شعار الموقع
  1. الصفحة الرئيسية
  2. الدروس العلمية
  3. العقيدة
  4. شرح كتاب الإيمان الكبير
  5. شرح كتاب الإيمان الكبير_34 من قوله وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ الْجَزْمُ بِالنَّفْيِ الْعَامِّ - إلى وَمَعْلُومٌ أَنَّ الزَّانِيَ حِينَ يَزْنِي إنَّمَا يَزْنِي لِحُبِّ نَفْسِهِ لِذَلِكَ الْفِعْلِ

شرح كتاب الإيمان الكبير_34 من قوله وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ الْجَزْمُ بِالنَّفْيِ الْعَامِّ - إلى وَمَعْلُومٌ أَنَّ الزَّانِيَ حِينَ يَزْنِي إنَّمَا يَزْنِي لِحُبِّ نَفْسِهِ لِذَلِكَ الْفِعْلِ

00:00
00:00
تحميل
62

(المتن)

وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ الْجَزْمُ بِالنَّفْيِ الْعَامِّ.

وَيُقَالُ لِلْخَوَارِجِ: الَّذِي نَفَى عَنْ السَّارِقِ وَالزَّانِي وَالشَّارِبِ وَغَيْرِهِمْ الْإِيمَانَ؛ هُوَ لَمْ يَجْعَلْهُمْ مُرْتَدِّينَ عَنْ الْإِسْلَامِ؛ بَلْ عَاقَبَ هَذَا بِالْجَلْدِ وَهَذَا بِالْقَطْعِ وَلَمْ يَقْتُلْ أَحَدًا إلَّا الزَّانِيَ الْمُحْصَنَ وَلَمْ يَقْتُلْهُ قَتْلَ الْمُرْتَدِّ؛ فَإِنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ وَهَذَا يُرْجَمُ بِالْحِجَارَةِ بِلَا اسْتِتَابَةٍ.

فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ وَإِنْ نَفَى عَنْهُمْ الْإِيمَانَ فَلَيْسُوا عِنْدَهُ مُرْتَدِّينَ عَنْ الْإِسْلَامِ مَعَ ظُهُورِ ذُنُوبِهِمْ، وَلَيْسُوا كَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ فَأُولَئِكَ لَمْ يُعَاقِبْهُمْ إلَّا عَلَى ذَنْبٍ ظَاهِرٍ.

وَبِسَبَبِ الْكَلَامِ فِي مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ.

(الشرح)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا مُحمد وعلى آله وصحبه؛ أمَّا بعد: -

فإن المؤلف -شيخ الإسلام- ابن تيمية -رحمه الله- سبق أن ردَّ على المرجئة بعد أن ذكر شُبههم في أن الإيمان مُجرد التصديق في القلب، وأن الأعمال غير داخلةٌ في مُسمى الإيمان، بعد أن رد شُبههم، بَيَّن -رحمه الله- أن النزاع بين أهل السنة أنفسهم (نزاعٌ لفظي)؛ لأن مرجئة الفقهاء -وهم أهل الكوفة- وأبو حنيفة وأصحابه وإن كانوا يقولون: إن الأعمال غير داخلة في مُسمى الإيمان، إلا أنهم يُوافقون جمهور أهل السنة في أن الواجبات مطلوبة وأن المــُحرمات مُحرمة، وأن مَن فعلوا واجب؛ أثابه الله ومَن فعلوا محرم؛ فإنه مُتعرضٌ للعقوبة، ويُقام عليه الحد إن كانت هذه المعصية لها حد.

فهم وإن قالوا: إن الأعمال غير داخلةٌ في مُسمى الإيمان، إلا أنهم يوافقون جمهور أهل السنة في أن الواجبات واجبات، والمــُحرمات مُحرمات، وما رُتِّب على المحرمات لا بُدَّ من تنفيذه. فهؤلاء نزاعهم نزاعٌ لفظي، ولكن المحظور إنما هو النزاع المعنوي الذي يترتب عليه فسادٌ في الاعتقاد، وهذا هو نزاع أهل السنة جميعًا مع غلاة المرجئة الذين يقولون: إن ترك الواجبات وفعل المحرمات لا يترتب عليه شيء، كما أن أيضًا الخوارج الذين يُقابلونهم، الذين يُكفِّرون المسلمون بالمعاصي، نزاعهم أيضًا مع أهل السنة والجماعة نزاعٌ معنوي.

ولهذا بيَّن المؤلف -رَحِمَهُ اللَّهُ-فيما سبق قال: "وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ أَكْثَرَ التَّنَازُعِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ" يعني في مسألة دخول الأعمال في مُسمى الإيمان، "هُوَ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ" ولكن النزاع المعنوي إنما هو النزاع مع المـُرجئة المحضة، المـُرجئة الغُلاة الذين يقولون: لا نعلم أن أحدًا منهم يدخل النار؛ بل نتوقف في هذا.

قال المؤلّف: "وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ الْجَزْمُ بِالنَّفْيِ الْعَامِّ" يعني أن أهل الكبائر لا يدخل أحدًا منهم النار، ويقابلهم الخوارج الذين يُكفِّرون المسلمين بالمعاصي. فهاتان طائفتان مُتقابلتان؛ فالغلاة المرجئة يرون أن أهل الكبائر لا يدخل أحدٌ منهم النار، ويقابلهم الخوارج الذين يُخلِّدون العُصاة في النار.

ولهذا ناقشهم المؤلّف -رحمه الله- فقال: "وَيُقَالُ لِلْخَوَارِجِ: الَّذِي نَفَى عَنْ السَّارِقِ وَالزَّانِي وَالشَّارِبِ وَغَيْرِهِمْ الْإِيمَانَ؛ هُوَ لَمْ يَجْعَلْهُمْ مُرْتَدِّينَ عَنْ الْإِسْلَامِ؛ بَلْ عَاقَبَ هَذَا بِالْجَلْدِ وَهَذَا بِالْقَطْعِ" يقول المؤلف -رحمه الله-: إن الشارع وإن نفى الإيمان عن السارق والزاني في قوله ﷺ في الحديث الصحيح: لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، ([1])، وإن نفى عنهم الإيمان لكن هذا النفي إنما هو نفيٌ لكمال الإيمان الواجب، وليس نفيًا لأصل الإيمان؛ بدليل أنه لم يجعلهم مُرتدين عن الإسلام، ولو كانوا مُرتدين عن الإسلام لعُوقِبوا بالقتل لقول النبي ﷺ: مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ([2]).

 والشارع عاقب هذا بالجلد يعني شارب الخمر، وهذا بالقطع يعني السارق، "وَلَمْ يَقْتُلْ أَحَدًا إلَّا الزَّانِيَ الْمُحْصَنَ وَلَمْ يَقْتُلْهُ قَتْلَ الْمُرْتَدِّ؛ فَإِنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ"؛ لأن قتله قتل كُفر لأنه كافر، "وَهَذَا يُرْجَمُ بِالْحِجَارَةِ بِلَا اسْتِتَابَةٍ" لأنه حد. ففرق بين قتل الزاني المــُحصن فإن قتله رجمٌ بالحجارة بلا استتابة؛ لأنه حد. وأمَّا المــُرتد فإنه يُقتل بالسيف بعد الاستتابة؛ لأنه كفر.

 يقول المؤلّف -رحمه الله-: "فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ وَإِنْ نَفَى عَنْهُمْ الْإِيمَانَ" -يعني الشارع- "وَإِنْ نَفَى عَنْهُمْ الْإِيمَانَ" يعني في الأحاديث كقوله: لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ،([3])، "فَلَيْسُوا عِنْدَهُ مُرْتَدِّينَ عَنْ الْإِسْلَامِ مَعَ ظُهُورِ ذُنُوبِهِمْ، وَلَيْسُوا كَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ" ليسوا مرتدين؛ فيُعاملوا مُعاملة المرتدين، وليسوا منافقين، فإن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، لكن ماذا يكون حالهم؟

قال المؤلف: "فَأُولَئِكَ" يعني أصحاب الذنوب "لَمْ يُعَاقِبْهُمْ إلَّا عَلَى ذَنْبٍ ظَاهِر" فدل على أن النزاع بين أهل السنة والخوارج نزاعٌ معنوي يترتب عليه فسادٌ في العقيدة، وكذلك النزاع مع المــُرجئة المحضة نزاعٌ يترتب عليه فسادٌ في العقيدة؛ لأنهم يقولون أن أهل الكبائر لا يدخل أحدٌ منهم النار، وأولئك يقولون: أهل الكبائر يُخلَّدون في النار، بخلاف النزاع مع أهل الكوفة -أبي حنيفة وأصحابه- فإنه نزاعٌ لفظي لا يترتب عليه فسادٌ في العقيدة؛ بدليل أن الجميع مُتفقون على أن أهل الكبائر يستحقون العقوبة ولا يخلَّدون النار، نعم.

(المتن)

وَبِسَبَبِ الْكَلَامِ فِي مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ تَنَازَعَ النَّاسُ، هَلْ فِي اللُّغَةِ أَسْمَاءٌ شَرْعِيَّةٌ نَقَلَهَا الشَّارِعُ عَنْ مُسَمَّاهَا فِي اللُّغَةِ، أَوْ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ فِي الشَّرْعِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ لَكِنَّ الشَّارِعَ زَادَ فِي أَحْكَامِهَا لَا فِي مَعْنَى الْأَسْمَاءِ؟

وَهَكَذَا قَالُوا فِي اسْمِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ، إنَّهَا بَاقِيَةٌ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ عَلَى مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ لَكِنْ زَادَ فِي أَحْكَامِهَا.

وَمَقْصُودُهُمْ: أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ.

وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ إلَى أَنَّ الشَّارِعَ تَصَرَّفَ فِيهَا تَصَرُّفَ أَهْلِ الْعُرْفِ، فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللُّغَةِ مَجَازٌ، وَبِالنِّسْبَةِ إلَى عُرْفِ الشَّارِعِ حَقِيقَةٌ.

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَنْقُلْهَا وَلَمْ يُغَيِّرْهَا وَلَكِنْ اسْتَعْمَلَهَا مُقَيَّدَةً لَا مُطْلَقَةً كَمَا يَسْتَعْمِلُ نَظَائِرَهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97] فَذَكَرَ حَجًّا خَاصًّا وَهُوَ حَجُّ الْبَيْتِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ [البقرة:158] فَلَمْ يَكُنْ لَفْظُ الْحَجِّ مُتَنَاوِلًا لِكُلِّ قَصْدٍ؛ بَلْ لِقَصْدٍ مَخْصُوصٍ دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ نَفْسُهُ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرِ اللُّغَةِ.

وَالشَّاعِرُ إذَا قَالَ:

وَأشْهَدْ مِنْ عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَةً يَحُجُّونَ سَبَّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا

كَانَ مُتَكَلِّمًا بِاللُّغَةِ وَقَدْ قَيَّدَ لَفْظَهُ بِحَجِّ سَبِّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ الْحَجَّ الْمَخْصُوصَ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْإِضَافَةُ، فَكَذَلِكَ الْحَجُّ الْمَخْصُوصُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْإِضَافَةُ أَوْ التَّعْرِيفُ بِاللَّامِ: فَإِذَا قِيلَ: الْحَجُّ فَرْضٌ عَلَيْك كَانَتْ لَامُ الْعَهْدِ تُبَيِّنُ أَنَّهُ حِجُّ الْبَيْتِ.

وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ هِيَ: اسْمٌ لِمَا تَزْكُو بِهِ النَّفْسُ؛ وَزَكَاةُ النَّفْسِ زِيَادَةُ خَيْرِهَا وَذَهَابُ شَرِّهَا، وَالْإِحْسَانُ إلَى النَّاسِ مِنْ أَعْظَمِ مَا تَزْكُو بِهِ النَّفْسُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْفَوَاحِشِ مِمَّا تَزْكُو بِهِ، قَالَ تَعَالَى. وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا [النور:21].

وَأَصْلُ زَكَاتِهَا بِالتَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ؛ قَالَ تَعَالَى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ۝ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [فصلت:6، 7] وَهِيَ عِنْدُ الْمُفَسِّرِينَ التَّوْحِيدُ.

(الشرح)

المؤلف -رحمه الله-يُبيِّن في هذا المقام مسألة الإيمان وتنازُع الناس فيه، يعني يقول:

"وَبِسَبَبِ الْكَلَامِ فِي " مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ " تَنَازَعَ النَّاسُ هَلْ فِي اللُّغَةِ أَسْمَاءٌ شَرْعِيَّةٌ نَقَلَهَا الشَّارِعُ عَنْ مُسَمَّاهَا فِي اللُّغَةِ أَوْ أَنَّهَا" الشارع أبقاها على ما كانت عليه في اللغة وزاد فيها أحكامًا، أو أن الشارع تصرف فيها تصرُف أهل العرف، ثلاثة أقوال لأهل العلم.

وسبب هذا النزاع هو الكلام في مسألة الإيمان، لما كَثُر الكلام في مسألة الإيمان "تَنَازَعَ النَّاسُ هَلْ فِي اللُّغَةِ أَسْمَاءٌ شَرْعِيَّةٌ نَقَلَهَا الشَّارِعُ عَنْ مُسَمَّاهَا فِي اللُّغَةِ؟" مثل: الصلاة، الصلاة في اللغة الدعاء، هل نقلها الشارع عن مسماها اللغوي وهي الهيئة المــُفتتحة بالتكبير ومُختتمة بالتسليم، أو أن الشارع أبقاها على معناها اللغوي وزاد فيها أحكامًا؟

لأن الصلاة فيها دعاء، وفيها ذِكر، وفيها قراءة. وكذلك الزكاة: أصلها في اللغة الطهارة. هل الشارع أبقاها على معناها اللغوي وزاد فيها أحكامًا أو أنه نقلها إلى مُسماها الشرعي وهي القدر المخصوص المأخوذ من مالٍ مخصوص؟ وكذلك الحج، وكذلك الصيام.

ذكر المؤلف -رحمه الله-ثلاثة أقوال لأهل العلم:

من العلماء من قال: إن الشارع نقلها من أسمائها اللغوية إلى أسمائها الشرعية.

والقول الثاني: أن الشارع لم ينقلها، وإنما أبقاها وزاد فيها أحكامًا.

ومن العلماء مَن قال: إن الشارع تصرَّف فيها تصرُف أهل العرف.

 ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: "وَبِسَبَبِ الْكَلَامِ فِي "مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ" تَنَازَعَ النَّاسُ هَلْ فِي اللُّغَةِ أَسْمَاءٌ شَرْعِيَّةٌ نَقَلَهَا الشَّارِعُ عَنْ مُسَمَّاهَا فِي اللُّغَةِ أَوْ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ فِي الشَّرْعِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ لَكِنَّ الشَّارِعَ زَادَ فِي أَحْكَامِهَا لَا فِي مَعْنَى الْأَسْمَاءِ؟"

يعني لم يزد في معنى الأسماء وإنما زاد في أحكامها، "وَهَكَذَا قَالُوا فِي اسْمِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ إنَّهَا بَاقِيَةٌ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ عَلَى مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ لَكِنْ زَادَ فِي أَحْكَامِهَا.

وَمَقْصُودُهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ" ثم يعني ثم الشارع زاد على مُسمى الإيمان.

يقول: "وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ إلَى أَنَّ الشَّارِعَ تَصَرَّفَ فِيهَا تَصَرُّفَ أَهْلِ الْعُرْفِ فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللُّغَةِ مَجَازٌ وَبِالنِّسْبَةِ إلَى عُرْفِ الشَّارِعِ حَقِيقَةٌ".

ذكر هذا الآمدي في كتابه "الأحكام من هذه الأقوال"، وذكر الرازي في تفسيره، وغيرهم. ولا مشاحة في ذلك؛ فالقول بأنها أسماءٌ شرعية نقلها الشارع من معناها اللغوي، أو[11:11] له وجه. والقول بأنها بقيت على أسمائها اللغوية وزاد فيها الشارع أحكامًا له وجه أيضًا.

ولا شك أن الصلاة والزكاة والصيام والحج أسماءٌ شرعية، الصلاة أصلها في اللغة الدعاء، ثم استعملها الشارع في الهيئة المــُفتتحة بالتكبير والمُختتمة بالتسليم. والزكاة في اللغة: الطهارة، ثم استعملها الشارع في دفع المال المخصوص.

والصيام في اللغة: الإمساك، ثم استعمله الشارع في الإمساك عن المفطرات في وقتٍ مخصوص من شخصٍ مخصوص من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس.

وكذلك الحج في اللغة: القصد، ثم استعمله الشارع في قصد بيت الله الحرام؛ لأداء مناسك الحج.

 والمؤلف -رحمه الله-رجَّح من هذه الأقوال وحقق أن الشارع لم ينقلها ولم يُغيرها، لكن استعملها مُقيدةً لا مُطلقة؛ ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-:"وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَنْقُلْهَا وَلَمْ يُغَيِّرْهَا وَلَكِنْ اسْتَعْمَلَهَا مُقَيَّدَةً لَا مُطْلَقَةً" فالصلاة دعاء لكنها دعاء مخصوص، والزكاة طهارة لكنها طهارةٌ مخصوصة، طهارة بدفع المال مخصوص، والصلاة دعاءٌ في الهيئة الشرعية المُفتتحة بالتكبير والمُختتمة بالتسليم، والحج قصدٌ مخصوص؛ فالشارع استعملها مُقيدةً لا مُطلقة كما يستخدم نظائرها.

قال المؤلف -رحمه الله-: "كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97] فَذَكَرَ حَجًّا خَاصًّا وَهُوَ حَجُّ الْبَيْتِ" لأن الحج في اللغة القصد، هنا حجٌ مُقيد.

"وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ [البقرة:158]" فلم يكن لفظ الحج متناولًا لكل قصد، لكن أصله في اللغة متناول لكل قصد، الحج في اللغة هو القصد، فالشارع استعمله مُقيد وهو قصدٌ خاص؛ قصدٌ مخصوص من شخصٍ مخصوص في وقتٍ مخصوص في مكانٍ مخصوص؛ وهو قصد حج بيت الله الحرام لأداء مناسك الحج.

ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: "فَلَمْ يَكُنْ لَفْظُ الْحَجِّ مُتَنَاوِلًا لِكُلِّ قَصْدٍ بَلْ لِقَصْدِ مَخْصُوصٍ دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ نَفْسُهُ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرِ اللُّغَةِ". واستشهد بقول الشاعر، إذا قال: "وَالشَّاعِرُ إذَا قَالَ: -وهو مقيلة السعدي كما ذكر في لسان العرب-قال:

وَاشْهَدْ مِنْ عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَةً يَحُجُّونَ سَبَّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا

قال المؤلف -رحمه الله-: الشاعر متقيد باللغة، "وَقَدْ قَيَّدَ: لَفْظَهُ: بِحَجِّ سَبِّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا" قيَّده؛ الشاهد أنه أضاف. يحجون سب الزبرقان، ما قال: يحجون وأطلق، فهو حجٌ مُقيد، الحج سب الزبرقان. والزبرقان في لسان العرب: وهو زبرقان بن بدر الفزاري، سُمي بذلك لتسميته أباه بدرًا. وقيل: سُمي زبرقانًا لصفرة عمامته؛ ولهذا قال: الزبرقان المزعفرا، والمزعفرا: اللون الأصفر.

يقول المؤلف -رحمه الله-: الشاعر حينما قال: يحجون سب الزبرقان "كَانَ مُتَكَلِّمًا بِاللُّغَةِ وَقَدْ قَيَّدَ: لَفْظَهُ: بِحَجِّ سَبِّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ الْحَجَّ الْمَخْصُوصَ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْإِضَافَةُ" حجٌ مُضاف إلى مُضاف حج سب الزبرقان، والسب: هي العمامة أو الخمار، حج حج العمامة وهو الخمار المـُزعفر، فهذا حجٌّ مٌقيد دلت عليه الإضافة أو التعريف باللام؛ التعريف باللام (الحج)، أو بالإضافة (حج الزبرقان).

يقول المؤلف -رحمه الله-: "فَإِذَا قِيلَ: الْحَجُّ فَرْضٌ عَلَيْك" (أل) هنا ما المراد بها؟ المراد بها الحج المعهود المعروف وهو حج بيت الله الحرام. فإذا قيل الحج فرض عليك كانت لام العهد تُبين أنه حج البيت (أل) العهد، فأنت إذا قلت: الحج أو قلت: حج البيت، المعنى واحد؛ (أل) تنوب عن الإضافة؛ الحج يعني الحج المعروف، وهو الحج إلى بيت الله الحرام، بخلاف ما إذا قال: حج، حج فلان هذا مُطلق، لكن إذا قُيد فقيل: حج البيت، أو الحج صار الحج المعهود.

"وَكَذَلِكَ " الزَّكَاةُ " هِيَ اسْمٌ لِمَا تَزْكُو بِهِ النَّفْسُ؛ وَزَكَاةُ النَّفْسِ زِيَادَةُ خَيْرِهَا وَذَهَابُ شَرِّهَا" هذا في اللغة اسمٌ لما تزكو به النفس، والزكاة في النفس زيادة خيرها وذهاب شرها. الشارع استعمل الزكاة المــُقـيدة وهي الزكاة المخصوصة. 

يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "وَالْإِحْسَانُ إلَى النَّاسِ مِنْ أَعْظَمِ مَا تَزْكُو بِهِ النَّفْسُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْفَوَاحِشِ مِمَّا تَزْكُو بِهِ. قَالَ تَعَالَى. وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا [النور:21]"

هذه الزكاة في معناه اللغوي، يقول المؤلف: "وَأَصْلُ زَكَاتِهَا بِالتَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ"، النفس تزكو بالتوحيد، وإخلاص الدين لله.

"قَالَ تَعَالَى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ۝ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [فصلت:6-7] وَهِيَ عِنْدُ الْمُفَسِّرِينَ التَّوْحِيدُ."، إن المراد بالزكاة هنا في الآية: التوحيد وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ۝ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، يعني لا يزكون أنفسهم بالتوحيد وإخلاص الدين لله. نعم.

(المتن)

وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ وَسَمَّاهَا الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ؛ فَصَارَ لَفْظُ الزَّكَاةِ إذَا عُرِّفَ بِاللَّامِ يَنْصَرِفُ إلَيْهَا لِأَجْلِ الْعَهْدِ وَمِنْ الْأَسْمَاءِ مَا يَكُونُ أَهْلُ الْعُرْفِ نَقَلُوهُ وَيَنْسُبُونَ ذَلِكَ إلَى الشَّارِعِ، مِثْلَ لَفْظِ: التَّيَمُّمِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة: 6].

فَلَفْظُ التَّيَمُّمِ اُسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَاهُ الْمَعْرُوفِ فِي اللُّغَةِ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِتَيَمُّمِ الصَّعِيدِ، ثُمَّ أَمَرَ بِمَسْحِ الْوُجُوهِ وَالْأَيْدِي مِنْهُ؛ فَصَارَ لَفْظُ التَّيَمُّمِ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ يَدْخُلُ فِيهِ هَذَا الْمَسْحُ؛ وَلَيْسَ هُوَ لُغَةُ الشَّارِعِ بَلْ الشَّارِعُ فَرَّقَ بَيْنَ تَيَمُّمِ الصَّعِيدِ وَبَيْنَ الْمَسْحِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَهُ وَلَفْظُ الْإِيمَانِ أَمَرَ بِهِ مُقَيَّدًا بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ.

وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْإِسْلَامِ بِالِاسْتِسْلَامِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْكُفْرِ مُقَيَّدًا؛ وَلَكِنْ لَفْظُ النِّفَاقِ قَدْ قِيلَ: إنَّهُ لَمْ تَكُنْ الْعَرَبُ تَكَلَّمَتْ بِهِ لَكِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِهِمْ فَإِنَّ نَفَقَ يُشْبِهُ خَرَجَ وَمِنْهُ نَفَقَتْ الدَّابَّةُ إذَا مَاتَتْ: وَمِنْهُ نَافِقَاءُ الْيَرْبُوعِ وَالنَّفَقُ فِي الْأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ [الأنعام: 35].

فَالْمُنَافِقُ هُوَ الَّذِي خَرَجَ مِنْ الْإِيمَانِ بَاطِنًا بَعْدَ دُخُولِهِ فِيهِ ظَاهِرًا؛ وَقَيَّدَ النِّفَاقَ بِأَنَّهُ نِفَاقٌ مِنْ الْإِيمَانِ.

وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُسَمِّي مَنْ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ الْمَلِكِ مُنَافِقًا عَلَيْهِ؛ لَكِنَّ النِّفَاقَ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ هُوَ النِّفَاقُ عَلَى الرَّسُولِ.

فَخِطَابُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِلنَّاسِ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ كَخِطَابِ النَّاسِ بِغَيْرِهَا؛ وَهُوَ خِطَابٌ مُقَيَّدٌ خَاصٌّ لَا مُطْلَقٌ يَحْتَمِلُ أَنْوَاعًا.

(الشرح)

المؤلف -رحمه الله-لا يزال يبين أن الشارع، إنما استعمل الألفاظ اللغوية المـُقيدة في الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والإيمان، والإسلام، والنفاق، والكفر؛ فهو استعملها مُقيدة، لم يبقها على إطلاقها اللغوي.

 كالزكاة: أصلها ما تزكو به النفس، ثم استعملها الشارع في الزكاة المخصوصة التي لها واجب، لها شروط، ولها نصاب؛ ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: "وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ مِقْدَارَ الْوَاجِب وَسَمَّاهَا الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ؛ فَصَارَ لَفْظُ الزَّكَاةِ إذَا عُرِّفَ بِاللَّامِ يَنْصَرِفُ إلَيْهَا لِأَجْلِ الْعَهْدِ"؛ لأن "أل" في الزكاة للعهد الزكاة المعهودة، أما الزكاة من حيث هي في اللغة فهي الطهارة.

 قال المؤلف -رحمه الله-: "وَمِنْ الْأَسْمَاءِ مَا يَكُونُ أَهْلُ الْعُرْفِ نَقَلُوهُ وَيَنْسُبُونَ ذَلِكَ إلَى الشَّارِعِ مِثْلَ لَفْظِ "التَّيَمُّمِ" فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة: 6] فَلَفْظُ "التَّيَمُّمِ" اُسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَاهُ الْمَعْرُوفِ فِي اللُّغَةِ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِتَيَمُّمِ الصَّعِيدِ ثُمَّ أَمَرَ بِمَسْحِ الْوُجُوهِ وَالْأَيْدِي مِنْهُ"، يعني التيمم من الأسماء التي نقلها أهل العرف إلى الشارع، أصل التيمم في اللغة القصد، وهذا موجودٌ في التيمم: يقصد الإنسان الصعيد، ويضرب بيديه الأرض.

 لكن المسح (مسح الوجه واليدين) هذا استعمالٌ شرعي؛ ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: "فَلَفْظُ "التَّيَمُّمِ" اُسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَاهُ الْمَعْرُوفِ فِي اللُّغَةِ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِتَيَمُّمِ الصَّعِيدِ ثُمَّ أَمَرَ بِمَسْحِ الْوُجُوهِ وَالْأَيْدِي مِنْهُ" فَصَارَ لَفْظُ التَّيَمُّمِ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ يَدْخُلُ فِيهِ هَذَا الْمَسْحُ؛ وَلَيْسَ. هُوَ لُغَةُ الشَّارِعِ بَلْ الشَّارِعُ فَرَّقَ بَيْنَ تَيَمُّمِ الصَّعِيدِ وَبَيْنَ الْمَسْحِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَهُ"؛ يعني أن التيمم لا بد فيه من أمرين:

تيمم الصعيد، وضرب اليدين.

والأمر الثاني: المسح، مسح الوجه واليدين.

فصار التيمم في عرف الفقهاء يجمع أمرين: القصد قصد الصعيد وضرب اليدين بالصعيد. والأمر الثاني: مسح الوجه واليدين.

وكذلك يقول المؤلف-رحمه الله-: كذلك لفظ "الإيمان" استعمله الشارع مقيدًا، فقال: "وَلَفْظُ " الْإِيمَانِ " أَمَرَ بِهِ مُقَيَّدًا بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ" ؛ هذا الإيمان المقيد، أما الإيمان المُطلق فهو التصديق، لكن الشارع استعمله مُقيدًا قال: إِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الآخر، وكذلك لفظ "الإسلام"، الإسلام في اللغة الاستسلام والانقياد، لكن الشارع استعمله مقيدًا، فقال: "وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْإِسْلَامِ " بِالِاسْتِسْلَامِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْكُفْرِ " مُقَيَّدًا" فإن الكفر أصله الجحود، ولكن الشارع استعمله في جحود خاص، وهو جحود توحيد الله .

 وكذلك "النفاق"، يقول المؤلف -رحمه الله-: "وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْكُفْرِ " مُقَيَّدًا"، وكذلك لفظ "النفاق"، وإن كان النفاق ليس معروفًا "لإنَّهُ لَمْ تَكُنْ الْعَرَبُ تَكَلَّمَتْ بِهِ لَكِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِهِمْ"، يعني أصل مادة الكلمة.

