(المتن)
وَهَذَا حَالُ جَمِيعِ الْأُمَّةِ فِيمَا تَنَازَعَتْ فِيهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الْخَبَرِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ إذَا خُصَّ أَحَدُهُمَا بِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَعَ اجْتِهَادِ الْآخَرِ وَعَجْزِهِ كِلَاهُمَا مَحْمُودٌ مُثَابٌ مُؤْمِنٌ وَذَلِكَ خَصَّهُ اللَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ بِمَا فَضَّلَهُ بِهِ عَلَى هَذَا.
وَذَلِكَ الْمُخْطِئُ لَا يَسْتَحِقُّ ذَمًّا وَلَا عِقَابًا وَإِنْ كَانَ ذَاكَ لَوْ فَعَلَ مَا فَعَلَ ذُمَّ وَعُوقِبَ كَمَا خَصَّ اللَّهُ أُمَّةَ نَبِيِّنَا بِشَرِيعَةِ فَضَّلَهَا بِهِ وَلَوْ تَرَكَنَا مِمَّا أَمَرَنَا بِهِ فِيهَا شَيْئًا؛ لَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ؛ وَالْأَنْبِيَاءُ قَبْلَنَا لَا يَذُمُّونَ بِتَرْكِ ذَلِكَ لَكِنْ مُحَمَّدٌ ﷺ فَضَّلَهُ اللَّهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَفَضَّلَ أُمَّتَهُ عَلَى الْأُمَمِ مِنْ غَيْرِ ذَمٍّ لِأَحَدِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا لِمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْأُمَمِ.
وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ إلَّا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَهُوَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِمَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْجَنَّةِ فَلَوْ كَانَ مِثْلُ هَذَا يُسَمَّى مُسْلِمًا وَلَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ مَنْ يُسَمَّى مُسْلِمًا لَا مُؤْمِنًا كَالْأَعْرَابِ وَكَالشَّخْصِ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ، أو مُسْلِمٌ، وَكَسَائِرِ مَنْ نُفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ مَعَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ كَالزَّانِي وَالشَّارِبِ وَالسَّارِقِ وَمَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ، وَمَنْ لَا يُحِبُّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ؛ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.
فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُعَلِّقْ وَعْدَ الْجَنَّةِ إلَّا بِاسْمِ الْإِيمَانِ لَمْ يُعَلِّقْهُ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ مَعَ إيجَابِهِ الْإِسْلَامَ وَإِخْبَارِهِ أَنَّهُ دِينُهُ الَّذِي ارْتَضَاهُ؛ وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ دِينًا غَيْرَهُ وَمَعَ هَذَا فَمَا قَالَ: إنَّ الْجَنَّةَ أُعِدَّتْ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَا قَالَ: وَعَدَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِالْجَنَّةِ بَلْ إنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ بِاسْمِ الْإِيمَانِ كَقَوْلِهِ: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [التوبة: 72]، فَهُوَ يُعَلِّقُهَا بِاسْمِ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ أَوْ الْمُقَيَّدِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
كَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [البينة: 7، 8]، وَقَوْلُهُ: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ [البقرة: 25]، وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 277]، وَقَوْلُهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النساء: 173] وَقَوْلُهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء: 175]، وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا [النساء: 57].
وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء: 122] وَقَالَ: وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران: 57]، وَقَالَ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [المائدة: 9]، وَقَالَ: فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأنعام: 48]، وَقَالَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الأعراف: 42]، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ.
فَالْوَعْدُ بِالْجَنَّةِ وَالرَّحْمَةُ فِي الْآخِرَةِ وَبِالسَّلَامَةِ مِنْ الْعَذَابِ عُلِّقَ بِاسْمِ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَدْخُلُ فِيهِ فِعْلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَلَمْ يُعَلَّقْ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ.
فَلَوْ كَانَ مَنْ أَتَى مِنْ الْإِيمَانِ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَعَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ تَفَاصِيلِهِ قَدْ يُسَمَّى مُسْلِمًا لَا مُؤْمِنًا لَكَانَ مِنْ أَهْل الْجَنَّةِ وَكَانَتْ الْجَنَّةُ يَسْتَحِقُّهَا مَنْ يُسَمَّى مُسْلِمًا وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ مُؤْمِنًا وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ الْجَنَّةُ لَمْ تُعَلَّقْ إلَّا بِاسْمِ الْإِيمَانِ.
(الشرح)
فإن المؤلف شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله قرَّ في هذا الكتاب العظيم؛ كتاب الإيمان الكبير ما دلت عليه النصوص من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله ﷺ من أن الأعمال داخلةٌ في مُسمى الإيمان، وأن الإيمان، وأن مُسمى الإيمان تصديقٌ وإقرارٌ بالقلب، ونطقٌ باللسان، وعملٌ بالقلب، وعملٌ بالجوارح، وأن من أدى ما أوجب الله عليه من الواجبات، وترك ما حرم الله عليه من المحرمات، فإنه هو المؤمن حقًا، والمؤمن حقيقة الذي، المؤمن الكاملُ الإيمان الذي أدى ما أ وجب الله عليه، وترك ما حرم الله عليه، فهذا يدخلُ الجنة من أول وهلة، ويُطلق عليه الإيمان، وأما من قصر في بعض الواجبات، وفعل بعض المحرمات، ولكنه مُوحد، مات على التوحيد والإيمان، ولم يقع في عمله شرك، فهذا مؤمنٌ ناقص الإيمان، مؤمنٌ عاصي، يُنفى عنه الإيمان، ولا يُقيد، ولا يُطلق عليه إلا بالتقييد؛ فيقال مؤمنٌ ناقصُ الإيمان، مؤمنٌ بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته، مؤمن عاصي، ولكن يُطلقُ عليه اسمُ الإسلام، فيُقال إنه مسلم، فالمسلم يُطلقُ على العاصي، وعلى المطيع، أما الإيمان لا يُطلق على العاصي لابد من القيد في النفي أوفي الإثبات، وهذا هو الذي دلت عليه النصوص.
فإن النصوص إنما دلت على أنه يُنفى الإيمان عن العصاة، وإن كان معهم أصل الإيمان، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُو مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ([1])، وقال عليه الصلاة والسلام: لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ([2])، وقال: لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ([3])، إلى غير ذلك من النصوص.
هذا هو الذي دلَّت عليه النصوص والذي أقره أهلُ السُّنة والجماعة، كما نقل المؤلف رحمه الله نقولًا كثيرة عن السلف وعن الأئمة، ونقل عن أبي طالب المكي في كتابه قوت القلوب قولًا مخالفًا لما دلت عليه النصوص، وهو: أن الإيمان يُنفى عمَّن لمْ يُحقق الإيمان، ولم يصل إلى مرتبةٍ عالية، فيُنفى عمن لم يصل إلى رتبة السابقين المقربين، وإنْ كان من المقتصدين الأبرار.
فهذا قولٌ أنكره المؤلف رحمه الله، وبيَّن أن النصوص دلَّت على خلافه، وأن الإيمان لا يُنفى إلا عمَّن فعلَ مُحرَّمًا، أو قصَّر في بعض الواجب، أمَّا مَن أدَّى ما أوجب الله عليه وإنْ كان غيره أعلى رتبةً منه، فإنه لا يُنفى عنه الإيمان، يُثبت الإيمان للمقتصدين الأبرار، ويُثبت الإيمان للسابقين المقربين، ويُثبت الإيمان للسابقين المقربين، والناس يتفاوتون في الإيمان، ويتفاوتون في الأعمال تفاوتًا عظيمًا، فمَن أتاه الله علمًا، ومن أتاه الله إخلاصًا وصدقًا، ومن آتاه الله قوةً في الإخلاص والتوكل، هذا إيمانه أعظم وأفضل، وغيره لا يصل إلى هذه المرتبة، ولكنه لا يُنفى عنه الإيمان، فكلٌّ منهما مؤمن، وإن كان يتفاوتان في الإيمان.
وقد يكون من عنده، من أعطاه الله قوةً في العلم، أو قوةً في اليقين، أو قوةً في الإخلاص أعطاه الله أسبابًا، فكان بها أفضل من غيره، وأعلى من غيره، ومن دونه ليس عنده هذه الأسباب، قد يكونُ عاجزًا عنها، أو جاهلًا بها، فيكون معذورًا، ولا يُنفى عنه الإيمان، وهذا دلت عليه النصوص الكثيرة، وتفاوت الناس في الإيمان، وفي الأعمال أدلته كثيرة من الكتاب والسُنة، ولا يزال الناس يتفاوتون، وليسوا على مرتبةٍ واحدة في الأعمال، وفي المسائل الخبرية، وفي المسائل العلمية، وفي مسائل الاجتهاد، وكما ثبت في الحديث الصحيح: إِنَّ الْوَالِيَ إِذَا اجْتَهَدَ فَأَصَابَ الْحُكْمَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ([4])، فهذا له أجران، وهذا له أجر، وهذا أعظم فضلًا وثوابًا، وهذا دونه، وكل منهما يثبت له الإيمان، وعلى خير، وإن كانا يتفاوتان.
وليس هذا خاصًا بالإيمان، بل الأعمال، وجميع المسائل يتنازع الناس فيها ويختلفون، فالمصيب له أجران، والمخطئ له أجر، ومَن كان أعلى إيمانًا بسبب العلم، أو بسبب الفضل، أو بسبب الإخلاص، أو بسبب اليقين، أو التقوى، فهو على مرتبةٍ عاليةٍ في الإيمان، ودونه مَن لم يحصل على هذه المرتبة، وكلٌّ منهما يُطلقُ عليه الإيمان، ولا يُنفى عمن كان أقل مرتبةً من الإيمان.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَهَذَا حَالُ جَمِيعِ الْأُمَّةِ فِيمَا تَنَازَعَتْ فِيهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الْخَبَرِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ" يعني: المسائل التي أخبر الله بها، أو أخبر بها رسوله ﷺ قد تبلغُ بعض الناس فيؤمن بها، فيزدادُ إيمانه، وقد لا تبلغُ بعض الناس، فتفوته هذه المرتبة، وهذا معذور، وهذا أعطاه الله زيادة علم، فكان أفضل من غيره.
وكذلك المسائل العملية قد يُوفَّق الإنسان هذا للعمل، وقد لا يعلم الإنسان هذا العمل، أو قد يعجز عن العمل، أو قد لا يريد العمل، إذا كان لا يريدُ العمل إذا كان من النوافل كالسابقين المقربين، فإنهم يؤدون النوافل بعد الفرائض، والمقتصدون الأبرار يقتصدون على أداء الواجبات، وهؤلاء أفضل، وكلٌّ منهما يُطلق عليه الإيمان.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَهَذَا حَالُ جَمِيعِ الْأُمَّةِ فِيمَا تَنَازَعَتْ فِيهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الْخَبَرِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ إذَا خُصَّ أَحَدُهُمَا بِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَعَ اجْتِهَادِ الْآخَرِ وَعَجْزِهِ كِلَاهُمَا مَحْمُودٌ مُثَابٌ مُؤْمِنٌ". هذا محمودٌ مُثابٌ مؤمن، وهذا مؤمن، وإن كان الذي أعطاه الله معرفة الحق والعمل أفضل وأعلى مرتبة، ولكن الثاني أيضًا كذلك مؤمن، ولا يُنفى عنه الإيمان كما قال أبو طالب المكي.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "إذَا خُصَّ أَحَدُهُمَا بِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَعَ اجْتِهَادِ الْآخَرِ وَعَجْزِهِ كِلَاهُمَا مَحْمُودٌ مُثَابٌ مُؤْمِنٌ وَذَلِكَ خَصَّهُ اللَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ بِمَا فَضَّلَهُ بِهِ عَلَى هَذَا؛ وَذَلِكَ الْمُخْطِئُ لَا يَسْتَحِقُّ ذَمًّا وَلَا عِقَابًا وَإِنْ كَانَ ذَاكَ لَوْ فَعَلَ مَا فَعَلَ ذُمَّ وَعُوقِبَ" يعني الذي، الأول الذي أعطاه الله علمًا، لو تركَ ما أعطاه الله من العلم الذي أوجبه الله عليه أن يعمل به، صار مذمومًا وعُوقب، والثاني: الذي لم يحصل على هذا العلم إذا تركَ لا يكون مذمومًا ولا يُعاقَب.
إذًا هذا مبلغ علمه.
قال المؤلف رحمه الله: "كَمَا خَصَّ اللَّهُ أُمَّةَ نَبِيِّنَا بِشَرِيعَةِ فَضَّلَهَا بِهِ وَلَوْ تَرَكَنَا مِمَّا أَمَرَنَا بِهِ فِيهَا شَيْئًا؛ لَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ" فهذه الأمة، المحمدية فُضلت بالشريعة، فُضلت بالشريعة زائدةً على شرائع الأمم السابقة، فمن ترك شيئًا من هذه الشريعة التي فُضلت بها على الأمم السابقة فرض المؤمن مستحقًا للعقاب.
يقول: "وَالْأَنْبِيَاءُ قَبْلَنَا لَا يَذُمُّونَ بِتَرْكِ ذَلِكَ" الأنبياء ما يُعطوا الشريعة كما أُعطينا، ولا يُذمون بترك ذلك، وأممهم لا تُذم بترك ذلك، ولكن هذه الأمة فضلها الله على غيرها من الأمم، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "لَكِنْ مُحَمَّدٌ ﷺ فَضَّلَهُ اللَّهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَفَضَّلَ أُمَّتَهُ عَلَى الْأُمَمِ مِنْ غَيْرِ ذَمٍّ لِأَحَدِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا لِمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْأُمَمِ".
ثم بيَّن المؤلف رحمه الله أن الناس أيضًا يتفاوتون في الواجبات، وبالتالي يتفاوتون في الثواب، ولا يدلُّ على أن المقبول مذموم، ولا أنه يُنفى عنه الإيمان، فمثلًا مَن عنده مال أوجب الله عليه الزكاة، وأوجب عليه النفقات، وإذا أخرج زكاته الواجبة أثابه الله، وزاد به إيمانًا، والذي ليس عنده مال لا تجبُ عليه الزكاة، ولا تجب عليه النفقات، ولا يدل، ولا يُذم على كونه لم يؤدِّ الزكاة، لأنه ليس عنده مال، ولا يُذم ولا يُنفى عنه الإيمان، ولكن الناس يتفاوتون، وذلك فضلُ الله يؤتيه مَن يشاء.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ إلَّا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَهُوَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِمَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْجَنَّةِ فَلَوْ كَانَ مِثْلُ هَذَا يُسَمَّى مُسْلِمًا وَلَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ مَنْ يُسَمَّى مُسْلِمًا لَا مُؤْمِنًا كَالْأَعْرَابِ" يعني يقول المؤلف رحمه الله في الرد على أبي طالب المكي، يقول: إن الإنسان لا يجبُ عليه إلا ما يقدرُ عليه، وإذا فعل ما يقدرُ عليه كان مُستحقًا لما وعد الله به من الجنة، فلو كان مثل هذا يُسمى مسلمًا، ولا يُسمى مؤمنًا كما يقول أبو طالب المكي، فإنه يقول: الإنسان إذا فعل ما يقدر عليه من الإيمان، وترك شيئًا فعله غيره أنه لا يُسمى مؤمن، يُنفى عنه الإيمان، ويُسمى مسلمًا، ولا يُسمى مؤمنًا؛ لوجب أن يكون من أهل واجب الجنة من يُسمى مسلمًا لا مؤمنًا؛ كالأعراب الذين نفى عنهم الإيمان في قوله في سورة الأعراف، في سورة الحجرات: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14]، فهؤلاء الأعراب نُفي عنهم الإيمان؛ لضعف إيمانهم، وأما الذي، الذي لم يفعل الشيء الذي يعجزُ عنه، فإنه لا يُنفى عنه الإيمان، بل يبقى عليه اسمُ الإيمان، وإن كان ترك شيئًا وجب على غيره، لكن هو لم يجب عليه، هذا وجب عليه الزكاة؛ لكونه عنده مال، وهذا لم يجب لكونه ليس عنده مال، وهذا أفضل من هذا، وكلٌ منهما مؤمن.
