق.

والصنف الثاني: مؤمنون كُمَّل.

كُمَّل إيمانهم يثبتون عند الشدائد، هم الذين قال الله فيهم: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ۝ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ۝ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:2-4].

وقال سبحانه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15]، فهؤلاء يوصفوا بأنهم صادقون في إيمانهم وبأنهم مؤمنون حقًّا،أما هؤلاء فإنهم ضعفاء الإيمان.

إن سلموا من الشبه والمحن والشدائد، بقي هذا الإيمان، وإلا إن أصابهم ما أصابهم من الشدائد ارتدوا، فتكون الأصناف ثلاثة منافقون يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، ومؤمنون حقًا، ومؤمنون ضعفاء الإيمان.

يقول المؤلف رحمه الله: " وَهَذَا حَالُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَانِنَا " حال كثير من الناس عندهم ضعف إيمان، "وَهَذَا حَالُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَانِنَا أَوْ أَكْثَرِهِمْ إذَا اُبْتُلُوا بِالْمِحَنِ الَّتِي يَتَضَعْضَعُ فِيهَا أَهْلُ الْإِيمَانِ يَنْقُصُ إيمَانُهُمْ كَثِيرًا وَيُنَافِقُ أَكْثَرُهُمْ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُظْهِرُ الرِّدَّةَ إذَا كَانَ الْعَدُوُّ غَالِبًا؛ وَقَدْ رَأَيْنَا وَرَأَى غَيْرُنَا مِنْ هَذَا مَا فِيهِ عِبْرَةٌ." هذا يقوله المؤلف رحمه الله في زمانه، في الحروب والجهاد وحروب النصارى، وكذلك أيضًا الجهاد مع الصوفية وغيرهم.

يقول: "حَالُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَانِنَا أَوْ أَكْثَرِهِمْ إذَا اُبْتُلُوا بِالْمِحَنِ الَّتِي يَتَضَعْضَعُ فِيهَا أَهْلُ الْإِيمَانِ يَنْقُصُ إيمَانُهُمْ كَثِيرًا وَيُنَافِقُ أَكْثَرُهُمْ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُظْهِرُ الرِّدَّةَ إذَا كَانَ الْعَدُوُّ غَالِبًا؛ وَقَدْ رَأَيْنَا وَرَأَى غَيْرُنَا مِنْ هَذَا مَا فِيهِ عِبْرَةٌ، وَإِذَا كَانَتْ الْعَافِيَةُ أَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ ظَاهِرِينَ عَلَى عَدُوِّهِمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ" إذا كانوا في عافية وكان القوة والغلبة للمسلمين كانوا على الإسلام.

"وَهُمْ مُؤْمِنُونَ بِالرَّسُولِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا لَكِنْ إيمَانًا لَا يَثْبُتُ عَلَى الْمِحْنَةِ " أنا أقول: وما أشبه الليلة بالبارحة، نحن الآن في عصرنا هذا مثل ما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله، الآن كثير من الصحفيين وغيرهم لما ابتلوا، ظهر ندب النفاق، وتكلموا بكلام الكفر في كثير من الصحف والمجلات وفي القنوات الفضائية تكلموا، لما جاءت المحن والشدائد وحصل ما حصل من هذه المحن التي حلت بالمسلمين، نجم الكفر والنفاق، وذلك في كثير من الكتابات التي يكتبها كثير من الصحفيين، يسخرون بها بالإسلام وبالدين وبأهله كما يوجد في كثير من الصحف في الداخل والخارج وفي القنوات الفضائية وفي بعض البرامج بسبب هذه المحن والشدائد، لكن لمَّا كانوا في عافية قبل أن تحصل هذه المحن وهذه الشدائد ما رأينا هذا كانوا على حالهم، على ما فيهم من إيمان ضعيف، فلمَّا حصلت هذه الشدائد أظهروا، لم يثبتوا، فتكلموا بما تكلموا به، نسأل الله السلامة والعافية.

القارئ: فضيلة الشيخ، لعلكم تصفون بعض وسائل الثبات على هذا الدين.

الشيخ: نعم، وسائل الثبات على هذا الدين:

أوَّلًا: توفيق الله ، فالله هو الموفق، وهو الهادي، وهو الذي وفَّق من شاء، وخذل من شاء، وله الحكمة البالغة، ثُمَّ من وفق للإيمان عليه أن يتعاهد إيمانه، بالعمل الصالح وجهاد النفس في تحقيق هذا الإيمان بأداء الواجبات، وترك المحرمات والإكثار من تلاوة القرآن وتدبره، وحضور مجالس الذكر والدروس العلمية ومصاحبة الأخيار وأهل العلم، والبعد عن الأشرار ومصاحبة الأشرار.

ومن ذلك: البعد عن مجالس الردى والخدى، والبعد عن مشاهدة القنوات الفضائية وسماع الأشرطة السيئة، والضراعة إلى الله والالتجاء إليه ودعائه وسؤاله الثبات على دينه والاستقامة عليه.

نسأل الله أن يوفِّقنا وإياكم للثبات على دينه والاستقامة عليه حتى الممات، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

(المتن)

وَلِهَذَا يَكْثُرُ فِي هَؤُلَاءِ تَرْكُ الْفَرَائِضِ وَانْتِهَاكُ الْمَحَارِمِ.

وَهَؤُلَاءِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا: آمَنَّا فَقِيلَ لَهُمْ: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] أَيْ: الْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ الَّذِي أَهْلُهُ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْإِيمَانُ إذَا أُطْلِقَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15]، فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ رَيْبٌ عِنْدَ الْمِحَنِ الَّتِي تُقَلْقِلُ الْإِيمَانَ فِي الْقُلُوبِ وَالرَّيْبُ يَكُونُ فِي عِلْمِ الْقَلْبِ وَفِي عَمَلِ الْقَلْبِ.

بِخِلَافِ الشَّكِّ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْعِلْمِ وَلِهَذَا لَا يُوصَفُ بِالْيَقِينِ إلَّا مَنْ اطْمَأَنَّ قَلْبُهُ عِلْمًا وَعَمَلًا؛ وَإِلَّا فَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْحَقِّ؛ وَلَكِنَّ الْمُصِيبَةَ أَوْ الْخَوْفَ أَوْرَثَهُ جَزَعًا عَظِيمًا لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ يَقِينٍ. قَالَ تَعَالَى: هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [الأحزاب: 11].

(الشرح)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:

فإن المؤلف رحمه الله بين في هذا الكتاب العظيم، وهو كتاب "الإيمان الكبير" هذا الكتاب الذي هو شاهدٌ على إمامة هذا الإمام، وأنه من الأئمة حقًّا، ومن الذين نصر الله بهم الحق، ومن الذين يستدلون بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ، ولا يحيدون عنهما قدر أَنمُلة، هذا الإمام الذي كثر الهجوم عليه في هذه الأيام، وفي هذا الزمان في كثير من القنوات الفضائية وغيرها بسبب ضعف الإيمان، وبسبب ظهور الكفر والنفاق.

هؤلاء الذين هجموا عليه هجموهم عليه يدل على ما في قلوبهم من النفاق والشر، وإلا فإن هذا الكتاب وغيره من كتبه شاهدٌ على إمامته، وأنه إمام حق وإمام هدى، متبعٌ للسلف الصالح وللصحابة والتابعين، حيث أنه لا يستدل إلا بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وأقوال الصحابة والتابعين والأئمة.

وقد بيَّن رحمه الله فيما سبق في الحلقة السابقة، بيَّن رحمه الله أن الناس ثلاثة أقسام، في الذين ينتسبون إلى الإسلام ثلاثة أقسام:

قسمٌ منافقون يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، وهم يعاملون معاملة المسلمين في الظاهر، وفي الآخرة في الدرك الأسفل من النار إذا ماتوا على ذلك، ومن أظهر نفاقه فحكمه أنه إذا ثبت عليه، يقام عليه حد الردة.

والقسم الثاني: المؤمنون حقًّا الذين ثبت الإيمان في قلوبهم، ورسخ الإيمان في قلوبهم، حققوا إيمانهم بالعمل الصالح، فأدوا الواجبات وتركوا المحرمات، فهم صادقون في إيمانهم، وهم مؤمنون حقًّا.

والقسم الثالث: ضعفاء الإيمان، الذين لم يثبت الإيمان في قلوبهم، عندهم إيمانٌ ضعيف، فإن كانوا في عافية بقي هذا الإيمان، وإن ماتوا على ذلك، فهم مسلمون، وإن أصابهم شدة وقلاقل وزلازل ومحن دينية، فإنهم يرتدون على أعقابهم، نسأل الله السلامة والعافية، وهم في حالتهم عندهم تقصيرٌ كثير في ترك الواجبات أو فعل المحرمات.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله في وصفهم، قال: " وَلِهَذَا يَكْثُرُ فِي هَؤُلَاءِ تَرْكُ الْفَرَائِضِ وَانْتِهَاكُ الْمَحَارِمِ. وَهَؤُلَاءِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا: آمَنَّا فَقِيلَ لَهُمْ: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ" يعني إن المؤلف رحمه الله يقول: إن من هؤلاء الصنف الأعراب الذين ذكرهم الله في سورة الحجرات، وأخبر أنهم قالوا: آمنا، فنفى عنهم الإيمان وأثبت لهم الإسلام. قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14]، فالله تعالى نفى عنهم الإيمان، والمراد بالإيمان المنفي هو الإيمان المطلق الذي يستلزم أداء الواجبات وترك المحرمات، ولكن يثبت لهم الإسلام، والإسلام لا بد له من إيمان يصححه، فهم معهم إيمان يصحح إسلامهم، ولكن ليس معهم الإيمان المطلق الذي يستلزم أداء الواجبات وترك المحرمات؛ ولهذا لما قالوا: آمَنَّا، قال الله تعالى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ أي: الإيمان المطلق الذي أهله هم المؤمنون حقًّا، فإن هذا هو الإيمان إذا أطلق في كتاب الله كما دل عليه الكتاب والسنة، أو كما سبق في آية الأنفال قال الله: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:4]، وفي آية الحجرات قال: أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15].

قال المؤلف رحمه الله: " وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ" فهؤلاء هم الصادقون في إيمانهم، وأما من معهم إيمان ضعيف فلا يقال صادق، يقال ليس بصادق في إيمانه، ولا يقال إنهم مؤمنون حقًّا، بل يقال: ليس بمؤمن حقًّا، ليس بصادق الإيمان، فلا يثبت له الإيمان المطلق، فلا يقال: هو مؤمن بإطلاق، ولا ينفى عنه الإيمان، بل لا بد من التقييد في النفي وفي الإثبات، في النفي يقال ليس بمؤمن حقًّا، ليس بصادق الإيمان، وفي الإثبات، قال: هو مؤمن ضعيف الإيمان أو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.

يقول المؤلف رحمه الله في وصف المؤمنين الكُمّل الذين قال الله فيهم: أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15]: " فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ رَيْبٌ عِنْدَ الْمِحَنِ الَّتِي تُقَلْقِلُ الْإِيمَانَ فِي الْقُلُوبِ " يعني كما يحصل لضعفاء الإيمان، ضعفاء الإيمان يحصل لهم ريب عند المحن، يقول المؤلف: " وَالرَّيْبُ يَكُونُ فِي عِلْمِ الْقَلْبِ وَفِي عَمَلِ الْقَلْبِ؛ بِخِلَافِ الشَّكِّ " الريب ضعفٌ يعتري التصديق ويعتري العمل، بخلاف الشك، فإن الشك إنما يكون في علم القلب وتصديقه، فهؤلاء عندهم ريب في العلم يعني ضعف في التصديق، وريب في العمل بفعل بعض المحرمات أو ترك الواجبات، عنده نقص وتقصير؛ ولهذا قال الله تعالى في وصفهم: إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [التوبة:45] فالريب يكون في العلم، في علم القلب بأن يكون العلم ضعيفًا، والتصديق ضعيفًا، ويكون في العمل بأن يكون العمل ضعيفًا، فيفعل صاحبه بعض المحرمات أو يقصر في بعض الواجبات، بخلاف الشك فإنه لا يكون إلا في العلم، إذا قيل عنده شك يعني شك في تصديقه، ولا يقال عنده شك في عمله، لكن ريب، يقال عنده ريب في تصديقه وريب في عمله.