قال المؤلف -رحمه الله-: "فَإِنَّ نَفَقَ يُشْبِهُ خَرَجَ وَمِنْهُ نَفَقَتْ الدَّابَّةُ إذَا مَاتَتْ: وَمِنْهُ نَافِقَاءُ الْيَرْبُوعِ"، نافقاء اليربوع الجحر الذي يحفره الضب، يُقال له: جُحران، جُحر يُقال: له نافقة، وجحرٌ يُقال له: القافعة، فجُحرٌ خفي، وجحرٌ ظاهر، فهو يحفر جُحرًا خفيًّا يجعل التراب رقيقًا، ويدخل مع جُحره المعروف، فإذا رابه ريبٌ خرج مع الجحر الخفي، ضربه ودفعه برأسه؛ فخرج، نافقان إحداهما يُقال له نافقة، والآخر يُقال له قافعة.

 وكذلك المنافق له ظاهر وباطن، باطنه الكفر، وظاهره الإسلام، كاليربوع له جحران جحرٌ ظاهر، وجُحرٌ باطن، هذا أصل النفاق،

ويقول المؤلف -رحمه الله-: "إنَّهُ لَمْ تَكُنْ الْعَرَبُ تَكَلَّمَتْ بِهِ لَكِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِهِمْ فَإِنَّ نَفَقَ يُشْبِهُ خَرَجَ وَمِنْهُ نَفَقَتْ الدَّابَّةُ إذَا مَاتَتْ: وَمِنْهُ نَافِقَاءُ الْيَرْبُوعِ وَالنَّفَقُ فِي الْأَرْضِ قَالَ تَعَالَى: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ [الأنعام:35]، فَالْمُنَافِقُ هُوَ الَّذِي خَرَجَ مِنْ الْإِيمَانِ بَاطِنًا بَعْدَ دُخُولِهِ فِيهِ ظَاهِرًا؛ وَقَيَّدَ النِّفَاقَ بِأَنَّهُ نِفَاقٌ مِنْ الْإِيمَان"؛ لأن النفاق قد يكون نفاق من الإيمان، وقد يكون من غيره، يقول: "وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُسَمِّي مَنْ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ الْمَلِكِ مُنَافِقًا عَلَيْهِ؛ لَكِنَّ النِّفَاقَ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ هُوَ النِّفَاقُ عَلَى الرَّسُولِ" -عليه الصلاة والسلام-، وذلك أنه يُظهر الإسلام ويُبطن الكفر.

يقول المؤلف: "فَخِطَابُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِلنَّاسِ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ كَخِطَابِ النَّاسِ بِغَيْرِهَا؛ وَهُوَ خِطَابٌ مُقَيَّدٌ خَاصٌّ لَا مُطْلَقٌ يَحْتَمِلُ أَنْوَاعًا."، يعني خطاب الله ورسوله بهذه الأسماء: الإيمان، والكفر، والنفاق، والصلاة، والزكاة، والحج كخطاب، كخطاب الناس في غيره. مقيد، خطابٌ مقيد خاص، إيمانٌ مُقيد إيمانٌ بالله ورسوله، إسلام مُقيد إسلامٌ بالله، صلاةٌ مقيدة دعاءٌ وهي الهيئة المفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم، زكاةٌ مقيدة، حجٌ مُقيد وهو الحج إلى بيت الله الحرام، فخطاب الله ورسوله للنفس بهذه الأسماء كخطاب الناس بغيرها هو خطابٌ مُقيدٌ خاص لا مطلق يحتمل أنواعًا.

(المتن)

وَقَدْ بَيَّنَ الرَّسُولُ تِلْكَ الْخَصَائِصَ؛ وَالِاسْمُ دَلَّ عَلَيْهَا؛ فَلَا يُقَالُ: إنَّهَا مَنْقُولَةٌ وَلَا إنَّهُ زِيدَ فِي الْحُكْمِ دُونَ الِاسْمِ؛ بَلْ الِاسْمُ إنَّمَا اُسْتُعْمِلَ عَلَى وَجْهٍ يَخْتَصُّ بِمُرَادِ الشَّارِعِ؛ لَمْ يُسْتَعْمَلْ مُطْلَقًا وَهُوَ إنَّمَا قَالَ: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [يونس:87].

بَعْدَ أَنْ عَرَّفَهُمْ الصَّلَاةَ الْمَأْمُورَ بِهَا؛ فَكَانَ التَّعْرِيفُ مُنْصَرِفًا إلَى الصَّلَاةِ الَّتِي يَعْرِفُونَهَا؛ لَمْ يَرِدْ لَفْظُ الصَّلَاةِ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَعْنَاهُ.

وَلِهَذَا كُلُّ مَنْ قَالَ فِي لَفْظِ الصَّلَاةِ: إنَّهُ عَامٌّ لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ؛ أَوْ إنَّهُ مُجْمَلٌ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَأَقْوَالُهُمْ ضَعِيفَةٌ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ إنَّمَا وَرَدَ خَبَرًا أَوْ أَمْرًا فَالْخَبَرُ كَقَوْلِهِ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ۝ عَبْدًا إذَا صَلَّى [العلق:9-10] وَسُورَةُ اقْرَأْ مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ.

وَكَانَ بَعْضُ الْكُفَّارِ إمَّا أَبُو جَهْلٍ أَوْ غَيْرُهُ قَدْ نَهَى النَّبِيَّ ﷺ عَنْ الصَّلَاةِ وَقَالَ: لَئِنْ رَأَيْته يُصَلِّي لَأَطَأَنَّ عُنُقَهُ، فَلَمَّا رَآهُ سَاجِدًا رَأَى مِنْ الْهَوْلِ مَا أَوْجَبَ نُكُوصَهُ عَلَى عَقِبَيْهِ، فَإِذَا قِيلَ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ۝ عَبْدًا إذَا صَلَّى [العلق:9-10].

فَقَدْ عَلِمْت تِلْكَ الصَّلَاةَ الْوَاقِعَةَ بِلَا إجْمَالٍ فِي اللَّفْظِ وَلَا عُمُومٍ. ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا فُرِضَتْ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ أَقَامَ النَّبِيُّ ﷺ لَهُمْ الصَّلَوَاتِ بِمَوَاقِيتِهَا صَبِيحَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَكَانَ جبرائيل يَؤُمُّ النَّبِيَّ ﷺ.

وَالْمُسْلِمُونَ يَأْتَمُّونَ بِالنَّبِيِّ ﷺ. فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [يونس:87]، عَرَفُوا أَنَّهَا تِلْكَ الصَّلَاةُ وَقِيلَ: إنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَتْ لَهُ صَلَاتَانِ طَرَفَيْ النَّهَارِ فَكَانَتْ أَيْضًا مَعْرُوفَةً فَلَمْ يُخَاطَبُوا بِاسْمِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ إلَّا وَمُسَمَّاهُ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ.

فَلَا إجْمَالَ فِي ذَلِكَ وَلَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يُسَمَّى حَجًّا وَدُعَاءً وَصَوْمًا فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ اللَّفْظُ مُطْلَقًا وَذَلِكَ لَمْ يَرِدْ.

(الشرح)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أمَّا بعد: -

فإن المؤلف -شيخ الإسلام-بن تيمية -رحمه الله-بيَّن فيما سبق أنه بسبب الكلام في مسألة الإيمان تنازع الناس؛ هل في اللغة أسماءٌ شرعية نقلها الشارع ومسماها اللغوي، أو أنها باقيةٌ في الشرع على ما كانت عليه، ولكنها الشارع زاد فيها أحكامًا، أو أن الشارع تصرف فيها تصرف أهل العرف؟ وبيَّن أن التحقيق أن الشارع لم ينقلها، ولم يغيرها، ولكن استعملها مُقيدةً، لا مطلقة.

 فهذه الأسماء لها خصائص والاسم دلَّ عليها، والرسول ﷺ، وهو الذي بين تلك الخصائص، فلا يُقال إنها منقولة، وإنما يُقال استُعملت استعمالًا مُقيدًا؛ ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: "وَقَدْ بَيَّنَ الرَّسُولُ تِلْكَ الْخَصَائِصَ؛ وَالِاسْمُ دَلَّ عَلَيْهَا؛ فَلَا يُقَالُ: إنَّهَا مَنْقُولَةٌ" يعني اسم الصلاة، اسم الزكاة، اسم الصوم، اسم الحج، اسم الإيمان، اسم الكفر، اسم البر، اسم التقوى، اسم الهدى، يقول: "فَلَا يُقَالُ: إنَّهَا مَنْقُولَةٌ وَلَا إنَّهُ زِيدَ فِي الْحُكْمِ دُونَ الِاسْمِ؛ بَلْ الِاسْمُ إنَّمَا اُسْتُعْمِلَ عَلَى وَجْهٍ يَخْتَصُّ بِمُرَادِ الشَّارِعِ."، فالصلاة استُعملت على وجهٍ يختص بمراد الشارع، ومراد الشارع الهيئة، المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم، وفي ضمنها الدعاء الذي هو المعنى اللغوي.

 الزكاة استعملها الشارع للزكاة المخصوصة، وهي المال المخصوص الذي يُدفع من مالٍ مخصوص بشروطٍ مخصوصة، وفي ضمن ذلك الطهارة، والحج كذلك أصله في اللغة القصد والشارع استعمله في قصدٍ مخصوص، وهو قصد حج بيت الله الحرام، قصد مكة لأداء المناسك؛ ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: "بَلْ الِاسْمُ إنَّمَا اُسْتُعْمِلَ عَلَى وَجْهٍ يَخْتَصُّ بِمُرَادِ الشَّارِعِ؛ لَمْ يُسْتَعْمَلْ مُطْلَقًا".

ثم بين المؤلف -رَحِمَهُ اللَّهُ-قال: ""وَهُوَ" يعني الشارع " إنَّمَا قَالَ: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [يونس:87]" يعني قال الله تعالى في كتابه: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ، "بَعْدَ أَنْ عَرَّفَهُمْ الصَّلَاةَ الْمَأْمُورَ بِهَا؛" أقيموا الصلاة، ما المراد بالصلاة؟ الصلاة المأمور بها، وهي الهيئة المفتتحة بالتكبير، المختتمة بالتسليم.

قال المؤلف -رحمه الله-: "فَكَانَ التَّعْرِيفُ مُنْصَرِفًا إلَى الصَّلَاةِ الَّتِي يَعْرِفُونَهَا؛ لَمْ يَرِدْ لَفْظُ الصَّلَاةِ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَعْنَاهُ" لم ينزل لفظ الصلاة وهم لا يعرفون معناه، فدلَّ على إنسان[28:26] خاطبهم بألفاظٍ مقيدة، ليست على إطلاقها، فالصلاة الصلاة المعروفة المعهودة.

قال المؤلف -رحمه الله-: "وَلِهَذَا كُلُّ مَنْ قَالَ فِي لَفْظِ الصَّلَاةِ: إنَّهُ عَامٌّ لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ؛ أَوْ إنَّهُ مُجْمَلٌ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَأَقْوَالُهُمْ ضَعِيفَةٌ"، يقول المؤلف -رحمه الله-: من قال إن لفظ الصلاة عامٌ بالمعنى اللغوي، أو قال أنه مجمل لتردده بين المعنى اللغوي والشرعي فقوله ضعيف، يعني والصواب: أنه استعمله استعمالًا مقيدًا.

 بيَّن المؤلف -رحمه الله-سبب ضعف قول من قال إنه عامٌ للمعنى اللغوي، أو أنه مجمل مترددٌ بين المعنى اللغوي والشرعي، قال -وجه ضعف ذلك-:"إِنَّ هَذَا اللَّفْظَ إنَّمَا وَرَدَ خَبَرًا أَوْ أَمْرًا"، خبر كأن يُخبر  عن المؤمنين أنهم يُصلون، ويؤدون الصلاة، أو أمرٌ كقوله: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ  [يونس:87]، فالخبر كقوله تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ۝ عَبْدًا إذَا صَلَّى [العلق:9-10]، وهذه الآية إنما جاءت في سورة اقرأ.

 قال: "وَسُورَةُ اقْرَأْ مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ "وَكَانَ بَعْضُ الْكُفَّارِ إمَّا أَبُو جَهْلٍ أَوْ غَيْرُهُ قَدْ نَهَى النَّبِيَّ ﷺ عَنْ الصَّلَاةِ"، والصواب أنه أبو جهل هو الذي نهى النبي ﷺعن الصلاة، "وَقَالَ:" يعني أبو جهل "لَئِنْ رَأَيْته" يعني النبي ﷺ" يُصَلِّي لَأَطَأَنَّ عُنُقَهُ. فَلَمَّا رَآهُ سَاجِدًا رَأَى مِنْ الْهَوْلِ مَا أَوْجَبَ نُكُوصَهُ عَلَى عَقِبَيْهِ"، فرأى من الهول يدل على أنه رأى شيئًا يُريد أن يخطفه، أو يلتقمه، وجاء في بعضها أن النبي ﷺقال: والذي نفسي بيده لو دنا لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا([4]) أو كما جاء في الحديث.

لما رأى النبي ﷺساجدًا وأراد أن ينفذ مقالته: "لَئِنْ رَأَيْته يُصَلِّي لَأَطَأَنَّ عُنُقَهُ، فَلَمَّا رَآهُ سَاجِدًا رَأَى مِنْ الْهَوْلِ مَا أَوْجَبَ نُكُوصَهُ عَلَى عَقِبَيْهِ" نكص على عقبيه وهو ينفض بيدي. فلما سُئل، قال: رأيت كذا، رأيت هولًا، رأيت خندقًا؛ بيني وبينه خندق من النار أو كما جاء في بعض الروايات.

يقول المؤلف -رحمه الله-: "أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ۝ عَبْدًا إذَا صَلَّى [العلق:9، 10] فَقَدْ عُلِمْت تِلْكَ الصَّلَاةَ الْوَاقِعَةَ بِلَا إجْمَالٍ فِي اللَّفْظِ وَلَا عُمُومٍ" الصلاة معروفة، معلومة؛ فهي صلاةٌ معهودة؛ أصلي؛ لأنه ﷺ كان يصلي الصلاة المعروفة: كبَّر وقرأ ثم ركع ثم رفع ثم سجد، هذه هي الصلاة، "فَقَدْ عُلِمْت تِلْكَ الصَّلَاةَ الْوَاقِعَةَ بِلَا إجْمَالٍ فِي اللَّفْظِ وَلَا عُمُومٍ".

يقول المؤلف -رحمه الله-: "ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا فُرِضَتْ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ أَقَامَ النَّبِيُّ ﷺ لَهُمْ الصَّلَوَاتِ بِمَوَاقِيتِهَا صَبِيحَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَكَانَ جبريل عليه الصلاة والسلام يَؤُمُّ النَّبِيَّ ﷺ. وَالْمُسْلِمُونَ يَأْتَمُّونَ بِالنَّبِيِّ ﷺ" جبريل يؤم النبي ﷺ؛ يُعلِّمه كيفية الصلاة بوحيٍ من الله، والنبي ﷺ يؤم الناس.