فلو كان الثاني يُنفى عنه الإسلام كما قال أبو طالب المكي إنه يُنفى عنه الإسلام لكونه لم يحسن، لم يُحقق مرتبةً عالية؛ لكونه لم يصل لخواص المؤمنين، لكان مثل هذا يٌسمى مسلمًا، ويكون الله تعالى وعده الجنة باسم الإسلام، وهذا خطأ، فإنه لم يرد في النصوص الوعد بالجنة باسم الإسلام، وإنما ورد في النصوص الوعد بالجنة باسم الإيمان، اسمُ الإيمان هو الذي وعد الله عليه الجنة، أما المسلم، أما الإسلام، فإن الله فرضه، وأخبر أنه دينه الذي لا يقبل من أحدٍ دينًا سواه، ويُطلقُ على العاصي والمُطيع، وليس، ولم يعلق الله بالإسلام الوعد بالجنة.
فلو كان الذي ترك شيئًا وجب على غيره يُنفى عنه الإيمان، ويُثبت له الإسلام؛ لوجب أن يكون اسمُ الإسلام هو الذي وُعد به، يوعد به الجنة، لكان الوعد بالجنة لمن أتى بالإسلام، ويكون الأعراب الذين نفى الله عنهم الإيمان، يكونون داخلين في ذلك، مع أنهم نُفي عنهم الإيمان، وليسوا كذلك، وليسوا لا يُطلق عليهم الإيمان، وإنما يُطلق عليهم الإسلام؛ لكونهم، لكونهم ضعف إيمانهم.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَلَوْ كَانَ مِثْلُ هَذَا يُسَمَّى مُسْلِمًا وَلَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ مَنْ يُسَمَّى مُسْلِمًا لَا مُؤْمِنًا كَالْأَعْرَابِ وَكَالشَّخْصِ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ أو مُسْلِمٌ في قصة سعد بن أبي وقاص لما أعطى في الغنائم رجلًا، قال سعد: وترك رجلًا هو أعجبهم إليه، فقلت له يا رسول الله ما لك عن فلان، فو الله إني لأراه مؤمنًا، قال: أو مسلمًا، يعني ما وصل لدرجة الإيمان، ثم قال: ثم غلبني ما أجد، فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان فو الله إني لأراه مؤمنًا، فال: أو مسلمًا، وكرر هذا ثلاثة، فهذا الذي نفى عنه النبي ﷺ الإسلام؛ لكونه قصر في بعض الواجبات الباطنة والظاهرة، فهذا لو كان الذي يُنفى عنه الإيمان؛ لكونه لم يصل إلى مرتبةٍ عالية؛ لوجب أن يكون هذا الشخص الذي نفى عنه الإسلام ممن وُعدوا بدخول الجنة، والله تعالى إنما وعد بدخول الجنة على الإيمان.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَكَالشَّخْصِ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ أو مُسْلِمٌ وَكَسَائِرِ مَنْ نُفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ مَعَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ كَالزَّانِي وَالشَّارِب "أي الذي يشرب الخمر "وَالسَّارِقِ وَمَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ وَمَنْ لَا يُحِبُّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ؛ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ" كلهم لوجب أن يكون هؤلاء وُعدوا بالجنة، وهؤلاء موعودين بالنار؛ لأنهم ارتكبوا كبائر، وهم داخلون في اسمُ الإسلام، لكنهم لا يُطلق عليهم اسمُ الإيمان.
وبهذا يتبين أن قول أبي طالب المكي من أن الذي يُنفى عنه الإيمان لكونه فاته مرتبة الكمال هذا قولٌ مخالفٌ للنصوص، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُعَلِّقْ وَعْدَ الْجَنَّةِ إلَّا بِاسْمِ الْإِيمَانِ لَمْ يُعَلِّقْهُ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ مَعَ إيجَابِهِ الْإِسْلَامَ وَإِخْبَارِهِ أَنَّهُ دِينُهُ الَّذِي ارْتَضَاهُ؛ وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ دِينًا غَيْرَهُ" كما قال الله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران: 19]، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: 85].
قال المؤلف رحمه الله: "وَمَعَ هَذَا فَمَا قَالَ: إنَّ الْجَنَّةَ أُعِدَّتْ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَا قَالَ: وَعَدَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِالْجَنَّةِ بَلْ إنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ بِاسْمِ الْإِيمَانِ" ثم سرد النصوص المؤلف ، ثم سرد النصوص المؤلف رحمه الله نصوصًا كثيرة فيها بيان أن الله تعالى وعد الجنة باسم الإيمان، لا باسم الإسلام، وهي، وفيها الرد على أبي طالب المكي في كتابه قوت القلوب القائل بأنه: إنما يُنفى الإسلام عمن لم يحقق الإيمان، ولم يصل إلى مرتبةٍ عالية.
قال المؤلف رحمه الله: "بَلْ إنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ بِاسْمِ الْإِيمَانِ كَقَوْلِهِ: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [التوبة: 72]" فالوعد إنما هو على الإيمان، على اسم الإيمان، قال: " فَهُوَ يُعَلِّقُهَا بِاسْمِ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ أَوْ الْمُقَيَّدِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ" لأن الإيمان إذا أُطلق دخل فيه العمل الصالح، وإذا قُيد بالعمل الصالح صار من عطف الخاص على العام، أو إنه لا يدخلُ فيه إذا عُطف عليه، ويدخل فيه إذا أطلق.
والمؤلف رحمه الله سيسوق آيات كثيرة فيها الوعد بالجنة لمن، للمؤمنين، أو للمؤمنين، أو للإيمان المقيد بالعملِ الصالح، "كَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [البينة: 7، 8]" وعدهم بالجنة على الإيمان والعمل الصالح، "وَقَوْلُهُ: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ [البقرة: 25]" وعد بالجنة على الإيمان والعمل الصالح.
"وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 277]" الشاهد أن الله وعد بالجنة على الإيمان، والعمل الصالح، " وَقَوْلُهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النساء: 173]، كذلك وعد على بالإيمان والعمل الصالح، "وَقَوْلُهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء: 175]" فوعد على الإيمان بالدخول في الرحمة، والدخول في الرحمة، دخول الجنة من رحمةِ الله.
"وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا [النساء: 57]" والشاهد أن الله وعد بالجنة على الإيمان والعمل الصالح، "وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء: 122] وَقَالَ: وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّه لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران: 57]" فوعد على توفية الأجور، فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وعد بتوفية الأجور على الإيمان والعمل الصالح.
"وَقَالَ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [المائدة: 9]" فوعد بالمغفرة والأجر العظيم على الإيمان والعمل الصالح، " وَقَالَ: فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأنعام: 48]" والشاهد أن الوعد على الإيمان، " وَقَالَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الأعراف: 42]" وعد بالجنة على الإيمان والعمل الصالح.
قال المؤلف: " وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ" يعني المقصود التمثيل، قال المؤلف رحمه الله: " فَالْوَعْدُ بِالْجَنَّةِ وَالرَّحْمَةُ فِي الْآخِرَةِ وَبِالسَّلَامَةِ مِنْ الْعَذَابِ عُلِّقَ بِاسْمِ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ" يعني الجنة إنما عُلقت باسمِ الإيمان المطلق، أو الإيمان المقيد بالعمل الصالح؛ لأنه إذا أُطلق دخل فيه العمل، " وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَدْخُلُ فِيهِ فِعْلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ" الإيمان إذا أُطلق معناه الذين آمنوا معناه الذين أدوا الواجبات وتركوا المحرمات.
قال المؤلف رحمه الله: "وَلَمْ يُعَلَّقْ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ" يعني ما علق دخول الجنة على اسم الإسلام، وإن كان الإسلام هو الفرض، وهو دينُ الله الذي لا يقبل من أحدٍ دين سواه، لكنه اسمُ الإسلام يشملُ المؤمن والعاصي، قال المؤلف رحمه الله: "فَلَوْ كَانَ مَنْ أَتَى مِنْ الْإِيمَانِ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَعَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ تَفَاصِيلِهِ قَدْ يُسَمَّى مُسْلِمًا لَا مُؤْمِنًا" يعني كما يقول أبو طالب المكي، "لَكَانَ مِنْ أَهْل الْجَنَّةِ وَكَانَتْ الْجَنَّةُ يَسْتَحِقُّهَا مَنْ يُسَمَّى مُسْلِمًا وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ مُؤْمِنًا وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ الْجَنَّةُ لَمْ تُعَلَّقْ إلَّا بِاسْمِ الْإِيمَانِ" وبهذا يتبين بُطلان ما أقره أبو طالب المكي، ومن وافقه في أن الإيمان إنما يُنفى عمن فاته كمال المستحب، الإيمان لا يُنفى إلا عن، على من فعل محرمًا، أو قصر في واجب، أما من فعل الواجبات، وترك المحرمات لا يُنفى عنه الإيمان، ولو فاته شيءٌ من المستحبات لا يُنفى عنه الإيمان، نعم.
القارئ: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، ذكرتم في هذا البيان وفي البيان السابق أن الله قد يخص يعني بعض الناس بقوةٍ في العلم، وبقوةٍ في اليقين، وفي الصبر، وفي التوكل، وفي الإخلاص، السؤال هنا فضيلة الشيخ هل مثل هذه القوة في هذه الأمور؛ كاليقين والصبر وغيرها، هل يمكن للإنسان أن يكتسبها ويستعين بالله في الحصول عليها؟
الشيخ: هذه فضلٌ من الله، هبة من الله، والله تعالى يختص من يشاء، هذا فاوت الله بين عباده في الإيمان، والعلم والفضل وفي مسألة أسباب الرزق كما ذكر المؤلف، قال: ييسر الله أسباب الرزق لبعض الناس، ولا يُعطى بعض الناس لأسباب، هذا فضلُ الله، لكن على الإنسان أن يدعو ربه، ويضرع إلى الله ويسأله أن يُوفقه للعمل الصالح، وللتوبة النصوح، وللأعمال الصالحة التي يزيد بها إيمانه، ويسأل الله العلم النافع، والعمل الصالح، الإنسان عليه أن يضرع إلى الله ويسأله، ويسأله من فضله، وهو لا يخيب من دعاه ورجاه، نعم.
(المتن)
وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّةِ إذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ وَعْدُ الْجَنَّةِ مُعَلَّقًا بِاسْمِ الْإِسْلَامِ كَمَا عُلِّقَ بِاسْمِ الْإِيمَانِ وَكَمَا عُلِّقَ بِاسْمِ التَّقْوَى، وَاسْمُ الْبِرِّ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ [القمر: 54]، وَقَوْلِهِ: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ [الانفطار: 13]، وَبَاسِمِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: 62]، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس: 63، 64].
فَلَمَّا لَمْ يَجْرِ اسْمُ الْإِسْلَامِ هَذَا الْمَجْرَى عُلِمَ أَنَّ مُسَمَّاهُ لَيْسَ مُلَازِمًا لِمُسَمَّى الْإِيمَانِ كَمَا يُلَازِمُهُ اسْمُ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَنَّ اسْمَ الْإِسْلَامِ يَتَنَاوَلُ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يُثِيبُهُ عَلَى طَاعَتِهِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ فِي قَلْبِهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعَذَابَ فَهَذَا يُعَاقِبُهُ اللَّهُ وَلَا يُخْلِدُهُ فِي النَّارِ؛ لِأَنَّ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ.
وَهَكَذَا سَائِرُ أَهْلِ الْكَبَائِرِ إيمَانُهُمْ نَاقِصٌ وَإِذَا كَانَ فِي قَلْبِ أَحَدِهِمْ شُعْبَةُ نِفَاقٍ عُوقِبَ بِهَا إذَا لَمْ يَعْفُ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يَخْلُدْ فِي النَّارِ فَهَؤُلَاءِ مُسْلِمُونَ وَلَيْسُوا مُؤْمِنِينَ وَمَعَهُمْ إيمَانٌ.
لَكِنَّ مَعَهُمْ أَيْضًا مَا يُخَالِفُ الْإِيمَانَ مِنْ النِّفَاقِ فَلَمْ تَكُنْ تَسْمِيَتُهُمْ مُؤْمِنِينَ بِأَوْلَى مِنْ تَسْمِيَتِهِمْ مُنَافِقِينَ لَا سِيَّمَا إنْ كَانُوا لِلْكُفْرِ أَقْرَبَ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ وَهَؤُلَاءِ يَدْخُلُونَ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا كَمَا يَدْخُلُ الْمُنَافِقُ الْمَحْضُ وَأَوْلَى لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مَعَهُمْ إيمَانٌ يَدْخُلُونَ بِهِ فِي خِطَابِ اللَّهِ بِـ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَهُمْ بِمَا يَنْفَعُهُمْ وَنَهْيٌ لَهُمْ عَمَّا يَضُرُّهُمْ وَهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَى ذَلِكَ.
(الشرح)
فإن المؤلف رحمه الله بيَّن فيما سبق أن مُسمى الإيمان، أن الأعمال داخلةٌ في مُسمى الإيمان؛ أعمال القلوب، وأعمال الجوارح، وأقوال اللسان، وتصديق القلب كلها داخلةٌ في مُسمى الإيمان خلافًا للمُرجئة على اختلاف طوائفهم القائلين: بأن الأعمال غير داخلةٍ في مُسمى الإيمان، وقد بيَّن المؤلف رحمه الله فيما سبق هذا الأمر، وقرره، واستدل له بنصوص من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله ﷺ، ونقل أقوال العلماء، والآثار والأحاديث والأسانيد التي تدلُ على ذلك، وأقوال أهل العلم، وأن أهلُ، وأن أهل الحديث وأهل الفقه كلهم أجمعوا على أن الأعمال داخلةٌ في مُسمى الإيمان، وأنهم أنكروا على المُرجئة نفيهم دخول الأعمال في مُسمى الإيمان.
ومن ذلك ما نقله عن أبي طالب المكي في كتابه قوت القلوب، إلا أن أبا طالب، إلا أن أبا طالب المكي قال: إن الإيمان يُنفى عمن فاته الكمال، والمؤلف رحمه الله بيَّن أن هذا القول مخالف لما دلت عليه النصوص، مخالف لما أجمع عليه أهلُ الحديث وأهلُ الفقه، فإن الإيمان لا يُنفى عمن فاته كمال الإيمان، وإنما يُنفى عمن فعل مُحرمًا أو ترك واجبًا، كما دلت النصوص الكثيرة على ذلك، والله تعالى إنما علق دخول الجنة باسم الإيمان، فالمؤمن بإطلاق هو الذي أدى الواجبات، وترك المحرمات هذا موعودٌ بالجنة، وهو اسمُ الإيمان اسمُ ثناء، وتزكية بخلاف من فعل كبيرةً من كبائر الذنوب، قصر في بعض الواجبات، وترك بعض المحرمات، فإنه يُنفى عنه الإيمان، ولكن يثبت له اسمُ الإسلام، اسمُ الإسلام لم يُعلق به دخول الجنة، وإنما أخبر الله أنه دينه الذي ارتضاه، وأنه فرضه على عباده، ولا يقبل الله من أحدٍ دين سواه، ولكن إنما علق دخول الجنة باسم الإيمان.