يقول المؤلف رحمه الله: " وَلِهَذَا لَا يُوصَفُ بِالْيَقِينِ إلَّا مَنْ اطْمَأَنَّ قَلْبُهُ عِلْمًا وَعَمَلًا " من كان عنده طمأنينة في التصديق وفي العمل يوصف باليقين؛ ولهذا قال العلماء: "من شروط كلمة لا إله إلا الله: اليقين المنافي للشك والريب"، المنافي للشك والريب، للشك في التصديق، والريب في التصديق وفي العمل، يقول المؤلف رحمه الله: " وَإِلَّا فَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْحَقِّ؛ وَلَكِنَّ الْمُصِيبَةَ أَوْ الْخَوْفَ أَوْرَثَهُ جَزَعًا عَظِيمًا لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ يَقِينٍ " هذا مثال للريب في العمل، قد يكون الإنسان عنده علم، عالم بالحق وعنده تصديق، لكن ما عنده ثبات، عنده ضعفٌ في العمل، فإن أصابته المصيبة أو الخوف جزع، فهذا الجزع نقصٌ في الإيمان، وضعفٌ في الإيمان، فلو كان إيمانه قويًّا؛ فإنه لا يحصل له جزع، فيكون عنده يقين، وليس عنده ريبٌ في العمل، وإن كانت المصيبة أو الخوف تورثه جزعًا، فإنه ينتفي عنه اليقين.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَإِلَّا فَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْحَقِّ؛ وَلَكِنَّ الْمُصِيبَةَ أَوْ الْخَوْفَ أَوْرَثَهُ جَزَعًا عَظِيمًا لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ يَقِينٍ قَالَ تَعَالَى: هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا" وهذه الآية نزلت في غزوة الأحزاب، المؤمنون ابتلوا وزلزلوا زلزالاً شديدًا، ولكن المنافقين نجموا نفاقهم وارتدوا، والمؤمنون حصل لهم ابتلاء وامتحان عظيم ومحنة، فثبتهم الله.

(المتن)

وَكَثِيرًا مَا تَعْرِضُ لِلْمُؤْمِنِ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ النِّفَاقِ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ؛ وَقَدْ يَرِدُ عَلَى قَلْبِهِ بَعْضُ مَا يُوجِبُ النِّفَاقَ. وَيَدْفَعُهُ اللَّهُ عَنْهُ. وَالْمُؤْمِنُ يُبْتَلَى بِوَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ وَبِوَسَاوِسِ الْكُفْرِ الَّتِي يَضِيقُ بِهَا صَدْرُهُ.

كَمَا قَالَتْ الصَّحَابَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ مَا لَئِنْ يَخِرُّ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ. فَقَالَ: ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ.([1])

 وَفِي رِوَايَةٍ: مَا يَتَعَاظَمُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إلَى الْوَسْوَسَةِ.([2])

 أَيْ: حُصُولِ هَذَا الْوَسْوَاسِ مَعَ هَذِهِ الْكَرَاهَةِ الْعَظِيمَةِ لَهُ وَدَفْعِهِ عَنْ الْقَلْبِ هُوَ مِنْ صَرِيحِ الْإِيمَانِ؛ كَالْمُجَاهِدِ الَّذِي جَاءَهُ الْعَدُوُّ فَدَافَعَهُ حَتَّى غَلَبَهُ.

فَهَذَا أَعْظَمُ الْجِهَادِ، وَالصَّرِيحُ الْخَالِصُ كَاللَّبَنِ الصَّرِيحِ، وَإِنَّمَا صَارَ صَرِيحًا لَمَّا كَرِهُوا تِلْكَ الْوَسَاوِسَ الشَّيْطَانِيَّةَ وَدَفَعُوهَا فَخَلَصَ الْإِيمَانُ فَصَارَ صَرِيحًا.

(الشرح)

يقول المؤلف رحمه الله أن المؤمنين ليسوا معصومين، بل تعرض لهم المعاصي، ولكن الله يمن عليهم بالتوبة، قال: "وَكَثِيرًا مَا تَعْرِضُ لِلْمُؤْمِنِ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ النِّفَاقِ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ" والحمد لله التوبة تجب ما قبلها.

يقول المؤلف: "وَقَدْ يَرِدُ عَلَى قَلْبِهِ بَعْضُ مَا يُوجِبُ النِّفَاقَ. وَيَدْفَعُهُ اللَّهُ عَنْهُ" وهذا من توفيق الله للعبد، قد يرد على قلبه بعض ما يوجب النفاق فيدفعه الله عنه، وهذا من توفيق الله لعبده، قال المؤلف: "وَالْمُؤْمِنُ يُبْتَلَى بِوَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ وَبِوَسَاوِسِ الْكُفْرِ الَّتِي يَضِيقُ بِهَا صَدْرُهُ "، ولكن الله ينبهه بمحاربة هذه الوساوس وكراهتها.

وهذا حصل للصحابة رضوان الله عليهم كما بين المؤلف رحمه الله قال: " كَمَا قَالَتْ الصَّحَابَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ مَا لَئِنْ يَخِرُّ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ. فَقَالَ: ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ.([3]) وَفِي رِوَايَةٍ: «مَا يَتَعَاظَمُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إلَى الْوَسْوَسَةِ.([4])

" يعني الصحابة رضوان الله عليهم شكوا إلى النبي ﷺ الوساوس التي تتعبهم وتزعجهم، قالوا: يا رسول الله يجد الإنسان في نفسه من الوساوس ما لئن يخر من السماء خيرٌ له من أن يتكلم به، وفي لفظ: «ما لأن يكون حممة خير له من أن يتكلم به»([5]) فحمة يحترق، خيرٌ له من أن يتكلم به، وهذه الوساوس كما جاء، وساوس تكون في الله أو في الملائكة أو في الرسل أو في اليوم الآخر أو في الجنة أو في النار، مثل ما جاء، ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: يَأْتِي الشَّيْطَان الْعَبْد أَوْ أَحَدكُمْ فَيَقُول مَنْ خَلْق كَذَا مَنْ خَلَقَ كَذَا حَتَّى يَقُول مَنْ خَلَقَ اللَّه ، فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ فلينتهي وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم([6])

 يعني يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، آمنت بالله ورسله، ويقطع التفكير، وقد تكون الوساوس تأتي في الجنة وفي النار، يجد في نفسه أنه يشك في الجنة أو يشك في النار.

 فهذه الوساوس يحاربها المسلم، ويدفعها ولا يتكلم بها، ومحاربتها ودفعها وكتمها وعدم التكلم بها هو صريح الإيمان، ليس صريح الإيمان الوسوسة، صريح الإيمان كتم الوسوسة ودفعها ومحاربتها واستعظام التكلم بها، وصريح الإيمان خالص الإيمان مثل اللبن الخالص، كما بيَّن المؤلف رحمه الله، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " أَيْ حُصُولِ هَذَا الْوَسْوَاسِ مَعَ هَذِهِ الْكَرَاهَةِ الْعَظِيمَةِ لَهُ وَدَفْعِهِ عَنْ الْقَلْبِ هُوَ مِنْ صَرِيحِ الْإِيمَانِ كَالْمُجَاهِدِ الَّذِي جَاءَهُ الْعَدُوُّ فَدَافَعَهُ حَتَّى غَلَبَهُ " أنت تجاهد الشيطان، الشيطان هو الذي يهجم عليك بهذه الوساوس في قلبك، فأنت تجاهد هذا الشيطان حتى تغلبه، وتدفع هذه الوساوس، كذلك المجاهد الذي يقاتل الأعداء، يدافع العدو حتى يغلبه، هذا عدوٌ داخلي، الشيطان لا يحارب بالسلاح، وإنما يحارب بدفع وساوسه والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم وقطع الوساوس.

ولهذا قال المؤلف: " كَالْمُجَاهِدِ الَّذِي جَاءَهُ الْعَدُوُّ فَدَافَعَهُ حَتَّى غَلَبَهُ، فَهَذَا أَعْظَمُ الْجِهَادِ" هذا جهادٌ عظيم؛ لأنه إذا جاهد الإنسان نفسه وغلب الشيطان، فإنه بعد ذلك يستطيع أن يجاهد الكفار، أما إذا لم يجاهد نفسه فلا يستطيع أن يجاهد الكفار، ويقول المؤلف: " وَ"الصَّرِيحُ " الْخَالِصُ كَاللَّبَنِ الصَّرِيحِ " يقال لبن صريح يعني: خالص ليس فيه شوب، ما شوب بالماء، وكذلك الإيمان هنا الإيمان الصريح لمَّا دفع الوساوس وغلب العدو ودافع العدو، صار الإيمان خالصًا، يقول المؤلف رحمه الله: " وَإِنَّمَا صَارَ صَرِيحًا لَمَّا كَرِهُوا تِلْكَ الْوَسَاوِسَ الشَّيْطَانِيَّةَ وَدَفَعُوهَا فَخَلَصَ الْإِيمَانُ فَصَارَ صَرِيحًا ".

(المتن)

وَلَا بُدَّ لِعَامَّةِ الْخَلْقِ مِنْ هَذِهِ الْوَسَاوِسِ؛ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجِيبُهَا فَيَصِيرُ كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا؛ وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ غَمَرَ قَلْبَهُ الشَّهَوَاتُ وَالذُّنُوبُ فَلَا يُحِسُّ بِهَا إلَّا إذَا طَلَبَ الدِّينَ، فَإِمَّا أَنْ يَصِيرَ مُؤْمِنًا، وَإِمَّا أَنْ يَصِيرَ مُنَافِقًا.

وَلِهَذَا يَعْرِضُ لِلنَّاسِ مِنْ الْوَسَاوِسِ فِي الصَّلَاةِ مَا لَا يَعْرِضُ لَهُمْ إذَا لَمْ يُصَلُّوا لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَكْثُرُ تَعَرُّضُهُ لِلْعَبْدِ إذَا أَرَادَ الْإِنَابَةَ إلَى رَبِّهِ وَالتَّقَرُّبَ إلَيْهِ وَالِاتِّصَالَ بِهِ؛ فَلِهَذَا يَعْرِضُ لِلْمُصَلِّينَ مَا لَا يَعْرِضُ لِغَيْرِهِمْ وَيَعْرِضُ لِخَاصَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ أَكْثَرَ مِمَّا يَعْرِضُ لِلْعَامَّةِ.

وَلِهَذَا يُوجَدُ عِنْدَ طُلَّابِ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ مِنْ الْوَسَاوِسِ وَالشُّبُهَاتِ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْلُكْ شَرْعَ اللَّهِ وَمِنْهَاجَهُ؛ بَلْ هُوَ مُقْبِلٌ عَلَى هَوَاهُ فِي غَفْلَةٍ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ. وَهَذَا مَطْلُوبُ الشَّيْطَانِ بِخِلَافِ الْمُتَوَجِّهِينَ إلَى رَبِّهِمْ بِالْعِلْمِ وَالْعِبَادَة، فَإِنَّهُ عَدُوُّهُمْ يَطْلُبُ صَدَّهُمْ عَنْ اللَّهِ. قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر: 6].

وَلِهَذَا أَمَرَ قَارِئَ الْقُرْآنِ أَنْ يَسْتَعِيذَ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ تُورِثُ الْقَلْبَ الْإِيمَانَ الْعَظِيمَ وَتَزِيدُهُ يَقِينًا وَطُمَأْنِينَةً وَشِفَاءً.

وَقَالَ تَعَالَى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء: 82]، وَقَالَ تَعَالَى: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 138]، وَقَالَ تَعَالَى: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2]، وَقَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة: 124]."

(الشرح)

يقول المؤلف رحمه الله: إن هذه الوساوس تعرض لعامة الناس وكثير من الناس، والناس تجاه هذه الوساوس:

منهم من يستجيب لهذه الوساوس، فيصير منافقًا والعياذ بالله.

ومنهم من يحارب هذه الوساوس فيكون مؤمنًا.

فإذا عرضت هذه الوساوس لبعض الناس شكك في ألوهية الله أو في ربوبيته أو في أسمائه وصفاته، واستجاب لهذه الوساوس، ارتد عن دينه والعياذ بالله، شك كيف ربك إله؟ ثم من خلقه؟ من خلق الله؟  لا بد له من خالق، واستجاب لهذه الوساوس، أو شك هذه الوساوس في الجنة أو في النار، أو شك في الجنة أو في النار أو في الرسل والكتب، واستجاب لهذه الوساوس؛ صار منافق، صار كافرًا والعياذ بالله.

ومنهم من يدافعها ويحاربها، ولا يتكلم بها، فيسلمه الله، فيكون إيمانه صريحًا خالصًا؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَلَا بُدَّ لِعَامَّةِ الْخَلْقِ مِنْ هَذِهِ الْوَسَاوِسِ؛ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجِيبُهَا فَيَصِيرُ كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا؛ وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ غَمَرَ قَلْبَهُ الشَّهَوَاتُ وَالذُّنُوبُ فَلَا يُحِسُّ بِهَا" لا يحس بهذه الوساوس "إلَّا إذَا طَلَبَ الدِّينَ فَإِمَّا أَنْ يَصِيرَ مُؤْمِنًا وَإِمَّا أَنْ يَصِيرَ مُنَافِقًا؛" يعني إلا إذا أراد أن يتفقه ويتبصر في دينه، وخرج من هذه الشهوات والذنوب، وأراد أن يتبصر، بعد ذلك إما أن يصير مؤمنًا، وإما أن يصير منافقًا، وأما قبل ذلك: فإن الشهوات غمرته فلا يحس بها، لكن إذا أراد أن يبعد هذه الشهوات التي غمرت قلبه، وأراد أن ينظر في أمره ويتبصر في دينه، فإما أن يصير مؤمنًا، وإما أن يصير منافقًا.

 قال المؤلف رحمه الله: "وَلِهَذَا يَعْرِضُ لِلنَّاسِ مِنْ الْوَسَاوِسِ فِي الصَّلَاةِ مَا لَا يَعْرِضُ لَهُمْ إذَا لَمْ يُصَلُّوا" لماذا؟ بيَّن المؤلف الأسباب قال: "لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَكْثُرُ تَعَرُّضُهُ لِلْعَبْدِ إذَا أَرَادَ الْإِنَابَةَ إلَى رَبِّهِ وَالتَّقَرُّبَ إلَيْهِ وَالِاتِّصَالَ بِهِ؛ فَلِهَذَا يَعْرِضُ لِلْمُصَلِّينَ مَا لَا يَعْرِضُ لِغَيْرِهِمْ" وذلك لأن الصلاة هي أعظم العبادات، هي أعظم العبادات البدنية بعد الشهادتين وأفضلها، وأعظمها وأكثرها أجرًا؛ فلهذا الشيطان يعرض للإنسان حتى يفسدها عليه أو ينقص أجرها وثوابها؛ ولهذا تعرض الوساوس للإنسان كثيرًا، فلا بد من مدافعة هذه الوساوس ومغالبتها، ولهذا تجد الإنسان أحيانًا تستولي عليه الوساوس، فتجده يفكر، كل يفكر فيما هو فيه، فتجد التاجر يفكر في تجارته، والجزار يفكر في تجارته، والطالب يفكر في عمله، والنجار في نجارته، وهكذا، تجده يعمل ويشتغل وهو يصلي، ومنهم من ينهي عمله، يبدأ العمل حين يصلي وينهيه إذا انتهت الصلاة، فلا بد من المدافعة.

 ينبغي للمسلم ألا يستسلم ولا يسترسل مع هذه الوساوس، وليدافع؛ لأن الشيطان يريد أن يفسد عليه هذه العبادة وينقص أجرها، ولهذا جاء في الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: إِذَا نُودِيَ بِالصَّلاَةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ الأَذَانَ، فَإِذَا قُضِيَ الأَذَانُ أَقْبَلَ، فَإِذَا ثُوِّبَ بِهَا أَدْبَرَ، فَإِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ، أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ المَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا وَكَذَا، مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ إِنْ يَدْرِي كَمْ صَلَّى، فَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَحَدُكُمْ كَمْ صَلَّى ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا([7])، يوسوس للإنسان بينه وبين قلبه حتى يقول: اذكر كذا اذكر كذا لما لا يذكره، حتى يخرج من صلاته، ولا يدري كم صلى، هذا هو معنى ما جاء في الحديث، الشيطان يهجم على الإنسان ويتعرض للإنسان إذا أراد الإنابة إلى الله، وإذا دخل في صلاته؛ فعلى المسلم أن يجاهد وأن يدافع وأن يغالب هذه الوساوس.

 قال المؤلف: "وَيَعْرِضُ لِخَاصَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ أَكْثَرَ مِمَّا يَعْرِضُ لِلْعَامَّةِ وَلِهَذَا يُوجَدُ عِنْدَ طُلَّابِ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ مِنْ الْوَسَاوِسِ وَالشُّبُهَاتِ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ" نعم يعرض لأهل الدين ولأهل العلم، يوسوس لهم ما لا يوسوس لغيرهم؛ لأن غيرهم قد تمكن الشيطان منهم؛ لأنه يقول: " لِأَنَّهُ لَمْ يَسْلُكْ شَرْعَ اللَّهِ وَمِنْهَاجَهُ" فهو لم يسلك شرع الله ومنهاجه يعني غير أهل العلم والدين لم يسلكوا شرع الله ومنهاجه، "بَلْ هُوَ مُقْبِلٌ عَلَى هَوَاهُ فِي غَفْلَةٍ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ. وَهَذَا مَطْلُوبُ الشَّيْطَانِ" الشيطان يريد هذا، فغير أهل العلم وأهل الدين مقبلون على أهواءهم وشهواتهم وفي غفلة عن ذكر ربهم، وهذا مطلوب الشيطان، فلا يهتم بهم كثيرًا؛ لأنهم في يده، وقد تمكن منهم، بخلاف طلاب العلم وأهل العبادة، فإن الشيطان يجلب عليهم بخيله ورَجله، ولهذا يكون عندهم من الوساوس والشبهات ما ليس عند غيرهم.

 يقول المؤلف رحمه الله: "فَإِنَّهُ عَدُوُّهُمْ يَطْلُبُ صَدَّهُمْ عَنْ اللَّهِ. قَالَ تَعَالَى: إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر: 6]" يعني الإنسان يتخذه عدوًا حقيقة، فيحاربه بمحاربة وساوسه، والاستعاذة بالله من الشيطان والإكثار من ذكر الله وتدبر القرآن.

قال المؤلف رحمه الله: "وَلِهَذَا أَمَرَ قَارِئَ الْقُرْآنِ أَنْ يَسْتَعِيذَ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" لماذا؟ لأن الاستعاذة التجاء إلى الله، واحتماء إلى الله، ودخول على الله واستجارة بالله من هذا العدو اللدود الذي يريد أن يفسد عليه قراءته، هذه العبادة العظيمة.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَلِهَذَا أَمَرَ قَارِئَ الْقُرْآنِ أَنْ يَسْتَعِيذَ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" قال سبحانه: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98]، قال المؤلف:" فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ تُورِثُ الْقَلْبَ الْإِيمَانَ الْعَظِيمَ وَتَزِيدُهُ يَقِينًا وَطُمَأْنِينَةً وَشِفَاءً" فلهذا يريد الشيطان أن يفسدها، فأُمر العبد أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم عند القراءة.

 "وَقَالَ تَعَالَى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلَّا خَسَارًا [الإسراء: 82]" الشاهد أن القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين.

 "وَقَالَ تَعَالَى: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 138]، وَقَالَ تَعَالَى هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، وَقَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة: 124]" فلمَّا كان الإيمان شفاء ورحمة وهدى وزيادة في الإيمان، كان الشيطان يحرص على العبد في إفساد العبادة، فأمره الله أن يستعيذ بالله من الشيطان قبل القراءة، استجارةً بالله وعياذًا بالله والتجاءً إليه واحتماءً به من شر هذا العدو اللدود الذي يريد أن يفسد عليه هذه العبادة التي هي قراءة القرآن، التي هي أفضل الذكر وأفضل الكلام.

(المتن)

وَهَذَا مِمَّا يَجِدُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ؛ فَالشَّيْطَانُ يُرِيدُ بِوَسَاوِسِهِ أَنْ يَشْغَلَ الْقَلْبَ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِالْقُرْآنِ؛ فَأَمَرَ اللَّهُ الْقَارِئَ إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ أَنْ يَسْتَعِيذَ مِنْهُ قَالَ تَعَالَى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ۝ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ۝ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل: 98 - 100].

فَإِنَّ الْمُسْتَعِيذَ بِاَللَّهِ مُسْتَجِيرٌ بِهِ لَاجِئٌ إلَيْهِ مُسْتَغِيثٌ بِهِ مِنْ الشَّيْطَانِ؛ فَالْعَائِذُ بِغَيْرِهِ مُسْتَجِيرٌ بِهِ؛ فَإِذَا عَاذَ الْعَبْدُ بِرَبِّهِ كَانَ مُسْتَجِيرًا بِهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ فَيُعِيذُهُ اللَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَيُجِيرُهُ مِنْهُ.

وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ۝ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ۝ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت: 34 - 36] .

وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: إنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ([8])

 فَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ طَلَبِ الْعَبْدِ الْخَيْرَ لِئَلَّا يَعُوقَهُ الشَّيْطَانُ عَنْهُ؛ وَعِنْدَ مَا يَعْرِضُ عَلَيْهِ مِنْ الشَّرِّ لِيَدْفَعَهُ عَنْهُ عِنْدَ إرَادَةِ الْعَبْدِ لِلْحَسَنَاتِ".

(الشرح)

إن هذا مما يجده كل مؤمن من نفسه، كل إنسان يعني يحس بهذا من نفسه، فإن الشيطان يريد بوساوسه أن يشغل القلب عن الانتفاع بالقرآن، وهذا يجده كل مؤمن، كل قارئ للقرآن يجد هذا، كما قال المؤلف رحمه الله: " فَالشَّيْطَانُ يُرِيدُ بِوَسَاوِسِهِ أَنْ يَشْغَلَ الْقَلْبَ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِالْقُرْآنِ؛ فَأَمَرَ اللَّهُ الْقَارِئَ إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ أَنْ يَسْتَعِيذَ مِنْهُ " يعني إذا أراد قراءة القرآن.

"قَالَ تَعَالَى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" يعني إذا أردت، إذا قرأت يعني إذا أردت قراءة القرآن.

 "إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ۝ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ" بيّن الله أن من استعاذ بالله والتجأ بالله، وتوكل على الله، واعتمد عليه فإنه ليس له سلطان عليه إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل:99]، فالمؤمن الذي اتصف بهذين الوصفين، حقق إيمانه بالعمل الصالح وتوكل على الله واعتمد عليه، فإنه ليس له سلطان عليه، إنما سلطانه على الذين يتولونه، له سلطان على أهل ولايته، إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل:100].

 "فَإِنَّ الْمُسْتَعِيذَ بِاَللَّهِ مُسْتَجِيرٌ بِهِ لَاجِئٌ إلَيْهِ مُسْتَغِيثٌ بِهِ مِنْ الشَّيْطَانِ" فالمستعيذ بالله مستجير بالله، لاجئ إلى الله، مستغيثٌ بالله من الشيطان.