يقول المؤلف -رحمه الله-: "فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ عَرَفُوا أَنَّهَا تِلْكَ الصَّلَاةُ" الصلاة المعهودة، ليست صلاةً مطلقة؛ بل الصلاة المعهودة. "وَقِيلَ: إنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَتْ لَهُ صَلَاتَانِ طَرَفَيْ النَّهَارِ" هذا في أول الأمر، "فَكَانَتْ أَيْضًا مَعْرُوفَةً فَلَمْ يُخَاطَبُوا بِاسْمِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ إلَّا وَمُسَمَّاهُ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ" يقول: يعني المسلمون لم يُخاطَبوا باسمٍ مطلق؛ بل باسمٍ مقيد معلومٌ عندهم. لما خوطبوا بالإيمان؛ يعلمون أن الإيمان هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، لما خوطبوا بالصلاة؛ يعلمون أن هذه الصلاة المعهودة، لما خوطبوا بالزكاة؛ يعلمون أنها الزكاة المعهودة، لما خوطبوا بالحج؛ يعلمون أنه الحج المعهود.

يقول المؤلف: "فَلَمْ يُخَاطَبُوا بِاسْمِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ إلَّا وَمُسَمَّاهُ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ فَلَا إجْمَالَ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يُسَمَّى حَجًّا وَدُعَاءً وَصَوْمًا" يعني: لما خوطبوا بالحج، قال: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97] مسماه معلومٌ عندهم وهو الحج إلى بيت الله الحرام، "وَلَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يُسَمَّى حَجًّا"؛ لأن المعنى اللغوي عام، الحج معناه القصد، أيُ قصد يسمى حج، لكن الله تعالى لما خاطب المؤمنين بالحج خاطبهم بحجٍّ معلوم عندهم.

وكذلك الصلاة: الدعاء، معناه في اللغة الدعاء، ولم يخاطبوا حينما أمرهم الله بالصلاة لم يخاطبوا بالدعاء بأي دعاء؛ وإنما يخاطبوا بالدعاء الخاص. وكذلك الصوم معناه في اللغة: الإمساك؛ لم يُخاطبوا بإمساكٍ مطلق؛ وإنما خوطبوا بإمساكٍ مقيد معلوم عندهم وهو الإمساك عن المفطرات بنية من شخصٍ مخصوص من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس.

يقول المؤلف -رحمه الله-: "فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ اللَّفْظُ مُطْلَقًا وَذَلِكَ لَمْ يَرِدْ" يعني: لو كان اللفظ مطلق لكانوا يُخاطبون بدعاءٍ مطلق وحجٍّ مطلق وصومٌ مطلق، هذا لو كان اللفظ مطلقًا، "وَذَلِكَ لَمْ يَرِدْ" لم يرِد اللفظ مطلقًا وإنما ورد مقيدًا.

(المتن)

وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ وَقَدْ كَانَ مَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَظْهَرِ الْأُمُورِ؛ وَإِنَّمَا سَأَلَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ ذَلِكَ وَهُمْ يَسْمَعُونَ، وَقَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ([5])؛ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ كَمَالَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَحَقَائِقَهَا الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تُقْصَدَ لِئَلَّا يَقْتَصِرُوا عَلَى أَدْنَى مُسَمَّيَاتِهَا.

وَهَذَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ الْمِسْكِينُ هَذَا الطَّوَّافَ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ إلْحَافًا([6]) فَهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ الْمِسْكِينَ وَأَنَّهُ الْمُحْتَاجُ وَكَانَ ذَلِكَ مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ فِيمَنْ يُظْهِرُ حَاجَتَهُ بِالسُّؤَالِ.

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الَّذِي يُظْهِرُ حَاجَتَهُ بِالسُّؤَالِ وَالنَّاسُ يُعْطُونَهُ تَزُولُ مَسْكَنَتُهُ بِإِعْطَاءِ النَّاسِ لَهُ، وَالسُّؤَالُ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْحِرْفَةِ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مِسْكِينًا يَسْتَحِقُّ مِنْ الزَّكَاةِ إذَا لَمْ يُعْطَ مَنْ غَيْرِهَا كِفَايَتُهُ، فَهُوَ إذَا وَجَدَ مَنْ يُعْطِيهِ كِفَايَتَهُ لَمْ يَبْقَ مِسْكِينًا؛ وَإِنَّمَا الْمِسْكِينُ الْمُحْتَاجُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ وَلَا يُعْرَفُ فَيُعْطَى.

فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُقَدَّمَ فِي الْعَطَاءِ؛ فَإِنَّهُ مِسْكِينٌ قَطْعًا وَذَاكَ مَسْكَنَتُهُ تَنْدَفِعُ بِعَطَاءِ مَنْ يَسْأَلُهُ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: " الْإِسْلَامُ هُوَ الْخَمْسُ " يُرِيدُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ وَاجِبٌ دَاخِلٌ فِي الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَكْتَفِيَ بِالْإِقْرَارِ بِالشَّهَادَتَيْنِ؛ وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْمُفَصَّلِ لَا يَكْتَفِي فِيهِ بِالْإِيمَانِ الْمُجْمَلِ؛ وَلِهَذَا وَصَفَ الْإِسْلَامَ بِهَذَا.

(الشرح)

المؤلف -رحمه الله-لا زال يقرر أن الشارع إنما خاطب الناس بألفاظٍ مقيدة لا مطلقة، كالصلاة والزكاة والصوم والحج، بألفاظٍ مقيدة معلومة عند الناس.

قال المؤلف -رحمه الله-: "وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ"، يعني خاطبهم بإيمانٍ مقيد وإسلامٍ مقيد؛ إيمانٌ بالله ورسوله، والإسلام استسلام لله تعالى بالتوحيد، وانقيادٌ له بالطاعة، وخُلوصٌ من الشرك.

ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: "وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ" وَقَدْ كَانَ مَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَظْهَرِ الْأُمُورِ" يعني أن الصحابة يعرفون معنى الإيمان ومعنى الإسلام؛ أمرٌ ظاهر.

"وَإِنَّمَا سَأَلَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ ذَلِكَ وَهُمْ يَسْمَعُونَ"، يعني يشير إلى حديث جبرائيل المعروف الطويل لما جاء إلى النبي ﷺفي صورة رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه أحد، فسأل عن الإسلام، ثم سأل عن الإيمان، ثم سأل عن الساعة، ثم سأل عن أماراتها، والناس  يستسمعون [ 36:32] يقول: وإنما سأل جبريل النبي ﷺعن ذلك وهم يسمعون، وقال: يعني قال النبي ﷺ لما نزل جبريل وسأل  [36:40]قال النبي ﷺ: "هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ([7])".

يقول: "لِيُبَيِّنَ لَهُمْ كَمَالَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَحَقَائِقَهَا الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تُقْصَدَ لِئَلَّا يَقْتَصِرُوا عَلَى أَدْنَى مُسَمَّيَاتِهَا" الرسول -عليه الصلاة والسلام-بيَّن لهم كمال هذه الأسماء، يعني: اسم الإيمان والإسلام والإحسان؛ حتى يعرفوا حقائقها التي ينبغي أن يقصدوها، "لِئَلَّا يَقْتَصِرُوا عَلَى أَدْنَى مُسَمَّيَاتِهَا" فالنبي ﷺبيَّن لهم مسمى الإسلام، وأنه الإسلام بالشهادتين والصلاة والزكاة والصوم والحج، وبيَّن لهم مسمى الإيمان وأن الإيمان: هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. بيَّن لهم مسمى الإحسان وأنه: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ.

الرسول ﷺ قال-: هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ([8]) بيَّن أن هذا دين، "لِيُبَيِّنَ لَهُمْ كَمَالَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَحَقَائِقَهَا" يعني: الإسلام والإيمان والإحسان، "الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تُقْصَدَ لِئَلَّا يَقْتَصِرُوا عَلَى أَدْنَى مُسَمَّيَاتِهَا" لئلا يقتصروا على أن مسمى الإيمان وأنه التصديق، ولا على أن مسمى الإسلام وهو الاستسلام، ولا أدنى مسمى الإحسان وهو مجرد الإحسان.

ثم بيَّن أيضًا لذلك نظائر، فقال: "وَلِهَذَا نَظَائِرُ" يعني في كون الاسم إنما استعمله الشارع في كماله حينما قيده، لا مجرد الاسم المطلق.

قال: "وَهَذَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ الْمِسْكِينُ هَذَا الطَّوَّافَ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ إلْحَافًا([9])" وهذا الحديث رواه الشيخان وغيرهما، وهو حديثٌ معروف، يقول فيه النبي ﷺ: لَيْسَ الْمِسْكِينُ هَذَا الطَّوَّافَ الذي يطوف على الناس ويدور الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ إلْحَافًا([10]).

فالمسكين الذي يدور على الناس هذا مسكين، يدور على الناس يعطيه هذا لقمة، وهذا تمرة، وهذا كذا، وهذا درهم، وهذا عشرة دراهم، وعشرة ريالات، فتحصل له كفاية، لكن أشد منه مسكنة الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْه،ِ وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ إلْحَافًا هذا أشد مسكنة، هو الذي ينبغي أن يُطلب؛ لأن هذا قد يموت في بيته ولا يُفطن له؛ ليس عنده غنى يغنيه، ويظهر بمظهر الأغنياء إذا خرج فلا يُفطن له، ولا يقوم فيسأل الناس لأنه يستحي، هذا أشد مسكنة، لكن المسكين الذي يقوم ويسأل ويمد يده فهذا يعطيه لقمة وهذا يعطيه تمرة وهذا يعطيه درهم وهذا يعطيه عشرة ريالات، فيحصل على الكفاية، لكن أشد منه مسكنة الذي ينبغي أن يُطلب ويُبحث عنه هو المسكين الذي ليس عنده شيء وليس عليه علامات الفقر؛ يظهر بمظهر الغنى، ويستحي فلا يسأل الناس، هذا أشد منه مسكنة، وإن كان الأول مسكين لكن هذا أشد منه مسكنة.

ولهذا علَّق المؤلف -رحمه الله-على هذا الحديث، قال: "فَهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ الْمِسْكِينَ وَأَنَّهُ الْمُحْتَاجُ وَكَانَ ذَلِكَ مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ فِيمَنْ يُظْهِرُ حَاجَتَهُ بِالسُّؤَالِ" هذا مشهور أن المسكين الذي يقول: أنا محتاج، أنا فقير، ويسأل الناس، "فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الَّذِي يُظْهِرُ حَاجَتَهُ بِالسُّؤَالِ وَالنَّاسُ يُعْطُونَهُ تَزُولُ مَسْكَنَتُهُ بِإِعْطَاءِ النَّاسِ لَهُ، وَالسُّؤَالُ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْحِرْفَةِ" هذا يسأل، ما يستحي، عنده حرفة يبيِّن حاجته للناس ويعطوه الناس فتزول حاجته.

يقول المؤلف: "وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مِسْكِينًا يَسْتَحِقُّ مِنْ الزَّكَاةِ إذَا لَمْ يُعْطَ مَنْ غَيْرِهَا كِفَايَتُهُ، فَهُوَ إذَا وَجَدَ مَنْ يُعْطِيهِ كِفَايَتَهُ لَمْ يَبْقَ مِسْكِينًا" يعني هذا صحيح أنه مسكين، يُعطى من الزكاة إذا لم يُعطَ من غيرها كفايةً. فإن أُعطي من غير الزكاة كفايته فلا يُعطى من الزكاة؛ لأنه زالت مسكنته. إذا وُجد له مَن يُنفق عليه من قريب، أو وُجد له مورد، أو له أولاد ينفقون عليه، أو استطاع أن يحترف ويكتسب زالت مسكنته فلا يُعطى من الزكاة، "وَإِنَّمَا الْمِسْكِينُ" الذي هو أشد "الْمُحْتَاجُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ وَلَا يُعْرَفُ فَيُعْطَى".

يقول المؤلف: "فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُقَدَّمَ فِي الْعَطَاءِ؛ فَإِنَّهُ مِسْكِينٌ قَطْعًا" هذا مسكين قطعًا، والأول قد يكون مسكين إذا لم يُعطَ كفايته، وقد لا يكون مسكين إن أُعطي كفايته، فإذا أُعطي كفايته لا يُعطى من الزكاة؛ زالت مسكنته، وإذا لم يُعطَ فهو مسكين، لكن الثاني مسكين قطعًا على كل حال؛ لأنه ما تزول مسكنته، ليس عنده شيء، ولا يقوم فيسأل الناس، ولا يُطلب له فيُتصدق عليه.

يقول المؤلف -رحمه الله-: "فَإِنَّهُ مِسْكِينٌ قَطْعًا، وَذَاكَ" يعني: الأول "مَسْكَنَتُهُ تَنْدَفِعُ بِعَطَاءِ مَنْ يَسْأَلُهُ".

يقول المؤلف -رحمه الله-: "وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: " الْإِسْلَامُ هُوَ الْخَمْسُ "" يعني: الخمس؛ الشهادتان، والزكاة، والصوم، والحج، لما سأل جبرائيل النبي ﷺعن الإسلام، فقال: الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ([11])، ففسرها بالخمس.

يقول: و"َكَذَلِكَ قَوْلُهُ: " الْإِسْلَامُ هُوَ الْخَمْسُ " يُرِيدُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ وَاجِبٌ دَاخِلٌ فِي الْإِسْلَامِ" يعني هذه الأمور الخمس داخلة في مسمى الإسلام، "فَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَكْتَفِيَ بِالْإِقْرَارِ بِالشَّهَادَتَيْنِ" ويقول: هذا هو الإسلام، لا، ليس له أن يكتفي بذلك؛ لأن النبي ﷺفسر الإسلام بالخمس.

"وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْمُفَصَّلِ" ليس للإنسان أن يقول: الإيمان هو التصديق وأنا أُصدِّق، لا؛ بل الإيمان المراد به الإيمان المفصَّل: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وأداء الواجبات، وترك المحرمات، "وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْمُفَصَّلِ لَا يَكْتَفِي فِيهِ بِالْإِيمَانِ الْمُجْمَلِ" يعني هو التصديق، "وَلِهَذَا وَصَفَ الْإِسْلَامَ بِهَذَا" وُصف الإسلام بهذا الخمس؛ لأنه المقصود الإسلام المقيد المعروف المعهود.

(المتن)

وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الْأَرْبَعَةُ فَاخْتَلَفُوا فِي تَكْفِيرِ تَارِكِهَا. وَنَحْنُ إذَا قُلْنَا: أَهْلُ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِالذَّنْبِ؛ فَإِنَّمَا نُرِيدُ بِهِ الْمَعَاصِيَ كَالزِّنَا وَالشُّرْبِ، وَأَمَّا هَذِهِ الْمَبَانِي فَفِي تَكْفِيرِ تَارِكِهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ.

وَعَنْ أَحْمَد: فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ وَإِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ: إنَّهُ يَكْفُرُ مَنْ تَرَكَ وَاحِدَةً مِنْهَا وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ كَابْنِ حَبِيبٍ.

وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ: لَا يَكْفُرُ إلَّا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَقَطْ.

وَرِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ: لَا يَكْفُرُ إلَّا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ إذَا قَاتَلَ الْإِمَامَ عَلَيْهَا.

وَرَابِعَةٌ: لَا يَكْفُرُ إلَّا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ.

وَخَامِسَةٌ: لَا يَكْفُرُ بِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْهُنَّ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مَعْرُوفَةٌ لِلسَّلَفِ.

قَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ: مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ وَمَنْ تَرَكَ الزَّكَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ. وَمَنْ تَرَكَ الْحَجَّ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ تَرَكَ صَوْمَ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ.

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ بِاَللَّهِ، وَمَنْ تَرَكَ الزَّكَاةَ مُتَعَمَّدًا فَقَدْ كَفَرَ بِاَللَّهِ، وَمَنْ تَرَكَ صَوْمَ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ بِاَللَّهِ.

وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَا تُرْفَعُ الصَّلَاةُ إلَّا بِالزَّكَاةِ.

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ أَقَامَ الصَّلَاةَ وَلَمْ يُؤْتِ الزَّكَاةَ فَلَا صَلَاةَ لَهُ. رَوَاهُنَّ أَسَدُ بْنُ مُوسَى.

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ مُمْسِيًا أَصْبَحَ مُشْرِكًا، وَمَنْ شَرِبَهُ مُصْبِحًا أَمْسَى مُشْرِكًا. فَقِيلَ لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِي: كَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ.

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَخْنَسُ فِي كِتَابِهِ: مَنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ الْإِيمَانِ.

وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ كَانَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ بَعْدَ فَرْضِ الْحَجِّ وَالْحَجُّ إنَّمَا فُرِضَ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ.

وَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُفْرَضْ قَبْلَ سِتٍّ مِنْ الْهِجْرَةِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَمْ يَأْمُرْ النَّاسَ بِالْإِيمَانِ. وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ مَعْنَاهُ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ بَلْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَصْلَ مَعْنَاهُ وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ.

(الشرح)

المؤلف -رحمه الله-يبيِّن أن مسمى الإسلام ومسمى الإيمان معروفٌ معهود من الشارع؛ وذلك أن الإسلام مسماه الإسلام بالأركان الخمسة، فلا بُدَّ من الإتيان بهذه المباني حتى يكون الإنسان مسلمًا حقًّا.

ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: "وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الْأَرْبَعَةُ" يعني: الصلاة والزكاة والصيام والحج.

"فَاخْتَلَفُوا فِي تَكْفِيرِ تَارِكِهَا" يعني أن مباني الإسلام الخمسة لها حكم يختلف عن المعاصي؛ فالمعاصي لا يكفر تاركها كالزنا وشرب الخمر والسرقة، لكن هذه مباني الإسلام الخمس (الشهادتان، والزكاة، والصوم، والحج) لها أحكامٌ خاصة؛ لأن الرسول ﷺ جعلها مباني للإسلام، ففسر الإسلام بهذه المباني الخمسة، وإن كان كل مبنى من المباني فيه خلاف بين أهل العلم.

أما الشهادتان، يقول المؤلف -رحمه الله-: "وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَهُوَ كَافِرٌ" هذا بإجماع؛ مَن لم يشهد لله تعالى بالوحدانية ولم يشهد لنبيه محمد ﷺبالرسالة، هذا أجمع المسلمون على أنه كافر، "وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الْأَرْبَعَةُ" وهي الصلاة والزكاة والصوم والحج، "فَاخْتَلَفُوا فِي تَكْفِيرِ تَارِكِهَا" على أقوال كما ذكر المؤلف -رحمه الله-.

يقول المؤلف -رحمه الله-: "وَنَحْنُ إذَا قُلْنَا: أَهْلُ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِالذَّنْبِ؛ فَإِنَّمَا نُرِيدُ بِهِ الْمَعَاصِيَ كَالزِّنَا وَالشُّرْبِ، وَأَمَّا هَذِهِ الْمَبَانِي" يعني مباني الإسلام، هذه المباني التي ينبني عليها الإسلام والتي لا يقوم الإسلام إلا بها وهي: الشهادتان والصلاة والزكاة والصوم والحج، "فَفِي تَكْفِيرِ تَارِكِهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ" بين أهل العلم.

قال: "فَفِي تَكْفِيرِ تَارِكِهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ. وَعَنْ أَحْمَد: فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ" والإمام أحمد له روايات متعددة، ذكر المؤلف له أربع روايات في الصلاة، ذكر له أربع روايات في حكم ترك الصلاة. وهذا يدل على سعة علم الإمام أحمد، وعلى ورعه؛ فإنه -رحمه الله ورضي عنه-إذا بلغه الدليل قال به؛ فلهذا تكون له روايات متعددة، حتى إنه يكون له في المسألة الواحدة، يقول: سبع روايات، ومن ذلك: هذه الروايات في الصلاة.

رُوي عن الإمام أحمد، ذكر المؤلف أربع روايات، رُوي عنه: "إنَّهُ يَكْفُرُ مَنْ تَرَكَ وَاحِدَةً مِنْهَا" من المباني، يعني مَن ترك الصلاة، أو الزكاة، أو الصوم، أو الحج؛ فإنه يكفر، يعني إذا لم يجحد وجوبها، ولو لم يجحد وجوبها. أما إذا جحد وجوبها، هذا كافرٌ بالإجماع، لكن هذا إذا أقر بالوجوب ولكن تركها، مجرد الترك، فالرواية الأولى: أنه إذا ترك الصلاة كَفَر، وإذا ترك الزكاة كَفَر، وإذا ترك الصوم كَفَر، وإذا ترك الحج كَفَر.

يقول: "وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ" أبي بكر بن العربي المالكي، واختيار"وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ كَابْنِ حَبِيبٍ" وهو عبد الملك بن حبيب المالكي.

الرواية الثانية عن الإمام أحمد: أنه لا يكفر إلا بترك الصلاة، أما الزكاة والصوم والحج فلا يكفر بترك واحدةٍ منها، لكنه مرتكب لكبيرة وعلى الوعيد الشديد، ويُعذَّر.

الرواية الثانية: لا يكفر إلا بترك الصلاة والزكاة. الرواية الأولى: أنه يكفر بترك واحدةٍ منهن. الرواية الثانية: لا يكفر إلا بترك الصلاة والزكاة، وأما ترك الصوم والحج فلا يكفر.

الرواية الثالثة: "لَا يَكْفُرُ إلَّا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ إذَا قَاتَلَ الْإِمَامَ عَلَيْهَا" إذا قاتل الإمام عليها حُكم بكفره؛ لأنه حين قاتل عليها دلَّ على جحوده.

الرواية الرابعة: أنه لا يكفر إلا بترك الصلاة فقط.

الرواية الخامسة: أنه لا يكفر بترك واحدةٍ منهن، بشيءٍ منهن.

خمس روايات.

يقول المؤلف -رحمه الله-: "وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مَعْرُوفَةٌ لِلسَّلَفِ".

"قَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ: مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ. وَمَنْ تَرَكَ الزَّكَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ. وَمَنْ تَرَكَ الْحَجَّ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ. وَمَنْ تَرَكَ صَوْمَ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ" هذا القول يؤيد الراوية الأولى وهو أنه يكفر بترك واحدةٍ من المباني الأربعة.

"وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ بِاَللَّهِ، وَمَنْ تَرَكَ الزَّكَاةَ مُتَعَمَّدًا فَقَدْ كَفَرَ بِاَللَّهِ، وَمَنْ تَرَكَ صَوْمَ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ بِاَللَّهِ" أيضًا هذا قول سعيد بن جبير يؤيد الرواية الأولى.

"وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَا تُرْفَعُ الصَّلَاةُ إلَّا بِالزَّكَاةِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ أَقَامَ الصَّلَاةَ وَلَمْ يُؤْتِ الزَّكَاةَ فَلَا صَلَاةَ لَهُ. رَوَاهُنَّ أَسَدُ بْنُ مُوسَى" هذه يؤيد الرواية الثانية، وأن الصلاة والزكاة لا بُدَّ منهما، وأنَّ الصلاة لا تصحُّ إِلَّا بالزكاة؛ ولهذا قالَ بعضُ العلماء: مَن أقام الصلاة ولم يؤتِ الزكاة، فلا صلاة له.

(المتن)

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ مُمْسِيًا أَصْبَحَ مُشْرِكًا، وَمَنْ شَرِبَهُ مُصْبِحًا أَمْسَى مُشْرِكًا. فَقِيلَ لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِي: كَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ.

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَخْنَسُ فِي كِتَابِهِ: مَنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ الْإِيمَانِ.

وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ كَانَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ بَعْدَ فَرْضِ الْحَجِّ، وَالْحَجُّ إنَّمَا فُرِضَ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ.

وَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُفْرَضْ قَبْلَ سِتٍّ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَمْ يَأْمُرْ النَّاسَ بِالْإِيمَانِ. وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ مَعْنَاهُ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ بَلْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَصْلَ مَعْنَاهُ. وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ.

(الشرح)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أمَّا بعد: -

فإن المؤلف -رحمه الله-بيَّن فيما سبق أن مسمى الإسلام ومسمى الإيمان ومسمى الصلاة ومسمى الزكاة ومسمى الصوم ومسمى الحج، هذه استعملها الشارع مقيدة معلومةً عند المخاطبين.

فمسمى الإسلام مثلًا الخمس التي بيَّنها في حديث جبريل، وأن مسمى الإسلام: الإقرار بالشهادتين والصلاة والزكاة والصوم والحج. مسمى الإيمان: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله.

وهذه المباني الخمس هي مسمى الإسلام، كل مبنى من هذه المباني فيه كلامٌ لأهل العلم في تركه، إذا ترك واحدًا منها هل يكفر أو لا يكفر؟ ما عدا الشهادتين؛ فإن الشهادتين اتفق المسلمون على أن مَن لم يأتِ بالشهادتين فهو كافر.

وأمَّا الأعمال الأخرى هنا [52:42] والزكاة والصوم والحج، فهي فيها خلاف في تركِ واحدةٍ منها. والمراد إذا تركها كسلًا، لا جحدًا لوجوبها، أما إذا تركَ واحدةً منهما جحدًا لوجوبها؛ فهذا كافر بإجماع المسلمين.

إذا ترك الصلاة جحدًا لوجوبها، أو الزكاة جحدًا لوجوبها، أو الصوم جحدًا لوجوبه، أو الحج جحدًا لوجوبه، فهذا كافر بالإجماع، لكن الخلاف إنما هو إذا ترك واحدةً منها تهاونًا وكسلًا مع إقراره بوجوبها.

ويبيِّن المؤلف -رحمه الله-أن الخلاف في تكفير مَن ترك واحدةً منها غير المعاصي؛ فإن المعاصي والذنوب أهل السُّنة متفقون على أنه لا يكفر بالذنب ولا يكفر بالمعصية، لكن هذه المباني مباني الإسلام الخمسة، والخلاف في كُفر ترك واحدة منها، وهذا غير اتفاق أهل السنة، لا يُخل باتفاق أهل السنة على أن المسلم لا يكفر بالذنب لا يكفر بالمعصية. وذكر المؤلف -رحمه الله-أن هذه المباني فيها خلاف، وفي ذلك أيضًا روايات عن الإمام أحمد، وأنه ذكر خمس روايات عن الإمام أحمد، ومن هذه الروايات:

أن ترك الصلاة كُفر، وهذا هو الصواب الذي تدل عليه النصوص، أن ترك الصلاة كسلًا وتهاونًا الصواب أنه يكفر تاركها؛ لما ثبت في ذلك من الأدلة الصريحة التي تدل كفر تارك الصلاة، كقوله ﷺ: بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ([12]) رواه الإمام مسلم في صحيحه. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمِ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ([13]), ولِما ثبت في صحيح البخاري من حديث بُريدة بن الحُصيب ، أن النبي ﷺقال: مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ العَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ([14]) والذي يحبط عمله هو الكافر.

ثم نقل المؤلف -رحمه الله-نقول عن أهل العلم تؤيد هذه الرواية، وهي أن ترك الصلاة كُفر، نقلها الحكم بن العُتيبة، ونقلها أيضًا عن سعيد بن جُبير، ثم نقل أيضًا عن عبد الله بن عمرو، قال: "وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ مُمْسِيًا أَصْبَحَ مُشْرِكًا، وَمَنْ شَرِبَهُ مُصْبِحًا أَمْسَى مُشْرِكًا. فَقِيلَ لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِي: كَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ" يعني: إذا شرب الخمر ترك الصلاة، وترك الصلاة كُفر، هذا وجه هذا القول -قول عبد الله بن عمرو-.

قال: "قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَخْنَسُ فِي كِتَابِهِ: مَنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ الْإِيمَانِ" وجه ذلك: أن مَن شرِب المسْكر يصبح مشركًا؛ لأنه يترك الصلاة، وترك الصلاة كُفر. 

يقول المؤلف -رحمه الله-: "وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ كَانَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ بَعْدَ فَرْضِ الْحَجِّ، وَالْحَجُّ إنَّمَا فُرِضَ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ. وَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُفْرَضْ قَبْلَ سِتٍّ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَمْ يَأْمُرْ النَّاسَ بِالْإِيمَانِ. وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ مَعْنَاهُ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ بَلْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَصْلَ مَعْنَاهُ" معروف معناه، وأن مسمى الإيمان هو المباني الخمس.

(المتن)

وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَنْ نَفَى عَنْهُ الرَّسُولُ اسْمَ " الْإِيمَانِ " أَوْ " الْإِسْلَامِ " فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ فِيهِ وَإِنْ بَقِيَ بَعْضُهَا؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ وَالسَّلَفُ يَقُولُونَ: إنَّهُ يَكُونُ فِي الْعَبْدِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ.

قَالَ أَبُو دَاوُد السجستاني: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي الْمِقْدَامِ عَنْ أَبِي يَحْيَى، قَالَ: سُئِلَ حُذَيْفَةُ عَنْ الْمُنَافِقِ. قَالَ: الَّذِي يَعْرِفُ الْإِسْلَامَ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ.