ولو كان من يُنفى عنه الإسلام، لو كان من يُنفى عنه الإيمان لكونه فاته كمال، لكونه فاته الكمال المستحب، للزم من ذلك أن يكونَ، أن يكون من يُنفى عنه الإيمان، يثبتُ الإيمان أيضًا للمسلم الذي فعل بعض المحرمات، أو ترك بعض الواجبات، ولزم من ذلك أن يكون الوعد بالجنة باسم الإسلام، وهذا مخالف للنصوص، النصوص فيها الوعد بالجنة إنما علق باسم الإيمان، لا باسم الإسلام.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّةِ إذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ" يعني ليس كلُ مسلم يعني نُفي، "إنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّةِ إذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ وَعْدُ الْجَنَّةِ مُعَلَّقًا بِاسْمِ الْإِسْلَامِ كَمَا عُلِّقَ بِاسْمِ الْإِيمَانِ وَكَمَا عُلِّقَ بِاسْمِ " التَّقْوَى " وَاسْمُ " الْبِرِّ "" وهذا مخالفٌ للنصوص، فإن اسم الجنة، فإن الجنة إنما عُلق باسم الإيمان، وباسم التقوى، وباسم البر، ولم يعلق باسم الإسلام. ثم ذكر المؤلف رحمه الله الأدلة التي دلت على أن الجنة عُلق، أن الوعد بالجنة عُلق على اسم التقوى، واسم البر، واسم الإيمان خاصة دون اسم الإسلام.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "عُلِّقَ بِاسْمِ الْإِيمَانِ وَكَمَا عُلِّقَ بِاسْمِ " التَّقْوَى " وَاسْمُ " الْبِرِّ " فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ [القمر: 54]" فوعد بالجنة على اسم التقوى، " وَقَوْلِهِ: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ [الانفطار: 13]" وعد على اسم البر، " وَبَاسِمِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس: 62، 63، 64]" فوعد على الجنة باسم الأولياء.
قال المؤلف رحمه الله: "فَلَمَّا لَمْ يَجْرِ اسْمُ الْإِسْلَامِ هَذَا الْمَجْرَى عُلِمَ أَنَّ مُسَمَّاهُ لَيْسَ مُلَازِمًا لِمُسَمَّى الْإِيمَانِ" يعني أن مُسمى الإيمان غير مُسمى الإسلام، وهذا أيضًا فيه الرد على أبي طالب المكي القائل بأن، بأن الإيمان والإسلام شيءٌ واحد، فمُسمى الإسلام غيرُ مُسمى الإيمان، مُسمى الإيمان بإطلاق لمن أدى الواجبات، وترك المحرمات، ومُسمى الإسلام كل من، كل من وحد الله وسلم من الشرك الأكبر، والنفاق الأكبر، والكفر الأكبر يُسمى مسلمًا؛ سواءٌ كان مُطيعًا، أو عاصيًا.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَلَمَّا لَمْ يَجْرِ اسْمُ الْإِسْلَامِ هَذَا الْمَجْرَى عُلِمَ أَنَّ مُسَمَّاهُ لَيْسَ مُلَازِمًا لِمُسَمَّى الْإِيمَانِ كَمَا يُلَازِمُهُ اسْمُ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَنَّ اسْمَ الْإِسْلَامِ يَتَنَاوَلُ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يُثِيبُهُ عَلَى طَاعَتِهِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ فِي قَلْبِهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعَذَابَ فَهَذَا يُعَاقِبُهُ اللَّهُ وَلَا يُخْلِدُهُ فِي النَّارِ؛ لِأَنَّ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ" يعني اسمُ الإسلام يتناول من هم من أهل الوعيد؛ يعني من أهل الكبائر، يتناول العاق، يتناول الزاني، والسارق، وشارب الخمر كلهم داخلون في اسم الإسلام، وإن كان الله يثيبهم على طاعته، فالزاني والسارق وشارب الخمر والمُرابي إذا عمل طاعة أثابه الله، ولكنه عاصي في فعله الكبيرة، والله يثيب على طاعته، مثلُ أن يكون في قلبه مثقال، أن يكون في قلبه إيمانٌ ونفاق يستحقُ به العذاب، هذا يعاقبه الله، ولا يُخلد في النار، يعني إذا دخلها؛ لأن في قلبه مثقال ذرة أو أكثر مثقال ذرة من إيمان.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَهَكَذَا سَائِرُ أَهْلِ الْكَبَائِرِ إيمَانُهُمْ نَاقِصٌ وَإِذَا كَانَ فِي قَلْبِ أَحَدِهِمْ شُعْبَةُ نِفَاقٍ عُوقِبَ بِهَا إذَا لَمْ يَعْفُ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يَخْلُدْ فِي النَّارِ" يعني أهل الكبائر، والذي في، عندهم شيءٌ من شعب الكفر، وشعب النفاق، والمراد بغير الكفر الأكبر، وغير النفاق الأكبر، هؤلاء تحت مشيئة الله كما قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48]، فهؤلاء إن لم يعفو الله عنهم، فإنهم معاقبون، إن لم يعفو الله عنهم فإنهم معاقبون بدخول النار، ولكن لا يُخلدون في النار.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَهَؤُلَاءِ مُسْلِمُونَ وَلَيْسُوا مُؤْمِنِينَ وَمَعَهُمْ إيمَانٌ. لَكِنَّ مَعَهُمْ أَيْضًا مَا يُخَالِفُ الْإِيمَانَ مِنْ النِّفَاقِ فَلَمْ تَكُنْ تَسْمِيَتُهُمْ مُؤْمِنِينَ بِأَوْلَى مِنْ تَسْمِيَتِهِمْ مُنَافِقِينَ" يعني عندهم إيمان وعندهم نفاق، فأيهما يُسمى هل يُسمى مؤمنًا، أو يُسمى منافق؟ ليس أحدهم بأولى من الآخر، ولذلك لا يُطلق عليه اسم الإيمان، ولا يُطلق عليه اسمُ النفاق، يعني النفاق العملي، قال: "لَا سِيَّمَا إنْ كَانُوا لِلْكُفْرِ أَقْرَبَ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ" إن كان شُعب الكفر، أو شُعب النفاق أغلب عليه، فإنه يُطلق عليه اسمُ الكفر، واسمُ النفاق، لكن المراد النفاق الأصغر.
قال المؤلف رحمه الله: "وَهَؤُلَاءِ يَدْخُلُونَ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا كَمَا يَدْخُلُ الْمُنَافِقُ الْمَحْضُ وَأَوْلَ" يعني هؤلاء العصاة كالزاني والسارق وشارب الخمر يدخلون في الإيمان، يُسمى مؤمن، كما أن المنافق الذي أظهر الإسلام وأبطن الكفر يدخل في اسم الإسلام، تُجرى عليه أحكام الإسلام الظاهرة، وإن كان في الآخرة في الدرك الأسفل من النار إذا مات على ذلك، فدخول العصاة في اسم الإيمان أولى من دخول المنافقين المحض.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَهَؤُلَاءِ يَدْخُلُونَ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا كَمَا يَدْخُلُ الْمُنَافِقُ الْمَحْضُ وَأَوْلَى لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مَعَهُمْ إيمَانٌ يَدْخُلُونَ بِهِ فِي خِطَابِ اللَّهِ بِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" يدخل العاصي والمطيع؛ " لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَهُمْ بِمَا يَنْفَعُهُمْ وَنَهْيٌ لَهُمْ عَمَّا يَضُرُّهُمْ وَهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَى ذَلِكَ "، نعم.
(المتن)
(الشرح)
المؤلف رحمه الله يبيِّن أن الإيمان الذي مع العُصاة يُدخلهم في اسمِ الإيمان من جهتين، إن قيل إن الشمول لفظ الخطاب يشملهم، فهذا واضح، وإن قيل لا يشملهم، فيقال إنهم أولى بدخول الإيمان من المنافقين، المنافق يدخل، يدخل في اسم الإيمان؛ لأنه أظهر الإيمان في الظاهر، فإذا كان المنافق يدخلُ في اسم الإيمان، فالعاصين من باب أولى، أما إذا قيل أنه يدخل، يشمله لفظُ الخطاب، فهذا واضح، فإذًا العصاة دخولهم في الإيمان من جهتين؛ إما أن يدخل لشمول الخطاب له، أو يدخل بكونه أولى من المنافق.
والمنافق الذي يعمل الأعمال، أعمال الإسلام في الظاهر تنفعه في الدنيا، وتنفعه في أول الأمر في يوم القيامة، ثم بعد ذلك يُمكر به والعياذُ بالله، ويذهبُ إلى النار، ولهذا فإن المنافقين في موقف القيامة يكونوا مع المؤمنين حينما ينادي منادٍ لتتبع كل أمة ما تعبد، فمَن كان يعبد الشمس يتبع الشمس، ومن كان يعبد القمر يتبع القمر، ومن كان يعبد الطواغيت يتبع الطواغيت، ويتساقطون في النار، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، معها منافقوها، فيتجلى الله لهم في الصورة ... فيسجدون، فيسجد المؤمن والمنافق يكون ظهره طبقًا، فلا يستطيع السجود.
ثم بعد ذلك يذهبون ويكون معهم النور، ثم يُطفأُ نور المنافقين، فإذا انطفأ وقفوا، فيقولون للمؤمنين: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ [الحديد: 13]، وهنا ينفصل المؤمنون من المنافقين.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "ثُمَّ إنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي مَعَهُمْ إنْ اقْتَضَى شُمُولَ لَفْظِ الْخِطَابِ لَهُمْ فَلَا كَلَامَ وَإِلَّا فَلَيْسُوا بِأَسْوَأِ حَالًا مِنْ الْمُنَافِقِ الْمَحْضِ وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ يُخَاطَبُ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ" يقال يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا"، " وَتَنْفَعُهُ فِي الدُّنْيَا وَيُحْشَرُ بِهَا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ سَائِرِ الْمِلَلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" يتميز عن الكفرة واليهود والنصارى والوثنيين، يكون مع المؤمنين؛ لأنه كان معهم في الدنيا.
"الْقِيَامَةِ كَمَا تَمَيَّزَ عَنْهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا" في الدنيا المنافقين صاروا مع المؤمنين، اليهود والنصارى منفصلون والوثنيين، والمنافقون مع المؤمنين في الدنيا، يعيشون بينهم، فلما كانوا معهم في الدنيا صاروا معهم في أول الأمر يوم القيامة، ولهذا قال، قال المؤلف رحمه الله: "وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ يُخَاطَبُ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ وَتَنْفَعُهُ فِي الدُّنْيَا وَيُحْشَرُ بِهَا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ سَائِرِ الْمِلَلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَمَيَّزَ عَنْهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا لَكِنَّ وَقْتَ الْحَقِيقَةِ" يُضرب بينهم، أي بين المؤمنين والمنافقين.
فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ يعني المنافقون ينادون المؤمنين ، أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ يعني في الدنيا نصلي معكم ونصوم ونجاهد ماذا أجابوهم؟، قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَة تفتدون بها أنفسكم، ما في فدية، ما فيه اليوم غير الحسنات والسيئات، " فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني الذين كفروا ظاهرًا وباطنًا، كلهم كفار في الباطن، مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحديد: 13 - 15] وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 145، 146]" وبهذا يتبين أن المؤمنين يدخلون في اسم الإيمان من باب أولى إذا كان المنافقون يدخلون في اسم الإيمان في الدنيا. نعم.
(المتن)
فَإِذَا عَمِلَ الْعَبْدُ صَالِحًا لِلَّهِ: فَهَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي هُوَ دِينُ اللَّهِ وَيَكُونُ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يُحْشَرُ بِهِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ ثُمَّ إنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الذُّنُوبِ مَا يُعَذَّبُ بِهِ عُذِّبَ وَأُخْرِجَ مِنْ النَّارِ؛ إذَا كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ نِفَاقٌ.
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي هَؤُلَاءِ: فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا فَلَمْ يَقُلْ: إنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِمُجَرَّدِ هَذَا إذْ لَمْ يَذْكُرْ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ بَلْ هُمْ مَعَهُمْ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَإِخْلَاصَهُ لِلَّهِ وَقَالَ: فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فَيَكُونُ لَهُمْ حُكْمُهُمْ.
وَقَدْ بَيَّنَ تَفَاضُلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَإِنَّهُ مَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ وَمَنْ كَانَ فِيهِ شُعْبَةُ نِفَاقٍ وَأَتَى بِالْكَبَائِرِ فَذَاكَ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ وَإِيمَانُهُ يَنْفَعُهُ اللَّهُ بِهِ؛ وَيُخْرِجُهُ بِهِ مِنْ النَّارِ وَلَوْ أَنَّهُ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ لَكِنْ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الِاسْمَ الْمُطْلَقَ الْمُعَلَّقُ بِهِ وَعْدُ الْجَنَّةِ بِلَا عَذَابٍ.
وَتَمَامُ هَذَا أَنَّ النَّاسَ قَدْ يَكُونُ فِيهِمْ مَنْ مَعَهُ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَشُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ أَوْ النِّفَاقِ وَيُسَمَّى مُسْلِمًا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد.
(الشرح)
يقول المؤلف رحمه الله: أن المؤمن إذا عمل العبد صالحًا لله، فإنه يدخلُ في دائرة الإسلام؛ لأن صلاح العمل يكونُ بشيئين:
الشيءُ الأَوَّل: أنْ يكون خالصًا لله.
والثاني: أنْ يكون موافقًا للشرع.
"فَإِذَا عَمِلَ الْعَبْدُ صَالِحًا لِلَّهِ: فَهَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي هُوَ دِينُ اللَّهِ وَيَكُونُ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يُحْشَرُ بِهِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ ثُمَّ إنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الذُّنُوبِ مَا يُعَذَّبُ بِهِ عُذِّبَ وَأُخْرِجَ مِنْ النَّارِ" إلا مَن يعفو الله عنه كما دلَّت النصوص.
"وَأُخْرِجَ مِنْ النَّارِ؛ إذَا كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ نِفَاقٌ" لأنه لا يُخلد في النار من كان معه شيءٌ من الإيمان، ولو كان مثقال حبةٍ من خردل، إنما يُخلد في النار من لم يكن معه شيءٌ من الإيمان، قال: "وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي هَؤُلَاءِ" يعني في المنافقين، أولئك الذين تابوا، "فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا فَلَمْ يَقُلْ: إنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِمُجَرَّدِ هَذَا إذْ لَمْ يَذْكُرْ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ بَلْ هُمْ مَعَهُمْ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَإِخْلَاصَهُ لِلَّهِ وَقَالَ: فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ" يعني إذا كانوا مؤمنين حقًا، فهم معهم، فيكون له حكمهم.
