(المتن)
فَهَذَانِ مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِمَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَيَقُولُونَ: لَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ ﷺ فِي ذَلِكَ الرَّجُلِ أو مُسْلِمٌ لِكَوْنِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ خَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَفَاضِلِهِمْ كَالسَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ فَإِنَّ هَذَا لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ يَنْفِي الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ عَنْ الْأَبْرَارِ الْمُقْتَصِدِينَ الْمُتَّقِينَ الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّةِ بِلَا عَذَابٍ إذَا كَانُوا مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ السَّابِقِينَ وَالْمُقَرَّبِينَ.
وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ كانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ مَعَ السَّابِقِينَ الْمُقَرِّبِينَ كُلُّهُمْ مُؤْمِنُونَ مَوْعُودُونَ بِالْجَنَّةِ بِلَا عَذَابٍ وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ؛ وَلَوْ جَازَ أَنْ يُنْفَى الْإِيمَانُ عَنْ شَخْصٍ لِكَوْنِ غَيْرِهِ أَفْضَلَ مِنْهُ إيمَانًا نُفِيَ الْإِيمَانُ عَنْ أَكْثَرِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ بَلْ وَعَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَهَذَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: نَفْيُ الِاسْمِ لِنَفْيِ كَمَالِهِ الْمُسْتَحَبِّ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ بَلْ هَذَا الْحَدِيثُ خُصَّ مَنْ قِيلَ فِيهِ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ نَاقِصًا عَنْ دَرَجَةِ الْأَبْرَارِ الْمُقْتَصِدِينَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَيَكُونُ إيمَانُهُ نَاقِصًا عَنْ إيمَانِ هَؤُلَاءِ كُلِّهِم فَلَا يَكُونُ قَدْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ هَؤُلَاءِ كُلِّهِ ثُمَّ إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ الْإِيمَانِ وَتَرْكِ الْوَاجِبِ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ وَإِنْ قَدَرَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ الْإِيمَانِ الَّذِي اتَّصَفَ بِهِ هَؤُلَاءِ كَانَ عَاجِزًا عَنْ مِثْلِ إيمَانِهِمْ وَلَا يَكُونُ هَذَا وَجَبَ عَلَيْهِ فَهُوَ وَإِنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ لَا يَكُونُ كَمَنْ قُدِّرَ أَنَّهُ آمَنَ إيمَانًا مُجْمَلًا وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُعْلَمَ تَفْصِيلُ الْإِيمَانِ وَقَبْلَ أَنْ يَتَحَقَّقَ بِهِ وَيَعْمَلَ بِشَيْءِ مِنْهُ فَهُوَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَكِنْ لَا يَكُونُ مِثْلَ أُولَئِكَ.
لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: الْأَبْرَارُ أَهْلُ الْيَمِينِ هُمْ أَيْضًا عَلَى دَرَجَاتٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ الْآيَةُ فَدَرَجَةُ الْمُؤْمِنِ الْقَوِيِّ فِي الْجَنَّةِ أَعْلَى وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا كَمَّلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ.
(الشرح)
فإن المؤلف شيخ ا لإسلام بن تيمية رحمه الله فيما سبق مِن الحلقات، قرر مذهب أهل السنة والجماعة في مسمى الإيمان، وأن مُسمى الإيمان: قولٌ بالقلب وهو التصديق والإقرار، وقولٌ باللسان وهو النطق، وعملٌ بالقلب وعملٌ بالجوارح، وأن هذا هو الذي دلت عليه النصوص مِن كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وعليه جماهير أهل السنة والجماعة مِن أهل السن، مِن أهل الحديث وأهل الفقه.
ونقل أقوال العلماء في ذلك، ونقل عن أبي عمر بن عبد البر إجماع أهل الفقه والحديث، وأقوال أهل العلم، ونقل أيضًا عن أبي طالب المكي في كتابه قوت القلوب، نقل عنه أقوال العلماء في الإسلام والإيمان، وأن ذلك فيه خلاف؛ فمن العلماء مَن قال: إن الإسلام والإيمان شيءٌ واحد، ومنهم مَن قال: إنهما شيئان، وقرر أبو طالب المكي أن الإسلام والإيمان شيءٌ واحد.
وردَّ عليه المؤلف رحمه الله ونقل، وقال إن الأمة مجتمعة، قال أبو طالب المكي: إن الأمة مجتمعة على أن العبد لو آمن ولم يعمل فلا يكون مؤمنًا، أو عمل ولم يصدِّق فلا يكون مؤمنًا، والأمة لا تجتمع على ضلالة.
ثم وجه المؤلف رحمه الله شيخ الإسلام قول أبي طالب المكي، وقال أنه أراد بذلك إجماع الصحابة ومن اتبعهم، لعله أراد بذلك إجماع الصحابة ومن اتبعهم، وإلا فإن المتأخرين كأبي حنيفة وأصحابه يرون أن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان.
أو أن مراده أنه لا يسمى مؤمنًا في الأحكام، ولا، وأنه لا يكون مسلمًا إذا أنكر بعض الأحكام، أو أنه لم ير خلاف أهل الأهواء، خالفًا، وهم أهل البدع وإلا فأهل البدع لهم خلاف في هذا وقال: إن أبو طالب، وقال: إن أبا طالب كان عارفًا بأقوالهم.
ثم قال المؤلف رحمه الله: إنما الذي قاله أبو طالب المكي أجود مما قاله كثير مِن الناس إلا أنه نازع في شيئين: في مسألتين، المسألة الأولى قوله: قول أبي طالب المكي أن المسلم المستحق للثواب لابد أن يكون معه الإيمان الواجب المفصل المذكور في حديث جبريل.
هذا مما ينازع فيه؛ لأن الإيمان المفصل هذا لا، لا يعلمه كل أحد، إنما الإيمان المفصل إنما يجب على العلماء، ولكن يكفي الإيمان المجمل وما يستطيعه مِن التفصيل وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
والمسألة الثانية، قول أبي طالب المكي: إنه لا يُطلق المؤمن، إنه لا يسمى مسلم وينفى عنه الإيمان إلا، إن الذي نفي عنه الإيمان إنما هو لأن، لكونه ليس مِن خواص المؤمنين وأفاضلهم بل لكونه مِن المقتصدين الأبرار، قال: هذا
مما ينازع فيه، هذا ليس بصحيح فإن الذي يُنفى عنه الإيمان في النصوص إنما هو لكونه قصَّر في بعض الواجبات أو ارتكب بعض المحرمات، لا لأنه ليس من، لم يكن مِن خواصّ المؤمنين، فإن السابقين الأبرار والمقتصدين، فإن السابقين المقربين، والمقتصدين الأبرار كلٌّ منهما يُطلق عليه الإيمان، وإن كان السابقون المقربون أفضل وأعلى منزلة ودرجة.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: فهذا، فَهَذَانِ مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِمَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ" في هاتان المسألتان اللتان سبقتا مما تنازع فيه جمهور العلماء، " وَيَقُولُونَ": يعني في المسألة الثانية، في كونه نُفيَ الإيمان عن بعض الناس، "وَيَقُولُونَ: لَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ ﷺ فِي ذَلِكَ الرَّجُلِ أو مُسْلِمٌ لِكَوْنِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ خَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَفَاضِلِهِمْ كَالسَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ" هذا وأشار، ويشير بهذا إلى حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي ﷺ قسَّم في بعض الغنائم وترك، قال: وترك رجلًا هو أعجبهم إلي، فقلت يا رسول الله، مالك عن فلان، فوالله إني لأراه مؤمناً([1])، فقال أو مسلمًا، فيقول أبو طالب المكي إن هذا الذي نُفي عنه الإسلام لكونه مِن المقتصدين الأبرار، ولم يصل لدرجة السابقين المقربين.
والمؤلف شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هذا ليس بصحيح، فإن جمهور العلماء يقولون: " لَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ ﷺ فِي ذَلِكَ الرَّجُلِ أو مُسْلِمٌ لِكَوْنِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ خَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَفَاضِلِهِمْ كَالسَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ فَإِنَّ هَذَا لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ يَنْفِي الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ عَنْ الْأَبْرَارِ الْمُقْتَصِدِينَ الْمُتَّقِينَ الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّةِ بِلَا عَذَابٍ إذَا كَانُوا مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ السَّابِقِينَ وَالْمُقَرَّبِينَ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ كلٌّ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ مَعَ السَّابِقِينَ الْمُقَرِّبِينَ كُلُّهُمْ مُؤْمِنُونَ مَوْعُودُونَ بِالْجَنَّةِ بِلَا عَذَابٍ" " بَلْ كانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ مَعَ السَّابِقِينَ الْمُقَرِّبِينَ كُلُّهُمْ مُؤْمِنُونَ مَوْعُودُونَ بِالْجَنَّةِ بِلَا عَذَابٍ وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ" كلهم يسمونه مؤمن، هذا اتفق عليه أهل السنة أهل البدع، " وَلَوْ جَازَ أَنْ يُنْفَى الْإِيمَانُ عَنْ شَخْصٍ لِكَوْنِ غَيْرِهِ أَفْضَلَ مِنْهُ إيمَانًا نُفِيَ الْإِيمَانُ عَنْ أَكْثَرِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ" لماذا؟
لأن الناس يتفاوتون، في الإيمان، فلو كان يُنفى الإيمان عن الشخص لكون غيره أفضل منه، لصار ما مِن أحد إلا وغيره أفضل منه، حتى يصل إلى الأنبياء والرسل، حتى يصل إلى النبي ﷺ، وهو أفضل الناس إيمانًا.
ومعنى ذلك أنه يُنفَى الإيمان عن كثيرٍ مِن أولياء الله المتقين، وهذا باطل، ولهذا قل المؤلف رحمه الله: " وَلَوْ جَازَ أَنْ يُنْفَى الْإِيمَانُ عَنْ شَخْصٍ لِكَوْنِ غَيْرِهِ أَفْضَلَ مِنْهُ إيمَانًا نُفِيَ الْإِيمَانُ عَنْ أَكْثَرِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ بَلْ وَعَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ" لماذا؟
لأن الأنبياء يتفاوتون، فإيمان الرسل أفضل مِن إيمان الأنبياء، وإيمان أولوا العزم الخمسة أفضل من، أعلى من إيمان غيرهم، وأولوا العزم الخمسة أيضًا يتفاوتون، فأفضلهم الخليلان إبراهيم ومحمد عليهم الصلاة والسلام، هما أكمل الناس إيمانًا، وأكمل الخليلين نبينا محمد ﷺ فإنه أكمل الناس إيمانًا، وحالًا، ومقامًا.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَلَوْ جَازَ أَنْ يُنْفَى الْإِيمَانُ عَنْ شَخْصٍ لِكَوْنِ غَيْرِهِ أَفْضَلَ مِنْهُ إيمَانًا نُفِيَ الْإِيمَانُ عَنْ أَكْثَرِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ بَلْ وَعَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَاد" ويقول: إن هذا القول: قول أبي طالب المكي: إنه نُفيَ الإيمان عنه لكونه ليس مِن السابقين المقربين؛ " الْفَسَادِ وَهَذَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: نَفْيُ الِاسْمِ لِنَفْيِ كَمَالِهِ الْمُسْتَحَبِّ." وهذا ليس بصحيح، ليس عليه دليل، لأنه لا يُنفى الإيمان عن الشخص لكونه ترك المستحب.
إنما النصوص دلت على أن الذي يُنفى عنه الإيمان؛ لكونه ترك واجبًا أو فعل محرمًا، أما الذي ترك مستحبًّا فلا يُنفى عنه الإيمان، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ" يعني نفْي الإيمان لترك المستحب، " بَلْ هَذَا الْحَدِيثُ خُصَّ مَنْ قِيلَ فِيهِ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ نَاقِصًا عَنْ دَرَجَةِ الْأَبْرَارِ الْمُقْتَصِدِينَ أَهْلِ الْجَنَّةِ"؛ لأن الأبرار المقتصدين هم الذين أدَّوا الواجبات وتركوا المحرمات، لكن لم يكون عندهم نشاط في فعل النوافل والمستحبات.
بخلاف السابقين المقربين، فإنهم كان عندهم نشاط فأدَّوا الواجبات، وفعلوا المستحبات والنوافل، وتركوا المحرمات وتركوا المكروهات وفضول المباحات، وأما الأبرار المقتصدون فإنهم اقتصروا على أداء الواجبات وترك المحرمات، لكن كلٌّ منهما قد أدَّى ما أوجب الله عليه، كلٌّ منهما موعودٌ بالجنة مِن أول وهلة، كلٌّ منهما مِن أهل الجنة، فلا يُقال: إن أحدهما يُنفى عنه الإيمان.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: الذي يُنفى عنه الإيمان " فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ نَاقِصًا عَنْ دَرَجَةِ الْأَبْرَارِ الْمُقْتَصِدِينَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَيَكُونُ إيمَانُهُ نَاقِصًا عَنْ إيمَانِ هَؤُلَاءِ كُلِّهِ فَلَا يَكُونُ قَدْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ هَؤُلَاءِ كُلِّهِ ثُمَّ إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ الْإِيمَانِ وَتَرْكِ الْوَاجِبِ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ وَإِنْ قَدَرَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ الْإِيمَانِ الَّذِي اتَّصَفَ بِهِ هَؤُلَاءِ كَانَ عَاجِزًا عَنْ مِثْلِ إيمَانِهِمْ وَلَا يَكُونُ هَذَا وَجَبَ عَلَيْهِ فَهُوَ وَإِنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ لَا يَكُونُ كَمَنْ قُدِّرَ أَنَّهُ آمَنَ إيمَانًا مُجْمَلًا وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُعْلَمَ تَفْصِيلُ الْإِيمَانِ وَقَبْلَ أَنْ يَتَحَقَّقَ بِهِ وَيَعْمَلَ بِشَيْءِ مِنْهُ فَهُوَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَكِنْ لَا يَكُونُ مِثْلَ أُولَئِكَ" يعني الإنسان إذا ترك شيئًا مِن الإيمان، وهو لم يجب عليه لكونه جاهلًا به، أو عاجزًا عنه، فلا يضره ذلك، هو يدخل الجنة، ولا يُنفى عنه الإيمان.
ولكن لا تكون درجته كدرجة مَن أتى بهذا، بالإيمان الذي علمه غيره، أو الذي وجب على غيره، يكون الذي وجب، الذي أتى بالإيمان الذي وجب عليه دون مَن لم يجب عليه، أو الذي علمه دون مَن لم يعلمه؛ درجته أعلى في الجنة وإن كان كلٌّ منهما مؤمنٌ موعودٌ بدخول الجنة ولا يُنفى عنه الإيمان.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَلَا يَكُونُ هَذَا وَجَبَ عَلَيْهِ" "ثُمَّ إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ الْإِيمَانِ وَتَرْكِ الْوَاجِبِ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ وَإِنْ قَدَرَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ الْإِيمَانِ الَّذِي اتَّصَفَ بِهِ هَؤُلَاءِ كَانَ عَاجِزًا عَنْ مِثْلِ إيمَانِهِمْ وَلَا يَكُونُ هَذَا وَجَبَ عَلَيْهِ فَهُوَ وَإِنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ لَا يَكُونُ كَمَنْ قُدِّرَ أَنَّهُ آمَنَ إيمَانًا مُجْمَلًا وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُعْلَمَ تَفْصِيلُ الْإِيمَانِ وَقَبْلَ أَنْ يَتَحَقَّقَ بِهِ وَيَعْمَلَ بِشَيْءِ مِنْهُ فَهُوَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَكِنْ لَا يَكُونُ مِثْلَ أُولَئِكَ".