"فَالْعَائِذُ بِغَيْرِهِ مُسْتَجِيرٌ بِهِ؛ فَإِذَا عَاذَ الْعَبْدُ بِرَبِّهِ كَانَ مُسْتَجِيرًا بِهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ فَيُعِيذُهُ اللَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَيُجِيرُهُ مِنْهُ" لكن لا بد من الصدق في هذا، إذا صدق المؤمن مع الله في الاستعاذة والالتجاء والاستجارة والتوكل على الله، فاعتمد على الله وفوض الأمر إليه، فإن الله تعالى يجيره.

 يقول المؤلف رحمه الله: "وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ۝ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ۝ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" بيَّن المؤلف رحمه الله ما يفعله الإنسان مع العدو الإنسي والعدو الجني، العدو الإنسي من بني آدم علاجه، والمعاملة معه تكون بالإحسان إليه، فإذا أحسنت إليه فإنه ينقلب صديقًا حميمًا، إذا أحسنت إليه بالكلام الطيب وبالعمل الطيب وبالهدية، لا تزال تحسن إليه حتى تنقلب عداوته صداقة، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34].

لكن مَن يستطيع هذا؟ مَن يستطيع هذا ويتحمل هذا ويصبر، إذا شتمه دعا له، وهو يشتمه ويدعو له بالتوفيق، يشتمه ويؤذيه ويضره، ثم يُهدي إليه، ما يستطيع هذا إلا من وفقه الله وجعله من أهل الحظ، ولهذا قال الله تعالى: وَمَا يُلَقَّاهَا إلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35]، ثم بيَّن ما يفعله من العدو الجني فقال، العدو الجني ما في حيلة، ما تنفع معه المصالحة ولا المعروف، وإنما ماذا يعمل؟ يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، قال: "وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" فالشيطان يستجار بالله ويستعاذ منه ويتوكل على الله ويلجأ إلى الله، والشيطان الإنسي يُحسن إليه، والإحسان إليه يجعله، يزيل عنك الشر.

  (المتن)

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: إنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ([9])

 فَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ طَلَبِ الْعَبْدِ الْخَيْرَ لِئَلَّا يَعُوقَهُ الشَّيْطَانُ عَنْهُ؛ وَعِنْدَ مَا يَعْرِضُ عَلَيْهِ مِنْ الشَّرِّ لِيَدْفَعَهُ عَنْهُ عِنْدَ إرَادَةِ الْعَبْدِ لِلْحَسَنَاتِ؛ وَعِنْدَ مَا يَأْمُرُهُ الشَّيْطَانُ بِالسَّيِّئَاتِ.

وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لَا يَزَالُ الشَّيْطَانُ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ وَلْيَنْتَهِ([10])

 فَأَمَرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَمَا يَطْلُبُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَهُ فِي شَرٍّ أَوْ يَمْنَعَهُ مِنْ خَيْرٍ؛ كَمَا يَفْعَلُ الْعَدُوُّ مَعَ عَدُوِّهِ.

وَكُلَّمَا كَانَ الْإِنْسَانُ أَعْظَمَ رَغْبَةً فِي الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ وَأَقْدَرَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ بِحَيْثُ تَكُونُ قُوَّتُهُ عَلَى ذَلِكَ أَقْوَى وَرَغْبَتُهُ وَإِرَادَتُهُ فِي ذَلِكَ أَتَمَّ؛ كَانَ مَا يَحْصُلُ لَهُ إنْ سَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ أَعْظَمَ؛ وَكَانَ مَا يَفْتَتِنُ بِهِ إنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ أَعْظَمَ. وَلِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ: كُلُّ أُمَّةٍ عُلَمَاؤُهَا شِرَارُهَا إلَّا الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ عُلَمَاءَهُمْ خِيَارُهُمْ.

(الشرح)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:

فإن المؤلف رحمه الله بيَّن فيما سبق أن الناس الذين ينتسبون إلى الإسلام ثلاثة أقسام:

قسم منافقون، يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر.

وقسم مؤمنون حقًا، وهم الذين حققوا إيمانهم بالعمل الصالح، فأدوا الواجبات وتركوا المحرمات، فهؤلاء هم الصادقون في إيمانهم.

وقسمٌ عندهم إيمان ضعيف، فهذا القسم الذي عنده إيمانٌ ضعيف، لا يثبت عند الشدائد، إن سَلِم من المحن والشدائد، وإلا فإنه يرتد والعياذ بالله، وقد يرتد بسبب الوساوس والشكوك التي تحصل له.

ثم استطرد المؤلف رحمه الله وبيّن أن الوساوس والشكوك تعرض للناس كثيرًا، فالمؤمن قوي الإيمان الذي حقق إيمانه يسلمه الله من هذه الشبهات، فيستعيذ بالله منها ويدفعها ويحاربها، وأما المؤمن ضعيف الإيمان فإن هذه الوساوس قد تؤثر عليه إلا من سلَّمه الله، فإنها تعرض عليه وتورث له الشكوك والشبه، فيرتد عم دينه والعياذ بالله.

ثم استطرد المؤلف رحمه الله وبين أن هذه الوساوس تعرض لعامة الخلق، ومن الناس من يستجيب لهذه الوساوس، فيكون منافقًا ومنهم من يغالبها ويدافعها، فيسلمه الله.

وبيّن المؤلف رحمه الله أن الوساوس تعرض للمسلم إذا أقبل على الصلاة، إذا دخل في الصلاة، يريد أن يفسدها عليه، وكذلك إذا أراد القراءة، الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، وكذلك تعرض الوساوس للخاصة، لخاصة أهل العلم والدين أكثر من غيرهم.

ثم بيَّن المؤلف رحمه الله ما يكون سببًا في دفع هذه الوساوس، ومنها الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم كما قال الله تعالى في كتابه العظيم: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت:36]، فهذه الآية فيها بيان ما يدفع به الإنسان شر الشيطان وساوسه، وهي الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم.

وكذلك أيضًا ما ثبت في الصحيحين كما قال المؤلف رحمه الله: " وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: إنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" وهذا الحديث رواه الشيخان البخاري ومسلم رحمهما الله في صحيحيهما، فإن فيه أن هذا الرجل الذي غضب، الغضب من الشيطان، أرشده النبي ﷺ إلى الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، فقال: إنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.

قال المؤلف رحمه الله: " فَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ طَلَبِ الْعَبْدِ الْخَيْرَ لِئَلَّا يَعُوقَهُ الشَّيْطَانُ عَنْهُ" يعني في الآية الكريمة في قوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، إذا أراد الخير، قراءة القرآن، يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم لئلا يعوّقه الشيطان عنه.

 "وَعِنْدَ مَا يَعْرِضُ عَلَيْهِ مِنْ الشَّرِّ لِيَدْفَعَهُ عَنْهُ " وهو الغضب، عند إرادة الخير يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، إذا أراد قراءة القرآن، وعندما يعرض له الشر والغضب يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ليدفعه الله عنه.

"عِنْدَ إرَادَةِ الْعَبْدِ لِلْحَسَنَاتِ؛ وَعِنْدَ مَا يَأْمُرُهُ الشَّيْطَانُ بِالسَّيِّئَاتِ" فإذا أراد العبد الحسنات: قراءة القرآن؛ يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، حتى لا يفسد الشيطان عدوه عليه هذه العبادة، فيفوت عليه الحسنات، وعندما يأمره الشيطان بالسيئات وهو الغضب، يستعيذ بالله منه، ليدفع عنه شره حتى لا يكسب السيئات، حتى لا يتحمل السيئات.

ثم ذكر المؤلف رحمه الله الحديث، حديث أبي هريرة، وهو في الصحيحين عن النبي ﷺ، قال: لَا يَزَالُ الشَّيْطَانُ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ وَلْيَنْتَهِ أرشده النبي ﷺ بأمرين:

الأمر الأول: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم.

والأمر الثاني: قطع التفكير، الانتهاء.

"فَأَمَرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَمَا يَطْلُبُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَهُ فِي شَرٍّ أَوْ يَمْنَعَهُ مِنْ خَيْرٍ" يمنعه من خير عند قراءة القرآن أو يوقعه في الشر عند الغضب، "كَمَا يَفْعَلُ الْعَدُوُّ مَعَ عَدُوِّهِ".

قال المؤلف رحمه الله: " وَكُلَّمَا كَانَ الْإِنْسَانُ أَعْظَمَ رَغْبَةً فِي الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ وَأَقْدَرَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ بِحَيْثُ تَكُونُ قُوَّتُهُ عَلَى ذَلِكَ أَقْوَى وَرَغْبَتُهُ وَإِرَادَتُهُ فِي ذَلِكَ أَتَمَّ؛ كَانَ مَا يَحْصُلُ لَهُ إنْ سَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ أَعْظَمَ" يعني يقول المؤلف رحمه الله: كل ما كان الإنسان أعظم في العلم والعبادة والخير وأقدر على ذلك من غيره، ثم يعترض له الشيطان، فإذا سلمه الله ودافع وغالبه، كان يحصل له من الخير أكثر من غيره،  " وَكَانَ مَا يَفْتَتِنُ بِهِ إنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ أَعْظَمَ " يعني هو بين أحد أمرين: إذا كان إنسان عنده رغبة في العلم والعبادة، وعنده قدرة على ذلك، ثم اعترض له الشيطان، إن دافع الشيطان وغالبه وغلبه ودفعه، حصل له الخير أكثر من غيره، أكثر من غيره ممن هو أقل رغبة في العلم والعبادة. وإن تمكن منه الشيطان حصل له من الشر أكثر من غيره، وهو بين أحد أمرين:

إما أن يدافع الشيطان فيندفع، فيحصل له من الخير أكثر من غيره ممن هو أقل منه رغبة في العلم والعبادة.

وإما أن يغلبه الشيطان فيحصل له من الشر.

 ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " كَانَ مَا يَحْصُلُ لَهُ إنْ سَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ أَعْظَمَ " هذا إذا سلمه الله، " وَكَانَ مَا يَفْتَتِنُ بِهِ إنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ أَعْظَمَ وَلِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ: كُلُّ أُمَّةٍ عُلَمَاؤُهَا شِرَارُهَا إلَّا الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ عُلَمَاءَهُمْ خِيَارُهُمْ " نعم فكل أمة علماءها شرارها إلا المسلمين، اليهود المغضوب عليهم والنصارى، علماؤهم شرار -والعياذ بالله-، أما المسلمون فإن علماءهم خيارهم، فإذا سلموا من الشيطان ومن وساوسه، فإن لهم من الخيرية أفضل من غيرهم، ينالهم من الخير أكثر ما يناله غيرهم.

(المتن)

وَأَهْلُ السُّنَّةِ فِي الْإِسْلَامِ؛ كَأَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي الْمِلَلِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فَهُمْ ضَالُّونَ وَإِنَّمَا يُضِلُّهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ؛ فَعُلَمَاؤُهُمْ شِرَارُهُمْ وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى هُدًى وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ الْهُدَى بِعُلَمَائِهِمْ فَعُلَمَاؤُهُمْ خِيَارُهُمْ؛ وَكَذَلِكَ أَهْلُ السُّنَّةِ أَئِمَّتُهُمْ خِيَارُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّةُ، أَهْلِ الْبِدَعِ أَضَرُّ عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ.

وَلِهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِقَتْلِ الْخَوَارِجِ؛ وَنَهَى عَنْ قِتَالِ الْوُلَاةِ الظَّلَمَةِ؛ وَأُولَئِكَ لَهُمْ نَهْمَةٌ فِي الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ؛ فَصَارَ يَعْرِضُ لَهُمْ مِنْ الْوَسَاوِسِ الَّتِي تُضِلُّهُمْ -وَهُمْ يَظُنُّونَهَا هُدًى فَيُطِيعُونَهَا- مَا لَا يَعْرِضُ لِغَيْرِهِمْ.

وَمَنْ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ مَصَابِيحِ الْهُدَى وَيَنَابِيعِ الْعِلْمِ؛ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لِأَصْحَابِهِ: كُونُوا يَنَابِيعَ الْعِلْمِ مَصَابِيحَ الْحِكْمَةِ سُرُجَ اللَّيْلِ؛ جُدُدَ الْقُلُوبِ أَحْلَاسَ الْبُيُوتِ خُلْقَانَ الثِّيَابِ؛ تُعْرَفُونَ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَتُخْفَوْنَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ".

(الشرح)

يقول المؤلف رحمه الله: "وَأَهْلُ السُّنَّةِ فِي الْإِسْلَامِ؛ كَأَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي الْمِلَلِ" يعني أن أهل السُّنة والجماعة وسط، وسطٌ في الفِرق، في فِرق الأمة، فهم خير الفِرق وأفضلها والناجون، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قلنا: مَن هي يا رسول الله؟ قال: مَن كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي([11])

فأهل السُّنة في أهل الإسلام كأهل الإسلام في الملل، يعني أن أهل السنة هم الناجون من بين أصحاب الفِرق، هذه الفرق كلها مبتدعة، كلهم في النار، يعني متوعدون بالنار، فهم مبتدعة وإن كانوا داخلين في مسمى الإسلام، ليسوا كفارًا كما بيَّن ذلك المحققون من أهل العلم؛ ولهذا قال العلماء: إن الجهمية وكذلك القدرية الغلاة والرافضة خارجون من الثنتين وسبعين فرقة؛ لكفرهم وضلالهم.

فدل على أن هؤلاء الفِرق مبتدعة، لكنهم مسلمون، وأهل السُّنة هم الناجون من بينهم، فهم، فأهل السنة هم الناجون من بين هذه الفرق، فهم وسط، خيار وعدول، الوسط يطلق على المتوسط بين الشيئين ويطلق على الخيار والعدل، كما قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] يعني: خيارًا عدولاً. فأهل السنة وسط بين الفرق فهُم خيرها وأفضلها. كما أن أهل الإسلام وسطٌ بين الملل، بين اليهودية والنصرانية؛ أهل الإسلام هم أهل الحق، وهم على الدين الذي ارتضاه الله، قال الله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، فأهل السنة وسط بين الفرق كما أن أهل الإسلام وسط بين الملل.

قال المؤلف رحمه الله: "وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فَهُمْ ضَالُّونَ" يعني: منحرفون، ليس هناك على الحق إلا أهل الإسلام؛ فاليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون، فهم ضالون، "وَإِنَّمَا يُضِلُّهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ" لأنهم علماء سوء " فَعُلَمَاؤُهُمْ شِرَارُهُمْ وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى هُدًى وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ الْهُدَى بِعُلَمَائِهِمْ" الحمد لله على هذا الخير الذي خصَّ الله به المسلمين، وسلَّم علماءهم من الضلال الذي أصاب علماء أهل الملل.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ الْهُدَى بِعُلَمَائِهِمْ فَعُلَمَاؤُهُمْ خِيَارُهُمْ؛ وَكَذَلِكَ أَهْلُ السُّنَّةِ أَئِمَّتُهُمْ خِيَارُ الْأُمَّةِ" خيار الأمة هم الصحابة والتابعون، أهل السُّنة هم الصحابة والتابعون ومَن تبعهم من الأئمة والعلماء، هم أهل السُّنة والجماعة، وهم الفرقة الناجية، فهم الخيار، وهم العدول، وهم الناجون من بين الفرق.

 ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَكَذَلِكَ أَهْلُ السُّنَّةِ أَئِمَّتُهُمْ خِيَارُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّةُ أَهْلِ الْبِدَعِ أَضَرُّ عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ" يعني: من أهل المعاصي، لماذا؟ لأن البدع أشد، أشد من الكبائر، أشد من المعاصي، ولهذا فإن البدعة أحب إلى الشيطان من الكبيرة؛ لأن صاحب الكبيرة كالزاني والسارق وشارب الخمر والمرابي يعلم أنه عاصي، ويقر بأنه عاصي، فحريٌ به أن يتوب، بخلاف صاحب البدعة ، فإنه يعتقد أنه على حق، يعتقد أنه ليس على بدعة، وإنما هو على الحق، فلا يفكر في التوبة، فلهذا كانت البدعة أشد من الكبيرة، وأحب إلى الشيطان من الكبيرة، كما قال المؤلف رحمه الله: " وَكَذَلِكَ أَهْلُ السُّنَّةِ أَئِمَّتُهُمْ خِيَارُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّةُ أَهْلِ الْبِدَعِ أَضَرُّ عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ" هذا وجه الضرر، وجه الضرر أن أهل البدع يظنون أنهم على حق، فلا يفكرون في التوبة، وأحدثوا في دين الله ما لم يأمر به الله، أما أهل الكبائر والمعاصي، فهم يعلمون أنهم عصاة، ويعتقدون أنهم عصاة، ولا يحدثوا في دين الله، لكن غلبتهم نفوسهم وأهواءهم، وغلبهم الشيطان فعملوا المعاصي، وهم يعترفون بهذا، بخلاف صاحب البدعة فإنه يعتقد أنه على حق، وأنه هو المصيب، فلهذا لا يتوب صاحب البدعة في الغالب، بخلاف صاحب الكبيرة، فإنه يتوب.

قال المؤلف رحمه الله: "وَلِهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِقَتْلِ الْخَوَارِجِ؛ وَنَهَى عَنْ قِتَالِ الْوُلَاةِ الظَّلَمَةِ" لكون صاحب البدعة أشد وأضر على الأمة من صاحب الكبيرة، أمر النبي ﷺ بقتل الخوارج؛ لأن الخوارج أهل بدعة يكفِّرون الناس بالمعاصي، يقولون: الزاني كافر، والسارق كافر، وشارب الخمر كافر، فضررهم عظيم، بخلاف الولاة الظلمة، ولاة المسلمين الجورة والظلمة الذين يظلمون الناس في دماءهم وأموالهم، أمر النبي ﷺ بالصبر على جور الولاة ونهى عن الخروج عليهم وإن كانوا عصاة؛ لأن الخروج عليهم يحصل منه فتنة عظيمة، تحصل مفسدةٌ أكبر من مفسدة الخروج؛ مفسدة الخروج أعظم من مفسدة الظلم، ظلمهم على أنفسهم، لكن الخروج يحصل منه مفاسد عظيمة من إراقة الدماء، وافتراق الأمة وتحزُّبهم، وتدخل الأعداء وتفرُّق المسلمين، بخلاف جورهم وظلمهم، فإن هذه مفسدةٌ لكنها صغيرة في مقابل هذه المفسدة الكبيرة.

فلهذا أمر النبي ﷺ بقتل الخوارج؛ لأنهم أهل بدعة، ونهى عن قتال الولاة الظلمة؛ لأنهم أهل معاصي أهل ذنب؛ لأنهم عصاة، والمعصية أخف من البدعة، وضرر البدعة أشد من ضرر المعصية.

والمؤلف رحمه الله يقارن بين جور الولاة وبين الخوارج، ويقول: أن الخوارج أشد، " وَلِهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِقَتْلِ الْخَوَارِجِ؛ وَنَهَى عَنْ قِتَالِ الْوُلَاةِ الظَّلَمَةِ وَأُولَئِكَ لَهُمْ نَهْمَةٌ فِي الْعِلْمِ" أولئك يعني الخوارج، " لَهُمْ نَهْمَةٌ فِي الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ؛ فَصَارَ يَعْرِضُ لَهُمْ مِنْ الْوَسَاوِسِ الَّتِي تُضِلُّهُمْ - وَهُمْ يَظُنُّونَهَا هُدًى" ولهذا الخوارج كانوا مع الصحابة، كانوا أهل عبادة، لكن انفصلوا عنهم بهذا الاعتقاد الخبيث، وهو أنهم يعتقدون أن من فعل الكبيرة كَفَر، وخرج من الدين، ولهذا كفَّروا الصحابة وخرجوا، ففتنتهم عظيمة. كانوا أهل عبادة، وكانوا يصلون الليل ويصومون النهار، وعندهم شجاعة في القتال، ولهذا قال النبي ﷺ: تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم.

إذًا هم أهل عبادة، لكن ما الذي أوصلهم إلى هذا؟ الرأي الفاسد، الاعتقاد الفاسد، البدعة هي التي أوصلتهم إلى هذا؛ ولهذا أمر النبي ﷺ بقتالهم دفعًا لشرهم وفسادهم وفتنتهم، قال: لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل عاد([12])، أمر النبي بقتالهم: مَن لقيهم فليقتلهم؛ فإن في قتلهم أجر لمن قتلهم عند الله([13])

فالمؤلف رحمه الله يبيِّن، يقارن بين الولاة الظلمة وبين الخوارج، ويقول: إن الولاة الظلمة أخف شر من الخوارج؛ لأن الخوارج أهل بدعة، والولاة أهل معصية، والبدع أشد من المعصية، " وَأُولَئِكَ" يعني: الخوارج "لَهُمْ نَهْمَةٌ فِي الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ" فهم كانوا مع الصحابة وكانوا يتعبدون ثم انفصلوا عنهم، فصار يعرض لهم من الوساوس التي تضلهم، الخوارج، وهم يظنونها هدى، ومن الوساوس كونهم يعتقدون أن المعاصي تكفِّر العبد وتخرجه من الملة، وتأوُّل النصوص على غير تأويلها، " فَصَارَ يَعْرِضُ لَهُمْ مِنْ الْوَسَاوِسِ الَّتِي تُضِلُّهُمْ - وَهُمْ يَظُنُّونَهَا هُدًى فَيُطِيعُونَهَا - مَا لَا يَعْرِضُ لِغَيْرِهِمْ" ما لا يعرض لغيرهم من العُباد، ما لا يعرض لغيرهم من العصاة، فصار يعرض لهم من الوساوس أكثر مما يعرض لغيرهم.

 يقول المؤلف رحمه الله: "وَمَنْ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ مَصَابِيحِ الْهُدَى وَيَنَابِيعِ الْعِلْمِ" مَن سلم من الوساوس التي أوصلته إلى تكفير العصاة بالمعاصي، مَن سلم من ذلك صار من أئمة الهدى، والصحابة سلموا من ذلك فصاروا من أئمة الهدى. الصحابة سلِموا من بدعة الخوارج، سلموا من هذه العقيدة الخبيثة، لم يعتقدوا أن المسلم يكفر بالمعصية؛ بل قالوا: إن العاصي، هذه معصية، مَن فعل الزنا والسرقة وشرب الخمر ولم يستحلها فإنه يكون عاصيا وهو تحت مشيئة الله، أنه لا يكفر. فالصحابة رضوان الله عليهم سلموا من هذا الاعتقاد الفاسد من عقيدة الخوارج، فصاروا من أئمة الهدى ومصابيح الهدى وينابيع العلم.

 " كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لِأَصْحَابِهِ: كُونُوا يَنَابِيعَ الْعِلْمِ" يعني: العلم يؤخذ عنكم كما يؤخذ الماء من ينابيعه، "مَصَابِيحَ الْحِكْمَةِ" تضيئون، مصابيح مضيئة، تضيئون للناس وتبينون لهم الحكمة، والحكمة: هي العلم النافع المأخوذ من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، "سُرُجَ اللَّيْلِ" يعني تضيئون للناس في الظلمات كما أن السُّرج تضيء للناس في الليل، "جُدُدَ الْقُلُوبِ" قلوبهم جُدد القلوب؛ لأنهم يتعاهدون قلوبهم بتوحيد الله والتوبة النصوح، " أَحْلَاسَ الْبُيُوتِ" يعني: يلزمون بيوتهم ولا يشاركون الأشرار في أعمالهم، والأحلاس مفردها: حِلس، وأصله كل شيء ولي ظهر البعير والدابة تحت الرحل والسرج، وقيل هو كساء رقيق يكون تحت البردعة، والجمع أحلاس حلوس. والمعنى أنهم يلزمون الحق ولا يتكلمون في الباطل، ولا يشاركون أهل الباطل، كما أن الحلس يكون لازمًا لظهر البعير.

" خُلْقَانَ الثِّيَابِ" يعني أنهم لا يهتمون بمظاهرهم ولا يُسرفون كما يسرف غيرهم، خلقان الثياب هذا مثل ما ورد في الحديث الْبَذَاذَةُ مِنَ الْإِيمَانِ([14])

 يعني: ترك التجمُل في بعض الأحيان لكسر النفس والتواضع؛ وإلا فإنه ينبغي للمؤمن أن تظهر عليه نعمة الله كما في الحديث: إن الله يحب إذا أنعم على العبد أن يرى أثر نعمته عليه، لكن إذا ترك هذا بعض الأحيان من باب كسر النفس والتواضع، فلا بأس، عملًا بهذا الحديث الْبَذَاذَةُ مِنَ الْإِيمَانِ([15])

، "خُلْقَانَ الثِّيَابِ تُعْرَفُونَ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَتُخْفَوْنَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ"([16])

 وهذا الأثر عن ابن مسعود رواه الدارمي في المقدمة.

فالمقصود أن المؤلف رحمه الله بيَّن أن أهل السنة وأهل الحق إذا سلِموا من الوساوس والشبهات كان لهم من الأجر أكثر من غيرهم، وإن تمكنت منهم الشبهات فانحرفوا، صار عليهم من الوزر والإثم أكثر من غيرهم.

القارئ: قال المؤلف رحمه الله: "فَصْلٌ: وجوب تقديم".

الشيخ: هذا العنوان ليس من المؤلف، يمكن من المحرر، "فصل: ومما ينبغي".

(المتن)

قال المؤلف رحمه الله:

فَصْلٌ :

وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ إذَا عُرِفَ تَفْسِيرُهَا وَمَا أُرِيدَ بِهَا مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ ﷺ لَمْ يُحْتَجْ فِي ذَلِكَ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِأَقْوَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: " الْأَسْمَاءُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " نَوْعٌ يُعْرَفُ حَدُّهُ بِالشَّرْعِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ؛ وَنَوْعٌ يُعْرَفُ حَدُّهُ بِاللُّغَةِ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ؛ وَنَوْعٌ يُعْرَفُ حَدُّهُ بِالْعُرْفِ كَلَفْظِ الْقَبْضِ وَلَفْظِ الْمَعْرُوفِ فِي قَوْلِهِ: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19] وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: تَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا، وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ، وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ، وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ؛ مَنْ ادَّعَى عِلْمَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ([17]).

فَاسْمُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَدْ بَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ مَا يُرَادُ بِهَا فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْخَمْرِ وَغَيْرِهَا وَمِنْ هُنَاكَ يُعْرَفُ مَعْنَاهَا، فَلَوْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يُفَسِّرَهَا بِغَيْرِ مَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ ﷺ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي اشْتِقَاقِهَا وَوَجْهِ دَلَالَتِهَا فَذَاكَ مِنْ جِنْسِ عِلْمِ الْبَيَانِ.

وَتَعْلِيلُ الْأَحْكَامِ هُوَ زِيَادَةٌ فِي الْعِلْمِ وَبَيَانُ حِكْمَةِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ؛ لَكِنَّ مَعْرِفَةَ الْمُرَادِ بِهَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذَا.

(الشرح)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:

فإن المؤلف الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بيَّن في هذا الفصل أنه ينبغي للمسلم أن يفسِّر الألفاظ التي جاءت في القرآن وفي السُّنة من جهة النبي ﷺ، ولا يكتفي بالتعريف اللغوي؛ فإن هذه الألفاظ الشرعية التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله شرعية، فيؤخذ تفسيرها من الشارع عليه الصلاة والسلام.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ إذَا عُرِفَ تَفْسِيرُهَا وَمَا أُرِيدَ بِهَا مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ ﷺ لَمْ يُحْتَجْ فِي ذَلِكَ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِأَقْوَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ" نعم إذا عُرف أن هذا اللفظ من كتاب الله أو هذه الكلمة أو هذه الجملة أو هذا الحديث فسَّره النبي ﷺ، فإنَّا في ذلك لا نحتاج إلى تفسير أهل اللغة ولا تفسير غيرهم مثل ما فسر النبي ﷺ الظلم في قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82] فسَّره بالشرك.

 فإن النبي ﷺ فسره بالشرك، لما نزلت هذه الآية الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، جاء الصحابة رضوان الله عليهم وجثوا على الركب وقالوا: يا رسول الله، أيُّنا لم يظلم نفسه؟ ظنوا أن المراد مطلق الظلم، وأن الظلم كما هو معروف ثلاثة أنواع: ظلم الشرك، وظلم النفس بالمعاصي، وظلم العباد في أموالهم ودماءهم وأعراضهم. فالصحابة رضوان الله عليهم فهموا الظلم بإطلاق، فظنوا أن المعاصي داخلة في الظلم، قالوا: أيُّنا لم يقع في المعاصي؟ مَن يسلم من المعاصي؟ والله تعالى اشترط في حصول الأمن للمؤمنين في سلامتهم من الظلم. فبيَّن لهم النبي ﷺ أن الظلم ليس المراد به الظلم المعاصي؛ بل مراد الظلم الشرك، إذا سلم الإنسان من الشرك حصل له هذا الوعد الكريم ولو لم يسلم من المعاصي؛ لأن المعاصي لم يسلم منها أحد.

ولهذا جاء في تفسير هذه الآية أن النبي ﷺ قال: ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]؟ وهو قول لقمان، فالنبي ﷺ فسر الظلم بالشرك، وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه. فالنبي ﷺ لما فسر الظلم هنا لا نحتاج إلى تفسير لغوي، ما دام النبي فسره فلا نحتاج إلى تفسير لغوي ولا إلى غيره؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله: إنه إذا عُلم أن الألفاظ الموجود في القرآن أو في الحديث فسرها النبي ﷺ، فلا نحتاج إلى تفسيرٍ آخر، يعني تفسير لغوي ولا غيره.

 يقول المؤلف رحمه الله: "وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: " الْأَسْمَاءُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " نَوْعٌ يُعْرَفُ حَدُّهُ بِالشَّرْعِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ؛ وَنَوْعٌ يُعْرَفُ حَدُّهُ بِاللُّغَةِ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ؛ وَنَوْعٌ يُعْرَفُ حَدُّهُ بِالْعُرْفِ كَلَفْظِ الْقَبْضِ وَلَفْظِ الْمَعْرُوفِ" يعني الأسماء تنقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة، وتتنوع إلى هذه الأنواع الثلاثة:

نوعٌ يعرف حده بالشرع، يعني تعرفه بالشرع مثل الإيمان والصلاة والزكاة والصوم، مثَّل له المؤلف: " كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ". الصلاة فسرها الشارع، ما هي الصلاة؟ أصلها في اللغة الدعاء، والزكاة أصلها في اللغة الطهارة، فهل يقول قائل: يكفي أن أدعو وكذا، وأديت الصلاة؟ لا. فإذا قال قائل: الصلاة معناها في اللغة الدعاء. تقول له: المتكلم الشارع، وقد فسرها بالهيئة المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم، فلا حاجة إلى اللغة، وإن كان الدعاء من الصلاة، داخلة في ضمن الصلاة، وكذلك الزكاة أصلها في اللغة الطهارة، لكن جاء الشارع فسرها بأنها مالٌ يدفع، مالٌ مخصوص لشخص مخصوص يدفع إلى أناس مخصوصين، فلفظ الزكاة والصلاة حدَّه الشرع وعرَّفه.

وَنَوْعٌ يُعْرَفُ حَدُّهُ بِاللُّغَةِ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، الشمس والقمر هذا يُعرف من اللغة، ما يحتاج الشارع يقول لك: الشمس هي كوكب نيِّر يخرج صباحًا في طلوع الشمس في المشرق، ويغرب في المغرب؛ هذا معروف في اللغة. وكذلك القمر سراجٌ يخرج من أول الشهر في المغرب صغيرًا ثم يكبر حتى يتم ويستدير شكله في منتصف الشهر، ثم يضعُف شيئًا فشيئًا في آخر الشهر، هذا معروفٌ من اللغة.

وَنَوْعٌ يُعْرَفُ حَدُّهُ بِالْعُرْفِ كَلَفْظِ الْقَبْضِ وَلَفْظِ الْمَعْرُوفِ، هذا يُعرف بالعُرف؛ مثلاً القبض إذا بعت شخصًا على شخص، لا بُدَّ أن يقبض السلعة، فهذا القبض ما كيفية القبض؟ هذا يرجع إلى العُرف، فمثلاً: إذا بعت على شخص أرض قبضها بالتخلية، تُخلي بينه وبينها بعد المكاتبة وتسلمه أوراقها والصك، هذا قبض. وقبض البيت إذا بعته تُسلمه الأوراق وتُسلمه المفاتيح، هذا قبض. وقبض الأشياء الثقيلة إذا اشتريتها، قبضها بالتخلية، تخلي بينها، هذا يرجع إلى العُرف؛ العُرف يعد هذا قبضًا، الأشياء الثقيلة التي لا تستطيع نقلها الآن، اشتريتها سلعة كبيرة أو فاكهة كثيرة اشتريتها في السوق، يُخلي البائع بينك وبينها، ويعتبر هذا قبض. فالقبض هذا يُرجع فيه إلى العُرف.

كذلك الحرز يُرجع فيه إلى العُرف، ماذا يكون الحرز؟ حرز السيارة بماذا؟ بإغلاقها. حرز الحيوانات بجعلها في الحظيرة، وهكذا. فهذه أمور ترجع إلى العُرف؛ فالأسماء أحيانًا تُعرف بالشرع كالصلاة والزكاة، وأحيانًا تُعرف باللغة كالشمس والقمر، وأحيانًا تُعرف بالعُرف، وكذلك المعاشرة، قال الله تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19] ما هو المعروف؟ المعروف: ما عَرَفه الناس؛ يعاشر زوجته بالمعروف، بالكلام الطيب، بالنفقة، بالإحسان، بالمعاملة الطيبة، ما يعده الناس معاملة طيبة، هذا هو المعروف، ولا تستطيع أن تحدد تقول: المعروف تعمل كذا أو تعمل كذا؛ وإنما هذا يرجع إلى العُرف؛ معاملة طيبة بالقول والفعل، "وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19] وَنَحْوِ ذَلِكَ".

 قال المؤلف رحمه الله: "وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: تَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا، وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ، وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ، وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ مَنْ ادَّعَى عِلْمَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ" هذا الأثر ذكره ابن كثير رحمه الله في مقدمة تفسيره، وذكره ابن جرير في المقدمة([18])، كما ذكر ذلك المحقق. وهذا الأثر، كذلك أيضًا يستدل به العلماء، أيضًا ذكره شيخ الإسلام في الرسالة التدمرية، وهذا صحيح وواقع ما قاله ابن عباس.

"تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: تَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا " وهي المفردات اللغوية مثل كلمة (الكهف)، فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا [الكهف: 11].

الكهف: معروف هو النقْب في الجبل، هذا تعرفه العرب من كلامها، ومثل لفظ القُرء؛ الطُّهْر أو الحيض، ومثل النمارق وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ [الغاشية:15] وهي ما يُتَّكأ عليها، هذا تفسير تعرفه العرب من كلامها، المفردات اللغوية.

" وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ " وهو ما أوجبه الله على عباده من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكيفية الطهارة وكيفية الصلاة والزكاة والصوم والحج، فلا يعذر أحد بجهالته؛ لأنه لا يستقيم الدين إلا به، فلا بُدَّ أن يعرف الإنسان ربه بأسمائه وصفاته وأفعاله، ولا بُدَّ له من أن يعرف حقيقة الإيمان وأنه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. وهو لا يُعذر في أنه لا يعرف كيف يتطهر؛ لا بُدَّ أن يعرف كيف يتطهر، كيفية الوضوء أو استعمال الماء في الأعضاء الأربعة: الوجه واليدين والرأس والرجلين، ولا بُدَّ أن يعرف كيف يتيمم، لا بُدَّ أن يعرف كيف يصلي؟ كيف يزكي؟ كيف يصوم؟ كيف يحج؟ هذا لا يعذر أحد بجهالته؛ لأنه لا بُدَّ منه في إقامة الدين.

" وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ " وهو ما اختص به العلماء دون غيرهم، كمعرفة أسباب النزول، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، ومعرفة المحكم والمتشابه والمطلق والمقيد والمجمل والمبيَّن، هذا يعلمه العلماء خاصة، أما العامة فلا يعرفون هذا؛ لا يعرفون أسباب النزول، ولا يعرفون العام من الخاص ولا المطلق من المقيد، ولا من المنسوخ وغير المنسوخ؛ هذا يعرفه أهل العلم.

والرابع: "وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ" وهي كُنْه الذات والصفات، حقائق ذات الرب على ما هي عليه، حقيقة الأسماء والصفات، لا يعلمها إلا الله، حقيقة ما أخبر الله به في اليوم الآخر من الجنة والنار والحساب والحوض والصراط والميزان، نحن نؤمن بذلك، ولكنَّا لا نعرف حقيقتها. نؤمن بالله وأسماءه وصفاته، نؤمن بأن الله متصفٌ بالعلو والقدرة والمشيئة لكن لا نعلم؛ لا نعلم كيفية نزول الله، لا نعلم كيفية استوائه، كيفية علوه، كيفية علمه، كيفية قدرته ومشيئته، هذه الكيفية لا يعلمها إلا الله.

 لا نعلم حقائق يوم القيامة على ما هي عليه، ما نعلم الجنة، وكيفية أنهارها أو ثمارها على ما هي عليه، كذلك لا يُعلم حقيقة النار على ما هي عليه إلا إذا باشرها العِباد، إذا باشرها العِباد يوم القيامة عرفوا، إذا دخل المؤمنون الجنة عرفوا حقيقتها وكُنْهَها على ما هي عليه، وإذا دخل الكفار النار -والعياذ بالله- عرفوا حقيقتها على ما هي عليه، هذه تفسيرٌ لا يعلمه إلا الله ومَن ادعى علمه فهو كاذب، وهي كنه الذات والصفات وما أخبر الله به في اليوم الآخر.

نحن نؤمن به ونعلم معناه، لكن لا نعلم الكيفية والحقيقة؛ الله تعالى أخبرنا أن في الجنة أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنها من خمر وأنهار من عسل مصفى. نعلم أن الماء سائلٌ دُروي، لكن لا نعلم كيفية هذا الماء ولا طعمه ولا حقيقته. نعلم أن اللبن وله طبيعته الخاصة، وليس فيه الآفات التي في لبن الدنيا وهي الحُمُر/ لكن لا نعلم كيفيتها على ما هي عليه.

كذلك الخمر؛ في الدنيا خمر وفي الجنة خمر. خمر الدنيا سيء يغتال العقول، وله رائحةٌ كريهة، الخمر في الآخرة سالِم من هذا، لكن لا نعلم كيفيته على ما هي عليه.

عسل؛ الدنيا فيها عسل، والآخرة فيها عسل. عسل الدنيا فيه شق مخلوط وعسل الآخرة، مصفى من الشق، عسل الآخرة أنهار، والدنيا ما فيها أنهار عسل، فتختلف الحقيقة والكُنه على ما هي عليه، هذه لا يعلمها إلا الله.

نعلم بذلك ونؤمن به ونعرف المعنى، ولكن لا نعلم الحقيقة والكيفية على ما هي عليه، هذا معنى قول ابن عباس: " وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ مَنْ ادَّعَى عِلْمَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ" هذه حقيقة، كُنه ذات الرب وأسماؤه وصفاته وحقائق الآخرة على ما هي عليه لا يعلمها إلا الله.

قال المؤلف رحمه الله: "فَاسْمُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَدْ بَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ مَا يُرَادُ بِهَا فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ" إذًا هذا من أي الأنواع التي قالها ابن عباس؟ قال ابن عباس: "وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ" هذا لا يعذر أحد بجهالته؛ لأن الله بيَّن الصلاة ما هي؟ الرسول بيَّن الصلاة، كيفية الصلاة، بيَّن الزكاة ما هي، بيَّن الصيام وأنه إمساك عن المفطرات بنية من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، هذا الصيام. والصيام في اللغة: معناه الإمساك. وفي الشرع: إمساك عن المفطرات بنية من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس. إذًا هذا لا يُعذر أحد بجهالته، وكذلك الزكاة، وكذلك الصوم، وكذلك الحج.

هذا معنى قول المؤلف رحمه الله: " فَاسْمُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَدْ بَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ مَا يُرَادُ بِهَا فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وكَذَلِكَ لَفْظُ الْخَمْرِ وَغَيْرِهَا" بيَّن النبي أن الخمر هي ما خامر العقل وغطاه من كل شيء، قال: كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ هذا بيَّنه النبي ﷺ، لا يُعذر أحد بجهالته.

قال المؤلف رحمه الله: "وَمِنْ هُنَاكَ يُعْرَفُ مَعْنَاهَا" يعني من الشرع، "فَلَوْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يُفَسِّرَهَا بِغَيْرِ مَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ ﷺ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ" لو فسر الإنسان الصلاة بغير ما بيَّنه النبي ﷺ، فقال: الصلاة معناها الجلوس، الجلوس في مكان، هذا باطل؛ الرسول بيَّن لنا الصلاة وصلى بالناس واقتدى به المؤمنون، بيَّنه بوحي من الله.

إذا قال شخص الزكاة بمعنى الطهارة، إذا تطهَّر الإنسان وتاب إلى الله يكفي. نقول: لا، الطهارة معناها في اللغة الزكاة، لكن الرسول بيَّنها وهي دفع مالٌ مخصوص لشخصٍ مخصوص في وقتٍ مخصوص إلى أشخاصٍ مخصوصين. وكذلك الحج، لو قال شخص: الحج معناه القصد إلى أي مكان. نقول: نعم، هذا المعنى لغوي، لكن الذي بيَّنه أن الحج قصد مكة لأداء عبادات متنوعة في أوقاتٍ مخصوصة من شخصٍ مخصوص في زمنٍ مخصوص، وهكذا. فإذا أراد شخص أن يفسرها بغير كلام الله ورسوله فإنه لا يُقبل ويرد عليه.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فَلَوْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يُفَسِّرَهَا بِغَيْرِ مَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ ﷺ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي اشْتِقَاقِهَا وَوَجْهِ دَلَالَتِهَا فَذَاكَ مِنْ جِنْسِ عِلْمِ الْبَيَانِ" يعني اشتقاق الصلاة هل هي مشتقة من صلاوين وهي مثلاً عرقٌ في الإنسان، والزكاة أصل اشتقاقها من كذا، وأصل الحج أصله من القصد، أصل الاشتقاق هذا بحثٌ آخر، اشتقاق الصلاة من أي شيء؟ اشتقاق الزكاة من أي شيء؟ من الطهارة. اشتقاق الحج من القصد، هذا شيءٌ آخر، أما تفسيرها فقد فسرها النبي ﷺ وبيَّنها، أما الاشتقاق اللغوي هذا بحثٌ آخر؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فَذَاكَ مِنْ جِنْسِ عِلْمِ الْبَيَانِ وَتَعْلِيلُ الْأَحْكَامِ هُوَ زِيَادَةٌ فِي الْعِلْمِ".

هذا زيادة في العلم، لكن البيان حصل من النبي ﷺ، أما الكلام في اشتقاقها، فهذا يقول المؤلف رحمه الله: " مِنْ جِنْسِ عِلْمِ الْبَيَانِ وَتَعْلِيلُ الْأَحْكَامِ هُوَ زِيَادَةٌ فِي الْعِلْمِ وَبَيَانُ حِكْمَةِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ؛ لَكِنَّ مَعْرِفَةَ الْمُرَادِ بِهَا" يعني المراد بالصلاة هذه الهيئة لا يتوقف على معرفة الاشتقاق وتعليل الأحكام.

(المتن)

وَاسْمُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالنِّفَاقِ وَالْكُفْرِ هِيَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ؛ فَالنَّبِيُّ ﷺ قَدْ بَيَّنَ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ بَيَانًا لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى ذَلِكَ بِالِاشْتِقَاقِ وَشَوَاهِدِ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

فَلِهَذَا يَجِبُ الرُّجُوعُ فِي مُسَمَّيَاتِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ إلَى بَيَانِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُ شَافٍ كَافٍ؛ بَلْ مَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ مَعْلُومَةٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ؛ بَلْ كُلُّ مَنْ تَأَمَّلَ مَا تَقُولُهُ الْخَوَارِجُ وَالْمُرْجِئَةُ فِي مَعْنَى الْإِيمَانِ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلرَّسُولِ، وَيَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجْعَلُ كُلَّ مَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا كَافِرًا.

وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: نَحْنُ نُؤْمِنُ بِمَا جِئْتَنَا بِهِ بِقُلُوبِنَا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ؛ وَنُقِرُّ بِأَلْسِنَتِنَا بِالشَّهَادَتَيْنِ إلَّا أَنَّا لَا نُطِيعُك فِي شَيْءٍ مِمَّا أَمَرْت بِهِ وَنَهَيْت عَنْهُ؛ فَلَا نُصَلِّي وَلَا نَصُومُ وَلَا نَحُجُّ، وَلَا نُصَدِّقُ الْحَدِيثَ، وَلَا نُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، وَلَا نَفِي بِالْعَهْدِ، وَلَا نَصِلُ الرَّحِمَ وَلَا نَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ الَّذِي أَمَرْت بِهِ وَنَشْرَبُ الْخَمْرَ؛ وَنَنْكِحُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ بِالزِّنَا الظَّاهِرِ وَنَقْتُلُ مَنْ قَدَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِك وَأُمَّتِك وَنَأْخُذُ أَمْوَالَهُمْ، بَلْ نَقْتُلُك أَيْضًا وَنُقَاتِلُك مَعَ أَعْدَائِك.

هَلْ كَانَ يَتَوَهَّمُ عَاقِلٌ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ لَهُمْ: أَنْتُمْ مُؤْمِنُونَ كَامِلُو الْإِيمَانِ وَأَنْتُمْ مِنْ أَهْلِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُرْجَى لَكُمْ أَلَّا يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْكُمْ النَّارَ؟

بَلْ كُلُّ مُسْلِمٍ يَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ: أَنْتُمْ أَكْفَرُ النَّاسِ بِمَا جِئْت بِهِ وَيَضْرِبُ رِقَابَهُمْ إنْ لَمْ يَتُوبُوا مِنْ ذَلِكَ.

وَكَذَلِكَ كُلُّ مُسْلِمٍ يَعْلَمُ أَنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ وَالزَّانِيَ وَالْقَاذِفَ وَالسَّارِقَ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ ﷺ يَجْعَلُهُمْ مُرْتَدِّينَ يَجِبُ قَتْلُهُمْ بَلْ الْقُرْآنُ وَالنَّقْلُ الْمُتَوَاتِرُ عَنْهُ يُبَيِّنُ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ عُقُوبَاتٌ غَيْرُ عُقُوبَةِ الْمُرْتَدِّ عَنْ الْإِسْلَامِ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ جَلْدَ الْقَاذِفِ وَالزَّانِي وَقَطْعَ السَّارِقِ.

وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ، وَلَوْ كَانُوا مُرْتَدِّينَ لَقَتَلَهُمْ. فَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ ﷺ.

