(المتن)
«وكَذَلِكَ كُلُّ مُسْلِمٍ يَعْلَمُ أَنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ وَالزَّانِيَ وَالْقَاذِفَ وَالسَّارِقَ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ ﷺ يَجْعَلُهُمْ مُرْتَدِّينَ يَجِبُ قَتْلُهُمْ؛ بَلْ الْقُرْآنُ وَالنَّقْلُ الْمُتَوَاتِرُ عَنْهُ يُبَيِّنُ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ عُقُوبَاتٌ غَيْرُ عُقُوبَةِ الْمُرْتَدِّ عَنْ الْإِسْلَامِ، كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ جَلْدَ الْقَاذِفِ وَالزَّانِي وَقَطْعَ السَّارِقِ.
وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ، وَلَوْ كَانُوا مُرْتَدِّينَ لَقَتَلَهُمْ. فَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ ﷺ.
وَأَهْلُ الْبِدَعِ إنَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ الدَّاخِلُ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ وَصَارُوا يَبْنُونَ دِينَ الْإِسْلَامِ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ يَظُنُّونَ صِحَّتَهَا.
إمَّا فِي دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ، وَإِمَّا فِي الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ، وَلَا يَتَأَمَّلُونَ بَيَانَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكُلُّ مُقَدِّمَاتٍ تُخَالِفُ بَيَانَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهَا تَكُونُ ضَلَالًا.
وَلِهَذَا تَكَلَّمَ أَحْمَد فِي رِسَالَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يَتَمَسَّكُ بِمَا يَظْهَرُ لَهُ مِنْ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ بِبَيَانِ الرَّسُولِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
وَكَذَلِكَ ذَكَرَ فِي رِسَالَتِهِ إلَى أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الجرجاني فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ سَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، لَا يَعْدِلُونَ عَنْ بَيَانِ الرَّسُولِ إذَا وَجَدُوا إلَى ذَلِكَ سَبِيلًا؛ وَمَنْ عَدَلَ عَنْ سَبِيلِهِمْ وَقَعَ فِي الْبِدَعِ الَّتِي مَضْمُونُهَا أَنَّهُ يَقُولُ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا لَا يَعْلَمُ أَوْ غَيْرَ الْحَقِّ وَهَذَا مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي الشَّيْطَانِ: إنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة:169]، وَقَالَ تَعَالَى: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ [الأعراف:169] وَهَذَا مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ الَّذِي جَاءَ فِيهِ الْحَدِيثُ: مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ([1]).
(الشرح)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وصلَّى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فإن المؤلف -شيخ الإسلام-ابن تيمية -رحمه الله-بيّن فيما مضى أن مسمى الإيمان ومسمى الإسلام في الكتاب والسُّنة معروف، وهو أن مسمى الإيمان: تصديق القلب، وعمل القلب، وعمل الجوارح، وقول اللسان، وأن المسلم أو المؤمن إذا نقص شيئًا من الأعمال، فإنه يكون ناقص الإيمان، ويبقى معه اسم الإيمان، ولا يخرج عن دائرة الإسلام وعن دائرة الإيمان إلا إذا فعل ما يوجب الردّة([2]).
كما أن قول المرجئة: أن مسمى الإيمان هو مجرد التصديق بالقلب واللسان أيضًا مخالفٌ لما دلت عليه نصوص الكتاب والسُّنة([3])، ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: «وكَذَلِكَ كُلُّ مُسْلِمٍ يَعْلَمُ أَنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ وَالزَّانِيَ وَالْقَاذِفَ وَالسَّارِقَ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ ﷺ يَجْعَلُهُمْ مُرْتَدِّينَ يَجِبُ قَتْلُهُمْ»؛ وذلك لأن هؤلاء عصاة، نقص إيمانهم ولكنهم معهم أصل الإيمان، فهم مؤمنون مصدقون بالله وملائكته واليوم الآخر، لا يُنفى عنهم اسم الإيمان وإن فعلوا هذه الكبائر؛ فهذه الكبائر تنقص الإيمان وتُضعف الإيمان، ولكن يبقى معهم أصل الإيمان وأصل الإسلام.
ولهذا بيَّن المؤلف -رحمه الله-أن كل مسلم يعلم أن هؤلاء العصاة وأن مرتكبي الكبائر لا يخرجون عن مسمى الإيمان ولا عن مسمى الإسلام، ولهذا قال المؤلف: «وكَذَلِكَ كُلُّ مُسْلِمٍ يَعْلَمُ أَنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ وَالزَّانِيَ وَالْقَاذِفَ وَالسَّارِقَ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ ﷺ يَجْعَلُهُمْ مُرْتَدِّينَ يَجِبُ قَتْلُهُمْ»، وإنما هذا هو قول الخوارج([4]).
يقول المؤلف -رحمه الله-: «بَلْ الْقُرْآنُ وَالنَّقْلُ الْمُتَوَاتِرُ عَنْهُ يُبَيِّنُ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ عُقُوبَاتٌ غَيْرُ عُقُوبَةِ الْمُرْتَدِّ عَنْ الْإِسْلَامِ» يعني: لأن عقوبة المرتد هي القتل، وهؤلاء لهم عقوبات أخرى؛ فالزاني عقوبته إما الجلد أو الرجم، والسارق عقوبته الجلد، والقاذف عقوبته أيضًا الجلد([5])؛ ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: «بَلْ الْقُرْآنُ وَالنَّقْلُ الْمُتَوَاتِرُ عَنْهُ يُبَيِّنُ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ عُقُوبَاتٌ غَيْرُ عُقُوبَةِ الْمُرْتَدِّ عَنْ الْإِسْلَام كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ جَلْدَ الْقَاذِفِ وَالزَّانِي وَقَطْعَ السَّارِقِ، وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ، وَلَوْ كَانُوا مُرْتَدِّينَ لَقَتَلَهُمْ»؛ لأن المرتد عقوبته القتل؛ لقول النبي ﷺ: مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ([6]) «فَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ ﷺ»، المراد بالقولين: قول الخوارج وقول المرجئة.
«فَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ ﷺ»، فقول الخوارج بأن مرتكب الكبيرة يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر هذا مما يُعلم فساده، وقول المرجئة إن مسمى الإيمان هو مجرد التصديق والقول أن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان مما يُعلم فساده أيضًا من دين النبي ﷺ، فكلا القولين قول فاسد، والقول الحق هو ما أهل السُّنة والجماعة وهو الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسُّنة: أن مسمى الإيمان هو تصديق القلب وقول اللسان وعمل القلب وعمل الجوارح، وأن المسلم إذا فعل الكبيرة فإنه ينقص إيمانه ويضعُف إيمانه، ولا يخرج عن الإيمان كما تقوله الخوارج والمعتزلة؛ فإن هؤلاء أهل بدع.
وقد بيَّن المؤلف -رحمه الله-سبب انحرافهم وخروجهم عما دلَّ الكتاب والسُّنة، فقال -رحمه الله-: «وَأَهْلُ الْبِدَعِ إنَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ الدَّاخِلُ لِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ»، وهي ما عُرف حده بالشرع وبيان النبي ﷺ؛ فالإسلام والإيمان عرف حدهم بالشرع وبيان النبي ﷺ، وأن مسمى الإيمان: التصديق بالقلب والإقرار باللسان وعمل القلب وعمل الجوارح، وأن المسلم إذا ارتكب الكبيرة لا يخرج عن مسمى الإيمان ولا عن مسمى الإسلام. لما أعرضوا عن هذه الطريق، قال المؤلف -رحمه الله-: هذا هو سبب انحرافهم.
«وَأَهْلُ الْبِدَعِ إنَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ الدَّاخِلُ»؛ يعني فانحرفوا؛ «لِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ وَصَارُوا يَبْنُونَ دِينَ الْإِسْلَامِ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ يَظُنُّونَ صِحَّتَهَا. إمَّا فِي دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ. وَإِمَّا فِي الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ»، يعني بَنوا دين الإسلام على مقدمات ظنوا أنها صحيحة تتعلق إما بدلالة الألفاظ أو تتعلق ببعض المعاني، ولكنهم لا يتأملون بيان الله وبيان رسوله ﷺ؛ ولهذا ضَلوا.
قال المؤلف -رحمه الله-: «وَكُلُّ مُقَدِّمَاتٍ تُخَالِفُ بَيَانَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهَا تَكُونُ ضَلَالًا»، وهؤلاء الخوارج والمرجئة كل منهم بنى دين الإسلام على مقدماتٍ ظنها صحيحة تتعلق ببعض دلالات الألفاظ أو ببعض المعاني المعقولة ولم يتأمل بيان الله وبيان رسوله ﷺ فلهذا ضلوا([7]).
قال المؤلف -رحمه الله-: «وَلِهَذَا تَكَلَّمَ أَحْمَد فِي رِسَالَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يَتَمَسَّكُ بِمَا يَظْهَرُ لَهُ مِنْ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ بِبَيَانِ الرَّسُولِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِين([8])» يعني أن الذي يتمسك بالقرآن ويُعرض عن السنة يضل؛ لأن السُّنة وحيٌّ ثاني، والسُّنة تبيِّن القرآن وتوضحه وتبيِّن المبهم والمجمل، وتُقيد المطلق وتُخصص العام، وتأتي أيضًا ببيان، وتأتي أيضًا بأحكامٍ مستقلة؛ فالسُّنة لها مع القرآن ثلاثة أحوال:
• إما أن تأتي بأحكامٍ تؤيد الأحكام التي جاءت في القرآن.
• وإما أن تأتي ببيان لما أُجمل وتقييد لما أُطلق، وتخصيص لما عمم.
• أو تأتي بأحكام جديدة، كتحريم كل ذي نابٍ من السباع، وتحريم كل ذي مخلب من الطير، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها، والجمع بين المرأة وخالتها([9]).
وهذه أحكامٌ جاءت في السُّنة ولم تأتِ في القرآن، فمَن أعرض عن بيان النبي ﷺ فإنه يضل ولو كان يزعم أنه يتمسك بظاهر القرآن؛ لأن السُّنة وحيٌّ ثاني؛ قال النبي ﷺ: أَلا إِنِّي أُوتِيتُ القُرآنَ ومِثلَهُ مَعَهُ([10])
يقول المؤلف -رحمه الله-: «وَكَذَلِكَ ذَكَرَ فِي رِسَالَتِهِ إلَى أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الجرجاني فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ سَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ لَا يَعْدِلُونَ عَنْ بَيَانِ الرَّسُولِ إذَا وَجَدُوا إلَى ذَلِكَ سَبِيلًا»؛ لأنه هو المبلِّغ عن الله، قال الله تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44] فهو المبلِّغ عن الله ، فمن عدل عن بيان الرسول -عليه الصلاة والسلام-فإنه يضل.
ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: «وَهَذِهِ طَرِيقَةُ سَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ لَا يَعْدِلُونَ عَنْ بَيَانِ الرَّسُولِ ﷺ إذَا وَجَدُوا إلَى ذَلِكَ سَبِيلًا؛ وَمَنْ عَدَلَ عَنْ سَبِيلِهِمْ وَقَعَ فِي الْبِدَعِ الَّتِي مَضْمُونُهَا أَنَّهُ يَقُولُ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا لَا يَعْلَمُ أَوْ غَيْرَ الْحَق»، يعني: مَن عدل عن سبيل الأئمة والعلماء في العمل بكتاب الله وبسُنة رسوله ﷺ فإنه لابد أن يقع في أحد أمرين:
o إما أن يقول على الله ورسوله ما لا يعلم، فيقول بالجهل.
o أو يقول على الله غير الحق.
إما أن يكون عنده انحراف؛ يعلم حكم الله وحكم رسوله ثم ينحرف ثم يضل -والعياذ بالله-فيكون غاويًا، وإما أن يقول على الله وعلى رسوله ما لا يعلم فيكون جاهلًا.
والضلال هو أحد أمرين: إما ضلالٌ عن علم، فيكون غاويًا، وإما ضلالٌ عن جهل فيكون ضالًّا.
وقد برَّأ الله نبيه الكريم من هذين الداءين: داء الغواية وداء الجهل والضلال؛ قال : وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:1،2] ([11]).
وقد أمر الله تعالى في كل ركعةٍ من الصلاة أن نقرأ الفاتحة التي فيها سؤال الله ﷺ الهداية للصراط المستقيم، وسؤاله أن يجنبنا طريق أهل الغواية وهم اليهود «مَن معه علم ولم يعمل به»، وطريق الضلال وهم النصارى، «ومَن عبد الله عن جهل وضلال» في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6،7] ([12]).
يقول المؤلف -رحمه الله-: «وَهَذَا مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ»، يعني القول على الله بلا علم، أو القول على الله غير الحق، مما حرمه الله ورسوله، وأخبر الله أنه من أمر الشيطان، فقال تعالى في الشيطان: إنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة:169].
فالشيطان من أمره أنه يأمر الإنسان بالسوء والفحشاء وأن يأمرهم بالقول على الله بلا علم، فهذا من أكبر الكبائر القول على الله بلا علم، حتى إن الله جعله فوق الشرك، في قوله : قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33]، فهذه المحرمات بدأ الله بالأخف ثم الأشد، ففيها تدرج؛ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأعراف:33]، هذا الأمر الأول، والثاني: الإثم، والثالث: البغي، والرابعة: الشرك، والخامسة: القول على الله بلا علم، فهو أعظمها؛ لأنه يشمل الشرك وغيره، فالقول على الله بلا علم يشمل الشرك؛ فالشرك من القول على الله بلا علم ويشمل غيره، القول على الله بأنه حرَّم كذا أو أباح كذا([13]).
فالمقصود أن الشيطان مما يأمر به القول على الله بلا علم، إنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة:169]، وقال تعالى: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لَّا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [الأعراف: 169]، فبنوا إسرائيل أخذ الله عليهم ألا يقولوا على الله إلا الحق، وهو أيضًا مأخوذ على هذه الأمة.
قال المؤلف -رحمه الله-: «وَهَذَا مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ الَّذِي جَاءَ فِيهِ الْحَدِيثُ: مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ وهذا الحديث رواه الترمذي في كتاب تفسير القرآن بلفظ: اتَّقُوا الْحَدِيثَ عَنِّي إِلَّا مَا عَلِمْتُمْ؛ فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ([14])، وهذا الوعيد شديد. والذي يقول في القرآن برأيه قال على الله بلا علم، فهذا يدل على الوعيد الشديد على مَن قال على الله بلا علم، وأن الأمر خطير.
وثبت عن الصديق أبي بكر ، الخليفة الأول الراشد، أنه قال: «أي أرض تُظلني وأي سماء تقلني إن أنا قلت في كتاب الله برأيي أو بما لا أعلم؟»([15])، أو كما جاء عنه .
فالقول على الله بلا علم أمره خطير؛ فالواجب على كل مسلم أن يحذر من القول على الله بلا علم، وألا يتكلم إلا بالحق الذي يعلمه من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وإذا لم يعلم فإن عليه أن يتوقف، أو يسأل أهل العلم حتى لا يقول على الله بلا علم.
(المتن)
«مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمُرْجِئَةَ لَمَّا عَدَلُوا عَنْ مَعْرِفَةِ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَخَذُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِمَا، بِطُرُقِ ابْتَدَعُوهَا مِثْلَ أَنْ يَقُولُوا: الْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ هُوَ: التَّصْدِيقُ وَالرَّسُولُ إنَّمَا خَاطَبَ النَّاسَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ لَمْ يُغَيِّرْهَا فَيَكُونُ مُرَادُهُ بِالْإِيمَانِ التَّصْدِيقَ.
ثُمَّ قَالُوا: َالتَّصْدِيقُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ أَوْ بِالْقَلْبِ؛ فَالْأَعْمَالُ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ، ثُمَّ عُمْدَتُهُمْ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ قَوْلُهُ: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا [يوسف:17] أَيْ: بِمُصَدِّقِ لَنَا.
فَيُقَالُ لَهُمْ: اسْمُ الْإِيمَانِ قَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ سَائِرِ الْأَلْفَاظِ، وَهُوَ أَصْلُ الدِّينِ، وَبِهِ يَخْرُجُ النَّاسُ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ؛ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ وَمَنْ يُوَالى وَمَنْ يُعَادَى وَالدِّينُ كُلُّهُ تَابِعٌ لِهَذَا؛ وَكُلُّ مُسْلِمٍ مُحْتَاجٌ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ؛ أَفَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ قَدْ أَهْمَلَ بَيَانَ هَذَا كُلِّهِ. وَوَكَلَهُ إلَى هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ؟
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّاهِدَ الَّذِي اسْتَشْهَدُوا بِهِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ أَنَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ. وَنَقْلُ مَعْنَى الْإِيمَانِ مُتَوَاتِرٌ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَعْظَمُ مِنْ تَوَاتُرِ لَفْظِ الْكَلِمَةِ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ فَيَنْقُلُونَهُ بِخِلَافِ كَلِمَةٍ مِنْ سُورَةٍ.
فَأَكْثَرُ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُونُوا يَحْفَظُونَ هَذِهِ السُّورَةَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ بَيَانُ أَصْلِ الدِّينِ مَبْنِيًّا عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ.
وَلِهَذَا كَثُرَ النِّزَاعُ وَالِاضْطِرَابُ بَيْنَ الَّذِينَ عَدَلُوا عَنْ صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ وَسَلَكُوا السُّبُلَ وَصَارُوا مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا وَمِنْ الَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ فَهَذَا كَلَامٌ عَامٌّ مُطْلَقٌ».
(الشرح)
المؤلف -رحمه الله-لما بيَّن أن القول على الله بلا علم محرم، وأنه لا يجوز للإنسان أن يقول الإنسان على الله بلا علم مثَّل لذلك بالمرجئة، فقال: إن المرجئة مِن الذين قالوا على الله بلا علم، يعني: في قولهم إن مسمى الإيمان هو التصديق، فالمرجئة قالوا على الله بلا علم؛ لأنهم عدلوا عن معرفة كلام الله وكلام رسوله، فلما عدلوا عن كلام الله وكلام رسوله قالوا: إن مسمى الإيمان ومسمى الإسلام، اعتمدوا على بيان مع مسمى الإيمان ومسمى الإسلام بطرق ابتدعوها، بطرقٍ مبتدعة، فأتوا بمقدمتين ونتيجة، والمقدمتان باطلتان فتبطل النتيجة.
فقال المؤلف -رحمه الله-: «مِثَالُ ذَلِكَ»، يعني: مثال الذين قالوا على الله بلا علم وتنكبوا الصراط المستقيم: المرجئة في تعريفهم للإيمان وتعريفهم للإسلام، لما عدلوا عن معرفة كلام الله ورسوله ﷺ أخذوا يتكلمون في مسمى الإيمان والإسلام وغيرهما بطرقٍ ابتدعوها. ولا شك أن هذا طبيعي، مَن عدل عن الكتاب والسُّنة لابد أن يعدل بطرقٍ أخرى؛ فإما أن يأخذ بكلام الله وكلام رسوله، وإما أن يأخذ بطرقٍ أخرى؛ بطرقٍ عقلية، من أقيسة فاسدة ومناهج مبتدعة، مثل ما يفعل الفلاسفة والصوفية وغيرهم.
ولهذا بيَّن المؤلف -رحمه الله-أن المرجئة عدلوا عن معرفة كلام الله وكلام رسوله وأخذوا يتكلمون في مسمى الإسلام وغيره بطرق ابتدعوها، مثل أن يقولوا: الإيمان في اللغة هو التصديق، والرسول ﷺ إنما خاطب الناس بلغة العرب لم يُغيرها، فيكون مراد الله بالإيمان: التصديق.
يعني: فصار دليلهم مركب من مقدمتين ونتيجة، هذا دليلهم؛ بدل من أن يأخذ بكلام الله وكلام رسوله صاروا يأتون بمقدماتٍ عقلية من عند أنفسهم، فدليلهم مكون من مقدمتين ونتيجة.
• المقدمة الأولى: الإيمان في اللغة هو التصديق.
• المقدمة الثانية: الرسول ﷺ خاطب الناس بلغة العرب لم يُغيرها.
• النتيجة: فيكون مراد الرسول بالإيمان هو التصديق.
هذا دليلهم، ثم قالوا بعد ذلك التصديق لا يكون إلا بالقلب واللسان أو بالقلب، فالنتيجة أن الأعمال ليست من الإيمان.
ثم عُمدتهم في أن الإيمان هو التصديق: قول الله تعالى عن إخوة يوسف: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا [يوسف:17] أي: بمصدقٍ لنا([16]). هذه الآية عمدة المرجئة في قولهم أن الإيمان هو مجرد التصديق، عدلوا عن كلام الله وكلام رسول الله ﷺ، فلما عدلوا أخذوا يتكلمون بعقولهم الفاسدة فركبوا دليلهم (المقدمتان والنتيجة)، فقالوا: الدليل على أن الإيمان هو التصديق، أولًا: أن الإيمان في اللغة هو التصديق، هذه المقدمة الأولى.
المقدمة الثانية: أن الرسول ﷺ خاطب الناس بلغة العرب ولم يغيرها.
النتيجة: أن مراد الرسول ﷺ بالإيمان هو التصديق فقط.
ثم قالوا: التصديق لا يكون إلا بالقلب واللسان، أو بالقلب فقط، والأعمال لا تسمى تصديقاً، فالنتيجة: أن الأعمال ليست من الإيمان.
ثم عمدتهم في أن الإيمان هو التصديق: آية من كتاب الله، قول الله تعالى عن إخوة يوسف: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا [يوسف:17]، أي: مصدق لنا.
المؤلف -شيخ الإسلام -رحمه الله--سيناقشهم، وسيجيب عن هذا الدليل الذي اعتمدوا عليه بجوابٍ عام وبأجوبة مفصلة؛ الجواب العام هو ما قُرئ الآن، يقول: «فَيُقَالُ لَهُمْ» يعني: المرجئة في قولهم إن الإيمان هو مجرد تصديق، «فَيُقَالُ لَهُمْ: اسْمُ الْإِيمَانِ قَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ سَائِرِ الْأَلْفَاظِ وَهُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَبِهِ يَخْرُجُ النَّاسُ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ؛ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ وَمَنْ يُوَالى وَمَنْ يُعَادَى وَالدِّينُ كُلُّهُ تَابِعٌ لِهَذَا؛ وَكُلُّ مُسْلِمٍ مُحْتَاجٌ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ؛ أَفَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ قَدْ أَهْمَلَ بَيَانَ هَذَا كُلِّهِ، وَوَكَلَهُ إلَى هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ؟»
يقول المؤلف -رحمه الله-: اسم الإيمان تكرر ذكره في القرآن وتكرر ذكره في السُّنة أكثر من سائر الألفاظ، لماذا؟ لأنه أصل الدين، فلا يمكن إهمال أصل الدين، ولأن بالإيمان يخرج الناس من الظلمات إلى النور، وبالإيمان يفرَّق بين السعداء والأشقياء، وبالإيمان يُفرَّق بين من الولي والعدو، والدين كله تابعٌ للإيمان، وكلُّ مسلم محتاج إلى معرفة الإيمان وحقيقته ومسماه.
يقول المؤلف -رحمه الله-: «أَفَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ قَدْ أَهْمَلَ بَيَانَ هَذَا كُلِّهِ. وَوَكَلَهُ إلَى هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ؟» هل يُعقل هذا عقلًا؟ هل يُعقل أن الرسول ﷺ يترك بيان الإيمان الذي هو أصل الدين وأساس الملة وبه يخرج الناس من الظلمات إلى النور ولا يبيِّنه، ويتركه إلى هاتين المقدمتين التي يقولهما المرجئة؟! فهذا الدليل دليل عقلي، أجاب المؤلف بجواب عقلي، جواب عام.
يقول المؤلف -رحمه الله-: «وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّاهِدَ الَّذِي اسْتَشْهَدُوا بِهِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ أَنَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ»، يقول المؤلف -رحمه الله-: لا شك أن عمدتهم في قولهم إن الإيمان هو التصديق قول الله تعالى في سورة يوسف عن إخوة يوسف: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا [يوسف:17]، أَيْ: بِمُصَدِّقِ لَنَا. قالوا: هذا دليل على أن الإيمان هو التصديق. يقول: هذا لا شك أن هذه الآية من القرآن، لكن نقْل معنى الإيمان متواتر عن النبي ﷺ أعظم من تواتر لفظ الكلمة.
يعني الذين نقلوا عن النبي ﷺ مسمى الإيمان وأنه تصديقٌ بالقلب وإقرارٌ باللسان وعملٌ بالقلب وعمل بالجوارح، الذين نقلوا معنى الإيمان أكثر من الذين نقلوا لفظ الآية، وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا أَيْ: بِمُصَدِّقِ لَنَا، لماذا؟ قال: وجه ذلك أن الإيمان يحتاج إلى معرفته جميع الأمة فينقلوه، أما هذه الكلمة ليس كل أحد يحفظها، ليس كل أحد يحفظ سورة يوسف، وليس كل أحد يحفظ هذه الجملة، لكن كل أحد محتاج لمعرفة الإيمان، كل مسلم محتاج إلى أن يعرف الإيمان، ولا يجب على كل مسلم أن يحفظ الآية.
فتبيَّن بهذا أن نقْل معنى الإيمان متواتر أكثر من تواتر نقل لفظ الآية؛ فالذين نقلوا معنى الإيمان أكثر عددًا من الذين نقلوا لفظ الآية، لماذا؟ لأن الإيمان أصل الدين وأساس الملة يحتاجه كل أحد، بخلاف الآية فلا يجب على كل أحد أن يحفظها؛ ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: «وَنَقْلُ مَعْنَى الْإِيمَانِ مُتَوَاتِرٌ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَعْظَمُ مِنْ تَوَاتُرِ لَفْظِ الْكَلِمَة»، يعني قوله تعالى: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا [يوسف:17]، أي: بمصدق.
«فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ فَيَنْقُلُونَهُ بِخِلَافِ كَلِمَةٍ مِنْ سُورَةٍ. فَأَكْثَرُ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُونُوا يَحْفَظُونَ هَذِهِ السُّورَةَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ بَيَانُ أَصْلِ الدِّينِ مَبْنِيًّا عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ»، يعني: هل يمكن أن يُجعل أصل الدين مبني على مثل هذه المقدمة «الْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّصْدِيقُ وَالرَّسُولُ إنَّمَا خَاطَبَ النَّاسَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ لَمْ يُغَيِّرْهَا»، فالنتيجة أن الإيمان هو التصديق؟ هل يمكن أن الناس يُوكلون إلى هذه المقدمات لمعرفة الإيمان؟ هذا لا يمكن، وغير معقول.
ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: «فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ بَيَانُ أَصْلِ الدِّينِ مَبْنِيًّا عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ؛ وَلِهَذَا كَثُرَ النِّزَاعُ وَالِاضْطِرَابُ بَيْنَ الَّذِينَ عَدَلُوا عَنْ صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ وَسَلَكُوا السُّبُلَ وَصَارُوا مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا وَمِنْ الَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ»، يقول: لما عدل هؤلاء عن الصراط المستقيم وهذه الفرق كالخوارج والمعتزلة والمرجئة وغيرهم، لما عدلوا عن الصراط المستقيم كثُر النزاع والاضطراب بينهم، فتجد الخوارج مذهبهم في مسمى الإيمان ضد مذهب المرجئة؛ لأنهم عدلوا عن الصراط المستقيم فصارت أقوالهم متضاربة، وصاروا من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ومن الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات.
قال المؤلف: «فَهَذَا كَلَامٌ عَامٌّ مُطْلَقٌ» هذا جوابٌ عام، وستأتي الأجوبة مفصلة. هذا جوابٌ عام عن دليل المرجئة، ثم تأتي الأجوبة المفصلة.
(المتن)
«ثُمَّ يُقَالُ: هَاتَانِ الْمُقَدِّمَتَانِ كِلَاهُمَا مَمْنُوعَةٌ فَمَنْ الَّذِي قَالَ: إنَّ لَفْظَ الْإِيمَانِ مُرَادِفٌ لِلَفْظِ التَّصْدِيقِ؟ وَهَبْ أَنَّ الْمَعْنَى يَصِحُّ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَلِمَ قُلْت: إنَّهُ يُوجِبُ التَّرَادُفَ؟ وَلَوْ قُلْت: مَا أَنْتَ بِمُسْلِمِ لَنَا، مَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا، صَحَّ الْمَعْنَى، لَكِنْ لِمَ قُلْت: إنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِلَفْظِ مُؤْمِنٍ؟ وَإِذَا قَالَ اللَّهُ: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ [البقرة:43].
وَلَوْ قَالَ الْقَائِلُ: أَتِمُّوا الصَّلَاةَ، وَلَازِمُوا الصَّلَاةَ، الْتَزِمُوا الصَّلَاةَ، افْعَلُوا الصَّلَاةَ، كَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا. لَكِنْ لَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى مَعْنَى: أَقِيمُوا. فَكَوْنُ اللَّفْظِ يُرَادِفُ اللَّفْظَ؛ يُرَادُ دَلَالَتُهُ عَلَى ذَلِكَ.
ثُمَّ يُقَالُ: لَيْسَ هُوَ مُرَادِفًا لَهُ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ لِلْمُخْبِرِ إذَا صَدَّقْته: صَدَّقَهُ وَلَا يُقَالُ: آمَنَهُ وَآمَنَ بِهِ.
بَلْ يُقَالُ: آمَنَ لَهُ كَمَا قَالَ: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت:26]، وَقَالَ: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ [يونس:83]، وَقَالَ فِرْعَوْنُ: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ [طه:71]، وَقَالُوا لِنُوحِ: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء:111]، وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [التوبة:61].
فَقَالُوا: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون:47]، وَقَالَ: وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ [الدخان:21]».
(الشرح)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: -
فإن المؤلف -رحمه الله-بيَّن فيما سبق أن مَن قال على الله بلا علم وعدَل عن كلام الله وكلام رسوله ﷺ، فإنه لابد أن يلجأ إلى طرقٍ مبتدعة؛ كالمرجئة الذين عَدَلوا عن كلام الله وكلام رسوله في مسمى الإيمان إلى طرقٍ ابتدعوها، وقالوا: إن الإيمان هو التصديق، والرسول ﷺ خاطب الناس بلغة العرب، فيكون مراده بالإيمان التصديق، وأن التصديق لا يكون إلا بالقلب واللسان أو بالقلب، وأن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان. وردَّ المؤلف -رحمه الله-عليهم ردا مجملًا، وبيَّن أن الإيمان هو أصل الدين وأساس الملة، فلا يمكن أن يوكل إلى مثل هذه المقدمات؛ لا بُدَّ أن يبينه الله في كتابه ويبينه رسوله ﷺ.
ثم رد عليهم المؤلف -رحمه الله- ردود تفصيلية؛ فبدأ بالردود التفصيلية فقال: «ثُمَّ يُقَالُ: هَاتَانِ الْمُقَدِّمَتَانِ كِلَاهُمَا مَمْنُوعَةٌ» المقدمة الأولى: الإيمان في اللغة هو التصديق، والرسول ﷺ إنما خاطب الناس بلغة العرب. والمقدمة الثانية: الرسول ﷺ إنما خاطب الناس بلغة العرب، فيكون مراده بالإيمان التصديق، وكذلك قول التصديق إنما يكون بالقلب واللسان، أو بالقلب فقط، فهاتان المقدمتان كلاهما ممنوعة.
يقول المؤلف -رحمه الله- وجه المنع-: «فَمَنْ الَّذِي قَالَ: إنَّ لَفْظَ الْإِيمَانِ مُرَادِفٌ لِلَفْظِ التَّصْدِيقِ؟» يقول: الإيمان هو التصديق. مَن الذي قال لكم أن لفظ الإيمان مرادف للفظ التصديق؟ نحن نمنعها، نقول: ليس لفظ الإيمان مرادف للتصديق؛ مسمى التصديق يختلف عن مسمى الإيمان، كما سيبيِّن المؤلف -رحمه الله-.
«وَهَبْ أَنَّ الْمَعْنَى يَصِحُّ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَلِمَ قُلْت: إنَّهُ يُوجِبُ التَّرَادُفَ؟»، يعني افرض أن معنى الإيمان هو معنى التصديق في هذا الموضع، لكن لا يكون معناه في مواضع أخرى فلا يُوجب الترادف، فلا يُقال: إن التصديق والإيمان مترادفان؛ لو صحَّ أن الإيمان فُسِّر بالتصديق في موضع، فلا يصح أن يقال إن الإيمان معناه بالتصديق في جميع المواضع، ثم قال: «وَلَوْ قُلْت: مَا أَنْتَ بِمُسْلِمِ لَنَا، مَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا، صَحَّ الْمَعْنَى»، يعني: في هذا الموضع، «لَكِنْ لِمَ قُلْت: إنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِلَفْظِ مُؤْمِنٍ؟»، يعني: إنه إذا صحَّ في موضع، فلا يقال: إنه في جميع المواضع يكون معنى الإيمان هو معنى التصديق.
«وَإِذَا قَالَ اللَّهُ: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ [البقرة:43]. وَلَوْ قَالَ الْقَائِلُ: أَتِمُّوا الصَّلَاةَ، وَلَازِمُوا الصَّلَاةَ، الْتَزِمُوا الصَّلَاةَ، افْعَلُوا الصَّلَاةَ، كَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا. لَكِنْ لَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى مَعْنَى: أَقِيمُوا»، يعني: إذا قال: أقيموا الصلاة، ثم قال: أتموا الصلاة، أو لازموا الصلاة، أو التزموا الصلاة، أو افعلوا الصلاة، كان المعنى صحيح، لكن لا يدل على أن هذا هو معنى أقيموا الصلاة، وأن معنى أقيموا الصلاة لا يتجاوز هذه العبارات؛ بل معنى أقيموا الصلاة أوسع من هذا.
فمعنى أقيموا الصلاة: أتموا الصلاة، ولازموا الصلاة، والتزموا الصلاة، وافعلوا الصلاة، كل هذا داخل في إقام الصلاة، ويدخل فيها معاني أخرى غير هذه المعاني، فإقامة الصلاة يدخل في معنى أقيموا الصلاة، أدُّوها كما أمر الله وكما أمر رسوله ﷺ بشروطها وواجباتها وأركانها وخشوعها وهيئتها كما أمر الله وكما أمر رسوله ﷺ.
«فَكَوْنُ اللَّفْظِ يُرَادِفُ اللَّفْظَ؛ يُرَادُ دَلَالَتُهُ عَلَى ذَلِكَ»، يعني أنه لو صح تفسير اللفظ بلفظ في بعض المواضع فإنه لا يقال إنه مرادفٌ له إلا إذا كان معناه هو معناه في جميع المواضع.
ثم أجاب بجواب آخر المؤلف، قال: «ثُمَّ يُقَالُ: لَيْسَ هُوَ مُرَادِفًا لَهُ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ» يعني: نحن نمنع أن يقال: إن لفظ الإيمان مرادف للفظ التصديق. يعني في الجواب الأول بيَّن أن لفظ الإيمان قد يكون معناه التصديق في بعض المواضع ولا يكون مرادفا له.
ثم الجواب الثاني، قال: ثم نمنع أن يكون لفظ الإيمان مرادفًا للفظ التصديق من وجوه:
الوجه الأول: «أَنْ يُقَالَ لِلْمُخْبِرِ إذَا صَدَّقْته: صَدَّقَهُ وَلَا يُقَالُ: آمَنَهُ وَآمَنَ بِهِ»، يعني: المخبر إذا أخبرك عن شيء يقال: صدَّقته، ولا يقال: آمنه ولا آمن به.
إذا أخبرك شخص عن خبر، فيقال: صدَّقته أو صدَّقت به، ولا يقال: آمنه أو آمن به؛ وإنما يقال: آمن له. فدل على الفرق في الجواب؛ إذا أخبرك شخص عن خبر صِدْق، فتقول عنه صدَّقته أو صدَّقت به، لكن لا تقول: آمنه أو آمن به؛ وإنما تقال: آمن له؛ فالتصديق يتعدى بالباء، والإيمان يتعدى باللام، يقال: صدَّقه أو صدَّق به، وفي الإيمان يقال: آمن له، ولا يقال: آمنه أو آمن به، فدلَّ على الفرق، وإذا وُجد الفرق دلَّ على بُطلان القول بأنهما مترادفان، بطلان قول المرجئة: أن الإيمان هو التصديق، والتصديق هو الإيمان.
ثم استشهد المؤلف -رحمه الله- بالآيات التي فيها أن الإيمان يتعدى باللام والتصديق يتعدى بالباء، فقال: «فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت:26]»، ولم يقل فآمن به؛ بـ(اللام). «وَقَالَ: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ [يونس:83]»، ولم يقل: فآمن بموسى. «وَقَالَ فِرْعَوْنُ: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ [طه:71]»، ولم يقل آمنت به. «وَقَالُوا لِنُوحِ: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء:111]»، ولم يقل: أنؤمن بك. «وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [التوبة:61]»، ولم يقل: ويؤمن بالمؤمنين. «فَقَالُوا: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون:47]»، فقال: أنؤمن لبشرين، ولم يقل: ببشرين. «وَقَالَ: وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ [الدخان:21]»، ولم يقل: وإن لم تؤمنوا بي، بخلاف التصديق؛ فإنه يقول: تصدقوا بي، فدلَّ على الفرق، فهذا يدل على الفرق بين الإيمان والتصديق، وأن قول المرجئة بأنهما مترادفان قولٌ باطل([17]).
(المتن)
«فإنْ قِيلَ: فَقَدْ يُقَالُ: مَا أَنْتَ بِمُصَدِّقِ لَنَا. قِيلَ: اللَّامُ تَدْخُلُ عَلَى مَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ إذَا ضَعُفَ عَمَلُهُ إمَّا بِتَأْخِيرِهِ أَوْ بِكَوْنِهِ اسْمَ فَاعِلٍ أَوْ مَصْدَرًا أَوْ بِاجْتِمَاعِهِمَا، فَيُقَالُ: فُلَانٌ يَعْبُدُ اللَّهَ وَيَخَافُهُ وَيَتَّقِيهِ.
ثُمَّ إذَا ذَكَرَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ قِيلَ: هُوَ عَابِدٌ لِرَبِّهِ مُتَّقٍ لِرَبِّهِ خَائِفٌ لِرَبِّهِ، وَكَذَلِكَ تَقُولُ: فُلَانٌ يَرْهَبُ اللَّهَ ثُمَّ تَقُولُ: هُوَ رَاهِبٌ لِرَبِّهِ. وَإِذَا ذَكَرْت الْفِعْلَ وَأَخَّرْته تُقَوِّيهِ بِاللَّامِ كَقَوْلِهِ: وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف:154].
وَقَدْ قَالَ: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [النحل:51]، فَعَدَّاهُ بِنَفْسِهِ، وَهُنَاكَ ذَكَرَ اللَّامَ فَإِنَّ هُنَا قَوْلَهُ: فَإِيَّايَ أَتَمُّ مِنْ قَوْلِهِ: فَلِي.
وَقَوْلُهُ هُنَالِكَ لِرَبِّهِمْ أَتَمُّ مِنْ قَوْلِهِ: رَبِّهِمْ؛ فَإِنَّ الضَّمِيرَ الْمُنْفَصِلَ الْمَنْصُوبَ أَكْمَلُ مِنْ ضَمِيرِ الْجَرِّ بِالْيَاءِ وَهُنَاكَ اسْمٌ ظَاهِرٌ فَتَقْوِيَتُهُ بِاللَّامِ أَوْلَى وَأَتَمُّ مِنْ تَجْرِيدِهِ؛ وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ: إنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ [يوسف:43]، وَيُقَالُ: عَبَرْت رُؤْيَاهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ [الشعراء:55] وَإِنَّمَا يُقَالُ: غِظْته لَا يُقَالُ: غِظْت لَهُ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ.
فَيقولُ الْقَائِلُ: مَا أَنْتَ بِمُصَدِّقِ لَنَا أُدْخِلَ فِيهِ اللَّامَ؛ لِكَوْنِهِ اسْمَ فَاعِلٍ وَإِلَّا فَإِنَّمَا يُقَالُ: صَدَّقْته، لَا يُقَالُ: صَدَّقْت لَهُ، وَلَوْ ذَكَرُوا الْفِعْلَ لَقَالُوا: مَا صَدَّقْتنَا وَهَذَا بِخِلَافِ لَفْظِ الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّهُ تَعَدَّى إلَى الضَّمِيرِ بِاللَّامِ دَائِمًا؛ لَا يُقَالُ: آمَنْته قَطُّ وَإِنَّمَا يُقَالُ: آمَنْت لَهُ كَمَا يُقَالُ: أَقْرَرْت لَهُ، فَكَانَ تَفْسِيرُهُ بِلَفْظِ الْإِقْرَارِ أَقْرَبَ مِنْ تَفْسِيرِهِ بِلَفْظِ التَّصْدِيقِ مَعَ أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقَا».
(الشرح)
المؤلف -رحمه الله- ذكر اعتراض وجوابه، وهذا الاعتراض وجوابه بحث علمي، إنما يفهمه طلبة العِلم.
خلاصة هذا الاعتراض وجوابه: أن المرجئة اعترضوا على قول المؤلف -رحمه الله- فيما سبق إن الإيمان والتصديق غير مترادفان، وأن التصديق يتعدى بنفسه أو بالباء فيقال: صدقته أو صدقت به، والإيمان يتعدى باللام فيقال: آمن له، ولا يقال: آمنه وآمن به.
اعترضوا، فقالوا: يوجد في بعض الأساليب أن التصديق يتعدى باللام، فيقال: «مَا أَنْتَ بِمُصَدِّقِ لَنَا»، كما يقال: ما أنت بمؤمنٍ لنا، فدل على أن الإيمان والتصديق مترادفان.
المؤلف -رحمه الله- أجاب عن هذا الاعتراض، قال: اللام إنما تدخل على التصديق إذا ضعُف عمله، وضعف عمله بأحد أمرين: إما تأخره، تأخر العامل عن المعمول، أو بكونه اسم فاعل أو مصدر أو باتباع الأمرين؛ فاللام إنما يتعدى التصديق باللام في حالة ضعف العمل، ويضعُف بأحد أمرين: إما كون الفاعل متأخر أو كونه اسم فاعل أو مصدر أو باتباع الأمرين.
فقال المؤلف -رحمه الله-: «فإنْ قِيلَ: فَقَدْ يُقَالُ: مَا أَنْتَ بِمُصَدِّقِ لَنَا. قِيلَ: اللَّامُ تَدْخُلُ عَلَى مَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ إذَا ضَعُفَ عَمَلُهُ» ثم بيَّن ضعْف العمل أنه يكون بأحد أمرين: «إمَّا بِتَأْخِيرِهِ أَوْ بِكَوْنِهِ اسْمَ فَاعِلٍ أَوْ مَصْدَرًا أَوْ بِاجْتِمَاعِهِمَا»، ثم مثَّل فقال: «فَيُقَالُ: فُلَانٌ يَعْبُدُ اللَّهَ وَيَخَافُهُ وَيَتَّقِيهِ»، هنا الفعل تعدى بنفسه؛ يعبد الله ويخافه ويتقيه. يخافه: الفعل تعدى إلى الهاء، ويتقيه، فإذا ذكرت باسم الفاعل ما يتعدى بنفسه؛ تأتي اللام، ثم إذا ذُكر اسم الفاعل قبل: هو عابد لربه، ما يقال: هو عابده، يقال: عابدٌ لربه، متقٍّ لربه، ما يقال: متقهِ، خائفٌ لربه، ما يقال: خائفه، لماذا؟ لأنه ضعُف العمل بكونه اسم فاعل، بكونه اسم فاعل أو بكونه مصدر أو باتباع الأمرين.
ومثله: يرهب؛ فلان يرهب الله. هنا تعدى بنفسه، لكن إذا جاء اسم فاعل يتعدى باللام، فتقول: هو راهبٌ لربه ولا تقول: هو راهبه، فاللام إنما دخلت بسبب ضعف العمل، لكونه اسم فاعل أو مصدر أو بكون الفعل متأخر.
يقول المؤلف -رحمه الله-: «وَإِذَا ذَكَرْت الْفِعْلَ وَأَخَّرْته تُقَوِّيهِ بِاللَّامِ» أيضًا، إذا تأخر الفعل عن المعمول فإنه يقوى باللام، مثال ذلك: قول الله تعالى: وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف:154]، لما تأخر يرهبون وهو الفعل عن قوله لِرَبِّهِمْ تعدى باللام، ولو تأخر لتعدى بنفسه. تقول مثلًا: للذين هم يرهبون الله، لكن لما تأخر الفعل جاءت اللام، قال: لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ، ومثله قوله تعالى: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ فعداه بنفسه هنا، يقول المؤلف: «فَعَدَّاهُ بِنَفْسِهِ، وَهُنَاكَ ذَكَرَ اللَّامَ فَإِنَّ هُنَا قَوْلَهُ: فَإِيَّايَ أَتَمُّ مِنْ قَوْلِهِ: فَلِي» يعني فلربهم، «وَقَوْلُهُ هُنَالِكَ لِرَبِّهِمْ أَتَمُّ مِنْ قَوْلِهِ: رَبِّهِمْ؛ فَإِنَّ الضَّمِيرَ الْمُنْفَصِلَ الْمَنْصُوبَ أَكْمَلُ مِنْ ضَمِيرِ الْجَرِّ بِالْيَاءِ وَهُنَاكَ اسْمٌ ظَاهِرٌ» ربهم «فَتَقْوِيَتُهُ بِاللَّامِ أَوْلَى وَأَتَمُّ مِنْ تَجْرِيدِهِ».
ومن أمثلة ذلك ومن نظائر ذلك أيضًا مثال آخر: قال المؤلف: «وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ: إنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ [يوسف:43]» فيقال: إن كنتم للرؤيا تعبرون، أتى باللام لأنه أخَّر الفعل تعبرون، ولو قدَّم الفعل لما احتاج إلى اللام، قال: لو قُدِّم الفعل، قال: إن كنتم تعبرون الرؤيا. فلمَّا تأخر الفعل وتقدم المفعول احتاج إلى اللام؛ لأن الفعل ضعُف بسبب تأخره، فقال: إن كنتم للرؤيا تعبرون.
يقول المؤلف: «وَيُقَالُ: عَبَرْت رُؤْيَاهُ» يعني إذا تقدَّم الفعل ما يحتاج للام، يقال: عَبَرت رؤياه، عبَرت الرؤيا، أما إذا تأخر الفعل للرؤيا تُعبِّر أو تعبُر، ومثله، المثال الثاني الذي مثَّل به المؤلف: {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55)} [الشعراء:55]، جاءت لنا بسبب تأخر الفعل وهو غائظ، غائظون، لكن لو تقدَّم الفعل ما احتاج إلى اللام؛ ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: «وَإِنَّمَا يُقَالُ: غِظْته لَا يُقَالُ: غِظْت لَهُ» إذا تقدَّم الفعل ما يحتاج اللام، يقال: غظته، لا يقال: غظت له، لكن إذا تأخر الفعل احتاج إلى اللام، {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55)} [الشعراء:55]، ومثله كثير.
يقول المؤلف -رحمه الله-، رجع المؤلف -رحمه الله-إلى الجواب على الاعتراض، فقال: «فَيقولُ الْقَائِلُ: مَا أَنْتَ بِمُصَدِّقِ لَنَا أُدْخِلَ فِيهِ اللَّامَ؛ لِكَوْنِهِ اسْمَ فَاعِلٍ» مصدِّق، واسم الفاعل ضعيف، أضعف من الفعل فلهذا احتاج إلى اللام.
قال: «وَإِلَّا فَإِنَّمَا يُقَالُ: صَدَّقْته» يعني لو كان الفعل ما احتاج إلى اللام، قال: صدَّقته، لكن لما جاء اسم الفاعل صار ضعيفًا فاحتاج إلى اللام فقال: بمصدق لنا. ولا يقال صدّقت له، ولو ذكروا الفعل لقالوا: ما صدّقتنا، لو ذُكر الفعل، لكن لما ذُكر اسم الفاعل فاحتاج اللام.
يقول المؤلف: «وَهَذَا بِخِلَافِ لَفْظِ الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّهُ تَعَدَّى إلَى الضَّمِيرِ بِاللَّامِ دَائِمًا» لفظ الإيمان يتعدى بالضمير دائمًا، فلا يقال آمنته فقط وإنما يقال: آمنت له كما يقال: أقررت له، بخلاف التصديق؛ فالتصديق إنما يتعدى باللام إذا ضعُف الفعل، أما إذا لم يضعُف الفعل بأن تقدَّم الفعل فإنه لا يحتاج إلى اللام، وأما الإيمان فإنه دائمًا يحتاج إلا اللام؛ آمنت له كما يقال أقررت له.
يقول المؤلف -رحمه الله-: تفسير الإيمان بالإقرار أقرب من تفسير الإيمان بالتصديق، مع أن بين الإقرار والإيمان فرق، لكن تفسير الإيمان بالإقرار أقرب من تفسيره بالتصديق وإن كان بينهما فرقا؛ ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: «فَكَانَ تَفْسِيرُهُ» يعني الإيمان «بِلَفْظِ الْإِقْرَارِ أَقْرَبَ مِنْ تَفْسِيرِهِ بِلَفْظِ التَّصْدِيقِ مَعَ أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقَا».
(المتن)
«الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادِفًا لِلَفْظِ التَّصْدِيقِ فِي الْمَعْنَى؛ فَإِنَّ كُلَّ مُخْبِرٍ عَنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ غَيْبٍ يُقَالُ لَهُ فِي اللُّغَةِ: صَدَقْت كَمَا يُقَالُ: كَذَبْت.
فَمَنْ قَالَ: السَّمَاءُ فَوْقَنَا قِيلَ لَهُ: صَدَقَ كَمَا يُقَالُ: كَذَبَ، وَأَمَّا لَفْظُ الْإِيمَانِ فَلَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الْخَبَرِ عَنْ غَائِبٍ لَمْ يُوجَدْ فِي الْكَلَامِ أَنَّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ؛ كَقَوْلِهِ: طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ أَنَّهُ يُقَالُ: آمَنَّاهُ كَمَا يُقَالُ: صَدَّقْنَاهُ؛ وَلِهَذَا الْمُحَدِّثُونَ وَالشُّهُودُ وَنَحْوُهُمْ؛ يُقَالُ: صَدَّقْنَاهُمْ، وَمَا يُقَالُ آمَنَّا لَهُمْ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْأَمْنِ.
فَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي خَبَرٍ يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ الْمُخْبِرُ كَالْأَمْرِ الْغَائِبِ الَّذِي يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ الْمُخْبِرُ.
وَلِهَذَا لَمْ يُوجَدْ قَطُّ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ لَفْظُ آمَنَ لَهُ إلَّا فِي هَذَا النَّوْعِ؛ وَالِاثْنَانِ إذَا اشْتَرَكَا فِي مَعْرِفَةِ الشَّيْءِ يُقَالُ: صَدَّقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَلَا يُقَالُ: آمَنَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَائِبًا عَنْهُ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهِ.
وَلِهَذَا قَالَ: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت:26]، أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا [المؤمنون:47]، آمَنْتُمْ لَهُ [الشعراء:49] ، يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [التوبة:61] فَيُصَدِّقُهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ مِمَّا غَابَ عَنْهُ وَهُوَ مَأْمُونٌ عِنْدَهُ عَلَى ذَلِكَ؛ فَاللَّفْظُ مُتَضَمِّنٌ مَعَنى التَّصْدِيقِ وَمَعْنَى الِائْتِمَانِ وَالْأَمَانَةِ؛ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْتِعْمَالُ وَالِاشْتِقَاقُ.
وَلِهَذَا قَالُوا: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا [يوسف:17] أَيْ: لَا تُقِرُّ بِخَبَرِنَا وَلَا تَثِقُ بِهِ وَلَا تَطْمَئِنُّ إلَيْهِ وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عِنْدَهُ مِمَّنْ يُؤْتَمَنُ عَلَى ذَلِكَ. فَلَوْ صَدَقُوا لَمْ يَأْمَنْ لَهُمْ».
(الشرح)
المؤلف -رحمه الله- أجاب بجوابٍ آخر في الرد على المرجئة الذين قالوا: إن الإيمان والتصديق مترادفان.
يقول المؤلف -رحمه الله-ليس مترادفين، قال: «الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادِفًا لِلَفْظِ التَّصْدِيقِ فِي الْمَعْنَى» فقولكم إن الإيمان والتصديق مترادفان في المعنى، يقول المؤلف: هذا ليس بصحيح. بيان ذلك: أن المخبِر إذا أخبرك عن شيء مشاهَد أو عن شيءٍ غائب تقول له: صدقت، ولا تقول له: آمنت إلا إذا كان في شيء غائب؛ فالخبر إذا كان عن غائبٍ أو شاهد يقال له: صدقت، ولا يقال له: آمنت، إلا إذا كان الخبر غائبًا، يُخبر عن شيء غائب، فدل على أنهما ليسا مترادفين، وإذا كانا غير مترادفين بطل قولكم: إن الإيمان هو التصديق؛ بل الإيمان يكون بالتصديق ويكون بالمتابعة ويكون بالأفعال وبالأقوال.
ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: «فَإِنَّ كُلَّ مُخْبِرٍ عَنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ غَيْبٍ يُقَالُ لَهُ فِي اللُّغَةِ: صَدَقْت كَمَا يُقَالُ: كَذَبْت. فَمَنْ قَالَ: السَّمَاءُ فَوْقَنَا قِيلَ لَهُ: صَدَقَ» وإذا قال السماء تحتنا يقال له كذبت، يقال: التصديق والتكذيب، «وَأَمَّا لَفْظُ الْإِيمَانِ فَلَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الْخَبَرِ عَنْ غَائِبٍ لَمْ يُوجَدْ فِي الْكَلَامِ أَنَّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ؛ كَقَوْلِهِ: طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ أَنَّهُ يُقَالُ: آمَنَّاهُ كَمَا يُقَالُ: صَدَّقْنَاهُ»، فدل على الفرق بينهما، فمَن أخبر عن غائب فإنه يقال: آمناه ولا يقال: صدقناه. ومَن أخبر عن مشاهد أو غائب يقال: صدقناه، فمَن قال: الشمس طلعت، هذا مشاهَد؛ الشمس مشاهدة، يقال: صدقناه ولا يقال آمناه؛ لأنها مشاهدة، فدل على الفرق بين التصديق والتكذيب.
يقول المؤلف -رحمه الله-: «وَلِهَذَا؛ الْمُحَدِّثُونَ وَالشُّهُودُ وَنَحْوُهُمْ؛ يُقَالُ: صَدَّقْنَاهُمْ؛ وَمَا يُقَالُ آمَنَّا لَهُم»؛ لأنهم حاضرون، يقول المؤلف: «فَإِنَّ الْإِيمَانَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْأَمْنِ. فَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي خَبَرٍ يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ الْمُخْبِرُ كَالْأَمْرِ الْغَائِبِ»، الإيمان مشتقٌّ من الأمن ويُستعمل في خبر غائب يؤتمن عليه المخبر([18])، «كَالْأَمْرِ الْغَائِبِ الَّذِي يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ الْمُخْبِرُ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُوجَدْ قَطُّ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ لَفْظُ آمَنَ لَهُ إلَّا فِي هَذَا النَّوْعِ»؛ لا يوجد في القرآن وغيره يقال: آمن له إلا في شيءٍ غائب.
«وَالِاثْنَانِ إذَا اشْتَرَكَا فِي مَعْرِفَةِ الشَّيْءِ يُقَالُ: صَدَّقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَلَا يُقَالُ: آمَنَ لَهُ» إذا اشترك في معرفة شيء، يعني اشترك اثنان في معرفة شيء يقال: صدَّق أحدهما صاحبه، لأنه يعرف، شيء مشاهَد، يعرف ما عنده، ولا يقال: آمن له. فدل على الفرق بين التصديق والإيمان؛ «لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَائِبًا عَنْهُ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهِ».
ولهذا استشهد المؤلف بالآيات: «وَلِهَذَا قَالَ: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت:26]» ولا يقال: صدَّقه؛ لأنه آمن عن شيء غائب وأُخبروا به عن الله.
«أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا [المؤمنون:47]» يعني: نصدِّقهما في الأخبار الغائبة، ثم قال: «آمَنْتُمْ لَهُ [الشعراء:49]» ولم يقل: به، قال: «يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [التوبة:61]» ولم يقل: بالمؤمنين؛ لأنه خبرٌ عن شيءٍ غائب، «فَيُصَدِّقُهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ مِمَّا غَابَ عَنْهُ وَهُوَ مَأْمُونٌ عِنْدَهُ عَلَى ذَلِكَ؛ فَاللَّفْظُ» يعني لفظ الإيمان «مُتَضَمِّنٌ مَعَنى التَّصْدِيقِ وَمَعْنَى الِائْتِمَانِ وَالْأَمَانَةِ» لفظ الإيمان أوسع من لفظ التصديق؛ متضمنٌ معنى التصديق، ومتضمنٌ معنى الائتمان والأمانة([19]).
«كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْتِعْمَالُ وَالِاشْتِقَاقُ» يعني استعمال العرب واشتقاق الأمن من الإيمان، «وَلِهَذَا قَالُوا: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا [يوسف:17]»، يعني: إخوة يوسف، قالوا وما أنت بمؤمن لنا، ولم يقولوا: وما أنت بمصدق لنا، «وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا [يوسف:17]أَيْ: لَا تُقِرُّ بِخَبَرِنَا وَلَا تَثِقُ بِهِ وَلَا تَطْمَئِنُّ إلَيْهِ وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ»؛ لأنه شيء غائب، ما يدري، هو أخبروه قالوا: أكله الذئب، هذا شيء غائب، فقالوا: وما أنت بمؤمن لنا ولم يقولوا: بمصدق؛ إنما التصديق يُقال في الشيء الحاضر، فقالوا: «وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا [يوسف:17]أَيْ: لَا تُقِرُّ بِخَبَرِنَا وَلَا تَثِقُ بِهِ وَلَا تَطْمَئِنُّ إلَيْهِ وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ» لماذا؟ «لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عِنْدَهُ مِمَّنْ يُؤْتَمَنُ عَلَى ذَلِكَ. فَلَوْ صَدَقُوا لَمْ يَأْمَنْ لَهُمْ».
(المتن)
«الثَّالِثُ: أَنَّ لَفْظَ الْإِيمَانِ فِي اللُّغَةِ لَمْ يُقَابَلْ بِالتَّكْذِيبِ كَلَفْظِ التَّصْدِيقِ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ فِي اللُّغَةِ أَنَّ كُلَّ مُخْبِرٍ يُقَالُ لَهُ: صَدَقْت أَوْ كَذَبْت وَيُقَالُ: صَدَّقْنَاهُ أَوْ كَذَّبْنَاهُ، وَلَا يُقَالُ لِكُلِّ مُخْبِرٍ: آمَنَّا لَهُ أَوْ كَذَّبْنَاهُ؛ وَلَا يُقَالُ: أَنْتَ مُؤْمِنٌ لَهُ أَوْ مُكَذِّبٌ لَهُ؛ بَلْ الْمَعْرُوفُ فِي مُقَابَلَةِ الْإِيمَانِ لَفْظُ الْكُفْرِ.
يُقَالُ: هُوَ مُؤْمِنٌ أَوْ كَافِرٌ، وَالْكُفْرُ لَا يَخْتَصُّ بِالتَّكْذِيبِ؛ بَلْ لَوْ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ إنَّك صَادِقٌ لَكِنْ لَا أَتَّبِعُك بَلْ أُعَادِيك وَأُبْغِضُك وَأُخَالِفُك وَلَا أُوَافِقُك لَكَانَ كُفْرُهُ أَعْظَمَ.
فَلَمَّا كَانَ الْكُفْرُ الْمُقَابِلُ لِلْإِيمَانِ لَيْسَ هُوَ التَّكْذِيبُ فَقَطْ، عُلِمَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ هُوَ التَّصْدِيقُ فَقَطْ؛ بَلْ إذَا كَانَ الْكُفْرُ يَكُونُ تَكْذِيبًا وَيَكُونُ مُخَالَفَةً وَمُعَادَاةً وَامْتِنَاعًا بِلَا تَكْذِيبٍ.
فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ تَصْدِيقًا مَعَ مُوَافَقَةٍ وَمُوَالَاةٍ وَانْقِيَادٍ لَا يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ؛ فَيَكُونُ الْإِسْلَامُ جُزْءَ مُسَمَّى الْإِيمَانِ كَمَا كَانَ الِامْتِنَاعُ مِنْ الِانْقِيَادِ مَعَ التَّصْدِيقِ جُزْءَ مُسَمَّى الْكُفْرِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمًا مُنْقَادًا لِلْأَمْرِ وَهَذَا هُوَ الْعَمَل».
(الشرح)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: -
فإن المؤلف -رحمه الله-شيخ الإسلام ابن تيمية يناقش المرجئة الذين يزعمون أن الإيمان هو مجرد التصديق، ويحتجون بقول الله تعالى عن إخوة يوسف: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا [يوسف:17] أي: بمصدق لنا. ويقولون: إن الإيمان هو التصديق وهو خاصٌّ بالقلب وباللسان أو بالقلب فقط.
سبق أن المؤلف -رحمه الله-ناقشهم فيه، وأجاب عن شبهتهم بجوابٍ عام ثم أجاب بأجوبةٍ خاصة؛ منها: أن لفظ الإيمان ليس مرادفًا للفظ التصديق. والجواب الثاني: أن لفظ التصديق ليس مرادفًا للفظ الإيمان في المعنى.
الأول: أن التصديق ليس مرادفًا للإيمان في اللفظ.
والثاني: أنه ليس مرادفًا له في المعنى.
وهذا هو الجواب الثالث، قال -رحمه الله-: «الثَّالِثُ: أَنَّ لَفْظَ الْإِيمَانِ فِي اللُّغَةِ لَمْ يُقَابَلْ بِالتَّكْذِيبِ كَلَفْظِ التَّصْدِيقِ».
يعني الجواب يبيِّن المؤلف -رحمه الله-أن لفظ الإيمان لا يُقابَل بالتكذيب كما أن لفظ التصديق يقابَل بالتكذيب والإيمان لا يقابل بالتصديق؛ بل يُقابَل بالكفر، فدل على أن الإيمان والتصديق ليسا مترادفين، فقال -رحمه الله-: «الثَّالِثُ: أَنَّ لَفْظَ الْإِيمَانِ فِي اللُّغَةِ لَمْ يُقَابَلْ بِالتَّكْذِيبِ كَلَفْظِ التَّصْدِيقِ؛ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ فِي اللُّغَةِ أَنَّ كُلَّ مُخْبِرٍ يُقَالُ لَهُ: صَدَقْت أَوْ كَذَبْت وَيُقَالُ: صَدَّقْنَاهُ أَوْ كَذَّبْنَاهُ وَلَا يُقَالُ لِكُلِّ مُخْبِرٍ: آمَنَّا لَهُ أَوْ كَذَّبْنَاهُ؛ وَلَا يُقَالُ أَنْتَ مُؤْمِنٌ لَهُ أَوْ مُكَذِّبٌ لَهُ؛ بَلْ الْمَعْرُوفُ فِي مُقَابَلَةِ الْإِيمَانِ لَفْظُ الْكُفْرِ. يُقَالُ: هُوَ مُؤْمِنٌ أَوْ كَافِر».
فالمؤلف -رحمه الله-بيَّن أن لفظ الإيمان ولفظ التصديق مختلفين؛ فلفظ التصديق يُقابَل بالتكذيب، فيقال لكل مخبر: «صَدَقْت أَوْ كَذَبْت وَيُقَالُ: صَدَّقْنَاهُ أَوْ كَذَّبْنَاهُ، وَلَا يُقَالُ لِكُلِّ مُخْبِرٍ: آمَنَّا لَهُ أَوْ كَذَّبْنَاهُ؛ وَلَا يُقَالُ: أَنْتَ مُؤْمِنٌ لَهُ أَوْ مُكَذِّبٌ لَهُ؛ بَلْ الْمَعْرُوفُ فِي مُقَابَلَةِ الْإِيمَانِ لَفْظُ الْكُفْرِ» فإذًا لفظ التصديق يُقابَل بالتكذيب ولفظ الإيمان يُقابَل بالكفر، فيقال: هو مؤمنٌ أو كافر، والكفر ليس خاصًّا بالتكذيب؛ بل قد يكون الكفر بالتكذيب، وقد يكون الكفر بالمعاداة، وقد يكون الكفر بالامتناع والإباء والاستكبار، فدل هذا على أن الإيمان والتصديق ليسا مترادفين كما تدعيه المرجئة.
ولهذا بيَّن المؤلف -رحمه الله-فقال: «بَلْ الْمَعْرُوفُ فِي مُقَابَلَةِ الْإِيمَانِ لَفْظُ الْكُفْرِ. يُقَالُ: هُوَ مُؤْمِنٌ أَوْ كَافِرٌ، وَالْكُفْرُ لَا يَخْتَصُّ بِالتَّكْذِيبِ؛ بَلْ لَوْ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ إنَّك صَادِقٌ لَكِنْ لَا أَتَّبِعُك بَلْ أُعَادِيك وَأُبْغِضُك وَأُخَالِفُك وَلَا أُوَافِقُك لَكَانَ كُفْرُهُ أَعْظَمَ».
فإذًا إذا كذَّب يكون كافراً، وإذا لم يكذِّب؛ صدَّق ولكن عاداه وخالفه يكون أيضًا كافراً، فدل أن لفظ التصديق ولفظ الإيمان ليسا مترادفين، بينهما فرق؛ هذا يقال التصديق يُقابَل بالتكذيب والإيمان يُقابَل بالكفر، والكفر يكون بالتكذيب ويكون بغير التكذيب؛ يكون بالمعاداة، بمعاداته، ويكون بالإباء والاستكبار([20]).
ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: «بَلْ إذَا كَانَ الْكُفْرُ يَكُونُ تَكْذِيبًا وَيَكُونُ مُخَالَفَةً وَمُعَادَاةً وَامْتِنَاعًا بِلَا تَكْذِيب؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ تَصْدِيقًا مَعَ مُوَافَقَةٍ وَمُوَالَاةٍ وَانْقِيَادٍ»؛ لأن الكفر يكون بالتكذيب ويكون معه مخالفة ومعاداة وامتناع، فلا بُدَّ أن يكون الإيمان -وهو مُقابله- تصديق مع موافقةٍ وموالاةٍ وانقياد.
فدل على أنه لا يكفيه في مسمى الإيمان التصديق فقط؛ بل لابد أن يكون معه موافقة وموالاة وانقياد، لا يكفي مجرد التصديق، فيكون الإسلام جزء مسمى الإيمان، يعني يكون الإسلام جزءٌ من الإيمان؛ لأن الإسلام هو العمل والإيمان هو التصديق فيكون الإسلام جزءٌ من الإيمان، ويكون الإيمان أوسع -أوسع دائرة-؛ فالعاصي الذي يفعل بعض المحرمات ويترك بعض الواجبات يسمى مسلما ولا يسمى مؤمنا، والذي يؤدي ما أوجب الله عليه ويمتنع عن ما حرم الله عليه يسمى مؤمنا، فدل على أن الإيمان أوسع؛ فالإسلام جزءٌ من الإيمان، جزءٌ من مسماه، كما كان الامتناع عن الانقياد مع التصديق جزء من مسمى الكفر، يعني الكفر يكون تكذيبًا ويكون امتناعًا وإباءً واستكبارًا؛ فيكون تكذيب جزء من مسمى الكفر.
يقول المؤلف -رحمه الله-: «كَمَا كَانَ الِامْتِنَاعُ مِنْ الِانْقِيَادِ مَعَ التَّصْدِيقِ جُزْءَ مُسَمَّى الْكُفْرِ» يعني إذا صدَّق ولكن امتنع فإنه يكون كافرًا، «فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمًا مُنْقَادًا لِلْأَمْرِ وَهَذَا هُوَ الْعَمَل»، يعني أن الامتناع من الانقياد للرسول ﷺ ولو كان مصدِّقًا، جزء من مسمى الكفر، وإذا كذَّب هذا جزءٌ آخر؛ فإذا كذَّب وامتنع من الانقياد كان كافرًا، وإذا امتنع من الانقياد وصدَّق يكون كافرًا.
فالأول حصل على جزأين من الكفر، حصل على نوعين من الكفر؛ التكذيب كفر والامتناع كفر. وإذا كذَّب يكون كافرًا، وإذا صدَّق وامتنع يكون كافرًا، فكون الامتناع من الانقياد مع التصديق جزء من مسمى الكفر، فيجب أن يكون مقابله، وهو الإيمان مكون من جزءان أو نوعان:
• النوع الأول: أن يكون مؤمنًا مصدقًا.
• والنوع الثاني: أن يكون مُسَلِّمًا منقادًا للأمر.
يعني: فكما أن الكفر يكون مع الامتناع من الانقياد ويكون الامتناع من الانقياد مع التصديق جزء من مسمى الكفر، فكذلك ما يقابله وهو الإيمان يكون مكونًا من شيئين: الشيء الأول: أن يكون مؤمنًا مُسْلِمًا. والشيء الثاني: أن يكون منقادًا للأمر وهذا هو العمل، فدل على دخول الأعمال في مسمى الإيمان، وبهذا يبطل دعوى المرجئة في قولهم: إن الإيمان هو التصديق بدون الأعمال.
القارئ: ...
الشيخ: نعم، إبليس هو مصدِّق، لكنه ما انقاد للأمر، فكفره بالإباء والاستكبار كما قال الله تعالى عنه: وإذ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة: 34]، فكان كفره بالإباء والاستكبار مع كونه مصدِّق.
وفرعون كذلك كفره بالإباء والاستكبار؛ قال الله تعالى عن فرعون: فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون:47]، البشران: موسى وهارون. هو مصدَّق، يقول: كيف نؤمن ببشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون؟!
فكفره بالإباء والاستكبار، وهذا كُفره كثير، كثير من الكفرة واليهود كفرهم بالإباء والاستكبار وهم يعرفون صدْق الرسول -عليه الصلاة والسلام-؛ قال الله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 146].
أبو طالب عم النبي ﷺ كفره بالإباء والاستكبار، وهو عالم صِدق الرسول -عليه الصلاة والسلام-؛ ولهذا قال في قصيدته المشهورة: «ولقد علمتُ»؛ العِلم إنما يكون بالقلب.
ولقد علمتُ بأنَّ دِين محمدٍ | من خيرِ أديانِ البريَّة ِ دِينًا |
لولا المَلامة أو حِذاري سُبَّةٍ | لوجَدْتني سَمحًا بذاك مُبِينا |
فكان أبو طالب مُصدِّقًا ولكن كُفْرَه إنما هو بالإباء والاستكبار، فكان مُستكبِر عن عبادة الله واتباع رسوله ﷺ؛ ولهذا كان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، لما دعاه النبي ﷺ إلى الإيمان، قال: أَيْ عَمِّ، قُلْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ([21]) وعنده أبو جهل وأمية، فذكرا الحُجَّة الملعونة؛ وهي اتباع الآباء والأجداد فيما هم عليه، قالا: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فذكَّره النبي ﷺ، أعاد عليه النبي ﷺ ثم أعاد، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فكان كفره بالإباء والاستكبار؛ الاستكبار عن عبادة الله واتباع رسوله وإن كان مصدقًا يَعْلَم صِدق الرسول عليه الصلاة والسلام.
القارئ: وما صورة هذا فضيلة الشيخ في أيامنا هذه؟ هل ينطبق على..؟[57:10]
الشيخ: نعم، ينطبق في كل زمانٍ ومكان؛ كل مَن أبى واستكبر عن عبادة الله فهو كافر، مَن أبى واستكبر ولم ينقد لشرع الله ودينه وإن كان عارفًا بالإسلام، وكان مصدقًا بقلبه، فإذا لم يَنْقَد لشرع الله ودينه ولم يكن عنده محبة لله ورسوله في القلب التي تدفعه إلى العمل فإنه يكون كافرًا؛ التصديق المجرد لا يكفي، التصديق المجرد بالقلب هذا هو تصديق إبليس وفرعون، لا بُدَّ أن يكون مع التصديق حركة، حركة في القلب وهي المحبة، وهذه الحركة والمحبة تدفع الإنسان إلى العمل. إذًا فالعمل لازم، لازم للإيمان، فلا يمكن أن يكون هناك إيمان إلا بعمل؛ عمل القلب وهو الحركة وهو المحبة، فإذا فقد العمل وهي الحركة التي في القلب فإنه لا يعمل، وحينئذٍ يكون تصديقٌ مجرد؛ والتصديق مجرد يعسُر الفرق بينه وبين المعرفة كما أقر شيخ الإسلام ابن تيمية.
والمعرفة والتصديق المجرد مترادفان، وهذا هو تصديق إبليس وتصديق فرعون؛ تصديقٌ مجرد فليس معه عملٌ بالقلب ولا عملٌ بالجوارح، فكما سبق أن التصديق لا بُدَّ له من عمل يتحقق به وإلا صار تصديق كإيمان إبليس وفرعون. والعمل لا بُدَّ له من إيمان يصححه؛ وإلا صار كإسلام المنافقين؛ فالمنافقون يعملون بجوارحهم، يصلون ويصومون ويجاهدون لكن ليس معهم إيمان يصحح هذا العمل، ثبط فصار نفاق، وإبليس وفرعون مصدِّقان بقلوبهم ولكن لم يتحقق هذا الإيمان بعمل، فصارا مستكبرين عن عبادة الله، فصارا كافرين، فالتصديق لا بُدَّ له من عملٍ يتحقق به؛ وإلا صار كإيمان إبليس وفرعون، والعمل لا بُدَّ له من إيمان يصححه؛ وإلا صار كإسلام المنافقين وكعمل المنافقين، فهما أمران متلازمان لا بُدَّ لهما من تصديق وعمل([22]).
(المتن)
«فَإِنْ قِيلَ: فَالرَّسُولُ ﷺ فَسَّرَ الْإِيمَانَ بِمَا يُؤْمَنُ بِهِ. قِيلَ: فَالرَّسُولُ ذَكَرَ مَا يُؤْمَنُ بِهِ لَمْ يَذْكُرْ مَا يُؤْمَنُ لَهُ وَهُوَ نَفْسُهُ يَجِبُ أَنْ يُؤْمَنَ بِهِ وَيُؤْمَنَ لَهُ؛ فَالْإِيمَانُ بِهِ مِنْ حَيْثُ ثُبُوتُهُ غَيْبٌ عَنَّا أُخْبِرْنَا بِهِ وَلَيْسَ كُلُّ غَيْبٍ آمَنَّا بِهِ عَلَيْنَا أَنْ نُطِيعَهُ.
وَأَمَّا مَا يَجِبُ مِنْ الْإِيمَانِ لَهُ فَهُوَ الَّذِي يُوجِبُ طَاعَتَهُ، وَالرَّسُولُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ وَلَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ هَذَا، وَأَيْضًا فَإِنَّ طَاعَتَهُ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَطَاعَةُ اللَّهِ مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ بِهِ».
(الشرح)
هذا اعتراض وجوابه؛ الاعتراض من المرجئة، اعترضوا على الشيخ -رحمه الله-، فقالوا: الرسول ﷺ فسر الإيمان بما يؤمن به.
والجواب يقول المؤلف -رحمه الله-: «فَإِنْ قِيلَ: فَالرَّسُولُ ﷺ فَسَّرَ الْإِيمَانَ بِمَا يُؤْمِنُ بِهِ، قِيلَ: فَالرَّسُولُ ذَكَرَ مَا يُؤْمَنُ بِهِ لَمْ يَذْكُرْ مَا يُؤْمَنُ لَهُ وَهُوَ نَفْسُهُ يَجِبُ أَنْ يُؤْمَنَ بِهِ وَيُؤْمَنَ لَه»، يعني الرسول ﷺ، ذكر الأمرين: ما يؤمن به وما يؤمن له، فهو يجب أن يؤمن به -عليه الصلاة والسلام-ويجب أن يؤمن له، فيؤمن به ويصدق بأنه رسول الله حقًّا، ويؤمن له بمعنى أنه يتبع وينقاد له، فإنه يجب على الإنسان أن يتبع وينقاد لشرع الله ودينه، فيأتمر للأوامر ويجتنب النواهي.
قال المؤلف -رحمه الله-: «فَالْإِيمَانُ بِهِ مِنْ حَيْثُ ثُبُوتُهُ غَيْبٌ عَنَّا أُخْبِرْنَا بِهِ، وَلَيْسَ كُلُّ غَيْبٍ آمَنَّا بِهِ عَلَيْنَا أَنْ نُطِيعَهُ»، وأما الإيمان فإنه لا بُدَّ فيه من الأمرين: لا بُدَّ أن تُصدِّق، ولا بُدَّ أن تطيع؛ تصديقٌ وطاعة، لا بُد من الأمرين: تصدق الرسول ﷺ وتطيعه في أوامره ونواهيه([23]).
ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: «فَالْإِيمَانُ بِهِ مِنْ حَيْثُ ثُبُوتُهُ غَيْبٌ عَنَّا أُخْبِرْنَا بِهِ وَلَيْسَ كُلُّ غَيْبٍ آمَنَّا بِهِ عَلَيْنَا أَنْ نُطِيعَهُ، وَأَمَّا مَا يَجِبُ مِنْ الْإِيمَانِ لَهُ فَهُوَ الَّذِي يُوجِبُ طَاعَتَهُ»، الرسول ﷺ يجب الإيمان به ويجب الإيمان له، فالإيمان به هو تصديقه والإيمان له هو طاعته بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، لا بُد من الأمرين؛ فالإيمان مكون من هذين الأمرين: إيمانٌ به وإيمانٌ له. إيمانٌ به: هذا التصديق، وإيمانٌ له: هذا هو الطاعة، والطاعة هي امتثال الأمر واجتناب النهي.
ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: «وَأَمَّا مَا يَجِبُ مِنْ الْإِيمَانِ لَهُ فَهُوَ الَّذِي يُوجِبُ طَاعَتَهُ، وَالرَّسُولُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ وَلَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ هَذَا»، فبطل بهذا اعتراض المرجئة في قولهم: إن الرسول فسَّر الإيمان بما يؤمَن به. فيقال: فسَّر بما يؤمَن به وبما يؤمَن له، فأنتم ذكرتم الجزء الأول وتركتم الجزء الثاني؛ ذكرتم ما يؤمَن به وهو التصديق، وتركتم ما يؤمَن له وهو الطاعة؛ ولهذا قال المؤلف: «فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ هَذَا».
ثم قال المؤلف -رحمه الله-: «وَأَيْضًا فَإِنَّ طَاعَتَهُ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَطَاعَةُ اللَّهِ مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ بِهِ» يعني: هنا أمر آخر، وهو أن طاعة الرسول -عليه الصلاة والسلام -طاعةٌ لله، وطاعة الله من تمام الإيمان بالرسول -عليه الصلاة والسلام-، كما قال الله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [النساء:80].
(المتن)
(الشرح)
هذا الجواب الرابع، أو الرد الرابع على قول المرجئة: إن الإيمان هو التصديق، وأنهما مترادفان، والتصديق يقابله التكذيب فينبغي أن الإيمان كذلك، أن الكفر لا يكون إلا بالتكذيب.
يقول المؤلف -رحمه الله-: «الرَّابِعُ: أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: الْإِيمَانُ أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مِنْ الْأَمْنِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْخَوْفِ؛ فَآمَنَ أَيْ صَارَ دَاخِلًا فِي الْأَمْنِ» يعني أن هناك فرقاً بين الإيمان وبين التصديق؛ فالتصديق أصله في اللغة من الصدق وهو ضد الكذب.
وأما الإيمان أصله في اللغة: من الأمن الذي هو ضد الخوف، فآمن له أي: صار داخلًا في الأمن، فافترقا([25]).
فالتصديق ضد التكذيب، التصديق: يصدَّق أو يصدِّق إذا صدَّقه في خبره ولم يكذِّبه، بخلاف الأمن؛ فإنَّ اشتقاقه من الأمن الذي هو ضد الخوف، فآمن له أي: صار داخلًا في الأمن.
قال المؤلف -رحمه الله-: «وَأَنْشَدُوا» كأن هذا سقْطٌ، سقطَ من النسخة؛ إنشاد البيت، يعني كأن المؤلف -رحمه الله-استشهد ببيت لكنه سقطَ من النُّسَخِ.
(المتن)
«وأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ فَيُقَالُ: إنَّهُ إذَا فُرِضَ أَنَّهُ مُرَادِفٌ لِلتَّصْدِيقِ فَقَوْلُهُمْ: إنَّ التَّصْدِيقَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْقَلْبِ أَوْ اللِّسَانِ؛ عَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ؛ بَلْ الْأَفْعَالُ تُسَمَّى تَصْدِيقًا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ؛ وَالْأُذُنُ تَزْنِي وَزِنَاهَا السَّمْعُ؛ وَالْيَدُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْبَطْشُ؛ وَالرِّجْلُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْمَشْيُ؛ وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى ذَلِكَ وَيَشْتَهِي؛ وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ.
وَكَذَلِكَ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَطَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالصِّدِّيقُ مِثَالُ الْفِسِّيقِ: الدَّائِمُ التَّصْدِيقَ. وَيَكُونُ الَّذِي يَصْدُقُ قَوْلُهُ بِالْعَمَلِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي وَلَكِنَّهُ مَا وَقَرَ فِي الْقُلُوبِ وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ وَهَذَا مَشْهُورٌ عَنْ الْحَسَنِ يُرْوَى عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ كَمَا رَوَاهُ عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ؛ حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ النَّاجِي عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي؛ وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ.
مَنْ قَالَ حَسَنًا وَعَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ، وَمَنْ قَالَ حَسَنًا وَعَمِلَ صَالِحًا رَفَعَهُ الْعَمَلُ؛ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10] وَرَوَاهُ ابْنُ بَطَّةَ مِنْ الْوَجْهَيْنِ».
(الشرح)
نعم، المؤلف -رحمه الله-هنا يجيب على المقدمة الثانية من مقدمتي المرجئة الذين يزعمون أن الإيمان هو مجرد التصديق، وأن الإيمان والتصديق مترادفان، فإذا كان الإيمان هو التصديق يقابله الكفر بالتكذيب، فكذلك الإيمان لا يكون إلا بالتكذيب، وهذا باطل.
والمقدمة الثانية، قوله: إن التصديق يكون بالقلب واللسان أو بالقلب، فتكون الأعمال ليست داخلةً في مسمى الإيمان.
يقول المؤلف -رحمه الله-: قولكم إن الإيمان مرادفٌ للتصديق، يقول: لو سلمنا جدلًا أن الإيمان مرادفٌ للتصديق فإنه يجاب عن ذلك بجوابين؛ ولهذا قال المؤلف «وأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ فَيُقَالُ: إنَّهُ إذَا فُرِضَ أَنَّهُ مُرَادِفٌ لِلتَّصْدِيقِ» إذا فرض جدلاً أن الإيمان مرادفٌ للتصديق، والفرض هنا بمعنى: التسليم، والتسليم يُسلَّم من جهة ليرد عليه من جهة أخرى.
وهذه الطريقة في الحوار والإجابة أنه يُجاب عن المعترض بأجوبةٍ عدة، منها: الجواب بالتسليم وهو جواب الفرض الجدلي، يُسلَّم من جهة ليرد عليه من جهة أخرى، كالفارس الذي يوهم العدو أنه هرب وأنه فرَّ حتى يخرج من مكمنه فإذا خرج من مكمنه كرَّ عليه فقتله، فكذلك الجواب بالتسليم، تُسلِّم من جهة لترد من جهة أخرى، فتُسلِّم للخصم من جهة لتصفعه من جهة أخرى، فالمؤلف -رحمه الله- يقول: سلَّمنا أن الإيمان هو التصديق، لكن نرد عليكم من جهة أخرى، فيقال: أنه إذا فُرض أنه مرادفٌ للتصديق، فقولكم: إن التصديق لا يكون إلا بالقول أو اللسان عنه جوابان:
o الجواب الأول: جوابٌ بالمنع.
o والجواب الثاني: جوابٌ بالتسليم أيضًا.
الجواب عنه بجوابين؛ جوابٌ بالمنع، وجوابٌ بالتسليم سيأتي بعد مسافة من الكلام. فالجواب الأول أن نقول: نمنع أن يكون التصديق لا يكون إلا بالقلب واللسان؛ بل يكون التصديق بالقلب وباللسان وبالأفعال([26]).
الدليل على ذلك: ما ثبت في الصحيح؛ بل في الصحيحين، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ؛ وَالْأُذُنُ تَزْنِي وَزِنَاهَا السَّمْعُ؛ وَالْيَدُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْبَطْشُ؛ وَالرِّجْلُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْمَشْيُ وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى ذَلِكَ وَيَشْتَهِي؛ وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ([27])، فالنبي ﷺ في هذا الحديث سمَّى أعمال الجوارح تصديق؛ فقال: العين تزني وزناها النظر، أليس هذا فعل؟ هذا فعل، ومع ذلك سمى ما تنظره العينان زنا، وسمى ما تسمعه الأذن زنا، وسمى ما تعمله اليد زنا، وسمى ما تعمله الرِّجل زنا، وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى ذَلِكَ وَيَشْتَهِي ثم قال في آخر الحديث: وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ سمى تصديق وتكذيب؛ فالفرج يصدِّق ذلك، العين تزني والأذن واليد والرِّجل، لكن الفرج يصدِّق ذلك، فإذا فعل الزنا بالفرج صدَّق ذلك، وإذا لم يفعل كذَّب ذلك، فسمى الأفعال تصديقًا وتكذيبًا، فبطل قولكم: إن التصديق لا يكون بالأعمال؛ وإنما يكون بالقلب أو بالقلب واللسان.
يقول المؤلف -رحمه الله-: «وَكَذَلِك» وكذلك نرد عليكم من جهة اللغة؛ فأهل اللغة وطوائف السلف والخلف يسمون الأعمال تصديقًا، «قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالصِّدِّيقُ مِثَالُ الْفِسِّيقِ: الدَّائِمُ التَّصْدِيقَ. وَيَكُونُ الَّذِي يَصْدُقُ قَوْلُهُ بِالْعَمَلِ»([28])، يقول ثم يصدّق بالعمل، والفسيق كذلك الدائم الفسق الذي يصدِّق قوله العمل.
فإذًا أهل اللغة وطوائف من السلف والخلف فسَّروا التصديق بالأعمال، فبطل قول المرجئة: إن التصديق لا يكون بالأعمال وإنما يكون بالقلب أو باللسان. ومن ذلك قول السلف، قول الحسن البصري -رحمه الله-، وهو إمام من أئمة التابعين، يقول: «لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي وَلَكِنَّهُ مَا وَقَرَ فِي الْقُلُوبِ وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ»([29])
فالحسن البصري أخبر بأن الأعمال تصدِّق، يكون لها تصديق، فقول المرجئة: إن التصديق لا يكون إلا بالقلب أو باللسان ولا يكون بالأعمال باطلٌ بقول النبي ﷺ، وبقول أهل اللغة، وبأقوال السلف كقول الحسن البصري: «لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي وَلَكِنَّهُ مَا وَقَرَ فِي الْقُلُوبِ وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ».
يقول: «وَهَذَا مَشْهُورٌ عَنْ الْحَسَنِ يُرْوَى عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ»، ثم ذكر مثال، قال: «كَمَا رَوَاهُ عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ؛ حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ النَّاجِي عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي؛ وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ»([30]).
إذًا: الإيمان فسَّره الحسن البصري بأي شيء؟ ما وقر في القلب من التصديق، وصدقته الأعمال بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، فسمى الأعمال تصديقًا، وهذا يُبطل قول المرجئة: إن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان.
يقول -رحمه الله-: «وَمَنْ قَالَ حَسَنًا وَعَمِلَ صَالِحًا رَفَعَهُ الْعَمَلُ؛ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10] وَرَوَاهُ ابْنُ بَطَّةَ مِنْ الْوَجْهَيْنِ»([31]).
القارئ: بارك الله فيكم فضيلة الشيخ، حبذا لو وجَّهتم إلى المستمعين الكرام كلمةً تحثونهم فيها على وجوب الإكثار من العمل الصالح، وأن يُتبعوا تصديقهم بالله -سبحانه وتعالى-وبرسوله ﷺ عملًا صالحًا أن يتقبل منهم.
الشيخ: لا شك أن الإيمان الحقيقي والإيمان الصحيح الذي ينفع المؤمن والذي دلَّ عليه كتاب الله وسنة رسوله ﷺ هو الذي يكون بالقلب وباللسان وبالعمل، وكما سمعنا: العمل هو الذي يصدِّق الأقوال، لا بُدَّ أن يكون توافق بين القول والعمل؛ فالقلب يصدِّق، واللسان ينطق، والجوارح تعمل.
هذا هو الإيمان الصحيح، هذا هو الإيمان الذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، ودلت عليه اللغة، ودل عليه أقوال السلف كما في قول الحسن البصري -رحمه الله-.
أمَّا مَن يدعي أنه مؤمن، ويكتفي بتصديق القلب أو بالإقرار باللسان، فلا شك أن هذا ليس إيمانًا حقيقيًا ترده اللغة وترده النصوص من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وإنما يتشبه بالكفرة كإبليس وفرعون الذين يزعمون أنهم يصدِّقون ولكنهم لا يعملون؛ بل يأبون ويستكبرون.
(المتن)
«وقَوْلُهُ: لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي -يَعْنِي الْكَلَامَ- وَقَوْلُهُ: بِالتَّحَلِّي. يَعْنِي أَنْ يَصِيرَ حِلْيَةً ظَاهِرَةً لَهُ فَيُظْهِرُهُ مِنْ غَيْرِ حَقِيقَةٍ مِنْ قَلْبِهِ وَمَعْنَاهُ لَيْسَ هُوَ مَا يَظْهَرُ مِنْ الْقَوْلِ وَلَا مِنْ الْحِلْيَةِ الظَّاهِرَةِ، وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ.
فَالْعَمَلُ يُصَدِّقُ أَنَّ فِي الْقَلْبِ إيمَانًا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَمَلٌ كَذَّبَ أَنَّ فِي قَلْبِهِ إيمَانًا؛ لِأَنَّ مَا فِي الْقَلْبِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعَمَلِ الظَّاهِرِ. وَانْتِفَاءُ اللَّازِمِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ.
وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي بِإِسْنَادِهِ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَتَبَ إلَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ يَسْأَلُهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ.
فَأَجَابَهُ عَنْهَا: سَأَلْت عَنْ الْإِيمَانِ؛ فَالْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ أَنْ يُصَدِّقَ الْعَبْدُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَمَا أَرْسَلَ مِنْ رَسُولٍ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَسَأَلْت عَنْ التَّصْدِيقِ. وَالتَّصْدِيقُ: أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ بِمَا صَدَّقَ بِهِ مِنْ الْقُرْآنِ وَمَا ضَعُفَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ وَفَرَّطَ فِيهِ عَرَفَ أَنَّهُ ذَنْبٌ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ وَتَابَ مِنْهُ وَلَمْ يُصِرَّ عَلَيْهِ فَذَلِكَ هُوَ التَّصْدِيقُ.
وَتَسْأَلُ عَنْ الدِّينِ فَالدِّينُ هُوَ الْعِبَادَةُ، فَإِنَّك لَنْ تَجِدَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الدِّينِ تَرَكَ عِبَادَةَ أَهْلِ دِينه، ثُمَّ لَا يَدْخُلُ فِي دِينٍ آخَرَ إلَّا صَارَ لَا دِينَ لَهُ.
وَتَسْأَلُ عَنْ الْعِبَادَةِ. وَالْعِبَادَةُ هِيَ الطَّاعَةُ؛ وذَلِكَ أَنَّهُ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ وَفِيمَا نَهَاهُ عَنْهُ فَقَدْ أتمَّ عِبَادَةَ اللَّهِ، وَمَنْ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ فِي دِينِهِ وَعَمَلِهِ فَقَدْ عَبَدَ الشَّيْطَانَ.
أَلَم تَرَى أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِلَّذِينَ فَرَّطُوا: أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [يس:60] وَإِنَّمَا كَانَتْ عِبَادَتُهُمْ الشَّيْطَانَ أَنَّهُمْ أَطَاعُوهُ فِي دِينِهِمْ».
(الشرح)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: -
فإن المؤلف -رحمه الله-لا يزال يناقش المرجئة ويرد عليهم في زعمهم ودعواهم أن الإيمان هو التصديق، وأن الإيمان والتصديق مترادفان. سبق أن المؤلف -رحمه الله-ردَّ عليهم من وجوه متعددة؛ رد عليهم بردٍ مجمل عام، ثم رد عليهم بردود تفصيلية بيَّن فيها أن الإيمان غير مرادفٍ للتصديق في اللفظ، وغير مرادفٍ له أيضًا في المعنى، ثم ردَّ عليهم في مقدمتهم الثانية في قولهم: إن التصديق لا يكون إلا بالقلب واللسان أو بالقلب فقط، وأن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان. بيَّن -رحمه الله-في رده عليهم أن أجاب عليهم بجوابين؛ جوابٌ بالمنع وجوابٌ بالتسليم.
فأما الجواب الذي بالمنع فهو أن يقول: نمنع أن التصديق لا يكون بالأعمال؛ بل الأفعال تكون تصديقًا كما ثبت في الحديث وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ([32])، وكذلك أهل اللغة والسلف كلهم يُدخلون العمل في مسمى الإيمان، ومن ذلك قول الحسن البصري -رحمه الله-: «لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي وَلَكِنَّهُ مَا وَقَرَ فِي الْقُلُوبِ وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ»([33])، فقول الحسن -رحمه الله-: «وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ» دليل على أن الأعمال تسمى التصديق.
ثم شرح المؤلف -رحمه الله-كلام الحسن البصري، فقال: «وقَوْلُهُ: لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي» يعني: بالكلام، يتمنى([34]). «وَقَوْلُهُ: ولا بالتَّحَلِّي. يَعْنِي أَنْ يَصِيرَ حِلْيَةً ظَاهِرَةً لَهُ فَيُظْهِرُهُ مِنْ غَيْرِ حَقِيقَةٍ مِنْ قَلْبِهِ»([35]) يعني أن الإيمان ليس كلامًا باللسان فقط، وليس حليةً بأن يُظهره يتحلى به، ولكنه لا يعتقده حقيقةً في قلبه، «وَمَعْنَاهُ لَيْسَ هُوَ مَا يَظْهَرُ مِنْ الْقَوْلِ» بمعنى أنه ليس هو ما يظهر من القول ولا من الحِلية الظاهرة.
يعني الإيمان ليس هو الذي يُظهره الإنسان بقوله ولا ما يتحلى به ظاهرًا، ولكن الإيمان هو «مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ»([36]). الإيمان أمران:
• الأمر الأول: ما وقر في القلب من التصديق والإيمان.
• والثاني: الأعمال التي تصدقه؛ أعمال القلوب وأعمال الجوارح.
ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: «فَالْعَمَلُ يُصَدِّقُ أَنَّ فِي الْقَلْبِ إيمَانًا» فإذا كان في القلب إيمان فالجوارح تصدِّق، تعمل، وإذا لم يكن فيه إيمان فالجوارح تأبى ولا تصدق؛ ولهذا قال المؤلف: «وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَمَلٌ كَذَّبَ أَنَّ فِي قَلْبِهِ إيمَانًا»؛ فإذا كان في القلب إيمانًا فإن الجوارح تصدِّق وتعمل، وإذا لم يكن في القلب إيمان فإن الجوارح تكذِّب، تُكذِّب أن في القلب إيمانًا.
بيان ذلك، يقول المؤلف -رحمه الله-: «لِأَنَّ مَا فِي الْقَلْبِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعَمَلِ الظَّاهِرِ» ما في القلب من الإيمان والتصديق يستلزم العمل الظاهر، وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم، انتفاء اللازم وهم العمل يدل على انتفاء الملزوم وهو التصديق الذي في القلب؛ فهما متلازمان، لازم وملزوم، كما أنه يلزم من الوالد الولد ويلزم من التوبة التائب؛ فالتوبة لا بد لها من تائب وكذلك الإيمان، ولا يمكن تكون توبة بدون تائب، والولد لازمٌ للوالد؛ فلا يمكن أن يكون ولد إلا له والد، فكذلك الإيمان، التصديق والعمل متلازمان؛ فالتصديق الذي في القلب يلزم منه العمل؛ فالإيمان ملزوم والعمل لازم. فإذا انتفى اللازم الذي هو العمل، انتفى التصديق الذي في القلب. وبهذا يتبيَّن بطلان قول المرجئة: إن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان([37]).
ثم أيضًا نقل أثرًا عن سعيد بن جبير، فقال: «وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي بِإِسْنَادِهِ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَتَبَ إلَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ» التابعي الجليل «يَسْأَلُهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ. فَأَجَابَهُ عَنْهَا»، فقال -يعني سعيد بن جبير يخاطب عبد الملك بن مروان-«سَأَلْت عَنْ الْإِيمَانِ فَالْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ»، ثم فسَّر، فقال: «أَنْ يُصَدِّقَ الْعَبْدُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَمَا أَرْسَلَ مِنْ رَسُولٍ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ»، ثم قال: «وَسَأَلْت عَنْ التَّصْدِيقِ. وَالتَّصْدِيقُ: أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ» ففسر التصديق بالعمل، فقال: «وَسَأَلْت عَنْ التَّصْدِيقِ. وَالتَّصْدِيقُ: أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ بِمَا صَدَّقَ بِهِ مِنْ الْقُرْآنِ»، ثم بيَّن -رحمه الله-فقال: «وَمَا ضَعُفَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ وَفَرَّطَ فِيهِ عَرَفَ أَنَّهُ ذَنْبٌ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ وَتَابَ مِنْهُ وَلَمْ يُصِرَّ عَلَيْهِ»([38]).
يعني: إن العبد ليس معصوم، فهو يصدِّق بالعمل، وإذا ضعُف ونقص العمل وفرط وارتكب بعض المعاصي أو قصَّر في بعض الواجبات، يعلم من نفسه أنه مفرط وأنه مذنب، فيتوب إلى الله ويستغفر مما سلف منه ولا يصر على المعصية؛ هذا هو شأن المؤمن الحقيقي، كما قال الله تعالى في قوله : وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133،134] ثم قال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].
فليس من شأنه أنه لا يقع منه الذنب؛ يقع منه الذنب؛ ما هو بمعصوم، لكن من شأن المؤمن الحقيقي ألا يصر على الذنب؛ بل يبادر بالتوبة، وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، ثم بيَّن جزاؤهم فقال: أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [آل عمران:136]. وقال -عليه الصلاة والسلام-: كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ([39])؛ فالمؤمن إذا وقع زلة أو هفوة، فإنه يبادر بالتوبة ولا يصر؛ فإن المصر عاصي ومذنب وضعيف الإيمان.
ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-في بيان جواب سعيد بن جبير لعبد الملك بن مروان، قال: «وَسَأَلْت عَنْ التَّصْدِيقِ. وَالتَّصْدِيقُ: أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ بِمَا صَدَّقَ بِهِ مِنْ الْقُرْآنِ وَمَا ضَعُفَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ وَفَرَّطَ فِيهِ عَرَفَ أَنَّهُ ذَنْبٌ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ وَتَابَ مِنْهُ وَلَمْ يُصِرَّ عَلَيْهِ فَذَلِكَ هُوَ التَّصْدِيقُ»، يعني تصديقٌ بالقلب وعملٌ بالجوارح. ثم قال: «وَتَسْأَلُ عَنْ الدِّينِ، فَالدِّينُ هُوَ: الْعِبَادَةُ» كما قال الله تعالى: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ يعني مخلصين له العبادة، وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5]، فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غافر:14] يعني: مخلصين له العبادة؛ فالدين هو العبادة.
ثم قال: «فَإِنَّك لَنْ تَجِدَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الدِّينِ تَرَكَ عِبَادَةَ أَهْلِ دِينه ثُمَّ لَا يَدْخُلُ فِي دِينٍ آخَرَ إلَّا صَارَ لَا دِينَ لَهُ» يعني الإنسان الذي يترك دينه، إذا ترك دينه ودخل في دينٍ آخر، صار له دين آخر باطل، فإذا ارتدَّ -والعياذ بالله-مسلم عن دينه ودخل في اليهودية، صار له دين اليهودي، دينٌ باطل، أو دين النصرانية. فإذا ترك دينه ولم يدخل في دين آخر، صار لا دين له، هذا يسمى لا ديني، غير متدين بدين، صار لا دين له.
ثم قال: «وَتَسْأَلُ عَنْ الْعِبَادَةِ. وَالْعِبَادَةُ هِيَ الطَّاعَةُ؛ وذَلِكَ أَنَّهُ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ وَفِيمَا نَهَاهُ عَنْهُ فَقَدْ أتمَّ عِبَادَةَ اللَّهِ» العبادة هي الطاعة، ومن تمامها أن يطيع الإنسان ربه في الأوامر والنواهي، هذا هو الذي يسمى عبادة الله.
أما إذا قصَّر في بعض الواجبات، وفعل بعض المحرمات، فإنه يكون مطيعًا للشيطان، «وَمَنْ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ فِي دِينِهِ وَعَمَلِهِ فَقَدْ عَبَدَ الشَّيْطَانَ» عبادة الشيطان: هي طاعته، فإذا أطاع الشيطان فقد عبده.
ثم قال: «أَلَم تَرَى أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِلَّذِينَ فَرَّطُوا: أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [يس:60] وَإِنَّمَا كَانَتْ عِبَادَتُهُمْ الشَّيْطَانَ أَنَّهُمْ أَطَاعُوهُ فِي دِينِهِمْ» فتبيَّن بهذا أن التصديق لا بُدَّ فيه من العمل؛ تصديقٌ بالقلب وتصديقٌ بالعمل.
(المتن)
«وَقَالَ أَسَدُ بْنُ مُوسَى: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ الأوزاعي حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ قَالَ: الْإِيمَانُ فِي كِتَابِ اللَّهِ صَارَ إلَى الْعَمَلِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2] الْآيَةَ.
ثُمَّ صَيَّرَهُمْ إلَى الْعَمَلِ فَقَالَ: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [الأنفال:3] قَالَ: وَسَمِعْت الأوزاعي يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11] وَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ بِاللِّسَانِ وَالتَّصْدِيقُ بِهِ الْعَمَلُ.
وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ: كُنَّا نَقُولُ الْإِسْلَامُ بِالْإِقْرَارِ وَالْإِيمَانُ بِالْعَمَلِ وَالْإِيمَانُ: قَوْلٌ وَعَمَلٌ قَرِينَانِ لَا يَنْفَعُ أَحَدُهُمَا إلَّا بِالْآخَرِ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا يُوزَنُ قَوْلُهُ وَعَمَلُهُ؛ فَإِنْ كَانَ عَمَلُهُ أَوْزَنَ مِنْ قَوْلِهِ: صَعِدَ إلَى اللَّهِ؛ وَإِنْ كَانَ كَلَامُهُ أَوْزَنَ مِنْ عَمَلِهِ لَمْ يَصْعَدْ إلَى اللَّهِ. وَرَوَاهُ أَبُو عَمْرٍو الطلمنكي بِإِسْنَادِهِ الْمَعْرُوفِ.
وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو: عَنْ أَبِي إسْحَاقَ الفزاري عَنْ الأوزاعي قَالَ: لَا يَسْتَقِيمُ الْإِيمَانُ إلَّا بِالْقَوْلِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ الْإِيمَانُ وَالْقَوْلُ إلَّا بِالْعَمَلِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ الْإِيمَانُ وَالْقَوْلُ وَالْعَمَلُ إلَّا بِنِيَّةِ مُوَافِقَةٍ لِلسُّنَّةِ.
وَكَانَ مَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِنَا لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ؛ الْعَمَلُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ مِنْ الْعَمَلِ؛ وَإِنَّمَا الْإِيمَانُ اسْمٌ يَجْمَعُ كَمَا يَجْمَعُ هَذِهِ الْأَدْيَانَ اسْمُهَا وَيُصَدِّقُهُ الْعَمَلُ. فَمَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَعَرَفَ بِقَلْبِهِ وَصَدَّقَ بِعَمَلِهِ فَتِلْكَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى الَّتِي لَا انْفِصَامَ لَهَا.
وَمَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَعْرِفْ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يُصَدِّقْ بِعَمَلِهِ كَانَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ.
وَهَذَا مَعْرُوفٌ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ؛ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْعَمَلَ مُصَدِّقًا لِلْقَوْلِ؛ وَرَوَوْا ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ كَمَا رَوَاهُ مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ: حَدَّثَنَا الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ أَبَا ذَرٍّ سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ الْإِيمَانِ. فَقَالَ: الْإِيمَانُ: الْإِقْرَارُ وَالتَّصْدِيقُ بِالْعَمَلِ؛ ثُمَّ تَلَا لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إلَى قَوْلِهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون [البقرة:177]».
قُلْت حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ هَذَا مَرْوِيٌّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ؛ فَإِنْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ هُوَ لَفْظَ الرَّسُولِ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ كَانُوا رَوَوْهُ بِالْمَعْنَى دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْمَعْرُوفِ فِي لُغَتِهِمْ أَنَّهُ يُقَالُ: صَدَقَ قَوْلُهُ بِعَمَلِهِ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الهروي: الْإِيمَانُ تَصْدِيقٌ كُلُّهُ».
(الشرح)
المؤلف -رحمه الله-سرد آثار عن السلف كلها تؤيد وتدل على ما يدلَّ عليه القرآن والسنة من أن العمل داخلٌ في مسمى التصديق، تدل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وأنَّ الإيمان لا بُدَّ فيه من التصديق بالقلب والعمل بالجوارح.
كما سبق نَقَل عن الحسن البصري، نَقَل عن سعيد بن جبير، ثم نَقَل هنا عن الأوزاعي حسان بن عطية، قال: «وَقَالَ أَسَدُ بْنُ مُوسَى: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ الأوزاعي حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ قَالَ: الْإِيمَانُ فِي كِتَابِ اللَّهِ صَارَ إلَى الْعَمَلِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2] الْآيَةَ.
ثُمَّ صَيَّرَهُمْ إلَى الْعَمَلِ فَقَالَ: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [الأنفال:3] قَالَ: وَسَمِعْت الأوزاعي يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11] وَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ بِاللِّسَانِ وَالتَّصْدِيقُ بِهِ الْعَمَلُ»([40]).
يعني أنهم إن تابوا؛ تابوا من الشِّرك، ولمْ يكتفِ بذلك، قال: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11]، فجعلوا الإخوة في الدين مكونة من أمرين:
الأمر الأول: التوبة من الشرك.
والأمر الثاني: العمل؛ إقام الصلاة وإيتاء الزكاة([41]).
«وَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ بِاللِّسَانِ وَالتَّصْدِيقُ بِهِ الْعَمَلُ» هذه آثار عن السلف كلها تدل على ما دلَّ عليه كتاب الله وسنة رسوله ﷺ من أن التصديق يكون بالعمل.
ثم نقل عن الزهري، قال: «وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ: كُنَّا نَقُولُ الْإِسْلَامُ بِالْإِقْرَارِ وَالْإِيمَانُ بِالْعَمَلِ وَالْإِيمَانُ: قَوْلٌ وَعَمَلٌ قَرِينَانِ لَا يَنْفَعُ أَحَدُهُمَا إلَّا بِالْآخَرِ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا يُوزَنُ قَوْلُهُ وَعَمَلُهُ؛ فَإِنْ كَانَ عَمَلُهُ أَوْزَنَ مِنْ قَوْلِهِ: صَعِدَ إلَى اللَّهِ؛ وَإِنْ كَانَ كَلَامُهُ أَوْزَنَ مِنْ عَمَلِهِ لَمْ يَصْعَدْ إلَى اللَّهِ. وَرَوَاهُ أَبُو عَمْرٍو الطلمنكي بِإِسْنَادِهِ الْمَعْرُوفِ»([42]) هذا أيضًا الأثر عن الزهري يدل على أن العمل لا بُدَّ منه، وأن العمل والقول قرينان.
ثم نقل أيضًا أثر عن أوزاعي آخر، قال: «وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو: عَنْ أَبِي إسْحَاقَ الفزاري عَنْ الأوزاعي قَالَ: لَا يَسْتَقِيمُ الْإِيمَانُ إلَّا بِالْقَوْلِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ الْإِيمَانُ وَالْقَوْلُ إلَّا بِالْعَمَلِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ الْإِيمَانُ وَالْقَوْلُ وَالْعَمَلُ إلَّا بِنِيَّةِ مُوَافِقَةٍ لِلسُّنَّةِ»([43])، هذا كلامٌ عظيم للأوزاعي -رحمه الله-، يقول: «لَا يَسْتَقِيمُ الْإِيمَانُ إلَّا بِالْقَوْلِ» يعني الإيمان لا بُدَّ قولٌ باللسان وقولٌ بالقلب وهو الإقرار، «وَلَا يَسْتَقِيمُ الْإِيمَانُ وَالْقَوْلُ إلَّا بِالْعَمَلِ» لأنه هو الذي يصدِّق، «وَلَا يَسْتَقِيمُ الْإِيمَانُ وَالْقَوْلُ وَالْعَمَلُ إلَّا بِنِيَّةِ مُوَافِقَةٍ لِلسُّنَّةِ» يكون العمل خالصًا لله ويكون موافقًا للشرع.
يقول: «وَكَانَ مَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِنَا لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ»، يعني أنه لا بُدَّ منهما، لا بُدَّ من العمل؛ «الْعَمَلُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ مِنْ الْعَمَلِ» لا يفرَّق بينهما كما يدَّعي ذلك المرجئة، «وَإِنَّمَا الْإِيمَانُ اسْمٌ يَجْمَعُ» الإيمان اسمٌ يجمع التصديق والإقرار والعقل، فهو يجمع «كَمَا يَجْمَعُ هَذِهِ الْأَدْيَانَ اسْمُهَا وَيُصَدِّقُهُ الْعَمَلُ، فَمَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَعَرَفَ بِقَلْبِهِ وَصَدَّقَ بِعَمَلِهِ فَتِلْكَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى الَّتِي لَا انْفِصَامَ لَهَا» هذا هو الذي تمسك بالعروة الوثقى وهي كلمة التوحيد، «وَمَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَعْرِفْ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يُصَدِّقْ بِعَمَلِهِ كَانَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ» هذا قول المرجئة الكرَّامية، يقولون: يكفي التصديق باللسان. هذا القول من أفسد ما قيل في تعريف الإيمان([44]).
أفسد ما قيل في تعريف الإيمان قول الجهم: أن الإيمان هو المعرفة، ثم يليه قول الكرَّامية الذي يقول: الإيمان قولٌ باللسان وإن كان مكذِّبًا بقلبه؛ فيجمعون بين الأمرين المتناقضين، فيقول: إذا صدَّق بلسانه فهو مؤمن، وإذا كذَّب بقلبه فهو منافق، ومع ذلك يُخلَّد في النار. فإذا قال بلسانه يقولون: هو مؤمن كامل الإيمان، وإذا كذَّب بقلبه يُخلَّد في النار، فيجمعون بين الأمرين، فيلزمه أنه مؤمن كامل الإيمان ويُخلَّد في النار. وهذا من أفسد ما قيل في تعريف الإيمان؛ ولهذا قال: «وَمَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَعْرِفْ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يُصَدِّقْ بِعَمَلِهِ كَانَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ».
يقول: «وَهَذَا مَعْرُوفٌ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ؛ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْعَمَلَ مُصَدِّقًا لِلْقَوْلِ؛ وَرَوَوْا ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ كَمَا رَوَاهُ مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ: حَدَّثَنَا الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ أَبَا ذَرٍّ سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ الْإِيمَانِ. فَقَالَ: الْإِيمَانُ: الْإِقْرَارُ وَالتَّصْدِيقُ بِالْعَمَلِ؛ ثُمَّ تَلَا لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إلَى قَوْلِهِ: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177]» ([45]) هذا الحديثُ ضعيف؛ لأن فيه الليث بن أبي سُليم وهو يُضعَّف عند أهل الحديث، وفيه انقطاع أيضًا، مُنْقَطِع؛ يُضَعَّف بالانقطاع؛ فإن مجاهد لم يدرك أبا ذر، ولكن له شواهد، هذا له شواهد، المؤلف -رحمه الله-ذكره؛ لأنَّ له شواهد تُقوِّيه.
ولهذا المؤلف علَّق عليه، فقال: «قُلْت حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ هَذَا مَرْوِيٌّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ»([46]) يعني تشهد له النصوص الأخرى، يقول: «فَإِنْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ هُوَ لَفْظَ الرَّسُولِ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ كَانُوا رَوَوْهُ بِالْمَعْنَى دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْمَعْرُوفِ فِي لُغَتِهِمْ أَنَّهُ يُقَالُ: صَدَقَ قَوْلَهُ بِعَمَلِهِ» يعني هذا المؤلف -رحمه الله- اعتمده لشواهده.
ثم قال: «وَكَذَلِكَ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الهروي: الْإِيمَانُ تَصْدِيقٌ كُلُّهُ»([47]) يعني بالقول وبالعمل.
(المتن)
«وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ الثَّانِي أَنَّهُ إذَا كَانَ أَصْلُهُ التَّصْدِيقَ فَهُوَ تَصْدِيقٌ مَخْصُوصٌ كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ دُعَاءٌ مَخْصُوصٌ وَالْحَجَّ قَصْدٌ مَخْصُوصٌ وَالصِّيَامَ إمْسَاكٌ مَخْصُوصٌ؛ وَهَذَا التَّصْدِيقُ لَهُ لَوَازِمُ صَارَتْ لَوَازِمُهُ دَاخِلَةً فِي مُسَمَّاهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ؛ فَإِنَّ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ، وَيَبْقَى النِّزَاعُ لَفْظِيًّا: هَلْ الْإِيمَانُ دَالٌّ عَلَى الْعَمَلِ بِالتَّضَمُّنِ أَوْ بِاللُّزُومِ؟
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ أَكْثَرَ التَّنَازُعِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ وَإِلَّا فَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ -كَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَغَيْرِهِمْ- مُتَّفِقُونَ مَعَ جَمِيعِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ الذُّنُوبِ دَاخِلُونَ تَحْتَ الذَّمِّ وَالْوَعِيدِ، وَإِنْ قَالُوا: إنَّ إيمَانَهُمْ كَامِلٌ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ فَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْإِيمَانَ بِدُونِ الْعَمَلِ الْمَفْرُوضِ وَمَعَ فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ يَكُونُ صَاحِبُهُ مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ كَمَا تَقُولُهُ الْجَمَاعَةُ.
وَيَقُولُونَ أَيْضًا: بِأَنَّ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ كَمَا تَقُولُهُ الْجَمَاعَةُ، وَاَلَّذِينَ يَنْفُونَ عَنْ الْفَاسِقِ اسْمَ الْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ.
فَلَيْسَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ نِزَاعٌ فِي أَصْحَابِ الذُّنُوبِ إذَا كَانُوا مُقِرِّينَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَا تَوَاتَرَ عَنْهُ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ، وَأَنَّهُ يَدْخُلُ النَّارَ مِنْهُمْ مَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِدُخُولِهِ إلَيْهَا، وَلَا يُخَلَّدُ مِنْهُمْ فِيهَا أَحَدٌ، وَلَا يَكُونُونَ مُرْتَدِّينَ مُبَاحِي الدِّمَاءِ، وَلَكِنَّ الْأَقْوَالَ الْمُنْحَرِفَةَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ بِتَخْلِيدِهِمْ فِي النَّارِ كَالْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ.
وَقَوْلُ غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: مَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ يَدْخُلُ النَّارَ؛ بَلْ نَقِفُ فِي هَذَا كُلِّهِ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ الْجَزْمُ بِالنَّفْيِ الْعَامِّ».
(الشرح)
المؤلِّف -رحمه الله-ذكر في الرد جوابين:
الجواب الأول: جوابٌ بالمنع، يقول: نمنع أن يكون الإيمان هو التصديق.
والجواب الثاني: جوابٌ بالتسليم؛ نُسلِّم أنه التصديق ليرد من جهة أخرى كما سبق، فهذا تسليمٌ فرضي جدلي.
هذا الجواب الثاني يقول: سلَّمنا جدلًا أن الإيمان أصله التصديق، لكنه تصديقٌ مخصوص، تصديقٌ مخصوص مقيد بالعمل، فرجع الأمر إلى أن العمل لا بُدَّ منه، يقول: سلَّمنا جدلًا، لو سلَّمنا جدلًا كما تقولون أيها المرجئة أن الإيمان هو التصديق لكنه تصديقٌ ليس مطلق؛ بل هو تصديقٌ مقيد.
ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: «وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ الثَّانِي أَنَّهُ إذَا كَانَ أَصْلُهُ التَّصْدِيقَ فَهُوَ تَصْدِيقٌ مَخْصُوصٌ» تصديقٌ مخصوص؛ لأنه يلزمه العمل، لا بُدَّ من العمل، «كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ دُعَاءٌ مَخْصُوصٌ» الصلاة في اللغة الدعاء([48])، معناه لغةً، لكن الشرع زاد إليه شيئًا، فزاد إلى المعنى اللغوي، فقال: الصلاة دعاء وهي الهيئة المشتملة على الذِّكر والدعاء والتكبير والتسبيح، يعني الهيئة المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم مشتملة فيها الدعاء[01:34:39]([49])، فكذلك أيضًا الإيمان تصديق لكنه تصديقٌ مخصوص مضاف إليه العمل؛ ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: «وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ الثَّانِي أَنَّهُ إذَا كَانَ أَصْلُهُ التَّصْدِيقَ فَهُوَ تَصْدِيقٌ مَخْصُوصٌ كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ دُعَاءٌ مَخْصُوصٌ وَالْحَجَّ قَصْدٌ مَخْصُوصٌ» قصد مكة لأداء مناسك الحج؛ وإلا أصل الحج في اللغة معناه القصد([50])، القصد المطلق، لكن الحج إلى بيت الله الحرام قصدٌ مخصوص، مخصوص وهو قصد مكة لأداء مناسك الحج([51]).
وكذلك «وَالصِّيَامَ إمْسَاكٌ مَخْصُوصٌ» الصيام في اللغة الإمساك، ومنه قوله تعالى عن مريم أنها قالت: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا [مريم:26] يعني: أسكت، سكوت، لا أتكلم([52]). والصيام سكوت مخصوص وهو سكوتٌ عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني، في وقتٍ مخصوص من شخصٍ مخصوص وهي الامتناع عن المفطرات بنية من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، فالصيام إمساكٌ مخصوص؛ إمساك عن الطعام والشراب والمفطرات في وقت مخصوص من شخصٍ مخصوص من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس([53]).
يقول المؤلف -رحمه الله-: «وَهَذَا التَّصْدِيقُ لَهُ لَوَازِمُ صَارَتْ لَوَازِمُهُ دَاخِلَةً فِي مُسَمَّاهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ» هذا التصديق له لوازم يعني وهي الأعمال، «صَارَتْ لَوَازِمُهُ دَاخِلَةً فِي مُسَمَّاهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ؛ فَإِنَّ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ» انتفاء اللازم وهو العمل يقتضي انتفاء الملزوم وهو الإيمان، «وَيَبْقَى النِّزَاعُ لَفْظِيًّا: هَلْ الْإِيمَانُ دَالٌّ عَلَى الْعَمَلِ بِالتَّضَمُّنِ أَوْ بِاللُّزُومِ؟».
يقول المؤلف -رحمه الله-: وبهذا الجواب يبقى النزاع لفظي: هل الأعمال داخلة في مسمى الإيمان ضمنًا أو أنها لازمة؟ والنتيجة واحدة، وهي أن العمل لا بُدَّ منه، سواء قلنا: إن العمل داخل في مسمى الإيمان أو قلنا: إن العمل خارج لكنه لازم، فالمهم أن الأعمال لا بُدَّ منها في الإيمان.
ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: «وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ أَكْثَرَ التَّنَازُعِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ نِزَاعٌ لَفْظِي» يعني نزاع في اللفظ والمعنى واحد، «فَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ» يعني قولٌ في القلب واللسان «مِنْ الْفُقَهَاءِ - كَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَغَيْرِهِمْ - مُتَّفِقُونَ مَعَ جَمِيعِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ الذُّنُوبِ دَاخِلُونَ تَحْتَ الذَّمِّ وَالْوَعِيد»([54]).
يعني أول من قال مَن الفقهاء إن الإيمان هو مجرد تصديق: حماد بن أبي سليمان، وهو شيخ الإمام أبو حنيفة، هو أول مَن قال: إن الإيمان هو التصديق، وتبعه على ذلك أهل الكوفة، لكن مع قوله: إن الإيمان هو التصديق لا يقول بقول الخوارج: إن الكبائر تُخرج صاحبها من النار؛ بل يقول: إن صاحب الكبيرة تحت الذنب وتحت الوعيد، ولكنه لا يخرج من الإيمان.
«وَإِنْ قَالُوا» أهل الكوفة «إنَّ إيمَانَهُمْ كَامِلٌ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ فَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْإِيمَانَ بِدُونِ الْعَمَلِ الْمَفْرُوضِ وَمَعَ فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ يَكُونُ صَاحِبُهُ مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ كَمَا تَقُولُهُ الْجَمَاعَةُ» كما تقول جماعة أهل السنة، يعني: إن مرجئة الفقهاء كالإمام أبو حنيفة ومَن تبعه من أهل الكوفة، وإن قالوا: إن الإيمان هو التصديق والأعمال لا تدخل في مسماه، لكنهم يوافقون أهل السُّنة في أن ترك الواجبات أو فعل المحرمات يوجب الذنب والوعيد، ويستحق صاحبه ما رُتِّب على هذه المعصية من العقاب، ولا يقولون بقول الخوارج: إن مَن فعل الكبيرة فإنه يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر.
«وَيَقُولُونَ أَيْضًا بِأَنَّ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ كَمَا تَقُولُهُ الْجَمَاعَةُ» يدخل النار، لكن ليُخرَج منها ولا يخلَّد، «وَاَلَّذِينَ يَنْفُونَ عَنْ الْفَاسِقِ اسْمَ الْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ»؛ لأن أهل السُّنة يقولون: يُنفى الإيمان عن الفاسق، لكن مع ذلك يقولون: أنه لا يُخلَّد في النار، موافقون أهل السُّنة في أنه لا يُخلَّد في النار، ولا يقولون بقول الخوارج إنه يُخلَّد في النار([55]).
يقول: «فَلَيْسَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ نِزَاعٌ فِي أَصْحَابِ الذُّنُوبِ إذَا كَانُوا مُقِرِّينَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَا تَوَاتَرَ عَنْهُ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ وَأَنَّهُ يَدْخُلُ النَّارَ مِنْهُمْ مَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِدُخُولِهِ إلَيْهَا وَلَا يُخَلَّدُ مِنْهُمْ فِيهَا أَحَدٌ»، يعني: إن أهل السُّنة وأهل الملة كلهم متفقون، فقهاء الملة متفقون، الجمهور مع أهل السُّنة كلهم يتفقون على أن أصحاب الذنوب تحت مشيئة الله، وأنهم من أهل الوعيد، ولا يُخلَّدون في النار إذا دخلوها. هذا يتفق عليه، يتفق على هذا أهل السُّنة وكذلك أهل الكوفة كالإمام أبي حنيفة وأصحابه، وإن كانوا اختلفوا في مسمى الإيمان لكنهم يتفقون على هذا، ويقولون: إنه لا يُخلَّد في النار مَن دخلها من العصاة، «وَلَا يَكُونُونَ مُرْتَدِّينَ مُبَاحِي الدِّمَاءِ»([56]).
ثم بيَّن القول المنحرف، فقال: «وَلَكِنَّ الْأَقْوَالَ الْمُنْحَرِفَةَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ بِتَخْلِيدِهِمْ فِي النَّارِ كَالْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ» هذا قول الانحراف، هذا الخلاف المعنوي، خلافٌ معنوي، بين أهل السُّنة وبين الخوارج والمعتزلة خلافٌ معنوي يترتب عليه فسادٌ في العقيدة، وأما الإمام أبو حنيفة وأهل الكوفة يتفقون مع أهل السُّنة في أنه لا يُخلَّد في النار، فالخلاف بينهم خلافٌ لفظي([57]).
ولهذا قال: «وَقَوْلُ غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: مَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ يَدْخُلُ النَّارَ؛ بَلْ نَقِفُ فِي هَذَا كُلِّهِ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ الْجَزْمُ بِالنَّفْيِ الْعَامِّ» يعني: أن غلاة المرجئة يقابلون الخوارج والمعتزلة؛ فالخوارج والمعتزلة يقولون: أصحاب الكبائر يُخلَّدون في النار. وغلاة المرجئة منهم من يقول: نتوقف؛ ما نقول: يدخل النار أو لا يدخل النار. ومنهم مَن يجزم بأنه في الجنة من أول وهلة ولا تضره ارتكاب الكبائر شيئًا. فغلاة المرجئة يقابلون الخوارج والمعتزلة، مذهبان باطلان؛ الخوارج والمعتزلة يقولون: صاحب الكبيرة يُخلَّد في النار، وغلاة المرجئة يقولون: صاحب الكبيرة يدخل الجنة من أول وهلة ولا تضره الكبيرة ولا يدخل النار أبدًا([58]).
فكلٌّ من القولين قولٌ فاسد يترتب عليه فسادٌ في العقيدة، والقول الحق: هو ما عليه أهل السُّنة والجماعة، أن المؤمن صاحب الكبيرة تحت الوعيد والذنب، وإذا دخل النار فإنه لا يُخلَّد فيها؛ قد يدخل النار وقد يُعفى عنه؛ فهو تحت مشيئة الله، كما قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]. وكذلك يقول بهذا الإمام أبو حنيفة ومَن تبعه من أهل الكوفة، يوافقون جمهور أهل السُّنة على هذا، وإن كانوا يخالفونهم في أن الإيمان هو القول والتصديق، لكنهم يوافقونهم في أن صاحب الكبيرة لا يُخلَّد في النار وهو مذموم ويستحق الوعيد الذي رُتبت عليه هذه الكبيرة([59]).
([1]) – أخرجه الترمذي رقم (2951) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وقال: هذا حديث حسن.
[2]() ينظر: «مجموع الفتاوى» (7/170).
[3]() ينظر: «الفرق بين الفرق» (ص: 19، 190، 199)، «مجموع الفتاوى» (7/56، 508)، «كَشَّاف اصطلاحات الفنون» (2/252- 256).
[4]() ينظر: «الفرق بين الفرق» (ص: 343)، «مجموع الفتاوى» (7/510).
[5]() ينظر: «الفرق بين الفرق» (ص: 343).
([6]) – أخرجه البخاري رقم (3017) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[7]() ينظر: «درء تعارض النقل والعقل» (1/38).
[8]() «الرد على الجهمية والزنادقة» (ص: 60- 62).
[9]() ينظر: «إعلام الموقعين» (2/220).
([10]) – أخرجه أحمد رقم (17174)، وأبو داود رقم (4604) من حديث عن المقدام بن معدي كرب الكندي .
[11]() ينظر: «تفسير القرآن العظيم» (7/442- 443).
[12]() ينظر: «مدارج السالكين» (1/34).
[13]() ينظر: «أحكام أهل الذمة» (1/527).
([14]) – سبق تخريجه
[15]().
[16]() ينظر: «تفسير ابن أبي حاتم» (7/2110)، «تفسير الطبري» (1/235)، (15/578).
[17]() ينظر: «محاسن التأويل» للقاسمي (1/154).
[18]() ينظر: «مقاييس اللغة» (1/134)، مادة (أمن).
[19]() ينظر: «مقاييس اللغة» (1/134)، مادة (أمن).
[20]() ينظر: رسالة «نواقض الإسلام» لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-.
([21]) – أخرجه البخاري رقم (3884) من حديث المسيب بن حزن .
[22]() ينظر: «مجموع الفتاوى» (7/188- 190).
[23]() ينظر: «مجموع الفتاوى» (7/541- 543).
[24]() سقطت الأبيات من أصل الكتاب، ووجد مكانها بياض في الأصل.
[25]() ينظر: «مقاييس اللغة» (1/134)، مادة (أمن)، «مجموع الفتاوى» (7/530).
[26]() ينظر: «مجموع الفتاوى» (7/555).
([27]) – أخرجه البخاري رقم (6612)، ومسلم رقم (2657) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[28]() ينظر: «الصحاح» (4/1506)، مادة (صدق).
([29]) – الأثر أخرجه ابن بطة في الابانه (1093)، والبيهقي في الشعب (65) مختلف في تحسينه وتضعيفه لأجل أبو بشر عمران بن بشر الحلبي.
سبق تخريجه [30]().
[31]().
[32](). سبق
[33](). سبق
[34]() ينظر: «النهاية في غريب الحديث والأثر» لابن الأثير (4/367)، مادة (منا).
[35]() ينظر: «الصحاح» (6/2318)، مادة (حلا)، «النهاية» (1/435)، مادة (حلا).
[36]() ينظر: «النهاية» لابن الأثير (4/367)، مادة (منا).
[37]() ينظر: «مجموع الفتاوى» (7/160- 161)، «الصارم المسلول على شاتم الرسول» (ص:524- 525).
[38]().
([39]) – أخرجه أحمد رقم (13049)، والدارمي رقم رقم (2769)، والترمذي رقم (2499)، وابن ماجه رقم (4251) من حديث أنس بن مالك . قال الحافظ الترمذي : «هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث علي بن مسعدة عن قتادة»
[40]().
[41]() ينظر: «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير (4/111).
[42]().
[43]().
[44]() ينظر: «مجموع الفتاوى» (7/548).
[45]().
[46]().
[47]().
[48]() ينظر: «الصحاح» (6/2402)، مادة (صلا)، «مقاييس اللغة» (3/300)، مادة (صلى)؛ قال ابن الأثير: «وقيل إن أصلها في اللغة التعظيم. وسميت العبادة المخصوصة صلاة لما فيها من تعظيم الرب تعالى. وقوله في التشهد الصلوات لله: أي الأدعية التي يراد بها تعظيم الله تعالى، هو مستحقها لا تليق بأحد سواه.«النهاية» (3/50) مادة (صلا).
[49]() ينظر: «مقاييس اللغة» (3/300)، مادة (صلى)، «النهاية» 3/50)، مادة (صلا).
[50]() ينظر: «الصحاح» (1/303)، مادة (حجج)، «النهاية» (1/340)، مادة (حجج).
[51]() ينظر: «مقاييس اللغة» (2/29)، مادة (حج).
[52]() ينظر: «مقاييس اللغة» (3/323)، مادة (صوم)، «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير (5/225).
[53]() ينظر: «الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي» لأبي منصور الهروي (ص:115)، «الشرح الكبير على متن المقنع» (3/3).
[54]() ينظر: «مجموع الفتاوى» (7/507- 508).
[55]() ينظر: «مجموع الفتاوى» (7/524- 525).
[56]() ينظر: «شرح الطحاوية» (2/434، 524).
[57]() ينظر: «مجموع الفتاوى» (7/181، 203، 365)، «شرح الطحاوية» (2/507).
[58]() ينظر: «مجموع الفتاوى» (4/475)، (7/501)، (12/480)، (14/347)، «شرح الطحاوية» (2/524).
[59]() ينظر: «مجموع الفتاوى» (8/271).