ثم بيَّن المؤلف رحمه الله أن الأبرار أهل اليمين على درجات، على درجات متفاوتة، ولكن كلهم موعودون بالجنة، وكلٌّ منهم ثبت له الإيمان، وإن كانوا متفاوتين؛ لأن هناك مِن المؤمن، مِن الأبرار المقتصدين مَن عنده نشاط، ويتعدى نفعه إلى الآخرين، وهناك مَن عنده ضعف يقتصر نفعه على نفسه، فلا يكون هذا مثل هذا، فهم على درجات.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: . لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: الْأَبْرَارُ أَهْلُ الْيَمِينِ هُمْ أَيْضًا عَلَى دَرَجَاتٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ([2]).
، وهذا الحديث رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة في كتاب القدر، وابن ماجه في المقدمة، والمؤمن القوي هو الذي تعدى نفعه إلى الآخرين، قويٌّ بماله، يعني تعدى نفعه بالمال، ينفقه في وجوه الخير، أو قويٌّ ببدنه، ينفع غيره ببدنه، أو بشفاعته وتوجيهه وإرشاده، وأما المؤمن الضعيف هو الذين يقتصر نفعه على نفسه، الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ([3]).
" وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [النساء: 95] الْآيَةُ" والشاهد من الآية أن الله تعالى فاضل بين المجاهدون، بين المجاهدين، وبين القاعدين من أجل العذر، فالمجاهد فضله عظيم، والقاعد عن الجهاد لعجزه مؤمن ولكنه لا يصل إلى درجة المجاهد، لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [النساء: 95] يعني وكلٌّ مِن القاعدين والمجاهدين وعدهم، موعودين بالجنة، الحسنى: الجنة.
كلٌّ موعود بالجنة لكن درجاتهم متفاوتة، وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [النساء: 95]، ثم قال: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء: 95، 96]، يقول المؤلف رحمه الله: " فَدَرَجَةُ الْمُؤْمِنِ الْقَوِيِّ فِي الْجَنَّةِ أَعْلَى وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا كَمَّلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ"
(المتن)
وَقَدْ يُرِيدُ أَبُو طَالِبٍ وَغَيْرُهُ بِقَوْلِهِمْ: لَيْسَ هَذَا مِنْ خَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا الْمَعْنَى: أَيْ لَيْسَ إيمَانُهُ كَإِيمَانِ مَنْ حَقَّقَ خَاصَّةَ الْإِيمَانِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْأَبْرَارِ أَوْ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَرَكَ وَاجِبًا لِعَجْزِهِ عَنْهُ أَوْ لِكَوْنِهِ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ فَلَا يَكُونُ مَذْمُومًا وَلَا يُمْدَحُ مَدْحَ أُولَئِكَ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبِينَ.
فَيُقَالُ: وَهَذَا أَيْضًا لَا يَنْفِي عَنْهُ الْإِيمَانَ. فَيُقَالُ: هُوَ مُسْلِمٌ لَا مُؤْمِنٌ كَمَا يُقَالُ: لَيْسَ بِعَالِمٍ وَلَا مُفْتٍ وَلَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ([4]) وَهَذَا كَثِيرٌ فَلَيْسَ كُلُّ مَا فُضِّلَ بِهِ الْفَاضِلُ يَكُونُ مَقْدُورًا لِمَنْ دُونَهُ فَكَذَلِكَ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بَلْ وَلَا أَكْثَرُهُمْ فَهَؤُلَاءِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ تَحَقَّقُوا بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ الَّتِي فَضَّلَ اللَّهُ بِهَا غَيْرَهُمْ وَلَا تَرَكُوا وَاجِبًا عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى غَيْرِهِمْ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ الْإِيمَانِ مَا هُوَ مِنْ الْمَوَاهِبِ وَالْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْعِلْمِ وَالْإِسْلَامُ الظَّاهِرُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [محمد: 17] وَقَالَ: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم: 76] وَقَالَ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا [الفتح: 4]".
(الشرح)
نعم، المؤلف رحمه الله وجَّه أيضًا قول أبي طالب المكِّي ومن وافقه في قولهم: إن المؤمن الذي نُفي عنه الإيمان لكونه لم يصل إلى درجة السابقين المقربين، قال: " وَقَدْ يُرِيدُ أَبُو طَالِبٍ وَغَيْرُهُ بِقَوْلِهِمْ: لَيْسَ هَذَا مِنْ خَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا الْمَعْنَى" يعني قد يكون مرادهم، يعني قد يُوَجَّه قولهم: إنهم ليسوا مِن خواصّ المؤمنين، يعني أن، أنه، أن خواصّ، أن المؤمنين يتفاوتون في إيمانهم، وأنه ليس مِن، مِن الذين وصلوا إلى، المرتبة العالية؛ لأن الأبرار المتقين، الأبرار أصحاب اليمين في أعلى المراتب كما بيَّن المؤلف رحمه الله، منهم القوي ومنهم الضعيف.
فيوَجَّه قوله: ليس مِن خواصّ المؤمنين: ليس مِن الأقوياء الذين وصلوا إلى، الذين مرتبتهم أعلى مِن مرتبة ضعفاء الإيمان؛ لأن الإيمان، المؤمنين منهم الضعيف ومنهم القوي، فمرتبة القوي خيرٌ مِن مرتبة الضعيف، فيُوَجَّه قول أبي طالب: ليس مِن خواصّ المؤمنين: أي ليس، لم يصل إلى درجة، مرتبة القوي المؤمن.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَقَدْ يُرِيدُ أَبُو طَالِبٍ وَغَيْرُهُ بِقَوْلِهِمْ: لَيْسَ هَذَا مِنْ خَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا الْمَعْنَى: أَيْ لَيْسَ إيمَانُهُ كَإِيمَانِ مَنْ حَقَّقَ خَاصَّةَ الْإِيمَانِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْأَبْرَارِ أَوْ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ" يعني لم يصل إلى درجة التحقيق، تحقيق الإيمان، وتخليصه، وتنقيته، وتصفيته من الشوائب، " وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَرَكَ وَاجِبًا لِعَجْزِهِ عَنْهُ أَوْ لِكَوْنِهِ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ فَلَا يَكُونُ مَذْمُومًا وَلَا يُمْدَحُ مَدْحَ أُولَئِكَ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبِينَ.".
يعني هذا توجيهٌ، توجيهٌ حسّن، يعني قد يُوَجَّه قول أبي طالب: إنه ليس مِن خواصّ المؤمنين، يعني ليس إيمانه كمن حقق إيمانه، وخلَّصه، مِن شوائب، مِن الشوائب، سواءٌ كان مِن الأبرار، أو مِن المقربين، يعني قد يكون مِن الأبرار وقد يكون مِن الأبرار والمقتصدون، كلٌّ منهما على مراتب، فمن حقَّق إيمانه وخلَّصه مِن شوائب الشرك والبدع والمعاصي، فهذا يدخل الجنة بغير حسابٍ ولا عذاب، ومنهم مَن لم يكن عنده هذا التحقيق.
فيُوَجَّه قول أبي طالب: بقوله: أنه ليس مِن خواص المؤمنين: أنه ليس ممن حقَّق خاصَّة الإيمان، ولو لم يكن ترك واجبًا لعجزه عنه، أو لكونه لم يؤمر به؛ فلا يكون مذمومًا؛ لأنه ما ترك واجبًا عاجزًا عنه، ولا ترك شيئًا أُمِر به فلا يكون مذمومًا، ولا يُمدَح مدح أولئك الذين وصلوا إلى درجة التحقيق، تحقيق خاصة الإيمان، ولا يلزم أن يكون مِن أولئك المقربين، فهذا توجيهٌ حسَن مِن المؤلف رحمه الله.
فقال المؤلف: " فَيُقَالُ: وَهَذَا أَيْضًا لَا يَنْفِي عَنْهُ الْإِيمَانَ" أيضًا، حتى هذا الذي على هذا التوجيه لا يُنفى عنه الإيمان، لا يُقال: ليس بمؤمن، فـــــ" لَا يَنْفِي عَنْهُ الْإِيمَانَ. فَيُقَالُ: هُوَ مُسْلِمٌ لَا مُؤْمِنٌ كَمَا يُقَالُ: لَيْسَ بِعَالِمٍ وَلَا مُفْتٍ وَلَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ" هذا لا يُنفى عنه الإيمان أيضًا، يعني على التوجيه الأول أوعلى التوجيه الثاني، فلا يُنفى عنه الإيمان.
فلا يقال: "مُسْلِمٌ لَا مُؤْمِنٌ كَمَا يُقَالُ: لَيْسَ بِعَالِمٍ وَلَا مُفْتٍ وَلَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ([5])" وهذا الحديث رواه الشيخان([6])، وسبب هذا الحديث: أنه حصل كلامٌ بين خالد بن الوليد وهو ممن تأخر إسلامه بعد صلح الحديبية، وعبد الرحمن بن عوف، وهو مِن السابقين الأولين، حصَل بينهما كلام، فالنبي ﷺ يُخاطِب خالد ممن تأخر إسلامه بعد صلح الحديبية.
يقول: لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، الذين تقدمت صحبتهم كعبد الرحمن بن عوف فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدهمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ([7])، هذا تفاوتٌ عظيم بين الصحابة، فالمتأخر مِن الصحبة كخالد بن الوليد، لا يلحق عبد الرحمن بن عوف، وبينهما مِن التفاوت لو أنفق خالد مثل أحُدٍ ذهبًا، وأنفق عبد الرحمن مدّ، وهو ملء الكفين للرجل المعتدل الكف المدّ، ما لحقه خالد، هذا التفاوت ببين الصحابة، فكيف بالتفاوت بينهم وبين غيرهم!
وهذا يدل على أن المؤمنين يتفاوتون، والصحابة يتفاوتون، فلا يُنفى الإيمان عمن كان أقل في المرتبة، يقول المؤلف: " وَهَذَا كَثِيرٌ فَلَيْسَ كُلُّ مَا فُضِّلَ بِهِ الْفَاضِلُ يَكُونُ مَقْدُورًا لِمَنْ دُونَهُ" فمثلًا خالد ليس بمقدوره أن يلحق عبد الرحمن بن عوف؛ لأن هذا؛ لأن عبد الرحمن بن عوف تقدَّم إسلامه، وخالد تأخر بعد صلح الحديبية، ولكن ليس في ذلك نقص على خالد ، ولا نفي، بل كلهم، كلهم مِن الصحابة الفضلاء، ولا يلحق بهم غيرهم.
لكن فيه بيان أن الناس على مراتب، والصحابة على مراتب، ومن كان في مرتبة مِن الإيمان وهو قد أدَّى ما أوجب الله عليه، وانتهى عما حرَّم الله عليه لا يُنفى عنه الإيمان، ولو كان غيره أفضل منه، وأعلى منه مرتبة، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَهَذَا كَثِيرٌ فَلَيْسَ كُلُّ مَا فُضِّلَ بِهِ الْفَاضِلُ يَكُونُ مَقْدُورًا لِمَنْ دُونَهُ فَكَذَلِكَ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بَلْ وَلَا أَكْثَرُهُمْ فَهَؤُلَاءِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ" يدخلون الجنة كلهم جميعًا، وإن كانوا متفاوتين في المراتب، في المرتبة، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَهَؤُلَاءِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ تَحَقَّقُوا بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ الَّتِي فَضَّلَ اللَّهُ بِهَا غَيْرَهُمْ وَلَا تَرَكُوا وَاجِبًا عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى غَيْرِهِمْ".
قال المؤلف رحمه الله: " وَلِهَذَا كَانَ مِنْ الْإِيمَانِ مَا هُوَ مِنْ الْمَوَاهِبِ وَالْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْعِلْمِ وَالْإِسْلَامُ الظَّاهِرُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ" والله تعالى يفضِّل بعض الناس على بعض في العِلْم وفي العَمَل، كما فَاوَت بينهم في معايشهم، وفي رزقهم، وفي خلقهم، وفي عقولهم، وفي أفهامهم، فالله تعالى له الحكمةُ البالغة، فاضَل بين عباده وفاوَت بينهم، في الخَلْق والرزق والخُلُق والجسم والعلم والفضل في الدنيا والآخرة، وهو ، الحكيم العليم.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَلِهَذَا كَانَ مِنْ الْإِيمَانِ مَا هُوَ مِنْ الْمَوَاهِبِ وَالْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْعِلْمِ وَالْإِسْلَامُ الظَّاهِرُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [محمد: 17] وَقَالَ: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم: 76] وَقَالَ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِم [الفتح: 4]، لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِم فهؤلاء الذين اهتدوا.
زادهم الله هدى، مع أن الله تعالى هو الذي امتنَّ عليهم بالهداية، امتنَّ عليهم بالهداية ثم زادهم هدًى، وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم: 76] وَقَالَ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ومع ذلك زادهم إيمانًا مع إيمانهم، فله الفضل وله المنَّة ، نعم.
القارئ: بارك الله فيكم فضيلة الشيخ!
وقد ذكرتم في بيانكم هذا لكلام المؤلف رحمه الله وكما استمع الإخوة الكرام: أن أهل الإيمان والأبرار هم على درجات ومتفاوتون في هذه الدرجات وفي الفضل، وذكرتم أن المؤمن القوي أحب إلى الله تعالى كما في الحديث الشريف مِن المؤمن الضعيف، لو أرسلتم رسالة في فضل أن يكون المؤمن قويًّا بدينه بعلمه بماله نافعًا لإخوانه المسلمين.
الشيخ: نعم، ينبغي للمسلم والمؤمن أن يكون عنده همةٌ عالية، وأن يرغب في الفضل، ويحرص على الخير، ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، فينبغي على المسلم أولًا أن يتعلم ويتفقه ويتبصر في دين الله، حتى يكون مِن أهل العلم، والإيمان، فإنه بعلمه يزداد إيمانًا، إذا تعلم وتفقه وتبصر في شريعة الله ثم عمل زاد إيمانه، ولا يكون مثل الذي لم يعلم، وإن كان العلم منه ما هو واجب؛ يجب على الإنسان أن يتعلم دينه.