قال المؤلف رحمه الله: "وَقَدْ بَيَّنَ تَفَاضُلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَإِنَّهُ مَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ" يعني المؤمنين يتفاضلون لا شك في الأعمال، "وَمَنْ كَانَ فِيهِ شُعْبَةُ نِفَاقٍ وَأَتَى بِالْكَبَائِرِ فَذَاكَ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ وَإِيمَانُهُ يَنْفَعُهُ اللَّهُ بِهِ؛ وَيُخْرِجُهُ بِهِ مِنْ النَّارِ وَلَوْ أَنَّهُ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ لَكِنْ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الِاسْمَ الْمُطْلَقَ الْمُعَلَّقُ بِهِ وَعْدُ الْجَنَّةِ بِلَا عَذَابٍ" يعني: أن المؤمنين يتفاضلون في الإيمان، فمَن أتى بالإيمان الواجب استحقَّ الثواب، ومَن أتى بالكبائر فهو من أهل الوعيد، ومستحقٌّ دخول النار، لكن إيمانه ينفعه الله به، ولو كان معه كبيرة، ويخرج بهذا الإيمان من النار، ولو كان مثقال حبةٍ من خردل، لكن لا يستحق به الاسم المطلق المعلق به وعد الجنة بلا عذابٍ، لا يستحق الاسم المطلق، فلا يُقال مؤمن؛ لأنه إذا أُطلق عليه الإيمان، فقد استحق دخول الجنة، وهذا مرتكبٌ لكبيرة، ومستحقٌّ دخول النار، فيُسمى مسلمًا، ولا يُسمى مؤمنًا.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الِاسْمَ الْمُطْلَقَ الْمُعَلَّقُ بِهِ وَعْدُ الْجَنَّةِ بِلَا عَذَابٍ. وَتَمَامُ هَذَا أَنَّ النَّاسَ قَدْ يَكُونُ فِيهِمْ مَنْ مَعَهُ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَشُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ أَوْ النِّفَاقِ وَيُسَمَّى مُسْلِمًا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد" رحمه الله، يعني المراد بشعبة من شعب الكفر والنفاق، يعني المعاصي، المراد بالكفر الأصغر والنفاق الأصغر مثل ما جاء في الحديث: اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ([5])، هذه شعبة من شعب الكفر؛ الطعن في الكفر، والنياحة على الميت، ومثل ما جاء في الحديث: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وإذا خاصم فجر([6]) فإذا كان يكتفي الحديث قالوا يخلف في الوعد أو يفجر في الخصومة، أو يخون في الأمانة، أو يُخلف في الوعد، فإنه يكون فيه شعبة من شعب النفاق، لكنها هذه شعبة عملية لا تُخرج من الملة، فيكون مؤمن بما معه من الإيمان، وفيه شعب من شعب الكفر، أو شعب النفاق، كما نص على ذلك أحمد، الأئمة؛ كأحمد وغيره، نعم.
(المتن)
وَتَمَامُ هَذَا أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَشُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ النِّفَاقِ؛ وَقَدْ يَكُونُ مُسْلِمًا وَفِيهِ كُفْرٌ دُونَ الْكُفْرِ الَّذِي يَنْقُلُ عَنْ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا قَالَ الصَّحَابَةُ: ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ.
وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ السَّلَفِ وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِمَّنْ قَالَ فِي السَّارِقِ وَالشَّارِبِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ إنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْمِنِ.
إنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ: مُسْلِمُونَ لَا مُؤْمِنُونَ؛ وَاسْتَدَلُّوا بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى نَفْيِ اسْمِ الْإِيمَانِ مَعَ إثْبَاتِ اسْمِ الْإِسْلَامِ وَبِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَكُونُ مُسْلِمًا وَمَعَهُ كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ بَلْ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابُهُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44] قَالُوا: كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ وَكُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ.
وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا اسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، فَإِنَّ كِتَابَ الْإِيمَانِ الَّذِي افْتَتَحَ بِهِ الصَّحِيحَ قَرَّرَ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَضَمَّنَهُ الرَّدَّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ الْقَائِمِينَ بِنَصْرِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ.
(الشرح)
يقول المؤلف رحمه الله: "وَتَمَامُ هَذَا أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَشُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ النِّفَاقِ؛ وَقَدْ يَكُونُ مُسْلِمًا وَفِيهِ كُفْرٌ دُونَ الْكُفْرِ الَّذِي يَنْقُلُ عَنْ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ" يعني أن المسلم قد يكونُ فيه بعض المعاصي، قد يكون مرتكبًا لكبيرة، قد يكون فيه شعبة من شعب الكفر، شعبة من شعب النفاق، ولا يخرج عن اسم الإيمان، خلافًا للخوارج والمعتزلة الذين يقولون: إذا فعل الكبيرة كفر..
الخوارج يقولون: إذا فعل كبيرة، أو كان فيه شعبة من شعب الكفر، أو شعب النفاق خرج، كفرَ، وخرجَ من الإسلام، ودخل في الكفر، ويستحلون دمه وماله -والعياذُ بالله- ويُخلِّدونه في النار.
والمعتزلة يقولون: إذا فعلَ الكبيرة، أو كان فيه شعبةٌ من شعب الكفر خرج من الإيمان، ولم يدخل في الكفر، ويُسمى فاسقًا، لا مؤمن، ولا كافر، في منزلةٍ بين المنزلتين، وفي الآخرة يتفقون مع الخوارج في تخليده في النار، وكلٌّ من القولين باطل.
ولهذا أنكر أهل السنة على الخوارج والمعتزلة وبدَّعوهم وضللوهم في هذا القول الباطل، ولهذا قال المؤلف رحمه الله ليُقرِّرَ مذهب أهل السُّنَّة والجماعة؛ أن المسلم يكون فيه شيء من المعاصي، ولا يخرج عن دائرة الإسلام، ولا يُخلد في النار إذا دخلها، بل يُخرج منها بالإيمان الذي معه.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَتَمَامُ هَذَا أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَشُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ النِّفَاقِ؛ وَقَدْ يَكُونُ مُسْلِمًا وَفِيهِ كُفْرٌ دُونَ الْكُفْرِ الَّذِي يَنْقُلُ عَنْ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ" مثل: الطعن في النسب، والنياحة على الميت، ومثل الطِّيرة، وما أشبه ذلك، تعليق التمائم.
" كَمَا قَالَ الصَّحَابَةُ: ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ" يعني في قوله وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44]، كفرٌ دون كفر، الكفر الأصغر دون الكفر الأصغر، كفرٌ دون كفر، "وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ السَّلَفِ وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِمَّنْ قَالَ فِي السَّارِقِ وَالشَّارِبِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ إنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْمِنِ. إنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ: مُسْلِمُونَ لَا مُؤْمِنُونَ" يعني هذا قول أهل السُنة قاطبة، إن الذي نفى عنهم النبي الإيمان؛ كالزاني والسارق وشارب الخمر والعاق لوالديه يقال مسلمون لا مؤمنون، "وَاسْتَدَلُّوا بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى نَفْيِ اسْمِ الْإِيمَانِ مَعَ إثْبَاتِ اسْمِ الْإِسْلَامِ" فاسمُ الإيمان ثابتٌ له، واسمُ الإسلام منفيٌ عنه.
"وَبِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَكُونُ مُسْلِمًا وَمَعَهُ كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ بَلْ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ" هذا متفق عليه من أهل السنة والجماعة والذي دلت عليه النصوص، " كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابُهُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44] قَالُوا: كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ" يعني إذا حكم الحاكم في مسألة بخلاف ما أنزل الله، وهو يعلم أن حكم الله واجب، ولكن طاعة لهوى الشيطان، لأجل الرشوة، أو لأجل أن ينفع محكوم له، ويضر المحكوم عليه، هذا يكون كفرٌ دون كفر، كما قال: "كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ وَكُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ" يعني الكفر ينقسم إلى قسمين؛ كفر أصغر، وكفر أكبر، كفرٌ دون كفر، والفسق ينقسم إلى قسمين؛ فسقٌ أكبر، وهو فسق الكفر، وفسقٌ أصغر وهو فسقُ المعاصي، وظلمٌ دون ظلم، والظلم ينقسم إلى قسمين؛ ظلمٌ أكبر وهو ظلمُ الشرك والكفر، وظلمٌ أصغر وهو ظلمُ المعاصي.
قال المؤلف رحمه الله: "وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا اسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " فَإِنَّ كِتَابَ " الْإِيمَانِ " الَّذِي افْتَتَحَ بِهِ " الصَّحِيحَ " قَرَّرَ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ" يعني الإمام البخاري " وَضَمَّنَهُ الرَّدَّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ" المُرجئة الذين يقولون أن الأعمال غير داخلة في مُسمى الإيمان، "فَإِنَّهُ "يعني البخاري رحمه الله كَانَ مِنْ الْقَائِمِينَ بِنَصْرِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ" فالإمام البخاري رحمه الله افتتح كتاب البخاري افتتح كتابه الصحيح، كتاب الإيمان، يعني بعد كتاب الوحي، وختم كتابه بكتاب التوحيد، وهو من الأئمة أهل السنة الذي نصر الله بهم الحق، ونصربهم السنة، وقمع بهم البدع، نعم.
(المتن)
وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الظَّاهِرِ يَجْرِي عَلَى الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمْ اسْتَسْلَمُوا ظَاهِرًا؛ وَأَتْوَ بِمَا أَتَوْا بِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ بِالصَّلَاةِ الظَّاهِرَةِ وَالزَّكَاةِ الظَّاهِرَةِ وَالْحَجِّ الظَّاهِرِ وَالْجِهَادِ الظَّاهِرِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ فَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145] وَفِيهَا قِرَاءَتَانِ دَرْك وَدَرَك قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ ابْنُ فَارِسٍ: الْجَنَّةُ دَرَجَاتٌ وَالنَّارُ دَرَكَاتٌ.
قَالَ الضَّحَّاكُ: الدَّرَجُ: إذَا كَانَ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَالدَّرْكُ: إذَا كَانَ بَعْضُهَا أَسْفَلَ مِنْ بَعْضٍ.
فَصَارَ الْمُظْهِرُونَ لِلْإِسْلَامِ بَعْضُهُمْ فِي أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْعَبْدُ فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْم الْقِيَامَةِ([7]) وَقَوْلُهُ: ﷺ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مِثْلَ قَوْلِهِ: إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِحُدُودِهِ([8]) وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ أَخْشَى الْأُمَّةِ لِلَّهِ وَأَعْلَمُهُمْ بِحُدُودِهِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: اخْتَبَأَتْ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهِيَ نَائِلَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا([9]).
وَقَوْلُهُ: إنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ([10]) وَأَمْثَالُ هَذِهِ النُّصُوصِ وَكَانَ يَسْتَدِلُّ بِهِ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ كَمَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ خَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ وَالْمُنَافِقُونَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَإِنْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُسْلِمِينَ ظَاهِرًا تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةُ؛ فَمَنْ كَانَ فِيهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ يُسَمَّى مُسْلِمًا إذْ لَيْسَ هُوَ دُونَ الْمُنَافِقِ الْمَحْضِ وَإِذَا كَانَ نِفَاقُهُ أَغْلَبَ لَمْ يَسْتَحِقَّ اسْمَ الْإِيمَانِ بَلْ اسْمُ الْمُنَافِقِ أَحَقُّ بِهِ فَإِنَّ مَا فِيهِ بَيَاضٌ وَسَوَادٌ وَسَوَادُهُ أَكْثَرُ مِنْ بَيَاضِهِ هُوَ بِاسْمِ الْأَسْوَدِ أَحَقُّ مِنْهُ بِاسْمِ الْأَبْيَضِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ [آل عمران: 167] وَأَمَّا إذَا كَانَ إيمَانُهُ أَغْلَبَ وَمَعَهُ نِفَاقٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْوَعِيدَ لَمْ يَكُنْ أَيْضًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّةِ وَهَذَا حُجَّةٌ لِمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ عَنْ أَحْمَد وَلَمْ أَرَهُ أَنَا فِيمَا بَلَغَنِي مِنْ كَلَامِ أَحْمَد وَلَا ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ وَنَحْوَهُ.
(الشرح)
فإن المؤلف شيخ الإسلام بن تيميةرحمه الله ذكر فيما سبق مُسمى الإيمان، ومُسمى الإسلام، وأن مُسمى الإيمان عند أهل السنة والجماعة، عند جماهير أهل السنة والجماعة وكما دلت عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ تصديق بالقلب، وإقرارٌ باللسان، وعملٌ بالقلب، وعملٌ بالجوارح خلافًا للمُرجئة الذين يرون أن الإيمان مجرد تصديق القلب، وبعضهم كمُرجئة الفقهاء يرون أن الإيمان هو تصديقُ القلب، وإقرارٌ باللسان، ولا يرون دخول الأعمال في مُسمى الإيمان، فإن هذا باطل مخالفٌ لنصوص الكتاب والسنة، ولما قرره الصحابة والتابعون، وأئمة الإسلام، وكذلك مُسمى الإسلام، فإن مُسمى الإسلام، ومُسمى الإيمان بينهما فرق في أصح قولي العلماء، فمُسمى الإسلام بالأعمال الظاهرة، ومُسمى الإيمان الأعمال الباطنة عند اجتماعهما، وأما إذا انفرد أحدهما، فإنه يدخلُ فيه الآخر، هذا هو الصواب؛ الذي دلَّت عليه النصوص، والذي أقرَّه جمهورُ أهل السنة.
وقال بعض العلماء: إنَّ مُسمى الإيمان هو مُسمى الإسلام كما أقرَّه الإمام محمد بن نصر المروزي، كما أقرَّه الإمام البخاري وجماعة.
والصواب: الأَوَّل، ومَن أظهر الإسلام فإنه يُحكمُ عليه بالإسلام، وتُجرى عليه أحكام الإسلام في الظاهر، وأما في الباطن فهذا فيه تفصيل، فإن كان مؤمنًا في الباطن، فإنه يكونُ مسلمًا ظاهرًا وباطنًا، وإن كان منافقًا في الباطن فإنه تُجرى عليه أحكامُ الإسلام في الظاهر، وإذا مات على ذلك فهو في الدرك الأسفل من النار -نعوذ بالله-.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الظَّاهِرِ يَجْرِي عَلَى الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمْ اسْتَسْلَمُوا ظَاهِرًا؛ وَأَتْوَ بِمَا أَتَوْا بِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ بِالصَّلَاةِ الظَّاهِرَةِ وَالزَّكَاةِ الظَّاهِرَةِ وَالْحَجِّ الظَّاهِرِ وَالْجِهَادِ الظَّاهِرِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ يُجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرِ" هذا متفقٌ عليه بين المسلمين، ولذلك كان عبد الله بن أبي رئيس المنافقين، ومن معه من المنافقين على عهد النبي ﷺ تُجرى عليهم أحكامُ الإسلام في الظاهر، وكانوا يصلون مع النبي ﷺ، ويجاهدون معه، ويصومون، تُجرى عليهم أحكام الإسلام في الظاهر، ولما مات عبد الله بن أُبي وهو رئيسُ المنافقين أعطاه النبي ثوبه، أعطاه النبي ﷺ، كفن فيه، فأخرجه من حفرته لما دُلي في قبره ونفث فيه من ريقه، وأعطاه قميصه، وأجرى عليه أحكامُ الإسلام في الظاهر حتى نزل قول الله تعالى: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة: 84]، ثم بعد ذلك لم يصل النبي أبدًا على منافق بعدما نزلت الآية.
فالمقصود أن المنافق الذي لم يظهر نفاقه، وإنما أخفى نفاقه، وأظهر أعمال الإسلام، فإن تُجرى عليه أحكام الإسلام في الظاهر، ومن باب أولى ضعيفُ الإيمان تُجرى عليه أحكام الإسلام من باب أولى، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ فَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145]" يعني ولو كانت تُجرى عليه أحكام الإسلام في الظاهر، في الظاهر المنافقون لهم ظاهر، ولهم باطن، فباطنهم الكفر والعياذ بالله إذا ماتوا على ذلك في الدرك الأسفل من النار، وظاهرهم الإسلام إذا أظهروا أعمال الإسلام، وأخفوا ما يمكنونه، فإنها تُجرى عليهم أحكام الإسلام؛ إذا ماتوا يُغسلون، ويُصلى عليهم، ويُدفنون في مقابر المسلمين، ويتوارثون مع أقربائهم المسلمين، هذه أحكام الدنيا تختلف عن أحكام الآخرة.
قال المؤلف رحمه الله: "وَفِيهَا قِرَاءَتَانِ دَرْك وَدَرَك قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ ابْنُ فَارِسٍ: الْجَنَّةُ دَرَجَاتٌ وَالنَّارُ دَرَكَاتٌ. قَالَ الضَّحَّاكُ: الدَّرَجُ: إذَا كَانَ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ. وَالدَّرْكُ: إذَا كَانَ بَعْضُهَا أَسْفَلَ مِنْ بَعْضٍ" فالجنة درجات كل درجةٍ عُليا أعظم، أفضل نعيمًا من الدرجة التي تحتها، وفي الحديث: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض([11])، والنار -والعياذُ بالله- دركات، كل دركةٍ سُفلى أشد عذابًا من الدركةِ التي أعلى منها.
والمنافقون في الدرك في الأسفل من النار -نعوذ بالله-؛ لأن المنافقين شاركوا اليهود والنصارى والوثنيين في الشرك والكفر، وزادوا عليهم في الخداع، فلذلك صار عذابهم أشد نسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله: "فَصَارَ الْمُظْهِرُونَ لِلْإِسْلَامِ بَعْضُهُمْ فِي أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ" وبعضهم أقل، بعضهم أعلى لزيادة فضلهم في الإسلام، بعضهم في أعلى درجة في الجنة، "وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ" لأن المُظْهِر للإسلام طبقات؛ منهم المؤمنون المحسنون، ومنهم المؤمنون الذين لم يصلوا لدرجة الإحسان، ومنهم ضعفاء الإيمان، ولكنه معهم الإسلام، فهم درجات، فأعلاهم في أعلى درجات الجنة.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَصَارَ الْمُظْهِرُونَ لِلْإِسْلَامِ بَعْضُهُمْ فِي أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْعَبْدُ فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْم الْقِيَامَةِ وهذا الحديث رواه الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري في كتاب الصلاة، وكذا رواه النسائي وأحمد وغيرهم([12]). والرسول عليه الصلاة والسلام منزله الوسيلة هي في الفردوس الأعلى، وسقف عرش الرحمن.
"وَقَوْلُهُ: ﷺ: وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مِثْلَ قَوْلِهِ: إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِحُدُودِهِ([13])، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ أَخْشَى الْأُمَّةِ لِلَّهِ وَأَعْلَمُهُمْ بِحُدُودِهِ" يعني النبي ﷺ.
وهذا الحديث جزءٌ من حديثٍ رواه الإمام مسلم في كتاب الصيام، عن عائشةَ بلفظ: أَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي([14])، وفي لفظٍ لأحمد: إِنِّي أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَحْفَظُكُمْ لِحُدُودِهِ([15])، وفي سنن أبي داود في كتاب الصيام، بلفظ: وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّبِعُ([16]) -عليه الصلاةُ والسلام-.
فنبينا عليه الصلاة والسلام أخشى الناس وأتقى الناس، وأعلم الناس، وأشجع الناس، وأزهد الناس، وأكملهم في جميع الصفات الحميدة، وهو أول المسلمين من هذه الأمة، وأولُ المؤمنين، وأعلاهم درجة عليه الصلاةُ والسلام.
قال المؤلف رحمه الله: "وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: اخْتَبَأَتْ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهِيَ نَائِلَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا([17])" وهذا الحديث رواه الشيخان البخاري ومسلم، رواه البخاري عن أبي هريرةَ بلفظٍ: لكل نبيٍّ دعوة، فأريد إن شاء الله أن أختبأ دعوتي لأمتي يوم القيامة([18])، ورواه مسلم، ورواه أيضًا ابن ماجه، والترمذي وغيرهم، وهو حديثٌ صحيح.
"وَقَوْلُهُ: إنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ([19])" هذا الحديث رواه البخاري ورواه مسلم أيضًا وغيرهما، إنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ([20]) وَأَمْثَالُ هَذِهِ النُّصُوصِ" التي فيها أن المؤمنين، أن المسلمين بعضهم في أعلى درجات، يتفاوتون بعضهم في أعلى درجة في الجنة، وبعضهم أقل من ذلك.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَكَانَ يَسْتَدِلُّ بِهِ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ كَمَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ" يعني الإمام أحمد رحمه الله يستدل بهذا الحديث بقوله ﷺ: اخْتَبَأَتْ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهِيَ نَائِلَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ هذا استثناء، فَهِيَ نَائِلَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا فهذا الحديث وأمثاله إن شاء الله ومثل ما جاء في زيارة القبور: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ ([21])هذه الأحاديث استدل بها الإمامُ أحمد وغيره على جواز الاستثناء في الإيمان، وهي مسألةٌ فيها خلاف، وهو أن يقول الإنسان أنا مؤمنٌ إن شاء الله، هذه خالف فيها المُرجئة.
المُرجئة يمنعون الاستسلام في الإيمان، كما ستأتي هذه المسألة، ويقولون: لا تستثني، كيف تستثني؟ أنت تشك في إيمانك، أنت تعلم أنك مؤمن، تعلم أنك مصدق، فلا تشك، ولهذا يسمون المؤمنين الشكاكه، يشكون في إيمانكم، يعني الإنسان يعلم من نفسه أنه مؤمن كما يعلم أنه قرأ الفاتحة، وكما أنه يعلم في نفسه أنه يحب الرسول ﷺ، وأنه يبغض اليهود، وذلك لأنهم يرون الإيمان هو مجرد التصديق.
وأما جماهير أهل السنة فإنهم مفصلون، يقولون أنه إذا أراد الإنسان الشك في أصل الإيمان هذا ممنوع، أما إذا أراد أن الإيمان متعدد، وأنه له واجبات، وأن له حدود، ولا يُزكي الإنسان نفسه، ولا يلزم بأنه اجتمع عليه، فهو يستثنى لأن شعب الإيمان متعددة، هذا لا بأس، يقول أنا مؤمن إن شاء الله.
وكذلك إذا أراد التبرك بذكر اسمِ الله، له أن يستثنى، وكذلك إذا أراد عدم علمه بالعاقبة، ولهذا فإن الإمام أحمد رحمه الله وأهل السنة يستدلون بهذه الأحاديث على الاستثناء في الإيمان خلافًا للمُرجئة الذين لا يستثنون في الإيمان.
قال المؤلف رحمه الله: "وَالْمَقْصُودُ أَنَّ خَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ وَالْمُنَافِقُونَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَإِنْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُسْلِمِينَ ظَاهِرًا تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةُ" يعني فالذين تُجرى عليهم أحكامُ الإسلام في الظاهر منهم من هو في أعلى درجات الجنة، وهم النبي ﷺ والأنبياء وخيارُ المؤمنين، ومنهم من هو في دركات، في أسفل الدركات، وهم المنافقون؛ لأنهم أظهروا الإسلام، ولكن لم ينفعهم؛ لأنهم لم يؤمنوا باطنًا، فالمنافقون يصلون، ويصومون، ويحجون، ويعيشون بين المسلمين، ويُظهرون الإسلام، ولكنهم في الباطن يُكذبون الله ورسوله، فهم في الدرك الأسفل من النار، فلا ينفعهم هذا، إنما ينفعهم في الدنيا، كن لا ينفعهم في الآخرة.
يقول المؤلف رحمه الله: "فَمَنْ كَانَ فِيهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ يُسَمَّى مُسْلِمًا إذْ لَيْسَ هُوَ دُونَ الْمُنَافِقِ الْمَحْضِ" يعني إذا كان المنافق الذي يُظهر الإسلام، ويُبطن الكفر، يُسمى مسلم في الدنيا، يُسمى مسلمًا، وتُجرى عليه أحكامُ الإسلام في الظاهر، فمن باب أولى المؤمن ضعيفُ الإيمان، الذي يفعل المعاصي، يفعل الكبائر عنده شيء من شعب الإيمان، شعب الكفر، وعنده شيءٌ من شعب الشرك، وعنده شيءٌ من شعب النفاق، يعني المراد شعب الشرك وشعب النفاق، وشعب الكفر الذي لا يُخرج من الملة، وهي المعاصي التي سُميت كفرًا، أو شركًا مثل قوله ﷺ: اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ([22])، هذه من شعب الكفر، ومثل قوله ﷺ: مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كفر أو أَشْرَكَ([23])، فهذه من شعب الشرك، ومثل قوله ﷺ: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ([24]) هذه من خصال، من شعب النفاق.
فإذا كان المنافقون يُسمون مسلمين، وتُجرى عليهم أحكام الإسلام في الظاهر، فمن باب أولى إجراءُ أحكام الإسلام على المؤمن الذي فيه شيء من شعب الشرك، أو شيءٌ من شعب الكفر، أو شيءٌ من شعب النفاق، أو فيه شيءٌ من الكبائر، فمن باب أولى أن يُسمى مسلمًا.
يقول المؤلف: "إذْ لَيْسَ هُوَ دُونَ الْمُنَافِقِ الْمَحْضِ" يعني أقل منه، فإذا كان المنافق المحض، المحض الخالص الذي ليس عنده شيءٌ من الإيمان، إذا كان المنافق المحض إذا أظهر الإسلام تُجرى عليه أحكامُ الإسلام، فإجراءُ أحكامُ الإسلام على المؤمن ضعيف الإيمان بسبب من باب أولى للمؤمن ضعيف الإيمان، الذي ضعف إيمانه بارتكاب الكبائر، أو بفعله شيءٍ من شعب الشرك الأصغر، أو شيءٌ من شعب الكفر الأصغر، أو شيءٌ من شعب النفاق الأصغر من باب أولى.
يقول المؤلف رحمه الله: "كَانَ نِفَاقُهُ أَغْلَبَ لَمْ يَسْتَحِقَّ اسْمَ الْإِيمَانِ بَلْ اسْمُ الْمُنَافِقِ أَحَقُّ بِهِ فَإِنَّ مَا فِيهِ بَيَاضٌ وَسَوَادٌ وَسَوَادُهُ أَكْثَرُ مِنْ بَيَاضِهِ هُوَ بِاسْمِ الْأَسْوَدِ أَحَقُّ مِنْهُ بِاسْمِ الْأَبْيَضِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ [آل عمران: 167]" يعني إذا كان الإنسان عنده نفاق، عنده شيءٌ من شعب النفاق، وعنده وهو مؤمن لكن شعب النفاق أكثر، وأغلب، فإن الحكم للأغلب، فتسميته منافق أولى من تسميته مؤمنًا.
وكذلك إذا كان غلب عليه شعب الشرك، تسميته مشركًا أغلب من كونه مؤمنًا، وكذلك إذا غلبت عليه شعب النفاق، والمراد بالشرك هنا الشرك الأصغر، والكفر الأصغر، أما الشرك الأكبر والنفاق الأكبر والكفر الأكبر فهذا لا يمكن أن يجتمع مع الإيمان، لا يمكن، ولا يمكن أن يبقي على شيءٌ من الإيمان، ولا يمكن أن يجتمع النفاق الأكبر الذي يُخرج من الملة، والشرك الأكبر والكفر الأكبر مع الإيمان، بل إذا وُجد الإيمان انتفى الشرك الأكبر، والكفر الأكبر، والنفاق الأكبر، وإذا وُجد النفاق الأكبر، أو الشرك الأكبر، أو الكفر الأكبر انتفى الإيمان، ولا يمكن أن يجتمعان، ولكن المراد النفاق الأصغر؛ المعاصي، نفاق العمل، وكذلك الشرك الأصغر، وكذلك الكفر الأصغر، فإذا كان النفاق أغلب، أو الشرك أغلب، أو الكفر أغلب لم يستحق اسم الإيمان بل اسمُ منافق أو مشرك أحق ُبه.
استدل المؤلف رحمه الله، أو مثَّل بمثال الشرك، فقال: "فَإِنَّ مَا فِيهِ بَيَاضٌ وَسَوَادٌ وَسَوَادُهُ أَكْثَرُ مِنْ بَيَاضِهِ هُوَ بِاسْمِ الْأَسْوَدِ أَحَقُّ مِنْهُ بِاسْمِ الْأَبْيَضِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ [آل عمران: 167]" فهم في بعض الأحيان يكونون أقرب للإيمان، وفي بعض الأحيان يكونون أقرب إلى الكفر؛ لأن المنافقين درجات منهم عنده شيءٌ من الإيمان، ثم يزول، ومنهم من يأت، يخبو، يجد الإيمان ثم يخبو، وهكذا.
قال المؤلف رحمه الله: "وَأَمَّا إذَا كَانَ إيمَانُهُ أَغْلَبَ وَمَعَهُ نِفَاقٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْوَعِيدَ لَمْ يَكُنْ أَيْضًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّةِ" يعني إذا كان إيمانه أغلب، لكن معه نفاق يستحق الوعيد، ارتكب كبيرة؛ كالزنا، أو السرقة، أو شرب الخمر، أو عقوق الوالدين، أو قطيعة الرحم، أو التعامل بالربا، لم يكن أيضًا من المؤمنين الموعودين بالجنة، بل هذا من الموعودين بالنار؛ آكل مال اليتيم متوعد بالنار، وإذا ارتكب القتل متوعد بالنار، وإن كان لا يُخلد فيها، إذا مات، إذا دخل النار، ولم يعف الله عنه، فإنه لا يُخلد في النار، لا يُخلد، لا يُخلد في النار؛ لأنه ليس، لأنه معه إيمان.
هذا الإيمانُ الذي معه يُخرج به من النار، ويدخل الجنة، وأما إذا كان، لأن المعاصي وإن عظمت ولو كثرت فإنها لا تقضي على الإيمان، بل يبقى شيءٌ من الإيمان، حتى إنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من إيمان، ولكن الكفر الأكبر، والشرك الأكبر، والنفاق الأكبر يقضي على الإيمان، ولا يبقى معه شيء. قال المؤلف رحمه الله: "وَهَذَا حُجَّةٌ لِمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ عَنْ أَحْمَد وَلَمْ أَرَهُ أَنَا فِيمَا بَلَغَنِي مِنْ كَلَامِ أَحْمَد وَلَا ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ وَنَحْوَهُ" نعم.
(المتن)
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: وَحَكَى غَيْرُ هَؤُلَاءِ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَتَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ: الزِّنَا وَالسَّرِقَةَ وَشُرْبَ الْخَمْرِ وَالنُّهْبَةَ الَّتِي يَرْفَعُ النَّاسُ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ إلَيْهِ أَوْ مِثْلِهِنَّ أَوْ فَوْقِهِنَّ فَهُوَ مُسْلِمٌ وَلَا أُسَمِّيه مُؤْمِنًا وَمَنْ أَتَى دُونَ الْكَبَائِرِ نُسَمِّيه مُؤْمِنًا نَاقِصَ الْإِيمَانِ فَإِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُ: لِمَا نَفَى عَنْهُ النَّبِيُّ ﷺ الْإِيمَانَ نَفَيْته عَنْهُ كَمَا نَفَاهُ عَنْهُ الرَّسُولُ ﷺ وَالرَّسُولُ لَمْ يَنْفِهِ إلَّا عَنْ صَاحِبِ كَبِيرَةٍ وَإِلَّا فَالْمُؤْمِنُ الَّذِي يَفْعَلُ الصَّغِيرَةَ هِيَ مُكَفِّرَةٌ عَنْهُ بِفِعْلِهِ لِلْحَسَنَاتِ وَاجْتِنَابِهِ لِلْكَبَائِرِ لَكِنَّهُ نَاقِصُ الْإِيمَانِ عَمَّنْ اجْتَنَبَ الصَّغَائِرَ فَمَا أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ وَلَكِنْ خَلَطَهُ بِسَيِّئَاتِ كَفَّرَتْ عَنْهُ بِغَيْرِهَا وَنَقَصَتْ بِذَلِكَ دَرَجَتُهُ عَمَّنْ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ.
وَأَمَّا الَّذِينَ نَفَى عَنْهُمْ الرَّسُولُ الْإِيمَانَ فَنَنْفِيه كَمَا نَفَاهُ الرَّسُولُ وَأُولَئِكَ وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ التَّصْدِيقُ وَأَصْلُ الْإِيمَانِ فَقَدْ تَرَكُوا مِنْهُ مَا اسْتَحَقُّوا لِأَجْلِهِ سَلْبَ الْإِيمَانِ وَقَدْ يَجْتَمِعُ فِي الْعَبْدِ نِفَاقٌ وَإِيمَانٌ وَكُفْرٌ وَإِيمَانٌ فَالْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ مَا كَانَ صَاحِبُهُ مُسْتَحِقًّا لِلْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ.
(الشرح)
نقل المؤلف رحمه الله، نقل عن محمد بن نصر: "وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: وَحَكَى غَيْرُ هَؤُلَاءِ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ قَالَ:" يعني الإمام أحمد رحمه الله، "مَنْ أَتَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ: الزِّنَا وَالسَّرِقَةَ وَشُرْبَ الْخَمْرِ وَالنُّهْبَةَ الَّتِي يَرْفَعُ النَّاسُ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ إلَيْهِ أَوْ مِثْلِهِنَّ أَوْ فَوْقِهِنَّ فَهُوَ مُسْلِمٌ وَلَا أُسَمِّيه مُؤْمِنًا" يشير إلى الحديث: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُو مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ إِلَيْهِ فِيهَا النَّاسُ أَعْيُنَهُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ([25])، فالرسول عليه الصلاة والسلام نفى الإيمان عن هؤلاء: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُو مُؤْمِنٌ، نفى الإيمان عن الزاني، و نفى الإيمان عن السارق، ونفى الإيمان عن شارب الخمر، ونفى الإيمان عن الناهب.
فحُكي عن الإمام أحمد أنه قال: من فعل شيئًا من هذه الأربعة، أو مثلهن، أو فوقهن، فهو مسلم، ولا أسميه مؤمنًا، لماذا؟ لأن الرسول ﷺ نفى عنه الإيمان، والمراد بالإيمان الذي نُفى عنه كمال الإيمان الواجب، وليس المراد أصل الإيمان؛ أصلُ الإيمان لا يُنفى عنه؛ لأنه ليس بكافر، لو كان، لو كان من نُفى عنه الإيمان مثل الزاني والسارق وشارب الخمر لو كان كافرًا لوجب قتله، وإقامة حد الرِدة عليه، ولم يُجلد، ولم يُرجم، ولم يُحصل توارث بينه وبين أقاربه، بين أقاربه المسلمين، لكن الإيمان هنا المنفي هو الإيمان الواجب الكامل الذي يستحق به دخول الجنة، والنجاة من النار، هذا هو المنفي عنه، فإن الزاني لا يستحق دخول الجنة، بل هو متوعدٌ بالنار، وإن كان إذا دخلها، فإنه لا يُخلد فيها، لكن لا ليس موعودًا بالجنة، وإنما هو موعود بالنار.
ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: "فَهُوَ مُسْلِمٌ وَلَا أُسَمِّيه مُؤْمِنًا" فالمسلم يُطلق على العاصي وعلى المطيع،كل منهم العاصي الذي قصر في بعض الواجبات، وفعل شيء من المحرمات يُسمى مسلم، ولا يُسمى مؤمن عند الإطلاق، ولكن إذا أُريد إطلاق الإيمان عليه، إذا أريد وصفه بالإيمان فإنه يُقيد في النفي والإثبات؛ فيقال في الإثبات: مؤمنٌ ناقصٌ الإيمان، أو مؤمنٌ عاصي، أو مؤمنٌ بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته، وفي النفي لا يقال ليس بمؤمن، بل يقال: ليس بصادق الإيمان، ليس بمؤمنٍ حقًا؛ لأن نفي الإيمان، إذا نفي الإيمان هذا هو مذهب الخوارج، الخوارج يقولون ليس بمؤمن يكفرونه، وكذلك المعتزلة، وكذلك إذا أُثبت الإيمان له، فهذا مذهب المُرجئة، فأهل السنة وسط، مذهبهم وسط بين مذهب المُرجئة الذين يُكفرون مرتكب الكبيرة، ويُخلدونه في النار، وبين مذهب المُرجئة الذين يرون أن المعاصي والكبائر وشعب الشرك لا تؤثر في الإيمان شيئًا، بل يرون أن المعاصي والكبائر تؤثر في الإيمان وتضعفه وتنقصه، لكنها لا تُخرجه من الإيمان إلى الكفر.
ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: فهو يُسمى مسلم كما قال الإمام أحمد يُسمى مسلم، ولا يُسمى مؤمن، يعني بالإطلاق، فيُقال هو مسلمٌ، ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: "فَهُوَ مُسْلِمٌ وَلَا أُسَمِّيه مُؤْمِنًا".
قال المؤلف رحمه الله: "وَمَنْ أَتَى دُونَ الْكَبَائِرِ نُسَمِّيه مُؤْمِنًا نَاقِصَ الْإِيمَانِ فَإِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُ: لِمَا نَفَى عَنْهُ النَّبِيُّ ﷺ الْإِيمَانَ نَفَيْته عَنْهُ كَمَا نَفَاهُ عَنْهُ الرَّسُولُ ﷺ وَالرَّسُولُ لَمْ يَنْفِهِ إلَّا عَنْ صَاحِبِ كَبِيرَةٍ" يعني فالذي لا يسميه مؤمنًا يقول أن نقول مثل ما قال الرسول، الرسول قال ليس بمؤمن، أنا أقول ليس بمؤمن، لكن ليس المراد بالإيمان المنفي أصلُ الإيمان، لا، أصلُ الإيمان موجودٌ معه، و لكن المراد الإيمان المنفي هو الإيمانُ الواجب الكامل الذي تبرأ به ذمته، ويستحق به دخول الجنة، والنجاة من النار.
قال المؤلف رحمه الله: "وَإِلَّا فَالْمُؤْمِنُ الَّذِي يَفْعَلُ الصَّغِيرَةَ هِيَ مُكَفِّرَةٌ عَنْهُ بِفِعْلِهِ لِلْحَسَنَاتِ وَاجْتِنَابِهِ لِلْكَبَائِرِ لَكِنَّهُ نَاقِصُ الْإِيمَانِ عَمَّنْ اجْتَنَبَ الصَّغَائِرَ" يعني المؤمن الذي يفعلُ الصغيرة، الصغيرة تُكفر عنها باجتناب الكبائر، إذا فعل المسلم الفرائض والواجبات واجتنب الكبائر، كفر الله عنه الصغائر فضلًا منه وإحسانًا، كما قال الله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء: 31]، ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، ورمضان إلى رمضان، كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ([26]).
ولكنه، يقول المؤلف رحمه الله: "وَإِلَّا فَالْمُؤْمِنُ الَّذِي يَفْعَلُ الصَّغِيرَةَ هِيَ مُكَفِّرَةٌ عَنْهُ بِفِعْلِهِ لِلْحَسَنَاتِ وَاجْتِنَابِهِ لِلْكَبَائِرِ لَكِنَّهُ نَاقِصُ الْإِيمَانِ عَمَّنْ اجْتَنَبَ الصَّغَائِرَ فَمَا أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ وَلَكِنْ خَلَطَهُ بِسَيِّئَاتِ كَفَّرَتْ عَنْهُ بِغَيْرِهَا وَنَقَصَتْ بِذَلِكَ دَرَجَتُهُ عَمَّنْ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ. وَأَمَّا الَّذِينَ نَفَى عَنْهُمْ الرَّسُولُ الْإِيمَانَ فَنَنْفِيه كَمَا نَفَاهُ الرَّسُولُ" يعني مثل الزاني والسارق وشارب الخمر، يعني ننفيه بدرجة الكمال، الإيمان الواجب، "وَأُولَئِكَ وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ التَّصْدِيقُ وَأَصْلُ الْإِيمَانِ فَقَدْ تَرَكُوا مِنْهُ مَا اسْتَحَقُّوا لِأَجْلِهِ سَلْبَ الْإِيمَانِ" وأولئك العُصاة الذين ارتكبوا الكبائر، الذين ارتكبوا الكبائر كالزاني والسارق وشارب الخمر، وإن كان معهم التصديق، وأصلُ الإيمان، يعني هم مؤمنون بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، لقد تركوا منه ما استحقوا لأجله سلب الإيمان، تركوا الواجبات التي تركوها، أو المحرمات التي ارتكبوها، تركوا منه ما استحقوا لأجله سلب الإيمان.
قال المؤلف رحمه الله: "وَقَدْ يَجْتَمِعُ فِي الْعَبْدِ نِفَاقٌ وَإِيمَانٌ وَكُفْرٌ وَإِيمَانٌ فَالْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ مَا كَانَ صَاحِبُهُ مُسْتَحِقًّا لِلْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ" يعني ايه يجتمع في العبد نفاقٌ وإيمان كفرٌ، وإيمان؟ والمراد بالنفاق والكفر الأصغر، لكن الإيمان المطلق عند أهل السنة ما كان صاحبه مستحقًا للوعد بالجنة، وهذا هو الذي أدى الواجبات وترك المحرمات، المؤمن الذي أدى الواجبات، وترك المحرمات، هذا هو الذي يُطلق عليه الإيمان، ويُقال هو مؤمن، نعم.
(المتن)
وَطَوَائِفُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَالْمُرْجِئَةِ كراميهم وَغَيْرِ كراميهم يَقُولُونَ: إنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ فِي الْعَبْدِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ.
وَمِنْ هُنَا غَلِطُوا فِيهِ وَخَالَفُوا فِيهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَآثَارَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ مَعَ مُخَالَفَةِ صَرِيحِ الْمَعْقُولِ؛ بَلْ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ طَرَدُوا هَذَا الْأَصْلَ الْفَاسِدَ، وَقَالُوا: لَا يَجْتَمِعُ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ طَاعَةٌ يَسْتَحِقُّ بِهَا الثَّوَابَ وَمَعْصِيَةٌ يَسْتَحِقُّ بِهَا الْعِقَابَ، وَلَا يَكُونُ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ مَحْمُودًا مِنْ وَجْهٍ، مَذْمُومًا مِنْ وَجْهٍ، وَلَا مَحْبُوبًا مَدْعُوًّا لَهُ مِنْ وَجْهٍ مَسْخُوطًا مَلْعُونًا مِنْ وَجْهٍ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ جَمِيعًا عِنْدَهُمْ بَلْ مَنْ دَخَلَ إحْدَاهُمَا لَمْ يَدْخُلْ الْأُخْرَى عِنْدَهُمْ.
وَلِهَذَا أَنْكَرُوا خُرُوجَ أَحَدٍ مِنْ النَّارِ أَوْ الشَّفَاعَةَ فِي أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ.
وَحَكَى عَنْ غَالِيَةِ الْمُرْجِئَةِ أَنَّهُمْ وَافَقُوهُمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ قَالُوا: إنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يَدْخُلُونَ النَّارَ مُقَابَلَةً لِأُولَئِكَ.
(الشرح)
فإن المؤلف رحمه الله بيَّن في هذا الكتاب العظيم، وهو كتابُ الإيمان الكبير مُسمى الإيمان عند أهل الحق، عند أهل السنة والجماعة، الصحابة والتابعين، ومن، والأئمة الذين تلقوا مُسمى الإيمان عن الرسل عليهم الصلاة والسلام، ومن كتاب الله، ومن كتب الله المُنزلة، والصحابةُ والتابعون، وبعض من الأئمة أخذوا مُسمى الإيمان من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وأن مُسماه تصديقٌ وإقرارٌ بالقلب، وعملٌ وحركةٌ ومحبةٌ في القلب، وإقرارٌ باللسان، وعملٌ بالجوارح، وقد خالف أهل السنة والجماعة طوائف أهل البدع على اختلافهم من الخوارج والمعتزلة، والجهمية والمُرجئة، كل هؤلاء خالفوا معتقدات السُنة والجماعة، فالخوارج خالفوا أهل السنة، الخوارج والمعتزلة خالفوا أهل السنة والجماعة في أن الإيمان يتبعض ويتجزأ.
والخوارج والمعتزلة وإن وافقوا على السُنة في أن مُسمى الإيمان، أي أن الأعمال داخلة في مُسمى الإيمان، إلا أنهم يرون أنه، أن المسلم إذا فعل كبيرة، أو ترك واجبًا من الواجبات فإنه يخرجُ من الإيمان، ويدخل في الكفر، ويخلدونه في النار، والمعتزلة وافقوهم في تخليده في النار، وخالفوهم في مُسماه في الدنيا، فإنهم يقولون: إن مرتكب الكبيرة في الدنيا يخرجُ من الإيمان، ولا يدخلُ في الكفر، بل يكون في منزلةٍ بين منزلتين، لا مؤمن ولا كافر، وفي الآخرة يوافقون الخوارج على تخليده في النار.
والجهمية والمُرجئة والكرامية، وغير الكرامية كلهم يقولون إن الإيمان هو مجرد التصديق في القلب، وهذه الأعمال لا تدخل في مُسمى الإيمان، فهم يقابلون الخوارج والمعتزلة؛ فالخوارج والمعتزلة يرون أن الأعمال داخلة في مُسمى الإيمان إلا أن الإنسان إذا ترك شيئًا منها خرج من الإيمان، ودخل في الكفر، والجهمية والمُرجئة يرون أن الأعمال لا تُخرج من مُسمى الإيمان، وأن مجرد التصديق في القلب يكفي، وهم يتفقون جميعًا على أنه لا يجتمع في العبد إيمانٌ ونفاق، وشركٌ وتوحيد، يتفقون على هذا.
فالخوارج يرون -وكذلك المعتزلة- أنه لا يجتمع في الإنسان شركٌ وتوحيد، وإيمانٌ ونفاق، وإيمانٌ وكفر؛ لأنهم يرون أن الإنسان إذا فعل شيئًا من الشرك، أو من الكفر، ولو كان أصغر أو النفاق، خرج من الإيمان ودخل في الكفر.
وكذلك أيضًا يوافقهم على هذا الأصل الجهمية والمُرجئة وغيرهم: يرون أنه لا يجتمع في الإنسان نفاقٌ وكفر، وشركٌ وتوحيد، وإيمانٌ ونفاق؛ لأنهم يرون أن الإيمان هو التصديق، والأعمال لا تدخل في مُسمى الإيمان، فإذا وُجد التصديق، وُجد الإيمان، وإذا انتفى التصديق وُجد الكفر، ولا يجتمع فيه الأمران.
بل إن الخوارج والمعتزلة طردوا هذا الأصل الفاسد، وقالوا: لا يجتمع في الشخص الواحد طاعةٌ ومعصية، لا يجتمعان، بل إما مطيع، وإما عاصٍ، إذا فعلَ المعصية كفر، لابد أن يفعل الطاعات كلها، حتى يُسمى مطيعًا، فإذا فعلَ معصيةً خرجَ من الإيمان إلى الكفر، وصار عاصيًا، فلا يجتمعُ في الشخص الواحد طاعة ومعصية.
وهذا من أفسد ما قيل في هذا، وأما أهل السنة والجماعة فهم قدانفصلوا عن هؤلاء كلهم، يرون أن الإيمان تصديقٌ بالقلب، وإقرارٌ باللسان، وعمل بالقلب، وعملٌ بالجوارح، وأن الإيمان يتبعض ويتجزأ، ويبقى بعضه، ويذهب بعضه، ولا يخرج ولا ينتهي الإيمان إلا بالكفر الأكبر، أو النفاق الأكبر، أو الشرك الأكبر.
ويقولون: إنَّ الشخص الواحد تجتمعُ فيه طاعة ومعصية، يكون مطيعًا من وجه، وعاصيًا من وجه، فيكون محمودًا من وجه، ومذمومًا من وجه، ويكونُ أيضًا مُستحقًّا للعقاب من وجه، ومُستحقًّا للثواب من وجه، ويكونُ أيضًا محمودًا من وجه، ممدوحًا من وجه، مدعوًا له من وجه، مسخوطًا ملعونًا من وجه، يجتمع هذا وهذا، هذا هو الذي أقرَّه أهل السنة والجماعة والذي دلت عليه النصوص.
