(المتن)
قال المؤلف رحمه الله:
"وَالْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ الْقَدَرِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ([1]) " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قال: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ.
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ([2]) " عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ ([3])" عَنْ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ أَخْبَرَ: أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَمَا يَعْمَلُهُ الْعِبَادُ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوهُ.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ([4]) " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ، وَرِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ.
وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَوَاضِعِهَا.
فَهَذَا الْقَدَرُ هُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ " الْقَدَرِيَّةُ " الَّذِينَ كَانُوا فِي أَوَاخِرِ زَمَنِ الصَّحَابَةِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ ابْتَدَعَهُ بِالْعِرَاقِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يُقَالُ لَهُ: سيسويه مِنْ أَبْنَاءِ الْمَجُوسِ وَتَلَقَّاهُ عَنْهُ مَعْبَدٌ الجهني وَيُقَالُ: أَوَّلُ مَا حَدَثَ فِي الْحِجَازِ لَمَّا احْتَرَقَتْ الْكَعْبَةُ فَقَالَ رَجُلٌ: احْتَرَقَتْ بِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى. فَقَالَ آخَرُ: لَمْ يُقَدِّرْ اللَّهُ هَذَا.
وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَحَدٌ يُنْكِرُ الْقُدْرَةَ؛ فَلَمَّا ابْتَدَعَ هَؤُلَاءِ التَّكْذِيبَ بِالْقَدَرِ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ مَنْ بَقِيَ مِنْ الصَّحَابَةِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ: وَكَانَ أَكْثَرُهُ بِالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ وَقَلِيلٌ مِنْهُ بِالْحِجَازِ؛ فَأَكْثَرُ كَلَامِ السَّلَفِ فِي ذَمِّ هَؤُلَاءِ الْقَدَرِيَّةِ: وَلِهَذَا قَالَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ: الْقَدَرِيَّةُ يَقُولُونَ: الْأَمْرُ مُسْتَقْبَلٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُقَدِّرْ الْكِتَابَةَ وَالْأَعْمَالَ؛ وَالْمُرْجِئَةُ يَقُولُونَ: الْقَوْلُ يُجْزِئُ مِنْ الْعَمَلِ؛ وَالْجَهْمِيَّة يَقُولُونَ: الْمَعْرِفَةُ تُجْزِئُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ. قَالَ وَكِيعٌ: وَهُوَ كُلُّهُ كُفْرٌ وَرَوَاهُ ابْنُ. . . ([5]) .
وَلَكِنْ لَمَّا اشْتَهَرَ الْكَلَامُ فِي الْقَدَرِ؛ وَدَخَلَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْعِبَادِ صَارَ جُمْهُورُ الْقَدَرِيَّةِ يُقِرُّونَ بِتَقَدُّمِ الْعِلْمِ وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَ عُمُومَ الْمَشِيئَةِ وَالْخَلْقِ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ فِي إنْكَارِ الْكِتَابِ الْمُتَقَدِّمِ رِوَايَتَانِ.
وَقَوْلُ أُولَئِكَ كَفَّرَهُمْ عَلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمْ.
وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَهُمْ مُبْتَدِعُونَ ضَالُّونَ لَكِنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَنْزِلَةِ أُولَئِكَ؛ وَفِي هَؤُلَاءِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ كُتِبَ عَنْهُمْ الْعِلْمُ.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ لِجَمَاعَةِ مِنْهُمْ لَكِنْ مَنْ كَانَ دَاعِيَةً إلَيْهِ لَمْ يُخَرِّجُوا لَهُ.
وَهَذَا مَذْهَبُ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ: أَنَّ مَنْ كَانَ دَاعِيَةً إلَى بِدْعَةٍ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ لِدَفْعِ ضَرَرِهِ عَنْ النَّاسِ وَإِنْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ مُجْتَهِدًا وَأَقَلُّ عُقُوبَتِهِ أَنْ يُهْجَرَ فَلَا يَكُونُ لَهُ مَرْتَبَةٌ فِي الدِّينِ لَا يُؤْخَذُ عَنْهُ الْعِلْمُ وَلَا يُسْتَقْضَى وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَمَذْهَبُ مَالِكٍ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا وَلِهَذَا لَمْ يُخَرِّجْ أَهْلُ الصَّحِيحِ لِمَنْ كَانَ دَاعِيَةً وَلَكِنْ رَوَوْا هُمْ وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّنْ كَانَ يَرَى فِي الْبَاطِنِ رَأْيَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ.
وَقَالَ أَحْمَد: لَوْ تَرَكْنَا الرِّوَايَةَ عَنْ الْقَدَرِيَّةِ لَتَرَكْنَا أَكْثَرَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَهَذَا لَأَنَّ " مَسْأَلَةَ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَإِرَادَةِ الْكَائِنَاتِ " مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ وَكَمَا أَنَّ القدرية مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرَهُمْ أَخْطَئُوا فِيهَا فَقَدْ أَخْطَأَ فِيهَا كَثِيرٌ مِمَّنْ رَدَّ عَلَيْهِمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ فَإِنَّهُمْ سَلَكُوا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ مَسْلَكَ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَأَتْبَاعِهِ فَنَفَوْا حِكْمَةَ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرَهُ وَنَفَوْا رَحْمَتَهُ بِعِبَادِهِ وَنَفَوْا مَا جَعَلَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ خَلْقًا وَأَمْرًا وَجَحَدُوا مِنْ الْحَقَائِقِ الْمَوْجُودَةِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ وَشَرَائِعِهِ مَا صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِنُفُورِ أَكْثَرِ الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ فَهِمُوا قَوْلَهُمْ عَمَّا يَظُنُّونَهُ السُّنَّةَ إذْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ قَوْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْقَدَرِ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي ابْتَدَعَهُ جَهْمٌ وَهَذَا لِبَسْطِهِ مَوْضِعٌ آخَرُ.
(الشرح)
قال المؤلف رحمه الله: "وَالْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ الْقَدَرِ؛ وَقَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قال: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ. "هذا الحديث، رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب "القدر"([6]) وفيه إثبات العِلم والكتابة، وأن الله قدَّر المقادير قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كتبها في اللوح المحفوظ.
قول المؤلف رحمه الله: "وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكُتِبَ فِي الذِّكْرِ كُلُّ شَيْءٍ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ" فهذا رواه الإمام البخاري في صحيحه كتاب "بدء الخلق"([7]) والشاهد قوله: وَكُتِبَ فِي الذِّكْرِ كُلُّ شَيْء فالمـُراد بالذكر: الكتاب اللوحِ المحفوظ، ثم خلق السماوات والأرض، فدلَّ على أن كتابة المقادير، قبل خلق السموات والأرض.
قال المؤلف رحمه الله: "وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ أَخْبَرَ: أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَمَا يَعْمَلُهُ الْعِبَادُ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوهُ" في الصحيح عن النبي ﷺ أنه أخبرأنه قَدْ عَلِمَ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَمَا يَعْمَلُهُ الْعِبَادُ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوهُ.
وفي صحيح البخاري، عن عمران بن حصين أنه قال: قال رجل : " يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُعْرَفُ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ؟ قَالَ : نَعَمْ. قَالَ : فَفِيمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ ؟ قَالَ : فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ"([8]) فهذا فيه إثبات للعلم وفيه إثبات للكتابة هذه النصوص فيها رد على الْقَدَرِيَّةَ الأولى الذين أنكروا العلم والكتاب.
ثم قال المؤلف رحمه الله: "وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ([9]) " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَلَكًا بَعْدَ خَلْقِ الْجَسَدِ وَقَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ فَيَكْتُبُ أَجَلَهُ وَرِزْقَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ" وهذا الحديث صريح، صحيح في أن سَبْق كتابة الله للمقادير، وأن الله تعالى سَبَقَ في علمه وكتابه، وهذا التقدير الذي يُكتب على الجنين وهو في بطن أمه، هذا تقدير عمري، وأما الكتابة في اللوح المحفوظ، هذا الكتاب العام، وما يُقدَّر على الجنين في بطن أُمة، يوافق ما كُتب في اللوح المحفوظ.
فالتقدير أنواع:
منها التقدير العام، ماكتبه الله في اللوح المحفوظ، كتب الله كل شيء؛ كتب الأرزاق، والصفات، والحركات، والنوافل، حتى العدد والكيف؛ كل شيء مكتوب، السعادة، والشقاء، والفقر، والغنى.
والثاني: التقدير العمري وهو ما يُكتب على الجنين وهو في بطن أُمه، حينما يمضي أربعة أشهر وفي بعض الأحاديث اثنان وثمانون يومًا، يرسل الله المَلك، فينفخ فيه الروح ويأمر بأربع كلمات، فيكتب أجله، ورزقه، وعمله، وشقي، أو سعيد، هذا التقدير العمري.
الثالث: تقديرٌ سنوي، وهو مايكون في ليلة القدر، يُقدِّر الله فيها ما يكون في تلك السنة؛ من سعادةٍ، وشقاوة، وحياةً، وموت، وعزٍ، وذُل، وفقرٍ، وغنى.
الرابع: وهناك تقديرٌ يومي، كما قال: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29] يخلق، ويُحيي، ويُميت، ويُقدِّر ويرزق، ويُمرض، ويُعافي، ويُسعد، ويُشقي؛ .
وهي كلها توافق ما كتبه الله في اللوح المحفوظ، وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَوَاضِعِهَا.
قال المؤلف رحمه الله: " فَهَذَا الْقَدَرُ هُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ " الْقَدَرِيَّةُ " الَّذِينَ كَانُوا فِي أَوَاخِرِ زَمَنِ الصَّحَابَةِ"، هؤلاء هم القدرية الأولى، هم الكفار الذين كفرهم الصحابة، هذا الْقَدَرِ الذي هو العلم والكتاب،علم الله بالأشياء قبل كونها، وكتابته لها في اللوح المحفوظ، هذا الْقَدَرِ هو الذي أنكره القدرية، الذين كانوا في أواخر زمن الصحابة.
قال المؤلف رحمه الله: " وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ ابْتَدَعَهُ بِالْعِرَاقِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يُقَالُ لَهُ: سيسويه مِنْ أَبْنَاءِ الْمَجُوسِ وَتَلَقَّاهُ عَنْهُ مَعْبَدٌ الجهني". ويُقال: إنه كان نصرانيًّا؛ هنا المؤلف قال: إنه من المجوس، ويُقال: نصرانيًّا، قال بعضهم: اسمه سوسن، أو سنهويه، أو سنسويه كما ذكر المحقق. قال: إنه اعتنق الإسلام، وحفظ معه حرية الإرادة، إلا أنه ما لبث أن تخلى عن الإسلام، وأخذ منه معبد الجهني القول بحرية الإرادة، وأخذ عن معبد، غيلان الدمشقي، وقيل: إن غيلان كان نصرانيًّا، ولذا قال بعض أصحاب التراجم: إن سوسن كان نصرانيًّا.
في روايةٍ أخرى، أن معبدا أو سنسويه: زوج أم موسى، كانا يتناقشان في موضوع الْقَدَرِ.
والرواية الثالثة: تقول: إن أبا يونس سنسويه الإسواري، ينتسب إلى الأساورة، وهو فرقة من الخيالة الفُرس؛ يعني الساسانيين، وكانوا تحالفوا مع بني تميم في البصرة، بعد انتشار الإسلام، ذُكر هذا في طبقات ابن سعد، وتهذيب التهذيب، وخطط المقريزي.
فالمقصود: أن القدرية الأولى، هم الذين أنكروا الْقَدَر في أواخر زمن الصحابة ، وتلقوه عن الكفرة، إما تلقاه عن سوسن أو سيسويه أو سنسويه، وهؤلاء إما إنهم من المجوس أو من النصارى، وكل عقيدة إنكار الْقَدَرِ مأخوذٍ عن الكفرة ، عن المجوس، وعن النصارى -والعياذ بالله-.
قال المؤلف رحمه الله: "وَيُقَالُ: أَوَّلُ مَا حَدَثَ فِي الْحِجَازِ لَمَّا احْتَرَقَتْ الْكَعْبَةُ" أول إنكار الْقَدَرِ، أول إنكار، حينما احترقت الكعبة"فَقَالَ رَجُلٌ: احْتَرَقَتْ بِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى. فَقَالَ آخَرُ: لَمْ يُقَدِّرْ اللَّهُ هَذَا" هذا أول ماحدث في إنكار الْقَدَرِ في الحجاز.
قال المؤلف رحمه الله: " وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَحَدٌ يُنْكِرُ الْقُدْرَ" إنما حدث هذا بعدها، في أواخر عهد الصحابة، لذا أنكر ابن عمر على الذين تكلموا في الْقَدَرِ في البصرة، وشكى إليه يحيى بن معمر، وحميد الطويل لابن عمر؛ فتبرأ منهم، في آخر عهدالصحابة بعد الخلفاء الراشدين.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فَلَمَّا ابْتَدَعَ هَؤُلَاءِ التَّكْذِيبَ بِالْقَدَرِ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ مَنْ بَقِيَ مِنْ الصَّحَابَةِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ: وَكَانَ أَكْثَرُهُم بِالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ وَقَلِيلٌ مِنْهُم بِالْحِجَازِ؛ فَأَكْثَرُ كَلَامِ السَّلَفِ فِي ذَمِّ هَؤُلَاءِ الْقَدَرِيَّةِ: وَلِهَذَا قَالَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ" شيخ الإمام الشافعي والإمام أحمد: "الْقَدَرِيَّةُ يَقُولُونَ: الْأَمْرُ مُسْتَقْبَلٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُقَدِّرْ الْكِتَابَةَ وَالْأَعْمَالَ" يعني القدرية الأولى الذين خرجوا في أواخر زمن الصحابة يقولون: "الأمر مستقبل" يعني: لم يَسْبق به عِلْمُ الله وكتابته، بل هو مستأنف وجديد، يقولون –كما صرَّحوا-: إن الله لم يعلم بالأشياء حتى تقع، ولهذا "يَقُولُونَ: الْأَمْرُ مُسْتَقْبَلٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُقَدِّرْ الْكِتَابَةَ وَالْأَعْمَالَ".
"وَالْمُرْجِئَةُ يَقُولُونَ: الْقَوْلُ يُجْزِئُ عِنْ الْعَمَلِ"، يقولون: القول يكفي عن العمل؛ قول القلب، ومُرْجِئَةِ الفقهاء يقولون: يكفي قول القلب، وقول اللسان؛ عامة الْقَدَرِيَّة المحضة، يقولون: يكفي قول القلب، والكرامية يقولون: يكفي قول اللسان، ومرجئة الفقهاء يقولون: يكفي قول القلب، وقول اللسان.
قال:"وَالْجَهْمِيَّة يَقُولُونَ: الْمَعْرِفَةُ تُجْزِئُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ. قَالَ وَكِيعٌ: وَهُوَ كُلُّهُ كُفْرٌ" يعني: القدرية الذين يقولون: إن الأمر مُستقبل، وأن الله لم يُقَدِّرْ الكتاب والأعمال؛ هذا كُفر، والْمُرْجِئَةِ الذين يقولون: القول يكفي من العمل؛ أيضًا هذا كُفر؛ لأن الله شرعَ الأعمال، وأمر العباد بأعمال وأقوال.
وَالْجَهْمِيَّة يقولون: الْمَعْرِفَةُ تُجْزِئُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ؛ إذا عرف ربه بقلبه عند الْجَهْمِيَّة فهو مؤمن، ولا يكفُر؛ حتي ولو فعل جميع نواقض الإسلام، لا يكفُر إلا إذا جهل ربه بقلبه؛ هذا مذهبُ الْجَهْم.