هذا يجب على كل مسلم أن يتعلم كيف يعبد ربه، وكيف يصلي، وكيف يتوضأ، ويصوم، وما زاد على ذلك فهو فضل، فينبغي للإنسان أن يزيد على الواجب، وأن يحرص على التعلم والتفقه والتبصر في شريعة الله، حتى يكون مِن أهل العلم والفضل، وكذلك أيضًا يحرص على أن يكون مؤمنًا قويًّا يكون عنده نشاط، وقوة في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونفع الناس ببدنه أو بماله أو بجاهه، أو بشفاعته حتى يكون مِن المؤمنين الأقوياء؛ لأن الناس يتفاوتون، الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ([8])، كما سمعناه في الحديث.
فالمسلم، فالمؤمن الذي ينبغي أن يكون له همةٌ عالية، وأن يجاهد نفسه حتى يكون، حتى يصل إلى مرتبةٍ عالية في الفضل، والإيمان، وألا يركن ويكون عنده ركون ، إلى ما هو عليه، ويبقى على ما هو عليه، ينبغي للمسلم أن يكون عنده همةٌ عالية، حتى يكون مِن المؤمنين الأقوياء بعلمه وبماله وبجاهه وشفاعته، هذا هو المؤمن الذي عنده نشاط، عنده قوة، بخلاف المؤمن الذي يكون عنده كسل فإنه يبقى على ما هو عليه.
لكن المؤمن الموَفَّق هو الذي يحرص على الخير، ويحرص على العلم والفضل، حتى يكون مِن السابقين المقربين، ولا يقتصر على أن يكون مِن المقتصدين، ولا يقتصر على أن يكون مِن المقتصدين الأبرار، وكلٌّ منهما على خير، لكن لاشك أن المؤمن الذي يحرص على أن يكون مِن السابقين المقربين، يؤدي الواجبات والمستحبات والنوافل، وينتهي عن المحرمات والمكروهات وفضول المباحات؛ هؤلاء درجتهم عالية ومرتبتهم فاضلة، ينبغي للمسلم أن يرغب فيها وأن يحرص عليها، نعم.
(المتن)
وَمِثْلُ هَذِهِ السَّكِينَةِ قَدْ لَا تَكُونُ مَقْدُورَةً؛ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ فَضْلًا مِنْهُ وَجَزَاءً عَلَى عَمَلٍ سَابِقٍ كَمَا قَالَ: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء: 66 - 68] كَمَا قَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ [الحديد: 28] وَكَمَا قَالَ: أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة: 22].
وَلِهَذَا قِيلَ: مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ([9])؛ وَهَذَا الْجِنْسُ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْعِبَادِ؛ وَإِنْ كَانَ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ هُوَ أَيْضًا بِفَضْلِ اللَّهِ وَإِعَانَتِهِ وَإِقْدَارِهِ لَهُمْ؛ لَكِنَّ الْأُمُورَ قِسْمَانِ: مِنْهُ مَا جِنْسُهُ مَقْدُورٌ لَهُمْ لِإِعَانَةِ اللَّهِ لَهُمْ كَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَمِنْهُ مَا جِنْسُهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ لَهُمْ.
إذَا قِيلَ: إنَّ اللَّهَ يُعْطِي مَنْ أَطَاعَهُ قُوَّةً فِي قَلْبِهِ وَبَدَنِهِ يَكُونُ بِهَا قَادِرًا عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَهَذَا أَيْضًا حَقٌّ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ هَذَا الْمَعْنَى.
قَالَ تَعَالَى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال: 12] وَقَدْ قَالَ: إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [الأنفال: 45] فَأَمَرَهُمْ بِالثَّبَاتِ وَهَذَا الثَّبَاتُ يُوحِي إلَى الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهُ بِالْمُؤْمِنِينَ".
(الشرح)
فإن المؤلف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله سبق أن نقل أقوال أهل العلم في مُسمى الإيمان، وبيَّن أن القول الذي تعوضه النصوص مِن كتاب الله وسنة رسوله ﷺ: أن الأعمال داخلةٌ في مسمى الإيمان، وأن الإيمان قولٌ وعمل، قولٌ ونية، ونقل أقوال العلماء في ذلك، كما نقل أيضًا أقوال أهل العلم في مُسمى الإيمان والإسلام فيما سبق.
ونقل قول أبي طالب المكي في ذلك وأن أبا طالب المكِّي نقل عن أهل العلم أن الإيمان والإسلام شيءٌ واحد أو شيئان، وقرر أنه شيءٌ واحد.
ثم بين المؤلف رحمه الله أن قوله أجود مما قاله كثيرٌ مِن الناس وأنه نازَع في شيئين، الشيء الأول: أن قوله: أن المسلم المستحق للثواب لابد أن يكون معه الإيمان الواجب المُفصَّل المذكور في حديث جبريل، وأن هذا ليس بلازم، ليس كل واحد يقدر على الإيمان المفصَّل.
والأمر الثاني: قوله: إن الذي نُفي عنه الإيمان في الأحاديث، إنما نُفي عنه لكونه ليس مِن السابقين المقربين، لكونه ليس مِن خواصّ المؤمنين، فكأنه يقول: ليس مِن السابقين المقربين، وبيّنَ المؤلف، بيَّن المؤلف رحمه الله أن هذا ليس بصحيح، وأن الذي يُنفى عنه الإيمان، إنما يُنفى عنه لكونه ترك واجبًا، أو فعل محرمًا، ووجَّه قول أبي طالب المكي بتوجيه آخر وقال: لعله يوَجَّه بأن مراده أن الذي ينفي عنه الإيمان ليس مِن خواصّ المؤمنين، أي ليس إيمانه كإيمان مَن حقق خاصة الإيمان، سواءٌ كان مِن الأبرار أو مِن المقربين.
ثم قال: أيضًا هذا لا يُنفى عنه الإيمان؛ لأن لا ينفى عنه الإيمان؛ لأن الناس يتفاوتون في مراتب الإيمان، و ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ [المائدة: 54]، فالصحابة يتفاوتون، والتابعون يتفاوتون، والمؤمنون يتفاوتون، والله تعالى هو الذي يتفضل على عباده ثم يزيدهم إيمانًا وهدًى، كما قال سبحانه: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [محمد: 17] وَقَالَ: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم: 76]، فهؤلاء، فالهداية منةٌ مِن الله وفضل، ثم زادهم هدًى بهذه الهداية التي مَنَّ بها عليهم، وقال سبحانه: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح: 4]، فالسكينة هو الذي، الله الذي أنزلها في قلوب المؤمنين، ثم زادهم إيمانًا بهذه السكينة، فالفضل مِن الله أولًا وآخرًا.
قال المؤلف رحمه الله: " وَمِثْلُ هَذِهِ السَّكِينَةِ قَدْ لَا تَكُونُ مَقْدُورَةً؛ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ فَضْلًا مِنْهُ وَجَزَاءً عَلَى عَمَلٍ سَابِقٍ" يعني هذه السكينة التي علها الله سببًا في زيادة الإيمان قد لا تكون مقدورةً للشخص، قد لا يقدر عليها ولكن الله جعلها في قلبه تفضُّلًا منه وجزاءً على عملٍ سابق، كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء: 66 - 68]، والمعنى أن الله جازاهم على فعل ما وُعِظوا به، جزاهم بالتثبيت والأجر والهداية، فهذا توفيق الله.
كما قال سبحانه: اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ [الحديد: 28]، فأمرهم بالتقوى والإيمان بالنبي ﷺ، ووعدهم على ذلك كفلين مِن الرحمة والنور، وكما قال: أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة: 22]، في وصف المؤمنين الذين حققوا إيمانهم، قال: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 22]، ثم قال في آخر الآية: " أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة: 22].
وَلِهَذَا قِيلَ" قال المؤلف رحمه الله: " مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" وهذا الأثر رواه أبو نعيم في الحلية عن أنسٍ مرفوعًا، وقال فيه: ذكر أحمد بن حنبل هذا الكلام عن بعض التابعين عن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام فوهم بعض الرواة أنه ذكره عن النبي ﷺ كما ذكر المحقق في الحاشية، وهذا الأثر فيه أن الله، أن مَن عمل بما علم فإن الله يثيبه على ذلك علم ما لم يعلم، يقول: " وَهَذَا الْجِنْسُ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْعِبَادِ".
يعني هذا غير مقدورٍ لجميع العباد، ليس كل إنسان يكون عنده علم، بل ما يجهله كثير، أكثر مما يعلمه، هذا فضل الله، يعطيه العلم ثم يورثه علم ما لم يعلم، " وَهَذَا الْجِنْسُ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْعِبَادِ؛ "يعني غير مقدور لجميع العباد ليس كل إنسان يكون عنده علم، بل ما يجهله أكثر مما يعلمه، فهذا فضل الله يعطيه العلم ثم يورثه علم ما لم يعلم فهذا الجنس غير مقدور للعباد "وَإِنْ كَانَ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ هُوَ أَيْضًا بِفَضْلِ اللَّهِ وَإِعَانَتِهِ وَإِقْدَارِهِ لَهُمْ" يعني العباد حينما يؤدون ما أوجب الله عليهم مِن الصلوات والصيام والحج وبر الوالدين وغيرها، هذه الأعمال الظاهرة هي بفضل الله وإعانته، لولا أن الله هداهم، هدى قلوبهم وأعانهم لما أتوا بها، ثم بعد ذلك يثيبهم على ذلك.
قال المؤلف رحمه الله: قال المؤلف: " لَكِنَّ الْأُمُورَ قِسْمَانِ: مِنْهُ مَا جِنْسُهُ مَقْدُورٌ لَهُمْ لِإِعَانَةِ اللَّهِ لَهُمْ كَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَمِنْهُ مَا جِنْسُهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ لَهُمْ" فالأمور قسمان، جنس، قسمٌ يقدر عليه العباد كالقيام والقعود، وقسمٌ لا يقدرون عليه، فإذا قيل: " إنَّ اللَّهَ يُعْطِي مَنْ أَطَاعَهُ قُوَّةً فِي قَلْبِهِ وَبَدَنِهِ يَكُونُ بِهَا قَادِرًا عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَهَذَا أَيْضًا حَقٌّ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ هَذَا الْمَعْنَى".
يعني هذا في بيان تفاضل الناس وأن الله تعالى هو الذي تفضَّل عليهم، منهم مَن أطاع الله، والطاعة إنما هي بفضل الله، ثم أثابهم عليها قوة في قلبه وبدنه فكان بها قادرًا على ما لا يقدر عليه غيره، يقول المؤلف: "هَذَا أَيْضًا حَقٌّ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ هَذَا الْمَعْنَى. قَالَ تَعَالَى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال: 12]" الإيمان بفضل الله، ثم أثابه على هذا الإيمان بثبيت الملائكة، " وَقَدْ قَالَ: إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [الأنفال: 45] فَأَمَرَهُمْ بِالثَّبَاتِ وَهَذَا الثَّبَاتُ يُوحِي إلَى الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهُ بِالْمُؤْمِنِينَ" والمؤلف رحمه الله يبيِّن في هذا أن الناس يتفاوتون في الإيمان، وأن ذلك فضل الله، وكلٌّ منهم نثبت له الإيمان ولا ننفي عنه، ما دام أنه أدى ما أوجب الله عليه وترك ما حرم الله عليه.
أما مَن قصَّر في بعض الواجبات أو فعل بعض الحرمات فهذا يُنفى عنه الإيمان كما في الاحاديث: لَا يَزْنِيَ الزّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَشْرَبْ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنُ([10]) لَا يُؤْمِنْ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ([11]) لَا يُؤْمِنْ أحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيه مَا يُحِبُّ لِنَفْسُه([12]) كل هؤلاء قصَّروا في بعض الواجبات، فلهذا نُفي عنهم الإيمان، أو فعلوا المحرمات، نعم.
(المتن)
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ وَيُذَمُّ عَلَى تَرْكِهِ وَلَا يُذَمُّ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَيُفَضِّلُ اللَّهُ ذَاكَ بِهَذَا الْإِيمَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَفْضُولُ تَرَكَ وَاجِبًا، فَيُقَالُ: وَكَذَلِكَ فِي الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ يُؤْمَرُ الْقَادِرُ عَلَى الْفِعْلِ بِمَا لَا يُؤْمَرُ بِهِ الْعَاجِزُ عَنْهُ وَيُؤْمَرُ بَعْضُ النَّاسِ بِمَا يُؤْمَرُ بِهِ غَيْرُهُ؛ لَكِنَّ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ قَدْ يُعْطَى الْإِنْسَانُ مِثْلَ أَجْرِ الْعَامِلِ إذَا كَانَ يُؤْمِنُ بِهَا وَيُرِيدُهَا جُهْدَهُ وَلَكِنَّ بَدَنَهُ عَاجِزٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: إنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ قَالُوا: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ([13]) وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً [النساء: 95] فَاسْتَثْنَى أُولِي الضَّرَرِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ([14]) عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي كَبْشَةَ الأنماري: هُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ وَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَلَفْظُهُ: إنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةٍ: رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَمَالًا فَهُوَ يَتَّقِي فِي ذَلِكَ الْمَالِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْت بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ وَعَبْدٌ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْت فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ.([15])
وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَه: مَثَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَثَلِ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ: رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ فِي مَالِهِ يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ هَذَا عَمِلْت فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يُؤْتِهِ عِلْمًا فَهُوَ يَخْتَبِطُ فِي مَالِهِ يُنْفِقُهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَرَجُلٍ لَمْ يُؤْتِهِ عِلْمًا وَلَا مَالًا وَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ مَالِ هَذَا عَمِلْت مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ([16]).
كَالشَّخْصَيْنِ إذَا تَمَاثَلَا فِي إيمَانِ الْقُلُوبِ مَعْرِفَةً وَتَصْدِيقًا وَحُبًّا وَقُوَّةً وَحَالًا وَمَقَامًا فَقَدْ يَتَمَاثَلَانِ وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا مِنْ أَعْمَالِ الْبَدَنِ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ بَدَنُ الْآخَرِ كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ: إنَّ الْمُؤْمِنَ قُوَّتُهُ فِي قَلْبِهِ وَضَعْفُهُ فِي جِسْمِهِ وَالْمُنَافِقُ قُوَّتُهُ فِي جِسْمِهِ وَضَعْفُهُ فِي قَلْبِهِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: لَيْسَ الشَّدِيدُ ذُو الصُّرَعَةِ إنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ([17]).
(الشرح)
المؤلف رحمه الله يبيِّن تفاوت الناس في الإيمان، وتفاوتهم فيما، في الواجبات، وأن بعضهم يجب عليه ما لا يجب على البعض الآخر، فقد يجب على بعض الناس بعض الأعمال كونه قادرًا، ولا يجب على البعض الآخر لكونه عاجزًا، وقد يجب على بعض الناس لكونه عالمًا بحكمها الشرعي، ولا يجب على بعض الناس لكونه جاهلًا.
فالناس يتفاوتون، والذي لا، يعجز عن فعل شيء، عن فعل شيءٍ وجب على غيره، أو لم يعلمه، يكون معذورًا في هذه الحالة، وهو مؤمن، ولكن الذي يأتي بهذا الواجب، لقدرته عليه، أو لعلمه به، فهذا أفضل وأعلى مرتبة، وإن كان كلٌّ منهما يشتركان في الإيمان، وأصل الإيمان، فالناس يتفاوتون في الإيمان وفي الطاعات.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ وَيُذَمُّ عَلَى تَرْكِهِ وَلَا يُذَمُّ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيُفَضِّلُ اللَّهُ ذَاكَ بِهَذَا الْإِيمَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَفْضُولُ تَرَكَ وَاجِبًا" يعني أن بعض الناس يؤمر ببعض الواجبات؛ لكونه مستطيع، ولا يؤمر غير المستطيع، فالمريض يجوز له أن يصلي، العاجز عن القيام؛ يصلي قاعدًا، والقوي يصلي، والقادر على القيام يصلي قائمًا، والذي يجب، والذي يستطيع أن يأتي إلى الجماعة يصلي جماعة.
والعاجز يصلي في بيته، وهذا، وإن كان هذا الذي أدّى بعض الواجبات أفضل، وقد يكون الثا، العاجز مثله إذا كان له نية كما سيأتي في الأحاديث.
والمقصود أن الناس يتفاضلون في هذا، فبعض الناس يُؤمر بشيء ولا يؤمر به البعض الآخر، فالذي يُؤمر به لكونه قادرًا، والذي لا يُؤمر لكونه عاجزًا، ويفضل الله ذلك القادر على ذلك العاجز، ولذلك قال المؤلف رحمه الله: " وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ وَيُذَمُّ عَلَى تَرْكِهِ وَلَا يُذَمُّ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيُفَضِّلُ اللَّهُ ذَاكَ بِهَذَا الْإِيمَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَفْضُولُ تَرَكَ وَاجِبًا فَيُقَالُ: وَكَذَلِكَ فِي الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ يُؤْمَرُ الْقَادِرُ عَلَى الْفِعْلِ بِمَا لَا يُؤْمَرُ بِهِ الْعَاجِزُ عَنْهُ".
مثل ما سبق، فالصحيح يؤمر بالصلاة قائمًا، والعاجز يؤمر بالصلاة قاعدًا، كما في حديث عمران بن الحصين: صَلِّ قَائِمًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبِ([18])، قال المؤلف رحمه الله: " لَكِنَّ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ قَدْ يُعْطَى الْإِنْسَانُ مِثْلَ أَجْرِ الْعَامِلِ إذَا كَانَ يُؤْمِنُ بِهَا وَيُرِيدُهَا جُهْدَهُ وَلَكِنَّ بَدَنَهُ عَاجِزٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: إنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ قَالُوا: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ([19])" وهذا الحديث رواه الشيخان وغيرهما.
وفيه أن الإنسان إذا عجِز، إذا عجَز عن العمل وكان مؤمنًا به ويريد فعله ولكنَّ بدنه عاجز، لم يمنعه إلا العجز، وله همة، يتمنى أن يفعل هذا الفعل، وأن يؤدي هذه العبادة لكنه عاجزٌ ببدنه فإنه يُعطى مِن الأجر مثل أجر العامل، كما في هذا الحديث، يقول النبي ﷺ: إنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ وفي لفظٍ إِلَّا شَرِكُوكُمْ فِي الْأَجْرِ، قَالُوا: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ([20]).
فهؤلاء أصحاب الأعذار الذين جلسوا في المدينة يشاركون المجاهدين في الأجر والثواب، شاركوهم وهم في المدينة جالسون، قال: مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ وفي لفظ: إِلَّا شَرِكُوكُمْ فِي الْأَجْرِ، قَالُوا: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ، فالإنسان يُعطى بنيته ما يُعطاه الفاعل إذا كان له نيةٌ وقصد، ويريد هذا العمل بجهده إلا أنه ما، إلا أن المانع له هو العجز.
يقول المؤلف: وكما قال الله تعالى أيضًا في دليل آخر: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً [النساء: 95]، الله تعالى فاوَتَ بين المجاهدين والقاعدين، فالمجاهدون لا يستوون مع القاعدين، ثم استثنى أهل الضرر فقال: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ.
وجاء في سبب نزول هذه الآية أن عبد الله بن مكتوم وكان رجلًا أعمى، جاء إلى النبي ﷺ، فقال: يا رسول الله إنني ضرير، ولولا ضرري لخرجتُ، فأنزل الله هذه الآية غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، استثنى الله أهل الضرر، فهؤلاء معذورون، وإذا كان لهم نية وقصد وإيمان، ويريدون هذا العمل بجهدهم ومنعهم العذر فإنهم يشاركون العاملين في الأجر، وفيه أيضًا، ذكر أيضًا دليلًا ثالثًا.
فقال المؤلف رحمه الله: . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ([21]) " عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا، فهذا دليل على أن من دعا إلى الهدى فإن الله يأجره ويثيبه على كل مَن اتبعه واهتدى على يديه، هذا خيرٌ عظيم، إذا دعا الإنسان إلى الله، جاء إنسان أمره بالمعروف ونهاه عن المنكر ثم استفاد، فله مثل أجره، هداه الله على يديه للإسلام.
كما في حديث علي أن النبي ﷺ بعثه إلى خيبر، قال: فَوَاللَّهِ لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ([22])من الإبل الحمر وهي أنفس أموال العرب، وهذا مثال، والمعنى: خيرٌ مِن الدنيا وما فيها، وكذلك إذا هدى الله على يديه مثلًا رجل كان عنده بعض المعاصي ثم نصحته، وهداه الله على يديه فله مثل أجره، أو أرشدته إلى سنة، أرشدته إلى قيام الليل فاستفاد مِن نصيحتك، أو أرشدته إلى سنة الضحى، أو رغبته في سنة الضحى ثم فعل، فلك مثل أجره، هذا أجرٌ عظيم.
وبالمقابل مَن دعا إلى الضلال والعياذ بالله فإنه يكون عليه مِن الوزر مثل أوزار مَن ضلَّهم، نسأل الله السلامة والعافية، إذا دعا إلى ترك الواجب، أو دعا إلى فعل المحرم، ثم تضرر واتبعه، صار عليه مِن الوزر مثلُ وزر مَن اتبعه والعياذ بالله، ولهذا قال النبي ﷺ في هذا الحديث: مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا([23]).
ثم ذكر حديث، قال المؤلف: " حَدِيثِ أَبِي كَبْشَةَ الأنماري" في قصة الأربعة، قال: هُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ وَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ وهذا الحديث رواه الترمذي ورواه ابن ماجه في المقدمة.
قال: إنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةٍ: رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَمَالًا فَهُوَ يَتَّقِي فِي ذَلِكَ الْمَالِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْت بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ([24]) فهذا الثاني أُعطِي مِن الأجر مثلما أُعطِي الأول، الأول أعطِي مال وعلم؛ فهو يتقي فيه ربه، ويصل رحمه، وينفق أمواله في وجوه الخير على بصيرة، على علم، وعلى نور، هذا بأفضل المنازل.
والثاني: آتاه الله علمًا ولم يؤته مالًا، ما عنده مال، لكن له نية، نيته صادقة، يقول: لو أعطاني الله مالًا لعملت مثل عمل فلان، فهذا يُدرك بنيته مِن الأجر مثلما أدرك الأول، فهما في الأجر سواء.
وبالمقابل مَن له نية سيئة والعياذ بالله، يحصل على الوزر، كما في الأخيرين، قال: وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ وَعَبْدٌ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْت فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ([25]) فهذا الثالث أعطاه الله مال، ولم يعطه علمًا، فهو لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقًّا، لا يؤدي الواجبات، ولم يؤدِّ الحقوق، ولا يصل فيه الرحم، ولا يتقي فيه ربه، يخبط فيه خبط عشواء والعياذ بالله، ينفقه في وجوه الشر، هذا بأخبث المنازل.
والرابع رجلٌ لم يرزقه الله مالًا ولا علمًا، لا علم ولا مال، لكن نيته سيئة، يقول: لو أن لي مالًا لعملت مثل ما عمل فلان، الذي يُنفق في وجوه الشر، والذي لا يؤدي الحقوق، ولا يصل فيه رحمه، ولا يتقي ربه، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ فالرابع حصل على الوزر مثلما حصل عليه الثالث، هو لم يعمل شيء، لكن بالنية، بالنية؛ لأنه تمنى بجهده أن يكون له، أن لو كان له مال لعمل مثل ما عمل فلان، نسأل الله السلامة والعافية.
وذكر لفظًا لابن ماجه، والمعنى واحد، المعنى أن الإنسان إذا لم يعمل، إذا كانت له نيةٌ صالحة في عمل الخير وهو يريد الخير بجهده، فإنه يبلغ مبلغ العامل، ومن كان له نية سيئة ويريد العمل السيء بجهده ولكنه لم يستطع، فإنه يكون عليه مِن الوزر مثل وزر مَن عمل سوء، نسأل الله السلامة والعافية.
يقول المؤلف رحمه الله: " كَالشَّخْصَيْنِ إذَا تَمَاثَلَا فِي إيمَانِ الْقُلُوبِ مَعْرِفَةً وَتَصْدِيقًا وَحُبًّا وَقُوَّةً وَحَالًا وَمَقَامًا فَقَدْ يَتَمَاثَلَانِ وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا مِنْ أَعْمَالِ الْبَدَنِ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ بَدَنُ الْآخَرِ" فإذا كان شخصان اتفقا، تماثلا في إيمان القلوب المعرفة، والتصديق، والحب، والقوة، والحال، والمقام، هنا الإيمان واحد، لكن العمل مختلف؛ أحدهما أعطاه الله قوة في بدنه فهو يعمل أعمالًا يعجز عنها الآخر.
قال هنا: الثاني قدر يُدرك ما يدركه الأول، لأنه ما منعه إلا العجز، يدرك الثاني ما أدركه الأول؛ لأن الذي منعه إنما هو عجز، عجز البدن، لكن عنده همةٌ عالية، عنده إيمان، عنده تصديق، وعنده حب للخير، وعنده قوة في قلبه، في إيمانه، لكن بدنه عاجز، فهذا يدرك مِن الأجر ما أدركه الأول.
يقول المؤلف، يقول: " كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ: إنَّ الْمُؤْمِنَ قُوَّتُهُ فِي قَلْبِهِ وَضَعْفُهُ فِي جِسْمِهِ وَالْمُنَافِقُ قُوَّتُهُ فِي جِسْمِهِ وَضَعْفُهُ فِي قَلْبِهِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: لَيْسَ الشَّدِيدُ ذُو الصُّرَعَةِ إنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ وهذا الحديث رواه الشيخان([26])، لَيْسَ الشَّدِيدُ ذُو الصُّرَعَةِ: يعني الذي يصرع الناس، هذا شديد، ولكن أشد منه؛ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ، فهذا يُنفى فيه الشيء عمن هو أولى منه، فالذي يصرع الناس هذا شديد؛ لكن أشد منه الذي يملك نفسه عند الغضب، وإن كان كلٌّ منهما شديد.
وهذا، فهذا يبيِّن فيه المؤلف رحمه الله أن القوة إنما هي في، إن القوة إنما هي قوة القلب، وأنها أفضل مِن قوة الجسد؛ فهذا الذي يصرع الناس بجسده هذا قوي؛ لكن أشد منه، وأقوى منه الذي عنده قوة داخلية، يملك نفسه عند الغضب، فهذا شاهدٌ لقول المؤلف رحمه الله قال: " إنَّ الْمُؤْمِنَ قُوَّتُهُ فِي قَلْبِهِ وَضَعْفُهُ فِي جِسْمِهِ وَالْمُنَافِقُ قُوَّتُهُ فِي جِسْمِهِ وَضَعْفُهُ فِي قَلْبِهِ:، نعم.
القارئ: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، ذكرتم بارك الله فيكم بابًا مِن أبواب الخير، وبابًا مِن أبواب الأجر يستطيع أن يلجه كل مؤمن وهو النية الصالحة، عندما يحسن الإنسان النية فهو ينال بذلك أجر العامل، هلَّا فضيلة الشيخ تحدثتم عن أهمية شأن النية؟
الشيخ: لاشك أن النية أساس للعمل، وأن الأعمال لا تصح إلا بنية، كما ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امرِئٍ مَا نَوَى([27]) فالأعمال بالنية، والنية هي التي يميَّز بها بين الأعمال، هي التي تتميز بها الأعمال، بالنية، الأعمال قد تكون خالصةً لله، وقد تكون رياءً وسمعة، والذي يميز بينهم النية، والنية يحصل فيها، بها التمييز بين الفرض والنفل، فالإنسان يصلي، لكم ما الذي يميز الصلاة، هل هي فرض؟ هل هي نفل؟ هل هي سنة راتبة؟ هل هي تطوع؟ ما الذي يميز؟
النية، النية؛ تنوي أن هذه صلاة فريضة، وهذه الراتبة، وهذه تحية المسجد، وهذه سنة الوضوء، وهذه صلاة الليل، وهذه صلاة الضحى، وكذلك الصيام، النية تميز بين صيام الفرض، صيام قضاء رمضان، صيام النذر، صيام الكفارة، صيام التطوع، وكذلك الحج، النية تميز حجّ الفرض مَن حجّ النفل، وهكذا جميع الأعمال، النية هي أساس الأعمال، ولا يصح العمل إلا بنية، والإخلاص في النية هذا شرط في صحة قبول العمل، لا يصح العمل إلا بأن يكون خالصًا لله، مرادًا به وجه الله والدار لآخرة.
والشرط الثاني: أن يكون موفقًا للشرع ولهدي رسول الله ﷺ، فلا شك أن الإخلاص وإصلاح النية، وإحسان القصد هو الأساس في قبول العمل مع كون العمل موافقًا للشرع، ولهذا ثبت في الصحيحين، إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امرِئٍ مَا نَوَى([28])، وقال عليه الصلاة والسلام في حديثٍ آخر: مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْه فَهُوَ رَدُّ رواه الشيخان([29])، وفي لفظٍ: مِنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيه أَمْرُنَا فَهُوَ رَدُّ([30])، هذا الـ، فالأول: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ هذا مقتضى تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، والثاني: مقتضى تحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله، فلا يصح العـ، تصلح الأعمال إلا بأن تكون لله وموافقةً لشرع الله وهدي رسوله ﷺ.
نسأل الله للجميع الإخلاص في العمل والصدق في القول والثبات على دينه حتى الممات، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
(المتن)
وَقَدْ قَالَ: رَأَيْت كَأَنِّي أَنْزِعُ عَلَى قَلِيبٍ فَأَخَذَهَا ابْن أَبِي قُحَافَةَ فَنَزَعَ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ فَأَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ فَاسْتَحَالَتْ فِي يَدِهِ غَرْبًا فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرْيَهُ حَتَّى صَدَرَ النَّاسُ بِعَطَنِ([31]) فَذَكَرَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَضْعَفُ وَسَوَاءٌ أَرَادَ قَصْرَ مُدَّتِهِ أَوْ أَرَادَ ضَعْفَهُ عَنْ مِثْلِ قُوَّةِ عُمَرَ فَلَا رَيْبَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَقْوَى إيمَانًا مِنْ عُمَرَ.
وَعُمَرُ أَقْوَى عَمَلًا مِنْهُ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَازِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ؛ وَقُوَّةُ الْإِيمَانِ أَقْوَى وَأَكْمَلُ مِنْ قُوَّةِ الْعَمَلِ وَصَاحِبُ الْإِيمَانِ يُكْتَبُ لَهُ أَجْرُ عَمَلِ غَيْرِهِ، وَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ فِي سِيرَتِهِ مَكْتُوبٌ مِثْلُهُ لِأَبِي بَكْرٍ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ.
وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وُزِنَ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ ثُمَّ وُزِنَ أَبُو بَكْرٍ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ ثُمَّ وُزِنَ عُمَرُ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ»([32]) وَكَانَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ ﷺ وَبَعْدَ مَوْتِهِ يَحْصُلُ لِعُمَرِ بِسَبَبِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فَهُوَ قَدْ دَعَاهُ إلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ خَيْرٍ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ بِجُهْدِهِ وَالْمُعِينُ عَلَى الْفِعْلِ إذَا كَانَ يُرِيدُهُ إرَادَةً جَازِمَةً كَانَ كَفَاعِلِهِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَّفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرِ فَقَدْ غَزَا([33]) وَقَالَ: مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ([34]) وَقَالَ: مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ([35])، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ([36]).
وَهَذَا وَغَيْرُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الشَّخْصَيْنِ قَدْ يَتَمَاثَلَانِ فِي الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ بَلْ يَتَفَاضَلَانِ وَيَكُونُ الْمَفْضُولُ فِيهَا أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْآخَرِ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَأَمَّا إذَا تَفَاضَلَا فِي إيمَانِ الْقُلُوبِ فَلَا يَكُونُ الْمَفْضُولُ فِيهَا أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ أَلْبَتَّةَ وَإِنْ كَانَ الْمَفْضُولُ لَمْ يَهِبْهُ اللَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا وَهَبَهُ لِلْفَاضِلِ وَلَا أَعْطَى قَلْبَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا يَنَالُ ذَلِكَ الْإِيمَانَ الْفَاضِلَ مَا أَعْطَى الْمَفْضُولَ وَلِهَذَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَإِنْ كَانَ الْفَاضِلُ أَقَلَّ عَمَلًا مِنْ الْمَفْضُولِ كَمَا فَضَّلَ اللَّهُ نَبِيَّنَا ﷺ - وَمُدَّةَ نُبُوَّتِهِ بِضْعٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً - عَلَى نُوحٍ وَقَدْ لَبِثَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا وَفَضَّلَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَقَدْ عَمِلُوا مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى الْمَغْرِبِ عَلَى مَنْ عَمِلَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ وَعَلَى مَنْ عَمِلَ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ إلَى الْعَصْرِ فَأَعْطَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ أَجْرَيْنِ وَأَعْطَى كُلًّا مِنْ أُولَئِكَ أَجْرًا أَجْرًا لِأَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ كَانَ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ وَكَانَ أُولَئِكَ أَكْثَرَ عَمَلًا؛ وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ أَجْرًا وَهُوَ فَضْلُهُ يُؤْتِيه مَنْ يَشَاءُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي تَفَضَّلَ بِهَا عَلَيْهِمْ وَخَصَّهُمْ بِهَا.
(الشرح)
فإن المؤلف شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله، نقل فيما سبق أقوال أهل العلم، وإجماع أهل الحديث وأهل الفقه على أن الأعمال داخلة في مُسمى الإيمان، خلافًا للمرجئة الذين يقولون: إن الأعمال غير داخلةٍ في مسمى الإيمان، وبيَّن وقرَّر رحمه الله معتقَد أهل السنة والجماعة الذي دلت عليه النصوص مِن كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وأجمع عليه أهل السنة، أن مُسمى الإيمان تصديقٌ بالقلب، وإقرارٌ ونطقٌ باللسان، وعملٌ بالقلب، وعملٌ بالجوارح، ونقل عن جمعٍ مِن أهل العلم، تقريريهم لذلك، لما دلت عليه النصوص.
ونقل عن أبي عمر بن عبد البر نقولًا كثيرة، ثم نقل عن أبي طالب المكِّي في كتابه قوت القلوب، وقال: إن الذي قاله، أجود كثيرًا مما قاله كثيرٌ مِن الناس إلى أنه يُنازَع في شيئين: أحدهما: أن المسلم المستحق للثواب، قوله: أن المسلم المستحق للثواب لابد أن يكون معه الإيمان الواجب المفصَّل المذكور في حديث جبريل، قال: وهذا ليس بصحيح، فإنه لا يجب على كل إنسان الإيمان الواجب والمفصل.
والثاني: قوله: أن النبي ﷺ إنما يُطلِق (مؤمنًا) دون (مسلم) يعني إنما يُطلِق الإيمان، وإنما يطلق الإيمان ولا يطلق الإسلام، لكون الذي لا يُسمى مؤمن؛ لكونه ليس مِن خواصّ المؤمنين، يعني الأمر الثاني: أن النبي ﷺ إنما ينفي الإيمان عن بعض الناس؛ لكونه ليس مِن خواصّ المؤمنين وأفاضلهم، وكأنه يقول: لكونه ليس مِن السابقين المقربين، بل مِن المقتصدين الأبرار، وقال المؤلف رحمه الله: هذا مما تنازع فيه جمهور العلماء، والصواب: أن الذي يُنفى عنه الإيمان؛ ليس لكونه لم يصل إلى درجة السابقين المقربين؛ بل لأنه قصَّر في بعض الواجبات، أو فعل بعض المحرمات، كما دلت النصوص الكثيرة على ذلك.
ومن ذلك قوله ﷺ: نفي الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر: لَا يَزْنِيَ الزّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنُ وَلَا يَشْرَبْ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَنْتَهِبُ نهبةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيه فِيهَا أَبْصارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنُ([37]) وكحديث: لَا يُؤْمِنْ أحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيه مَا يُحِبُّ نفسه ([38]) لَا يُؤْمِنْ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ([39])، والنصوص في هذا كثيرة.
وذلك أن الناس يتفاوتون في الإيمان، ويتفاوتون في الأعمال، فكون الناس يتفاوتون في الإيمان لا يدل على أن مَن كان أقل مرتبةً في الإيمان يُنفى عنه الإيمان، مادام أنه قد أدَّى ما أجوب الله عليه، وكذلك أيضًا الإيمان والإسلام، قرر أبو طالب في قوت القلوب أنهما شيءٌ واحد، كما هو قول بعض أهل العلم، مِن بعض أهل السنة، والصواب أنهما شيئان؛ إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، أنهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، فإذا أطلق أحدهما دخل فيه الآخر وإذا اجتمعا فُسِّر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالأعمال الباطنة.
والله تعالى فاضَل بين عباده في الإيمان، وفي الأفعال، وفي الأعمال، ومن الناس مَن يكون إيمانه أقوى مِن بعض؛ بسبب الأعمال التي وفقه الله لها، ومن الناس مَن يكون أقل إيمانًا؛ لأنه لم يعط مثلما أعطيَ الأول مِن الأسباب التي يزيد بها إيمانه، أو لأنه لم يعلم ببعض الواجبات، جهلها، أو لأنه لا يستطيع أداء بعض الواجبات، فيكون الأول أعلى مرتبةً منه في الإيمان، والثاني مؤمنٌ قد أدى ما أوجب الله عليه، فلا يُنفى عنه الإيمان، والأدلة في هذا كثيرة.
ومن ذلك ما نقله المؤلف رحمه الله مِن أن، في الحديث الذي فيه قصة، في منام النبي ﷺ، حينما رأى ولاة الأمر بعده؛ أبا بكر وعمر، لقوله، قال المؤلف رحمه الله: " وَقَدْ قَالَ" يعني النبي ﷺ، وَقَدْ قَالَ: رَأَيْت كَأَنِّي أَنْزِعُ عَلَى قَلِيبٍ فَأَخَذَهَا ابْن أَبِي قُحَافَةَ –يعني أبو بكر الصديق- فَنَزَعَ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ فَأَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ فَاسْتَحَالَتْ فِي يَدِهِ غَرْبًايعني تحولت غربًا والغرب أكبر مِن الدلو، فالغرب هو الدلو الكبير، والذي صُنِع مِن جلد البعير، بخلاف الذنوب فإنه جلد الغنم، وهو أصغر.
فقال النبي ﷺ فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرْيَهُ حَتَّى صَدَرَ النَّاسُ بِعَطَنِ([40]) يعني حتى صدر الناس برجس، يقول المؤلف رحمه الله معلقًا على هذا الحديث، وهذا الحديث راوه البخاري ومسلم، رواه الشيخان، وغيرهما، يقول المؤلف رحمه الله معلقًا على هذا الحديث: " فَذَكَرَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَضْعَفُ" يعني أضعف مِن عمر، ولهذا قال: " وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ" يقول: "وَسَوَاءٌ أَرَادَ قَصْرَ مُدَّتِهِ أَوْ أَرَادَ ضَعْفَهُ عَنْ مِثْلِ قُوَّةِ عُمَرَ فَلَا رَيْبَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَقْوَى إيمَانًا مِنْ عُمَرَ. وَعُمَرُ أَقْوَى عَمَلًا مِنْهُ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : مَازِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ".
قال المؤلف رحمه الله: " وَقُوَّةُ الْإِيمَانِ أَقْوَى وَأَكْمَلُ مِنْ قُوَّةِ الْعَمَلِ" يعني أبو بكر أقوى إيمانًا، وعمر أقوى عملًا، وقوة الإيمان مقدمة على قوة العمل، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَصَاحِبُ الْإِيمَانِ يُكْتَبُ لَهُ أَجْرُ عَمَلِ غَيْرِهِ" إذا كان، صاحب الإيمان يُكتَب له أجر عمل غيره إذا كان هو الذي دلّ عليه، أو كان لا يستطيعه وهو، بجسمه، وهو يريده، ويريد فعله، ولكنه عجز عنه.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ فِي سِيرَتِهِ مَكْتُوبٌ مِثْلُهُ لِأَبِي بَكْرٍ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ" فالمؤلف رحمه الله يبيِّن أن تفاوت بين الناس في الأعمال وفي الإيمان، وأن العبرة بالتفاوت بالإيمان الذي في القلوب، وأن الذي أقوى إيمانًا في القلب، مقدم على مَن كان أقوى عملًا، وأن قويَّ الإيمان يدرك ما فعله قويُّ العمل إذا كان عاجزًا أو كان قد دله على الخير، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ فِي سِيرَتِهِ مَكْتُوبٌ مِثْلُهُ لِأَبِي بَكْرٍ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ.
وَفِي " الْمُسْنَدِ " يقول المؤلف رحمه الله: " وَفِي " الْمُسْنَدِ " مِنْ وَجْهَيْنِ" يعني هذا الحديث رواه الإمام أحمد في المسند مِن وجهين، الوجه الأول عن أبي بكرة، والثاني عن أبي أمامة، قال: " وَفِي " الْمُسْنَدِ " مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وُزِنَ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ ثُمَّ وُزِنَ أَبُو بَكْرٍ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ ثُمَّ وُزِنَ عُمَرُ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ»([41]) وَكَانَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ ﷺ وَبَعْدَ مَوْتِهِ يَحْصُلُ لِعُمَرِ بِسَبَبِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ" يعني ما لم يكن عند عمر.
" فَهُوَ قَدْ دَعَاهُ إلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ خَيْرٍ" يعني فهو أبو بكر، قد دعاه يعني عمر، " قَدْ دَعَاهُ إلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ خَيْرٍ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ بِجُهْدِهِ وَالْمُعِينُ عَلَى الْفِعْلِ إذَا كَانَ يُرِيدُهُ إرَادَةً جَازِمَةً كَانَ كَفَاعِلِهِ" فأبو بكر هو المعين لأبي بكر، لعمر على الفعل، وهو الذي استخلفه، وهو الذي دله على كثيرٍ مِن الخير كما في قصة الحديبية، لما جاء إلى بكرٍ ، وقال: يا أبا بكر ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ فلم نعط الدنية في ديننا؟ فقال له أبو بكر: إنه رسول الله ولن يُضيعك، كما قال له النبي ﷺ، ثم قال: فاستمسك بغرسه، فالذي يدعوه إلى الخير ويعين عليه، له مثل أجر فاعله، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَالْمُعِينُ عَلَى الْفِعْلِ إذَا كَانَ يُرِيدُهُ إرَادَةً جَازِمَةً كَانَ كَفَاعِلِهِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَّفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرِ فَقَدْ غَزَا([42])" فهذا المجهِّز معين على الخير، له مثل أجر المجاهد، وكذلك مَن خلفه في أهله، وهذا الحديث رواه الشيخان وغيرهما.
وقال عليه الصلاة والسلام: مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ([43]) وهذا الحديث أيضًا رواه الإمام مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم، وقال عليه الصلاة والسلام: مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ رواه الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي وغيرهم([44])، فالذي يفطِّر الصائم له مثل أجر الصائم والذي يدل على الخير له مثل أجر الفاعل، فدل على أن المُعِين على الفعل إذا كان يرده إرادةً جازمة، كان كفاعله.
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ([45]) وهذا رواه الترمذي في كتاب الجنائز، في سنده علي بن عاصم، يقول المؤلف رحمه الله: "وَهَذَا وَغَيْرُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الشَّخْصَيْنِ قَدْ يَتَمَاثَلَانِ فِي الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ بَلْ يَتَفَاضَلَانِ وَيَكُونُ الْمَفْضُولُ فِيهَا أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْآخَرِ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ" يعني العبرة بالإيمان الذي في القلب، فالذي، فالتفاضل إنما هو بحسب الإيمان الذي في القلوب، فقد يكون المفضول في العمل فاضلًا؛ لأنه أقوى إيمانًا، لأنه أفضل إيمانًا في قلبه.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَأَمَّا إذَا تَفَاضَلَا فِي إيمَانِ الْقُلُوبِ فَلَا يَكُونُ الْمَفْضُولُ فِيهَما أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ أَلْبَتَّةَ" إذا تفاضلا في إيمان القلوب ثم زاد أحدهما في الأعمال فلا يمكن أن يكون المفضول أفضل منه، بل يكون هنا في هذه الحالة وفي هذه الصورة، يكون الفاضل هو الأفضل، لأنه كان فاضلًا في إيمانه، وفاضلًا في عمله، يقول المؤلف رحمه الله: "وَأَمَّا إذَا تَفَاضَلَا فِي إيمَانِ الْقُلُوبِ فَلَا يَكُونُ الْمَفْضُولُ فِيهَا أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ أَلْبَتَّةَ وَإِنْ كَانَ الْمَفْضُولُ لَمْ يَهِبْهُ اللَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا وَهَبَهُ لِلْفَاضِلِ وَلَا أَعْطَى قَلْبَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا يَنَالُ ذَلِكَ الْإِيمَانَ الْفَاضِلَ مَا أَعْطَى الْمَفْضُول" يعني الله يفاضل بين عباده بما في الإيمان مِن القلوب، فيكون أفضل ممن هو أقل منه إيمانًا، وإن كان المفضول ما وهبه الله، ما وهبه الله سببًا يكون به فاضلًا في إيمانه، ولا أعطى قلبه مِن الأسباب التي بها ينال الإيمان الفاضل؛ فهذا، ذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء.
يقول المؤلف رحمه الله: " وَلِهَذَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَإِنْ كَانَ الْفَاضِلُ أَقَلَّ عَمَلًا مِنْ الْمَفْضُولِ كَمَا فَضَّلَ اللَّهُ نَبِيَّنَا ﷺ - وَمُدَّةَ نُبُوَّتِهِ بِضْعٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً - عَلَى نُوحٍ وَقَدْ لَبِثَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا" كما قال تعالى في سورة العنكبوت: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [العنكبوت: 14].
قال المؤلف رحمه الله: "وَفَضَّلَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَقَدْ عَمِلُوا مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى الْمَغْرِبِ عَلَى مَنْ عَمِلَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ وَعَلَى مَنْ عَمِلَ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ إلَى الْعَصْرِ فَأَعْطَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ أَجْرَيْنِ وَأَعْطَى كُلًّا مِنْ أُولَئِكَ أَجْرًا أَجْرًا" مِن خلال الحديث، المعروف في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: إِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَاليَهُودُ وَالنَّصَارَى كَرَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالًا، فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ اليَهُودُ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ، ثُمَّ عَمِلَتِ النَّصَارَى عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ، ثُمَّ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَعْمَلُونَ مِنْ صَلاَةِ العَصْرِ إِلَى مَغَارِبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ ، فَغَضِبَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَقَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ عَطَاءً، قَالَ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لاَ، فَقَالَ: فَذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ[46]).
فهذا فالمؤلف رحمه الله يبين أن هذا الحديث فيه بيان أن الإيمان إنما هو، الذي في القلوب أكمل وأفضل، ولو كان أولئك أكثر عملًا، قال: ولهذا قال المؤلف رحمه الله تعليقًا على هذا الحديث: "؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ كَانَ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ " الذي في قلوب يعني هذه الأمة، " وَكَانَ أُولَئِكَ" يعني الأمم السابقة، " وَكَانَ أُولَئِكَ أَكْثَرَ عَمَلًا؛ وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ أَجْرًا وَهُوَ فَضْلُهُ يُؤْتِيه مَنْ يَشَاءُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي تَفَضَّلَ بِهَا عَلَيْهِمْ وَخَصَّهُمْ بِهَا".
بهذا يتبين أن المفاضلة إنما بالإيمان الذي في القلوب، وأن كون المؤمنين يتفاضلون في الإيمان لا يدل على أن المفضول يُنفى عنه الإيمان، أو أنه مُعذَّب أو مُعاقَب، ما دام أنه أدَّى ما أوجب الله عليه، أو جهل، أو ترك شيئًا جهله، أو عجز عنه، فإنه في هذه الحالة لا يؤاخذ ولا يُنفى عنه الإيمان، وإن كان غيره أفضل منه وأكثر إيمانًا، نعم.
(المتن)
وَهَكَذَا سَائِرُ مَنْ يُفَضِّلُهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُفَضِّلُهُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا التَّفْضِيلَ بِالْجِزْءِ كَمَا يَخُصُّ أَحَدَ الشَّخْصَيْنِ بِقُوَّةِ يَنَالُ بِهَا الْعِلْمَ وَبِقُوَّةِ يَنَالُ بِهَا الْيَقِينَ وَالصَّبْرَ وَالتَّوَكُّلَ وَالْإِخْلَاصَ؛ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُفَضِّلُهُ اللَّهُ بِهِ وَإِنَّمَا فَضَّلَهُ فِي الْجَزَاءِ بِمَا فَضَّلَ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ [آل عمران: 72، 73] وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام: 124] وَقَالَ: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج: 75] وَقَالَ: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران: 129] وَقَدْ بُيِّنَ فِي مَوَاضِعَ أَسْبَابُ الْمَغْفِرَةِ وَأَسْبَابُ الْعَذَابِ وَكَذَلِكَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَقَدْ عُرِفَ أَنَّهُ قَدْ يَخُصُّ مَنْ يَشَاءُ بِأَسْبَابِ الرِّزْقِ.
وَإِذَا كَانَ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَيَخْتَصُّ اللَّهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ فَذَلِكَ مِمَّا يُفَضِّلُهُمْ اللَّهُ بِهِ وَذَلِكَ الْإِيمَانُ يَنْفِي عَنْ غَيْرِهِمْ لَكِنْ لَا عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ بَلْ عَلَى وَجْهِ التَّفْضِيلِ فَإِنَّ الذَّمَّ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى تَرْكِ مَأْمُورٍ أَوْ فِعْلِ مَحْظُورٍ.
(الشرح)
نعم، يقول المؤلف رحمه الله: "وَهَكَذَا سَائِرُ مَنْ يُفَضِّلُهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُفَضِّلُهُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا التَّفْضِيلَ بِالْجِزْءِ"؛ يعني بالقسط، "كَمَا يَخُصُّ أَحَدَ الشَّخْصَيْنِ بِقُوَّةِ يَنَالُ بِهَا الْعِلْمَ وَبِقُوَّةِ يَنَالُ بِهَا الْيَقِينَ وَالصَّبْرَ وَالتَّوَكُّلَ وَالْإِخْلَاصَ؛ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُفَضِّلُهُ اللَّهُ بِهِ وَإِنَّمَا فَضَّلَهُ فِي الْجَزَاءِ بِمَا فَضَّلَ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ" يعني أن الله يفضل بعض الناس على بعض بالأسباب التي يستحق بها التفضيل، بالجِزْء والحظ والنصيب الذي يخصه به.
مثال ذلك: أن يخصّ أحد الشخصين بقوةٍ ينال بها العلم، والآخر لم يعطه هذه القوة، فهذا الذي أعطاه الله القوة التي نال بها العلم أفضل ممن لم ينل العلم، وهذا الذي أعطاه الله القوة فضل الله، فضل الله أعطى هذا، خصه، خص هذا بقوةٍ ينال بها العلم، بينما الآخر لم يعط هذه القوة، فصار الثاني أفضل في الجزاء، هذا، فصار الأول أفضل في الجزاء، لما أعطاه الله القوة التي ينال بها العلم، صار ثوابه أعظم، والثاني صار ثوابه أقل لأنه لم يعط هذه القوة.
وإعطاء الله القوة للأول دون الثاني هذا فضل الله يؤتيه مَن يشاء، وكذلك يفضل الله بعض الناس بقوةٍ ينال بها اليقين، وبقوة ينال بها الصبر، وبقوة ينال بها التوكل، وبقوة ينال بها الإخلاص، والثاني قد لا يعطيه هذه القوة، فيكون هذا الذي أعطاه الله القوة، التي نال بها اليقين أو الصبر أو التوكل والإخلاص، أفضل في الجزاء عند الله مِن الذي لم يُعط، وهو إنما فُضِّل بهذه القوة، وهذه القوة التي أعطاه الله هي فضله يؤتيه مَن يشاء.
إلى أن قال المؤلف رحمه الله: "؛ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُفَضِّلُهُ اللَّهُ بِهِ وَإِنَّمَا فَضَّلَهُ فِي الْجَزَاءِ بِمَا فَضُلَ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ" ثم استدل بالآية، فقال: "كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ" هذا الشاهد مِن الآية، قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [آل عمران: 73، 74]، هذا فضله يختص به مَن يشاء.
وقال في الآية الأخرى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام: 124]، فالله تعالى أعلم بمن يصلح للرسالة، فاجتبى الأنبياء والمرسلين وخصَّهم بالرسالة، وذلك فضله ، ويقول المؤلف رحمه الله: " وَقَالَ: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج: 75]" فهو يصطفي مِن الملائكة رسلًا ويصطفي مِن الناس رسلًا، فيخصهم بالإرسال، ثم يعطيهم الثواب الذي يفضلون به غيرهم، وقال: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران: 129]، قال: " وَقَدْ بُيِّنَ فِي مَوَاضِعَ أَسْبَابُ الْمَغْفِرَةِ وَأَسْبَابُ الْعَذَابِ وَكَذَلِكَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَقَدْ عُرِفَ أَنَّهُ قَدْ يَخُصُّ مَنْ يَشَاءُ بِأَسْبَابِ الرِّزْقِ" بينما بعض الناس لا يخصه بهذه الأسباب، وله الحكمة البالغة.
قال المؤلف رحمه الله: ". وَإِذَا كَانَ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَيَخْتَصُّ اللَّهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ فَذَلِكَ مِمَّا يُفَضِّلُهُمْ اللَّهُ بِهِ" هذا فضله ، وهو حينما يفضل هؤلاء بالعلم والإيمان، أو بالإخلاص، أو باليقين، أو بالصبر والتوكل، هذا فضله وحينما لم يعطه الآخرين، لم يعطه، لم يمنعهم شيئًا هم يملكونه، ولكن هذا فضل الله يؤتيه مَن يشاء، .
ولذلك قال المؤلف رحمه الله: " وَذَلِكَ الْإِيمَانُ يَنْفِي عَنْ غَيْرِهِمْ" يعني هذا الإيمان الذي أعطاهم الله قوة في العلم، وقوة في اليقين، وقوة في التوكل، وقوة في الإخلاص زاد إيمانهم، وفضُل إيمانهم على غيرهم، وهذا الإيمان ليس موجودًا عند غيرهم، فهذا الإيمان يُنفى عن غيرهم لكن لا على وجه الذم، غيرهم ممن لم يؤت هذه الأسباب، يُنفى عنه الإيمان، يُقال: ما حصل مِن الإيمان مثل ما حصل لهؤلاء، لكن لا يُذمون على ذلك، لأنهم لم يقصروا في بعض الواجبات، ولم يرتكبوا بعض المحرمات، ولكن الله فضل غيرهم عليهم بالأسباب التي أعطاهم إياها وهذا فضله .
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَذَلِكَ الْإِيمَانُ يُنْفَي عَنْ غَيْرِهِمْ لَكِنْ لَا عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ بَلْ عَلَى وَجْهِ التَّفْضِيلِ فَإِنَّ الذَّمَّ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى تَرْكِ مَأْمُورٍ أَوْ فِعْلِ مَحْظُورٍ" هذا الذم، وهؤلاء لم يفعلوا، لم يتركوا أمرًا، ولم يفعلوا محرمًا، فلذلك لا يذمون فدل على أن الناس يتفاوتون في الإيمان، وأن التفاوت في الإيمان لا يوجب نفي الإيمان عمن هو أقل منهم، إذا لم يفعلوا محرمًا أو يتركوا واجبًا، نعم.
(المتن)
لَكِنْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو طَالِبٍ. يُقَالُ: فَمِثْلُ هَؤُلَاءِ مُسْلِمُونَ لَا مُؤْمِنُونَ بِاعْتِبَارِ وَيُقَالُ: إنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِاعْتِبَارِ آخَرَ وَعَلَى هَذَا يُنْفَى الْإِيمَانُ عَمَّنْ فَاتَهُ الْكَمَالُ الْمُسْتَحَبُّ؛ بَلْ الْكَمَالُ الَّذِي يُفَضَّلُ بِهِ عَلَى مَنْ فَاتَهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْدُورٍ لِلْعِبَادِ بَلْ يُنْفَى عَنْهُ الْكَمَالُ الَّذِي وَجَبَ عَلَى غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي حَقِّهِ لَا وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا لَكِنَّ هَذَا لَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ وَلَمْ يُعْرَفْ فِي كَلَامِهِ إلَّا أَنَّ نَفْيَ الْإِيمَانِ يَقْتَضِي الذَّمَّ حَيْثُ كَانَ فَلَا يُنْفَى إلَّا عَمَّنْ لَهُ ذَنْبٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ: أو مُسْلِمٌ تَوَقَّفَ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ كَمَا قَالَ جَمَاهِيرُ النَّاسِ.
ثُمَّ طَائِفَةٌ يَقُولُونَ: قَدْ يَكُونُ مُنَافِقًا لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَهُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْأَعْرَابُ الْمَذْكُورُونَ مُنَافِقُونَ لَيْسَ مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي نَصَرَهُ طَائِفَةٌ كَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ وَالْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ: بَلْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا مِنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ شُعْبَةُ نِفَاقٍ؛ بَلْ كَانَ مَعَهُمْ تَصْدِيقٌ يُقْبَلُ مَعَهُ مِنْهُمْ مَا عَمِلُوهُ لِلَّهِ وَلِهَذَا جَعَلَهُمْ مُسْلِمِينَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات: 17، 18] كَمَا قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ نُفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ مَعَ أَنَّ مَعَهُ التَّصْدِيقَ.
وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِيهِمْ.
(الشرح)
فإن المؤلف شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله قرَّر في هذا الكتاب العظيم، الإيمان الكبير، كتاب الإيمان الكبير، ما يعتقده أهل السنة والجماعة في مسمى الإيمان، وأنه تصديقٌ وإقرارٌ بالقلب، ونطقٌ باللسان، وعملٌ بالقلب وعملٌ بالجوارح، وذكر الأدلة مِن كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ، وأقوال أهل العلم في ذلك.
ونقل ما دلت عليه النصوص مِن أن الذي يُنفى عنه الإيمان إنما هو لتقصيره في بعض الواجبات، أو تركه لبعض المحرمات، ونقل عن أبي طالب المكِّي في كتابه قوت القلوب أيضًا ما دلت عليه الأدلة مِن دخول الأعمال في مُسمى الإيمان، إلا أن المؤلف رحمه الله انتقده في قوله: إن الذي يُنفى عنه الإيمان إنما يُنفى عنه لكونه ليس مِن خواصّ المؤمنين، فيُنفى مثلًا عن المقتصدين الأبرار لكونهم لم يصلوا لدرجة السابقين المقربين، وقال: إن هذا ليس بصحيح.
لأن النصوص مِن كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، دلت على أن المؤمن الذي أدى ما أوجب الله عليه، ولم يفعل ما حرم الله هذا لا يُنفى عنه الإيمان وإن كان أفضل منه وأعلى إيمانًا وأعلى مرتبةً في الإيمان، فقد يكون غيره أقوى منه إيمانًا لكونه، لكون الرب أعطاه قوةً في العلم، أو قوةً في اليقين، أو قوةً في الصبر والتوكل والإخلاص، فصار أعلى مرتبةً في الإيمان، وغيره لم يُعط هذه القوة، فصار أقل مرتبةً في الإيمان، لكن الثاني لا يُنفى عنه الإيمان ولا يُذم، لأنه لم يترك شيئًا، لأنه لم يفعل شيئًا حرمه الله عليه، ولم يترك شيئًا أوجبه الله عليه، وكون غيره أعلى منه مرتبةً في الإيمان، لا يوجب نفي الإيمان عنه كما دلت على ذلك النصوص.
ولهذا بين المؤلف رحمه الله فيما سبق وقال: إن إذا كان مِن الإيمان ما يعجز عنه كثيرٌ مِن الناس فيختص الله به مَن يشاء فذلك ما يفْضُلهم، يفضِّلهم الله به، وذلك الإيمان يُنفى عن غيرهم لكن لا على وجه الذم، بل على وجه التفضيل، فإن الذم إنما يكون على فعل المحظور وترك المأمور، " لَكِنْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو طَالِبٍ. يُقَالُ: فَمِثْلُ هَؤُلَاءِ مُسْلِمُونَ لَا مُؤْمِنُونَ بِاعْتِبَارِ وَيُقَالُ: إنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِاعْتِبَارِ آخَرَ وَعَلَى هَذَا يُنْفَى الْإِيمَانُ عَمَّنْ فَاتَهُ الْكَمَالُ الْمُسْتَحَبُّ؛ بَلْ الْكَمَالُ الَّذِي يُفَضَّلُ بِهِ عَلَى مَنْ فَاتَهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْدُورٍ لِلْعِبَادِ".
يعني أبو طالب المكِّي على قوله، ومن وافقه: إنه يُنفى الإيمان عمن لم، عمن لم يكن مِن خواصّ المؤمنين، فيقال لهم: يُقال لهم: مسلمون ولا يُقال لهم: مؤمنون، وإن كانوا مِن المقتصدين الأبرار " وَيُقَالُ: إنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِاعْتِبَارِ آخَرَ" وعلى قول أبي طالب؛ يُنفى الإيمان عمن فاته الكمال، فيُنفى الإيمان عن المقتصدين الأبرار لكونهم لم يصلوا إلى درجة السابقين المقربين، فالسابقون المقربون حصلوا على كمال الإيمان، والمقتصدون الأبرار فاتهم الكمال، فيُنفى الإيمان عمن فاته الكمال المستحب، بل يُنفى الكمال، بل يُنفى الإيمان عمن فاته الكمال الذي يفضُل به على مَن فاته.
وإن كان غير مقدور للعباد، يعني فإذا كان الإنسان أعطاه الله قوةً في العلم ففضل به على غيره والآخر لا يستطيع هذه القوة، وعلى ما ذكره أبو طالب المكي أنه يُنفى عنه، عن الثاني، وإن كان لم يقصر في شيءٍ مِن الواجبات، ولم يفعل شيئًا مِن المحرمات، فيُنفى عنه الكمال الذي وجب على غيره، وإن لم يكن في حقه لا واجبًا ولا مستحبًّا.
يقول المؤلف رحمه الله: " لَكِنَّ هَذَا لَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ" لا يُعرف في كلام الشارع أنه مَن فاته الكمال، يُنفى عنه الإيمان، إنما الذي يُعرف في كمال الشارع الذي يُنفى عنه الإيمان هو الذي فعل المحرم وترك واجب، كقول النبي ﷺ: لَا يَزْنِيَ الزّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنُ، وَلَا يَشْرَبْ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ([47]) هؤلاء نفُي عنهم الإيمان لكونهم فعلوا محرمات وكبائر، وكقوله ﷺ: لَا يُؤْمِنْ أحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيه مَا يُحِبُّ لِنَفْسُه([48]) هذا نُفي عنه الإيمان لأنه ترك واجبًا، الواجب عليه أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه. لَا يُؤْمِنْ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ([49]) يعني نُفي عنه الإيمان لكونه، لكونه لم يؤدِّ حقَّ الجار، فلا يأمن جاره، هذا هو المعروف في كلام الشارع.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " لَكِنَّ هَذَا لَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ وَلَمْ يُعْرَفْ فِي كَلَامِهِ إلَّا أَنَّ نَفْيَ الْإِيمَانِ يَقْتَضِي الذَّمَّ حَيْثُ كَانَ فَلَا يُنْفَى إلَّا عَمَّنْ لَهُ ذَنْبٌ" مثل الزاني، مثل نفي الإيمان عن الزاني والسارق، " فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ: " أو مُسْلِمٌ " تَوَقَّفَ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ كَمَا قَالَ جَمَاهِيرُ النَّاسِ.".
فتبين أن قوله: يعني قول النبي ﷺ: "أو مسلم" في قصة سعد بن أبي وقاص لما أعطى النبي ﷺ مِن الغنيمة يتألف، أعطى المؤلَّفة قلوبهم، أعطى، قال سعد: أعطى رجلًا وترك رجلًا هو أعجبهم إلي، فقلت يا رسول الله: ما لك عن فلان، فوالله إني لأراه مؤمنًا، فقال: أو مسلمًا، وأعادها ثلاثًا، يقول المؤلف رحمه الله: " فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ: أو مُسْلِمٌ تَوَقَّفَ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ كَمَا قَالَ جَمَاهِيرُ النَّاسِ" لا أن هذا الذي، هذا الذي قال: أو مسلم لأنه ما أدى الواجبات الباطنة والظاهرة، وليس لأنه فاته الكمال.
يقول المؤلف رحمه الله: " ثُمَّ طَائِفَةٌ يَقُولُونَ: قَدْ يَكُونُ مُنَافِقًا لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ" يعني قد يكون مَن يُنفى عنه الإيمان، قد يكون مَن يُنفى عنه الإيمان منافقًا ليس معه شيءٌ مِن الإيمان، " وَهُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْأَعْرَابُ الْمَذْكُورُونَ مُنَافِقُونَ لَيْسَ مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي نَصَرَهُ طَائِفَةٌ كَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ" المروزي، يعني مقصود المؤلف رحمه الله بالأعراب: هم الأعراب الذين ذُكروا في آية الحجرات: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14]، فهؤلاء الذين نُفي عنهم الإيمان هل هم ضعفاء الإيمان؟ هل هم نُفي عنهم الإيمان لضعف إيمانهم؟ أو لكونهم منافقين ليس معهم شيءٌ مِن الإيمان؟
قولان لأهل العلم: القول الأول: الذي نصره طائفة كمحمد بن نصر المروزي والبخاري وجماعة، يقول: هؤلاء منافقون، ليس معهم شيءٌ مِن الإيمان، نُفي عنهم الإيمان وأثبت لهم الإسلام الظاهر، قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا يعني استسلمنا وانقدنا ظاهرًا نفاقًا، هذا هو الذي قرَّه طائفة منهم محمد بن نصر المروزي في كتابه تعظيم قدر الصلاة، والبخاري في صحيحه، وجماعة.
قال المؤلف رحمه الله: " وَالْأَكْثَرُونَ" على القول الثاني، "وَالْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ: بَلْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا مِنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ شُعْبَةُ نِفَاقٍ؛ بَلْ كَانَ مَعَهُمْ تَصْدِيقٌ يُقْبَلُ مَعَهُ مِنْهُمْ مَا عَمِلُوهُ لِلَّهِ وَلِهَذَا جَعَلَهُمْ مُسْلِمِين".
هذا القول الثاني، وهو قول الجمهور، جماهير أهل السنة، والذي نصره المؤلف في كتابه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن هؤلاء الأعراب الذين نُفي عنهم الإيمان ليسوا منافقين ولكنهم ضعفاء في إيمانهم، نُفي عنهم الإيمان لضعف إيمانهم، بدليل سياق الآيات، سباقها وسياقها، فإن الآية، فإن الله تعالى أثبت لهم الإسلام، ولو كانوا منافقين لم يثبت لهم الإسلام، وأثبت لهم ثواب، وأثبت لهم طاعة.
قال: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ [الحجرات: 14] يعني لا ينقصكم مِن ثوابكم وأعمالكم شيئًا، ولو كانوا منافقين لم يكن لهم ثواب، لم يكن لهم أعمال يثابون عليها، وقال: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ [الحجرات: 17] فأثبت لهم الإسلام، ثم قد بين المؤمنين الذي أكمل منهم فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15، 16].
يعني هؤلاء هم الصادقون في إيمانهم، وليس، وليسوا أنتم هؤلاء هم الذين حققوا إيمانهم، وصدقوا في إيمانهم، وأما أنتم فإيمانكم ضعيف، فهذا القول الثاني الذي عليه الأكثرون كما قال المؤلف، أن، قال: " بَلْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا مِنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ شُعْبَةُ نِفَاقٍ؛ بَلْ كَانَ مَعَهُمْ تَصْدِيقٌ يُقْبَلُ مَعَهُ مِنْهُمْ مَا عَمِلُوهُ لِلَّهِ" وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [الحجرات: 14] يعني لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئًا، فلو كانوا منافقين لم يكن لهم طاعة يُثابون عليها.
قال: " وَلِهَذَا جَعَلَهُمْ مُسْلِمِينَ" قال: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا [الحجرات: 17]، وهذا هو الصواب، مِن القولين، قال رحمه الله: " وَلِهَذَا قَالَ: أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات: 17، 18]" بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات: 17]، قال المؤلف رحمه الله: " كَمَا قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَغَيْرِهِمَا" يعني كما قالوا: إن نفي الإيمان عن الزاني والسارق إنما هو نُفي عنهم الإيمان لا لكونه منافقًا أو كافرًا؛ بل لكونه ضعيف الإيمان، ناقص الإيمان، فكما نُفي الإيمان عن الزاني والسارق لضعف إيمانه؛ كذلك نُفي عن الأعراب، نُفي الإيمان عن الأعراب لضعف إيمانهم.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " كَمَا قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ نُفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ مَعَ أَنَّ مَعَهُ التَّصْدِيقَ" الزاني والسارق مصدق، مصدق، مؤمن بالله ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، لو قلت للزاني أو السارق وشارب الخمر أو المرابي هل أنتم مؤمنون بالله ورسوله؟ نعم، أنا مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والبعث بعد الموت، والقدر، عنده تصديق لكن ضَعُف إيمانه حتى وقع في الكبير، حتى فعل الكبيرة، قال المؤلف رحمة الله: " وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِيهِمْ" يعني أصح الأقوال الثلاثة في الأعراب، وفيمن نُفي عنهم الإيمان؛ ثلاثة أقوال.
قال المؤلف: قال: "هَذَا" يعني هذا القول: وهو أن هؤلاء المؤمنون نُفي عنهم الإيمان لضعف إيمانهم لا لنفاقهم، هذا أصح الأقوال الثلاثة فيهم، يعني في الأعراب وفيمن نُفي عنهم الإيمان، وهذه الأقوال الثلاثة هي: القول الأول: أنهم منافقون، كما ذهب إلى هذا محمد بن نصر المروزي والبخاري وجماعة وطائفة مِن أهل السنة.
القول الثاني: أنهم مؤمنون ضعفاء الإيمان لعصيانهم أو لما فيهم مِن شعب النفاق، ولو كان معهم تصديق يُقبل منهم معه ما عملوه لله، القول الثالث: قول أبي طالب المكِّي ومن وافقه، أنهم نُفي عنهم الإيمان الذي يكون مع مَن حقق خاصَّة الإيمان، سواءٌ كان مِن الأبرار أو مِن المقربين، وإن لم يكن ترك واجبًا أو لكونه لم يُؤمر به، هذا القول الثالث، القول الثالث قول أبي طالب المكي ومن وافقه: أنهم نُفي عنهم الإيمان الذي يكون مع مَن حقق خاصَّة الإيمان، سواء كان مِن الأبرار أو مِن المقربين، وإن لم يكن ترك واجبًا أو لكونه لم يؤمر به.
وهذا القول غير صحيح، وهو مِن جنس قول مَن يقول: نُفي الإسـ، الاسم، نُفي اسم الإيمان عنه لنفي كماله المستحب، وهذا قولٌ رابع أيضًا، وهو قولٌ فاسد.
فتكون المسألة فيها أربعة أقوال في نفي الإيمان:
القول الأول فيمن نفُي عنهم الإيمان: أنه يُنفى الإيمان عن المنافقين، لكونهم كفَّارًا. القول الثاني: أنه يُنفى الإيمان عنهم لأنهم ضعفاء الإيمان، لعصيانهم، ولما فيهم مِن شعب النفاق.
القول الثالث: قول أبي طالب المكي: أنه يُنفى الإيمان عمن حقق، عمن، عمن لم يحقق خاصَّة الإيمان، عمن نقصت مرتبتهم عن مرتبة الخاصَّة.
القول الرابع: أنه يُنفى الإيمان عمن فاته، كما، الكمال المستحب، والقولان الأخيران باطلان، لمخالفتهما النصوص، والصواب أن الإيمان لا يُنفى إما، إلا عن الكفار أو عن ضعفاء الإيمان، يُنفى، قد يُنفى الإيمان عن الكفار سواءٌ كانوا يعني يهود أو نصارى أو وثنيين أو منافقين، ويُنفى الإيمان عن العصاة، الذين قصروا في بعض الواجبات، وفعلوا بعض المحرمات، هذا هو الصواب، أما مَن فاته الكمال المستحب، فهذا لا يُنفى عنه الإيمان.
مَن فاته الكمال المستحب، مَن فاته الكمال المستحب فهذا لا يُنفى عنه الإيمان، فإن المقتصدين الأبرار فاتهم الكمال المستحب، هم الذين أدَّوا الواجبات وتركوا المحرمات، وأما السابقون المقربون فإنهم زادوا عليهم، ففعلوا المستحبات والنوافل، وتركوا المكروهات، وفضول المباحات، ولكن كونهم فضل، كونهم فَضَلوا أو فضَلوا فضل المقتصدين، لا يوجب ذلك نفي الإيمان عنهم، بل كلٌّ منهم مؤمنون وإن كان، وإن كانوا على مراتب.
(المتن)
وَأَبُو طَالِبٍ جَعَلَ مَنْ كَانَ مَذْمُومًا لِتَرْكِ وَاجِبٍ مِنْ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبِهِمْ الَّذِينَ لَمْ يُعْطُوا شَيْئًا، وَجَعْلُ ذَلِكَ الشَّخْصِ مُؤْمِنًا غَيْرُهُ أَفْضَلُ مِنْهُ.
وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ فَيَقُولُونَ: إثْبَاتُ الْإِسْلَامِ لَهُمْ دُونَ الْإِيمَانِ كَإِثْبَاتِهِ لِذَلِكَ الشَّخْصِ كَانَ مُسْلِمًا لَا مُؤْمِنًا كِلَاهُمَا مَذْمُومٌ لَا لِمُجَرَّدِ أَنَّ غَيْرَهُ أَفْضَلُ مِنْهُ.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا([50]) وَلَمْ يَسْلُبْ عَمَّنْ دُونَهُ الْإِيمَانَ. وَقَالَ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد: 10]. فَأَثْبَتَ الْإِيمَانَ لِلْفَاضِلِ وَالْمَفْضُولِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ([51]) وَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ لَمَّا حَكَمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ: لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ([52]) وَكَانَ يَقُولُ لِمَنْ يُرْسِلُهُ فِي جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ: إذَا حَاصَرْت أَهْلَ حِصْنٍ فَسَأَلُوك أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ؛ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِك وَحُكْمِ أَصْحَابِك([53]).
وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الثَّلَاثَةُ فِي الصَّحِيحِ، وَفِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ : وَأَسْأَلُك حُكْمًا يُوَافِقُ حُكْمَك.
فَهَذِهِ النُّصُوصُ وَغَيْرُهَا تَدُلُّ عَلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ أَنَّ أَحَدَ الشَّخْصَيْنِ قَدْ يَخُصُّهُ اللَّهُ بِاجْتِهَادِ يَحْصُلُ لَهُ بِهِ مِنْ الْعِلْمِ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ غَيْرُهُ فَيَكُونُ لَهُ أَجْرَانِ وَذَلِكَ الْآخَرُ عَاجِزٌ لَهُ أَجْرٌ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ؛ وَذَلِكَ الْعِلْمُ الَّذِي خُصَّ بِهِ هَذَا وَالْعَمَلُ بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا زِيَادَةٌ فِي إيمَانِهِ وَهُوَ إيمَانٌ يَجِبُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ. وَغَيْرُهُ عَاجِزٌ عَنْهُ فَلَا يَجِبُ. فَهَذَا قَدْ فُضِّلَ بِإِيمَانِ وَاجِبٍ عَلَيْهِ وَلَيْسَ بِوَاجِبِ عَلَى مَنْ عَجَزَ عَنْهُ.
(الشرح)
نعم، المؤلف رحمه الله لا يزال يناقش أبا طالب المكي ويرد عليه، في زعمه: أن الإيمان يُنفى عمن لم يحقق، عمن لم يحقق خاصَّة الإيمان، يُنفى عمن لم يحصل على الكمال، وفاته مرتبة الكمال، يقول المؤلف رحمه الله: " وَأَبُو طَالِبٍ جَعَلَ مَنْ كَانَ مَذْمُومًا لِتَرْكِ وَاجِبٍ مِنْ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبِهِمْ الَّذِينَ لَمْ يُعْطُوا شَيْئًا وَجَعْلُ ذَلِكَ الشَّخْصِ مُؤْمِنًا غَيْرُهُ أَفْضَلُ مِنْهُ. وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ" فإنهم على خلاف ما قرَّه أبو طال، فهم يقولون: " إثْبَاتُ الْإِسْلَامِ لَهُمْ" إثبات الإسلام للأعراب " دُونَ الْإِيمَانِ كَإِثْبَاتِهِ لِذَلِكَ الشَّخْصِ" الذي نُفي عنه الإيمان في قصة سعد، في قوله: مالك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمنًا، قال: أو مسلمًا، فنُفي عنه الإيمان؛ لكونه قصَّر في بعض الواجبات، أو فعل بعض المحرمات.
كما قال المؤلف رحمه الله، لكونه قصَّر شيئًا مِن أعمال الباطنة أو الظاهرة، وكذلك هؤلاء الأعراب، إنما نُفي عنهم الإيمان؛ لضعف إيمانهم، لا لأنهم، لا لأنهم منافقون، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ فَيَقُولُونَ: إثْبَاتُ الْإِسْلَامِ لَهُمْ دُونَ الْإِيمَانِ كَإِثْبَاتِهِ لِذَلِكَ الشَّخْصِ كَانَ مُسْلِمًا لَا مُؤْمِنًا كِلَاهُمَا مَذْمُومٌ لَا لِمُجَرَّدِ أَنَّ غَيْرَهُ أَفْضَلُ مِنْهُ." كما، يعني كما قرر أبو طالب، فأبو طالب ومن معه قرروا أنه يُنفى الإيمان عن الشخص لكون غيره أفضل منه، يعني لكونه أقل مرتبةً مِن غيره، وهذا ليس بصحيح.
ومن الأدلة على بطلان ذلك، قوله، ما ذكره المؤلف مِن الأدلة، قال: " وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا([54]) ، وهذا الحديث كما سبق، حديثٌ صحيح، حديثٌ ثابت، فلا يسلب الإيمان عمن دونهم، ولهذا قال المؤلف: " وَلَمْ يَسْلُبْ عَمَّنْ دُونَهُ الْإِيمَانَ" فأكمل المؤمنين أحسنهم خلقًا وإن كان أقل خلقًا لا يسلب عنه الإيمان، وَقَالَ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد: 10].
فالذين أنفقوا قبل الفتح أعظم درجة وفضلًا وإيمانًا من الذين أنفقوا بعد الفتح، وكلٌّ منهم له الإيمان، كلٌّ منهم موعودٌ بالجنة، ولهذا قال: وكلًّا وعد الله الحسنى، قال المؤلف رحمه الله: تعليقًا على ذلك، " فَأَثْبَتَ الْإِيمَانَ لِلْفَاضِلِ وَالْمَفْضُولِ" معًا، فالفاضل الذي أنفق قبل الفتح وقاتل، والمفضول الذي أنفق بعد الفتح وقاتل، " فَأَثْبَتَ الْإِيمَانَ لِلْفَاضِلِ وَالْمَفْضُولِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ" ثم استدل المؤلف رحمه الله بأدلة أيضًا تدل على أن المفضول لا يُنفى عنه الإيمان، وأنه يشارك الفاضل في الأجر والثواب والإيمان.
فقال المؤلف رحمه الله: " وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ([55]) " وهذا الحديث رواه الشيخان وغيرهما، ووجه الدلالة: أنه جعل المجتهد، للمجتهد أجران، أنه جعل للمجتهد أجرين، وللمجتهد المصيب أجرين، وللمجتهد المخطئ أجر، فكلٌّ منهما مُثاب، ولا يُنفى الإيمان عن الثاني لكونه فاته شيءٌ مِن الكمال، والإيمان والفضل.
قال المؤلف رحمه الله: وَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ لَمَّا حَكَمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ: لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ رواه الشيخان([56]) ، فهذا، فوافق حكم الله، سعد، فحصل له الفضيلة وغيره لا يُنفى عنه الإيمان، وكان، يقول المؤلف رحمه الله: " وَكَانَ يَقُولُ لِمَنْ يُرْسِلُهُ فِي جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ: إذَا حَاصَرْت أَهْلَ حِصْنٍ فَسَأَلُوك أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ؛ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِك وَحُكْمِ أَصْحَابِك.وهذا الحديث رواه مسلم والنسائي وأحمد والدارمي ([57])وغيرهم، وفيه، فيه دليل على أن الإنسان قد يصيب حكم الله، وقد لا يصيب حكم الله، ومن أصاب حكم الله حصل له الأجر وزاد إيمانه، ومن لم يصب حكم الله فاته الكمال ولا يُنفى عنه الإيمان، يقول المؤلف رحمه الله: " وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الثَّلَاثَةُ كلها فِي " الصَّحِيحِ "، كلها أحاديث صحيحة، حديث: إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ وحديث: إذَا حَاصَرْت أَهْلَ حِصْنٍ رواه مسلم، وحديث: سعد، لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ
قال المؤلف رحمه الله: " وَفِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ وَأَسْأَلُك حُكْمًا يُوَافِقُ حُكْمَك يقول المحقق في المحفوظ: يُصَادِفُ حُكْمَك وهذا الحديث رواه أحمد عن عبد الله بن عمر وابن ماجه، وفيه أن، أن سليمان سأل ربه أن يسأله حكمًا يوافق حكمه، لأنه قد يوافق حكمه وقد لا يوافق، فإن وافق حكمه فله الأجر وله الفضل، في الإيمان والثواب، وإن خالف وإن لم يوافق حكم الله نقص أجره.
قال المؤلف رحمه الله: "فَهَذِهِ النُّصُوصُ وَغَيْرُهَا تَدُلُّ عَلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ أَنَّ أَحَدَ الشَّخْصَيْنِ قَدْ يَخُصُّهُ اللَّهُ بِاجْتِهَادِ يَحْصُلُ لَهُ بِهِ مِنْ الْعِلْمِ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ غَيْرُهُ فَيَكُونُ لَهُ أَجْرَانِ وَذَلِكَ الْآخَرُ عَاجِزٌ لَهُ أَجْرٌ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ؛" يعن كلٌّ منهما مأجور لكن أدهما أكمل مِن الآخر، وأعظم أجرًا وأكمل إيمانًا، ولا يُنفى الإيمان عن الثاني.
قال المؤلف رحمه الله: "وَذَلِكَ الْعِلْمُ الَّذِي خُصَّ بِهِ هَذَا وَالْعَمَلُ بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا زِيَادَةٌ فِي إيمَانِهِ وَهُوَ إيمَانٌ يَجِبُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ. وَغَيْرُهُ عَاجِزٌ عَنْهُ فَلَا يَجِبُ" يعني فهذا فُضِّل، أحدهما فُضِّل على الآخر بالعلم وبالعمل، فزاد إيمانه، وهو إيمان وجب عليه، لأنه حصَّله بالعلم، لأنه قادرٌ عليه، وغيره عاجزٌ عنه فلا يجب، فلا يجب، ولكن لا يُنفى عنه الإيمان، ولا يُقال: إن هذا الثاني مفضول فيُنفى عنه الإيمان.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَهَذَا قَدْ فَضُلَ بِإِيمَانِ وَاجِبٍ عَلَيْه" يعني الأول الذي حصل له العلم والعمل، "هَذَا قَدْ فُضِّلَ بِإِيمَانِ وَاجِبٍ عَلَيْهِ وَلَيْسَ بِوَاجِبِ عَلَى مَنْ عَجَزَ عَنْهُ" فهو كلٌّ منهما مؤمن، كلٌّ منهما له وصف الإيمان، وإن كان، وإن كانت المرتبة متفاوتة، نعم.
([1]) – سبق
([2]) – أخرجه مسلم رقم (2664) من حديث أبي هريرة .
([3]) – سبق
([4]) – أخرجه البخاري رقم (3673)من حديث أبي سعيد الخدري ،ومسلم رقم (2540) من حديث أبي هريرة .
([5]) – سبق
([6]) – سبق
([7]) – سبق
([8]) – سبق
([9]) – روي مرفوعًا من حديث أنس أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(10/15): ثم قال : ذكر أحمد بن حنبل هذا الكلام عن بعض التابعين , عن عيسى ابن مريم فوهم بعض الرواة أنه ذكره عن النبي ﷺ فوضع هذا الإسناد عليه لسهولته وقربه، وهذا الحديث لا يحتمل بهذا الإسناد عن أحمد بن حنبل.أهـ.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس مرفوعاً: مَنْ تَعَلَمَ عِلْمَاً فَعَمِلَ بِهِ كَانَ حَقّاً عَلَى اللَّهِ أَنْ يُعَلِّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمْ وفي كتاب رواية الكبار عن الصغار لأبي يعقوب البغدادي عن سفيان: "مَنْ عَمِلَ بِمَا يَعْلَمُ وُفِّقَ لِمَا لا يَعْلَمُ". ينظر :الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة (ص: 192)
([10]) – سبق
([11]) – سبق
([12]) – سبق
([13]) – أخرجه البخاري رقم (4423) من حديث أنس بن مالك ، مسلم رقم (1911) من حديث جابر بن عبد الله .
([14]) – أخرجه مسلم بهذا اللفظ رقم (2674) من حديث أبي هريرة . ولم أقف عليه في البخاري.
([15]) – أخرجه الترمذي رقم (2325) وقال: «هذا حديث حسن صحيح»
([16]) – أخرجه أحمد رقم (18024)، وابن ماجه رقم (4228) وقال الحافظ الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح»
([17]) – أخرجه البخاري رقم (6114)، ومسلم رقم (2609) من حديث أبي هريرة .
([18]) – أخرجه البخاري رقم (1117).
([19]) – سبق
([20]) – سبق
([21]) – سبق
([22]) – أخرجه البخاري رقم (2942)،ومسلم رقم (2406) من حديث سهل بن سعد في قصة غزوة خيبر.
([23]) – سبق
([24]) – سبق
([25]) – سبق
([26]) – سبق
([27]) – سبق
([28]) – سبق
([29]) – أخرجه البخاري رقم (2697)، ومسلم رقم (1718) من حديث عائشة .
([30]) – أخرجه البخاري معلقًا بصيغة الجزم قبل رقم (2142- 7350) ووصله مسلم رقم (1718) من حديث عائشة .
([31]) – أخرجه البخاري رقم (3682) ومسلم رقم (2393)من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. بألفاظ متقاربه.
([32]) – أخرجه أحمد رقم (20445- 20503)، وأبو داود (4635) ،والبزار رقم (3653) من حديث أبي بكرة . قال البوصيري في إتحاف الخيرة (6/ 354) رواه باختصار أبو داود في سننه، والترمذي في الجامع وصححه، والحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وله شاهد من حديث سفينة رواه البزار في مسنده وغيره بسند صحيح.
وفي الباب عن أبي ذر وابن عباس وسفينة .
([33]) – أخرجه البخاري رقم (2843)، ومسلم رقم (1895) واللفظ له من حديث زيد بن خالد الجهني .
([34]) – سبق
([35]) – أخرجه الترمذي رقم (807 )،وابن ماجه رقم (1746) من حديث زيد بن خالد الجهني . قال الحافظ الترمذي «هذا حديث حسن صحيح»
([36]) – أخرجه الترمذي رقم (1073)،وابن ماجه رقم (1602) من حديث عبد الله بن مسعود . قال الحافظ الترمذي «هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث علي بن عاصم»، وروى بعضهم، عن محمد بن سوقة بهذا الإسناد مثله موقوفا، ولم يرفعه، " ويقال: أكثر ما ابتلي به علي بن عاصم بهذا الحديث نقموا عليه "
([37]) – سبق
([38]) – سبق
([39]) – سبق
([40]) – سبق
([41]) – سبق
([42]) – سبق
([43]) – سبق
([44]) – سبق
([45]) – سبق
([46]) – أخرجه البخاري رقم (2268-3459-5021)من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ولم أقف عليه في مسلم.
([47]) – سبق
([48]) – سبق
([49]) – سبق
([50]) – أخرجه أحمد رقم (7402)، وأبو داود رقم (4682) واللفظ له، والترمذي رقم (1162) من حديث أبي هريرة . قال الحافظ الترمذي «حديث أبي هريرة هذا حديث حسن صحيح»
([51]) – أخرجه البخاري رقم (7352) ومسلم رقم (1716) من حديث عمرو بن العاص .
([52]) – أخرجه البخاري رقم (3043) ومسلم رقم (1768) من حديث أبي سعيد الخدري .
([53]) – أخرجه مسلم رقم (1731) من حديث بريدة الأسلمي .
([54]) – سبق
([55]) – سبق
([56]) – سبق
([57]) – سبق