وَقَالَ أَبُو دَاوُد: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي البختري عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ: قَلْبٌ أَغْلَفُ فَذَلِكَ قَلْبُ الْكَافِرِ، وَقَلْبٌ مُصَفَّحٌ وَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ، وَقَلْبٌ أَجْرَدُ فِيهِ سِرَاجٌ يُزْهِرُ فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ، وَقَلْبٌ فِيهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ؛ فَمَثَلُ الْإِيمَانِ فِيهِ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ يَمُدُّهَا مَاءٌ طَيِّبٌ؛ وَمَثَلُ النِّفَاقِ مَثَلُ قُرْحَةٍ يَمُدُّهَا قَيْحٌ وَدَمٌ؛ فَأَيُّهُمَا غَلَبَ عَلَيْهِ غَلَبَ. وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا؛ وَهُوَ فِي الْمُسْنَدِ مَرْفُوعًا.

وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ حُذَيْفَةُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ [آل عمران:167] فَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فِيهِمْ نِفَاقٌ مَغْلُوبٌ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ غَلَبَ نِفَاقُهُمْ فَصَارُوا إلَى الْكُفْرِ أَقْرَبَ.

(الشرح)

يقول المؤلف -رحمه الله-: "أَنَّ مَنْ نَفَى عَنْهُ الرَّسُولُ اسْمَ " الْإِيمَانِ " أَوْ " الْإِسْلَامِ " فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ"؛ وذلك لأن مسمى الإيمان ومسمى الإسلام معروفٌ عند المسلمين؛ لأن الشارع بيَّن مسمى الإيمان وبيَّن مسمى الإسلام.

بيَّن مسمى الإسلام وأنه الاستسلام لله تعالى بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك؛ فمَن عصى فقد نقص إسلامه.

وكذلك أيضًا مَن ترك بعض الواجبات أو فعل بعض المحرمات نقص إيمانه، فيُنفى عنه الإيمان ويُنفى عنه الإسلام؛ لأنه ترك بعض الواجبات، وإن بقي بعضها؛ لأنه يجتمع في الإنسان إيمانٌ ونفاق، هذا معلوم عند أهل السنة والجماعة، بخلاف المرجئة الذين يقولون: لا يكون الإنسان إلا مؤمنًا أو كافرًا، ولا يجتمع فيه إيمانٌ وكفر، إيمانٌ ونفاق.

ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: "وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَنْ نَفَى عَنْهُ الرَّسُولُ اسْمَ " الْإِيمَانِ " أَوْ " الْإِسْلَامِ " فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ فِيهِ وَإِنْ بَقِيَ بَعْضُهَا؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ وَالسَّلَفُ يَقُولُونَ: إنَّهُ يَكُونُ فِي الْعَبْدِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ".

ثم نقل المؤلف -رحمه الله-نقول عن السلف تدلُّ على أنَّ الإيمان يتبعض، وأنه يبقى بعضه ويذهب بعضه، خلافًا للمرجئة الذين يقولون: إن الإيمان لا يتبعض؛ إذا زال زال جميع، وإذا ثبت ثبت جميعه؛ لأن المرجئة يقولون: الإيمان شيءٌ واحد هو التصديق في القلب.

وأمَّا أهل السنة فيقولون: الإيمان: تصديقٌ بالقلب، وإقرارٌ باللسان، وعملٌ بالقلب، وعملٌ بالجوارح، والإيمان يزيد وينقص، ويقوى ويضعُف ويتبعض ويبقى بعضه ويذهب بعضه. أما المرجئة يقولون: الإيمان لا يزيد ولا ينقص ولا يتبعض، ولا يذهب بعضه ويبقى بعضه، ولا يجتمع في القلب إيمان ونفاق؛ بل هو شيءٌ واحد إذا زال زال جميعه، وإذا ثبت ثبت جميعه. وهذا باطل.

والمؤلف -رحمه الله-نقل أقوال لأهل العلم تؤيد ما دلت عليه النصوص، قال: "قَالَ أَبُو دَاوُد السجستاني: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي الْمِقْدَامِ عَنْ أَبِي يَحْيَى، قَالَ: سُئِلَ حُذَيْفَةُ عَنْ الْمُنَافِقِ.

قَالَ: الَّذِي يَعْرِفُ الْإِسْلَامَ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي البختري عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ: قَلْبٌ أَغْلَفُ فَذَلِكَ قَلْبُ الْكَافِرِ، وَقَلْبٌ مُصَفَّحٌ وَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ، وَقَلْبٌ أَجْرَدُ فِيهِ سِرَاجٌ يُزْهِرُ فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ، وَقَلْبٌ فِيهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ".

هذا الشاهد، قال: "وَقَلْبٌ فِيهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ" وأنه يجتمع في القلب إيمانٌ ونفاق، وإنما يجتمع الإيمان والنفاق؛ لأن الإيمان متعدد، فالإيمان يكون تصديق وإقرار وعمل بالجوارح، فإذا زال بعض العمل صار فيه نفاق وإيمان، ليس مع وقف الإيمان [01:00:15]. أمَّا المرجئة يقولون: لا، لا يجتمع فيه إيمان ونفاق؛ لأنهم يرون أن الإيمان شيءٌ واحد وهو التصديق.

ولهذا قال: " وَقَلْبٌ فِيهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ، فَمَثَلُ الْإِيمَانِ فِيهِ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ يَمُدُّهَا مَاءٌ طَيِّبٌ؛ وَمَثَلُ النِّفَاقِ مَثَلُ قُرْحَةٍ يَمُدُّهَا قَيْحٌ وَدَمٌ؛ فَأَيُّهُمَا غَلَبَ عَلَيْهِ غَلَبَ"، يقول: "وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا؛ وَهُوَ فِي " الْمُسْنَدِ " مَرْفُوعًا". يعني هذا مرفوعًا وهو في المسند مرفوعًا.

يقول المؤلف -رحمه الله-: "وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ حُذَيْفَةُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ [آل عمران:167]"؛ يعني أن القلب يكون فيه إيمان ونفاق، والإيمان له ما يُمده والنفاق له ما يُمده. فالمنافقون، قال: "يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ [آل عمران:167] فَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فِيهِمْ نِفَاقٌ مَغْلُوبٌ" نفاق مغلوب يعني أعمال الإسلام غلبت عليه، "فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ غَلَبَ نِفَاقُهُمْ فَصَارُوا إلَى الْكُفْرِ أَقْرَبَ".

(المتن)

وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عَوْفِ بْنِ أَبِي جَمِيلَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إنَّ الْإِيمَانَ يَبْدُو لُمْظَةً بَيْضَاءَ فِي الْقَلْبِ، فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ إيمَانًا ازْدَادَ الْقَلْبُ بَيَاضًا، حَتَّى إذَا اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ ابْيَضَّ الْقَلْبُ كُلُّهُ. وَإِنَّ النِّفَاقَ يَبْدُو لُمْظَةً سَوْدَاءَ فِي الْقَلْبِ فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ نِفَاقًا ازْدَادَ الْقَلْبُ سَوَادًا، حَتَّى إذَا اسْتَكْمَلَ الْعَبْدُ النِّفَاقَ اسْوَدَّ الْقَلْبُ. وَأَيْمُ اللَّهِ لَوْ شَقَقْتُمْ عَنْ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ لَوَجَدْتُمُوهُ أَبْيَضَ، وَلَوْ شَقَقْتُمْ عَنْ قَلْبِ الْمُنَافِقِ وَالْكَافِرِ لَوَجَدْتُمُوهُ أَسْوَدَ.

(الشرح)

نعم، هذا الأثر عن "عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عَوْفِ بْنِ أَبِي جَمِيلَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ" وهذا الأثر رواه الغزالي في إحياء علوم الدين، ورواه ابن المبارك في الزهد، فيه بيان أن القلب يكون فيه إيمان ويكون فيه نفاق.

"عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إنَّ الْإِيمَانَ يَبْدُو لُمْظَةً بَيْضَاءَ فِي الْقَلْبِ، فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ إيمَانًا ازْدَادَ الْقَلْبُ بَيَاضًا" إذًا هذا دليل على أن الإيمان يزيد وينقص كما يقول أهل السنة، "حَتَّى إذَا اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ ابْيَضَّ الْقَلْبُ كُلُّهُ. وَإِنَّ النِّفَاقَ يَبْدُو لُمْظَةً سَوْدَاءَ فِي الْقَلْبِ فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ نِفَاقًا ازْدَادَ الْقَلْبُ سَوَادًا، حَتَّى إذَا اسْتَكْمَلَ الْعَبْدُ النِّفَاقَ اسْوَدَّ الْقَلْبُ" نعوذ بالله، "وَأَيْمُ اللَّهِ" هذا حلف، قسَم، يعني: أيمُن الله، "وَأَيْمُ اللَّهِ لَوْ شَقَقْتُمْ عَنْ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ لَوَجَدْتُمُوهُ أَبْيَضَ، وَلَوْ شَقَقْتُمْ عَنْ قَلْبِ الْمُنَافِقِ وَالْكَافِرِ لَوَجَدْتُمُوهُ أَسْوَدَ" هذا دليل على أن الإيمان يكون فيه إيمان ونفاق، والإيمان يزيد وينقص والنفاق يزيد وينقص.

(المتن)

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ. رَوَاهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ.

وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ السَّلَفِ؛ يُبَيِّنُونَ أَنَّ الْقَلْبَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ، وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَدُلَّانِ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ ذَكَرَ شُعَبَ الْإِيمَانِ وَذَكَرَ شُعَبَ النِّفَاقِ وَقَالَ: مَنْ كَانَتْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا([15]).

وَتِلْكَ الشُّعْبَةُ قَدْ يَكُونُ مَعَهَا كَثِيرٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: وَيَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ([16]) فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ أَقَلُّ الْقَلِيلِ لَمْ يَخْلُدْ فِي النَّارِ، وَأَنَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ كَثِيرٌ مِنْ النِّفَاقِ فَهُوَ يُعَذَّبُ فِي النَّارِ عَلَى قَدْرِ مَا مَعَهُ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ.

وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ لِلْأَعْرَابِ: لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14] نَفَى حَقِيقَةَ دُخُولِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمْ شُعْبَةٌ مِنْهُ، كَمَا نَفَاهُ عَنْ الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَمَنْ لَا يُحِبُّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَمَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ؛ فَإِنَّ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مِمَّنْ نُفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ لِتَرْكِ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ شَيْءٌ كَثِيرٌ.

(الشرح)

يقول المؤلف -رحمه الله-: "وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ"، وهذا دليل على أن القلب يكون فيه نفاق ينبت ويزيد وإن كان فيه إيمان. فدل على اجتماعهما.

يقول المؤلف -رحمه الله-: "وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ السَّلَفِ؛ يُبَيِّنُونَ أَنَّ الْقَلْبَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ"؛ يعني هذا خلافًا للمرجئة الذين يقولون: لا يجتمع في القلب إيمانٌ ونفاق. المرجئة يقولون: الإنسان إما أن يكون مؤمنًا، وإما أن يكون كافرًا، فلا يجتمع شيءٌ من أعمال الكفر ولا من أعمال النفاق؛ لأنهم يقولون الأعمال لا تقبل [01:05:01] الكفر والجحود.

فالمصدِّق مؤمن والجاحد كافر، وليس هناك صنفٌ ثالث معه إيمان ونفاق.

وأهل السنة والجماعة يقول: دلت النصوص على أن هناك قسمٌ ثالث معه إيمان ونفاق، وكفرٌ وشركٌ وتوحيد. والمراد: يعني غير النفاق الأكبر، وغير الشرك الأكبر.

ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: "وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَدُلَّانِ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ ذَكَرَ شُعَبَ الْإِيمَانِ وَذَكَرَ شُعَبَ النِّفَاقِ، وَقَالَ: مَنْ كَانَتْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا([19])" وهذا في الحديث الصحيح: الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَعلاهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْعَظْمِ عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ([20])، فالإيمان بضعٌ وسبعون شعبة، قد تذهب بعض الشُّعب ويحل بعضها محل شُعب النفاق.

والإمام البيهقي -رحمه الله-تتبع شُعب الإيمان من النصوص وأوصلها إلى أعلى البضع، النبي ﷺقال: بِضْعٌ وَسَبْعُونَ([21])، قال: بضع من ثلاثة إلى ستة، أوصلها إلى ستًا وسبعين شعبة.

يقول المؤلف -رحمه الله-: "فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ ذَكَرَ شُعَبَ الْإِيمَانِ وَذَكَرَ شُعَبَ النِّفَاقِ، وَقَالَ: مَنْ كَانَتْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا وَتِلْكَ الشُّعْبَةُ قَدْ يَكُونُ مَعَهَا كَثِيرٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: وَيَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ أَقَلُّ الْقَلِيلِ لَمْ يَخْلُدْ فِي النَّارِ، وَأَنَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ كَثِيرٌ مِنْ النِّفَاقِ فَهُوَ يُعَذَّبُ فِي النَّارِ عَلَى قَدْرِ مَا مَعَهُ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ" وهذا يدل على أن الناس يتفاوتون في الإيمان، ويدل على أنه يجتمع في القلب إيمان ونفاق؛ ولهذا فإن العاصي يُعذَّب في النار بقدر معاصيه، ثم يخرج منها بما معه من الإيمان والتوحيد؛ ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ([22]). وفي لفظٍ: أَدنَى أَدنَى مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ([23]).

ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: "فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ أَقَلُّ الْقَلِيلِ لَمْ يَخْلُدْ فِي النَّارِ، وَأَنَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ كَثِيرٌ مِنْ النِّفَاقِ فَهُوَ يُعَذَّبُ فِي النَّارِ عَلَى قَدْرِ مَا مَعَهُ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ".

يقول المؤلف -رحمه الله-: "وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ لِلْأَعْرَابِ: لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14] نَفَى حَقِيقَةَ دُخُولِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمْ شُعْبَةٌ مِنْهُ، كَمَا نَفَاهُ عَنْ الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَمَنْ لَا يُحِبُّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَمَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ؛ فَإِنَّ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مِمَّنْ نُفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ لِتَرْكِ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ شَيْءٌ كَثِيرٌ".

هذه الآية سبق الخلاف فيها وهي قوله تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14] وأطال المؤلف -رحمه الله-الكلام فيها، وأن المحققين يرون أن هذه الآية في ضعفاء الإيمان، وأنهم ليسوا منافقين، قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14] [01:08:07] دل على أنهم ليسوا منافقين، قال: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [الحجرات:14] لا بُدَّ من طاعة الله ورسوله.

والقول الثاني للسلف أنها في المنافقين، وأن الإسلام الذي أُثبت لهم هو الإسلام في الظاهر وهو إسلام المنافقين.

والصواب: أنها في ضعفاء الإيمان، وأن الإيمان نُفي عنهم كما نُفي عن الزاني والسارق، نُفي عنهم كمال الإيمان وإن كان معهم أصل الإيمان. نُفي عنهم كمال الإيمان الواجب، كما نُفي الإيمان عن الزاني ومعه أصل الإيمان، نُفي الإيمان عن السارق ومعه أصل الإيمان، نُفي الإيمان عن مَن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه ومعه أصل الإيمان، نُفي الإيمان عن مَن لا يأمن جاره بوائقه.

يقول المؤلف: "فَإِنَّ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مِمَّنْ نُفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ لِتَرْكِ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ شَيْءٌ كَثِيرٌ" كما سبق، نُفي أيضًا الإيمان عن مَن لا يأمن جاره بوائقه، نفى الإيمان عن مَن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، كثير نُفي عنهم الإيمان لتركهم بعض الواجبات وفعلهم بعض المعاصي.

القارئ: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، هناك مسألة فضيلة الشيخ وهي مسألة عدم الخلود في النار لمرتكبي المعاصي من أهل الإيمان.

بعض مرتكبي المعاصي عندما يُنصح أو يُوجه بأن فعلته أو معصيته هذه لا ينبغي أن تُفعل، يحتج أو يتعذر بأن هذه المعصية لا تُخلِّده في النار، وأن معه من الإيمان ما يكفي لعدم بقائه في النار والخلود فيها، وأنه سيخرج بعد ذلك. ما هو الأسلوب الأمثل لتوجيه هؤلاء؟

الشيخ: نعم، نقول لهم: أولًا: أن المعاصي يجر بعضها بعضًا، وأن المعاصي بريد الكفر، كما أن المرض بريد الموت فالمعاصي بريد الكفر؛ تقول هذه المعصية، المعصية تقول: أختي أختي، تجرك إلى معاصي أُخر، ثم تجر إلى النار، وأيضًا كذلك المعاصي تبوء لسوء الخاتمة، كيف ترضى لنفسك هذا؟! كيف ترضى لنفسك بالمعصية والرضى بها والاستمرار عليها؟! هذه المعاصي خطر عليك، قد يحال بينك وبين التوبة، قد تجرك إلى المعاصي الأخرى، والمعصية تجر الثانية، هل يرضى عاقل أنه يدخل النار ثم يخرج منها؟! هل لك صبر على دخول النار؟ كونه يقول: أنا عارف أن هذه المعصية لا توجب الخلود في النار، فأنا لا أخلد في النار، هل ترضى لنفسك؟! هل يرضى عاقل لنفسه أن يدخل النار ولو لحظة؟! هل تستطيع الصبر على النار؟! كيف يرضى إنسان لنفسه أنه يبقى في النار ويجلس فيها مدةً طويلة؟! هذا ليس من العقل، العاقل والحازم واللبيب هو الذي يتوب إلى الله  ويبادر بالتوبة، وهو الذي يعمل ما يكون سببًا في فكاك نفسه من النار.

(المتن)

وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ: مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: أَسْلَمْنَا أَيْ اسْتَسْلَمْنَا خَوْفَ السَّيْفِ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ الْإِسْلَامُ.

الْجَمِيعُ صَحِيحٌ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا أَرَادَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِسْلَامُ الظَّاهِرُ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُنَافِقُونَ، فَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ، بِخِلَافِ الْمُنَافِقِ الْمَحْضِ الَّذِي قَلْبُهُ كُلُّهُ أَسْوَدُ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ.

وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَخْشَوْنَ النِّفَاقَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَخَافُوا التَّكْذِيبَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَكْذِبُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَقِينًا، وَهَذَا مُسْتَنَدُ مَنْ قَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا، فَإِنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ مَا يَعْلَمُهُ مَنْ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ الْجَازِمِ، وَلَكِنْ الْإِيمَانُ لَيْسَ مُجَرَّدَ التَّصْدِيقِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَعْمَالٍ قَلْبِيَّةٍ تَسْتَلْزِمُ أَعْمَالًا ظَاهِرَةً كَمَا تَقَدَّمَ.

فَحُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَحُبُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَبُغْضُ مَا نَهَى عَنْهُ هَذَا مِنْ أَخَصِّ الْأُمُورِ بِالْإِيمَانِ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ أَنَّ: مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ([24]) فَهَذَا يُحِبُّ الْحَسَنَةَ وَيَفْرَحُ بِهَا وَيُبْغِضُ السَّيِّئَةَ وَيَسُوءُهُ فِعْلُهَا، وَإِنْ فَعَلَهَا بِشَهْوَةِ غَالِبَةٍ، وَهَذَا الْحُبُّ وَالْبُغْضُ مِنْ خَصَائِصِ الْإِيمَانِ.

(الشرح)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد: -

فإن المؤلف -شيخ الإسلام-ابن تيمية -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-بيَّن فيما سبق أن المؤمن إذا ترك بعض الواجبات أو فعل بعض المحرمات فإنه يُنفى عنه الإيمان المطلق، وإن كان معه أصل الإيمان، ولكن ينفى عنه الإيمان المطلق وهو الإيمان الكامل الذي يستلزم فعل الواجبات وترك المحرمات، وذكر أن الأدلة في هذا كثيرة، منهم الزاني، منهم السارق، ومنهم شارب الخمر نُفي عنه الإيمان وإن كان معه أصل التصديق، لكن نفي عنه الإيمان المطلق، كذلك نفي الإيمان عمن لا يأمن جاره بوائقه، وعمن لا يحب لأخيه ما يحبه لنفسه.

وقال المؤلف -رحمه الله-: وأيضًا من هذا الباب قوله تعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14]، قال -رَحِمَهُ اللَّهُ-: إن هذه الآية إنما هي في ضعفاء الإيمان، فنفي معهم حقيقة الإيمان، وإن كان معهم أصل الإيمان، بدليل السباق واللحاق كما بيَّن المؤلف -رَحِمَهُ اللَّهُ-فيما سبق. وبعض السلف ذهبوا إلى أن هذه الآية في المنافقين: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وأنها في المنافقين، قالوا: أسلمنا، يعني استسلمنا خوف السيف.

ثم بيَّن المؤلف -رَحِمَهُ اللَّهُ-أن من قال: إنها في المنافقين الذين أُثبت لهم الإسلام في الظاهر، ومن قال: إنها في ضعفاء الإيمان، يقول: الجميع صحيح، كله تشمله الآية، مسمى الآية؛ لأن الله تعالى نفى عنهم الإيمان وأثبت لهم الإسلام، فمن قال إنها في ضعفاء الإيمان فقوله حق، ومن قال إنها في المنافقين فكذلك أيضًا تشمله الآية، وإن كان الصواب: أنها في ضعفاء الإيمان.

ولهذا قال المؤلف -رَحِمَهُ اللَّهُ-:  "وَالْحَدِيثِ مِمَّنْ نُفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ لِتَرْكِ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ شَيْءٌ كَثِيرٌ" يعني الأدلة في هذا كثيرة، ثم قال المؤلف -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ: مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: أَسْلَمْنَا" يعني في آية الحجرات: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14]، فيقول:  "وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ: مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ" يعني في المعنى: "أَسْلَمْنَا أَيْ اسْتَسْلَمْنَا خَوْفَ السَّيْفِ" هذا على القول أنها في المنافقين،  "وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ الْإِسْلَامُ" وهذه من قال إنها في ضعفاء الإيمان "الْجَمِيعُ صَحِيحٌ" يقول المؤلف: "الْجَمِيعُ صَحِيحٌ"، يعني يشمله مسمى الآية، وإن كان الصواب أنها في ضعفاء الإيمان وهذا هو الذي عليه الجمهور والقول الأول قول لبعض أهل السنة، وعلى رأسهم الإمام البخاري -رحمه الله-أنها في المنافقين، والجمهور على أنه في ضعفاء الإيمان، لكن المؤلف -رحمه الله-يقول: "الْجَمِيعُ صَحِيحٌ" يعني داخل في مسمى الآية، كل من القولين داخل في مسمى الآية.

 يقول المؤلف -رحمه الله-: "فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا أَرَادَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِسْلَامُ الظَّاهِرُ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُنَافِقُونَ"، يعني من قال إن الآية في المنافقين، أراد بالإسلام في قوله: وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14] الإسلام الظاهر، والإسلام الظاهر يدخل فيه المنافقون، فيدخل فيه من كان في قلبه إيمانٌ ونفاق، يعني من باب أولى، إذا دخل فيه المنافقون دخل فيه من عِنده إيمانٌ ونفاق.

ثم قال المؤلف -رحمه الله-: "وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ"، الذي عنده إيمان وعِنده نفاق هذا إذا دخل النار لا يخلد فيها، هذا ما عنده إيمان صحيح، والمراد بالنفاق: النفاق العملي، يقول المؤلف: بخلاف المنافق المحض الذي قلبه كله أسود، فهذا هو الذي يكون في الدرك الأسفل من النار، يعني المنافق نفاقًا اعتقاديًا، كان يعتقد تكذيب الله أو تكذيب رسوله -عليه الصلاة والسلام-، قوله أبغض الله أو أبغض رسوله أو أبغض شيئًا مما جاءت به الشريعة أو لفرض فيه ضعف الإسلام والمسلمين أو يكره انتصار الإسلام والمسلمين؛  هذا نفاقٌ اعتقادي هذا هو الذي قلبه أسود هذا هو الذي في الدرك الأسود من النار، أما الذي عنده إيمان ونفاقٌ، يعني نفاقٌ عملي كالكذب في الحديث، والخلف بالوعد، والخيانة في الأمانة، والفجور في الخصومة، والغدر في العهود؛ فهذا نفاق عملي. كما قال النبي ﷺ: آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ([25])، فالنفاق نفاقان:

نفاق أكبر: وهذا هو نفاق الكفر، نفاق القلب.

ونفاق أصغر: هو نفاق العمل.

فالذي عنده إيمان ونفاق هذا إذا دخل النار دخلها على أنه عاصٍ، ولا يخلد فيها ولابد أن يخرج منها.

 وأما المنافق نفاقًا اعتقاديًّا: فهذا هو الذي يكون في الدرك الأسفل من النار كما قال المؤلف -رحمه الله-، يقول المؤلف -رحمه الله-: "وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَخْشَوْنَ النِّفَاقَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ" يعني يخشون النفاق العملي "وَلَمْ يَخَافُوا التَّكْذِيبَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَكْذِبُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَقِينًا"، يعني عن الصحابة إنما يخافون النفاق العملي؛ لا يخافون النفاق الاعتقادي؛ لأنهم يعلمون أنهم مؤمنون، وأنهم مصدقون، وأن عندهم الإيمان والتوثيق اليقيني.

وهذا هو معنى قول عبد الله بن أبي مُليكة من التابعين: "أدركت ثلاثين من أصحاب محمد ﷺ، كلهم يخافون النفاق على نفسهم، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبرائيل وميكائيل"، يعني يخافون النفاق العملي ولا يخافون النفاق الاعتقادي؛ ولهذا قال: "ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل"؛ لأن إيمان جبريل وميكائيل كامل وإيمانهم أقل من ذلك؛ لأن الإيمان يتفاوت، فإيمان أبي بكر وعمر ليس كإيمان سائر الناس، وإيمان جبريل وميكائيل ليس كإيمان سائر الناس، فالإيمان يقوى ويضعف ويزيد وينقص. فقول عبد الله ابن أبي مليكة "أدركت ثلاثين من أصحاب محمد ﷺ كلهم يخافون النفاق على أنفسهم"، إنما يخافون النفاق العملي"؛ ولهذا قال: "ما منهم من أحدٍ يقول إنه على إيمان جبرائيل وميكائيل" الكامل، وإنما يقول إيمانهم أقل من ذلك.

ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: "وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَخْشَوْنَ النِّفَاقَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ" يقصدون النفاق العملي "وَلَمْ يَخَافُوا التَّكْذِيبَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَكْذِبُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَقِينًا وَهَذَا مُسْتَنَدُ مَنْ قَالَ: "أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا". يعني مستند من قال أنا مؤمن حقًّا مستنده أنه مُصدِّق وليعلم الناس بأنه مصدق، فمقصوده في قوله أنه (مؤمن حقًّا) ما استقر في قلبه من التصديق اليقين.

 ثم قال المؤلف -رحمه الله-: "فَإِنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ مَا يَعْلَمُهُ مَنْ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ الْجَازِمِ"، يعني مستند من قال "أنا مؤمن حقا" مستنده ما يعلمه من نفسه من التصديق الجازم، فإنه أراد بذلك ما يعلمه من نفسه من التصديق الجازم.

ثم استدرك المؤلف -رحمه الله-: "وَلَكِنْ الْإِيمَانُ لَيْسَ مُجَرَّدَ التَّصْدِيقِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَعْمَالٍ قَلْبِيَّةٍ تَسْتَلْزِمُ أَعْمَالًا ظَاهِرَةً كَمَا تَقَدَّمَ"، يعني الإيمان الشرعي، الإيمان الواجب شرعا، ليس هو مجرد التصديق، بل لابد له من أعمالٍ قلبية، يكون فيه محبة لله ورسوله، وهذه المحبة حركة القلب، وهذه الحركة تبعث على أعمال الجوارح؛ ولهذا قال: "لَا بُدَّ مِنْ أَعْمَالٍ قَلْبِيَّةٍ تَسْتَلْزِمُ أَعْمَالًا ظَاهِرَةً كَمَا تَقَدَّمَ فَحُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَحُبُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَبُغْضُ مَا نَهَى عَنْهُ هَذَا مِنْ أَخَصِّ الْأُمُورِ بِالْإِيمَانِ"، يعني كل هذه أعمال قلبية وهي من الإيمان، حب الله ورسوله عمل قلبي يبعث على عمل الجوارح، وحب ما أمر الله به، وبُغض ما نهى الله عنه، وهذا من أخصِّ الأمور بالإيمان.

"وَلِهَذَا ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ أَنَّ: مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ([26])"، وهذا جزءٌ من حديث رواه الترمذي عن عمر بن الخطاب في كتاب "الفتن" رواه أحمد والحاكم "المستدرك".

قال: "فَهَذَا يُحِبُّ الْحَسَنَةَ وَيَفْرَحُ بِهَا وَيُبْغِضُ السَّيِّئَةَ وَيَسُوءُهُ فِعْلُهَا وَإِنْ فَعَلَهَا بِشَهْوَةِ غَالِبَةٍ وَهَذَا الْحُبُّ وَالْبُغْضُ مِنْ خَصَائِصِ الْإِيمَانِ"، يعني هذا الذي تَسرُّه حسنته وتسوئه سيئته، هذه المسرة وهذه المساءة والبغض أعمالٌ قلبية من أخص خصائص الإيمان. وإن كان يفعل المعصية بشهوةٍ غالبة لكنه يبغضها ويكرهها ولو صدرت منه؛ ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: "وَهَذَا الْحُبُّ وَالْبُغْضُ مِنْ خَصَائِصِ الْإِيمَانِ".

المتن:

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الزَّانِيَ حِينَ يَزْنِي إنَّمَا يَزْنِي لِحُبِّ نَفْسِهِ لِذَلِكَ الْفِعْلِ فَلَوْ قَامَ بِقَلْبِهِ خَشْيَةُ اللَّهِ الَّتِي تَقْهَرُ الشَّهْوَةَ أَوْ حُبُّ اللَّهِ الَّذِي يَغْلِبُهَا؛ لَمْ يَزْنِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ  كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24] فَمَنْ كَانَ مُخْلِصًا لِلَّهِ حَقَّ الْإِخْلَاصِ لَمْ يَزْنِ وَإِنَّمَا يَزْنِي لِخُلُوِّهِ عَنْ ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي يُنْزَعُ مِنْهُ لَمْ يُنْزَعْ مِنْهُ نَفْسُ التَّصْدِيقِ وَلِهَذَا قِيلَ: هُوَ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ الْمُسْتَحِقَّ لِلثَّوَابِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا وَإِلَّا كَانَ مُنَافِقًا؛ لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ صَدَقَ قَامَ بِقَلْبِهِ مِنْ الْأَحْوَالِ الْإِيمَانِيَّةِ الْوَاجِبَةِ مِثْلُ كَمَالِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمِثْلُ خَشْيَةِ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ فِي الْأَعْمَالِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ بَلْ يَكُونُ الرَّجُلُ مُصَدِّقًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُرَائِي بِأَعْمَالِهِ وَيَكُونُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ وَقَدْ خُوطِبَ بِهَذَا الْمُؤْمِنُونَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ فِي سُورَةِ " بَرَاءَةٌ " فَقِيلَ لَهُمْ: إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24] وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَكْثَرَهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ".

الشرح:

فيقول المؤلف -رحمه الله-: "وَمَعْلُومٌ أَنَّ الزَّانِيَ حِينَ يَزْنِي إنَّمَا يَزْنِي لِحُبِّ نَفْسِهِ لذلك الفعل فَلَوْ قَامَ بِقَلْبِهِ خَشْيَةُ اللَّهِ الَّتِي تَقْهَرُ الشَّهْوَةَ أَوْ حُبُّ اللَّهِ الَّذِي يَغْلِبُهَا؛ لَمْ يَزْنِ"، يعني مقصود المؤلف -رَحِمَهُ اللَّهُ-: أن الزاني ضعيف الإيمان، وإن كان أصل الإيمان -وهو التصديق-موجودٌ عنده، وقائم بقلبه لكن كمال الإيمان هو الذي ذهب منه حين وقع الفاحشة.

 ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: "وَمَعْلُومٌ أَنَّ الزَّانِيَ حِينَ يَزْنِي إنَّمَا يَزْنِي لِحُبِّ نَفْسِهِ لذلك الفعل"، فهذا الحب في نفسه للفاحشة هو الذي أضعف إيمانه، وأضعف خشية الله، فهذا الحب أضعف الخشية خشية الله؛ فلهذا ضعف إيمانه ووقع الفاحشة وإن كان أصل الإيمان عنده، فلهذا لا يخرج من الإيمان الفاحشة ما دام أنه لم يستحلها.

 ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: "وَمَعْلُومٌ أَنَّ الزَّانِيَ حِينَ يَزْنِي إنَّمَا يَزْنِي لِحُبِّ نَفْسِهِ لذلك الفعل" وهي الفاحشة  "فَلَوْ قَامَ بِقَلْبِهِ خَشْيَةُ اللَّهِ الَّتِي تَقْهَرُ الشَّهْوَةَ أَوْ حُبُّ اللَّهِ الَّذِي يَغْلِبُهَا؛ لَمْ يَزْنِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ الصلاة والسَّلَامُ: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]" والشاهد قوله هنا: مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ.

قال المؤلف -رحمه الله-: " فَمَنْ كَانَ مُخْلِصًا لِلَّهِ حَقَّ الْإِخْلَاصِ لَمْ يَزْنِ"، أما الزاني فقد ضعف عنده الإخلاص ونقص، فأحب الفاحشة فلهذا نقص إخلاصه، ويوسف عليه الصلاة والسلام كمل إخلاصه فلهذا صرف الله عنه السوء والفحشاء.

 ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: "فَمَنْ كَانَ مُخْلِصًا لِلَّهِ حَقَّ الْإِخْلَاصِ لَمْ يَزْنِ وَإِنَّمَا يَزْنِي لِخُلُوِّهِ عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي يُنْزَعُ مِنْهُ لَمْ يُنْزَعْ مِنْهُ نَفْسُ التَّصْدِيقِ" يعني الإيمان الذي ينزع من الزاني هو كمال الإيمان، وهو الإخلاص وكمال الإخلاص، هو حق الإخلاص فالذي ينزع من الزاني هو كمال الإيمان وهو كمال الإخلاص، هو حق الإخلاص، ولا ينزع منه نفس التصديق، كما يقول الخوارج والمعتزلة؛ ولهذا ظن الخوارج والمعتزلة أنه ينزع منه نفس التصديق، فكفروه وأخرجوه من ملة الإسلام، وهذا من جهلهم وضلالهم وعدم جمعهم بين النصوص.

 وأهل السنة والجماعة جمعوا بين النصوص فعملوا بالنصوص من الجانبين، فالذي يُنزع من الزاني إنما هو كمال الإيمان وحق الإخلاص؛ الإخلاص الحق ولا ينزع من نفس التصديق.

 يقول المؤلف -رحمه الله-: "وَلِهَذَا قِيلَ: هُوَ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ"، يُقال عن الزاني هو مسلم وليس بمؤمن، الإيمان إنما يُطلق على من أدى الواجبات وترك المحرمات، أما من فعل بعض المحرمات أو أخل ببعض الواجبات فإنه يُطلق عليه الإسلام ولا يطلق عليه الإيمان، إلا بقيد لا يطلق عليه الإيمان إلا بالتقييد، فيقال: مؤمن عاص، مؤمن فاسقٌ بكبيرته.

 وفي النفي يقيده يقال: بأنه ليس بمؤمن حقا ليس بصادق الإيمان، ولكن يطلق عليه الإسلام، فالإسلام يطلق على العاصي.

قال المؤلف -رحمه الله-: "فَإِنَّ الْمُسْلِمَ الْمُسْتَحِقَّ لِلثَّوَابِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا وَإِلَّا كَانَ مُنَافِقًا"، يعني إن الإسلام يُطلق على العاصي وعلى الزاني، ولكن هذا المسلم لا بد وأن يكون مُصَدِّقًا، والزاني مُصَدِّق وإلا فلا يطلق عليه سوى الإسلام، وإن لم يكن مُصدقاً لكان منافقاً.

 ثم قال المؤلف -رحمه الله-: "لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ صَدَقَ قَامَ بِقَلْبِهِ مِنْ الْأَحْوَالِ الْإِيمَانِيَّةِ الْوَاجِبَةِ مِثْلُ كَمَالِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمِثْلُ خَشْيَةِ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ فِي الْأَعْمَالِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ"، نعم، ليس كل من صَدَّق يكون عنده الخشية التامة، وعنده المحبة التامة، وعنده الإخلاص الحق، والتوكل، لا، قال المؤلف -رحمه الله-: "بَلْ يَكُونُ الرَّجُلُ مُصَدِّقًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُرَائِي بِأَعْمَالِهِ وَيَكُونُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ" نعم، قد يكون الإنسان مصدقٌ لله ورسوله وهو يرائي فيه بعض الإعمال كالقراءة أو في الصلاة كما خاف النبي ﷺالرياء على الصحابة عن أبي سعيد قال: خرج علينا رسول الله ﷺ -ونحن نتذاكر المسيح الدجال، فقال: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟ قال: قلنا: بلى. فقال: الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي، فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ، لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ ([27])، فهذا الذي يزين صلاته ليس مشركا شركًا أكبر ولكنه مشرك في العمل، فضعف إيمانه وإن كان عنده أصل الإيمان.

 وكذلك أيضا من كان أهله وماله أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله، بأن يقدم الأهل أو المال أو الأبناء أو الإخوان، تجارات أو الأموال أو المساكن، يقدم شيئا منها على محبة الله ورسوله بمعنى أنه يصدر منه المعصية؛ فيقدم شيئًا من هذه الأشياء على طاعة الله ورسوله.

 وهذا خوطب به المؤمنون، يقول المؤلف -رحمه الله-"وَقَدْ خُوطِبَ بِهَذَا الْمُؤْمِنُونَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ فِي سُورَةِ " بَرَاءَةٌ ""، وسورة "براءة" من آخر ما نزل، ومع ذلك خُوطب المؤمنون، فبيَّن الله أن من قدم شيئا من الأصناف الثمانية فإنه يكون ناقصًا إيمانه وهو ضعف الإيمان و متوعدًا بالوعيد، فقال سبحانه كما ساق المؤلف الآية، فقال: "فَقِيلَ لَهُمْ: إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ [التوبة:24]"، يعني إن قدمتم شيئًا من هذه الأصناف الثمانية على حب الله ورسوله، يعني على طاعة الله ورسوله، فيتعسَّف الإنسان في ماله مثلا، يتعامل بالربا قدم محبة المال على محبة الله ورسوله، فتعامل بالربا أو أكل الرشوة، أو أطاع الآباء والأبناء في معصية الله ورسوله.

 فهذا يكون قدم شيء من هذه الأصناف الثمانية على محبة الله ورسوله، فيكون متوعدا بهذا الوعيد فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24]، يعني انتظروا ماذا يحل بكم من عقوبة الله، حكم الله على من قدم شيء من هذه الأصناف الثمانية على طاعة الله ورسوله أنه فاسق، فلهذا قال وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24]، فاسق فسق معصية.

ثم قال المؤلف -رحمه الله-: "وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَكْثَرَهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ"، يعني يعصي الله ورسوله، ويقدم شيئا من الدنيا على طاعة الله ورسوله، فيكون عاصيًا، وهذه الآية خُوطب بها المسلمون في آخر الأمر؛ لأن الآية من سورة "براءة"، وسورة "براءة" من آخر ما نزل.  فدل على هذا على أن من قدم شيئا من الدنيا على محبة الله ورسوله لا يكون كافرًا ولكنه يكون عاصيًا ناقص الإيمان.

القارئ: أحسن الله إليك فضيلة الشيخ، أعود هنا الشيخ عبد العزيز لقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: "وَمَعْلُومٌ أَنَّ الزَّانِيَ حِينَ يَزْنِي إنَّمَا يَزْنِي لِحُبِّ نَفْسِهِ لِذَلِكَ الْفِعْلِ فَلَوْ قَامَ بِقَلْبِهِ خَشْيَةُ اللَّهِ الَّتِي تَقْهَرُ الشَّهْوَةَ أَوْ حُبُّ اللَّهِ الَّذِي يَغْلِبُهَا؛ لَمْ يَزْنِ".

هنا شيخ عبد العزيز -بارك الله فيكم-وقد ذكرتم في بيانكم أهمية أن يكون الإنسان خائفًا من الله ، وأن يستحضر خشية الله -جلَّ وعلا-.  لعلكم تنبهون الإخوة المستمعين وتنبهونا أيضا هنا إلى أهمية استحضار خشية الله ، والبعد عن كل ما يغضب الله -جلَّ وعلا- حتى نحقق الإيمان الكامل.

الشيخ: لا شك أن الواجب على المسلم أن يجاهد نفسه، وأن يستحضر عظمة الله  وأن يقهر ما في نفسه من حب الشهوة المحرمة حتى لا تغلبه، فإن المسلم لابد له من الجهاد، يجاهد الإنسان نفسه، حتى لا تقهره الشهوة المحرمة، وحتى يتغلب عليها، حتى يقدم طاعة الله وطاعة رسوله على الدنيا وشهواتها.

والمجاهد موعود بالهداية؛ قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]، وقال تعالى: وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ [العنكبوت:6]، ينبغي للمسلم أن يجاهد لنفسه، ولا يسترسل مع الخواطر الرديئة التي قد تقوى، فتكون إرادةً وعزيمة ثم تقهر، بل عليه أن يجاهد نفسه، ويستحضر عظمة الله ، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.

قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ۝ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:202]، فعلى الإنسان أن يتذكر وأن يستحضر عظمة الله ، وأن يراقب ربه، وأن يجاهد نفسه حتى لا تغلبه الشهوات المحرمة، ولا تقهره الشهوة، بل يقوى حب الله ورسوله، وحينئذٍ لا يقع في الفواحش والمعاصي، ويكون مؤمنا قويَّ الإيمان. ومخلصا حق الإخلاص.


([1]) – سبق

([2]) – سبق

([3]) – سبق

([4]) – أخرجه مسلم رقم (2797) من حديث أبي هريرة .

([5]) – سبق تخريجه

([6]) – أخرجه البخاري رقم (1479)، مسلم رقم (1039) من حديث أبي هريرة .

([7]) – سبق تخريجه

([8]) – سبق تخريجه

([9]) – سبق تخريجه

([10]) – سبق تخريجه

([11]) – سبق تخريجه

([12]) – أخرجه مسلم رقم (82) من حديث جابر بن عبد الله .

([13]) – أخرجه أحمد رقم (22937) والترمذي رقم (2621) ، والنسائي رقم (463)، وابن ماجه رقم (1079)  من حديث بُريدة بن الحُصيب . قال الحافظ الترمذي «هذا حديث حسن صحيح غريب» وفي الباب " عن أنس، وابن عباس "

([14]) – أخرجه البخاري رقم (553- 594) من حديث بُريدة بن الحُصيب .

([15]) – أخرجه البخاري رقم (34) واللفظ له، ومسلم رقم (58)من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنها .

([16]) – سبق تخريجه

([17]) – سبق تخريجه

([18]) – سبق تخريجه

([19]) – سبق تخريجه

([20]) – أخرجه مسلم رقم (35) من حديث أبي هريرة .

([21]) – سبق تخريجه

([22]) – سبق تخريجه

([23]) – سبق تخريجه

([24]) – أخرجه أحمد رقم (114)، والترمذي رقم (2165)، والنسائي في الكبرى رقم (9177) من طرق عن عمر بن الخطاب . قال الترمذي " هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه وقد رواه ابن المبارك، عن محمد بن سوقة، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن عمر عن النبي ﷺ" وصححه ابن حبان"الاحسان"(15/122) و الحاكم (1/ 197) فقال"«هذا حديث صحيح على شرط الشيخين...»

وفي الباب عن "أبي أمامة، وأبي موسى، وعلي بن أبي طالب"

([25]) – أخرجه البخاري رقم (33)، ومسلم رقم (59) من حديث أبي هريرة .

([26]) – سبق تخريجه

([27]) – أخرجه ابن ماجه رقم (4204)  قال البوصيري في مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه (4/ 237) "هذا إسناد حسن كثير بن يزيد وربيح بن عبد الرحمن مختلف فيهما..."

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد