(المتن)
فَقَوْلُهُمْ فِي الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ وَكَلَامِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ يَرْجِعُ إلَى تَعْطِيلٍ مَحْضٍ.
وَهَذَا قَدْ وَقَعَ فِيهِ طَوَائِفُ كَثِيرَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْمُتَعَصِّبِينَ للجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ؛ بَلْ وَلِلْمُرْجِئَةِ أَيْضًا؛ لَكِنْ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِمْ بِالْحَقَائِقِ الَّتِي نَشَأَتْ مِنْهَا الْبِدَعُ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَلَكِنْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْأَئِمَّةَ الَّذِينَ لَهُمْ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ مِثْلَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ كَمَالِكِ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَكَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ كَانُوا يُنْكِرُونَ عَلَى أَهْل الْكَلَامِ مِنْ الْجَهْمِيَّة قَوْلَهُمْ فِي الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ وَصِفَاتِ الرَّبِّ وَكَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ يَرَى فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ الْإِيمَانَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَلَوْ شَتَمَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كَانَ كَافِرًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا عِنْدَهُمْ كُلِّهِمْ وَمَنْ كَانَ مُوَافِقًا لِقَوْلِ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ بِسَبَبِ انْتِصَارِ أَبِي الْحَسَنِ لِقَوْلِهِ فِي الْإِيمَانِ يَبْقَى تَارَةً يَقُولُ بِقَوْلِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَتَارَةً يَقُولُ بِقَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُوَافِقِينَ لِجَهْمِ.
حَتَّى فِي مَسْأَلَةِ سَبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ رَأَيْت طَائِفَةً مِنْ الْحَنْبَلِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّينَ وَالْمَالِكِيِّينَ إذَا تَكَلَّمُوا بِكَلَامِ الْأَئِمَّةِ قَالُوا: إنَّ هَذَا كُفْرٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا. وَإِذَا تَكَلَّمُوا بِكَلَامِ أُولَئِكَ قَالُوا: هَذَا كُفْرٌ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا تَامَّ الْإِيمَانِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ عِنْدَهُمْ لَا يَتَبَعَّضُ وَلِهَذَا لَمَّا عَرَفَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هَذَا مِنْ قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ أَنْكَرَهُ وَنَصَرَ قَوْلَ مَالِكٍ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَأَحْسَنَ فِي ذَلِكَ.
وَقَدْ ذَكَرْت بَعْضَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا فِي كِتَابِ "الصَّارِمِ الْمَسْلُولِ عَلَى شَاتِمِ الرَّسُولِ"، وَكَذَلِكَ تَجِدُهُمْ فِي مَسَائِلِ الْإِيمَانِ يَذْكُرُونَ أَقْوَالَ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَفِ وَيَبْحَثُونَ بَحْثًا يُنَاسِبُ قَوْلَ الْجَهْمِيَّة؛ لِأَنَّ الْبَحْثَ أَخَذُوهُ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِينَ نَصَرُوا قَوْلَ جَهْمٍ فِي مَسَائِلِ الْإِيمَانِ.
(الشرح)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد..
فإن المؤلف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ذكر فيما سبق مذهب المرجئة، ومذهبهم -مذهب المرجئة- في الإيمان، وفي الرب وفي صفات الرب.
وبيَّن فساده وأنه فاسد عقلًا وشرعًا، وأنه عند التحقيق لا يُثبِت إيمانًا، وذلك أن قولهم في الإيمان أو أن مذهبهم في الإيمان؛ هو معرفة الرب بالقلب والإقرار بالرب في القلب، فيجعلونه شيئًا واحدًا لا حقيقة له.
وقولهم في وحدة الرب؛ أنه ذاتٌ بلا صفات، ويقولون: إن القرآن مخلوق وأن الله لا يُرى في الآخرة.
وكذلك يقولون بوحدة الكلام وغيره من الصفات، يعني مَن يُثْبِت منهم الصفات فإنه يقول بالوحدة، فهم يقولون في الإيمان: إنه شيء واحد وهو الإقرار بالقلب؛ معرفة الرب بالقلب، ويقولون في وحدة الرب: أنه ذاتٌ بلا صفات.
ومَن يقول منهم بالصفات، فإنَّه يقول بوحدة الكلام وغيره من الصفات، يعني يجعل الصفات شيئًا واحدًا، فالإرادة هي المحبة، وهي الرضا، هي الغضب، ويجعلون أيضًا نفس الصفات هي نفس الذات.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَقَوْلُهُمْ؛ -يعني قول الجهمية- فِي الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ وَكَلَامِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ يَرْجِعُ إلَى تَعْطِيلٍ مَحْضٍ". كما سبق، هذا هو التعطيل المحض، عطَّلوا الرب ، بل أنكروا وجوده؛ لأن الذات الَّتِي لا تتصف الصفات لا وجود لها إلَّا في الذهن والعياذ بالله. فذاتٌ ليس لها اسم ولا صفة لا وجودَ لها إلَّا في الذهن والعياذُ بالله.. فهم أنكروا وجود الرب.
وكذلك القول بوحدة الصفات وأن الصفات كلها شيء واحد، أيضًا هذا قول فاسد، يخالف العقل والشرع والحكمة؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَقَوْلُهُمْ فِي الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ وَكَلَامِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ يَرْجِعُ إلَى تَعْطِيلٍ مَحْضٍ".
قال المُؤلِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَهَذَا قَدْ وَقَعَ فِيهِ طَوَائِفُ كَثِيرَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْمُتَعَصِّبِينَ للجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ؛ بَلْ وَلِلْمُرْجِئَةِ أَيْضًا". يعني قول الجهم وقع فيه طوائف من المتأخرين المنتسبين إلى السنة والفقه والحديث، من أتباع الأئمة الأربعة، وقعوا في قولِ الجهم، بسبب تعصبهم للجهمية والمعتزلة، هم ينتسبون إلى السنة، وينتسبون إلى الفقه، وينتسبون إلى الحديث لكن لتعصبهم للجهمية وقعوا في هذا القول الفاسد أو في بعضه، بل إنَّ بعضهم يتعصب للمرجئة.
ثم قال المؤلف رحمه الله: " لَكِنْ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِمْ بِالْحَقَائِقِ الَّتِي نَشَأَتْ مِنْهَا الْبِدَعُ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ" يعني بسبب جهلهم جمعوا بين الضدين، كيف ينتسبون إلى السنة والفقه والحديث، وينتسبون إلى الأئمة، والأئمة يعملون بالكتاب والسنة، ويقولون بمقتضى الدليل، وأنَّ الإيمان لابد فيه من تصديق القلب، وعمل القلب وعمل الجوارح وقول اللسان.
هذا مقتضى انتسابهم للأئمة، ثم بعد ذلك لتعصبهم للجهمية والمعتزلة والمرجئة، يقولون بقول المرجئة، فجمعوا بين الضدين، فانتسابهم إلى الأئمة يقضي بأن يقولوا بقول الأئمة، وتعصبهم للجهمية والمعتزلة يوجب لهم أن يقولوا بقول الجهمية والمعتزلة، فجمعوا بين الضدين.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " لَكِنْ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِمْ بِالْحَقَائِقِ الَّتِي نَشَأَتْ مِنْهَا الْبِدَعُ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ".
ثم بيَّن المؤلف رحمه الله أن الأئمة الذين لهم لسان فقه في الأُمَّة، سلَّمهم الله وبرَّأهم من طريقة الجهم ومذهب الجهم، من الأئمة الأربعة وغيرهم من الأئمة المعروفين؛ كما ذكر المؤلف رحمه الله.
قال: "وَلَكِنْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْأَئِمَّةَ الَّذِينَ لَهُمْ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ مِثْلَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ كَمَالِكِ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَكَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ بن الحسن صاحب الإمام أبو حنيفة، كَانُوا يُنْكِرُونَ عَلَى أَهْل الْكَلَامِ مِنْ الْجَهْمِيَّة قَوْلَهُمْ فِي الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ وَصِفَاتِ الرَّبِّ".
هذا من فضلِ الله تعالى وإحسانه أن الله ومن فضله على هؤلاء الأئمة، أن هؤلاء الأئمة الذين هم قدوة للناس، سَلِمُوا من قول الجهم، وكانوا ينكرون على أهل الكلام قولهم فيما يقوله الجهم، هذا من فضلِ الله تَعَالَى، لأن هؤلاء الأئمة هم القدوة، فلو ضلوا لضل الناس، ولكن من رحمة الله أن الله سلَّمهم من الضلال، فكانوا ينكرون على أهلِ الكلام من الجهمية قولهم في القرآن؛ قولهم في القرآن: إنه مخلوق، والإيمان؛ ينكرون على الجهمية قولهم: الإيمان شيء واحد، وهو المعرفة والإقرار وصفات الرب كذلك، ينكرون القول بوحدة الصفات.
وكانوا متفقين على ما كان عليه السلف من أن الله يُرى في الآخرة، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الإيمان لابد فيه من تصديق القلب واللسان، هذا هو ما اتفق عليه هؤلاء الأئمة الذين لهم لسانُ صدقٍ في الأُمَّة، اتفقوا على ما كان عليه السلف، وأن الله يُرى في الآخرة، وأثبتوا أن القرآن كلام الله غير مخلوق وأثبتوا أن الإيمان لابد فيه من تصديق القلب واللسان.
قال المؤلف رحمه الله: " فَلَوْ شَتَمَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كَانَ كَافِرًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا عِنْدَهُمْ".عندهم: عند الأئمة، عندهم كلهم.
" وَمَنْ كَانَ مُوَافِقًا لِقَوْلِ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ بِسَبَبِ انْتِصَارِ أَبِي الْحَسَنِ لِقَوْلِهِ فِي الْإِيمَانِ يَبْقَى تَارَةً يَقُولُ بِقَوْلِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَتَارَةً يَقُولُ بِقَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُوَافِقِينَ لِجَهْمِ؛ حَتَّى فِي مَسْأَلَةِ سَبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ"، يعني يقول المؤلف رحمه الله: إنَّ مَن سبَّ الله أو سب الرسول عليه الصلاة والسلام، هذا يكون كافرًا في الباطن وفي الظاهر، عند الأئمة وعند السلف وعند هؤلاء الأئمة. مَن سبَّ الله وسب رسوله، فهو كافر باطنًا وظاهرًا، وكذلك مَن سجدَ للصنم أو دعا غير الله، أو فعلَ ناقضًا من نواقض الإسلام، يكون كافرًا باطنًا وظاهرًا عند الأئمة.
أما مَن كان موافقًا للجهم فإنهم يقولون: هذا يكون كافرًا في الظاهر؛ هذا دليلٌ على الكفر، وأما في الباطن، فلا يكون كافرًا إذا كان عنده المعرفة في القلب والإقرار.
يقول المؤلف رحمه الله: هؤلاء الذين يوافقون قول الجهم؛ بسبب انتصارهم لأبي الحسن الأشعري تجدهم مذبذبين؛ تارةً يكونون مع الأئمة والسلف، وتارةً يكونون مع الموافقين لجهمٍ، حتى في مسألة سبِّ الله ورسوله، هم مذبذبون، تارة يقولون سب الله ورسوله يكون باطنًا وظاهرًا، فيكونون مع أهل السلف، وتارة يقولون مع السلف، وتارة يقولون: إنه كافر في الظاهر لا في الباطن، موافقةً للجهم وأبي الحسن، فهم مذبذبون، أما الأئمة فإن الله سلَّمهم من ذلك.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَمَنْ كَانَ مُوَافِقًا لِقَوْلِ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ بِسَبَبِ انْتِصَارِ أَبِي الْحَسَنِ لِقَوْلِهِ فِي الْإِيمَانِ يَبْقَى تَارَةً يَقُولُ بِقَوْلِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَتَارَةً يَقُولُ بِقَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُوَافِقِينَ للِجَهْمِ؛ حَتَّى فِي مَسْأَلَةِ سَبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ".
يقول المؤلف: " حَتَّى فِي مَسْأَلَةِ سَبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ رَأَيْت طَائِفَةً مِنْ الْحَنْبَلِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّينَ وَالْمَالِكِيِّينَ إذَا تَكَلَّمُوا بِكَلَامِ الْأَئِمَّةِ قَالُوا: إنَّ هَذَا كُفْرٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا. وَإِذَا تَكَلَّمُوا بِكَلَامِ أُولَئِكَ قَالُوا: هَذَا كُفْرٌ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا تَامَّ الْإِيمَانِ"، يعني أنهم مذبذبون، فإذا تكلموا بكلام الأئمة قالوا الحق، وإذا تكلموا بكلام المتكلمين قالوا الباطل.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: حتى إذا تكلَّم بكلام الكفر، يقول: هذا في الباطن، يجوز أنْ يكون مؤمنًا تام الإيمان، لكنَّ هذا كفرٌ في الظاهر. لماذا؟
قال: " فَإِنَّ الْإِيمَانَ عِنْدَهُمْ لَا يَتَبَعَّضُ" الإيمان شيء واحد، وهو الإقرار والمعرفة بالقلب، وهو شيء واحد لا يتبعض، ولا يزيد ولا ينقص.
قال المؤلف: " وَلِهَذَا لَمَّا عَرَفَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هَذَا مِنْ قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ أَنْكَرَهُ وَنَصَرَ قَوْلَ مَالِكٍ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَأَحْسَنَ فِي ذَلِكَ".
فالقاضي عياض رَحِمَهُ اللَّهُ من المالكية لما رأى بعض أصحابه يقولون بقول الجهم أنكره ونصر قول مالك وأهل السُّنَّة، وأنَّ مَن فعلَ الكفر أو تكلم بالكفر يكون كافرًا ظاهرًا وباطنًا.
والمؤلف رحمه الله أثنى عليه، وهذا من إنصاف المُؤلِّف رَحِمَهُ اللَّهُ، يثني على الأئمة قال: " وَأَحْسَنَ فِي ذَلِكَ عياض". يُقال للمحسن: أحسنتَ، هذا من الإنصاف.
قال المؤلف رحمه الله: " وَقَدْ ذَكَرْت بَعْضَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا فِي كِتَابِ " الصَّارِمِ الْمَسْلُولِ عَلَى شَاتِمِ الرَّسُولِ " عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، هذا كتاب معروف مشهور للإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، الصَّارِمِ الْمَسْلُولِ عَلَى شَاتِمِ الرَّسُول، بيَّن المُؤلِّف رَحِمَهُ اللَّهُ هذه المسائل وأن من سب الله وسب الرسول يكون كافرًا باطنًا وظاهرًا.
قال المؤلف رحمه الله: " وَكَذَلِكَ تَجِدُهُمْ فِي مَسَائِلِ الْإِيمَانِ يَذْكُرُونَ أَقْوَالَ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَفِ وَيَبْحَثُونَ بَحْثًا يُنَاسِبُ قَوْلَ الْجَهْمِيَّة" يعني هؤلاء الطوائف من الحنبليين والشافعيين والمالكيين إذا تكلموا بكلام الأئمة، قالوا الحق، وإذا تكلموا بكلام أتباع أبي الحسن بكلام المتكلمين الموافقين للجهم، تكلموا بالباطل، قال: " وَكَذَلِكَ تَجِدُهُمْ فِي مَسَائِلِ الْإِيمَانِ يَذْكُرُونَ أَقْوَالَ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَفِ، ثم إذا بحثوًا وَيَبْحَثُونَ بَحْثًا يُنَاسِبُ قَوْلَ الْجَهْمِيَّة" مثل المتأخرين تأثروا بقول المتكلمين وإن كانوا ينتسبون إلى الأئمة.
قال: " لِأَنَّ الْبَحْثَ أَخَذُوهُ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِينَ نَصَرُوا قَوْلَ جَهْمٍ فِي مَسَائِلِ الْإِيمَانِ". فإذن تجدهم في مسائل الإيمان يذكرون أقوال الأئمة والسلف، وأن الإيمان لابد فيه من العمل، لكن إذا بحثوا بحثًا نصروا قول جهمٍ؛ بسبب أنهم أخذوا هذا البحث من كتب أهل الكلام؛ لأن البحث أخذوه من كُتُب أهل الكلام الذين نصروا قول جهم في مسائل الإيمان.