فالْجَهْم عنده الإيمان معرفة الرب بالقلب، والكفر جهل الرب بالقلب، فوَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ الإمام العالم الجليل، شيخ الأئمة يقول: "الْقَدَرِيَّةُ يَقُولُونَ: الْأَمْرُ مُسْتَقْبَلٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُقَدِّرْ الْكِتَابَةَ وَالْأَعْمَالَ؛ وَالْمُرْجِئَةُ يَقُولُونَ: الْقَوْلُ يُجْزِئُ مِنْ الْعَمَلِ؛ وَالْجَهْمِيَّة يَقُولُونَ: الْمَعْرِفَةُ تُجْزِئُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ. قَالَ وَكِيعٌ: وَهُوَ كُلُّهُ كُفْرٌ" كلام القدرية كُفر، وكلام الْمُرْجِئَةِ كُفر، وكلام الْجَهْمِيَّة كُفر.
قال المؤلف رحمه الله: " وَلَكِنْ لَمَّا اشْتَهَرَ الْكَلَامُ فِي الْقَدَرِ؛ وَدَخَلَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْعِبَادةِ صَارَ جُمْهُورُ الْقَدَرِيَّةِ يُقِرُّونَ بِتَقَدُّمِ الْعِلْمِ" يعني: والكتاب، هذه هي الطائفة الثانية من القدرية، لما اشتهر الكلام في الْقَدَرِ، دخل كثير من أهل النظر و العُبَّاد الذين ينظرون في المناهج والأدلة، ولاينظروا في النصوص، وكذلك الْعُبَّادِ، صار جمهور القدرية، أو عامة القدرية يُقرون بالمرتبتين الأوليين من مراتب الْقَدَرِ، يُقرون بتقدم العلم والكتاب "وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَ عُمُومَ الْمَشِيئَةِ وَالْخَلْقِ"حتي لا تشمل أفعال العباد.
قال: "وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ فِي إنْكَارِ الْكِتَابِ الْمُتَقَدِّمِ رِوَايَتَانِ" عمرو بن عبيد من المؤسسين لمذهب الْمُعْتَزِلَةِ، هو وواصل بن عطاء، عمرو بن عبيد هذا من رؤس الْمُعْتَزِلَةِ، وهم ينكرون الْقَدَرِ.
يقول المؤلف: "وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ فِي إنْكَارِ الْكِتَابِ الْمُتَقَدِّمِ رِوَايَتَانِ" كتابة الله للأشياء قبل كونها له روايتان، رواية في إثبات الكتاب، ورواية في نفي الكتاب.
قال المؤلف رحمه الله: "وقَوْلُ أُولَئِكَ كَفَّرَهُمْ عَلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمْ" المـُراد بقول "أُولَئِكَ" هم القدرية الأولى الذين أنكروا العلم والكتابة، "قَوْلُ أُولَئِكَ كَفَّرَهُمْ عَلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمْ.
وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَهُمْ مُبْتَدِعُونَ ضَالُّونَ" يعني: عامة الْقَدَرِيَّة الذين أنكروا العلم والكتاب، وأنكروا عموم الخَلق والمَشِيئَةِ، هؤلاء مبتدعة، فأما هؤلاء فهم مبتدعة ضالون، " لَكِنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَنْزِلَةِ أُولَئِكَ" ليسوا بمنزلة الْقَدَرِيَّة الأولى، فالْقَدَرِيَّةُ الأولى كفار، أنكروا العلم والكتاب، وينسبون الرب إلى الجهل، كفار..
أما هؤلاء فهم أثبتوا العلم والكتاب، ولكن أنكروا عموم المَشِيئَةِ والخلق؛ حتى لا تشمل أفعال العباد؛ لشبهة عرضت لهم.
قال المؤلف: "وَفِي هَؤُلَاءِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ كُتِبَ عَنْهُمْ الْعِلْمُ" يعني: في القَدَرِيَّةَ العامة الذين أثبتوا العلم والكتاب، وأنكروا عموم المشيئة والخلق، فيهم خلقٌ كثير من العلماء وَالْعُبَّادِ، كانوا يُنكرون باعتناق هذا الرأي، قال" وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ لِجَمَاعَةِ مِنْهُمْ" لأنهم عندهم صدق، وأمانة، وديانة؛ لكن عرضت لهم شبهة؛ فاعتنقوا هذا القول.
يقول المؤلف رحمه الله: "لَكِنْ مَنْ كَانَ دَاعِيَةً إلَيْهِ لَمْ يُخَرِّجُوا لَهُ " الداعي الذي يدعو إلى بدعته، هذا لا يُخرج له العلماء، ولا يروون عنه؛ لكن من كان متسترًا، ويرى فى الباطن هذا الرأي، وكان صادقًا عدلًا، فإنهم يروون عنه.
قال المؤلف رحمه الله: "وَهَذَا مَذْهَبُ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ: أَنَّ مَنْ كَانَ دَاعِيَةً إلَى بِدْعَةٍ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ لِدَفْعِ ضَرَرِهِ عَنْ النَّاسِ وَإِنْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ مُجْتَهِدًا وَأَقَلُّ عُقُوبَتِهِ أَنْ يُهْجَرَ" هذا الداعية، "فَلَا يَكُونُ لَهُ مَرْتَبَةٌ فِي الدِّينِ لَا يُؤْخَذُ عَنْهُ الْعِلْمُ وَلَا يُسْتَقْضَى" يعني: لا يكون قاضيًا، "وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ" هذا الداعية؛ أما المتستر الذي يرى هذا في الباطن، وهو صادق، وثقة؛ فإنه يُروى عنه.
قال المؤلف رحمه الله: "وَمَذْهَبُ مَالِكٍ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا وَلِهَذَا لَمْ يُخَرِّجْ أَهْلُ الصَّحِيحِ لِمَنْ كَانَ دَاعِيَةً" أهل الصحيح؛ يعني: البخاري ومسلم، لم يُخَرِّجُو للداعية([10])، ولكن خُرِّجُوا عن بعض من يرى رأي القدرية في الباطن، قال: "وَلَكِنْ رَوَوْا هُمْ وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّنْ كَانَ يَرَى فِي الْبَاطِنِ رَأْيَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ" رووا، أصحاب الصحيحين البخاري، ومسلم، وغيرهم؛ رووا عن المبتدع المتستر، ابتلي بهذه البدعة ولكنه متستر في الباطن، ولا يدعو إليها سواء كان يرى رأي القدرية، أو الْمُرْجِئَةِ، أو الشيعة، أما الداعية فلا يُروى عنه، والإمام أحمد رحمه الله بيَّن وجه رواية العلماء عنهم، قَالَ أَحْمَد: لَوْ تَرَكْنَا الرِّوَايَةَ عَنْ الْقَدَرِيَّةِ لَتَرَكْنَا أَكْثَرَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ" فيضيع شيءٌ كثير من الدين؛ لأنهم ثقة، وعندهم ديانة، ولكن اُبتلوا بهذا الرأي.
قال المؤلف: "وَهَذَا لَأَنَّ " مَسْأَلَةَ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَإِرَادَةِ الْكَائِنَاتِ " مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ" وفيها شبهة وشبهة قوية، ولهذا كانوا يرون أن أفعال العباد، لا تدخل في عموم المَشِيئَةِ، وفي عموم الخلق.
قال المؤلف: "وَكَمَا أَنَّ القدرية مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرَهُمْ أَخْطَئُوا فِيهَا فَقَدْ أَخْطَأَ فِيهَا كَثِيرٌ مِمَّنْ رَدَّ عَلَيْهِمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ" حتي الذين ردُّوا على القدرية، كثيرٌ منهم أَخْطَأوا، قال: "فَإِنَّهُمْ سَلَكُوا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ مَسْلَكَ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَأَتْبَاعِهِ فَنَفَوْا حِكْمَةَ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرَهُ وَنَفَوْا رَحْمَتَهُ بِعِبَادِهِ وَنَفَوْا مَا جَعَلَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ خَلْقًا وَأَمْرًا وَجَحَدُوا مِنْ الْحَقَائِقِ الْمَوْجُودَةِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ وَشَرَائِعِهِ مَا صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِنُفُورِ أَكْثَرِ الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ فَهِمُوا قَوْلَهُمْ عَمَّا يَظُنُّونَهُ السُّنَّةَ".
يعني يقول المؤلف رحمه الله: الذين ردُّوا على الْقَدَرِيَّة عامة، كثيرٌ منهم أَخْطَأوا في الرد؛ لأنهم سلكوا مسلك الْجَهْمِيَّة في إنكار تلك الحكمة والتعليل في خلقِ الله وأمره، ومن المعلوم أن الله تعالى له حكمة في خَلْقه، وأمره، وشرعه..
والله حكيمٌ في خلقه، يخلق لحكمة، ويأمر لحكمة، وينهى لحكمة، ويشرع لحكمة؛ فالجَهْم بْنِ صَفْوَانَ والأشاعرة من مذهبهم: إنكار الحِكَم؛ لأنهم يرون أن الله يفعل بالمَشِيئَةِ.
فبعض الناس الذين ردُّوا على الْقَدَرِيَّة ردوا عليهم ردًّا خاطئًا، أَخْطَئُوا في الرد عليهم، وسلكوا في الرد عليهم مسلك الْجَهْمِيَّة، ونفوا الحكمة والتعليل في الخلق والأرض؛ فكان ردهم يُنفِّر كثيرا من العقلاء الذين فهموا قولهم عما يظنونه السنة، قال: "إذْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ قَوْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْقَدَرِ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي ابْتَدَعَهُ جَهْمٌ" كانوا يظنون أن قول أهل السنة في الْقَدَر، عامة القدرية المتأخرون الذين أثبتوا العلم والكتاب، وأنكروا عموم المَشِيئَةِ والْقَدَرِ، ظنوا أن هذا هو القول الذي ابتدعه الجَهْمٌ في إنكار العلم والكتاب؛ بسبب رد هؤلاء عليهم، الذين سلكوا مسلك جَهْمٌ، فظنوا أن قولهم في الْقَدَرِ هو قول القدرية الأولى، وذلك أنه يجب على الإنسان إذا رد على أهل البدع؛ أن يكون رده ردًّا صحيحا، يسلك فيه مسلك العلماء الذين يستدلون بالأدلة من الكتاب والسنة، أما أنْ يسلك مسلك أهل البدع؛ فإنَّ هذا يكون سببًا في التنفير، ويكون سببًا في ردِّ هذا الجواب، كما بيَّن المؤلف رحمه الله.
(القارئ)
أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، هنا سؤال لأحد الإخوة: هناك –عفا الله عنك- مَن يكتب كتابات، ويخطئ الأئمة، ويتهجم عليهم في نسبة القول بالْقَدَرِ لعمرو بن عبيد، وكذلك يخطٌئ الأئمة، يجزم –عفا الله عنك- ظنًّا منه بلا دليلٍ، ويقول: هم أَخْطَأوا في نسبة القول بالقدر له، أو لواصل بن عطاء، ويقول: لا سند لهم، والرواية التي تُنسب إليهم في ذلك، ضعيفة.
فما ردكم -عفا الله عنك- على هذا؟
(الشرح)
عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء26هذا ثابت ومتواتر عن أهل العلم والإيمان، وموجود في مؤلفاتهم، وفي كتبهم، والأئمة والعلماء نقلوا عنهم كثيرًا، الإمام أحمد نقلَ عنهم، ووكيع بن الجراح نقل عنهم، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيِّم، وغيرهم من أهل العلم، وأهل البصيرة.
فهذا أمرٌ لا نزاع فيه، كون عمرو بين عبيد، وواصل بن عطاء، هم الآن أئمة المعتزلة، وأئمة الْقَدَرِيَّة، هذا أمرٌ معلوم عند الخاص والعام من أهل العلم، وهو أمرٌ متواتر نقله العلماء في كتبهم، وهو موجودٌ في كتبهم ومؤلفاتهم، ونقله عنهم غيرهم من الْقَدَرِيَّة، فهم صرحوا بهذا؛ فلا مجال لإنكار هذا.
ولكن هذا بعض الناس من أجل تلبيسه، وردِّه للحقائق حتى يلبِّس على الناس، حتى يُخفي مذهب القدرية؛ لاشك أن هذا تلبيس ممن يقول هذا الكلام، أو يدافع عن عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء هذا من تلبيسه.
وهذه شنشنة -كما يُقال: شنشنة نعرفها من أخزم- شنشنة معروفة، الآن صار بعض الناس الآن في هذا الزمن، صاروا يشككون في كثيرٍ من الحقائق، فبعض الناس يشككون مثلًا، يقولون بالاستيلاء هذا، يشككون في إنكاره للبَعث؛ مع أن هذا موجود في رسالة 27—صاربعض الناس يشكك في رسالة الصلاة للإمام أحمد؛ يشككون في كثير من الحقائق، يريدون ألا تَثْبُت.
بعض أهل البدع صاروا يشككون قالوا مثلًا رسالة الصلاة ما ثبتت للإمام أحمد، ولا ثبت عن ابن سينا كذا، ولا ثبتَ عن عمرو بن عبيد أنه يقول بالْقَدَر؛ يشككون؛ لأنهم يريدون أن لا تثبت هذه الأشياء حتى لا يلزمهم القول بالباطل الذي تفوهوا به، فهم يدافعون عن أهل الباطل ويشككون حتى لا يتبين باطلهم، وحتى لا يعرف أهل الحق أنهم على باطل، نسأل الله السلامة والعافية.
(المتن)
قال المؤلف رحمه الله:
"وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ " السَّلَفَ " فِي رَدِّهِمْ عَلَى الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ يَرُدُّونَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ مَا يَبْلُغُهُمْ عَنْهُمْ وَمَا سَمِعُوهُ مِنْ بَعْضِهِمْ. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ قَوْلَ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ وَقَدْ يَكُونُ نَقْلًا مُغَيِّرًا.
فَلِهَذَا رَدُّوا عَلَى الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الدِّينَ وَالْإِيمَانَ وَاحِدًا؛ وَيَقُولُونَ هُوَ الْقَوْلُ.
وَأَيْضًا فَلَمْ يَكُنْ حَدَثٌ فِي زَمَنِهِمْ مِنْ الْمُرْجِئَةِ مَنْ يَقُولُ: الْإِيمَانُ هُوَ مُجَرَّدُ الْقَوْلِ بِلَا تَصْدِيقٍ وَلَا مَعْرِفَةٍ فِي الْقَلْبِ.
فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا أَحْدَثَهُ ابْنُ كَرَّامٍ وَهَذَا هُوَ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ ابْنُ كَرَّامٍ، وَأَمَّا سَائِرُ مَا قَالَهُ فَأَقْوَالٌ قِيلَتْ قَبْلَهُ.
وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ الْأَشْعَرِيُّ وَلَا غَيْرُهُ مِمَّنْ يَحْكِي مَقَالَاتِ النَّاسِ عَنْهُ قَوْلًا انْفَرَدَ بِهِ إلَّا هَذَا. وَأَمَّا سَائِرُ أَقْوَالِهِ فَيَحْكُونَهَا عَنْ نَاسٍ قَبْلَهُ وَلَا يَذْكُرُونَهُ. وَلَمْ يَكُنْ ابْنُ كَرَّامٍ فِي زَمَنِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ فَلِهَذَا يَحْكُونَ إجْمَاعَ النَّاسِ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ؛ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمَا.
وَكَانَ قَوْلُ الْمُرْجِئَةِ قَبْلَهُ: إنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَتَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ وَقَوْلُ جَهْمٍ: إنَّهُ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ؛ فَلَمَّا قَالَ ابْنُ كَرَّامٍ: إنَّهُ مُجَرَّدُ قَوْلُ اللِّسَانِ. صَارَتْ أَقْوَالُ الْمُرْجِئَةِ ثَلَاثَةً لَكِنَّ أَحْمَد كَانَ أَعْلَمُ بِمَقَالَاتِ النَّاسِ مِنْ غَيْرِهِ فَكَانَ يَعْرِفُ قَوْلَ الْجَهْمِيَّة فِي الْإِيمَانِ وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ. فَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ وَلَا يَعْرِفُ إلَّا مُرْجِئَةَ الْفُقَهَاءِ فَلِهَذَا حُكِيَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة والكَرَّامِيَة".