فمثلًا المؤمن الموحد الذي يحافظ على الصلوات ويؤدي زكاة ماله، ويصوم رمضان، ويحج بيت الله الحرام، وعنده غيرةً على محارمه، هذا مؤمن، يُثاب على أعماله، ويُدعي له، ويُحمد ويستحق الثواب، لكن من جهة أخرى تجده عاقًا لوالديه، يتعامل بالربا، يؤذي جيرانه، يشرب المسكرات، فيكون مدعوًا عليه، يُدعى عليه من وجه، يُلعن من هذا الوجه، الرسول لعن آكل الربا، يكون ملعونًا من وجه، أو يكون رشوة، يكون ملعون من وجه؛ من جهة أنه يأكل الرشوة ملعون مسخوط مغضوب عليه، ومن جهة أنه يؤدي الصلوات الخمس، ويؤدي ما أوجب الله عليه مُثاب، يستحق كل الثواب، مُدعوًا له.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَطَوَائِفُ " أَهْلِ الْأَهْوَاءِ "" المراد بأهل الأهواء أهل البدع، " وَطَوَائِفُ " أَهْلِ الْأَهْوَاءِ " مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَالْمُرْجِئَةِ كراميهم وَغَيْرِ كراميهم يَقُولُونَ: إنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ فِي الْعَبْدِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ" بل الإنسان إما مؤمن وإما منافق" وَنِفَاقٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ" يعني أبو الحسن الأشعري، "فِي بَعْضِ كُتُبِهِ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَمِنْ هُنَا غَلِطُوا فِيهِ وَخَالَفُوا فِيهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَآثَارَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ مَعَ مُخَالَفَةِ صَرِيحِ الْمَعْقُولِ" المؤلف رحمه الله بيَّن بطلان ما كانوا عليه؛ خالفوا الكتاب، وخالفوا السنة، وخالفوا آثار الصحابة، وخالفوا آثار التابعين، وخالفوا صريح العقل.
يقول المؤلف رحمه الله: "بَلْ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ طَرَدُوا هَذَا الْأَصْلَ الْفَاسِدَ وَقَالُوا: لَا يَجْتَمِعُ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ طَاعَةٌ يَسْتَحِقُّ بِهَا الثَّوَابَ وَمَعْصِيَةٌ يَسْتَحِقُّ بِهَا الْعِقَابَ" يعني إما مطيع وإما عاصي، يعني إذا فعل المعصية كفر، وصار عاصيًا، "وَلَا يَكُونُ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ مَحْمُودًا مِنْ وَجْهٍ مَذْمُومًا مِنْ وَجْهٍ وَلَا مَحْبُوبًا مَدْعُوًّا لَهُ مِنْ وَجْهٍ مَسْخُوطًا مَلْعُونًا مِنْ وَجْهٍ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ جَمِيعًا عِنْدَهُمْ" هذا معلوم؛ لأنهم يرون أن العاصي يُخلد في النار، فلا يمكن أن يخرج منها ويدخل الجنة، بخلاف أهل السنة والجماعة، فإنهم يرون أن الشخص الواحد يمكن أن يدخل النار والجنة، يدخل النار أولًا بمعاصيه، ثم يخرج منها إلى الجنة.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله يبيِّن مذهب الخوارج: "وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ جَمِيعًا عِنْدَهُمْ بَلْ مَنْ دَخَلَ إحْدَاهُمَا لَمْ يَدْخُلْ الْأُخْرَى عِنْدَهُمْ وَلِهَذَا أَنْكَرُوا خُرُوجَ أَحَدٍ مِنْ النَّارِ أَوْ الشَّفَاعَةَ فِي أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ" يعني الخوارج يرون أن العاصي مُخلد في النار، أما المؤمن المطيع فهو في الجنة، المؤمن المطيع في الجنة، المؤمن العاصي والكافر في النار، فلا يُتصور أن الواحد يدخل الجنة، النار والجنة جميعًا.
قال المؤلف رحمه الله: "وَحَكَى عَنْ غَالِيَةِ الْمُرْجِئَةِ أَنَّهُمْ وَافَقُوهُمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ" ما هو الأصل؟ الأصل أنه لا يمكن أن يدخل الإنسان الجنة والنار، وافقهم على هذا، لكنهم، " لَكِنَّ هَؤُلَاءِ قَالُوا: إنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يَدْخُلُونَ النَّارَ مُقَابَلَةً لِأُولَئِكَ" فغُلاة المُرجئة يقولون إن مرتكب الكبيرة وشعب الشرك وشعب الكفر يدخل الجنة من أول وهلة مادام أنه مُصدق، والخوارج والمعتزلة يقولون مرتكب الكبيرة مُخلد في النار، يعني اتفقوا على هذا الأصل، أنه، أن الشخص الواحد لا يدخل الجنة والنار جميعًا، لكن الخوارج والمعتزلة قالوا: إن العاصي يُخلد في النار، ولا يدخل الجنة، وغُلاة المُرجئة قالوا: إن العاصي إذا كان مصدقًا يدخل الجنة من أول وهلة، ولا يدخل النار، نعم.
(المتن)
وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ؛ وَسَائِرُ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ مُرْجِئَةِ الْفُقَهَاءِ والكَرَّامِيَة والْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَالشِّيعَةِ مُرْجِئِهِمْ وَغَيْرِ مُرْجِئِهِمْ فَيَقُولُونَ: إنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ قَدْ يُعَذِّبُهُ اللَّهُ بِالنَّارِ ثُمَّ يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ كَمَا نَطَقَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَهَذَا الشَّخْصُ الَّذِي لَهُ سَيِّئَاتٌ عُذِّبَ بِهَا وَلَهُ حَسَنَاتٌ دَخَلَ بِهَا الْجَنَّةَ وَلَهُ مَعْصِيَةٌ وَطَاعَةٌ بِاتِّفَاقِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفَ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي حُكْمِهِ؛ لَكِنْ تَنَازَعُوا فِي اسْمِهِ.
فَقَالَتْ الْمُرْجِئَةُ: جهميتهم وَغَيْرُ جهميتهم: هُوَ مُؤْمِنٌ كَامِلُ الْإِيمَانِ.
وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّهُ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا عُذِّبَ كَمَا أَنَّهُ نَاقِصُ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَهَلْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ مُؤْمِنٍ؟ هَذَا فِيهِ الْقَوْلَانِ وَالصَّحِيحُ التَّفْصِيلُ.
فَإِذَا سُئِلَ عَنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا كَعِتْقِهِ فِي الْكَفَّارَةِ.
قِيلَ: هُوَ مُؤْمِنٌ وَكَذَلِكَ إذَا سُئِلَ عَنْ دُخُولِهِ فِي خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَأَمَّا إذَا سُئِلَ عَنْ حُكْمِهِ فِي الْآخِرَةِ.
قِيلَ: لَيْسَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّةِ بَلْ مَعَهُ إيمَانٌ يَمْنَعُهُ الْخُلُودُ فِي النَّارِ وَيَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ بَعْدَ أَنْ يُعَذَّبَ فِي النَّارِ إنْ لَمْ يَغْفِرْ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ: هُوَ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ أَوْ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ وَاَلَّذِينَ لَا يُسَمُّونَهُ مُؤْمِنًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَمِنْ الْمُعْتَزِلَةِ يَقُولُونَ: اسْمُ الْفُسُوقِ يُنَافِي اسْمَ الْإِيمَانِ لِقَوْلِهِ: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ [الحجرات: 11] وَقَوْلُهُ: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا [السجدة: 18] وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ([27]).
(الشرح)
بيَّن المؤلف رحمه الله مذهب أهل السنة والجماعة والتابعين، ومن وافقهم من الطوائف، وأنهم يخالفون الخوارج والمعتزلة في إنكارهم خروج أحدٍ من النار بعد دخولها، وقولهم بخلود العُصاة في النار، بيَّن المؤلف رحمه الله أن أهل السنة والجماعة وكذلك كثيرٌ من الطوائف يخالفونهم في هذا الأصل الفاسد، وهو قولهم دخول العُصاة في النار، وعدم خروج أحدٍ منها، من المؤمنين.
فقال المؤلف رحمه الله: "وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ؛ وَسَائِرُ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ مُرْجِئَةِ الْفُقَهَاءِ والكَرَّامِيَة" المنسوبين إلى محمد بن كرام، " والْكُلَّابِيَة" أتباع عبد الله بن سعيد القطان، المعروف بابن كُلاب، "وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَالشِّيعَةِ مُرْجِئِهِمْ وَغَيْرِ مُرْجِئِهِمْ فَيَقُولُونَ: إنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ قَدْ يُعَذِّبُهُ اللَّهُ بِالنَّارِ ثُمَّ يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ" ولا يُخلد في النار، فيقولون: إن الشخص الواحد قد يعذبه الله بالنار، يعني إذا كان له كبائر، ثم يُدخله الجنة.
"كَمَا نَطَقَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ" ثم بيَّن المؤلف من هو هذا الشخص، "وَهَذَا الشَّخْصُ الَّذِي لَهُ سَيِّئَاتٌ عُذِّبَ بِهَا وَلَهُ حَسَنَاتٌ دَخَلَ بِهَا الْجَنَّةَ" لأنه موحد، موحد مات على التوحيد، لكن دخل النار بالمعاصي والكبائر، فهو يخرجُ من النار بالتوحيد والإيمان الذي معه، ولكنه دخل النار بمعاصيه، والكبائر، يُطهر منها بالنار، إذًن ليعفو الله عنه لابد أن يُطهر بالنار، فإذا طُهر العاصي بالنار أُخرج منها إلى الجنة.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَهَذَا الشَّخْصُ الَّذِي لَهُ سَيِّئَاتٌ عُذِّبَ بِهَا" يعني الكبائر، "وَلَهُ حَسَنَاتٌ دَخَلَ بِهَا الْجَنَّةَ" يعني التوحيد، "وَلَهُ مَعْصِيَةٌ وَطَاعَةٌ بِاتِّفَاقِ هَؤُلَاءِ" يعني خلافًا للخوارج والمعتزلة الذين يقولون: لا يجتمع في الشخص الواحد طاعةً ومعصية.
المؤلف رحمه الله يبيِّن أن مذهب الخوارج مذهبٌ فاسد، والمعتزلة يقولون: لا يجتمع في الشخص الواحد طاعة ومعصية، وأن هؤلاء الطوائف وافقوا أهل السنة والجماعة، الطوائف مُرجئة الفقهاء، والكرامية، والكُلابية والأشعرية والشيعة مُرجئهم وغير مُرجئهم كلهم وافقوا أهل السنة في أن الشخص الواحد لا يُخلد في النار، ولو كان له معاص، بل يخرج منها إلى الجنة.
وأما الخوارج والمعتزلة فهم خالفوا، وقالوا: إن الشخص الواحد لا يكون له طاعة ولا معصية أبدًا، بل إما مطيع أو إما عاصي، وأما غيرهم من سائر الطوائف، فإنهم يوافقون أهل السنة والجماعة، ويرون أن الشخص الواحد له طاعة وله معصية، يكون عنده طاعة، وله معصية.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَهَذَا الشَّخْصُ الَّذِي لَهُ سَيِّئَاتٌ عُذِّبَ بِهَا وَلَهُ حَسَنَاتٌ دَخَلَ بِهَا الْجَنَّةَ وَلَهُ مَعْصِيَةٌ وَطَاعَةٌ بِاتِّفَاقِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفَ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي حُكْمِهِ" أنه له طاعات وله معاصي، وأنه يدخل النار ويخرج منها، "لَكِنْ تَنَازَعُوا فِي اسْمِهِ" هل يُسمى مؤمن أو لا يُسمى مؤمن؟ "فَقَالَتْ الْمُرْجِئَةُ: جهميتهم وَغَيْرُ جهميتهم: هُوَ مُؤْمِنٌ كَامِلُ الْإِيمَانِ" يقول هذا مؤمن، الجهمية والمُرجئة يقولون هو مؤمن كاملُ الإيمان، "وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّهُ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا عُذِّبَ كَمَا أَنَّهُ نَاقِصُ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ" هذا يشير إلى مذهب مُرجئة الفقهاء، يقولون: إنه ناقص البر، وناقص التقوى، ولكن ليس ناقص الإيمان؛ لأن الإيمان عندهم هو التصديق، لكن ناقص البر، وناقص التقوى، وجمهور أهل السنة يقولون: البر والتقوى من الإيمان، فهو ناقصُ الإيمان، وناقصُ البر، وناقصُ التقوى.
وأما مُرجئة الفقهاء أبو حنيفة وأصحابه يقولون: ناقصُ البر والتقوى وليس ناقص الإيمان؛ لأن الإيمان هو التصديق، فهم يقولون أهل السنة على أنه مؤمنٌ ناقص الإيمان، ولولا ذلك لما عُذب، وأهل السنة يشمل جمهور أهل السنة، ويشمل مُرجئة الفقهاء كأبي حنيفة وأصحابه، كلهم يقولون بهذا، يقولون: إنه ناقصُ الإيمان، يرى أهل السنة يقولون: ناقص الإيمان، ولولا ذلك لما عُذب، لكنهم يرون أن ناقصُ البر والتقوى يتفقون على هذا، أما نقصان الإيمان فهذا مُرجئة الفقهاء لا يوافقون أهل السنة في هذا، بل يقولون إنه مؤمن، إن الإيمان هو التصديق، وأما الأعمال فليست داخلة في مُسمى الإيمان، فلهذا لا يقولون ناقصُ الإيمان، ولكن يقولون: إنه ناقص البر وناقص التقوى.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّهُ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا عُذِّبَ كَمَا أَنَّهُ نَاقِصُ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَهَلْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ مُؤْمِنٍ؟ هَذَا فِيهِ الْقَوْلَانِ" قيل: إنه يُسمى مؤمن، يُطلق عليه اسمُ الإيمان، وقيل: لا يُطلق عليه اسمُ الإيمان العاصي، وهذا قول لأهل السنة، وهو قول المعتزلة أنه لا يُسمى مؤمن، بل يُسمى فاسق، والقول الثاني لأهل العلم: أنه يُسمى مؤمن، إلا أنه ناقصُ الإيمان.
ولهذا قال المؤلف: "وَهَلْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ مُؤْمِنٍ؟ هَذَا فِيهِ الْقَوْلَانِ وَالصَّحِيحُ التَّفْصِيلُ. فَإِذَا سُئِلَ عَنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا كَعِتْقِهِ فِي الْكَفَّارَةِ. قِيلَ: هُوَ مُؤْمِنٌ وَكَذَلِكَ إذَا سُئِلَ عَنْ دُخُولِهِ فِي خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ" هذا في أحكام الدنيا يدخل في الخطاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة: 6]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ [البقرة: 282]، يدخل العاصي والمطيع، "وَأَمَّا إذَا سُئِلَ عَنْ حُكْمِهِ فِي الْآخِرَةِ. قِيلَ: لَيْسَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْمُؤْمِنِين الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّةِ"
فإذن في الآخرة له شخص، فلا يدخل في اسم المؤمنين الموعودين بالجنة، وفي الدنيا يدخل في خطاب المؤمنين، "وَأَمَّا إذَا سُئِلَ عَنْ حُكْمِهِ فِي الْآخِرَةِ. قِيلَ: لَيْسَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْمُؤْمِنِين الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّةِ بَلْ مَعَهُ إيمَانٌ يَمْنَعُهُ الْخُلُودُ فِي النَّارِ وَيَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ بَعْدَ أَنْ يُعَذَّبَ فِي النَّارِ إنْ لَمْ يَغْفِرْ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ: هُوَ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ" وهذا قول جمهور أهل السنة، ما يقولون إنه مؤمنٌ بإطلاق، بل يقولون: إنه مؤمن بإيمانه فاسقٌ بكبيرته.
"أَوْ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ وَاَلَّذِينَ لَا يُسَمُّونَهُ مُؤْمِنًا طائفتان: طائفة مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَطائفة مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ يَقُولُونَ:" دليلهم كما يقول المؤلف رحمه الله أن اسم الفسوق ينافي اسم الإيمان، ويستدلون بالنصوص، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَاَلَّذِينَ لَا يُسَمُّونَهُ مُؤْمِنًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَمِنْ الْمُعْتَزِلَةِ يَقُولُونَ: اسْمُ الْفُسُوقِ يُنَافِي اسْمَ الْإِيمَانِ لِقَوْلِهِ: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ [الحجرات: 11] وَقَوْلُهُ: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا [السجدة: 18] وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ([28])". فهذه النصوص فيها أن، أن اسمُ الفسوق ينافى اسم الإيمان ولهذا رأوا أنه لا يُسمى مؤمنًا، أما أهل السنة فهم يوافقون أهل السنة معلوم أنهم، إنما ينازعون، إنما يعني يخالفون الجمهور في الاسم فقط، ولكن في الحكم واحد كما سبقنا.
(المتن)
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَبَعْضُ النَّاسِ يَكُونُ مَعَهُ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ وَمَعَهُ إيمَانٌ أَيْضًا وَعَلَى هَذَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ فِي تَسْمِيَةِ كَثِيرٍ مِنْ الذُّنُوبِ كُفْرًا مَعَ أَنَّ صَاحِبَهَا قَدْ يَكُونُ مَعَهُ أَكْثَرُ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ فَلَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ. كَقَوْلِهِ سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ([29])، وَقَوْلُهُ: لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ([30]).
وَهَذَا مُسْتَفِيضٌ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، فَإِنَّهُ أُمِرَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَنْ يُنَادِيَ بِهِ فِي النَّاسِ، فَقَدْ سَمَّى مَنْ يَضْرِبُ بَعْضُهُمْ رِقَابَ بَعْضٍ بِلَا حَقٍّ كُفَّارًا؛ وَسَمَّى هَذَا الْفِعْلَ كُفْرًا.
وَمَعَ هَذَا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات: 9] إلَى قَوْلِهِ: إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ.
فَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ الْإِيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَكِنْ فِيهِمْ مَا هُوَ كُفْرٌ وَهِيَ هَذِهِ الْخَصْلَةُ. كَمَا قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا([31]) فَقَدْ سَمَّاهُ أَخَاهُ حِينَ الْقَوْلِ؛ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا بَاءَ بِهَا فَلَوْ خَرَجَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ لَمْ يَكُنْ أَخَاهُ بَلْ فِيهِ كُفْرٌ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إلَّا كَفَرَ([32])، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: كَفَرَ بِاَللَّهِ مَنْ تَبَرَّأَ مِنْ نَسَبٍ وَإِنْ دَقَّ([33]) وَكَانَ مِنْ الْقُرْآنِ الَّذِي نُسِخَ لَفْظُهُ: لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّ كُفْرًا بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ.
فَإِنَّ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ مَقْرُونٌ بِحَقِّ اللَّهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان: 14] وَقَوْلُهُ: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء: 23]، فَالْوَالِدُ أَصْلُهُ الَّذِي مِنْهُ خُلِقَ وَالْوَلَدُ مِنْ كَسْبِهِ. كَمَا قَالَ: مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [المسد: 2].
فَالْجَحْدُ لَهُمَا شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ فَإِنَّهُ جَحَدَ لِمَا مِنْهُ خَلَقَهُ رَبُّهُ فَقَدْ جَحَدَ خَلْقَ الرَّبِّ إيَّاهُ وَقَدْ كَانَ فِي لُغَةِ مَنْ قَبْلَنَا يُسَمَّى الرَّبُّ أَبًا فَكَانَ فِيهِ كُفْرٌ بِاَللَّهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا كَمَنَ جَحَدَ الْخَالِقَ بِالْكُلِّيَّةِ وَسَنَتَكَلَّمُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى سَائِرِ الْأَحَادِيثِ.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله يقرر معتقد أهل السنة والجماعة، وهو أن المؤمن يجتمعُ فيه إيمانٌ وكفر، وشركٌ وتوحيد، وإيمانٌ ونفاق، والمراد النفاق الأصغر، والشرك الأصغر والكفر الأصغر يجتمع، والنصوص دلت على هذا، سرد المؤلف رحمه الله أدلة على هذا، وهذا هو الصواب الذي دلت عليه النصوص خلافًا لأهل البدع الذين يرون أنه لا يمكن أن يكون في الشخص الواحد شعبة من شعب الكفر مع الإيمان، أو شعبة من شعب الشرك، أو النفاق.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَبَعْضُ النَّاسِ يَكُونُ مَعَهُ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ وَمَعَهُ إيمَانٌ أَيْضًا" يعني لا منافاة، يكون معه شعبةٌ من شعب الكفر، كأن يطعن في النسب، أو ينوح على الميت، فيكون فيه شعبة من شعب الكفر، وهو مؤمن، قال عليه الصلاة والسلام: اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ([34])، إذا كان يعيب أنساب الناس ويتنقصها، أو ينوح على الميت هذه شعبة من شعب الكفر، ولكنه معه الإيمان، هذه معاصي، شعبة من شعب الكفر، إلا أنه كفرٌ أصغر، لا يُخرج من الملة، فيجتمع في الشخص الواحد كفرٌ وإيمان، كفرٌ أصغر وإيمان.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَعَلَى هَذَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ فِي تَسْمِيَةِ كَثِيرٍ مِنْ الذُّنُوبِ كُفْرًا مَعَ أَنَّ صَاحِبَهَا قَدْ يَكُونُ مَعَهُ أَكْثَرُ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ فَلَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ. كَقَوْلِهِ سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ([35])" هذا، إذا سبَّ المسلم، فإن هذا نوعٌ من الفسوق، وكذلك القتال إذا لم يستحله، فهذا لا ينافى الإيمان، معه أصل الإيمان، لا يكون كافرًا مُخلد في النار، "وَقَوْلُهُ: لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ"، وهذا الحديث رواه البخاري عن أبي بكرة([36])، وهو دليل على أن المسلم قد يكون معه شيءٌ من شعب الكفر، وإن كان مؤمنًا.
لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ([37])، فسمَّى القتالَ كفرًا، ولكنه كفرٌ لا يُخرِج من الملَّة، إلا إذا استحله، إذا استحلَّ قتْلَ المسلم هذا شيءٌ آخر.
قال المؤلف رحمه الله: "وَهَذَا مُسْتَفِيضٌ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ فِي الصَّحِيحِ، مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ"؛ أنه سمَّى القتالَ كفرًا، مع أنه يجتمعُ أصل الإيمان، ولا يخرج من الملة.
قال: "فَإِنَّهُ أُمِرَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَنْ يُنَادِيَ بِهِ فِي النَّاسِ" أنَّه أمرَ في حَجَّة الوداع أن ينادى به في الناس، وكذلك أيضًا في حجة الوداع قال: لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ([38]).
قال: "فَسَمَّى مَنْ يَضْرِبُ بَعْضُهُمْ رِقَابَ بَعْضٍ بِلَا حَقٍّ كُفَّارًا؛ وَسَمَّى هَذَا الْفِعْلَ كُفْرًا؛ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات: 9] إلَى قَوْلِهِ: إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ"
فسمى المتقاتلين مؤمنون، وسمى القتال كفر، فدل على أن الكفر الأصغر يجتمع مع الإيمان، قال: لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ([39])، وقال: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 9/10]، فسماهم إخوة مع كونهم يتقاتلون، أثبت لهم الإيمان، فسماهم إخوة مؤمنين مع أنهم يتقاتلون، وسمى القتال كفرًا، فدلَّ على أن الكفر الأصغر يجتمع مع الإيمان خلافًا للخوارج، والمعتزلة، وهذه الأدلة واضحة في الرد عليهم.
قال المؤلف رحمه الله: "فَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ الْإِيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَكِنْ فِيهِمْ مَا هُوَ كُفْرٌ وَهِيَ هَذِهِ الْخَصْلَةُ" لم يخرجوا من الإيمان؛ لأنه قال: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أثبت لهم الإيمان، وقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات: 10]، وفي الحديث الآخر قال: لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ([40]).
يقول المؤلف رحمه الله في الجمع بين النصوص: "فَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ الْإِيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَكِنْ فِيهِمْ مَا هُوَ كُفْرٌ وَهِيَ هَذِهِ الْخَصْلَةُ" وهي القتال، " كَمَا قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ" يعني كفر أصغر، أما الكفر الأكبر لا يتناسب مع الإيمان، بل يخرج من الإيمان بالله، والشرك الأكبر والنفاق الأكبر.
قال: "وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا([41])" يعني فقد وقعت على أحدهما، "فَقَدْ سَمَّاهُ أَخَاهُ حِينَ الْقَوْلِ؛ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا بَاءَ بِهَا فَلَوْ خَرَجَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ لَمْ يَكُنْ أَخَاهُ بَلْ فِيهِ كُفْرٌ" قال: من قال لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما، سماه أخاه، وهو يقول له يا كافر، وسماه، وقال: إنه يبوء بها أحدهما، قد سماه أخاه حين القول: يا كافر، وقد أخبر أن أحدهما باء بها، فلو خرج أحدهما عن الإسلام بالكلية لم يكن أخاه، بل فيه كفر.
قال: "وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إلَّا كَفَرَ([42])" هذا كفرُ النعمة، إذا انتسب إلى غير أبيه، انتسب إلى مثلًا من قبيلة مُزينة، انتسب إلى قبيلة شَمَّر، أو انتسب إلى قبيلة كذا، وترك قبيلته، هذا نوعٌ من الكفر، ولكنه كفرٌ أصغر لا يُخرج من الملة.
وهذا الحديث مُخرَّج في الصحيحين، وغيرهما، "وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: كَفَرَ بِاَللَّهِ مَنْ تَبَرَّأَ مِنْ نَسَبٍ وَإِنْ دَقَّ([43])" وهذا رواه ابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه، بلفظ: كفرٌ بامرئٍ، ادَّعَى نسبًا لا يعرفه أو جحده، وإنْ دَقَّ([44]).
قال المؤلف: "وَكَانَ مِنْ الْقُرْآنِ الَّذِي نُسِخَ لَفْظُهُ: لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّ كُفْرًا بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ". هذه آية نُسخ لفظُها، وبقي حُكمُها، فسمى المنتسب إلى غير أبيه كافرًا، إلا أنه كفرٌ أصغر.
قال المؤلف: "فَإِنَّ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ مَقْرُونٌ بِحَقِّ اللَّهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان: 14] وَقَوْلُهُ: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء: 23] فَالْوَالِدُ أَصْلُهُ الَّذِي مِنْهُ خُلِقَ وَالْوَلَدُ مِنْ كَسْبِهِ. كَمَا قَالَ: مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [المسد: 2] فَالْجَحْدُ لَهُمَا شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ" فإذا جحد نعمة الأب، لم ينتسب إلى أبيه، وإلى جده هذا نوعٌ من الكفر، جحد، هو جحود كفر، ولكنه كفرٌ أصغر.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَالْجَحْدُ لَهُمَا شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ فَإِنَّهُ جَحَدَ لِمَا مِنْهُ خَلَقَهُ رَبُّهُ" هذا خلقه ربه من ماء أبيه وأمه، فإذا انتسب إلى غيرهما جحد هذه النعمة، "فَقَدْ جَحَدَ خَلْقَ الرَّبِّ إيَّاهُ وَقَدْ كَانَ فِي لُغَةِ مَنْ قَبْلَنَا يُسَمَّى الرَّبُّ أَبًا فَكَانَ فِيهِ كُفْرٌ بِاَللَّهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ" من هذا الوجه جحود النعمة، "الْوَجْهِ وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا كَمَنَ جَحَدَ الْخَالِقَ بِالْكُلِّيَّةِ" الجاحد بالكلية هذا كافر كفرٌ أكبر، لكن الذي جحد حق الوالدين كافرٌ بالنعمة، كفرٌ بالنعمة، فهو كفرٌ أصغر، ولهذا قال المؤلف: "وَسَنَتَكَلَّمُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى سَائِرِ الْأَحَادِيثِ"، نعم.
([1]) – سبق
([2]) – سبق
([3]) – سبق
([4]) – سبق
([5]) – سبق
([6]) – سبق
([7]) – أخرجه مسلم رقم (384) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص .
([8]) – أخرجه مسلم رقم (1110) من حديث عائشة رضي الله عنها.
([9]) – أخرجه البخاري رقم (6304)، ومسلم رقم (199) واللفظ له من حديث أبي هريرة .
([10]) –أخرجه البخاري رقم (6528)، ومسلم رقم (221) من حديث عبد الله بن مسعود .
وفي الباب عن أبي سعيد الخدري .
([11]) –أخرجه البخاري رقم (2790- 7423) من حديث أبي هريرة .
([12]) – حديث الباب من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وهو عند مسلم رقم (384)،وأحمد رقم (6568)، والنسائي رقم (678)، والترمذي رقم (3614). وفي الباب عن أبي هريرة وابن عباس وغيرهم .
وأما حديث أبي سعيد فأخرجها أحمد رقم (3614) بلفظ: الْوَسِيلَةُ دَرَجَةٌ عِنْدَ اللهِ لَيْسَ فَوْقَهَا دَرَجَةٌ، فَسَلُوا اللهَ أَنْ يُؤْتِيَنِي الْوَسِيلَةَ
([13]) –سبق
([14]) –سبق
([15]) –سبق وهو عنده رقم (25893) بهذا اللفظ.
([16]) –سبق وهو عند ه رقم (2389) بهذا اللفظ.
([17]) –سبق
([18]) –سبق
([19]) –سبق
([20]) –سبق
([21]) –سبق
([22]) –سبق
([23]) –أخرجه أحمد رقم (6072)، وأبو داود رقم (3251)، والترمذي رقم (1535)،من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما . قال الحافظ الترمذي " هذا حديث حسن"
([24]) –سبق
([25]) –سبق
([26]) –أخرجه مسلم رقم (233) من حديث أبي هريرة .
([27]) –سبق
([28]) – سبق
([29]) –سبق
([30]) –أخرجه البخاري رقم (6166)،ومسلم رقم (66)من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما."وفي الباب عن جرير بن عبد الله وأبي بكرة رضي الله عنهما".
([31]) –سبق
([32]) – أخرجه البخاري رقم (3508)، ومسلم رقم (61) من حديث أبي ذرٍ
([33]) – أخرجه ابن وهب في جامعه رقم (20)، والدارمي رقم (3071)، وعلي بن الجعد في "الجعديات"(2691)، والطبراني في الأوسط رقم (8575). قال الحافظ البزار عقب حديث قيس بن أبي حازم (1/204)" وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي ﷺ إلا عن أبي بكر رحمة الله عليه عنه والسري بن إسماعيل ليس بالقوي، وقد حدث عنه أهل العلم واحتملوا حديثه" وقد تعقب الحافظ البزار رحمه الله .قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 97) "رواه الطبراني في الأوسط، وفيه الحجاج بن أرطاة، وهو ضعيف، ورواه البزار، وفيه السري بن إسماعيل، وهو متروك."
([34]) –سبق
([35]) –سبق
([36]) – سبق
([37]) – سبق
([38]) – سبق
([39]) – سبق
([40]) – سبق
([41]) – سبق
([42]) –سبق
([43]) –سبق
([44]) – أخرجه ابن ماجه رقم (2744) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. قال الحافظ البوصيري في مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه (3/ 150) "هذا إسناد صحيح...".