وهذا يُوجِب على طالبِ العلم أن يعتني بالتتلمذِ على مشايخ أهل السنة والجماعة، وأنْ يحذر من أهل البدع، فلا يتتلمذ عليهم، ولا يأخذ عنهم، ولا يقرأ في كتبهم حتى لا يتأثر بالشبه.
فهؤلاء تأثَّروا، تجدهم ينتسبون إلى الأئمة الأربعة، ولكنهم تأثروا بأهل الكلام، فتارةً يقولون بقول الجهم، وتارة يقولون بقول أهل الحق.
فينبغي لطالب العلم أن يحذر من أهل البدع فلا يأخذ عنهم ولا يقرأ في كتبهم، ولا يتتلمذ عليهم؛ حتى تَسْلَم له عقيدته ودينه وتوحيده.
(المتن)
وَالرَّازِي لَمَّا صَنَّفَ "مَنَاقِبَ الشَّافِعِيِّ" ذَكَرَ قَوْلَهُ فِي الْإِيمَانِ. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ قَوْلُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ إجْمَاعٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَمَنْ لَقِيَهُ اسْتَشْكَلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ جِدًّا؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ انْعَقَدَ فِي نَفْسِهِ شُبْهَةُ أَهْلِ الْبِدَعِ فِي الْإِيمَانِ: مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة والكَرَّامِيَة، وَسَائِرِ الْمُرْجِئَةِ وَهُوَ أَنَّ الشَّيْءَ الْمُرَكَّبَ إذَا زَالَ بَعْضُ أَجْزَائِهِ لَزِمَ زَوَالُهُ كُلُّهُ؛ لَكِنْ هُوَ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا ظَاهِرَ شُبْهَتِهِمْ.
وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ هُوَ سَهْلٌ فَإِنَّهُ يُسَلَّمُ لَهُ أَنَّ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ لَمْ تَبْقَ مُجْتَمِعَةً كَمَا كَانَتْ؛ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ زَوَالِ بَعْضِهَا زَوَالُ سَائِرِ الْأَجْزَاءِ.
وَالشَّافِعِيُّ مَعَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ السَّلَفِ يَقُولُونَ: إنَّ الذَّنْبَ يَقْدَحُ فِي كَمَالِ الْإِيمَانِ وَلِهَذَا نَفَى الشَّارِعُ الْإِيمَانَ عَنْ هَؤُلَاءِ فَذَلِكَ الْمَجْمُوعُ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ لَمْ يَبْقَ مَجْمُوعًا مَعَ الذُّنُوبِ لَكِنْ يَقُولُونَ بَقِيَ بَعْضُهُ: إمَّا أَصْلٌ وَإِمَّا أَكْثَرُهُ، وَإِمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَيَعُودُ الْكَلَامُ إلَى أَنَّهُ يَذْهَبُ بَعْضُهُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ.
وَلِهَذَا كَانَتْ الْمُرْجِئَةُ تَنْفِرُ مِنْ لَفْظِ النَّقْصِ أَعْظَمَ مِنْ نُفُورِهَا مِنْ لَفْظِ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَقَصَ لَزِمَ ذَهَابُهُ كُلُّهُ عِنْدَهُمْ إنْ كَانَ مُتَبَعِّضًا مُتَعَدِّدًا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ وَهُمْ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ.
وَإِمَّا الْجَهْمِيَّة فَهُوَ وَاحِدٌ عِنْدَهُمْ لَا يَقْبَلُ التَّعَدُّدَ؛ فَيُثْبِتُونَ وَاحِدًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ؛ كَمَا قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي وَحْدَانِيَّةِ الرَّبِّ وَوَحْدَانِيَّةِ صِفَاتِهِ عِنْدَ مَنْ أَثْبَتَهَا مِنْهُمْ.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله ينقل عن الرازي أنه لما صنف مناقب الشافعي ذكر قول الشافعي في الإيمان، وأن الشافعي رحمه الله قوله موافق لقول الصحابة والتابعين والأئمة؛ وأنَّ الأعمال داخلة في مسماه، وليس شيئًا واحدًا كما تقول المرجئة، لكن بعض مَن لقي الشافعي استشكل قوله بسبب أنه استقرَّ في نفسه شبهة أهل البدع؛ وأن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَالرَّازِي لَمَّا صَنَّفَ مَنَاقِبَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله ذَكَرَ قَوْلَهُ فِي الْإِيمَانِ" يعني أنه التصديق في القلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح، وهذا يوافق الصحابة والتابعين والأئمة.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ قَوْلُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ إجْمَاعٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ".
ثم قال: " وَمَنْ لَقِيَهُ اسْتَشْكَلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ جِدًّا" استشكل قول الشافعي أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وسبب هذا الاستشكال بيَّنه المؤلف.
قال: "لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ انْعَقَدَ فِي نَفْسِهِ شُبْهَةُ أَهْلِ الْبِدَعِ فِي الْإِيمَانِ: مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة والكَرَّامِيَة وَسَائِرِ الْمُرْجِئَةِ" ما هي شبهتهم؟
بيَّنها قال: " وَهُوَ أَنَّ الشَّيْءَ الْمُرَكَّبَ إذَا زَالَ بَعْضُ أَجْزَائِهِ لَزِمَ زَوَالُهُ كُلُّهُ" يعني في قول الشافعي رحمه الله هو قول الصحابة والتابعين، أنَّ الإيمان متعدد؛ وأنه قول باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالجوارح وهو قول الصحابة والتابعين والأئمة.
لكن من استشكل قول الشافعي فسببه، أنه استقر في نفسه شبهة أهل البدع، ولهذا قال: "لأنَّه كان قد انْعَقَدَ فِي نَفْسِهِ شُبْهَةُ أَهْلِ الْبِدَعِ فِي الْإِيمَانِ".
ما هي شُبْهَةُ أَهْلِ الْبِدَعِ فِي الْإِيمَانِ؟
شبهتهم: أن الإيمان شيء واحد؛ لأنَّه حقيقة مُرَكَّبة، والحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها.
هذه هي شبهة أهل البدع كلهم، يدخل في ذلك.
يعني هي شبهة الخوارج، وهي شبهة المعتزلة وهي شبهة الجهمية وهي شبهة الكرامية، وهي شبهة أيضًا مرجئة الفقهاء، كلهم يقولون: الإيمان شيء واحد، ليس متعددًا لأنه حقيقة مركبة، والحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها.. لا يمكن أن يذهب بعضه ويبقى بعضه، لا يتبعض ولا يتعدد.
الخوارج والمعتزلة يقولون: الإيمان -كما يقول أهل السُّنَّة- متعدد، قولٌ باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالجوارح، لكن يقولون إذا تركَ واجبًا من الواجبات، أو فعلَ محرمًا من المحرمات زال الإيمان كله، لا يتبعض.
فعندهم هذه الشبهة، وإنْ كانوا يقولون بقول أهل السُّنَّة أن الإيمان متعدد لكن يقولون إذا زال بعضه زال الجميع، إذا فعل الكبيرة ذهب الإيمان كله.
أمَّا أهل السُّنَّة يقولون: لا يذهب الإيمان، يبقى، يذهب كمال الإيمان ويبقى أصله، هم يقولون يذهب الإيمان إذا فعل الكبيرة؛ ارتكبَ الكبيرة أو تركَ الواجب هذا الإيمان؛ لأنه حقيقة مركبة والحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها، والشيء المركب إذا زال بعض أجزائه لزمَ زواله كله، ويقول بهذا الجهمية والكرامية.
يقول بهذا الجهمية؛ لأنَّ الإيمان عندهم التصديق، إذا زال بعضه زالَ كله، وكذلك الكرامية الذين يقولون: الإيمان هو النطق باللسان، فالنطق باللسان هو الإيمان فإذا زال زال جميعه، وإذا ثبت ثبت جميعه، وكذلك سائر المرجئة حتى مرجئة الفقهاء هذه شبهتهم، أن الشيء المركب إذا زال بعض أجزائه لزمَ زواله كله.
قال المؤلف: "؛ لَكِنْ هُوَ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا ظَاهِرَ شُبْهَتِهِمْ. وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ هُوَ سَهْلٌ" يعني الجواب عن شبهتهم سهل، ما هو؟
الخلاصة: نقول: لا نُسلِّم لكم بأن الحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها، فالحقيقة المركبة لا تزول بزوال بعض أجزائها، بل تنقص، صحيح أنها تنقص عن كمالها لكن لا تزول، فالإنسان حقيقة مركبة، الإنسان حقيقة مركبة من لحم ودم وأعصاب ويدين ورجلين، إذا زال بعض أجزائه، هل تزول حقيقة الإنسان؟!
إذا قُطع إصبع من الأصابع ما زالت حقيقة الـ.. لكنْ نقصت، فهذا هو الجواب عن شبهتهم.
نُسلِّم لكم أن الهيئة المجتمعة لم تبقَ مجتمعة كما كانت لكن لا تزول، لم تزل.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ هُوَ سَهْلٌ فَإِنَّهُ يُسَلَّمُ لَهُ" يعني للمبتدع الذي يقول والذي استقرت في نفسه شبهة أهل البدع؛ كالخوارج والجهمية والمعتزلة والكرامية، نُسلِّم لَهُ أَنَّ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ لَمْ تَبْقَ مُجْتَمِعَةً كَمَا كَانَتْ؛ لم تبقَ مجتمعة كما كانت.
الإيمان لم يبقَ كما كان، لكن زال بعضه وبقي بعضه، كما أنَّ حقيقة الإنسان إذا زال بعض أطرافه لم تبقَ الهيئة الاجتماعية مجتمعة لكن باقية، لكن لا يلزمه من زوال بعضها زوال سائر الأجزاء.
قال المؤلف رحمه الله: " وَالشَّافِعِيُّ مَعَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ السَّلَفِ يَقُولُونَ: إنَّ الذَّنْبَ يَقْدَحُ فِي كَمَالِ الْإِيمَانِ". يعني ينقصه ويضعفه لكن لا يزول بالذنب، لا يزول إلَّا بالكفر الأكبر والنفاق الأكبر، النفاق الأكبر يزول به الإيمان، والكفر الأكبر يزول به الإيمان، والشرك الأكبر يزول به الإيمان، أما المعاصي -ولو عَظُمَت ولو كَثُرت- لا تقضي على الإيمان بل تضعفه.
ولهذا فإن العصاة الذين دخلوا النار سيخرجون من النار وهم عصاة! وبعضهم كثرت جرائمه، وبعضه فَحُشَت فيبقى مدةً طويلةً، لكن في النهاية يخرج، حتى إنَّه يخرج مَن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان؛ لأن المعاصي لا تقضي على الإيمان ولو كثرت، لا يقضي عليه إلا الكفر الأكبر أو النفاق الأكبر أو الشرك الأكبر.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَالشَّافِعِيُّ مَعَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ السَّلَفِ يَقُولُونَ: إنَّ الذَّنْبَ يَقْدَحُ فِي كَمَالِ الْإِيمَانِ وَلِهَذَا نَفَى الشَّارِعُ الْإِيمَانَ عَنْ هَؤُلَاءِ"، نفى الشارعُ عن الزاني والسارق وشارب الخمر، فقال لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ.([1])، نفى عنهم كمال الإيمان ولم ينفِ أصلَ الإيمان؛ بدليل أنهم تُقام عليهم الحدود، ويَرِثُون، ويُورَثُون، ولو كانوا كفارًا لما حصل بينهم وبين أقاربهم توارث.
وكذلك نفى الإيمانَ عمن لم يأمن جاره بوائقه، نفى الإيمان عمن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
وهكذا، فنفى الشارع الإيمان عن هؤلاء؛ الذين فعلوا بعض المعاصي، قال: "فَذَلِكَ الْمَجْمُوعُ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ لَمْ يَبْقَ مَجْمُوعًا مَعَ الذُّنُوبِ".
صحيح، لذا ذهبوا إلى أنَّ الإيمان هو التصديق؛ تصديق بالقلب وعمل بالجوارح، لمْ يبقَ مجموعًا؛ لأنه زال بعض الواجبات أو فعل بعض المحرمات، لمْ يبقَ مجموعًا مع الذنوب لكنَّ يقولون: بقي بعضه، إما أصله، وإما أكثره بقي بعضه؛ لأن المعاصي وترك الواجبات لا يزيل الإيمان، بقي بعضه؛ إما أصله، وإما أكثره، وإمَّا غيرُ ذلك.
قال المؤلف: " فَيَعُودُ الْكَلَامُ إلَى أَنَّهُ يَذْهَبُ بَعْضُهُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ" وهذا هو قول أهل السنة، جماهير أهل السنة قاطبة يقولون: بأن الإيمان يذهب بعضه ويبقى بعضه، أما أهل البدع فيقولون: لا يذهب بعضه ويبقى بعضه، بل إذا زال زال جميعه، وإذا ثبتَ ثبتَ جميعه.
قال المؤلف رحمه الله: " وَلِهَذَا كَانَتْ الْمُرْجِئَةُ تَنْفِرُ مِنْ لَفْظِ النَّقْصِ أَعْظَمَ مِنْ نُفُورِهَا مِنْ لَفْظِ الزِّيَادَةِ" لماذا؟
قال: "لِأَنَّهُ إذَا نَقَصَ لَزِمَ ذَهَابُهُ كُلُّهُ عِنْدَهُمْ إنْ كَانَ مُتَبَعِّضًا مُتَعَدِّدًا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ" يعني المرجئة ينفرون من القول بنقصان الإيمان أكثر من نفورهم من زيادة الإيمان؛ وسببُ ذلك أنه يلزم من النقص يلزم ذهابه كله عندهم.
فلهذا ينفرون منه، فإذا نقص الإيمان عندهم يلزم من ذلك زوال الإيمان؛ فلهذا نفروا من لفظ النقص، فلا يقولون ينقص الإيمان، قالوا: يزول الإيمان؛ لأنه إذا نقص لزم ذهابه كله عندهم إنْ كان متبعضًا متعددًا عند مَن يقول بذلك وهم الخوارج والمعتزلة؛ لأن الخوارج والمعتزلة يقولون الإيمان متعدد، قول باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالجوارح كما يقول أهل السنة إلا أنهم يقولون إذا زال بعضه زال جميعه.
قال: "وَأمَّا الْجَهْمِيَّة فإن الإيمان واحد لهم"، الخوارج والمعتزلة الإيمان متعدد؛ أقوال الإنسان، وأعمال القلوب، وأعمال الجوارح، لكن يوافقون الجهمية في أنه إذا زال البعض زال الجميع.
"وَأَمَّا الْجَهْمِيَّة فَهُوَ وَاحِدٌ عِنْدَهُمْ لَا يَقْبَلُ التَّعَدُّدَ؛ فَيُثْبِتُونَ وَاحِدًا لَا حَقِيقَةَ له"، ما هو هذا الواحد؟ هو الإقرار في القلب، الإقرار والمعرفة في القلب هذا شيء واحد، هذا هو الإيمان.
"وَأمَّا الْجَهْمِيَّة فَهُوَ وَاحِدٌ عِنْدَهُمْ لَا يَقْبَلُ التَّعَدُّدَ؛ فَيُثْبِتُونَ وَاحِدًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ؛ كَمَا قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي وَحْدَانِيَّةِ الرَّبِّ".
قالوا في وحدانية الرب: إنَّه ذاتٌ بلا صفات ولا أسماء، ووحدانية الصفات عندما نثبتها عندهم، يعني مثلًا الصفات يقولون: الصفات شيء واحد؛ القدرة والمشيئة والمحبة والرضا بمعنى واحد، معناها واحد، فالصفات ترجع إلى شيء واحد.
قالوا: بوحدة الصفات، وبوحدة الرب، وبوحدة الإيمان، فرجع قولهم إلى التعطيل المحض، نسأل الله السلامة والعافية!
(المتن)
وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي هَذَا اعْتِقَادُهُمْ أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ فِي الْإِنْسَانِ بَعْضُ الْإِيمَانِ وَبَعْضُ الْكُفْرِ أَوْ مَا هُوَ إيمَانٌ وَمَا هُوَ كُفْرٌ وَاعْتَقَدُوا أَنَّ هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ وَغَيْرُهُ فَلِأَجْلِ اعْتِقَادِهِمْ هَذَا الْإِجْمَاعَ وَقَعُوا فِيمَا هُوَ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ الْحَقِيقِيِّ إجْمَاعِ السَّلَفِ الَّذِي ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ.
بَلْ وَصَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِكُفْرِ مَنْ قَالَ بِقَوْلِ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ.
وَلِهَذَا نَظَائِرُ مُتَعَدِّدَةٌ؛ يَقُولُ الْإِنْسَانُ قَوْلًا مُخَالِفًا لِلنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ الْقَدِيمِ حَقِيقَةً وَيَكُونُ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ.
وَهَذَا إذَا كَانَ مَبْلَغُ عِلْمِهِ وَاجْتِهَادِهِ؛ فَاَللَّهُ يُثِيبُهُ عَلَى مَا أَطَاعَ اللَّهَ فِيهِ مِنْ اجْتِهَادِهِ وَيَغْفِرُ لَهُ مَا عَجَزَ عَنْ مَعْرِفَتِهِ مِنْ الصَّوَابِ الْبَاطِنِ وَهُمْ لَمَّا تَوَهَّمُوا أَنَّ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ نَوْعٌ وَاحِدٌ؛ صَارَ بَعْضُهُمْ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ النَّوْعَ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَا يَقْبَلُ التَّفَاضُلَ.
فَقَالَ لِي مَرَّةً بَعْضُهُمْ: الْإِيمَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ إيمَانٌ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ.
فَقُلْت لَهُ: قَوْلُك مِنْ حَيْثُ هُوَ؛ كَمَا تَقُولُ: الْإِنْسَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ إنْسَانٌ وَالْحَيَوَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَيَوَانٌ وَالْوُجُودُ مِنْ حَيْثُ هُوَ وُجُودٌ وَالسَّوَادُ مِنْ حَيْثُ هُوَ سَوَادٌ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ وَالصِّفَاتِ.
فَتُثْبِتُ لِهَذِهِ الْمُسَمَّيَاتِ وُجُودًا مُطْلَقًا مُجَرَّدًا عَنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ وَالصِّفَاتِ وَهَذَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يُقَدِّرُهُ الْإِنْسَانُ فِي ذِهْنِهِ كَمَا يُقَدِّرُ مَوْجُودًا لَا قَدِيمًا وَلَا حَادِثًا وَلَا قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ وَيُقَدِّرُ إنْسَانًا لَا مَوْجُودًا وَلَا مَعْدُومًا وَيَقُولُ: الْمَاهِيَّةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ لَا تُوصَفُ بِوُجُودِ وَلَا عَدَمٍ وَالْمَاهِيَّةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ شَيْءٌ يُقَدِّرُهُ الذِّهْنُ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ.
وَأَمَّا تَقْدِيرُ شَيْءٍ لَا يَكُونُ فِي الذِّهْنِ وَلَا فِي الْخَارِجِ فَمُمْتَنِعٌ وَهَذَا التَّقْدِيرُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الذِّهْنِ كَسَائِرِ تَقْدِيرِ الْأُمُورِ الْمُمْتَنِعَةِ؛ مِثْلَ تَقْدِيرِ صُدُورِ الْعَالَمِ عَنْ صَانِعِينَ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمُقَدَّرَاتِ فِي الذِّهْنِ.
فَهَكَذَا تَقْدِيرُ إيمَانٍ لَا يَتَّصِفُ بِهِ مُؤْمِنٌ؛ بَلْ هُوَ مُجَرَّدٌ عَنْ كُلِّ قَيْدٍ. وَتَقْدِيرُ إنْسَانٍ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا وَلَا مَعْدُومًا؛ بَلْ مَا ثَمَّ إيمَانٌ إلَّا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا ثَمَّ إنْسَانِيَّةٌ إلَّا مَا اتَّصَفَ بِهَا الْإِنْسَانُ؛ فَكُلُّ إنْسَانٍ لَهُ إنْسَانِيَّةٌ تَخُصُّهُ وَكُلُّ مُؤْمِنٍ لَهُ إيمَانٌ يَخُصُّهُ؛ فَإِنْسَانِيَّةُ زَيْدٍ تُشْبِهُ إنْسَانِيَّةَ عَمْرو وَلَيْسَتْ هِيَ هِيَ.
وَإِذَا اشْتَرَكُوا فِي نَوْعِ الْإِنْسَانِيَّةِ فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمَا يَشْتَبِهَانِ فِيمَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ وَيَشْتَرِكَانِ فِي أَمْرٍ كُلِّيٍّ مُطْلَقٍ يَكُونُ فِي الذِّهْنِ.
وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: إيمَانُ زَيْدٍ مِثْلُ إيمَانِ عَمْرٍو؛ فَإِيمَانُ كُلِّ وَاحِدٍ يَخُصُّهُ.
فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْإِيمَانَ يَتَمَاثَلُ لَكَانَ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ إيمَانٌ يَخُصُّهُ وَذَلِكَ الْإِيمَانُ مُخْتَصٌّ مُعَيَّنٌ لَيْسَ هُوَ الْإِيمَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ؛ بَلْ هُوَ إيمَانٌ مُعَيَّنٌ وَذَلِكَ الْإِيمَانُ يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ.
(الشرح)
فإنَّ المؤلف رحمه الله شيخ الإسلام ابن تيمية بيَّن فيما سبق مذهب المرجئة في الإيمان، وأن الإيمان عندهم هو مجرد الإقرار ومعرفة الرب في القلب، وبيَّن فساده وأن هذا قول فاسد، وهو يؤدي إلى التعطيل المحض، ولا يُثْبِتُ إيمانًا في القلب.
ثم بيَّن رحمه الله في هذا المقطع الأصل الذي أوقعهم في هذا، وهو اعتقادهم أنه لا يجتمع في الإنسان بعض الإيمان وبعض الكفر؛ وذلك أن الإيمان عندهم شيء واحد لا يتبعض؛ لأنه إذا تبعض وزال بعضه، حلَّ محله شيء من خصال الكفر، أو خصال الشِّرك.
فإذًا عندهم أصل أن الإيمان شيء واحد، إذا زال زال جميعه، وإذا ثبت ثبت جميعه، ولا يذهب بعضه ويبقى بعضه؛ لأنه إذا ذهب بعض الإيمان حل محله شيء من المعاصي والكفر.
وكذلك الكفر شيء واحد لا يزيد ولا ينقص ولا يتبعض.
لهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي هَذَا اعْتِقَادُهُمْ أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ فِي الْإِنْسَانِ بَعْضُ الْإِيمَانِ وَبَعْضُ الْكُفْرِ أَوْ مَا هُوَ إيمَانٌ وَمَا هُوَ كُفْرٌ". وهذا مخالف لما دلت عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، ولما قرره الأئمة والعلماء وأهل السُّنَّة؛ بأنَّ الإيمان يذهب بعضه ويبقى بعضه، وأنه يجتمع في الإنسان بعض الإيمان وبعض الكفر.
فيكون الإنسان مؤمنًا، ويكون عنده شيء من خصال الكفر، كالطعن في النسب، والنياحة على الميت، كما قال النبي ﷺ: اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ ([2]).
فهذا قد يكون في المؤمن بعض الكفر يطعن في النسب، وينوح على الميت، وهو مؤمن، يكون عنده بعض الإيمان وبعض الكفر.
فهم خالفوا النصوص، وقالوا: "لا يَجْتَمِعُ فِي الْإِنْسَانِ بَعْضُ الْإِيمَانِ وَبَعْضُ الْكُفْرِ أَوْ مَا هُوَ إيمَانٌ وَمَا هُوَ كُفْرٌ وَاعْتَقَدُوا أَنَّ هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ".
وهذا من جهلهم، قال المؤلف: "كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ وَغَيْرُهُ" يعني ذكر أبو الحسن الأشعري وغيره، ذكر هذا في مقالات الإسلاميين أنه لا يجتمع في الإنسان بعض الإيمان وبعض الكفر.
قال المؤلف: "فَلِأَجْلِ اعْتِقَادِهِمْ هَذَا الْإِجْمَاعَ وَقَعُوا فِيمَا هُوَ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ الْحَقِيقِيِّ إجْمَاعِ السَّلَفِ الَّذِي ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ؛ بَلْ وَصَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِكُفْرِ مَنْ قَالَ بِقَوْلِ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ".
يعني اعتقاد هذا الإجمال عندهم أوقعهم في مخالفة الإجماع الحقيقي؛ وهو إجماع السلف وهو القول بكفرِ مَن قال بقول جهم في الإيمان؛ لأن من قال بقول الجهم في الإيمان وهو المعرفة، معرفة الرب بالقلب، والإقرار بالقلب، ولو فعل جميع نواقض الإسلام ولا يكون كافرًا هذا معناه أن مَن فعلَ ناقضًا من نواقض الإسلام لا يكفر.
ومن نواقض الإسلام: أنَّ مَن لم يُكفِّر الكافر فهو كافر مثله، فلهذا صرَّح غير واحدٍ من السلف بكفر من قال بقول الجهم في الإيمان، وأنَّ هذا قول كفري.. الإيمان هو معرفة الرب في القلب، والكفر هو جهل الرب بالقلب.
معنى ذلك أن نواقض الإسلام إذا فعلها الإنسان لا تضره، وهذا كفر وضلال؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَلِأَجْلِ اعْتِقَادِهِمْ هَذَا الْإِجْمَاعَ وَقَعُوا فِيمَا هُوَ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ الْحَقِيقِيِّ إجْمَاعِ السَّلَفِ الَّذِي ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ؛ بَلْ وَصَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِكُفْرِ مَنْ قَالَ بِقَوْلِ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ".
قال المؤلف رحمه الله: "وَلِهَذَا نَظَائِرُ مُتَعَدِّدَةٌ؛ يَقُولُ الْإِنْسَانُ قَوْلًا مُخَالِفًا لِلنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ الْقَدِيمِ حَقِيقَةً وَيَكُونُ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ" يعني هذا يحصل بعض الناس، بعضُ الناس يقول قولًا مخالفًا للنص والإجماع ثم يدَّعي أنَّه متمسك بالنص والإجماع بسبب الجهل، بسبب جهله لكنه.
ولكنه إذا كان، يقول المؤلف رحمه الله.. لكنه قد يكون معذورًا إذا كان لم يتعمد، وأنَّ هذا مبلغ علمه، فيكون معذورًا في ذلك ويغفر له الخطأ وقد يثاب على اجتهاده فيما أعطا الله فيه"، لأنه لم يتعمَّد، بخلاف المعاند.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَهَذَا"؛ يعني الذي يقول قولًا مخالفًا للنص والإجماع. ويعتقد أنه موافق للسنة والإجماع "وَهَذَا إذَا كَانَ مَبْلَغُ عِلْمِهِ وَاجْتِهَادِهِ؛ فَاَللَّهُ يُثِيبُهُ عَلَى مَا أَطَاعَ اللَّهَ فِيهِ مِنْ اجْتِهَادِهِ وَيَغْفِرُ لَهُ مَا عَجَزَ عَنْ مَعْرِفَتِهِ مِنْ الصَّوَابِ الْبَاطِنِ".
ثم بيَّن الوهم الذي توهمه الجهمية، وهو أنهم توهموا أن الإيمان واجب على جميع الناس في نوع واحد، وظنوا أن هذا النوع لا يقبل التفاضل.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَهُمْ لَمَّا تَوَهَّمُوا أَنَّ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ نَوْعٌ وَاحِدٌ؛ صَارَ بَعْضُهُمْ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ النَّوْعَ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَا يَقْبَلُ التَّفَاضُلَ" يعني ظنوا أن الإيمان الواجب على شيء واحد وهو معرفة الرب بالقلب والإقرار، هذا هو الواجب من النفس وهو نوع واحد لا يتفاضل ولا يزيد ولا ينقص.
قالوا: " فظنوا أَنَّ ذَلِكَ النَّوْعَ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَا يَقْبَلُ التَّفَاضُلَ".
فقال المؤلف رحمه الله: "فَقَالَ لِي مَرَّةً بَعْضُهُمْ؛ يعني قول أهل الجهم الْإِيمَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ إيمَانٌ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ.
ناقشه المؤلف رحمه الله بقول الْإِيمَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ إيمَانٌ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ ناقش بين له أن القول إن الشيء من حيث هو، لا يقبل الزيادة والنقصان هذا المسمى إنما يكون في الذهن إذا قيل حيث هو، فالشيء من حيث هو إذا جرد عن الصفات وعن الأسماء هذا لا يكون إلا في الذهن، كما بين المؤلف رحمه الله، فالإنسان حيث هو يعني هو إنسان يعني لم يقيد بقيود إذا أزيلت القيود والأسماء والصفات؛ صار الذهن.
والحيوان إذا أزيلت القيود والصفات صار الزهن، والوجود والسواد، فمثلًا الإنسانية، الإنسانية من حيث هو هذا أمرٌ ذهني، مطلق ولا يتحقق إلا بأفراده محمد وعمر وبكر وخالد الحيوانية، من حيث هي أمر ذهني ولا يتحقق إلا بأفرادها من الأسد والنمر والبقر والغنم هذه أفراده.
وكذلك الإنسان حيث هو في الذهن، حيث هو إذا قطعته عن الأوصاف وعن القيود جردته عن القيود والأوصاف صار في الذهن، الحيوان حيث هو لو جرده من كل الصفات صار في الذهن، السواد من حيث هو إذا جرده من الصفات صار في الذهن.
تخيلوا الإنسان لا وجود له، لا وجود لأي شيء في الخارج إلا بأسمائه وصفاته، فالشيء الذي تُنفى عنه الأسماء والصفات لا يكون إلا في الذهن فإذا قيدته ووصفته صار في الخارج، وإذا جردته عن القيود صار في الذهن، وهذه قاعدة معروفة.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: ". فَقُلْت لَهُ: قَوْلُك مِنْ حَيْثُ هُوَ؛ كَمَا تَقُولُ: الْإِنْسَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ إنْسَانٌ وَالْحَيَوَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَيَوَانٌ وَالْوُجُودُ مِنْ حَيْثُ هُوَ وُجُودٌ وَالسَّوَادُ مِنْ حَيْثُ هُوَ سَوَادٌ" هو يقول من حيث يعني جردته من الأسماء والصفات "وَأَمْثَالُ ذَلِكَ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ وَالصِّفَاتِ"
يعني لا يقول الزيادة ولا يقول النقصان ولا يقول الصفات، فيثبت يعني بقوله هذا: "فَتُثْبِتُ لِهَذِهِ الْمُسَمَّيَاتِ وُجُودًا مُطْلَقًا مُجَرَّدًا عَنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ وَالصِّفَاتِ"
فقوله وجودًا مطلقًا فسر بقوله في مجردًا عن القيود والصفات، فالوجود المطلق هذا هو مقيد الذي ترد عن القيود وعن الأسماء والصفات، هذا يقال له وجودًا مطلق.
مثل الوجود المطلق هذا في الذهن يعني مجرد عن القيود والصفات، إنسان مطلق هذا في الذهن، سواد مطلق هذا في الذهن، علمٌ مطلق في الذهن، قدرة مطلقة في الذهن، وهكذا.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فَتُثْبِتُ لِهَذِهِ الْمُسَمَّيَاتِ وُجُودًا مُطْلَقًا مُجَرَّدًا عَنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ وَالصِّفَاتِ وَهَذَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ" لا حقيقة له في الخارج لماذا؟
لأنه يدل جُرد على القيود والصفات، وإذا جرد على القيود والصفات لا يوجد في الخارج أي شيء لو تقول هناك إنسان، مجرد عن جميع الصفات ليس له طول ولا عرض ولا عنق ولا مركب من باللحم ولا من دم ولا من عظم وليس فوق الأرض ولا تحت الأرض، ولا متصل بالعالم، ولا منفصل عن العالم، ماذا يكون؟
هذا جرد عن القيود والصفات هذا لا يوجد إلا في الذهن والذهن يفرض المحال ويتخيله.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَتُثْبِتُ لِهَذِهِ الْمُسَمَّيَاتِ وُجُودًا مُطْلَقًا مُجَرَّدًا عَنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ وَالصِّفَاتِ وَهَذَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يُقَدِّرُهُ الْإِنْسَانُ فِي ذِهْنِهِ؛ يعني يشعر به، فَتُثْبِتُ لِهَذِهِ الْمُسَمَّيَاتِ وُجُودًا مُطْلَقًا مُجَرَّدًا عَنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ وَالصِّفَاتِ وَهَذَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يُقَدِّرُهُ الْإِنْسَانُ فِي ذِهْنِهِ" فهل هناك موجود لا قديم ولا حادث؟ وجود الله هذا وجودٌ واجبٌ الوجود لذاته واجب بنفسه، وجود قديم، يعني وجود بنفسه، ووجود المخلوق وجود حادث، فإذا قلت لك موجود لا قديم ولا حادث هذا لابد له استعمال في الذهن.
إذا قلت كما تقدم، كما يقدم لا موجود لا قديمً ولا حادثً وَلَا قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ، لا قديم ولا محدث إلا في الذهن، والذهن يتصور المحال يتصوره، وَيُقَدِّرُ إنْسَانًا لَا مَوْجُودًا وَلَا مَعْدُومًا، هل يوجد إنسان أو معدوم؟
لا يمكن لأن نفيت عن النفي الوجود والعدم والإنسان إما موجود وأما معدوم، فشيء يكون لا موجود ولا معدوم فهذا هو في الذهن ويقول: "الْمَاهِيَّةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ لَا تُوصَفُ بِوُجُودِ وَلَا عَدَمٍ" الماهية يعني حقيقة الشيء أو ذات الشيء ثم الماهية وهي كلمة منطقية يعبرون بها عن ذات الشيء وحقيقته.
يقول: "الْمَاهِيَّةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ؛ يعني لو جردتها من القيود والصفات لَا تُوصَفُ بِوُجُودِ وَلَا عَدَمٍ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ شَيْءٌ يُقَدِّرُهُ الذِّهْنُ" يقول الماهية هي هي يعني مجرد من الصفات، وقال: "وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ. وَأَمَّا تَقْدِيرُ شَيْءٍ لَا يَكُونُ فِي الذِّهْنِ وَلَا فِي الْخَارِجِ فَمُمْتَنِعٌ" يعني مستحيل كلمة ممتنع معناها مستحيل، يعني تقدر شيء لا يكون في الذهن ولا في الخيال لا يكون مستحيل، لَا يَكُونُ فِي الذِّهْنِ وَلَا فِي الْخَارج فهذا مستحيل.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَأَمَّا تَقْدِيرُ شَيْءٍ لَا يَكُونُ فِي الذِّهْنِ وَلَا فِي الْخَارِجِ فَمُمْتَنِعٌ " ومعنى ممتع مستحيل.
يقول المؤلف: "وَهَذَا التَّقْدِيرُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الذِّهْنِ كَسَائِرِ تَقْدِيرِ الْأُمُورِ الْمُمْتَنِعَةِ" يعني كسائر تقدير الأمور المستحيلة، ثم مثل بذلك فقال: "مِثْلَ تَقْدِيرِ صُدُورِ الْعَالَمِ عَنْ صَانِعِينَ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمُقَدَّرَاتِ فِي الذِّهْنِ." يقدر الإنسان العالم له خالقان هذا كلام مستحيل، هذا يقدر في الزهن.
قال المؤلف رحمه الله "فَهَكَذَا تَقْدِيرُ إيمَانٍ لَا يَتَّصِفُ بِهِ مُؤْمِنٌ بَلْ هُوَ مُجَرَّدٌ عَنْ كُلِّ قَيْدٍ" هذا في الذهن فلا يمكن يقدر الإيمان لا يكون بالمؤمن، لابد الإيمان يسويه مؤمن.
فإذا قلت هناك إيمان لا يتصف به أحد هذا لا يكون إلا بالذهن، ولهذا قال: "وَتَقْدِيرُ إنْسَانٍ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا وَلَا مَعْدُومًا" هذا في الذهن.
قال: "بَلْ مَا ثَمَّ إيمَانٌ إلَّا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ لا يمن إيمان إلا مع المؤمنين، وَلَا ثَمَّ إنْسَانِيَّةٌ إلَّا مَا اتَّصَفَ بِهَا الْإِنْسَانُ" فالذات الإنسانية لا يتصف بها إنسان إلا في الذهن، فَكُلُّ إنْسَانٍ لَهُ إنْسَانِيَّةٌ تَخُصُّهُ وَكُلُّ مُؤْمِنٍ لَهُ إيمَانٌ يَخُصُّهُ؛ زيد له إنسانيه تخصه وله إيمان يخصه، عمر له إنسانية تخصه وكل مؤمن له إيمان يخصه، فإنسانية فلان حسن الخلق مثلا نشيط قوي أو عاجز أو كذا له إنسانية تخصه، ذات تخصه، وله إيمان يخصه.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فَكُلُّ إنْسَانٍ لَهُ إنْسَانِيَّةٌ تَخُصُّهُ وَكُلُّ مُؤْمِنٍ لَهُ إيمَانٌ يَخُصُّهُ؛ فَإِنْسَانِيَّةُ زَيْدٍ تُشْبِهُ إنْسَانِيَّةَ عُمَرَ وَلَيْسَتْ هِيَ هِيَ" ليست إنسانية زيد مثل إنسانية عمر تختلف كل إنسان يختلف عن الآخر في طبعه وفي خلقه وفي قوته وفي ضعفه وفي أكله وفي شربه وفي طوله وفي عرضه وفي عمقه الخ الصفات.
وإن كان هذا تشابه، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فَإِنْسَانِيَّةُ زَيْدٍ تُشْبِهُ إنْسَانِيَّةَ عُمَرَ وَلَيْسَتْ هِيَ هِيَ. وَإِذَا اشْتَرَكُوا فِي نَوْعِ الْإِنْسَانِيَّةِ فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمَا يَشْتَبِهَانِ فِيمَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ" إذا اشتركوا في نوع الإنسانية في الخارج زيد وعمر يشتركان لأن كل منهما يأكل، كل منهما يشرب، كل منهما يتبول كل منها يتغوط، كل منهما يرضع، كل منهما يغضب هذه صفات يشتركان فيها في الخارج وَيَشْتَرِكَانِ فِي أَمْرٍ كُلِّيٍّ مُطْلَقٍ يَكُونُ فِي الذِّهْنِ، وهي الإنسانية المجردة عن القيود والصفات في الذهن كلمة إنسانية في الذهن، هذه تابعة لجميع بني أدم في الذهن، لكن متى تكون في الخارج؟
إذا وصفنا، هات إنسان معين زيد، خرج من الذهن خرج من الذهن إلى الخارج لأنك وصفته لأن مجرد إنسانية هذه في الذهن يشترك فيها جميع بني الإنسان جميع بني أدم، فإذا سميت واحد خرج، خرج إلى الخارج، خرج من الذهن إلى الخارج.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَإِذَا اشْتَرَكُوا فِي نَوْعِ الْإِنْسَانِيَّةِ فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمَا يَشْتَبِهَانِ فِيمَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ وَيَشْتَرِكَانِ فِي أَمْرٍ كُلِّيٍّ مُطْلَقٍ يَكُونُ فِي الذِّهْنِ." الأمر الكلي المطلق هو الذي لا يقيد الاسم والصفة، أمرٌ كلي يعني أمر عاقل، ومطلق يعني هذا لم يقيد الاسم ولا صفة.
ولذلك يقول المؤلف: "يكون في الذهن" وكذلك إذا قيل إيمان زيد مثل إيمان عمرو، فإيمان كل واحد يخصه.
نعم إيمان زيد قد يكون أقوى من أيمان عمرو قد يكون مماثل، قال: "فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْإِيمَانَ يَتَمَاثَلُ لَكَانَ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ إيمَانٌ يَخُصُّهُ" لو قدر؛ يعني لو قدر فرضًا فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْإِيمَانَ يَتَمَاثَلُ لَكَانَ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ إيمَانٌ يَخُصُّهُ.
قال المؤلف: " وَذَلِكَ الْإِيمَانُ مُخْتَصٌّ مُعَيَّنٌ لَيْسَ هُوَ الْإِيمَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ" يعني ليس هو الإيمان المجرد عن القيود والصفات فهو إيمان مختص معين، إيمان زيد، مختص معين أما الإيمان المختص بأن نقول والصفات هذا لا يكون إلا في الذهن.
ولهذا قال: " لَيْسَ هُوَ الْإِيمَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ؛ بَلْ هُوَ إيمَانٌ مُعَيَّنٌ وَذَلِكَ الْإِيمَانُ يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ" الإيمان إيمان كل شخص كل شيء يخصه هذا يقبل الزيادة والنقصان.
(المتن)
وَاَلَّذِينَ يَنْفُونَ التَّفَاضُلَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ يَتَصَوَّرُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ إيمَانًا مُطْلَقًا أَوْ إنْسَانًا مُطْلَقًا أَوْ وُجُودًا مُطْلَقًا مُجَرَّدًا عَنْ جَمِيعِ الصِّفَاتِ الْمُعَيَّنَةِ لَهُ ثُمَّ يَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الْمَوْجُودُ فِي النَّاسِ وَذَلِكَ لَا يَقْبَلُ التَّفَاضُلَ وَلَا يَقْبَلُ فِي نَفْسِهِ التَّعَدُّدَ؛ إذْ هُوَ تَصَوُّرٌ مُعَيَّنٌ قَائِمٌ فِي نَفْسِ مُتَصَوِّرِهِ.
وَلِهَذَا يَظُنُّ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْأُمُورَ الْمُشْتَرَكَةَ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ هِيَ وَاحِدَةٌ بِالشَّخْصِ وَالْعَيْنِ.
حَتَّى انْتَهَى الْأَمْرُ بِطَائِفَةِ مِنْ عُلَمَائِهِمْ عِلْمًا وَعِبَادَةً إلَى أَنْ جَعَلُوا الْوُجُودَ كَذَلِكَ؛ فَتَصَوَّرُوا أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ مُشْتَرِكَةٌ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ وَتَصَوَّرُوا هَذَا فِي أَنْفُسِهِمْ فَظَنُّوهُ فِي الْخَارِجِ كَمَا هُوَ فِي أَنْفُسِهِمْ ثُمَّ ظَنُّوا أَنَّهُ اللَّهُ؛ فَجَعَلُوا الرَّبَّ هُوَ هَذَا الْوُجُودُ الَّذِي لَا يُوجَدُ قَطُّ إلَّا فِي نَفْسِ مُتَصَوِّرِهِ؛ وَلَا يَكُونُ فِي الْخَارِجِ.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله يبيِّن أنَّ الذين ينفون التفاضل في هذه الأمور؛ يعني في الإيمان، وكذلك أيضًا في الإنسانية والحيوانية وغيرها أن هذا أنهم يتصورنه في أنفسهم، فيظنون أن ما يتصف به الإنسان هو ما يكون في الذهن، وهذا غلط فإن الذي يكون في الذهن يكون مجرد عن القيود والصفات، والذي يكون في الخارج يكون معين ومختص ومقيد.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَاَلَّذِينَ يَنْفُونَ التَّفَاضُلَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ" يعني الأمور السابقة الإنسان الإنسانية، الإنسان، الناس في الإنسانية أو في الحيوانية أو في الإيمان، " وَاَلَّذِينَ يَنْفُونَ التَّفَاضُلَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ يَتَصَوَّرُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ إيمَانًا مُطْلَقًا أَوْ إنْسَانًا مُطْلَقًا أَوْ وُجُودًا مُطْلَقًا مُجَرَّدًا عَنْ جَمِيعِ الصِّفَاتِ الْمُعَيَّنَةِ لَهُ ثُمَّ يَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الْمَوْجُودُ فِي النَّاسِ وَذَلِكَ لَا يَقْبَلُ التَّفَاضُلَ"
يعني أنهم يتصورون في أنفسهم إيمان مطلق يعني مجرد عن قول الصفات، ويتصورن في أنفسهم إسلام مطلق مجرد من الصفات، ويتصورن في أنفسهم وجود مطلق مجرد عن جميع الصفات المعينة له ثم يظنون أن هذا هو الإيمان الموجود في الناس، يظمون أن هذا الإيمان الموجود في الذهن هو الإيمان الموجود في الناس، وهذا غلط لماذا؟
لأن هناك فرق بين الإيمان الذي يتصورنه، الإيمان المطلق الذي يتصورونه في أنفسهم، هذا مجرد عن القيود في الصفات في الذهن، أما الإيمان الذي يختص به إنسان معين، هذا في الخارج، يزيد وينقص ويقبل التفاضل.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "يَظُنُّونَ هذا" لما بين يتصورن في أنفسهم هذا، ثم يقول: " ثُمَّ يَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الْمَوْجُودُ فِي النَّاسِ"، هذا غلط ليس الإيمان موجود في الذهن والإيمان موجود في الناس.
قال: " النَّاسِ وَذَلِكَ لَا يَقْبَلُ التَّفَاضُلَ" هكذا وهم الآن جمعوا بين أمرن ومتنافيين، جمعوا بين الإيمان المطلق والإيمان التفاضل، وقالوا إن الإيمان لا يقبل التفاضل مع أنهم معين.
وقالوا إن الإيمان الذي يتصف به كل شخص لا يقبل تفاضل، ظنًا منهم مثل الإيمان المطلق.
ولذا قالوا: " ثُمَّ يَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الْمَوْجُودُ فِي النَّاسِ وَذَلِكَ لَا يَقْبَلُ التَّفَاضُلَ وَلَا يَقْبَلُ فِي نَفْسِهِ التَّعَدُّدَ؛ يعني التعدد، إذْ هُوَ تَصَوُّرٌ مُعَيَّنٌ قَائِمٌ فِي نَفْسِ مُتَصَوِّرِهِ." هذا يتصورون يتصور في نفسه أن الإيمان لا يتفاضل، وهذا ال يتصوره في نفسه غير الإيمان الذي يتصف به الإنسان، لأن الذي يتصور به الإنسان إيمان معين، والذي يتصور في النفس هذا في الذهن.
قال المؤلف: "وَلِهَذَا يَظُنُّ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْأُمُورَ الْمُشْتَرَكَةَ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ هِيَ وَاحِدَةٌ بِالشَّخْصِ وَالْعَيْنِ." يعني يظن كثير من هؤلاء أن الأمور مشتركة في شيء وحد، الأمور مشتركة في شيء واحد مثل اشتراك الناس في الإيمان مثلًا.
ظنوا أنها وَاحِدَةٌ بِالشَّخْصِ وَالْعَيْنِ، ظنوا أنها وَاحِدَةٌ بِالشَّخْصِ وَالْعَيْنِ أنها شيء واحد وشخص واحد وعين واحدة حتى وصلوا إلى القول في وحدة الوجود والعياذ بالله، حتى وصلوا للقول إن الوجود واحد، وأن الخالق هو المخلوق وأن المخلوق هو الخالق، وأن الرب هو العبد وأن العبد هو الرب، يسمى اشتباه ولا عياذ بالله أوصله إلى الكفر الغليظ.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَلِهَذَا يَظُنُّ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْأُمُورَ الْمُشْتَرَكَةَ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ هِيَ وَاحِدَةٌ بِالشَّخْصِ وَالْعَيْنِ. حَتَّى انْتَهَى الْأَمْرُ بِطَائِفَةِ مِنْ عُلَمَائِهِمْ عِلْمًا وَعِبَادَةً إلَى أَنْ جَعَلُوا الْوُجُودَ كَذَلِكَ" يعني جعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق ووجود المخلوق هو وجود الخالق، وجود الرب هو وجود العبد، ووجود العبد هو وجود الرب حتى قال رئيس وحدة الوجود ابن عربي
الرَّبُّ حَقٌّ وَالْعَبْدُ حَقٌّ | يَا لَيْتَ شِعْرِي مَنْ الْمُكَلَّفُ؟ |
إنْ قُلْت عَبْدٌ فَذَاكَ مَيْتٌ | أَوْ قَلَتْ رَبٌّ أَنَّى يُكَلَّفُ؟ |
اشتبه عليه الأمر فلم يفرق بين الرب والعبد، يقول: الرب هو العبد والعبد هو الرب، أن قلت عبد فهذا ميت وفي لفظ فذاك نفي، في رواية، وأن قلت رب فكيف يكلم
يقول: رب مالك وعبد هالك وأنتم ذلك.
ويقول: أيضًا في بيت الله: سر حيث شئت فإن الله ثم، وقل ما شئت فالواسع الله، يعني سر حيث شئت فكل ما تراه هو الله أعوذ بالله.
وهذا من أعظم الكفر، ويسمى هذا الاشتباه، اشتباه، اشتبهت عليه الأمور، ظنوا أن الأمور مشتركة في شيء واحد هي واحدة في الشخص والعين، والأمور مشتركة ليست واحدة بالشخص والعين حَتَّى انْتَهَى الْأَمْرُ بِطَائِفَةِ مِنْ عُلَمَائِهِمْ عِلْمًا وَعِبَادَةً إلَى أَنْ جَعَلُوا الْوُجُودَ كَذَلِكَ.
قال المؤلف رحمه الله: " فَتَصَوَّرُوا أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ مُشْتَرِكَةٌ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ"، الْمَوْجُودَاتِ مُشْتَرِكَةٌ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ، في مسمى الوجود هذا في الذهن.
فقالوا إن الناس يشتركون فيه أن فوجود الناس هو وجود الواحد، حتى قالوا إن وجود الناس هو وجود الله ولا عياذ بالله.
حتى قال المؤلف رحمه الله: "وَتَصَوَّرُوا هَذَا فِي أَنْفُسِهِمْ فَظَنُّوهُ فِي الْخَارِجِ كَمَا هُوَ فِي أَنْفُسِهِمْ" هذا الذي تصوروه أن الوجودات مشتركة في مسمى الوجود وهو في الذهن، ظنوه أنه موجود في الخارج فأوقعهم في القول بوحدة الوجود.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فَتَصَوَّرُوا أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ مُشْتَرِكَةٌ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ وَتَصَوَّرُوا هَذَا فِي أَنْفُسِهِمْ فَظَنُّوهُ فِي الْخَارِجِ كَمَا هُوَ فِي أَنْفُسِهِمْ ثُمَّ ظَنُّوا أَنَّهُ اللَّهُ؛" ظنوا أن هذه الموجودات في الخارج هو الله، ولا العياذ بالله، لأن كل ما تراه هو الله كما يقولون والعياذ بالله.
ويقول إن هذا التعدد وهم، وأن كل ما تراه هو الله وهذه مظاهر لله وأسماء صفات نعيذ الله، هذا قول أهل وحدة الوجود الذين أكثروا الناس وأعظم الناس كفرًا والعياذ بالله.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فَجَعَلُوا الرَّبَّ هُوَ هَذَا الْوُجُودُ الَّذِي لَا يُوجَدُ قَطُّ إلَّا فِي نَفْسِ مُتَصَوِّرِهِ؛ وَلَا يَكُونُ فِي الْخَارِجِ." جعلوا هذا الرب هو هذا الوجود الذي لا يوجد في نفس المتصور وهو ما يكون في الذهن ولا يكون في الخارج فوصلوا إلى القول بوحدة الوجود نسأل الله السلامة والعافية، ونعوذ بالله مما يقولون ونسأل الله الثبات على دينه، والاستقامة عليه.
(المتن)
وَهَكَذَا كَثِيرٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ تَصَوَّرُوا أَعْدَادًا مُجَرَّدَةً وَحَقَائِقَ مُجَرَّدَةً وَيُسَمُّونَهَا الْمُثُلَ الْأَفْلاطونيَّةَ وَزَمَانًا مُجَرَّدًا عَنْ الْحَرَكَةِ وَالْمُتَحَرَّكِ وَبُعْدًا مُجَرَّدًا عَنْ الْأَجْسَامِ وَصِفَاتِهَا، ثُمَّ ظَنُّوا وُجُودَ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِ وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ مَا فِي الْأَذْهَانِ بِمَا فِي الْأَعْيَانِ وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَجْعَلُونَ الْوَاحِدَ اثْنَيْنِ وَالِاثْنَيْنِ وَاحِدًا؛ فَتَارَةً يَجِيئُونَ إلَى الْأُمُورِ الْمُتَعَدِّدَةِ الْمُتَفَاضِلَةِ فِي الْخَارِجِ فَيَجْعَلُونَهَا وَاحِدَةً أَوْ مُتَمَاثِلَةً وَتَارَةً يَجِيئُونَ إلَى مَا فِي الْخَارِجِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ فَيَجْعَلُونَ الْوَاحِدَ اثْنَيْنِ.
وَالْمُتَفَلسِفَةُ وَالْجَهْمِيَّة وَقَعُوا فِي هَذَا وَهَذَا فَجَاءُوا إلَى صِفَاتِ الرَّبِّ الَّتِي هِيَ أَنَّهُ عَالِمٌ وَقَادِرٌ فَجَعَلُوا هَذِهِ الصِّفَةَ هِيَ عَيْنُ الْأُخْرَى وَجَعَلُوا الصِّفَةَ هِيَ الْمَوْصُوفُ.
وَهَكَذَا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَأَنَّهُ مُتَمَاثِلٌ فِي بَنِي آدَمَ غَلِطُوا فِي كَوْنِهِ وَاحِدًا وَفِي كَوْنِهِ مُتَمَاثِلًا كَمَا غَلِطُوا فِي أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ التَّوْحِيدِ والصِّفَاتِ والْقُرْآنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَكَانَ غَلَطُ جَهْمٍ وَأَتْبَاعِهِ فِي الْإِيمَانِ كَغَلَطِهِمْ فِي صِفَاتِ الرَّبِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَفِي كَلَامِهِ وَصِفَاتِهِ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَكَذَلِكَ السَّوَادُ وَالْبَيَاضُ يَقْبَلُ الِاشْتِدَادَ وَالضَّعْفَ؛ بَلْ عَامَّةُ الصِّفَاتِ الَّتِي يَتَّصِفُ بِهَا الْمَوْصُوفُونَ تَقْبَلُ التَّفَاضُلَ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْعَقْلُ يَقْبَلُ التَّفَاضُلَ وَالْإِيجَابَ وَالتَّحْرِيمُ يَقْبَلُ التَّفَاضُلَ فَيَكُونُ إيجَابٌ أَقْوَى مِنْ إيجَابٍ وَتَحْرِيمٌ أَقْوَى مِنْ تَحْرِيمٍ. وَكَذَلِكَ الْمَعْرِفَةُ الَّتِي فِي الْقُلُوبِ تَقْبَلُ التَّفَاضُلَ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ.
وَفِي هَذَا كُلِّهِ نِزَاعٌ فَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ تُنْكِرُ التَّفَاضُلَ فِي هَذَا كُلِّهِ كَمَا يَخْتَارُ ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا.
(الشرح)
فإن المؤلِّفَ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بين فيما سبق مذهب المرجئة وأنهم يرون أن الإيمان هو شيء واحد، شيء في القلب وهو الإقرار والمعرفة، وأنه لا يزيد ولا ينقص ولا يتبعض، وأنه متماسك، وشارك الجهم في هذا جماعة ممن تأثروا بقول أبا الحسن الأشعري في تقريره لقول الجهم، فنفوا التفاضل في الأمور وتصوروا في أنفسهم شيئًا مجردًا عن القيود والصفات حتى أوصلهم ذلك إلى القول بوحدة الوجود والعياذ بالله.
تصوروا في أنفسهم إيمانًا مطلقًا بعيد عن الوجود والصفات، وتصوروا في أنفسهم إنسانًا مطلقًا، وتصورا وجود المطلق عند الصفات المعينة له، وتصورا أن الموجودات مشتركة في مسمى الوجود، وتصوروا أن هذا يكون في الخارج.
وأوصلهم وظنوا أن هذا الذي خرج هو الله، فصلوا إلى القول إلى القول بوحدة الوجود والعياذ بالله، وصلوا إلى أعظم الكفر.
ثم بين المؤلف رحمه الله أنه شاركهم في هذا، كثير من الفلاسفة في تصور الأعداد والحقائق المجردة يتصورون أعداد مجردة وحقائق مجردة وزمانًا مجردًا عن الحركة، وبعدًا مجرد عن الإسلام.
وهذه تصورات في أذهانهم ثم ظنوا أنها توجد في الخارج فاشتبه عليهم ما يكون في الذهن لما يكون في الخارج فوصلوا لأعظم الغلط.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَهَكَذَا كَثِيرٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ تَصَوَّرُوا أَعْدَادًا مُجَرَّدَةً وَحَقَائِقَ مُجَرَّدَةً" يعني أداة مجردة على المعدود وخالف المجرد عن أسماءها وصفاتها " وَيُسَمُّونَهَا الْمُثُلَ الْأَفْلاطونيَّةَ وَزَمَانًا مُجَرَّدًا عَنْ الْحَرَكَةِ وَالْمُتَحَرَّكِ ما في زمان، وَبُعْدًا مُجَرَّدًا عَنْ الْأَجْسَامِ وَصِفَاتِهَا ثُمَّ ظَنُّوا وُجُودَ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِ" ، ظنوا أن ما تصوروا في الذهن أنه موجود في الذهن موجود في الخارج.
قال المؤلف رحمه الله: " وهذا سببه الاشتباه" هذا كله سببه الاشتباه إذا اشتباه أوقع كثير من الناس في الغلط حتى أوقع الاتحادية الذين يقولون بوحدة الوجود هذا الاشتباه أوقعهم في الكفر الغليظ، فاشتبه عليهم الخالق بالمخلوق، والرب بالعبد، حتى قالوا إن الوجود واحد، وهذا من أعظم الكفر والعياذ بالله، وسموا ذلك الاشتباه.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ مَا فِي الْأَذْهَانِ بِمَا فِي الْأَعْيَانِ" اشتبه عليهم ما تصور في الأذهان بما هو موجود في الخارج وأنه محسوس؛ ولذلك يشتبه على هؤلاء الأعداء فيشتبه المتعدد بالواحد والواحد بالمتعدد.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَجْعَلُونَ الْوَاحِدَ اثْنَيْنِ وَالِاثْنَيْنِ وَاحِدًا؛ فَتَارَةً يَجِيئُونَ إلَى الْأُمُورِ الْمُتَعَدِّدَةِ الْمُتَفَاضِلَةِ فِي الْخَارِجِ فَيَجْعَلُونَهَا وَاحِدَةً أَوْ مُتَمَاثِلَةً وَتَارَةً يَجِيئُونَ إلَى مَا فِي الْخَارِجِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ فَيَجْعَلُونَ الْوَاحِدَ اثْنَيْنِ" يعني الاشتباه متنوع، تارة يجعلون إلَى الْأُمُورِ الْمُتَعَدِّدَةِ واحده، وتارة يجعلون الواحد متعدد.
قال المؤلف رحمه الله: " وَالْمُتَفَلسِفَةُ وَالْجَهْمِيَّة وَقَعُوا فِي هَذَا وَهَذَا" وقعوا في الأمرين وقعوا في جعل المتعدد واحد وفي جعل الواحد متعدد.
قالوا: "فَجَاءُوا إلَى صِفَاتِ الرَّبِّ الَّتِي هِيَ أَنَّهُ عَالِمٌ وَقَادِرٌ فَجَعَلُوا هَذِهِ الصِّفَةَ هِيَ عَيْنُ الْأُخْرَى وَجَعَلُوا الصِّفَةَ هِيَ الْمَوْصُوفُ." يعني الجهمية والمتفلسفة وقعوا في الأمرين؛ يجعلون المتعدد واحد، والواحد متعدد، ومن ذلك أنهم جهلوا صفات الرب وهي أنه عالم، قادر، سميع، بصير، عليم فجعلوا هذ الصفة هي عن الأخرى.
قالوا أن صفة العلم هي صفة الكل هي صفة السمع هي صفة البصر، هي صفة الإرادة كيف يقول هذه الصفات شيء واحد؟
هذا اشتباه قول الصفات المتعددة ترجع إلى كونها كلها واحد، ترجع إلى صفة واحدة.
ولهذا قال المؤلف: " فَجَعَلُوا هَذِهِ الصِّفَةَ هِيَ عَيْنُ الْأُخْرَى" جعلوا العلم هو القدرة هو السمع هو البصر هو الكلام هو النزول هو الاستواء، ثم أيضًا انتقلوا إلى مرحلة أخرى فقالوا ان الصفة هي عين الله فصفة الله وصفة العلم هو صفة القدرة، هو صفة السمع هو صفة البصر، هو نفس ذات الرب فجاءوا إلى الصفات فجعلوها صفة واحدة فجاءوا إلى الصفة أيضًا وجعلوها هي نفس الذات وهذا من أعظم الغلط.
فقال المؤلف رحمه الله: "وَهَذَا فَجَاءُوا إلَى صِفَاتِ الرَّبِّ الَّتِي هِيَ أَنَّهُ عَالِمٌ وَقَادِرٌ فَجَعَلُوا هَذِهِ الصِّفَةَ هِيَ عَيْنُ الْأُخْرَى وَجَعَلُوا الصِّفَةَ هِيَ الْمَوْصُوفُ."
ثم بين المؤلف رحمه الله أن الذين يقولون إن الإيمان شيء واحد وهم الجهمية أيضًا غلطوا نفس الغلط فقالوا: "وَهَكَذَا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَأَنَّهُ مُتَمَاثِلٌ فِي بَنِي آدَمَ؛ هم الجهمية، غَلِطُوا فِي كَوْنِهِ وَاحِدًا وَفِي كَوْنِهِ مُتَمَاثِلًا"
غلطوا غلطين:
أولًا: قالوا إن الإيمان شيء واحد في بني أدم.
ثانيًا: قالوا إنه متماثل، وهذا غلط ليس الإيمان واحد بل هو متعدد. وليس الإيمان متماثل.
قالوا: "كَمَا غَلِطُوا فِي أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ "التَّوْحِيدِ" و "الصِّفَاتِ" و "الْقُرْآنِ" يعني كما غلطوا في وحدانية الرب وقالوا إن اسسوا ذات لرب الأسماء والصفات وغلطوا في الصفات فجعلوها شيئًا واحد، وغلطوا في القرآن وأنكروا أن القرآن كلام الله.
قال المؤلف: " فَكَانَ غَلَطُ جَهْمٍ وَأَتْبَاعِهِ فِي الْإِيمَانِ كَغَلَطِهِمْ فِي صِفَاتِ الرَّبِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ" غلط الجهم في الإيمان وهو أن الإيمان شيء واحد، لبني أدم ولا يتماثل، ومثل غلطهم في الصفات والرب وأنها تعود إلى صفة واحدة وأن الصفة هي الصفة.
كَغَلَطِهِمْ فِي صِفَاتِ الرَّبِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَفِي كَلَامِهِ وَصِفَاتِهِ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
قال المؤلف رحمه الله: "وهذا غلط، لأن الإيمان يتفاوت، بل كل شيء يتفاوت، كل الصفات تتفاوت، الإيمان يتفاوت، والسمار يتفاوت، والبياض يتفاوت والعلم يتفاوت، والقدرة تتفاوت، والقوة تتفاوت، والضعف يتفاوت كل شيء يتفاوت كل شيء يتفاضل حتى الواجبات ما أوجبه الله يتفاوت، الواجبات تتفاوت والمحرمات تتفاوت.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَكَذَلِكَ السَّوَادُ وَالْبَيَاضُ يَقْبَلُ الِاشْتِدَادَ وَالضَّعْفَ" قد يكون شديدًا وقد يكون ضعيفًا " بَلْ عَامَّةُ الصِّفَاتِ الَّتِي يَتَّصِفُ بِهَا الْمَوْصُوفُونَ تَقْبَلُ التَّفَاضُلَ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْعَقْلُ يَقْبَلُ التَّفَاضُلَ" فكل بني أدم ليسوا واحد العقل يتفاضل وَالْإِيجَابَ يتفاضل، وجوب التوحيد ليس مثل وجوب بر الوالدين، وبر الوالدين ليس مثل وجوب صلة الرحم، ووجوب صلة الرحم ليس مثل وجوب الاحسان إلى الجار، يتفاوت بحيث أن الله أعظم... اوجب وكذلك التحريم يقبل التفاضل، تحريم الشرك ليس كتحريم المعاصي، تحريم الزنا والسرقة ليس كتحريم الغش في البيع مثلًا، وهناك تحريم الغيبة والنميمة أغلظ وأشد فالإيجاب يتفاضل والتحريم يتفاضل.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَلِهَذَا كَانَ الْعَقْلُ يَقْبَلُ التَّفَاضُلَ وَالْإِيجَابَ وَالتَّحْرِيمُ يَقْبَلُ التَّفَاضُلَ فَيَكُونُ إيجَابٌ أَقْوَى مِنْ إيجَابٍ وَتَحْرِيمٌ أَقْوَى مِنْ تَحْرِيمٍ. وَكَذَلِكَ الْمَعْرِفَةُ الَّتِي فِي الْقُلُوبِ تَقْبَلُ التَّفَاضُلَ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ" نعم تتفاضل تكون قوية وتكون ضعيفة.
قال المؤلف رحمه الله: " وَفِي هَذَا كُلِّهِ نِزَاعٌ فَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ تُنْكِرُ التَّفَاضُلَ فِي هَذَا كُلِّهِ كَمَا يَخْتَارُ ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا" نعم.
(المتن)
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَحْمَد فِي التَّفَاضُلِ فِي الْمَعْرِفَةِ رِوَايَتَانِ.
وَإِنْكَارُ التَّفَاضُلِ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ هُوَ مِنْ جِنْسِ أَصْلِ قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ وَلَكِنْ يَقُولُهُ مَنْ يُخَالِفُ الْمُرْجِئَةَ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: التَّفَاضُلُ إنَّمَا هُوَ فِي الْأَعْمَالِ.
وَأَمَّا الْإِيمَانُ الَّذِي فِي الْقُلُوبِ فَلَا يَتَفَاضَلُ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوهُ بَلْ جَمِيعُ ذَلِكَ يَتَفَاضَلُ.
وَقَدْ يَقُولُونَ: إنَّ أَعْمَالَ الْقَلْبِ تَتَفَاضَلُ؛ بِخِلَافِ مَعَارِفِ الْقَلْبِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ إيمَانُ الْقُلُوبِ يَتَفَاضَلُ مِنْ جِهَةِ مَا وَجَبَ عَلَى هَذَا وَمِنْ جِهَةِ مَا وَجَبَ عَلَى هَذَا فَلَا يَسْتَوُونَ فِي الْوُجُوبِ.
وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ جَمِيعِهِمْ الْإِيمَانُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ فَوُجُوبُ الْإِيمَانِ بِالشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ مَوْقُوفٌ عَلَى أَنْ يَبْلُغَ الْعَبْدُ إنْ كَانَ خَبَرًا وَعَلَى أَنْ يَحْتَاجَ إلَى الْعَمَلِ بِهِ إنْ كَانَ أَمْرًا وَعَلَى الْعِلْمِ بِهِ إنْ كَانَ عِلْمًا وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْرِفَ كُلَّ خَبَرٍ وَكُلَّ أَمْرٍ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيَعْرِفُ مَعْنَاهُ وَيَعْلَمُهُ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ.
فَالْوُجُوبُ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ النَّاسِ فِيهِ؛ ثُمَّ قَدْرُهُمْ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ مُتَفَاوِتَةٌ؛ ثُمَّ نَفْسُ الْمَعْرِفَةِ تَخْتَلِفُ بِالْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَدَوَامِ الْحُضُورِ وَمَعَ الْغَفْلَةِ فَلَيْسَتْ الْمُفَصَّلَةُ الْمُسْتَحْضَرَةُ الثَّابِتَةُ الَّتِي يُثَبِّتُ اللَّهُ صَاحِبَهَا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَفِي الْآخِرَةِ كَالْمُجْمَلَةِ الَّتِي غَفَلَ عَنْهَا وَإِذَا حَصَلَ لَهُ مَا يُرِيبُهُ فِيهَا وَذَكَرَهَا فِي قَلْبِهِ ثُمَّ رَغِبَ إلَى اللَّهِ فِي كَشْفِ الرَّيْبِ.
ثُمَّ أَحْوَالُ الْقُلُوبِ وَأَعْمَالُهَا مِثْلُ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةِ اللَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالصَّبْرِ عَلَى حُكْمِهِ وَالشُّكْرِ لَهُ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَإِخْلَاصِ الْعَمَلِ لَهُ مَا يَتَفَاضَلُ النَّاسُ فِيهَا تَفَاضُلًا لَا يَعْرِفُ قَدْرَهُ إلَّا اللَّهُ وَمَنْ أَنْكَرَ تَفَاضُلَهُمْ فِي هَذَا فَهُوَ إمَّا جَاهِلٌ لَمْ يَتَصَوَّرْهُ وَإِمَّا مُعَانِدٌ.
(الشرح)
نعم المؤلف رحمه الله نقل عن الإمام أحمد في التفاضل في المعرفة روايتان، وبين أن أنكار التفاضل في الصفات هو من جنس أصل قول المرجئة وقد يقول به من خلف المرجئة.
قال: "وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَحْمَد رحمه الله فِي التَّفَاضُلِ فِي الْمَعْرِفَةِ رِوَايَتَانِ" قيل بالتفاضل في المعرفة التي تكون في القلب وقيل في التفاضل، قيل تتفاضل وقيل لا تتفاضل.
قال المؤلف رحمه الله: "وَإِنْكَارُ التَّفَاضُلِ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ هُوَ مِنْ جِنْسِ أَصْلِ قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ" المرجئة أنكروا التفاضل الإيمان الذي في القلب المعرفة، أنكروا التفاضل قالوا إنها معرفة واحدة ولا تتفاضل بل هي متماثلة.
فالذي ينكر التفاضل في الصفات هو من جنس أصل القول، وافق قول المرجئة، وهو وافق أصل قول المرجئة؛ لأن أصل قول المرجئة أن الإيمان شيء واحد لا يتفاضل.
فالذي يقول إن الصفات تتفاضل وافق المرجئة في أصل قولهم.
قال المؤلف رحمه الله: "وَلَكِنْ يَقُولُهُ مَنْ يُخَالِفُ الْمُرْجِئَةَ يقولون بهذا أيضًا، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: التَّفَاضُلُ إنَّمَا هُوَ فِي الْأَعْمَالِ وَأَمَّا الْإِيمَانُ الَّذِي فِي الْقُلُوبِ فَلَا يَتَفَاضَلُ" يعني من يخالف المرجئة يقولون بالتفاضل في الأعمال، ولكن الإيمان الذي في القلوب قالوا لا يتفاضل.
ثم رد عليهم المؤلف رحمه الله قال: "هذا غلط كل شيء يتفاضل فالأعمال تتفاضل والإيمان الذي في القلوب يتفاضل، وكل شيء يتفاضل".
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوهُ بَلْ جَمِيعُ ذَلِكَ يَتَفَاضَلُ" يعني ما في القلوب يتفاضل والصفات تتفاضل.
وقال: "وَقَدْ يَقُولُونَ: إنَّ أَعْمَالَ الْقَلْبِ تَتَفَاضَلُ؛ بِخِلَافِ مَعَارِفِ الْقَلْبِ وأيضًا هذا ليس بصحيح، التفريق بين أعمال القلب ومعارف القلب أعمال القلب تتفاضل والمعارف لا تتفاضل هذا أيضًا ليس بصحيح ولهذا رد عليهم المؤلف رحمه ونفاه فقال: فقد يقولون إن أعمال القلب تتفاضل بخلاف معارف القلب وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ إيمَانُ الْقُلُوبِ يَتَفَاضَلُ مِنْ جِهَةِ مَن وَجَبَ عَلَى هَذَا وَمِنْ جِهَةِ مَا وَجَبَ عَلَى هَذَا فَلَا يَسْتَوُونَ فِي الْوُجُوبِ. "لأن القلوب تتفاضل من جهة من وجب عليه، يعني الشخص الذي وجب عليه، يعني من بلغه إذا بلغ المكلف شيء من الشرع، يجب عليه أن يؤمن به والذي لم يبلغه لا يجب عليه.
فإذن هذا اختلف الوجوب، تفاضل الوجوب، زيد يجب عليه أن يؤمن لأنه بلغه، قرأ الأحاديث وبلغه شيء مما أخبر الله به وأخبر عنه رسوله، ووجب عليه أن يؤمن.
والثاني لم يبلغه فلا يجب عليه فما وجب عليه فصار الوجوب يتفاضل من جهة من وجب على هذا، ومن جهة ما وجب على هذا، يعني الإيمان في القلوب يتفاضل من جهة من وجب عليه من الأشخاص
ومن جهة ما وجب عليه من الأعمال، فالأعمال أيضًا تختلف وكذلك أيضًا الأشخاص يختلفون، فبعض الأشخاص يجب عليهم ما لم يجب على الآخر، فالذي يعرف من تفاصيل الشريعة مالا يعرفه غيره يجب عليه أن يؤمن إيمان تفصيليًا.
والذي لا يعرف يكفيه الإيمان مجمل، وكذلك الأعمال يجب على هذا مالا يجب على هذا، يعني يجب عليه أن يؤدي أعمال؛ يجب عليه أن ينفق على زوجته وأولاده، والذي ليس عنده زوجة ولا أولاد لا يجب عليه وهكذا.
ثم قال المؤلف رحمه الله: "فَلَا يَسْتَوُونَ فِي الْوُجُوبِ. وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ جَمِيعِهِمْ الْإِيمَانُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ فَوُجُوبُ الْإِيمَانِ بِالشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ مَوْقُوفٌ عَلَى أَنْ يَبْلُغَ الْعَبْدُ إنْ كَانَ خَبَرًا وَعَلَى أَنْ يَحْتَاجَ إلَى الْعَمَلِ بِهِ إنْ كَانَ أَمْرًا وَعَلَى الْعِلْمِ بِهِ إنْ كَانَ عِلْمًا"
يعني َأُمَّةُ النبي ﷺ وُمُحَمَّدٍ ﷺ يجب عليهم جميعًا الإيمان بعد استيفاء الشرط لكن وجوب الإيمان بالشيء المعين هذا موقوف على البلوغ، إن كان خبر فإذا بلغ مثلًا المكلف، بلغ هذا الإنسان الخبر عن صفات الساعة، والآخر لم يبلغه فالذي بلغه يجب عليه أن يؤمن، يجب عليه في هذا الخبر أن يؤمن بهذا الخبر الذي بلغه.
وكذلك أيضًا إذا بلغه ولكنه لا يجب عليه العمل إلا إذا احتاج إليه.
مثال ذلك: بلغ الإنسان خبر أنه يجب عليه الزكاة وأن من كان عنده مال فإنه يجب عليه أن يخرج الزكاة إذا حال عليه الحول.
هذا علمه الإنسان، لكن هذا عنده مال ووجب عليه يمتثل الأمر، وهذا ليس عنده مال فلا يجب، بلغه أن المكلف يجب أن ينفق على زوجته وعلى أولاده، فهذا متزوج وله أولاد وهذا لم يتزوج وليس له أولاد فالذي متزوج وله أولاد يجب عليه أن ينفذ الأمر يعمل به، يعمل بالأمر ينفق على زوجته وعلى أولاده، والذي لم يتزوج لا يجب عليه لا يحتاج إلى تنفيذ الأمر.
وكذلك العلم، إذا بلغ المسلم شيء من العلم علمه واتصف بشيء من العلم، والذي لم يبلغه كان لم يعلم، يقول لم يكون عالمًا في هذا الأمر.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "لكن فَوُجُوبُ الْإِيمَانِ بِالشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ مَوْقُوفٌ عَلَى أَنْ يَبْلُغَ الْعَبْدُ إنْ كَانَ خَبَرًا وَعَلَى أَنْ يَحْتَاجَ إلَى الْعَمَلِ بِهِ إنْ كَانَ أَمْرًا وَعَلَى الْعِلْمِ بِهِ إنْ كَانَ عِلْمًا وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْرِفَ كُلَّ خَبَرٍ وَكُلَّ أَمْرٍ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيَعْرِفُ مَعْنَاهُ وَيَعْلَمُهُ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ"
هذا صحيح لا يجب على كل شخص ليس كل أحد يحيط الشريعة لها، ويعلم كل خبر أخبره الله به، ويعلم كل أمر أمره الله به لا يقدر عليه كل أحد، وإن كانت الشريعة محفوظة الأخبار محفوظة في الشريعة لكن ليست محفوظة في كل شخص، لكن محفوظة فيما يعلمه هذا وما يعلمه هذا وما يعلمه هذا.
فهي محفوظة في حفظ الله، بعلم الأمة ككل، جميعها بكل خبر وكل أمر، فالشريعة محفوظة، لكن الشخص المعين لا يعرف كل أمر وكل خبر لا يمكن يحيط بالشريعة بشكل معين.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْرِفَ كُلَّ خَبَرٍ وَكُلَّ أَمْرٍ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيَعْرِفُ مَعْنَاهُ وَيَعْلَمُهُ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ"
ثم قال المؤلف رحمه الله: " فَالْوُجُوبُ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ النَّاسِ فِيهِ؛ نعم ما يجب على هذا لا يجب على هذا، ثُمَّ قَدْرُهُمْ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ مُتَفَاوِتَةٌ" صحيح متفاوتة هذا عنده قدرة وعنده استطاعة، وهذا لا يستطيع فهذا صحيح يجب عليه أن يصلي قائمًا وهذا مريض يصلي قاعدًا.
هذا له قدره وهذا له قدره، كذلك النشاط والقوة كل واحد له قدرة وكل له نشاط، يجعل الواجبات والمستحبات.
لهذا قال المؤلف رحمه الله: " ثُمَّ قَدْرُهُمْ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ مُتَفَاوِتَةٌ؛ ثُمَّ نَفْسُ الْمَعْرِفَةِ تَخْتَلِفُ بِالْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ" أيضًا المعرفة تختلف سواء في المعرفة لها تفاصيل ولها إجمال، تختلف بالإجمال والتفصيل والقوة والضعف ودوام الحضور ومع الغفلة.
" فَلَيْسَتْ الْمُفَصَّلَةُ الْمُسْتَحْضَرَةُ الثَّابِتَةُ الَّتِي يُثَبِّتُ اللَّهُ صَاحِبَهَا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ كَالْمُجْمَلَةِ الَّتِي غَفَلَ عَنْهَا" نعم فالإنسان قد يكون عنده معرفة وعنده يقظة بالله ومستحضر والثاني عنده غفلة.
فليس من عنده يقظة ومعرفة مستحضره مثل من عنده غفلة.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَلَيْسَتْ الْمُفَصَّلَةُ الْمُسْتَحْضَرَةُ الثَّابِتَةُ الَّتِي يُثَبِّتُ اللَّهُ به صَاحِبَهَا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ كَالْمُجْمَلَةِ الَّتِي غَفَلَ عَنْهَا".
قال المؤلِّف رحمه الله: "وَإِذَا حَصَلَ لَهُ مَا يُرِيبُهُ فِيهَا وَذَكَرَهَا فِي قَلْبِهِ ثُمَّ رَغِبَ إلَى اللَّهِ فِي كَشْفِ الرَّيْبِ". إذا حصله ريب وشك ذكرها في قلبه ثم رغب إلى الله وسأل الله أن يكشف الريب الذي في قلبه.
قال المؤلِّف رحمه الله: "ثُمَّ أَحْوَالُ الْقُلُوبِ وَأَعْمَالُهَا مِثْلُ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةِ اللَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالصَّبْرِ عَلَى حُكْمِهِ وَالشُّكْرِ لَهُ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَإِخْلَاصِ الْعَمَلِ لَهُ ممَا يَتَفَاضَلُ النَّاسُ فِيهَا تَفَاضُلًا لَا يَعْرِفُ قَدْرَهُ إلَّا اللَّهُ "؛ يعني الناس يتفاضلون في أحوال القلوب وفي أعمالها.
محبة الله ومحبة رسوله هل الناس محبة واحدة؟ لا، الناس يتفاوتون.
أكمل الناس محبة هم الرسل عليهم الصلاة والسلام، ومحبة أولو العزم أكمل من محبة غيرهم، ومحبة إبراهيم ومحمد عليه الصلاة والسلام أكمل من محبة غيرهم، أكمل محبةً لله هو النبي ﷺ.
ثم جده إبراهيم، ثم موسى الكليم، ثم بقية أولو العزم ثم الرسل ثم الأنبياء ثم الصديقون، ثم الشهداء ثم الصالحون.
إذًا الناس يتفاوتون في محبة الله ورسوله ويتفاوتون في خشية الله، ويتفاوتون في التوكل على الله، ويتفاوتون في الصبر على حكم الله ويتفاوتون في الشكر لله، ويتفاوتون في الإنابة إلى الله ويتفاوتون في إخلاص العمل لله الإخلاص واحد؟ ليس واحد.
وَإِخْلَاصِ الْعَمَلِ لَهُ مَا يَتَفَاضَلُ النَّاسُ فِيهَا تَفَاضُلًا لَا يَعْرِفُ قَدْرَهُ إلَّا اللَّهُ
قال المؤلف رحمه الله: "وَمَنْ أَنْكَرَ تَفَاضُلَهُمْ فِي هَذَا فَهُوَ إمَّا جَاهِلٌ لَمْ يَتَصَوَّرْهُ وَإِمَّا مُعَانِدٌ". يعني هذا أمرٌ معلوم للتفاوض فالذي ينكر التفاوض أما جاهل لم يتصور التفاضل وأما معاند مكابر لابد من الأمرين لأن هذا أمر واضح التفاضل، فالذي ينكره بين أحد أمرين فَهُوَ إمَّا جَاهِلٌ لَمْ يَتَصَوَّرْه التفاضل، أو معاند لا حيلة فيه.
القارئ: فضيلة الشيخ، ذكرتم في حديثكم المبارك هذا شيء من أفضلية صاحب القلب المتيقظ والحاضر على ذلك القلب الغافل والبعيد عن الله . حبذا في دقائق البرنامج المتبقية لو حدثتم المستمع الكريم والمستمعة الكريمة عن أهمية البعد عن الغفلة عن الله واستحضار القلب لكي يكون الإنسان ممن يثبته الله بقوله في الدنيا والآخرة.
الشيخ: لا شَكَّ أنَّ حضور القلب له تأثير له تأثير حضور القلب ويقظته في صلاته وفي عبادته، ومراقبته لله له الأثر البالغ في صحة الأعمال في زكاة الأعمال وفي ثوابها.
فمراقبة الله وحضور القلب هو الإحسان، الإحسان الذي يبلغ بالإنسان درجة الإحسان ولهذا لما سأل جبريل النبي عليه الصلاة والسلام عن الإيمان ثم عن الإسلام، قال: الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ هذه مراقبه حاضر القلب، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ([3]).
فالإحسان له درجتان الدرجة الأولى أن تعبد الله كأنك تراه.
فأن ضعفت عن هذا المرتبة فأنزل إلى المرتبة الثانية فإن لم تراه فانه يراك المراقبة لها تأثير عظيم الذي يراك تحين تقوم، وتقلبك في الساجدين والإنسان يثاب على عمله ويكتب له من الثواب ومن الأجر على حسب يقظته وعلى حسب حضور قلبه، واستحضاره لعبادة ربه، في الصلاة، ليس من استحضر ومن كان حاضر القلب في جميع صلاته ممن لا يحضر قلبه إلا في بعض الصلاة.
ولهذا جاء في الحديث أن الناس يتفاوتون في الصلاة، وأن من الناس من يصلي صلاته ولا يكتب له إلا نصفها أو ثلثها أو ربعها أو خمسها أو سدسها أو سبعها أو ثمنها أو تسعها أو عشرها، ومنهم من ينصرف ولا ثواب له.
حتى اختلف العلماء في الذي لا يصح شيء من صلاته، وغفل من أول الصلاة إلى أخرها هل يعيد الصلاة أو لا يعيدها؟ هل تصح صلاته أو لا تصح؟
قال البعض العلماء يعيد صلاته ولا تصح صلاته لأنه غفل عن الله في جميع صلاته، ولكن القول الصواب الذي عليه جمهور العلماء أن صلاته صحيحة لأنه أدى الأركان وأدى الواجبات لكن لا ثواب له إلا على قدر حضور قلبه؛ المقصود أن الذكر له تأسيس.
ولهذا لا يستوي القلب الحي والقلب الميت، لا يستوي القلب الذاكر والقلب الغافل ميت، والقلب الذاكر حي، مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكره كالحي والميت؛ فالناس يتفاوتون بهذا التفاوت العظيم.
فالذي ينبغي للمسلم أن يجاهد نفسه على حضور قلبه وعلى تدبر وتأمل ما يقرأه وما يقرأه الإمام إذا كان مأمومًا، وما يتلوه من كتاب الله يتأمل ويتدبر حتى يحصل له العلم حتى تحصل له الفائدة، إذا تدبر الإنسان فهم المعاني وحصل له علم وفوائد واستنبط الأحكام وهو سبب للهداية.
ولهذا أنزل الله الكتاب للتذكر والتدبر ثم العمل، قال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29] وقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24] وفي آية أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82] أَفَلَا تَعْقِلُونَ، أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، يختم الله الآيات أَفَلَا تَعْقِلُونَ، أَفَلَا تَذَكَّرُونَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وهكذا.
ولهذا يقول بعضهم:
فَتدبَّرِ القُرآنَ إن رُمتَ الهُدى | فالعِلمُ تحتَ تَدبُّر القُرآنِ |
فتدبر القرآن إن رُمت الهدى، فالعلم تحت تدبر القرآن.
وفي آيات الوصايا العشر في أخر سورة الأنعام ختم الله الآية الأولى قال أَفَلَا تَعْقِلُونَ، أَفَلَا تَذَكَّرُونَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ختمها قال العلماء يتعقل ثم يتذكر ثم بعد ذلك يتقي. ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام:151] وفي آية أخرى ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأنعام:152] وفي الآية الأخيرة وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]يتعقل ثم يتدبر، ثم بعد ذلك ثم يتقي، وإذا كان من المتقين والله تعالى إنما يتقبل الله من المتقين.
نسأل الله أن يرزقنا وأياكم التدبر والتعقل والتفهم ونسأله سبحانه أن يرزقنا وإياكم الشدة والنشاط وجهاد النفس على حضور القلب في العبادة حتى تحصل الفائدة، أسأل الله أن يرزقكم الإخلاص في العمل والقول.
(المتن)
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد: فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ زِيَادَةَ الْإِيمَانِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا زِيَادَتُهُ وَأَنَّهَا غَيْرُ مَحْدُودَةٍ فَمَا يَقُولُونَ فِي أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ؟ هَلْ يُقِرُّونَ بِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ؟ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ؛ فَإِذَا قَالُوا: نَعَمْ.
قِيلَ لَهُمْ: هَلْ تَحْدُونَهُمْ وَتَعْرِفُونَ عَدَدَهُمْ؟ أَلَيْسَ إنَّمَا يَصِيرُونَ فِي ذَلِكَ إلَى الْإِقْرَارِ بِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ ثُمَّ يَكُفُّونَ عَنْ عَدَدِهِمْ؟ فَكَذَلِكَ زِيَادَةُ الْإِيمَانِ.
وَبَيَّنَ أَحْمَد أَنَّ كَوْنَهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا مُنْتَهَى زِيَادَتِهِ لَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْإِقْرَارِ بِهَا فِي الْجُمْلَةِ؛ كَمَا أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْكُتُبِ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ عَدَدَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَحْمَد وَذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ وَغَيْرُهُمَا يُبَيِّنُ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا عَدَدَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَأَنَّ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ فِي ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُمْ.
(الشرح)
فإن المؤلف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذا الكتاب العظيم وهو كتاب الإيمان، يبين معتقد أهل السنة والجماعة ويستدل بالكتاب والسنة وأقوال أهل العلم، وهو أن مسمى الإيمان؛ هو الإقرار والتصديق بالقلب والإقرار التصديق باللسان وعمل القلب وعمل الجوارح، وأنها كلها داخلة في مسى الإيمان كما دلت عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
وقد سبق أن ذكره المؤلف رحمه الله ويرد على المرجئة الذين يقررون أن الإيمان هو تصديق القلب أو الكرامية الذين يقولون إن الإيمان هو مجرد النطق اللسان، أو مرجئة الفقهاء الذين يقولون إن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان.
كل هذه المذاهب كلها مخالفة لما دلت عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
والمرجئة في جميع طوائفهم يرون أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص بل هو شيء واحد إذا زال زال جميعه وإذا ثبت ثبت جميعه لا يزيد ولا ينقص ولا يتبعض ولا يتعدد.
معنا الأدلة الصريحة في زيادة الإيمان لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح: 4] وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا [المدثر:31] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة: 124]، إلى غير ذلك من الأدلة.
وينقل المؤلف رحمه الله عن الأئمة كالإمام أحمد ومحمد بن نصر المروزي وغيرهم من أهل العلم في الرد على المرجئة.
وهنا نقل الأمام رحمه الله عن الإمام أحمد مناقشة للمرجئة في زعمهم أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص ويجيب على شبهتهم، وهي أنهم يقولون كيف نقبل الزيادة ونحن لا ندري ما الزيادة، والزيادة غير محدودة.
فيرد عليهم المؤلف رحمه الله بأنهم يؤمنون بالأنبياء، يؤمنون بالأنبياء والكتب والرسل وهم لا يعلمون عددهم فكذلك الإيمان يجب الإيمان بأنه يزيد وينقص ولو لم يدروا ما زيادته وأنها غير محدودة.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله نقلًا عن الإمام، قال الإمام أحمد: "فَإِنْ زَعَمُوا؛ يعني المرجئة أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ زِيَادَةَ الْإِيمَانِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا زِيَادَتُهُ وَأَنَّهَا غَيْرُ مَحْدُودَةٍ فَمَا يَقُولُونَ فِي أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ؟ هَلْ يُقِرُّونَ بِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ؟ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ؛ فَإِذَا قَالُوا: نَعَمْ؛ قِيلَ لَهُمْ: هَلْ تَحْدُونَهُمْ وَتَعْرِفُونَ عَدَدَهُمْ؟ أَلَيْسَ إنَّمَا يَصِيرُونَ فِي ذَلِكَ إلَى الْإِقْرَارِ بِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ ثُمَّ يَكُفُّونَ عَنْ عَدَدِهِمْ؟ فَكَذَلِكَ زِيَادَةُ الْإِيمَانِ".
فالإمام أحمد رحمه الله ناقش المرجئة وبين لهم أن بأن الإيمان يزيد وينقص وإن كانوا لا يعرفون ما يدون ما زيادته وأنها غير محدودة، هم أيضًا يؤمنون بالأنبياء والكتب والرسل ويقرون لهم بالجملة ولا يحدونهم ولا يعرفون عددهم وكذلك زيادة الإيمان.
قال المؤلف رحمه الله: "وَبَيَّنَ أَحْمَد رحمه الله أَنَّ كَوْنَهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا مُنْتَهَى زِيَادَتِهِ لَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْإِقْرَارِ بِهَا فِي الْجُمْلَةِ؛ كَمَا أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْكُتُبِ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ عَدَدَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ." هذه مناقشة، مناقشة واضحة للإمام أحمد والمرجئة، لأنهم إن لم يؤمنوا بالأنبياء والكتب والرسل فإنهم يكونون كفار لأن الأنبياء والكتب والرسل لأن ذلك أصل من أصول الدين وأصول الإسلام، وإن أمنوا بالأنبياء والكتب والرسل قيل لهم فكذلك زيادة الإيمان، كَمَا أَنَّكم تُؤْمِنُونَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْكُتُبِ والرسل وتكفون عن عددهم وتصيروا إلى الإقرار بهم في الجملة، فكذلك امنوا بزيادة الإيمان وأن كنتم لا تدرون أنها غير محدودة.
قال المؤلف رحمه الله: "وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَحْمَد وَذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ؛ يعني محمد بن نصر المروزي وَغَيْرُهُمَا يُبَيِّنُ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا عَدَدَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَأَنَّ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ فِي ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُمْ" يعني المؤلف رحمه الله كان استطرد إلى مسألة عدد الكتب والرسل، وهل يعرف عدد الكتب والرسل؟ ويقول ما ذَكَرَهُ أَحْمَد وَذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ يبين أن عدد الكتب والرسل لا يعرف، وأن حديث أبو ذر الذي فيه عدد الرسل غير ثابت، وحديث أبي ذر معروف رواه الإمام أحمد في المسند قال حدثنا عبد الله قال حدثنا. ... حدثنا وكيع
.قال حدثنا مسعود انبئنا أبو عمرو الدمشقي عن عبيد بن خشخاش عن أبي ذر « قلت يا رسول الله أي الأنبياء كان أول " قال آدَمُ " ، قُلْتُ : أَو َنَبِيٌّ كَانَ ؟ قَالَ : " نَعَمْ ، نَبِيٌّ مُكَلَّم " ، قُلْتُ : كَمْ كَانَ الْمُرْسَلُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : ثَلاثَ مِائَةٍ وبضعة عشر جَمًّا غَفِيرًا ([4])
وقال مرة خمسة عشر، قال ثَلاثَ مِائَةٍ وبضعة عشر جَمًّا غَفِيرًا وقال مرة خسة عشر، قلت يا رسول الله آم نبي كان؟ قال نعم نبي مكلم، لكن الحديث ضعيف بسبب حديث عبيد الخشاش في بعض الروايات قال فيه الحافظ بن حجر في التقريب لين قال في ميزان الاعتدال عبيد الخشخاش عن ابي ذر مرفوعًا، قال أدم نبي مكلم، قال البخاري في الضعفاء، لم يذكر سماعه من أبي ذر. فالحديث ضعيف. وعلى هذا فلا يثبت أبي ذر في عدد الكتب والرسل، ويكون حديث بي ذر الذي فيه عدد الرسل وأنهم ثلاث مائة وبضعة عشر غير ثابت.
والمؤلف رحمه الله يستدل أيضًا بضعف حديث أبي ذر بما ذكره الإمام أحمد وما ذكره محمد بن نصر المروزي من أنه لا يعلم عدد الكتب والرسل.
قال إن هذا يدل على حديث أبو ذر لم يثبت عندهم ولو كان ثابتًا لقالوا به، بمقتضاه في عدد الرسل، نعم.
(المتن)
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ سَوَّى بَيْنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ سَمَّى الْإِيمَانَ بِمَا سَمَّى بِهِ الْإِسْلَامَ؛ وَسَمَّى الْإِسْلَامَ بِمَا سَمَّى بِهِ الْإِيمَانَ فَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَدْ فَسَّرَ الْإِيمَانَ بِأَنَّهُ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
وَبَيَّنَ أَيْضًا أَنَّ الْعَمَلَ بِمَا أُمِرَ بِهِ يَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ وَلَمْ يُسَمِّ اللَّهُ الْإِيمَانَ بِمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ إسْلَامًا؛ بَلْ إنَّمَا سَمَّى الْإِسْلَامَ الِاسْتِسْلَامَ لَهُ بِقَلْبِهِ وَقَصْدِهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ وَالْعَمَلِ بِمَا أُمِرَ بِهِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ خَالِصًا لِوَجْهِهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ إسْلَامًا وَجَعَلَهُ دِينًا وَقَالَ: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَلَمْ يُدْخِلْ فِيمَا خُصَّ بِهِ الْإِيمَانَ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ؛ بَلْ وَلَا أَعْمَالَ الْقُلُوبِ مِثْلَ حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ جَعَلَهَا مِنْ الْإِيمَانِ وَالْمُسْلِمُ الْمُؤْمِنُ يَتَّصِفُ بِهَا وَلَيْسَ إذَا اتَّصَفَ بِهَا الْمُسْلِمُ الْمُؤْمِنُ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ بَلْ هِيَ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَرْضٌ وَالْإِيمَانُ فَرْضٌ وَالْإِسْلَامُ دَاخِلٌ فِيهِ؛ فَمَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ الْمُتَنَاوَلِ لِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ الْوَاجِبَةِ وَمَنْ أَتَى بِمَا يُسَمَّى إسْلَامًا لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَتَى بِالْإِيمَانِ إلَّا بِدَلِيلِ مُنْفَصِلٍ كَمَا عُلِمَ أَنَّ مَنْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ إلَى الْحَوَارِيِّينَ كُلِّهِمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ كَمَا كَانُوا مُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ الْحَوَارِيُّونَ: آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ وَقَالَ: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ.
وَلِهَذَا أَمَرَنَا اللَّهُ بِهَذَا وَبِهَذَا فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ كَمَا قَالَ: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
(الشرح)
المؤلِّف رحمه الله هنا يرد على من سوّى بين الإسلام والإيمان، وهذه المسألة مسألة خلافية بين أهل العلم، هل الإسلام والإيمان شيء واحد أو أنهما شيآن؟ الصواب أن الإسلام والإيمان إذا أطلق أحدهما دخل فيه الآخر.
فإذا أطلق الإيمان دخل فيه الإسلام وإذا أطلق الإسلام دخل فيه الإيمان، وإذا اجتمعا الإسلام والإيمان خرج كل واحد منه بعضه فإذا اجتمع مسلم في الإسلام في الأعمال الظاهرة والإيمان في الأمور الباطنة كما في قول جبريل لما سأل عن الإسلام قال الأركان الخمسة، ولما سأل عن الإيمان في الأمور الباطنة، أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ هذا هو الصواب الذي دلت عليه النصوص وعليه جمهور أهل السنة، وهو الذي حققه المؤلف شيخ الإسلام بن تيمية في هذا الكتب وفي غيره من الكتب.
وذهب طائفة من أهل السنة إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد وعلى رأسهم الإمام البخاري رحمه في صحيحة لأنه يرى أن الإسلام والإيمان شيء واحد وكذلك محمد بن نصر المروزي في كتابه "تعظيم قدر الصلاة"، يرى أن الإسلام والإيمان شيء واحد، ويوافقهم على هذا الخوارج والمعتزلة فيرون أن الإسلام والإيمان شيء واحد ويستدلوا بأدلة منها قوله تعالى في قصة قوم لوط فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:35] فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:36]
قال هو بيت واحد بيت لوط وصف بالإيمان ووصف بالإسلام، فدل على أن الإسلام هو الإيمان وأن الإيمان هو الإسلام، ولكن أجاب الجمهور على أن بيت لوط اتصف بالإسلام وأتصف بالإيمان، حقق صفات المؤمنين وصفات المسلمين ولا يلزم أن يكون بيت لوط يتصف بصفات الإيمان والإسلام أن يكون كل أحد يتصل بهذا وبهذا.
المؤلف رحمه الله يناقش ويرد على من سوى بين الإسلام والإيمان كالبخاري ومحمد بن نصر المروزي ويقول: "وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ سَوَّى بَيْنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ سَمَّى الْإِيمَانَ بِمَا سَمَّى بِهِ الْإِسْلَامَ؛ وَسَمَّى الْإِسْلَامَ بِمَا سَمَّى بِهِ الْإِيمَانَ فَلَيْسَ كَذَلِكَ" ليس كذلك؛ يعني ليس بصحيح.
بيان ذلك قال: "فَإِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَدْ فَسَّرَ الْإِيمَانَ بِأَنَّهُ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَبَيَّنَ أَيْضًا أَنَّ الْعَمَلَ بِمَا أُمِرَ بِهِ يَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ وَلَمْ يُسَمِّ اللَّهُ الْإِيمَانَ بِمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ إسْلَامًا"
يعني حديث جبرائيل لما سأل عن الإسلام فسر بالعمال الظاهرة قال الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ([5]) ولما سأل عن الإيمان قال: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ.
ففرق بينهما فالمؤلف يقول: "فَإِنَّ اللَّهَ َرَسُولَهُ قَدْ فَسَّرَ الْإِيمَانَ بِأَنَّهُ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ" وبين أيضًا أن العمل بما أمر به داخل في مسمى الإيمان.
لقوله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:2-4].
أدخل الأعمال في مسمى الإيمان قال: " وَبَيَّنَ أَيْضًا أَنَّ الْعَمَلَ بِمَا أُمِرَ بِهِ يَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ وَلَمْ يُسَمِّ اللَّهُ الْإِيمَانَ بِمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ إسْلَامًا" سماه إيمانًا.
قال: " بَلْ إنَّمَا سَمَّى الْإِسْلَامَ الِاسْتِسْلَامَ للَهُ بِقَلْبِهِ وإخلاص الدين والعمل به كالصلاة والزكاة خالصًا لوجه" فهذا الذي سماه الله إسلامًا وجعله دينه.
قال: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]. يعني ما سماه إسلام هو الاستسلام لله، الاستسلام لله بالقلب والإخلاص والعمل بما أمر به الأعمال كالصلاة والزكاة خالصة لوجهة هذه تسمى إسلام.
أما أعمال القلوب والأمور الباطنة هذه تسمى إيمان.
ولها قال المؤلف: "بَلْ إنَّمَا سَمَّى الْإِسْلَامَ الِاسْتِسْلَامَ لَهُ بِقَلْبِهِ وَقَصْدِهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ وَالْعَمَلِ بِمَا أُمِرَ بِهِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ خَالِصًا لِوَجْهِهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ إسْلَامًا وَجَعَلَهُ دِينًا وَقَالَ: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَلَمْ يُدْخِلْ فِيمَا خُصَّ بِهِ الْإِيمَانَ"
يعني لم يدخل فيما خص به الإيمان لم يدخل في الإسلام وهي الأمور الباطنة، الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ والبعث بعد الموت؛ هذه كلها سماها إيمان ولم يسميها إسلام.
ولهذا قال: "وَلَمْ يُدْخِلْ فِيمَا خُصَّ بِهِ الْإِيمَانَ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ؛ بَلْ وَلَا أَعْمَالَ الْقُلُوبِ مِثْلَ حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ جَعَلَهَا مِنْ الْإِيمَانِ"
الخلاصة خلاصة الرد أن المؤلف رحمه الله يقول إن الأمور الباطنة وأعمال القلوب سماها الشارع إيمان، والأعمال الظاهر والاستسلام بالقلب والانقياد وإخلاص للدين والأعمال سماه إسلام ففرق الله فكيف نسوي بين الإسلام والإيمان وقد فرق الله بينهما؟
ثم قال المؤلف رحمه الله: "وَالْمُسْلِمُ الْمُؤْمِنُ يَتَّصِفُ بِهَا وَلَيْسَ إذَا اتَّصَفَ بِهَا الْمُسْلِمُ الْمُؤْمِنُ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ بَلْ هِيَ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَرْضٌ وَالْإِيمَانُ فَرْضٌ وَالْإِسْلَامُ دَاخِلٌ فِيهِ" يعني يقول إن المسلم المؤمن يتصف بها، المسلم المؤمن يتصف بالإيمان ولا يتصف بالإسلام، وإذا اتصف بها مسلم ومؤمن إذا اتصف المسلم بالأعمال والاستسلام وانقاد لأعمال الله واتصل بالأمور الباطنة وأعمال القلوب فانه يسمى مسلم مؤمن، يسمى مسلم ويسمى مؤمن، ولا يلزم ان يكون من الإسلام، لا يلزم أن تكون الأمور الباطنة أن تكون الإسلام، بل هي من الإيمان.
ثم قال المؤلف رحمه الله: "وَالْإِسْلَامِ فَرْضٌ وَالْإِيمَانُ فَرْضٌ" كل منهما فرض، يعني أعمال القلوب فرض، وأعمال الجوارح فرض، التصديق في الباطن وأعمال القلوب فرض وكذلك الاستسلام والانقياد والإخلاص والعمل والأعمال فرض كلها فرض، فالإسلام فرض والإيمان فرض، وَالْإِسْلَامُ دَاخِلٌ فِيهِ؛ يعني الإسلام داخل في الإيمان، الإيمان أوسع ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فَمَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ الْمُتَنَاوَلِ لِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ الْوَاجِبَةِ".
فَمَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ فأنه يسمى مؤمنًا ومسلمًا، من أتى بالإيمان معناه أنه أتى بالواجبات وترك المحرمات فإذا أدى الواجبات وترك المحرمات يسمى مسلمًا ويسمى مؤمنًا، اتى بالإسلام وأتى بالإيمان.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فَمَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ الْمُتَنَاوَلِ لِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ الْوَاجِبَةِ وَمَنْ أَتَى بِمَا يُسَمَّى إسْلَامًا لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَتَى بِالْإِيمَانِ"
يعني مثلًا بعض الأعمال أتى ببعض الواجبات وقصر في بعض الواجبات ولم يأت بجميع ما أمر به فأنه يسمى مسلم ولا يسمى مؤمنًا.
العاصي يسمى مسلمًا ولكنه لا يسمى مؤمنًا بإطلاق إلا بقيد بقلبه ضعيف الإيمان، فالإيمان أخص وأوسع.
فمن أدى الواجبات وترك المحرمات فإنه يسمى مؤمنًا ويسمى مسلمًا ومن أتى بالتوحيد وأخلص العمل لله، وأتى ببعض الواجبات وقصر في بعض الواجبات وأتى ببعض المحرمات فأنه يسمى مسلمًا ولا يسمى مؤمنًا.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "؛ فَمَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ الْمُتَنَاوَلِ لِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ الْوَاجِبَةِ وَمَنْ أَتَى بِمَا يُسَمَّى إسْلَامًا لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَتَى بِالْإِيمَانِ إلَّا بِدَلِيلِ مُنْفَصِلٍ كَمَا عُلِمَ أَنَّ مَنْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ" يعني من أتى بما يسمى إسلامًا يلزم أن يكون قد أتى بالإيمان إلا بدليل مثل الأنبياء الذين أثنى الله عليهم ووصفهم بالإيمان والإسلام، هذا دل عليه الدليل أنهم اتصفوا بهذا وبهذا.
كما قال: " كَمَا عُلِمَ أَنَّ مَنْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ إلَى الْحَوَارِيِّينَ كُلِّهِمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ كَمَا كَانُوا مُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ الْحَوَارِيُّونَ: آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ"، آمَنَّا بِاللَّهِ اتصفوا بالإيمان والإسلام بِأَنَّا مُسْلِمُونَ.
قال: " وَقَالَ: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ" اتصفوا بالإيمان والإسلام.
قال المؤلف رحمه الله: "وَلِهَذَا أَمَرَنَا اللَّهُ بِهَذَا وَبِهَذَا" يعني أمرنا بالإسلام والإيمان مأمورين بهذا، نحن مأمورين بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ومأمورين بأعمال القلوب ومأمورين بالإسلام والاستسلام والانقياد لله واداء للواجبات وترك المحرمات.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَلِهَذَا أَمَرَنَا اللَّهُ بِهَذَا وَبِهَذَا فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ كَمَا قَالَ: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 136، 137].
أمر بالإيمان والإسلام في آية واحدة في خطاب واحد، قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ، وقوله لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وقال فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].
فالإسلام هو دين الله ولا يقبل من أحد دين سواه وهو الذي فرضه الله على عباده، والإيمان هو أعمال القلوب وأداء الواجبات وترك المحرمات، لا شك أن أعمال القلوب لها شأن عظيم، والمعول على أعمال القلوب إذا وجد في القلب محبة الله ومحبة رسوله ﷺ انبعث في الجوارح بالعمل إذا وجد في القب الإخلاص محبة الله ورسوله لابد منها ولهذا فإن أعمال القلوب وأعمال الجوارح متلازمة، فالمؤمن هو المصدق ولابد ن يكون مع التصديق محبة وهذه المحبة توجد حركة في القلب كما الإنسان على العمل.
ولهذا فإن قول الجهمية أن الإيمان هو مجرد المعرفة باطل من أفشل ما قيل في تعريف الإيمان، لابد أن يكون مع الإيمان حركة وهي المحبة وإذا وجد في القلب حركة تبعث للإنسان العمل، فيكون العمل أعمال القلوب وأعمال الجوارح متلازمان، فلذا لا يمكن أن يكون إيمان بدون عمل، تصديق في القلب لابد أن يكون معه عمل، فالتصديق الذي في القلب لا يتحقق إلا بالعمل، والعمل الذي يعمله الإنسان لا يصح إلا بالإيمان والتصديق فهما متلازمان، من زعم أنه يصدق ولم يعمل فإن هذا كإيمان إبليس وفرعون لأن عنده معرفة إبليس وفرعون، ولكنه لم يتحقق بعمل وكذلك العمل الصلاة والصيام والزكاة والحج لابد لها من إيمان في الباطن يصححها وإلا صار كإسلام المنافقين، فالمنافقين يعملون ويجاهدون ويحجون لكن ليس عندهم إيمان يصحح العمل، وإبليس وفرعون مصدقان ومعترفان لكن ليس عندهم عمل يتحقق به الإيمان فهو متلازمان.
فلابد من أعمال القلوب في محبة الله ورسوله والتوكل على الله والخوف خوف الله ورجاءه والتوكل عليه والرغبة إليه والرهبة منه، لابد منها أعمال القلوب أعمال عظيمة المعول على أعمال القلوب حقائق الإيمان التي في القلوب هي المعول عليها، ولهذا جاء في الحديث أن أبا بكر لم يسبق غيره في كثرة الصوم ولا الصلاة ولكنه سبقهم بما وقر في قلبه، بما وقر في قلبه من الإيمان، حقائق الإيمان التي وجدت في قلب الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا حتى ولما جاءه الموت فقد ذهب إلى قرية صالحة وهو في سكرة الموت، جعله ينوء بصدره إلى الأرض الصالحة بما في قلبه من حقائق الإيمان التي تدفع وهو في سكرات الموت، حتى ناء بصدره إلى الأرض الصالحة شبرًا فكان من أهلها.
لا شك أن أعمال القلوب لها مدخل عظيم في الثواب والأجر والثواب الذي يصيب الله على العبد في حضور قلبه وفي إخلاصه وفقه مع الله ومحبته وتوكله ورغبته ورهبته، فالمعول إذا ما هو على أعمال القلوب.
فلهذا الناس يتفاوتون في الأعمال بحسب ما كان في القلوب من حقائق الإيمان، والإخلاص والصدق والرغبة إلى الله والرهبة منه والتوكُّل والخشية والخوف.
نسأل الله أن يوفقنا وأن يقبل العمل الصالح من المؤمنين، ونسأل الله تعالى أن يرزقنا الإخلاص في العمل والصدق في القول نسأله أن يرزقنا وإياكم الصدق مع الله .
([1]) – سبق
([2]) –
([3]) – سبق
([4]) – أخرجه أحمد رقم (21546) ، والبزار رقم (4034)، والبيهقي في الشعب رقم (3298)، قال الحافظ البزار عقبه : وهذا الكلام لا نعلمه يروى بهذا اللفظ إلا عن أبي ذر. وعبيد بن الخشخاش لا نعلم روى عن أبي ذر إلا هذا الحديث. وقال الحافظ الهيثمي مجمع الزوائد (1/ 159) ومداره على علي بن يزيد، وهو ضعيف.
([5]) – سبق