(الشرح)
فإن المؤلف رحمه الله بيَّن فيما سبق في الحلقتين الماضيين مذهب القدرية، بعد أن بيَّن مذهب الْمُرْجِئَةِ، وبيَّن رحمه الله المقصود والخلاصة مما سبق، أن السلف والأئمة، كانوا يردون أقوال أهل البدع من الْمُرْجِئَةِ، وَالْجَهْمِيَّة، والْقَدَرِيَّةَ؛ يردُّون الأقوال الباطلة؛ لأن أهل البدع تكلموا بالباطل؛ فاضطر العلماء والسلف إلى ردَّ هذه الأقوال الباطلة، وقد تكون هذه الأقوال الباطلة قولًا لبعضهم دون البعض، وقد تكون هذه الأقوال بعضها غُيِّر عن وجهه، فلهذا ردَّ العلماء على أهل البدع من الْمُرْجِئَةِ، وَالْجَهْمِيَّة، والْقَدَرِيَّةَ.
قال المؤلف رحمه الله:"وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ " السَّلَفَ " فِي رَدِّهِمْ عَلَى الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ يَرُدُّونَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ مَا يَبْلُغُهُمْ عَنْهُمْ وَمَا سَمِعُوهُ مِنْ بَعْضِهِمْ. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ قَوْلَ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ وَقَدْ يَكُونُ نَقْلًا مُغَيِّرًا. فَلِهَذَا رَدُّوا عَلَى الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الدِّينَ وَالْإِيمَانَ وَاحِدًا" لأن هذا قول البعض، الْمُرْجِئَةِ يقولون: "الدين والإيمان واحد"، ويقولون: هو "القول"، إذا تكلم، أقَّر بقلبه؛ قالوا هذا يكفي، هذا الدين والإيمان شيء واحد، أو عند مُرْجِئَةِ الفقهاء القول: قول القلب وقول اللسان؛ فقولهم الدين والإيمان هو "القول" يعني: قول القلب وقول اللسان؛ هذا باطل، معناه أن الأعمال ليست داخلة في مُسمى الإيمان.
فلهذا ردَّ العلماء والأئمة على الْمُرْجِئَةِ؛ فقال المؤلف: "فَلِهَذَا رَدُّوا عَلَى الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الدِّينَ وَالْإِيمَانَ وَاحِدًا وَيَقُولُونَ هُوَ الْقَوْلُ" يعني الدين والإيمان هو القول.
وبيَّن المؤلف رحمه الله أن في زمن السلف، لم يحدث قول الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّة الذين يقولون إن الإيمان هو مجرد قول القلب، يعني إقراره بلا تصديق، أنه لم يحدث في زمن قول الكَرَّامية الذين يقولون: "أن الإيمان هو مجرد القول" يعني النطق باللسان، ولو لم يُصدق بقلبه، ولم يعرف قلبه؛ هذا ما حدث إلا بعد ذلك؛ لأنه قولٌ ابتدعه ابْنُ كَرَّامٍ لم يسبقه أحد، حيث قال: "إن الإيمان مجرد نطقٌ باللسان"، والجَهْم يقول: "إن الإيمان هو مجرد المعرفة بالقلب"، ومُرْجِئَةِ الفقهاء يقولون: "إن الإيمان هو قول اللسان وتصديق القلب".
بيَّن المؤلف رحمه الله أن الْمُرْجِئَة بعد ما أحدثه ابْنُ كَرَّامٍ ... هذا القول.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَأَيْضًا فَلَمْ يَكُنْ حَدَثٌ فِي زَمَنِهِمْ مِنْ الْمُرْجِئَةِ مَنْ يَقُولُ: الْإِيمَانُ هُوَ مُجَرَّدُ الْقَوْلِ" يعني النطق باللسان، "بِلَا تَصْدِيقٍ وَلَا مَعْرِفَةٍ بالْقَلْبِ. فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا أَحْدَثَهُ ابْنُ كَرَّامٍ". ابن كرام هذا، هو رئيس فِرقة الكرامية.
قال المؤلف: "وَهَذَا هُوَ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ ابْنُ كَرَّامٍ"، يعني هذا القول: وهو أن الإيمان مجرد النطق باللسان، هذا القول أحدثَه ابْنُ كَرَّام، لم يسبقه عليه أحد، فإنه يقول: إذا نطق بلسانه فهو مؤمنٌ كامل الإيمان، وإن كان مكذِّبًا بقلبه، فهو مُخلد في النار.
فجمعَ بين قولين متنافرين؛ يَلْزَم على مذهب ابْنُ كَرَّام، أنْ يكونَ المؤمن كامل الإيمان مُخلدًا في النار، فإذا نطق بلسانه، قال: نطقَ بالإيمان، نطقَ بالشهادتين بلسانه؛ فيكونُ مؤمنًا كامل الإيمان، وإذا كان مكذبًا بقلبه؛ فيكون مُخلدًا في النار، فيكون مؤمن كامل الإيمان مُخلدٌ في النار، وهذا قولٌ لم يُسبق ابْنُ كَرَّام، وانفرد به، وَأَمَّا سَائِرُ أقواله الأخرى فإن له مَن يُوافقه، لكن هذا القول هو الذي انفرد به ابْنُ كَرَّام.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا أَحْدَثَهُ ابْنُ كَرَّامٍ وَهَذَا هُوَ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ ابْنُ كَرَّامٍ، وأما سائر مَا قَالَهُ فَأَقْوَالٌ قِيلَتْ قَبْلَهُ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ الْأَشْعَرِيُّ وَلَا غَيْرُهُ" أبو الحسن الأشعري، "مِمَّنْ يَحْكِي مَقَالَاتِ النَّاسِ عَنْهُ قَوْلًا انْفَرَدَ بِهِ إلَّا هَذَا" ابْنُ كَرَّامٍ، "وَأَمَّا سَائِرُ أَقْوَالِهِ" يعني ابْنُ كَرَّامٍ، "فَيَحْكُونَهَا عَنْ نَاسٍ قَبْلَهُ وَلَا يَذْكُرُونَهُ.
وَلَمْ يَكُنْ ابْنُ كَرَّامٍ فِي زَمَنِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ" جاء متأخرًا، قال: "فَلِهَذَا يَحْكُونَ إجْمَاعَ النَّاسِ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ" العلماء السابقون،كالإمام أحمد يحكون إجماع العلماء على خلاف هذا القول؛ لأنه لم يحدث هذا القول أُحدثه ابْنُ كَرَّام.
قال: "كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمَا" أبو ثور هو إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي البغدادي صاحب الإمام الشافعي وكان من الفقهاء، الأعلام، الثقات، تُوفي في بغداد.
يقول المؤلف: "وَكَانَ قَوْلُ الْمُرْجِئَةِ قَبْلَهُ: إنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَتَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ وَقَوْلُ جَهْمٍ: إنَّهُ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ" يعني قبل أن يأتي ابْنُ الكَرَّام كانت المرجئة طائفتان:
الْجَهْمِيَّة: الذين يقولون "إنه تصديق القلب، ومعرفته".
ومُرْجِئَةِ الفقهاء: الذين يقولون:" الإيمان القول باللسان، وتصديقٌ بالقلب".
فلما أحدث ابْنُ الكَرَّام القول الثالث: "أن الإيمان هو النطق باللسان" صار قولًا ثالثا؛ فصارت الْمُرْجِئَةِ ثلاثة أقسام.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَلَمَّا قَالَ ابْنُ كَرَّامٍ: إنَّهُ مُجَرَّدُ قَوْلُ اللِّسَانِ. صَارَتْ أَقْوَالُ الْمُرْجِئَةِ ثَلَاثَةً" قول ابْن الكَرَّام "أن الإيمان هو النطق باللسان"، وقول الجَهْم "هو تصديق القلب ومعرفته"، وقول مُرْجِئَةِ الفقهاء "الإيمان تصديقٌ بالقلب وقول باللسان".
قال المؤلف رحمه الله: "لَكِنَّ أَحْمَد كَانَ أَعْلَمُ بِمَقَالَاتِ النَّاسِ مِنْ غَيْرِهِ فَكَانَ يَعْرِفُ قَوْلَ الْجَهْمِيَّة فِي الْإِيمَانِ" وأنه تصديقٌ بالقلب ومعرفته "وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ فَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ وَلَا يَعْرِفُ إلَّا مُرْجِئَةَ الْفُقَهَاءِ؛فَلِهَذَا حكي الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة والكَرَّامِيَة" الإمام أحمد رحمه الله، كان يعرف قول الْجَهْمِيَّة، أكثر من معرفة أبي ثور؛ فلهذا حكى أن مذهب الْجَهْمِيَّة باطل، وأنه على خلاف ما أجمعت عليه هذه الأمة، أما أبو ثور فلا يعرف إلا مُرْجِئَةِ الفقهاء؛ فلهذا حكى الإجماع على خلاف قول الْجَهْمِيَّة والكرامية؛ لأنه لايعرف الأقوال كمعرفة الإمام أحمد ،فالإمام أحمد خبيرٌ بالأقوال، فكان يعرف أقوال الجهمية في الإيمان، وأبو ثور لايعرف إلا قول مُرْجِئَةِ الفقهاء؛ فلهذا حكى الإجماع على خلاف قول الْجَهْمِيَّة والكرامية.
(المتن)
قَالَ أَبُو ثَوْرٍ فِي رَدِّهِ عَلَى الْمُرْجِئَةِ كَمَا رَوَى ذَلِكَ أَبُو الْقَاسِمِ الطبري اللكائي وَغَيْرُهُ: عَنْ إدْرِيسَ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ أَبَا ثَوْرٍ عَنْ الْإِيمَانِ وَمَا هُوَ أَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ؟ وَقَوْلٌ هُوَ أَوْ قَوْلٌ وَعَمَلٌ؟ أَوْ تَصْدِيقٌ وَعَمَلٌ. فَأَجَابَهُ أَبُو ثَوْرٍ بِهَذَا فَقَالَ: سَأَلْت رَحِمَك اللَّهُ وَعَفَا عَنَّا وَعَنْك عَنْ الْإِيمَانِ مَا هُوَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ؟ وَقَوْلٌ هُوَ أَوْ قَوْلٌ وَعَمَلٌ أَوْ تَصْدِيقٌ وَعَمَلٌ؟ فَأُخْبِرُكَ بِقَوْلِ الطَّوَائِفِ وَاخْتِلَافِهِمْ.
اعْلَمْ يَرْحَمُنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ: أَنَّ الْإِيمَانَ تَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ وَقَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافٌ فِي رَجُلٍ لَوْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ وَأَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ حَقٌّ وَأَقَرَّ بِجَمِيعِ الشَّرَائِعِ ثُمَّ قَالَ: مَا عَقَدَ قَلْبِي عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا؛ وَلَا أُصَدِّقُ بِهِ؛ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْلِمِ وَلَوْ قَالَ: الْمَسِيحُ هُوَ اللَّهُ وَجَحَدَ أَمْرَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ قَالَ: لَمْ يَعْقِدْ قَلْبِي عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَافِرٌ بِإِظْهَارِ ذَلِكَ وَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ بِالْإِقْرَارِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ التَّصْدِيقُ مُؤْمِنًا وَلَا بِالتَّصْدِيقِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ الْإِقْرَارُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَكُونَ مُصَدِّقًا بِقَلْبِهِ مُقِرًّا بِلِسَانِهِ. فَإِذَا كَانَ تَصْدِيقًا بِالْقَلْبِ وَإِقْرَارًا بِاللِّسَانِ كَانَ عِنْدَهُمْ مُؤْمِنًا وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَكُونَ مَعَ التَّصْدِيقِ عَمَلٌ فَيَكُونُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذَا اجْتَمَعَتْ مُؤْمِنًا فَلَمَّا نَفَوْا أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ بِشَيْءِ وَاحِدٍ وَقَالُوا: يَكُونُ بِشَيْئَيْنِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ وَثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ فِي قَوْلِ غَيْرِهِمْ. لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا إلَّا بِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَشْيَاءِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا جَاءَ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَشْيَاءِ.
فَكُلُّهُمْ يَشْهَدُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ؛ فَقُلْنَا بِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ وَالْعَمَلِ بِالْجَوَارِحِ.
فَأَمَّا الطَّائِفَةُ الَّتِي ذَهَبَتْ إلَى أَنَّ الْعَمَلَ لَيْسَ مِنْ الْإِيمَانِ فَيُقَالُ لَهُمْ: مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ الْعِبَادِ إذْ قَالَ لَهُمْ: أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ الْإِقْرَارَ بِذَلِكَ أَوْ الْإِقْرَارَ وَالْعَمَلَ؟ فَإِنْ قَالَتْ: إنَّ اللَّهَ أَرَادَ الْإِقْرَارَ وَلَمْ يُرِدْ الْعَمَلَ؛ فَقَدْ كَفَرَتْ. عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. (مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ مِنْ الْعِبَادِ أَنْ يُصَلُّوا وَلَا يُؤْتُوا الزَّكَاةَ؟ وَإِنْ قَالَتْ: أَرَادَ مِنْهُمْ الْإِقْرَارَ والعمل قِيلَ: فَإِذَا كَانَ أَرَادَ مِنْهُمْ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا.
لِمَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُ يَكُونُ مُؤْمِنًا بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَقَدْ أَرَادَهُمَا جَمِيعًا؟ أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: أَعَمَلُ جَمِيعَ مَا أَمَرَ بِهِ اللَّهُ وَلَا أُقِرُّ بِهِ أَيَكُونُ مُؤْمِنًا؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا. قِيلَ لَهُمْ: فَإِنْ قَالَ: أُقِرُّ بِجَمِيعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَلَا أَعْمَلُ بِهِ؛ أَيَكُونُ مُؤْمِنًا؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ. قِيلَ مَا الْفَرْقُ؟ فَقَدْ زَعَمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا فَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ بِأَحَدِهِمَا مُؤْمِنًا إذَا تَرَكَ الْآخَرَ جَازَ أَنْ يَكُونَ بِالْآخَرِ إذَا عَمِلَ بِهِ وَلَمْ يُقِرَّ مُؤْمِنًا لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ.
فَإِنْ احْتَجَّ فَقَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَسْلَمَ فَأَقَرَّ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ أَيَكُونُ مُؤْمِنًا بِهَذَا الْإِقْرَارِ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ وَقْتُ عَمَلٍ؟ قِيلَ لَهُ: إنَّمَا يُطْلَقُ لَهُ الِاسْمُ بِتَصْدِيقِهِ أَنَّ الْعَمَلَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: أَنْ يَعْمَلَهُ فِي وَقْتِهِ إذَا جَاءَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْإِقْرَارُ بِجَمِيعِ مَا يَكُونُ بِهِ مُؤْمِنًا؛ وَلَوْ قَالَ: أُقِرُّ وَلَا أَعْمَلُ لَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِيمَانِ."
(الشرح)
هذا النقل للمؤلف رحمه الله عن أبي ثور في الإيمان، وأقوال العلماء في ذلك، ومناقشة الْمُرْجِئَةِ، وأهل البدع، ثم تعقبه المؤلف رحمه الله، وصوَّب ما كان موافقًا (د42)باسم النصوص.
قال المؤلف رحمه الله في نقله عن أبي ثور، وهو كما سبق إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي البغدادي([11])، صاحب الإمام الشافعي، صاحب الإمام الشافعي: " قَالَ أَبُو ثَوْرٍ فِي رَدِّهِ عَلَى الْمُرْجِئَةِ كَمَا رَوَى ذَلِكَ أَبُو الْقَاسِمِ الطبري اللاكائي" وهو هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري أبوالقاسم اللالكائي الشافعي، معروف من أهل السنة، واشتهر بالفقه والحديث، يقول المؤلف رحمه الله: "قَالَ أَبُو ثَوْرٍ فِي رَدِّهِ عَلَى الْمُرْجِئَةِ كَمَا رَوَى ذَلِكَ أَبُو الْقَاسِمِ الطبري اللالكائي وَغَيْرُهُ: عَنْ إدْرِيسَ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ" وهو أبو الحسن البغدادي الحداد، مُقريء العراق روى عن الإمام أحمد ويحيى ابن معين وهو ثقة، "قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ أَبَا ثَوْرٍ عَنْ الْإِيمَانِ وَمَا هُوَ أَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ؟ وَقَوْلٌ هُوَ أَوْ قَوْلٌ وَعَمَلٌ؟ أَوْ تَصْدِيقٌ وَعَمَلٌ" سأل رجل من خراسان أبا ثَوْر عن الإيمان سأله سؤالين:
السؤال الأول: الإيمان، ماهو؟ وهل يزيد أو ينقص؟
السؤال الثاني: هل الإيمان قولٌ فقط أو قولٌ وعمل أو تصديقٌ وعمل؟
فأجابه أبو ثَوْر رحمه الله بالجواب الذي نقله المؤلف رحمه الله: "فَأَجَابَهُ أَبُو ثَوْرٍ بِهَذَا فَقَالَ: سَأَلْت رَحِمَك اللَّهُ وَعَفَا عَنَّا وَعَنْك عَنْ الْإِيمَانِ مَا هُوَ؟ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ؟ وَقَوْلٌ هُوَ أَوْ قَوْلٌ وَعَمَلٌ أَوْ تَصْدِيقٌ وَعَمَلٌ؟ فَأُخْبِرُكَ بِقَوْلِ الطَّوَائِفِ وَاخْتِلَافِهِمْ." أبو ثَوْر رحمه الله نقل اختلاف الطوائف في هذا، وبيَّن.
قال: " إعلم يرحمنا الله وإياك" وهذا النصح في هذا الرد في إجابته ، هذا من أخلاق العلماء، ومن نصحهم، أنهم يُعلِّمون طالب العلم، ويدعون له؛ تعليمه والدعاء له؛ حتى يعلم.
"اعْلَمْ يَرْحَمُنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ: أَنَّ الْإِيمَانَ تَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ وَقَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ" هذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة، هذا الذي عليه جمهور أهل السنة؛ أن الإيمان تصديقٌ بالقلب، وقولٌ باللسان، وعملٌ بالجوارح؛ كل هذا داخلا في مُسمى الإيمان، تصديق القلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، ومنه أعمال القلوب كذلك.
قال: "وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافٌ فِي رَجُلٍ لَوْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ وَأَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ حَقٌّ وَأَقَرَّ بِجَمِيعِ الشَّرَائِعِ ثُمَّ قَالَ: مَا عَقَدَ قَلْبِي عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا؛ وَلَا أُصَدِّقُ بِهِ؛ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْلِمِ" هذا الشخص تلفَّظ بلسانه، ولكنه يقول أنه لايعتقد ما تلفظ به لسانه؛ فصار قوله بلسانه، لا يوافق ما يعتقده في القلب؛ هذا منافق، هذا ليس بمسلم؛ هذا منافق؛ منافق من أظهر شيئًا بلسانه، ولا يعتقده بقلبه، هذا هو النفاق.
يقول أبو ثور: هذا ليس فيه خلاف بين أهل العلم، أن هذا لا يكون مسلمًا؛ من شهد أن الله واحد، نطق بالشهادتين، وأن ما جاءت به الرسل حق وأقر بجميع الشرائع. ثم قال: "مَا عَقَدَ قَلْبِي عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا؛ وَلَا أُصَدِّقُ بِهِ" يُكذِّب، فقلبه مُكذِّب لما نطق به لسانه؛ إنه ليس بمسلم، وأنه"وَلَوْ قَالَ" شخص آخر، "وَلَوْ قَالَ: الْمَسِيحُ هُوَ اللَّهُ" والعياذ بالله "وَجَحَدَ أَمْرَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ قَالَ: لَمْ يَعْقِدْ قَلْبِي عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَافِرٌ بِإِظْهَارِ ذَلِكَ" يعني من قال بلسانه: الميسح هو الله، ثم قال: أنا لا أعتقد ذلك هذا كافر؛ إذا تكلم بكلمة الكفر؛ كَفر، ولا يشترط الإعتقاد بقلبه، "من تكلم بكلمة كُفر؛ كَفر.
ولذلك الذين تكلموا في غزوة تَبُوكَ، وقالوا: مَا رَأَيْنا مِثْلَ قُرَّائِنَا هَؤُلاءِ لا أَرْغَبَ بُطُونًا، وَلا أَكْذَبَ أَلْسِنَةً، وَلا أَجْبَنَ عِنْدَ اللِّقَاءِ([12]) (يعنون الرسول ﷺ) كفرهم الله بعد إيمانهم، وجاءوا يعتذرون، ويقولون: ما نقصد بقلوبنا هذا، وإنما نريد قطع المسافة، قطع الطريق، والنبي ﷺ ما عَذَرهم، ولا يزال يتلوا عليهم الآية التي نَزَّل الله فيهم: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة: 65،66] هذا كلام كفر من بعد الإيمان، وهم اعتذروا أنهم لا يقصدون هذا بقلوبهم؛ ومع ذلك لم يعذرهم الله، فدَّل على أن الإنسان إذا تكلم بكلمة الكفر؛ يكون كافرًا، ولا يشترط أن يعتقد بقلبه.
وهذا فيه رد على الْمُرْجِئَةِ، الْمُرْجِئَةِ يقولون: إذا لم يعتقد بقلبه؛ فلا يكون كافرًا، لابد من عقيدة القلب؛ لأنه إذا نطق بلسانه، وعمل بجوارحه ولم يعتقد بقلبه؛ لا يكون كافرًا، وهذا باطل.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله نقلًا عن أبي ثَوْر: "أَنَّهُ كَافِرٌ بِإِظْهَارِ ذَلِكَ وَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ" قال فيما نقله: "فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ بِالْإِقْرَارِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ التَّصْدِيقُ مُؤْمِنًا وَلَا بِالتَّصْدِيقِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ الْإِقْرَارُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَكُونَ مُصَدِّقًا بِقَلْبِهِ مُقِرًّا بِلِسَانِهِ" يقول: إذا أقَّر، ولم يكن معه تصديق؛ لايكُون مؤمنًا، وإذا صدَّق، ولم يكن معه إقرار؛ فلا يكون مؤمنًا؛ فدلَّ على أن الإيمان لابد فيه النطق باللسان، والتصديق بالقلب، والعمل بالجوارح.
ولهذا قال:"فَإِذَا كَانَ تَصْدِيقًا بِالْقَلْبِ وَإِقْرَارًا بِاللِّسَانِ كَانَ عِنْدَهُمْ مُؤْمِنًا وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَكُونَ مَعَ التَّصْدِيقِ عَمَلٌ فَيَكُونُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذَا اجْتَمَعَتْ مُؤْمِنًا" القلب، واللسان، والعمل؛ " فَلَمَّا نَفَوْا أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ بِشَيْءِ وَاحِدٍ" أهل العلم لما نَفوا أن يكون الإيمان بشيء واحد، وهو تصديق القلب، "وَقَالُوا: يَكُونُ بِشَيْئَيْنِ"، هو يكون بتصديق القلب، وإقرار باللسان عند بعضهم، " وَثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ فِي قَوْلِ غَيْرِهِمْ" التصديق، والقول، والعمل؛ "لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا إلَّا بِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَشْيَاءِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا جَاءَ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَشْيَاءِ" التصديق بالقلب، والإقرار باللسان (النطق باللسان)، والعمل بالجوارح؛ إذا جاء بهذه الثلاثة "فَكُلُّهُمْ يَشْهَدُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ؛ فَقُلْنَا بِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ وَالْعَمَلِ بِالْجَوَارِحِ".
قال: "فَأَمَّا الطَّائِفَةُ الَّتِي ذَهَبَتْ إلَى أَنَّ الْعَمَلَ لَيْسَ مِنْ الْإِيمَانِ فَيُقَالُ لَهُمْ" يعني في مناقشتهم، "فَيُقَالُ لَهُمْ: مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ الْعِبَادِ إذْ قَالَ لَهُمْ: أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ الْإِقْرَارَ بِذَلِكَ أَوْ الْإِقْرَارَ وَالْعَمَلَ؟ فَإِنْ قَالَتْ" يعني هذه الطائفة" ،فَإِنْ قَالَتْ : إنَّ اللَّهَ أَرَادَ الْإِقْرَارَ وَلَمْ يُرِدْ الْعَمَلَ؛ فَقَدْ كَفَرَتْ. عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ." إن الله حين خاطب العباد أراد منهم أن يعملوا، "كمَنْ قال: إنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ مِنْ الْعِبَادِ أَنْ يُصَلُّوا وَلَا يُؤْتُوا الزَّكَاةَ؟" يعني يكون كافرًا، مَن قال أنه لم يرُد من العباد أن يُصلُّوا، ولا يزُكوا؛ يكون كافرًا، وكذلك مَنْ قال أن الله أرد الإقرار دون العمل، "وَإِنْ قَالَتْ: أَرَادَ مِنْهُمْ الْإِقْرَار والعملَ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ أَرَادَ مِنْهُمْ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا لِمَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُ يَكُونُ مُؤْمِنًا بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَقَدْ أَرَادَهُمَا جَمِيعًا؟" هذه مناقشة قوية.
ثم ضرب لهم مثلًا قال: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: أَعَمَلُ جَمِيعَ مَا أَمَرَ بِهِ اللَّهُ وَلَا أُقِرُّ بِهِ أَيَكُونُ مُؤْمِنًا؟" يكاد يعمل، لكن يعتقد أنه ليس بواجب، "فَإِنْ قَالُوا: لَا. قِيلَ لَهُمْ: فَإِنْ قَالَ: أُقِرُّ بِجَمِيعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَلَا أَعْمَلُ بِهِ؛ أَيَكُونُ مُؤْمِنًا؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ. قِيلَ مَا الْفَرْقُ بين الأمرين؟ فَقَدْ زَعَمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا"، الإقرار،، والعمل "فَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ بِأَحَدِهِمَا مُؤْمِنًا إذَا تَرَكَ الْآخَرَ جَازَ أَنْ يَكُونَ بِالْآخَرِ إذَا عَمِلَ بِهِ وَلَمْ يُقِرَّ مُؤْمِنًا لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ. فَإِنْ احْتَجَّ فَقَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَسْلَمَ فَأَقَرَّ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ أَيَكُونُ مُؤْمِنًا بِهَذَا الْإِقْرَارِ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ وَقْتُ عَمَلٍ؟ قِيلَ لَهُ: إنَّمَا يُطْلَقُ لَهُ الِاسْمُ بِتَصْدِيقِهِ أَنَّ الْعَمَلَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: أَنْ يَعْمَلَهُ فِي وَقْتِهِ إذَا جَاءَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ إلا الْإِقْرَارُ بِجَمِيعِ مَا يَكُونُ بِهِ مُؤْمِنًا" الإنسان إذا قال أنا أُقر بما جاء به النبى ﷺ، ولم يعمل؛لأنه لم يجيء وقت العمل؛ لم يجيء وقت الصلاة مثلًا، في الصباح، هذا يُسمى مؤمن؛ لأنه مصدقٌ بالعمل؛ ولأنه يريد أن يعمل إذا جاء وقت العمل، وأما الآن في الوقت الذي لم يجيء وقت العمل، ليس عليه إلا الإقرار، مثلا في الضحى، كيف يؤدي صلاة الظهر ؟! ما جاء وقت الظهر؛ فإذا جاء وقت الصلاة صلى، في هذه الحال ليس عليه إلا الإقرار بجميع ما يكون به مؤمنًا.
قال المؤلف: "وَلَوْ قَالَ: أُقِرُّ وَلَا أَعْمَلُ لَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِيمَانِ" لأنه أخذ عن ما يُسمى مؤمن بإطلاق؛ بل لايُطلق عليه مؤمن بإطلاق؛ إلا إذا أدَّى الواجبات، وترك المحرمات، أقرَّ وعمل.
(المتن)
قُلْت: يَعْنِي الْإِمَامُ أَبُو ثَوْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّهُ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إلَّا إذَا الْتَزَمَ بِالْعَمَلِ مَعَ الْإِقْرَارِ وَإِلَّا فَلَوْ أَقَرَّ وَلَمْ يَلْتَزِمْ الْعَمَلَ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا. وَهَذَا الِاحْتِجَاجُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو ثَوْرٍ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْأَمْرَيْنِ: الْإِقْرَارِ وَالْعَمَلِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ الدِّينِ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُطِيعًا لِلَّهِ وَلَا مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ وَلَا مَمْدُوحًا عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَّا بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يَجْعَلُ الْأَعْمَالَ خَارِجَةً عَنْ الدِّينِ وَالْإِيمَانِ جَمِيعًا.
وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ إنَّهَا مِنْ الدِّينِ وَيَقُولُ: إنَّ الْفَاسِقَ مُؤْمِنٌ حَيْثُ أَخَذَ بِبَعْضِ الدِّينِ وَهُوَ الْإِيمَانُ عِنْدَهُمْ وَتَرَكَ بَعْضَهُ؛ فَهَذَا يُحْتَجُّ عَلَيْهِ بِشَيْءِ آخَرَ لَكِنْ أَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ عَامَّةً احْتِجَاجُهُمْ مَعَ هَذَا الصِّنْفِ وَأَحْمَد كَانَ أَوْسَعَ عِلْمًا بِالْأَقْوَالِ وَالْحُجَجِ مِنْ أَبِي ثَوْرٍ.
قال المؤلف رحمه الله: وَلِهَذَا إنَّمَا حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الكَرَّامِيَة ثُمَّ إنَّهُ تَوَرَّعَ فِي النُّطْقِ عَلَى عَادَتِهِ وَلَمْ يَجْزِمْ بِنَفْيِ الْخِلَافِ؛ لَكِنْ قَالَ: لَا أَحْسَبُ أَحَدًا يَقُولُ هَذَا وَهَذَا فِي رِسَالَتِهِ إلَى أَبِي عَبْد الرَّحِيمِ الجوزجاني ذَكَرَهَا الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ " السُّنَّةِ " - وَهُوَ أَجْمَعَ كِتَابٍ يُذْكَرُ فِيهِ أَقْوَالُ أَحْمَد فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ الدِّينِيَّةِ وَإِنْ كَانَ لَهُ أَقْوَالٌ زَائِدَةٌ عَلَى مَا فِيهِ كَمَا أَنَّ كِتَابَهُ فِي الْعِلْمِ أَجْمَعَ كِتَابٍ يُذْكَرُ فِيهِ أَقْوَالُ أَحْمَد فِي الْأُصُولِ الْفِقْهِيَّةِ. "
(الشرح)
فإن المؤلف شيخ الإسلام بن تميمية رحمه الله، سبق قبل هذه الحلقة، أن نقل كلام أبي ثَوْر في الإيمان، وأنه يرى أن الإيمان لابد فيه من القول والعمل؛ لابد فيه من تصديق القلب، وقول اللسان، وعمل بالجوارح؛ خلافًا للمُرْجِئَةِ الذين يرون أن الإيمان هو تصديق القلب، وهو قول القلب؛ ومُرْجِئَةِ الفقهاء يرون أن الإيمان تصديق القلب، وقول اللسان.
وقبل ذلك نقل شيخ الإسلام رحمه الله، كلام العلماء في مُسمى الإيمان، نقل كلام عددٍ من أهل العلم، فقال كلام الجوزجاني والمروزي رحمه الله، محمد بن نصر المروزي، ونقل كلام غيره، ثم عقَّب المؤلف رحمه الله، علق على كلام أبي ثَوْر فقال: " قُلْت: يَعْنِي الْإِمَامُ أَبُو ثَوْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّهُ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إلَّا إذَا الْتَزَمَ بِالْعَمَلِ مَعَ الْإِقْرَارِ" المؤلف رحمه الله ينقل عن الإمام أبي ثور أنه يقول: " قُلْت: يَعْنِي الْإِمَامُ أَبُو ثَوْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّهُ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إلَّا إذَا الْتَزَمَ بِالْعَمَلِ مَعَ الْإِقْرَارِ وَإِلَّا فَلَوْ أَقَرَّ وَلَمْ يَلْتَزِمْ الْعَمَلَ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا" وهذا التعليق من المؤلف رحمه الله لما ذكر خلاصة كلام أبي ثَوْر في قوله:" قُلْت: إنَّهُ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إلَّا إذَا الْتَزَمَ بِالْعَمَلِ مَعَ الْإِقْرَارِ وَإِلَّا فَلَوْ أَقَرَّ وَلَمْ يَلْتَزِمْ الْعَمَلَ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا".
قال المؤلف رحمه الله تعليقًا على ما نقله عن أبي ثَوْر: "وَهَذَا الِاحْتِجَاجُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو ثَوْرٍ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْأَمْرَيْنِ: الْإِقْرَارِ وَالْعَمَلِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ الدِّينِ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُطِيعًا لِلَّهِ وَلَا مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ وَلَا مَمْدُوحًا عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَّا بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا"، وهذا حقّ كما سبق، أنه لايمكن أن يكون إيمانٌ صحيح إلا بالأمرين؛ فالتصديق بالقلب لابد من العمل ليتحقق به؛ وإلا صار كإيمان إبليس وفرعون؛ كما أن العمل من الصلاة، والصيام، وغيرها؛ لابد فيه من التصديق في الباطن؛ وإلا صار كإسلام المنافقين.
فالتصديق في الباطل لابد له من عمل يتحقق به، والعمل في الظاهر لابد له من إيمانٌ يصححه، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَهَذَا الِاحْتِجَاجُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو ثَوْرٍ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْأَمْرَيْنِ: الْإِقْرَارِ وَالْعَمَلِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ الدِّينِ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُطِيعًا لِلَّهِ وَلَا مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ وَلَا مَمْدُوحًا عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَّا بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا" يعني بالإقرار، والعمل؛ بالإقرار في الباطن، والظاهر أيضًا؛ التصديق في الباطن والإقرار باللسان والعمل.
قال المؤلف رحمه الله: "وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يَجْعَلُ الْأَعْمَالَ خَارِجَةً عَنْ الدِّينِ وَالْإِيمَانِ جَمِيعًا" وهؤلاء هم الْمُرْجِئَةِ الذين يقولون أن الأعمال خارجة عن مسمى الإيمان، فهذا حُجة عليهم؛ كلام العلماء، والنصوص من الكتاب والسنة، حُجة على هؤلاء الذين يدعون أن الأعمال خارجة عن الدِّينِ والإيمان.
قال المؤلف رحمه الله: "وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ إنَّهَا مِنْ الدِّينِ وَيَقُولُ: إنَّ الْفَاسِقَ مُؤْمِنٌ حَيْثُ أَخَذَ بِبَعْضِ الدِّينِ وَهُوَ الْإِيمَانُ عِنْدَهُمْ وَتَرَكَ بَعْضَهُ؛ فَهَذَا يُحْتَجُّ عَلَيْهِ بِشَيْءِ آخَرَ" يعني أن مَنْ يقل أن الأعمال من الدين، ويقول أن الفاسق مؤمن؛ لكن عنده أصل الإيمان؛ لأنه أخذ ببعض الدين، حيث أنه قصَّر في بعض الواجبات، وفعل بعض المحرمات؛ فالفاسق مؤمن، ولكنه ناقص الإيمان.
مَنْ يقول أن الفاسق مؤمن، حيث أخذ ببعض الدين، وهو الإيمان عندهم، وترك بعضه، قال: فهذا يُحتج عليه بشيء آخر، بأدلةٍ أخرى تدل على أن الفاسق لا يأخذ مُسمى الإيمان؛ بل يكن عنده أصل الإيمان الذي يكون يدخله في دائرة الإسلام، ولكنه لايُطلق عليه اسم الإيمان الكامل الواجب الذي يستحق به دخول الجنة، والنجاة من النار.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "لَكِنْ أَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ عَامَّةً احْتِجَاجُهُمْ مَعَ هَذَا الصِّنْفِ" يعني الذين يرون أن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان وهم الْمُرْجِئَةِ.
قال رحمه الله: "وَأَحْمَد كَانَ أَوْسَعَ عِلْمًا بِالْأَقْوَالِ وَالْحُجَجِ مِنْ أَبِي ثَوْرٍ وَلِهَذَا إنَّمَا حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الكَرَّامِيَة"، "إنَّمَا حَكَى" يعني الإمام أحمد، حكى الإجماع على خلاف قول الكَرَّامِيَة.
الكَرَّامِيَة الذين يرون أن الإيمان إنما يكون النطق باللسان، وقولٌهم هو أفسد قول في تعريف الإيمان، بعد قول الْجَهْمِيَّة؛ لأن الْجَهْمِيَّة يرون أن الإيمان هو معرفة الرب بالقلب، والكفر هو جهل الرب بالقلب، وهذا أفسد قول قيل في تاريخ الإيمان، ثم يليه قول الكَرَّامِيَة الذين يرون أن الإيمان هو النطق باللسان؛ فإذا نطق باللسان، وعمل أو شهد الشهادتين بلسانه، فإنه يكون مؤمن عند الكَرَّامِيَة؛ ولو كان مكذبًا بقلبه، ويقول من نطق بالشهادتين فإنه يكون مؤمنٌ كامل الإيمان، وإذا كان مكذبًا بقلبه، فإنه يُخلَّد في النار، فإنهم يجمعون بين أمرين متناقضين، فيكون المؤمن الكامل الإيمان مُخلد في النار.
فالإمام أحمد رحمه الله "حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الكَرَّامِيَة" وأن قول الكَرَّامِيَة قولٌ باطل، بإجماع العلماء، قال: ثم إن الإمام أحمد -رحمه الله- تَوَرَّعَ فِي النُّطْقِ عَلَى عَادَتِهِ وَلَمْ يَجْزِمْ بِنَفْيِ الْخِلَافِ؛ لَكِنْ قَالَ: "لَا أَحْسَبُ أَحَدًا يَقُولُ هَذَا" هذا من باب الوَرَع، الأئمة يتورعون، باب الوَرَع، وإلا فإنه لايوجد أحد من العِلم يوافق الكَرَّامِيَة على قولهم، لكن الإمام أحمد إمام أهل السنة والجماعة، وهو قدوة؛ فلهذا تَوَرَع بعد أن حكَّى الإجماع، قَالَ: لَا أَحْسَبُ أَحَدًا يَقُولُ هَذَا".
قال المؤلف رحمه الله: "وَهَذَا فِي رِسَالَتِهِ إلَى أَبِي عَبْد الرَّحِيمِ الجوزجاني" في رسالته إلى أَبِي عَبْد الرَّحِيمِ الجوزجاني حكى الإجماع على خلاف قول الكَرَّامِيَة وأن قولهم باطل، وهو أن الإيمان مجرد النطق باللسان، قال المؤلف: "ذَكَرَهَا الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ " السُّنَّةِ " - وَهُوَ أَجْمَعَ كِتَابٍ يُذْكَرُ فِيهِ أَقْوَالُ أَحْمَد فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ الدِّينِيَّةِ" فِي كِتَابِ " السُّنَّةِ " التي ذَكَرَهَا الْخَلَّالُ، هو أَجْمَع كتاب ينقل فيه أَقْوَالُ أَحْمَد رحمه الله فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ الدِّينِيَّةِ، قال: "وَإِنْ كَانَ لَهُ أَقْوَالٌ زَائِدَةٌ عَلَى مَا فِيهِ " لكن هذا أوسع وأجمع كتاب، يُنقل فيه كلام الإمام أحمد في مَسَائِلِ أُصُولِ الدِّين، قال: "كَمَا أَنَّ كِتَابَهُ فِي الْعِلْمِ أَجْمَعَ كِتَابٍ يُذْكَرُ فِيهِ أَقْوَالُ أَحْمَد فِي الْأُصُولِ الْفِقْهِيَّةِ" كتاب الْخَلَّالُ في العلم، أجمع كتاب يُذكر فيه أقوال أحمد في الأصول الفقهية، أبو بكر الْخَلَّالُ له كتابان عظيمان، ينقل فيهما كلام الإمام أحمد:
الكتاب الأول: كتاب السنة؛ هذا أجمع كتاب ينقل فيه أقوال الإمام أحمد في مَسَائِلِ الْأُصُولِ الدِّينِيَّةِ.
والكتاب الثاني: كتاب العِلم، وكتابه أجمع كتاب، يذكر أقوال الإمام أحمد في الْأُصُولِ الْفِقْهِيَّةِ.
(المتن)
قَالَ المروزي: رَأَيْت أَبَا عَبْد الرَّحِيمِ الجوزجاني عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَقَدْ كَانَ ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: كَانَ أَبُوهُ مُرْجِئًا أَوْ قَالَ: صَاحِبَ رَأْيٍ. وَأَمَّا أَبُو عَبْدِ الرَّحِيمِ فَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَدْ كَانَ كَتَبَ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مِنْ خُرَاسَانَ يَسْأَلُهُ عَنْ الْإِيمَانِ وَذَكَرَ الرِّسَالَةَ مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحِيمِ وَجَوَابِ أَحْمَد:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْنَا وَإِلَيْك فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا وَسَلَّمْنَا وَإِيَّاكَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ بِرَحْمَتِهِ أَتَانِي كِتَابُك تَذْكُرُ مَا تَذْكُرُ مِنْ احْتِجَاجِ مَنْ احْتَجَّ مِنْ الْمُرْجِئَةِ. وَاعْلَمْ رَحِمَك اللَّهُ أَنَّ الْخُصُومَةَ فِي الدِّينِ لَيْسَتْ مِنْ طَرِيقِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَنَّ تَأْوِيلَ مَنْ تَأَوَّلَ الْقُرْآنَ بِلَا سُنَّةٍ تَدُلُّ عَلَى مَعْنَى مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْهُ أَوْ أَثَرٍ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَيَعْرِفُ ذَلِكَ بِمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَوْ عَنْ أَصْحَابِهِ فَهُمْ شَاهَدُوا النَّبِيَّ ﷺ وَشَهِدُوا تَنْزِيلَهُ وَمَا قَصَّهُ اللَّهُ لَهُ فِي الْقُرْآنِ وَمَا عُنِيَ بِهِ وَمَا أَرَادَ بِهِ أَخَاصٌّ هُوَ أَمْ عَامٌّ؟
فَأَمَّا مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ بِلَا دَلَالَةٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَلَا أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَهَذَا تَأْوِيلُ أَهْلِ الْبِدَعِ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ قَدْ تَكُونُ خَاصَّةً وَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمًا عَامًّا وَيَكُونُ ظَاهِرُهَا عَلَى الْعُمُومِ وَإِنَّمَا قُصِدَتْ لِشَيْءِ بِعَيْنِهِ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ هُوَ الْمُعَبِّرُ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَمَا أَرَادَ وَأَصْحَابُهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنَّا لِمُشَاهَدَتِهِمْ الْأَمْرَ وَمَا أُرِيدَ بِذَلِكَ فَقَدْ تَكُونُ الْآيَةُ خَاصَّةً؛ أَيْ مَعْنَاهَا مِثْلُ قَوْله تَعَالَى. يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَظَاهِرُهَا عَلَى الْعُمُومِ أَيْ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ وَلَدٍ فَلَهُ مَا فَرَضَ اللَّهُ فَجَاءَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَلَّا يَرِثَ مُسْلِمٌ كَافِرًا.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ - وَلَيْسَ بِالثَّبْتِ - إلَّا أَنَّهُ عَنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ لَمْ يُوَرِّثُوا قَاتِلًا فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هُوَ الْمُعَبِّرُ عَنْ الْكِتَابِ أَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا قُصِدَتْ لِلْمُسْلِمِ لَا لِلْكَافِرِ وَمَنْ حَمَلَهَا عَلَى ظَاهِرِهَا لَزِمَهُ أَنْ يُورِثَ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الْوَلَدِ كَافِرًا كَانَ أَوْ قَاتِلًا وَكَذَلِكَ أَحْكَامُ الْوَارِثِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَعَ آيِ كَثِيرٍ يَطُولُ بِهَا الْكِتَابُ وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلَتْ الْأُمَّةُ السُّنَّةَ مِنْ النَّبِيِّ ﷺ وَمِنْ أَصْحَابِهِ إلَّا مَنْ دَفَعَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْخَوَارِجِ وَمَا يُشْبِهُهُمْ فَقَدْ رَأَيْت إلَى مَا خَرَجُوا."
(الشرح)
المؤلف رحمه الله، نقل رسالة الإمام أحمد رحمه الله إلى عَبْد الرَّحِيمِ الجوزجاني، بيَّن فيها أن الخصومة في الدين ليست من طريق أهل السنة والجماعة، وبيَّن فيها أن تأويل القرآن بلا سنة، ولا أثر من أصحاب النبي ﷺ إنما هي طريقة أَهْلِ الْبِدَعِ؛ وأما طريقة أهل الحق، فإنهم يُأَولون القرآن، ويُفسرون القرآن بالقرآن، ثم بسنة رسول الله ﷺ، ثم بأقوال الصحابة ؛ فلابد من هذا؛ لأن الآية الكريمة قد يكون حُكمها عام، وهناك ما يُخصصها من سنة رسول الله ﷺ؛ قد يكون حُكمها مُطلق، وهناك ما يُقيضها وقد تكون الآية منسوخة؛ فلابد من الرجوع إلى السنة، ولابد من ضم السنة إلى الكتاب، وكذلك آثار الصحابة رضوان الله عليهم، وتفسيرهم للقرآن؛ لأن الصحابة شاهدوا التنزيل، وعلموا ماعنى الله به، وما أراد؛ فأما تأويل القرآن بلا دليلٍ من السنة، ولا أثر من الصحابة؛ فهذا تأويل أهل البِدع.
فهذه الرسالة رسالةٍ عظيمة للإمام رحمه الله، يُبيِّن فيها منهج أهل السنة والجماعة في تأويل القرآن، ومنهج أهل البِدع، وأنهما منهجان مختلفان؛ فمنهج أهل السنة: يضمون النصوص بعضها إلى بعض، يُفسّر آية في القرآن، يُفسرونها بالآيات الأخرى التي توضحها، وبالأحاديث، وبآثار الصحابة؛ أما أهل البَدع: فإنه يُفسِّر الآية على ظاهرها، ولا ينظر إلى النصوص الأخرى من الكتاب العظيم من الآيات القرآنية، ولا إلى النصوص من سنة الرسول ﷺ، ولا إلى آثار الصحابة؛ فيَضِلون ويُضلون.
ولهذا قال المروزي رحمه الله: "رَأَيْت أَبَا عَبْد الرَّحِيمِ الجوزجاني عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ" يعني الإمام أحمد، "وَقَدْ كَانَ ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: كَانَ أَبُوهُ مُرْجِئًا أَوْ قَالَ: صَاحِبَ رَأْيٍ. وَأَمَّا أَبُو عَبْدِ الرَّحِيمِ فَأَثْنَى عَلَيْهِ" يعني أَبِو عَبْد الرَّحِيمِ الجوزجاني أثنى عليه الإمام أحمد، وأما أبوه قال: فقد كان مُرْجِئًا أو صاحب رأي، قد كان أَبو عَبْد الرَّحِيمِ الجوزجاني من حرصه على السنة، وفَهم الكتاب والسنة ،كَتَب إلى الإمام أحمد، يسأله عن الإيمان فكتب إليه الإمام أحمد هذه الرسالة:
"بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْنَا وَإِلَيْك فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا وَسَلَّمْنَا وَإِيَّاكَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ بِرَحْمَتِهِ" ابتدئها بالدعاء له، وهذه طريقة أهل العلم، وهذا يدل على نصح أهل العلم؛ فأهل العلم ينصحون، ويُبَيّنون، ويَدعون؛ تجد أهل العلم يبدئون رسايلهم بالدعاء لطالب العلم، وهذا من نصحهم يُعلِّمون، ويَدعون، ولهذا قال: " أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْنَا وَإِلَيْك فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا وَسَلَّمْنَا وَإِيَّاكَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ بِرَحْمَتِهِ".
القارئ: وهو مدعاة فضيلة الشيخ لقبول الرسالة أيضا !
(الشيخ)
لاشك أنه يُريد أنه يَتَقبل الرسالة، ويدل على نصحه وإخلاصه، وكذلك أيضًا كُتبت له الرسالة يطمئن إلى الإمام، ويعلم نصحه، وإخلاصه، وشفقته، ولهذا فإن كثير ما يفتتح الإمام المجدد محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله الرسائل بقوله: "إعلم رحمك الله"، "إعلم أرشدك الله لطاعته"، فيبدئها بهذا، بالدعاء لطالب العلم، "إعلم رحمك الله تعالى"، "إعلم أنه يجب على كل مسلمٍ التعلم من هذا المثال"، "إعلم أرشدك الله لطاعته أن الحنيفية ملة إبراهيم أن تعبد الله مخلصا له الدين"، وهكذا.
هكذا طريقة أهل العلم، فالإمام أحمد رحمه الله قد ابتدأ الرسالة إلى أَبي عَبْد الرَّحِيمِ الجوزجاني بقول: " أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْنَا وَإِلَيْك فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا وَسَلَّمْنَا وَإِيَّاكَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ بِرَحْمَتِهِ" ثم قال: "أَتَانِي كِتَابُك تَذْكُرُ مَا تَذْكُرُ مِنْ احْتِجَاجِ مَنْ احْتَجَّ مِنْ الْمُرْجِئَةِ".
ثم قال: "وَاعْلَمْ رَحِمَك اللَّهُ" ،كذلك البدأ بالدعاء "وَاعْلَمْ رَحِمَك اللَّهُ أَنَّ الْخُصُومَةَ فِي الدِّينِ لَيْسَتْ مِنْ طَرِيقِ أَهْلِ السُّنَّةِ " هذه فائدة عظيمة، وهي أن الخصومة في الدين من طريقة أَهْلِ الْبِدَعِ ، أَهْلِ الْبِدَعِ هم أهل الخصومة والجدل، أما أهل السنة فلا يخاصمون، ولاينازعون؛ وإنما يُبيِّن الحق بدليله .
" وَاعْلَمْ رَحِمَك اللَّهُ أَنَّ الْخُصُومَةَ فِي الدِّينِ لَيْسَتْ مِنْ طَرِيقِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَنَّ تَأْوِيلَ مَنْ تَأَوَّلَ الْقُرْآنَ بِلَا سُنَّةٍ تَدُلُّ عَلَى مَعْنَى مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْهُ أَوْ أَثَرٍ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَيَعْرِفُ ذَلِكَ بِمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَوْ عَنْ أَصْحَابِهِ فَهُمْ شَاهَدُوا النَّبِيَّ ﷺ وَشَهِدُوا تَنْزِيلَهُ وَمَا قَصَّهُ اللَّهُ لَهُ فِي الْقُرْآنِ وَمَا عُنِيَ بِهِ وَمَا أَرَادَ بِهِ أَخَاصٌّ هُوَ أَمْ عَامٌّ؟ فَأَمَّا مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ بِلَا دَلَالَةٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَلَا أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَهَذَا تَأْوِيلُ أَهْلِ الْبِدَعِ" هذا فيه تحديد لمنهج أهل السنة، وأنهم منفصلون، وأن منهجهم منفصل عن منهج أَهْلِ الْبِدَعِ؛ فأهل السنة إنما يُأوّلون القرآن بالقرآن، وبالسنة التي توضحه وتدل عليه، تخص عامه، تُقيد مُطلقه، وتُبيِّن مُجمله.
وكذلك آثار الصحابة رضوان الله عليهم؛ لأن الصحابة شَاهَدوا التنزيل، شَهَدوا النبي ﷺ وما قصَّد الله بالقرآن وما عنى به وهم أعلم الناس بمعاني كلام الله، وكلام رسوله ﷺ فهم يعلمون الخاص من العام، والمطلق من المقيد، قال: "فَأَمَّا مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ بِلَا دَلَالَةٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَلَا أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَهَذَا تَأْوِيلُ أَهْلِ الْبِدَعِ" إذًا يُعرف أَهْلِ الْبِدَعِ بأنهم لا يضمون النصوص بعضها إلى بعض، وإنما يأخذ النص ويُفسِّره على ظاهره، ولايضم النصوص الأخرى إليه؛ فيَضِّل.
قال المؤلف رحمه الله:"فَهَذَا تَأْوِيلُ أَهْلِ الْبِدَعِ"، بيَّن وجه الضلال والخطأ، فقال: "لِأَنَّ الْآيَةَ قَدْ تَكُونُ خَاصَّةً وَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمًا عَامًّا وَيَكُونُ ظَاهِرُهَا عَلَى الْعُمُومِ وَإِنَّمَا قُصِدَتْ لِشَيْءِ بِعَيْنِهِ" مَنْ الذي يُبيِّن هذا؟الذي يُبيِّن هذا؛ السنة وآثار الصحابة، قال: " وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ هُوَ الْمُعَبِّرُ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَمَا أَرَادَ وَأَصْحَابُهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنَّا لِمُشَاهَدَتِهِمْ الْأَمْرَ وَمَا أُرِيدَ بِذَلِكَ فَقَدْ تَكُونُ الْآيَةُ خَاصَّةً؛ أَيْ مَعْنَاهَا" ثم مثَّل المؤلف رحمه الله "مِثْلُ قَوْله تَعَالَى. يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وهذه الآية عامةٌ في الأولاد؛ لكن جاء في السنة، وبيَّنت أن الأولاد إذا كان دينهم مخالف لدين الـمُورِّث، فإنهم لا يرثونه([13]) ؛ فإذا كان المورِّث مسلم، والولد كافر فلا يرث، أو بالعكس.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَظَاهِرُهَا عَلَى الْعُمُومِ أَيْ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ وَلَدٍ فَلَهُ مَا فَرَضَ اللَّهُ فَجَاءَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَلَّا يَرِثَ مُسْلِمٌ كَافِرًا"([14])، وهذا الحديث رواه الإمام مسلم، حديث ثابت ابن زيد أن النبي ﷺ قال لاَ يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ وَلاَ الكَافِرُ المُسْلِمَ ([15])، قال: "وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ - وَلَيْسَ بِالثَّبْتِ - إلَّا أَنَّهُ عَنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ لَمْ يُوَرِّثُوا قَاتِلًا"،إن القاتل كذلك، إذا كان الوارث قاتل فلا يَرِث([16]).
(القارئ)
كيف يا شيخ معنى: وليس بالثَّبْت؟
(الشرح)
يعني ثبوت الحديث يعني، روي عن النبي لكن كان المؤلف لا يثبت عنده، لكن ثابت عن الصحابة، أَنَّهُ عَنْ الصْحَابِهِ أَنَّهُمْ لَمْ يُوَرِّثُوا قَاتِلًا فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هُوَ الْمُعَبِّرُ عَنْ الْكِتَابِ أَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا قُصِدَتْ لِلْمُسْلِمِ لَا لِلْكَافِرِ" قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُضم إليها حديث لاَ يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ وَلاَ الكَافِرُ المُسْلِمَ ([17]) فيخرج من عموم أولادكم المخالف للدين، كما أنه يخرج من العموم القاتل ، كذلك أيضًا يخرج من عمومها الرقيق فلا يرث.
قال المؤلف: "فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هُوَ الْمُعَبِّرُ عَنْ الْكِتَابِ أَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا قُصِدَتْ لِلْمُسْلِمِ لَا لِلْكَافِرِ وَمَنْ حَمَلَهَا عَلَى ظَاهِرِهَا لَزِمَهُ أَنْ يُورِثَ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الْوَلَدِ كَافِرًا كَانَ أَوْ قَاتِلًا" أو رقيقًا، مَنْ حَمَل على ظاهرها بأن لم ينظر للنصوص الأخرى، ولم يضُم النصوص إليها، فإنه يُحملها على ظاهرها فيقع في الخطأ.
قال المؤلف: "وَكَذَلِكَ أَحْكَامُ الْوَارِثِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَعَ آيِ كَثِيرٍ يَطُولُ بِهَا الْكِتَابُ" هذا مثال والأمثلة في ذلك كثيرة، "وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلَتْ الْأُمَّةُ السُّنَّةَ مِنْ النَّبِيِّ ﷺ وَمِنْ أَصْحَابِهِ إلَّا مَنْ دَفَعَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْخَوَارِجِ وَمَا يُشْبِهُهُمْ فَقَدْ رَأَيْت إلَى مَا خَرَجُوا " أنهم ضَلُّوا وأضلوا.
(المتن)
أحسن الله إليكم
" قُلْت: لَفْظُ الْمُجْمَلِ وَالْمُطْلَقِ وَالْعَامِّ كَانَ فِي اصْطِلَاحِ الْأَئِمَّةِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي عُبَيْدٍ وَإِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ سَوَاءٌ لَا يُرِيدُونَ بِالْمُجْمَلِ مَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ كَمَا فَسَّرَهُ بِهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ بَلْ الْمُجْمَلُ مَا لَا يَكْفِي وَحْدَهُ فِي الْعَمَلِ بِهِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ حَقًّا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا.
فَهَذِهِ الْآيَةُ ظَاهِرُهَا وَمَعْنَاهَا مَفْهُومٌ لَيْسَتْ مِمَّا لَا يُفْهَمُ الْمُرَادُ بِهِ؛ بَلْ نَفْسُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ لَا يَكْفِي وَحْدَهُ فِي الْعَمَلِ فَإِنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ صَدَقَةٌ تَكُونُ مُطَهِّرَةً مُزَكِّيَةً لَهُمْ هَذَا إنَّمَا يُعْرَفُ بِبَيَانِ الرَّسُولِ ﷺ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد يَحْذَرُ الْمُتَكَلِّمُ فِي الْفِقْهِ هَذَيْنِ " الْأَصْلَيْنِ ": الْمُجْمَلُ وَالْقِيَاسُ.
وَقَالَ: أَكْثَرُ مَا يُخْطِئُ النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّأْوِيلِ وَالْقِيَاسِ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَلَّا يَحْكُمَ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَامُّ وَالْمُطْلَقُ قَبْلَ النَّظَرِ فِيمَا يَخُصُّهُ وَيُقَيِّدُهُ وَلَا يَعْمَلَ بِالْقِيَاسِ قَبْلَ النَّظَرِ فِي دَلَالَةِ النُّصُوصِ هَلْ تَدْفَعُهُ فَإِنَّ أَكْثَرَ خَطَأِ النَّاسِ تَمَسُّكُهُمْ بِمَا يَظُنُّونَهُ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ وَالْقِيَاسِ.
فَالْأُمُورُ الظَّنِّيَّةُ لَا يُعْمَلُ بِهَا حَتَّى يُبْحَثَ عَنْ الْمَعَارِضِ بَحْثًا يَطْمَئِنُّ الْقَلْبُ إلَيْهِ وَإِلَّا أَخْطَأَ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي الْمُتَمَسِّكِينَ بِالظَّوَاهِرِ وَالْأَقْيِسَةِ وَلِهَذَا جُعِلَ الِاحْتِجَاجُ بِالظَّوَاهِرِ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْ تَفْسِيرِ النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ طَرِيقَ أَهْلِ الْبِدَعِ.
وَلَهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفٌ كَبِيرٌ."
(الشرح)
المؤلف رحمه الله يُبَيِّن لفظ الْمُجْمَلِ، وَالْمُطْلَقِ، وَالْعَامِّ؛ في اصطلاح الأئمة القدامى كالإمام الشافعي، والإمام أحمد، وأبي عبيد، والإمام إسحاق ابن راهويه، وغيرهم؛ أنهم لا يريدون بالمجمل ما لا يُفهم معناه، وإنما يريدون بالمجمل ما لا يكفي وحده في العمل، وهذا خلاف اصطلاح المتأخرين.
(المتن)
" قُلْت: لَفْظُ الْمُجْمَلِ وَالْمُطْلَقِ وَالْعَامِّ كَانَ فِي اصْطِلَاحِ الْأَئِمَّةِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي عُبَيْدٍ وَإِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ سَوَاءٌ لَا يُرِيدُونَ بِالْمُجْمَلِ مَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ كَمَا فَسَّرَهُ بِهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ بَلْ الْمُجْمَلُ مَا لَا يَكْفِي وَحْدَهُ فِي الْعَمَلِ بِهِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ حَقًّا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا.
فَهَذِهِ الْآيَةُ ظَاهِرُهَا وَمَعْنَاهَا مَفْهُومٌ لَيْسَتْ مِمَّا لَا يُفْهَمُ الْمُرَادُ بِهِ؛ بَلْ نَفْسُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ لَا يَكْفِي وَحْدَهُ فِي الْعَمَلِ فَإِنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ صَدَقَةٌ تَكُونُ مُطَهِّرَةً مُزَكِّيَةً لَهُمْ هَذَا إنَّمَا يُعْرَفُ بِبَيَانِ الرَّسُولِ ﷺ.
وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد يَحْذَرُ الْمُتَكَلِّمُ فِي الْفِقْهِ هَذَيْنِ " الْأَصْلَيْنِ ": الْمُجْمَلُ وَالْقِيَاسُ.
وَقَالَ: أَكْثَرُ مَا يُخْطِئُ النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّأْوِيلِ وَالْقِيَاسِ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَلَّا يَحْكُمَ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَامُّ وَالْمُطْلَقُ قَبْلَ النَّظَرِ فِيمَا يَخُصُّهُ وَيُقَيِّدُهُ وَلَا يَعْمَلَ بِالْقِيَاسِ قَبْلَ النَّظَرِ فِي دَلَالَةِ النُّصُوصِ هَلْ تَدْفَعُهُ فَإِنَّ أَكْثَرَ خَطَأِ النَّاسِ تَمَسُّكُهُمْ بِمَا يَظُنُّونَهُ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ وَالْقِيَاسِ.
فَالْأُمُورُ الظَّنِّيَّةُ لَا يُعْمَلُ بِهَا حَتَّى يُبْحَثَ عَنْ الْمَعَارِضِ بَحْثًا يَطْمَئِنُّ الْقَلْبُ إلَيْهِ وَإِلَّا أَخْطَأَ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي الْمُتَمَسِّكِينَ بِالظَّوَاهِرِ وَالْأَقْيِسَةِ وَلِهَذَا جُعِلَ الِاحْتِجَاجُ بِالظَّوَاهِرِ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْ تَفْسِيرِ النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ طَرِيقَ أَهْلِ الْبِدَعِ.
وَلَهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفٌ كَبِيرٌ. وَكَذَلِكَ التَّمَسُّكُ بِالْأَقْيِسَةِ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْ النُّصُوصِ وَالْآثَارِ طَرِيقُ أَهْلِ الْبِدَعِ.
وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ قَوْلٍ ابْتَدَعَهُ هَؤُلَاءِ قَوْلًا فَاسِدًا وَإِنَّمَا الصَّوَابُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ مَا وَافَقُوا فِيهِ السَّلَفَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ.
وقَوْله تَعَالَى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ سَمَّاهُ عَامًّا وَهُوَ مُطْلَقٌ فِي الْأَحْوَالِ يَعُمُّهَا عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ كَمَا يَعُمُّ قَوْلُهُ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ جَمِيعَ الرِّقَابِ لَا يَعُمُّهَا كَمَا يَعُمُّ لَفْظُ الْوَلَدِ لِلْأَوْلَادِ.
وَمَنْ أَخَذَ بِهَذَا لَمْ يَأْخُذْ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ لَفْظِ الْقُرْآنِ بَلْ أَخَذَ بِمَا ظَهَرَ لَهُ مِمَّا سَكَتَ عَنْهُ الْقُرْآنُ فَكَانَ الظُّهُورُ لِسُكُوتِ الْقُرْآنِ عَنْهُ لَا لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّهُ ظَاهِرٌ فَكَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِظَاهِرِ مِنْ الْقَوْلِ لَا بِظَاهِرِ الْقَوْلِ؛ وَعُمْدَتُهُمْ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالنُّصُوصِ الَّتِي فِيهَا عِلْمٌ بِمَا قُيِّدَ وَإِلَّا فَكَلُّ مَا بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ وَأَظْهَرَهُ فَهُوَ حَقٌّ؛ بِخِلَافِ مَا يَظْهَرُ لِلْإِنْسَانِ لِمَعْنَى آخَرَ غَيْرَ نَفْسِ الْقُرْآنِ يُسَمَّى ظَاهِرَ الْقُرْآنِ كَاسْتِدْلَالَاتِ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَالْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ".
(الشرح)
فإن المؤلف رحمه الله فيما سبق نقل رسالة الإمام أحمد رحمه الله إلى عَبْد الرَّحِيمِ الجوزجاني، وأنه بيَّن في هذه الرسالة منهج أهل السنة، ومنهج أَهْلِ الْبِدَعِ، وأن الخصومة في الدِّين من علامات أَهْلِ الْبِدَعِ، وليست من طريق أهل السنة، ومن منهج أَهْلِ الْبِدَعِ أنهم يفسرون القرآن، ويقطعونه عن النصوص الأخرى، وعن آثار الصحابة، وأما منهج أهل السنة؛ فإنهم يفسرون القرآن، ويضمون إليه النصوص الأخرى من كتاب الله، وكلام رسوله ﷺ، وآثار الصحابة الذين شَهدوا النبي ﷺ، وشَهدوا التنزيل، وما قصَّه الله في القرآن، وما عنى به، وما أراد به، أما أَهْلِ الْبِدَعِ فإنهم يَتَأَوَّلونه على ظاهره بلا دلالة من كتاب الله، ولا سنة رسوله ﷺ، ولا أثر صحابي.
ثم بيَّن المؤلف رحمه الله أن لفظ الْمُجْمَلِ، وَالْمُطْلَقِ، وَالْعَامِّ؛ في اصطلاح الأئمة القدامى يختلف عن اصطلاح المتأخرين؛ فالأئمة القدامى لا يريدون بالمـُجمل ما لا يُفهم معناه؛ بل يريدون بالـمُجْمَل ما لا يكفي وحده في العمل به، وإن كان ظاهره حقّ؛ وأما المتأخرون فإنهم يريدون بالـمُجمل مالا يُفهم معناه، وأما اصطلاح الأئمة القدامى فإنهم يريدون بالمجمل ما لا يكفي وحده في العمل، وإنّ كان ظاهره حقّ.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " قُلْت: لَفْظُ الْمُجْمَلِ وَالْمُطْلَقِ وَالْعَامِّ كَانَ فِي اصْطِلَاحِ الْأَئِمَّةِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي عُبَيْدٍ وَإِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ سَوَاءٌ لَا يُرِيدُونَ بِالْمُجْمَلِ مَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ كَمَا فَسَّرَهُ بِهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ" المتأخرون فسروا الـمُجمل أنه ما لا يُفهم، قال المؤلف: إنهم أخطأوا في هذا؛ فاصطلاح المتقدمين هو الحقّ.
المتقدمون يريدون بالمجمل ما لايكفي وحده في العمل به؛ بل لابد أن يضم إليه شئ آخر.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "بَلْ الْمُجْمَلُ مَا لَا يَكْفِي وَحْدَهُ فِي الْعَمَلِ بِهِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ حَقًّا".
ثم ذكر المثال " كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا فَهَذِهِ الْآيَةُ ظَاهِرُهَا وَمَعْنَاهَا مَفْهُومٌ لَيْسَتْ مِمَّا لَا يُفْهَمُ الْمُرَادُ بِهِ" فهذه الآية مُجملة، وظاهرها مفهوم، والمــُراد أن يُعمل بها مع غيرها، ضَم النصوص الأخرى إليها خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً، والصدقة المفروضة لابد فيها من شروط، جاءت بها السنة لابد أن تكون هذه الصدقة تؤخذ من نِصاب، لابد أن يكون بلغ النِصاب هذا المال، وكذلك أيضًا لابد أن يكون مضى عليه الحَوْل.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: كما في قوله تعالى خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103] فهذه الآية ظاهرة ومعناها مفهوم، ليست مما لايُفهم المـُراد به؛ بل نفس ما دلت عليه لا يكفي وحده في العمل به، فإن المأمور به، صدقة تكون مُطهرةً، مُزكيةً لهم، وهذا إنما يُعرف ببيان رسول الله ﷺ، والرسول عليه الصلاة والسلام بيَّن أن الزكاة لابد فيها من تمام الحَوْل، ولابد فيها من بلوغ النِصاب.
قال المؤلف رحمه الله: "وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد" يقصد الإمام أحمد، "يَحْذَرُ الْمُتَكَلِّمُ فِي الْفِقْهِ هَذَيْنِ " الْأَصْلَيْنِ ": الْمُجْمَلُ وَالْقِيَاسُ.
وَقَالَ: أَكْثَرُ مَا يُخْطِئُ النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّأْوِيلِ وَالْقِيَاسِ"، فسَّر المؤلف رحمه الله كلام الإمام أحمد قال: يريد بذلك أنه لايُحكم بما يدل عليه العام والمطلق، قبل النظر فيما يخصه ويُقيِّده، ولا يُعمل بالقياس قبل النظر في دلالة النصوص، هل تنفعه أم لا؟ هذا معنى قول الإمام أحمد في: "أَكْثَرُ مَا يُخْطِئُ النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّأْوِيلِ وَالْقِيَاسِ" يُريد أن ألا يُحكم بدلالة العام والمطلق، قبل أن يُنظر في الأدلة الأخرى، في النصوص التي تخص العام، والتي تُقيِّد المطلق؛ لأن النصوص يُضَم بعضها إلى بعض؛ فمن أخذ ببعض النصوص دون البعض هذه علامة أَهْلِ الْزيغ ، علامة أَهْلِ الزيغ أنهم يأخذون ببعض النصوص دون البعض الآخر، وأما أهل الحقّ فإنهم يضمون النصوص بعضها إلى بعض؛ فالعام لابد أن يُنظر في النصوص الأخرى هل هناك دليل خاص به؛ فيُخصُّ به، وكذلك المطلق هل هناك دليل يُقَيِّده؟ وكذلك يُنظر هل النص هذا منسوخ أو ليس بمنسوخ؟ ثم يُعمل بعد ذلك فلابد من ضَم النصوص بعضها إلى بعض.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله في بيان كلام الإمام أحمد: " يُرِيدُ بِذَلِكَ أَلَّا يَحْكُمَ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَامُّ وَالْمُطْلَقُ قَبْلَ النَّظَرِ فِيمَا يَخُصُّهُ وَيُقَيِّدُهُ وَلَا يَعْمَلَ بِالْقِيَاسِ قَبْلَ النَّظَرِ فِي دَلَالَةِ النُّصُوصِ هَلْ تَدْفَعُهُ أو لا" يعني القياس لا يُعمل به إلا إذا لم يوجد، إذا لم يصادم نص، أما إذا خالف النص، فهذا يسمى قياسًا فاسدًا؛ فالقياس الفاسد هو القياس في مقابلة النص، فلا يُعمل بالقياس إذا وُجد النص، إذا وُجد النص، وكان القياس يُخالفه، فهذا قياسٌ فاسد، فالقياس الفاسد هو القياس في مقابلة النص، فإذا لم يوجد النص فإنه يُعمل بالقياس ، إذا كان القياس الصحيح.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَلَا يَعْمَلَ بِالْقِيَاسِ قَبْلَ النَّظَرِ فِي دَلَالَةِ النُّصُوصِ هَلْ تَدْفَعُهُ فَإِنَّ أَكْثَرَ خَطَأِ النَّاسِ تَمَسُّكُهُمْ بِمَا يَظُنُّونَهُ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ وَالْقِيَاسِ"، ثم قال المؤلف رحمه الله: "فَالْأُمُورُ الظَّنِّيَّةُ لَا يُعْمَلُ بِهَا حَتَّى يُبْحَثَ عَنْ الْمَعَارِضِ بَحْثًا يَطْمَئِنُّ الْقَلْبُ إلَيْهِ" هذا هو الذي ينبغي للمجتهد، ولطالب العلم، ولمَنْ له أهلية النظر؛ ينبغي له ألا يعمل بالأدلة حتي يبحث عن الْمَعَارِضِ، بحثا يَطْمَئِنُّ الْقَلْبُ إلَيْهِ، أنه استقصى، وأنه بحث في النصوص، ثم يعمل قال: "وَإِلَّا أَخْطَأَ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي الْمُتَمَسِّكِينَ بِالظَّوَاهِرِ وَالْأَقْيِسَةِ" الواقع أن كثيرًا منهم أنهم يُخطئون؛ يُخطئون من جهة التأويل، ويُخطئون من جهة القياس.
قال المؤلف رحمه الله: "وَلِهَذَا جُعِلَ الِاحْتِجَاجُ بِالظَّوَاهِرِ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْ تَفْسِيرِ النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ طَرِيقَ أَهْلِ الْبِدَعِ"، ولهذا جعل الإمام أحمد الاحتجاج بالظواهر، مع الإعراض عن تفسير النبي ﷺ، وأصحابه، طريقة أَهْلِ الْبِدَعِ؛ فإن طريقة أهل الْبِدَعِ: يحتَّج بظاهر الآية، ولا يَنظر في سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يَنظر في تفسير النبي عليه الصلاة والسلام للآية، ولا ينظر في تفسير الصحابة، هذه طريقة أَهْلِ الْبِدَعِ.
قال: "وَلَهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفٌ كَبِيرٌ" يعني الإمام أحمد له في ذلك مصنف في بيان هذا الأمر؛ وأنه لابد في تفسير القرآن من النظر في تفسير النبي ﷺ، وتفسير أصحابه.
قال المؤلف رحمه الله: "وَكَذَلِكَ التَّمَسُّكُ بِالْأَقْيِسَةِ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْ النُّصُوصِ وَالْآثَارِ طَرِيقُ أَهْلِ الْبِدَعِ" أَهْلِ الْبِدَعِ يأخذون بالأقيسة، ويُعرضون عن النصوص، هذه أقيسة فاسدة، إذا كان هناك نصوص تُعارضها؛ فهي أقيسةٌ فاسدة، فمن أخذ بها، وأعرض عن النصوص؛ فهو من أَهْلِ الْبِدَعِ.
قال المؤلف رحمه الله: "وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ قَوْلٍ ابْتَدَعَهُ هَؤُلَاءِ قَوْلًا فَاسِدًا" هؤلاء الذين يتمسكون بالأقيسة، ويعرضون عن النصوص؛ كل قولٍ يقولونه فاسد، لأنه مبني على أقيسةٍ فاسدة، فهذه أقيسة فاسدة؛ لأنها معارضة للنصوص.
قال رحمه الله: "وَإِنَّمَا الصَّوَابُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ مَا وَافَقُوا فِيهِ السَّلَفَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ" أهل البدع إذا وافقوا السلف إذا وافقوا الصحابة والتابعين؛ أصابوا في أقوالهم، وإذا خالفوا السلف؛ أخطأوا.
ثم بيَّن المؤلف رحمه الله من أمثلة العموم، قال: "وقَوْله تَعَالَى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ [النساء:11] سَمَّاهُ عَامًّا وَهُوَ مُطْلَقٌ فِي الْأَحْوَالِ يَعُمُّهَا عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ" لفظ الولد يشمل الذكر، والأنثى، والصغير، والكبير، والحُرّ، والعبد، والمؤمن، والكافر؛ فهو عام مطلق في الأحوال، يعُمّ على طريق البدل، التبادل بين الأولاد.
قال: " كَمَا يَعُمُّ قَوْلُهُ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ جَمِيعَ الرِّقَابِ لَا يَعُمُّهَا كَمَا يَعُمُّ لَفْظُ الْوَلَدِ" يعني الرقاب عامة، تشمل رقبة الصغير، والكبير، والذكر، والأنثى، والحُرّ، والعبد؛ لكن يقول: "لَا يَعُمُّهَا كَمَا يَعُمُّ لَفْظُ الْوَلَدِ لِلْأَوْلَادِ" لأن الرقبة قد تكون للحيوانات، قد تكون للدَواب، قد تكون للطيور، فالرقبة ليست كالعموم في لفظ الولد.
قال المؤلف رحمه الله: "وَمَنْ أَخَذَ بِهَذَا لَمْ يَأْخُذْ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ لَفْظِ الْقُرْآنِ" مَنْ أخذ بالعموم، ولم يَنظر إلى تفسير النبي ﷺ، وتفسير أصحابه؛ لم يأخذ ما دل عليه ظاهر لفظ القرآن؛ بل أخذ بما ظهر له مما سكت عنه القرآن، فرق بين الأمرين؛ بين من يأخذ بما دل عليه ظاهرلفظ القرآن، وبين من يأخذ بما ظهر له مما سكت عنه القرآن.
فهؤلاء الذين يستدلون بالآيات، ولا ينظرون إلى السنة، وتفسير النبي ﷺ، وتفسير أصحابه؛ أخذوا بما ظهر لهم مما سكت عنه القرآن، القرآن سكت عن أقوال الصحابة، وعن تفسير النبي ﷺ؛ لكن، فهم أخذوا بما سكت عنه القرآن، ولم يأخذوا بما دل عليه ظاهر لفظ القرآن؛ ظاهر لفظ القرآن أنه لابد من ضَمّ السنة إلى القرآن؛ لأن النصوص كلها من كلام الله ومن كلام رسوله ﷺ، كلها وحي، والسنة وحيٌ ثانٍ، قال عليه الصلاة والسلام: أَلا إِنِّي أُوتِيتُ القُرآنَ ومِثلَهُ مَعَهُ([18]) فالأخذ بما دلَّ عليه ظاهر لفظ القرآن؛ أخذٌ بالسنة، فمن لم يأخذ بالسنة؛ لم يأخذ بما دل عليه ظاهر لفظ القرآن "بَلْ أَخَذَ بِمَا ظَهَرَ لَهُ مِمَّا سَكَتَ عَنْهُ الْقُرْآنُ".
قال: "فَكَانَ الظُّهُورُ لِسُكُوتِ الْقُرْآنِ عَنْهُ لَا لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّهُ ظَاهِرٌ فَكَانُوا مُتَمَسِّكِينَ" أَهْلِ الْبِدَعِ حينما يأخذون بالآيات، ولا يأخذون بسنة النبي ﷺ، "فَكَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِظَاهِرِ مِنْ الْقَوْلِ لَا بِظَاهِرِ الْقَوْلِ؛ وَعُمْدَتُهُمْ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالنُّصُوصِ الَّتِي فِيهَا عِلْمٌ بِمَا قُيِّدَ"، عمدةأَهْلِ الْبِدَعِ حينما يأخذون بالآيات، ولا يأخذون بالسنة؛ عدم العلم بالنصوص التي فيها علم بما قُيِّد؛ لم يعلموا النصوص، لكن يجب عليهم أن يبحثوا، وأن يسألوا أهل العلم؛ حتى يُبيَّنوا لهم النصوص التي قيدت الـمُطلق، والنصوص التي خصَّت العام، والنصوص التي بيَّنت المـُجمل.
قال المؤلف رحمه الله: "وَإِلَّا فَكَلُّ مَا بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ وَأَظْهَرَهُ فَهُوَ حَقٌّ؛ بِخِلَافِ مَا يَظْهَرُ لِلْإِنْسَانِ لِمَعْنَى آخَرَ غَيْرَ نَفْسِ الْقُرْآنِ يُسَمَّى ظَاهِرَ الْقُرْآنِ" ما يظهر للإنسان لمعنى آخر غير نفس القرآن، هذا ما يُقال أنه بيَّنه القرآن وأظهره؛ بل يُقال: أنه ظهر للإنسان، الذي يظهر للإنسان بمعنى آخر غير نفس القرآن، يُسميه ظاهر القرآن لمعنى ظهر له هو.
قال: هذه هي طريقة أَهْلِ الْبِدَعِ "كَاسْتِدْلَالَاتِ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَالْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ"، فإنهم يستدلون بما يظهر لهم من الآية؛ ولكنهم لايستدلون، ويسمون ظاهر القرآن؛ لكنهم لا يستدلون بدلالة ظاهر القرآن؛ يستدلون بما يظهر لهم من أفهامهم، وأفهامهم خطأ، والواجب على الإنسان أن يعمل بكلام الله، وأن يَضُم النصوص بعضها إلى بعض، وأن إذا أراد أن يستدل في مسألة؛ أن يستدل بالقرآن وبالسنة التي تبيِّن، وتُوضح، وتُقيد، وتُخصص؛ وكذلك أقوال الصحابة الذين شهدوا التنزيل، وعلموا دلالات النصوص حتي يَسْلم من الخطأ، وحتى لايُشارك أَهْلِ الْبِدَعِ في استدلالاتهم.
المتن:
أحسن الله إليكم.
" قَالَ أَحْمَد: وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِيمَانَ الْإِقْرَارُ فَمَا يَقُولُ فِي الْمَعْرِفَةِ؟ هَلْ يَحْتَاجُ إلَى الْمَعْرِفَةِ مَعَ الْإِقْرَارِ؟ وَهَلْ يَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا بِمَا عَرَفَ؟ فَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْمَعْرِفَةِ مَعَ الْإِقْرَارِ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ مِنْ شَيْئَيْنِ وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا وَمُصَدِّقًا بِمَا عَرَفَ فَهُوَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ؛ وَإِنْ جَحَدَ وَقَالَ: لَا يَحْتَاجُ إلَى الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصْدِيقِ فَقَدْ قَالَ قَوْلًا عَظِيمًا وَلَا أَحْسَبُ أَحَدًا يَدْفَعُ الْمَعْرِفَةَ وَالتَّصْدِيقَ وَكَذَلِكَ الْعَمَلَ مَعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ.
قُلْت أَحْمَد وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ كَانُوا قَدْ عَرَفُوا أَصْلَ قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ وَهُوَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَذْهَبُ بَعْضُهُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ؛ فَلَا يَكُونُ إلَّا شَيْئًا وَاحِدًا فَلَا يَكُونُ ذَا عَدَدٍ: اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ عَدَدٌ أَمْكَنَ ذَهَابُ بَعْضِهِ وَبَقَاءُ بَعْضِهِ بَلْ لَا يَكُونُ إلَّا شَيْئًا وَاحِدًا.
وَلِهَذَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة: إنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ فِي الْقَلْبِ. وَقَالَتْ الكَرَّامِيَة: إنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ عَلَى اللِّسَانِ كُلُّ ذَلِكَ فِرَارًا مِنْ تَبَعُّضِ الْإِيمَانِ وَتَعَدُّدِهِ فَلِهَذَا صَارُوا يُنَاظِرُونَهُمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ شَيْئًا وَاحِدًا كَمَا قُلْتُمْ.
فَأَبُو ثَوْرٍ احْتَجَّ بِمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ " الْفُقَهَاءُ الْمُرْجِئَةُ "(مع) أَنَّهُ تَصْدِيقٌ وَعَمَلٌ".
(الشرح)
لعل العبارة " فَأَبُو ثَوْرٍ احْتَجَّ على الْمُرْجِئَةُ بِمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ " الْفُقَهَاءُ " مِنْ أَنَّهُ تَصْدِيقٌ وَعَمَلٌ" العبارة فيها خلل.
(المتن)
"فَأَبُو ثَوْرٍ احْتَجَّ على الْمُرْجِئَةُ بِمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ " الْفُقَهَاءُ " مِنْ أَنَّهُ تَصْدِيقٌ وَعَمَلٌ وَلَمْ يَكُنْ بَلَغَهُ قَوْلُ مُتَكَلِّمِيهِمْ وجهميتهم أَوْ لَمْ يَعُد خِلَافُهُمْ خِلَافًا وَأَحْمَد ذَكَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصْدِيقِ مَعَ الْإِقْرَارِ وَقَالَ: إنَّ مَنْ جَحَدَ الْمَعْرِفَةَ وَالتَّصْدِيقَ فَقَدْ قَالَ قَوْلًا عَظِيمًا فَإِنَّ فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ مَعْلُومٌ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ.
وَلِهَذَا لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ أَحَدٌ قَبْلَ الكَرَّامِيَة مَعَ أَنَّ الكَرَّامِيَة لَا تُنْكِرُ وُجُوبَ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصْدِيقِ وَلَكِنْ تَقُولُ: لَا يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ حَذَرًا مِنْ تَبَعُّضِهِ وَتَعَدُّدِهِ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَذْهَبَ بَعْضُهُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ بَلْ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَجْتَمِعَ فِي الْقَلْبِ إيمَانٌ وَكِبْرٌ وَاعْتَقَدُوا الْإِجْمَاعَ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ. كَمَا ذَكَرَ هَذَا الْإِجْمَاعَ الْأَشْعَرِيُّ وَغَيْرُهُ."
الشيخ:
الإمام أحمد رحمه الله بيَّن في هذا المقطع، شُبهة الْمُرْجِئَةِ، وأن شبهتهم التي يُرَكزون عليها؛ أنهم يرون أن الإيمان شيءٌ واحد، لا يَنقص، ولا يَزيد، ولا يَتبعَّض؛ بل هو شيءٌ واحد، إذا زال (زال جميعه)، وإذا ذهب (ذهب جميعه)؛ فلا يبقى بعضه، ولا يذهب بعضه، ويبقى بعضه؛ لأن الحقيقة مركبة، والحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها.
وهذه حُجتهم باطلة؛ الحقيقة المركبة؛ إذا زال بعضها لايزول الجميع، ولكن تنقص الهيئة المركبة؛ فالإنسان مثلًا هيئة مركبة: من يدين، ورجلين، ودم، ولحم، وعصب؛ فإذا أزال بعض أعضائه؛ إذا زال بعض الأصابع، أو زال بعض أجزائه، لا يكون من ذلك زوال الحقيقة؛ حقيقة الإنسان؛ وإنما حقيقة الإنسان تنقص.
هذه شبهةٌ فاسدة، هذه الشبهة التي ركز عليها جميع طوائف الْمُرْجِئَةِ، كلٌ هذه شُبهتهم؛ الْجَهْمِيَّة، والكَرَّامِيَة، والماتريدية، حتى مُرْجِئَةُ الْفُقَهَاءُ أيضًا، كلهم هذه شبهتهم، أن الإيمان شيءٌ واحد لا يَزيد، ولايَنقص، ولايَتعدد، ولا يتَبَعَّض ، إذا زال (زال جميعه)، وإذا ثبت (ثبت جميعه)، ولهذا الإمام أحمد رحمه الله، ناقشهم في هذا، هل هم يرون أن الإيمان شيء واحد، أو مكون من شيئين، أو ثلاثة؟ إن قالوا أنه شيءٌ واحد؛ فهذا باطل، تَرُّده النصوص، والفِطَر، والعقول؛ وإن قالوا إنه شيءٍ متعدد؛ فقد نقضوا أصلهم.
قال المؤلف رحمه الله: " قَالَ أَحْمَد: وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِيمَانَ الْإِقْرَارُ" يعني الإقرار في الباطن، وهو التصديق، "فَمَا يَقُولُ فِي الْمَعْرِفَةِ؟ هَلْ يَحْتَاجُ إلَى الْمَعْرِفَةِ مَعَ الْإِقْرَارِ؟" فإذا احتاج معرفة مع الإقرار، صار الإيمان مكون من شيئين، ويَلزَّم من ذلك بُطلان أصلهم، أنه يَذهب البعض، ويَبقي البعض، إذا ذهبت المعرفة؛ بقي الإقرار، وإذا ذهب الإقرار؛ بقيت المعرفة.
قال: "فَمَا يَقُولُ فِي الْمَعْرِفَةِ؟ هَلْ يَحْتَاجُ إلَى الْمَعْرِفَةِ مَعَ الْإِقْرَارِ؟ وَهَلْ يَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا بِمَا عَرَفَ؟ فَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْمَعْرِفَةِ مَعَ الْإِقْرَارِ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ مِنْ شَيْئَيْنِ" وإذا زعم أنه من شيئين؛ إذا زال أحد الشيئين، بقي الشيء الآخر، وهذا ينقض أصلهم أن الإيمان لايَتَبعَّض.
قال: "وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا وَمُصَدِّقًا بِمَا عَرَفَ فَهُوَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ؛ وَإِنْ جَحَدَ وَقَالَ: لَا يَحْتَاجُ إلَى الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصْدِيقِ" ويكفي الإقرار.
قال: "فَقَدْ قَالَ قَوْلًا عَظِيمًا" مَنْ يقول أن المؤمن لا يحتاج إلى المعرفة، وإلى التصديق؟! "فَقَدْ قَالَ قَوْلًا عَظِيمًا وَلَا أَحْسَبُ أَحَدًا يَدْفَعُ الْمَعْرِفَةَ معَ التَّصْدِيقَ"؛ لأن الذي يقول أن الإيمان يكون بدون تصديق، لا أحد يقول بهذا، هل يمكن أن يكون الإيمان بدون تصديق؟! لايمكن أن يكون الإيمان بدون تصديق، "وَكَذَلِكَ الْعَمَلَ مَعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ".
إذًا هذه مناقشة من الإمام أحمد للمُرْجِئَةِ، ما هو الإيمان؟ مُوجهٌ للمُرْجِئَةِ؛ الإيمان هو الإقرار فقط، وهو التصديق؟ ما تقولون في المعرفة؟ هل تَلْزم المعرفة، ولا ما تَلْزم؟ تقولون: تَلْزم المعرفة؛ يكون الإيمان مُكون من شيئين؛ وإن قلت أيضًا لابد من التصديق، فهو مكون من ثلاثة أشياء؛ وإن قلت لابد من العمل، فهو مكون من أربعة أشياء، ويَلزم من ذلك التَبَعُّض والتعدد.
قال المؤلف رحمه الله، معلقًا على مناقشة الإمام أحمد رحمه الله للمُرْجِئَةِ: "قُلْت أَحْمَد وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ كَانُوا قَدْ عَرَفُوا أَصْلَ قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ"، ماهو أصلهم؟ قال: "وَهُوَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَذْهَبُ بَعْضُهُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ؛ فَلَا يَكُونُ إلَّا شَيْئًا وَاحِدًا فَلَا يَكُونُ ذَا عَدَدٍ: اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ" لماذا؟
قال: "فَإِنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ عَدَدٌ أَمْكَنَ ذَهَابُ بَعْضِهِ وَبَقَاءُ بَعْضِهِ بَلْ لَا يَكُونُ إلَّا شَيْئًا وَاحِدًا" هذا شُبهة الْجَهْمِيَّة، وهذا أصلهم الذي يُركزون عليه، أن الإيمان لا يتَبَعَّض ، ولا يتعدد، ولايذهب بعضه، ولا يبقى بعضه، ولايكون إلا شيئًا واحدا؛ لكن ما هو هذا الشيء؟ يختلف بإختلاف طوائف الْمُرْجِئَةِ.
فالْجَهْمِيَّة يقولون الإيمان شيء واحد وهو في القلب، كالمعرفة؛ والْمُرْجِئَةِ يقولون شيءٌ واحد، وهو الإقرار باللسان؛ وكذلك الماتريدية والأشاعرة يقولون الإيمان شيءٌ واحد، وهو التصديق بالقلب؛ ومُرْجِئَةِ الفقهاء يقولون الإيمان الإقرار باللسان، والتصديق بالقلب، ويقولون أيضًا يوافقونهم في أنه لا يذهب بعضه ويبقى بعضه.
وجمهور أهل السنة يقولون متعدد، ومتَبَعُّضِ ، يقولون أن الإيمان مكون من تصديق القلب، والإقرار باللسان، والعمل بالقلب، والعمل بالجوارح، ويَذهب بعضه، ويَبقى بعضه، ويَزيد، ويَنقص، ويَقوى، ويَضْعُف، وانفَصلوا في ذلك عن جميع طوائف الْمُرْجِئَةِ.
قال المؤلف رحمه الله: "وَلِهَذَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة: إنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ فِي الْقَلْبِ" وهو المعرفة، "وَقَالَتْ الكَرَّامِيَة: إنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ عَلَى اللِّسَانِ" وهو النطق، " كُلُّ ذَلِكَ فِرَارًا مِنْ تَبَعُّضِ الْإِيمَانِ وَتَعَدُّدِهِ فَلِهَذَا صَارُوا يُنَاظِرُونَهُمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ شَيْئًا وَاحِدًا" أهل السنة يُناظرون الْمُرْجِئَةِ، بما يدل على أن الإيمان ليس شيئًا واحدا، "كَمَا قُلْتُمْ. فَأَبُو ثَوْرٍ احْتَجَّ بِمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ " أبو ثَور احْتَجَّ على الْمُرْجِئَةِ بما اجتمع عليه الفقهاء، من أنه تصديقٌ وعمل، احْتَجَّ على الْمُرْجِئَةِ فقال الْفُقَهَاءُ اجتمعوا على أن الإيمان تصديقٌ وعمل؛ شيئان، قال: "وَلَمْ يَكُنْ بَلَغَهُ قَوْلُ مُتَكَلِّمِيهِمْ وجهميتهم" الذين يقولون أن الإيمان هو المعرفة، "أَوْ لَمْ يَعُدْ خِلَافُهُمْ خِلَافًا".
قال: " وَأَحْمَد" الإمام أحمد رحمه الله "ذَكَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصْدِيقِ مَعَ الْإِقْرَارِ وَقَالَ: إنَّ مَنْ جَحَدَ الْمَعْرِفَةَ وَالتَّصْدِيقَ فَقَدْ قَالَ قَوْلًا عَظِيمًا فَإِنَّ فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ مَعْلُومٌ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ" مَنْ يَجْحَد المعرفة، والتصديق، هذا قول عظيم؛كيف يكون إيمان بدون معرفة و تصديق؟! هذا لايقوله أحد.
قال الإمام المؤلف رحمه الله: "وَلِهَذَا لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ أَحَدٌ قَبْلَ الكَرَّامِيَة" ما ذهب إلى هذا أحد قبل الكَرَّامِيَة أن الإيمان هو الإقرار باللسان، قال: "مَعَ أَنَّ الكَرَّامِيَة لَا تُنْكِرُ وُجُوبَ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصْدِيقِ وَلَكِنْ تَقُولُ: لَا يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ حَذَرًا مِنْ تَبَعُّضِهِ وَتَعَدُّدِهِ" لأن الكَرَّامِيَة يقولون أن التصديق مطلوب، لكن لا نسميه إيمان؛ الإيمان هو الإقرار باللسان، قالوا ذلك "حَذَرًا مِنْ تَبَعُّضِهِ وَتَعَدُّدِهِ".
قال: "لِأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَذْهَبَ بَعْضُهُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ بَلْ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَجْتَمِعَ فِي الْقَلْبِ إيمَانٌ وَكِفرٌ وَاعْتَقَدُوا الْإِجْمَاعَ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ. كَمَا ذَكَرَ هَذَا الْإِجْمَاعَ الْأَشْعَرِيُّ وَغَيْرُهُ."
([1]) – رقم (2653)
([2]) – رقم (7418)
([3]) –
([4]) – أخرجه البخاري رقم (3208)، ومسلم رقم (2643).
([5]) – بياض بالأصل
([6]) – سبق
([7]) – سبق
([8]) – أخرجه البخاري رقم (4949)، ومسلم رقم (2647) من حديث علي
([9]) – سبق
([10]) –
([11]) –
([12]) – أخرجه ابن جرير في تفسيره رقم (16912) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما
([13]) – أخرجه البخاري رقم (6764)، ومسلم رقم (1614) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
([14]) – سبق
([15]) – سبق
([16]) –
([17]) – سبق
([18]) – أخرجه أحمد رقم (17174)، وأبو داود رقم (4604) من حديث المقدام بن معدي كرب الكندي . قال في المطالب العالية (12/ 738) ومن طريق أحمد بن حنبل رواه الحاكم في المستدرك، في العلم قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، وقال الحاكم: إسناده صحيح.