(الشرح)

نعم، يقول المؤلف رحمه الله: إن اسم الإيمان والإسلام والنفاق والكفر، هذه أسماء شرعية بيَّنها الشارع، ما كانت معروفةً قبل ذلك، الإسلام والإيمان والنفاق والكفر، يقول المؤلف: "هِيَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ " يعني: أن النبي ﷺ بيَّنها. وإذا كان النبي ﷺ بيَّنها، فلا يجوز للإنسان الخروج عن بيان النبي ﷺ.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَاسْمُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالنِّفَاقِ وَالْكُفْرِ هِيَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ؛ فَالنَّبِيُّ ﷺ قَدْ بَيَّنَ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ بَيَانًا لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى ذَلِكَ بِالِاشْتِقَاقِ وَشَوَاهِدِ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ" يعني: بيَّن النبي ﷺ أن الإيمان ضد الكفر، وأن الإيمان هو عِلم القلب وعمل القلب وعمل الجوارح، وبيَّن الإسلام أنه العمل مع الإيمان، وبيَّن النفاق وأنه إظهار الإسلام وإبطان الكفر، وبيَّن الكفر وأنه فِعل ما يكون به الإنسان خارجًا عن الإيمان؛ ولهذا يقول المؤلف رحمه الله: لا نحتاج إلى الاستدلال بالاشتقاق وشواهد استعمال العرب مع بيان النبي ﷺ.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَلِهَذَا يَجِبُ الرُّجُوعُ فِي مُسَمَّيَاتِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ إلَى بَيَانِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ" بيان مسميات هذه؛ مسميات الإيمان، مسميات الإسلام، مسميات النفاق، مسميات الكفر، مسميات الضلال، الهدى، وهكذا. كل هذه بيَّنها النبي ﷺ فلا نحتاج إلى غيره.

يقول المؤلف رحمه الله: "بَلْ كُلُّ مَنْ تَأَمَّلَ مَا تَقُولُهُ الْخَوَارِجُ وَالْمُرْجِئَةُ فِي مَعْنَى الْإِيمَانِ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلرَّسُولِ" الخوارج يقولون: إن المؤمن إذا صدَّق وعمِل ثم فعل كبيرة انتهى الإيمان.

وهذا من أبطل الباطل، إذا فعل كبيرة انسحب هذا على جميع أعماله وانتهى الإيمان، هذا من أبطل الباطل؛ كل واحد من المؤمنين إذا تأمل ما دلت عليه النصوص علِم أن هذا باطل، وأنه لا يَكْفُر الإنسان إذا فعل معصية؛ بل يبقى معه الإيمان وإن كان إيمانه ضعيف، يضعُف بالكبيرة لكنه لا ينتهي.

وكذلك ما تقوله المرجئة في معنى الإيمان، تقول: الإيمان هو مجرد التصديق ولو لم يعمل. كل من تعامل مع النصوص علم أن هذا باطل؛ أنه لا بُدَّ للإنسان يعمل، أما تصديقٌ بالقلب بدون عمل فهذا لا يسمى إيمانًا؛ لا بُدَّ من العمل، عمل القلب وعمل الجوارح.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "بَلْ كُلُّ مَنْ تَأَمَّلَ مَا تَقُولُهُ الْخَوَارِجُ وَالْمُرْجِئَةُ فِي مَعْنَى الْإِيمَانِ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلرَّسُولِ، وَيَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ" طاعة الله ورسوله من تمام الإيمان خلافًا للمرجئة الذين يقولون: الطاعة ليست من الإيمان؛ شيءٌ آخر، يقولون: الطاعة تسمى بر، تسمى تقوى، لكن ما نسميها إيمان. هذا باطل؛ تسمى بر وتقوى وطاعة وإيمان، هي بر وهي وتقوى وهي إيمان.

يقول: "وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجْعَلُ كُلَّ مَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا كَافِرًا".

يبيِّن المؤلف رحمه الله بطلان قول الخوارج الذين يقولون: كلُّ من أذنب ذنبًا كفر.

وهذا يُعلم بالاضطرار أنه مخالف لقول النبي ﷺ.

"وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: نَحْنُ نُؤْمِنُ بِمَا جِئْتَنَا بِهِ بِقُلُوبِنَا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ؛ وَنُقِرُّ بِأَلْسِنَتِنَا بِالشَّهَادَتَيْنِ إلَّا أَنَّا لَا نُطِيعُك فِي شَيْءٍ مِمَّا أَمَرْت بِهِ وَنَهَيْت عَنْهُ؛ فَلَا نُصَلِّي وَلَا نَصُومُ وَلَا نَحُجُّ وَلَا نُصَدِّقُ الْحَدِيثَ وَلَا نُؤَدِّي الْأَمَانَةَ وَلَا نَفِي بِالْعَهْدِ وَلَا نَصِلُ الرَّحِمَ وَلَا نَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ الَّذِي أَمَرْت بِهِ وَنَشْرَبُ الْخَمْرَ؛ وَنَنْكِحُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ بِالزِّنَا الظَّاهِرِ وَنَقْتُلُ مَنْ قَدَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِك وَأُمَّتِك وَنَأْخُذُ أَمْوَالَهُمْ بَلْ نَقْتُلُك أَيْضًا وَنُقَاتِلُك مَعَ أَعْدَائِك.

هَلْ كَانَ يَتَوَهَّمُ عَاقِلٌ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ لَهُمْ: أَنْتُمْ مُؤْمِنُونَ كَامِلُو الْإِيمَانِ؟".

المؤلف رحمه الله قصده من هذا يرد على مَن؟ يرد على المرجئة؛ المرجئة الذين يقولون: الإيمان مجرد التصديق. الجهمية يقولون: إذا عرف الإنسان ربه بقلبه فهو مؤمن ولو فعل جميع المنكرات، ولو فعل جميع أنواع الرِّدة، ولو استحل جميع المحارم ما يكفر؛ إذا عرف ربه بقلبه فهو مؤمن، هذا من أبطل الباطل.

فيقول: هل مَن قال: أنا أُصدِّق بالرسول ﷺ وأُقر بأنه رسول الله وأؤمن بالله إلا أنه لا يطيع الرسول في شيء مما أمر به، ولا يطيعه في ترك المحارم، ولا يصلي ولا يصوم ولا يحج، ولا يصدق الحديث، ولا يؤدي الأمانة، ولا يفي بالعهد، ولا يصل الرحم، ولا يفعل شيئًا من الخير، ويشرب الخمر، وينكح ذوات المحارم، ويقتل المؤمنين؛ بل يحارب الرسول عليه الصلاة والسلام، ويقتله في زمانه... ويقاتله مع أعدائه، هل هذا مؤمن؟ هل يقول شخص أن هذا مؤمن؟! لكن المرجئة يقولون: هذا مؤمن.

هذا يدل على أن مذهب المرجئة مذهبٌ باطل؛ بل هو فاسد، نعلم بالضرورة فساده.

"هَلْ كَانَ يَتَوَهَّمُ عَاقِلٌ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ لَهُمْ: أَنْتُمْ مُؤْمِنُونَ كَامِلُو الْإِيمَانِ" كما يقوله المرجئة "وَأَنْتُمْ مِنْ أَهْلِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُرْجَى لَكُمْ أَلَّا يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْكُمْ النَّارَ؟" هل أحد يتوهم هذا؟! لكن المرجئة يقولون هذا، مؤمن كامل الإيمان.

يقول المؤلف بالرد في بيان فساد قول المرجئة: "بَلْ كُلُّ مُسْلِمٍ يَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ: أَنْتُمْ أَكْفَرُ النَّاسِ بِمَا جِئْت بِهِ وَيَضْرِبُ رِقَابَهُمْ إنْ لَمْ يَتُوبُوا مِنْ ذَلِكَ" لأنهم كفرة، ولا ينفعهم إقرارهم بألسنتهم وتصديقهم بقلوبهم مع معاداتهم؛ لأن هذه الأعمال تنقض دعواهم.

يقول: "وَكَذَلِكَ كُلُّ مُسْلِمٍ يَعْلَمُ أَنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ وَالزَّانِيَ وَالْقَاذِفَ وَالسَّارِقَ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ ﷺ يَجْعَلُهُمْ مُرْتَدِّينَ يَجِبُ قَتْلُهُمْ" هذا في بيان بطلان مذهب الخوارج؛ الخوارج يقولون: شارب الخمر مرتد، والزاني مرتد، والقاذف مرتد، والسارق مرتد. يقول المؤلف: كل مسلم يعلم بالاضطرار أن الرسول ﷺ ما جعلهم مرتدين؛ بل جعلهم عصاة؛ ولهذا تقام عليهم الحدود؛ فالشارب يُجلد، والزاني يُجلد أو يُرجم، والقاذف يُجلد، والسارق تُقطع يده. لو كانوا كفار لوجب قتلهم، لو كانوا مرتدين. والخوارج يقولون: هؤلاء مرتدون.

يقول المؤلف رحمه الله: "بَلْ الْقُرْآنُ وَالنَّقْلُ الْمُتَوَاتِرُ عَنْهُ يُبَيِّنُ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ عُقُوبَاتٌ غَيْرُ عُقُوبَةِ الْمُرْتَدِّ عَنْ الْإِسْلَامِ" المرتد عن الإسلام ما هي عقوبته؟ القتل. والزاني عقوبته الجلد إذا كان غير محصن، والقاذف الجلد، والسارق قطع اليد.

يقول: "كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ جَلْدَ الْقَاذِفِ" يقول: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4]، كما ذكر القرآن أيضًا الزاني: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]، وقطع السارق: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38].

يقول المؤلف: "وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ" أنه يقيم الحدود على أهل المعاصي ولا يقتلهم، "وَلَوْ كَانُوا مُرْتَدِّينَ لَقَتَلَهُمْ. فَكِلَا الْقَوْلَيْنِ" باطل؛ يعني قول الخوارج باطل وقول المرجئة باطل، "فَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ ﷺ" والحق هو ما عليه أهل السُّنة والجماعة من الصحابة والتابعين وأتباعهم ومَن تبعهم من الأئمة وأهل الحق.


([1]) – أخرجه أحمد رقم (9156) ،ومسلم رقم (132) عن أبي هريرة ولفظ مسلم: جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ، فَسَأَلُوهُ: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، قَالَ: وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ.

([2]) –  لم أقف عليه بهذا اللفظ والحديث أخرجه أحمد رقم (2097) ، وأبو داود رقم (5112)، والنسائي في الكبرى رقم (10434) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَحَدَنَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ، يُعَرِّضُ بِالشَّيْءِ، لَأَنْ يَكُونَ حُمَمَةً أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ وبألفاظ متقاربه. قال الحافظ العراقي: إسناده جيد" ينظر إتحاف السادة المتقين للزبيدي(8/ 296)

([3]) –  سبق تخريجه (...)

([4]) –  سبق تخريجه (...)

([5]) –  سبق تخريجه (...)

([6]) – أخرجه البخاري رقم (3276) ولفظه مقارب، ومسلم رقم (134) نحوه  من حديث أبي هريرة .

([7]) –  سبق تخريجه (...)

([8]) –  سبق تخريجه (...)

([9]) –  أخرجه البخاري رقم (3282)،ومسلم رقم (2610) من حديث سليمان بن صرد .

([10]) –  سبق تخريجه (...)

([11]) –  سبق تخريجه (...)

([12]) –  سبق تخريجه (...)

([13]) –  سبق تخريجه (...)

([14]) –  أخرجه أحمد رقم (39/493)، وأبو داود  رقم (4161)، وابن ماجة رقم (4118) والحاكم (1/51) وغيرهم من حديث أبي أمامة إياس بن ثعلبة الأنصاري  ونقل الحافظ المنذرى في مختصر سنن أبي داود (3/63) عن ابن عبد البر قال: اختلف في إسناد هذا الحديث اختلافا سقط معه الاحتجاج به ولا يصح من جهة الإسناد اهـ. ورمز له السيوطي في الجامع الصغير (284) بالصحة. وفي الباب عن (أبي أمامة الباهلي ،وكعب بن مالك)

([15]) –  سبق تخريجه (...)

([16]) –  أخرجه الدارمي في مقدمة سننه (1/317). وفي اسناده محمد بن عون وهو متروك.

([17]) –  أخرجه  ابن جرير في تفسيره (1/70) وأورده ابن كثير في مقدمة تفسيره (1/14).

([18]) –  أخرجه  ابن جرير في تفسيره (1/70) وأورده ابن كثير في مقدمة تفسيره (1/14).

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد