شعار الموقع
  1. الصفحة الرئيسية
  2. الدروس العلمية
  3. العقيدة
  4. شرح كتاب الإيمان الكبير
  5. شرح كتاب الإيمان الكبير_46 من قوله وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ دَانَ بِغَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ فَعَمَلُهُ مَرْدُودٌ... - إلى وَبِهَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَمْتَنِعُ مِنْ عُقُوبَةِ الْمُنَافِقِينَ

شرح كتاب الإيمان الكبير_46 من قوله وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ دَانَ بِغَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ فَعَمَلُهُ مَرْدُودٌ... - إلى وَبِهَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَمْتَنِعُ مِنْ عُقُوبَةِ الْمُنَافِقِينَ

00:00
00:00
تحميل
71

المتن:

وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ دَانَ بِغَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ فَعَمَلُهُ مَرْدُودٌ وَهُوَ خَاسِرٌ فِي الْآخِرَةِ، فَيَقْتَضِي وُجُوبَ دِينِ الْإِسْلَامِ وَبُطْلَانَ مَا سِوَاهُ لَا يَقْتَضِي أَنَّ مُسَمَّى الدِّينِ هُوَ مُسَمَّى الْإِيمَانِ؛ بَلْ أَمَرَنَا أَنْ نَقُولَ: آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة: 136]، وَأُمِرْنَا أَنْ نَقُولَ: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: 136]، فَأُمِرْنَا بِاثْنَيْنِ؛ فَكَيْفَ نَجْعَلُهُمَا وَاحِدًا؟!

وَإِذَا جَعَلُوا الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ شَيْئًا وَاحِدًا. فَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا: اللَّفْظُ مُتَرَادِفٌ فَيَكُونُ هَذَا تَكْرِيرًا مَحْضًا، ثُمَّ مَدْلُولُ هَذَا اللَّفْظِ عَيْنُ مَدْلُولِ هَذَا اللَّفْظِ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا: بَلْ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ يَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ غَيْرِ الصِّفَةِ الْأُخْرَى كَمَا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَأَسْمَاءِ كِتَابِهِ.

لَكِنَّ هَذَا لَا يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِهِمَا جَمِيعًا، وَلَكِنْ يَقْتَضِي أَنْ يُذْكَرَ تَارَةً بِهَذَا الْوَصْفِ وَتَارَةً بِهَذَا الْوَصْفِ؛ فَلَا يَقُولُ قَائِلٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْك الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَالصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ وَهَذَا هُوَ هَذَا.

وَالْعَطْفُ بِالصِّفَاتِ يَكُونُ إذَا قُصِدَ بَيَانُ الصِّفَاتِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَدْحِ أَوْ الذَّمِّ؛ كَقَوْلِهِ: سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الْأَعْلَى ۝ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ۝ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى: 1 - 3]، لَا يُقَالُ: صَلِّ لِرَبِّك الْأَعْلَى وَلِرَبِّك الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى.

الشيخ:

فإن المؤلِّف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيما سبق بيَّن أنَّ الصواب التي تدلُّ عليه النصوص من كتاب الله وسنَّة رسوله ﷺ: إن الإسلام والإيمان ليسا شيء واحدًا، بل هما شيئان إذا افترقا، وشيء واحد إذا اجتمعا؛ فإذا أُطلق الإسلام وحده دخل فيه الإيمان، دخلت فيه الأعمال الباطنة والظاهرة، وإذا أُطلق الإيمان وحده دخل فيه الإسلام، وإذا اجتمعا فُسِّر الإسلام بالأعمال الظاهرة، وفُسِّر الإيمان بالأعمال الباطنة، كما في حديث إبراهيم لما سأل النبي الإسلام، فسّر بالأعمال الإسلام الظاهرة، ولما سأل عن الإيمان فسّر بالأمور الباطنة،  هذا هو الصواب.

وذهب بعض أهل السنة إلى إن الإسلام والإيمان شيء واحد، وعلى رأسهم الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه، والإمام محمد بن نصر المروزي.

 وهو قول أيضًا لبعض أهل البدع من الخوارج والمعتزلة، والمؤلِّف رحمه الله يناقشهم ويُبَيِّن أن التفرقة بين الإيمان والإسلام غير صحيح، يناقض أدلة كثيرة، ومن ذلك: أن الإسلام هو: الاستسلام لله بالقلب وإخلاص الدين والعمل لله، وأما الإيمان فهو: الإيمان بالله وملائكته وكُتبه ورسله فهما شيئان.

والإسلام هو دين الله، الذي لا يُطلب من أحد سواه، لا من الأولين ولا من الآخرين، كما قال الله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85].

يقول المؤلِّف رحمه الله: "وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ دَانَ بِغَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ فَعَمَلُهُ مَرْدُودٌ وَهُوَ خَاسِرٌ فِي الْآخِرَةِ"؛ يعني ينسب إلى قول الله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ  الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]، فيقتضي وجوب دين الإسلام وبطلان ما سواه؛ لأن هذا حقٌّ يقتضي أنَّ دين الإسلام هو دين الله، وما سواه من أديان باطل.

ولكن ما يقتضي هذا أن مسمى الدين والإسلام هو مسمى الإيمان، لا يقتضي هذا أن مسمى الإيمان غير مسمى الدين وغير مسمى الإسلام عند الافتراق؛ فإنَّ النبي ﷺ فرَّق بين الدين والإيمان في سؤالات جبرائيل، فسَّر الإسلام بالأعمال الظاهرة وفسَّر الإيمان بالأمور الباطنة.

ولهذا كون دين الإسلام هو الدين الذي لا يقبل الله دين سواه وأن من يدن بالإسلام "فَعَمَلُهُ مَرْدُودٌ وَهُوَ خَاسِرٌ" لا يقتضي أنَّ مسمى الدين هو ومسمى الإسلام هو مسمى الإيمان.

قال: "بَلْ أَمَرَنَا أَنْ نَقُولَ: آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة: 136] وَأُمِرْنَا أَنْ نَقُولَ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: 136]".أُمرنا بالإيمان، وأُمرنا بالإسلام، بهذا وبهذا، لذلك قال: "فَأُمِرْنَا بِاثْنَيْنِ؛ فَكَيْفَ نَجْعَلُهُمَا وَاحِدًا؟!"

والمؤلِّف رحمه الله يناقش من سوى بين الإسلام والإيمان، ثم يقول: "وَإِذَا جَعَلُوا الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ شَيْئًا وَاحِدًا، فَإِمَّا أَنْ يَكون: اللَّفْظُ مُتَرَادِفٌ فَيَكُونُ هَذَا تَكْرِيرًا مَحْضًا". وهذا لا يكون إلا به.

مَن قال: الإسلام والإيمان.. يقال: هل تعتقد أن اللفظان مترادفان، الإسلام والإيمان ليسا مترادفان، أصل الإيمان التصديق، وأصل الإسلام الاستسلام، فكيف يقال أنهما لفظ مترادف: ليس اللفظان مترادفان!

"فَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا: اللَّفْظُ مُتَرَادِفٌ فَيَكُونُ هَذَا تَكْرِيرًا مَحْضًا ثُمَّ مَدْلُولُ هَذَا اللَّفْظِ عَيْنُ مَدْلُولِ هَذَا اللَّفْظِ"؛ هذا لا يمكن لا يقال بهذا، مدلول الإيمان غير مدلول الإسلام.

"وَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا: بَلْ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ يَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ غَيْرِ الصِّفَةِ الْأُخْرَى كَمَا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَأَسْمَاءِ كِتَابِهِ".أسماء الله كل اسم يدلُّ على صفة، عليم: يدلُّ على صفة العلم، قدير: يدلُّ على صفة القدرة، رحيم: صفة الرحمة، حكيم: صفة الحكمة، وهكذا..

وكذلك أسماء الكتاب العزيز، يسمى الشفاء، والقرآن والكتاب والشفاء، هذه كلها أسماء، كل اسم له معنى ليست مترادفة، كل اسم يدلُّ على صفة، فإذا قالوا: إن أحد اللفظين يدل على صفة دون الأخرى، "لَا يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِهِمَا جَمِيعًا"؛ أنه لم يأمر بهما جميعًا، "وَلَكِنْ يَقْتَضِي أَنْ يُذْكَرَ تَارَةً بِهَذَا الْوَصْفِ وَتَارَةً بِهَذَا الْوَصْفِ"؛ يعني على هذا القول، "فَلَا يَقُولُ قَائِلٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْك الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَالصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ"؛ لا يجمع بينهما.

الصلاة المكتوبة هي الصلاة، هي: الصلوات الخمس هذا تكرار، لكن يقول في بعض الأحيان: قد فرض عليك الصلوات الخمس، وفي لفظ آخر، يقول: قد فرض الله علينا الصلاة والمكتوبة، أما مَن يجمع بينهما "قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْك الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَالصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ وَهَذَا هُوَ هَذَا".

فهذا غير مناسب ولا يمكن؛ وإذ قيل: الصفة تعطف على الصفة فيقال إن فالأصل في الصفات "يَكُونُ إذَا قُصِدَ بَيَانُ الصِّفَاتِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَدْحِ أَوْ الذَّمِّ".

إذا قصد بيان الصفات لما فيها من المدح والذم فإنها يعطف بعضها على بعض، ومثل ذلك: كَقَوْلِهِ: سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الْأَعْلَى ۝ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ۝ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:1-3].

كل هذه صفات الله . الْأَعْلَى ۝ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ۝ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ."لَا يُقَالُ: صَلِّ لِرَبِّك الْأَعْلَى وَلِرَبِّك الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى"؛ يعني لا يكرر لربك، صفات لموصوف واحد، "فلَا يُقَالُ: صَلِّ لِرَبِّك الْأَعْلَى وَلِرَبِّك الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى"، ولربك الذي قدَّر فهدى، بل تستمر الأوصاف ببعض.

القارئ: طيب يا شيخ، فيما يذكر من الذكر الخاص بعد العام مثلًا، لو قال حافظ على الصلوات وصلاة الفجر مثلًا، هل هذا يعد [00:06:58].

الشيخ: لا، هذا معروف، الخاص بعد العام، هذا معروف، تخصيص بعد التعميم، هذا معروف في اللغة، ومعروف في الكتاب والسنة.

القارئ: لا ينطبق على هذا.

الشيخ: لا، إنما أقصد أصل الصفات على الصلة.

القارئ: أحسن الله إليكم

(المتن)

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي -رَحِمَهُ اللَّهُ- فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ لَا يَفْتَرِقَانِ، فَمَنْ صَدَّقَ بِاَللَّهِ فَقَدْ آمَنَ بِهِ، وَمَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ فَقَدْ خَضَعَ لَهُ، وَقَدْ أَسْلَمَ لَهُ.

وَمَنْ صَامَ وَصَلَّى وَقَامَ بِفَرَائِضِ اللَّهِ وَانْتَهَى عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ الْمُفْتَرَضَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَرَكَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلَنْ يَزُولَ عَنْهُ اسم الْإِيمَانِ وَلَا الْإِسْلَامُ، إلَّا أَنَّهُ أَنْقَصُ مَنْ غَيْرِهِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ مَنْ الْإِقْرَارِ بِأَنَّ اللَّهَ حَقٌّ، وَمَا قَالَ حَقٌّ لَا بَاطِلٌ، وَصِدْقٌ لَا كَذِبٌ، وَلَكِنْ يَنْقُصُ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ: تَعْظِيمٌ الِلَّهِ وَخُضُوعٌ لِلْهَيْبَةِ وَالْجَلَالِ وَالطَّاعَةِ لِلْمُصَدِّقِ بِهِ وَهُوَ اللَّهُ.

فَمِنْ ذَلِكَ يَكُونُ النُّقْصَانُ لَا مِنْ إقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ حَقٌّ، وَمَا قَالَ صِدْقٌ.

فَيُقَالُ: مَا ذَكَرَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ فَقَدْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ؛ وَهَذَا حَقٌّ وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَنْ أَنَّ مَنْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ الْوَاجِبِ فَقَدْ أَتَى بِالْإِيمَانِ.

فَقَوْلُهُ: مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ فَقَدْ خَضَعَ لَهُ وَقَدْ اسْتَسْلَمَ لَهُ حَقٌّ؛ لَكِنْ أَيُّ شَيْءٍ فِي هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ لِلَّهِ وَخَضَعَ لَهُ فَقَدْ آمَنَ بِهِ وَبِمَلَائِكَتِهِ وَبِكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ؟

وَقَوْلُهُ: إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ لَا يَفْتَرِقَانِ إنْ أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَهُمَا جَمِيعًا، وَنَهَى عَنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فَهَذَا حَقٌّ؛ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ مُسَمَّى هَذَا مُسَمَّى هَذَا فَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تُخَالِفُ ذَلِكَ، وَمَا ذَكَرَ قَطُّ نَصًّا وَاحِدًا يَدُلُّ عَلَى اتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: مَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَانْتَهَى عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ فَهَذَا صَحِيحٌ إذَا فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَيَكُونُ قَدْ اُسْتُكْمِلَ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ إيمَانُهُ وَإِسْلَامُهُ مُسَاوِيًا لِلْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ الَّذِي فَعَلَهُ أُولُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ؛ كَالْخَلِيلِ إبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَلْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِمَّنْ لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِهِ.

الشيخ:

المؤلِّف رحمه الله نقل نص عن الإمام محمد بن نصر المروزي من كتابه تعظيم قدر الصلاة يقرِّر فيه محمد بن نصر المروزي: أن الإسلام والإيمان شيء واحد، وأن الإسلام هو الإيمان، وأن الإيمان هو الإسلام.

والمؤلف رحمه الله يتعقبه ويرد عليه يُبَيِّن أن الإسلام والإيمان ليس شيئًا واحدًا، بل يفترقان ويجتمعان.

فنقل عن محمد بن نصر، فقال: "وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي -رَحِمَهُ اللَّهُ-  في تقريره أن الإسلام والإيمان شيء واحد، فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ لَا يَفْتَرِقَانِ فَمَنْ صَدَّقَ بِاَللَّهِ فَقَدْ آمَنَ بِهِ وَمَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ فَقَدْ خَضَعَ لَهُ وَقَدْ أَسْلَمَ لَهُ؛ وَمَنْ صَامَ وَصَلَّى وَقَامَ بِفَرَائِضِ اللَّهِ وَانْتَهَى عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ الْمُفْتَرَضَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَرَكَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلَنْ يَزُولَ عَنْهُ اسم الْإِيمَانِ وَلَا الْإِسْلَامُ إلَّا أَنَّهُ أَنْقَصُ مَنْ غَيْرِهِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ مَنْ الْإِقْرَارِ بِأَنَّ اللَّهَ حَقٌّ".

محمد بن نصر المروزي يُبَيِّن أنهما شيء واحد مَن صدق بالله فقد آمن بالله، ومن آمن بالله، فقد خضع لله، ومن صلى وصام وأدى الفرائض استكمل الإيمان واستكمل الإسلام، ومن ترك من ذلك شيئًا فلا يزول عنه اسم الإيمان ولا اسم الإسلام، إلا أنه نقص من غيره في الإسلام والإيمان؛ لأن من الإقرار أن الله حق.

قال: "وَمَا قَالَ حَقٌّ لَا بَاطِلٌ وَصِدْقٌ لَا كَذِبٌ وَلَكِنْ يَنْقُصُ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ تَعْظِيمٌ الِلَّهِ وَخُضُوعٌ لِلْهَيْبَةِ وَالْجَلَالِ وَالطَّاعَةِ لِلْمُصَدِّقِ بِهِ وَهُوَ اللَّهُ فَمِنْ ذَلِكَ يَكُونُ النُّقْصَانُ لَا مِنْ إقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ حَقٌّ وَمَا قَالَ صِدْقٌ".

هكذا يقرر محمد بن نصر المروزي رحمه الله أنَّ الإيمان والإسلام شيء واحد، المؤلف رحمه الله يتعقبه ببيان الفرق بينهما، قال: "فَيُقَالُ: مَا ذَكَرَهُ -يعني محمد بن نصر المروزي- يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ فَقَدْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ الواجب؛ وَهَذَا حَقٌّ".

طالما أن الإيمان واجب فمَن أتى به فقد أدى الواجبات، وترك المحرَّمات، وإذا أدى الواجبات وترك المحرَّمات فقد اتصف بالإسلام والإيمان، اتصف بهذا وبهذا يكون مؤمن مسلم.

يقول المؤلِّف: "وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَنْ أَنَّ مَنْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ الْوَاجِبِ فَقَدْ أَتَى بِالْإِيمَانِ"؛ يعني كونه مَن أتى بالإيمان الواجب قد أتي بالإسلام هذا حق، لكن بالعكس لكن من أتى بالإسلام الواجب لا يلزم أن يكون قد أتى بالإيمان الواجب.

يعني المسلم إذا وحَّد الله وأخلص له العبادة وفعل بعض الواجبات وترك بعض الواجبات، وفعل بعض المحرَّمات هذا يسمى مسلم، ولكن لا يسمى مؤمن بإطلاق إلا بقيد.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَنْ أَنَّ مَنْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ الْوَاجِبِ فَقَدْ أَتَى بِالْإِيمَانِ"؛ لأنَّ الإنسان استسلم لله، وانقاد له ووحَّد الله أتى بالإسلام الواجب، لكن هل يسمى مؤمن؟ لا؛ لأنه قد يفعل بعض الواجبات، قد يترك بعض الواجبات؛ وقد يفعل بعض المحرَّمات.

لا يسمى مؤمن بإطلاق إلا إذا أدى الواجبات وترك المحرَّمات، ولهذا قال المؤلِّف رحمه الله: "فَقَوْلُهُ: مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ فَقَدْ خَضَعَ لَهُ وَقَدْ اسْتَسْلَمَ لَهُ حَقٌّ؛ لَكِنْ أَيُّ شَيْءٍ فِي هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ لِلَّهِ وَخَضَعَ لَهُ فَقَدْ آمَنَ بِهِ وَبِمَلَائِكَتِهِ وَبِكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ؟" لا يلزم، "وَقَوْلُهُ: إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ لَا يَفْتَرِقَانِ".

يقول هذا فيه تفصيل: "إنْ أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَهُمَا جَمِيعًا وَنَهَى عَنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فَهَذَا حَقٌّ"؛ الله أوجب الإيمان والإسلام، "وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ مُسَمَّى هَذَا مُسَمَّى هَذَا فَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تُخَالِفُ ذَلِكَ وَمَا ذَكَرَ قَطُّ نَصًّا وَاحِدًا يَدُلُّ عَلَى اتِّفَاقِ الْمُسمِينَ".

ما في نصٍّ واحد يدل على أنهما متفقان، بل النصوص تدل على اختلاف المسميين عند الاجتماع، كما في حديث جبريل عندما سأل عن الإسلام فسر بالأعمال الظاهرة، ولما سأل عن الإيمان فسر بالأمور الباطنة، وكما في قوله تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14]، وكما في الحديث، وإن كان فيه ضعف: الإِسْلامُ عَلانِيَةٌ، وَالإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ([1])، وكما في حديث سعد بن أبي وقاص لما أتى النبي ﷺ رجلًا، لما أعطى النبي ﷺ بعض العطايا يتألف على الإسلام، وترك رجلًا قال هو أعجب إليه فقلت يا رسول الله مالك عن فلان والله إني أراه مؤمنا، فقال النبي ﷺ أو مسلمًا فسكت قليلًا ثم غلبني ما أعلم منه فقلت يا رسول الله مالك عن فلان أني أراه مؤمنا فقال أو مسلمًا ثلاث مرات([2])، يعني ما بلغ لدرجة الإيمان، وهذه النصوص كلها تدل على أن مسمى الإيمان غير مسمى الإسلام.

وقال المؤلِّف: "وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: مَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَانْتَهَى عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ فَهَذَا صَحِيحٌ إذَا فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَيَكُونُ قَدْ اُسْتُكْمِلَ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ" هذا صحيح الذي يوحد الله ويخلص له العبادة وأدى الواجب وترك المحرمات، هذا استكمل الإيمان واستكمل الإسلام جميعا، لكن ليس كل أحد يستكمل الإيمان ويستكمل الإسلام، فالعاصي يستكمل الإسلام ولكن لم يستكمل الإيمان، ولهذا قال المؤلِّف رحمه الله: "وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ إيمَانُهُ وَإِسْلَامُهُ مُسَاوِيًا لِلْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ الَّذِي فَعَلَهُ أُولُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ كَالْخَلِيلِ إبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ" لأن الناس يتفاوتون في الإيمان والإسلام، قال: "بَلْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِمَّنْ لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِهِ."

يعني من كان معهم الإيمان والإسلام مالا يقدر عليه غيره، غيره من ليس كذلك، يعني معه من الإسلام والإيمان ما لا يؤمر عليه غيره ممن لم يؤمر بذلك،  يعنى فالإنسان مثلًا، يؤمر الإنسان بالزكاة إذا كان عنده مال، ويؤمر بالنفقة إذا كان عنده زوجة وأولاد، هذا ما أمر بذلك، هذا معه من الإسلام ما لم يكن عنده مال لم تجب عليه الزكاة، ومن لم تكن عنده زوجة لا يجب عليه النفقة، ولهذا قال المؤلِّف رحمه الله: :"بَلْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِمَّنْ لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِهِ."

(المتن)

"وَقَوْلُهُ: مَنْ تَرَكَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلَنْ يَزُولَ عَنْهُ اسم الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ إلَّا أَنَّهُ أَنْقَصُ مِنْ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ.

فَيُقَالُ: إنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ بَقِيَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ فَهَذَا حَقٌّ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ خِلَافًا لِلْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ بِلَا تَقْيِيدِ مُؤْمِنٍ وَمُسْلِمٍ فِي سِيَاقِ الثَّنَاءِ وَالْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ؛ فَهَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَدَخَلُوا فِي قَوْلِهِ: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [التوبة:72]  وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا وُعِدُوا فِيهِ بِالْجَنَّةِ بِلَا عَذَابٍ.

وَأَيْضًا: فَصَاحِبُ الشَّرْعِ قَدْ نَفَى عَنْهُمْ الِاسْمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بَلْ قَالَ: قِتَالُ الْمُؤْمِنِ كُفْرٌ([3]) وَقَالَ: لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ([4])

وَإِذَا احْتَجَّ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات:9] وَنَحْوِ ذَلِكَ قِيلَ: كُلُّ هَؤُلَاءِ إنَّمَا سُمُّوا بِهِ مَعَ التَّقْيِيدِ بِأَنَّهُمْ فَعَلُوا هَذِهِ الْأُمُورَ لِيُذْكَرَ مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ هُمْ وَمَا يُؤْمَرُ بِهِ غَيْرُهُمْ."

الشيخ

لا زال المؤلِّف رحمه الله يناقش محمد بن نصر المروزي، فيما نقله من النص الذي ذكره في كتابة تعظيم قدر الصلاة.

قال: "وَقَوْلُهُ: -يعني وقول محمد بن نصر المروزي- مَنْ تَرَكَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلَنْ يَزُولَ عَنْهُ اسم الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ إلَّا أَنَّهُ أَنْقَصُ مِنْ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ." يعني من ترك شيء من الواجبات أو فعل شيء من المحرمات لا يزول عنه اسم الإسلام ولا اسم الإيمان إلا أنه انقص من غيره، إن نقص إسلامه نقص إيمانه.

" فَيُقَالُ: إنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ بَقِيَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ فَهَذَا حَقٌّ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ خِلَافًا لِلْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ" الذين يرون أنه أذا ترك واجب أو فعل محرمًا زال عنه الإيمان والإسلام، بل لا يزول عنه الإيمان والإسلام بل يبقى معه، يبقى معه أصل الإيمان وأصل الإسلام، " وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ بِلَا تَقْيِيدِ مُؤْمِنٍ وَمُسْلِمٍ فِي سِيَاقِ الثَّنَاءِ وَالْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ؛ فَهَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ" فالمؤلِّف فسر هذا، إن أراد إذا من ترك شيء من الواجبات لا يزول عنه الإسلام والإيمان ولكن إن أراد أن بقي معه شيء من الإسلام والإيمان فهذا حق، وإن أراد أنه يطلق عليه الإيمان بلا تقييد، في سياق السنة والوعد بالجنة فهذا غير صحيح.

لا يطلق اسم الإيمان واسم الإسلام في سياق اكلام والوعد بالجنة إلا على المؤمن الذي أدى الواجبات وترك المحرمات.

ولهذا قال:" فَهَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَدَخَلُوا فِي قَوْلِهِ: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [التوبة:72]" لو كان ترك شيء من الواجبات، أو فعل شيء من المحرمات يطلق عليه اسم الإيمان لدخل في هذا الوعد، لكن لا يدخل في الوعد وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [التوبة:72]، ومن أرتكب كبيرة متوعد بالنار وهذا وعد بالجنة فكيف يكون متوعد بالنار ويدخل في الوعد بالجنة.

وقال المؤلِّف رحمه الله: "وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا وُعِدُوا فِيهِ بِالْجَنَّةِ بِلَا عَذَابٍ. وَأَيْضًا: فَصَاحِبُ الشَّرْعِ قَدْ نَفَى عَنْهُمْ الِاسْمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ" نفى عن 18:51  الذين ارتكبوا شيء من شعب الكفر نفى عنهم الإيمان وصفهم بالكفر، "بَلْ قَالَ: قِتَالُ الْمُؤْمِنِ كُفْرٌ وَقَالَ: لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ([5])" سمى هذا أعمال كفرية، والكفر لا يخرج من الإيمان ولكن الكفر دون كفر لا يخرج من الإيمان، وهذا يدل على أنه لا يطلق عليه اسم الأيمان، العاصي الذي يقتل أخاه ويتقاتلون لا يطلق عليه اسم الإيمان.

قال: "وَإِذَا احْتَجَّ –يعني محمد بن نصر المروزي- بِقَوْلِهِ: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات:9] وَنَحْوِ ذَلِكَ،" يعني وصفهم بالإيمان مع أنهم يقتتلون، والقتال كبيرة، "قِيلَ: كُلُّ هَؤُلَاءِ إنَّمَا سُمُّوا بِهِ مَعَ التَّقْيِيدِ بِأَنَّهُمْ فَعَلُوا هَذِهِ الْأُمُورَ لِيُذْكَرَ مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ هُمْ وَمَا يُؤْمَرُ بِهِ غَيْرُهُمْ." يعني أنما وصلوا بالإيمان إلى أن يخاطبهم، وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9]، وقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10] فهم وصفوا بالإيمان، مع التقييد بأنهم فعلوا هذه الأمور ليذكروا ما يأمرون به هم، وما يأمر به غيرهم، فهذه هي النقطة في مسمى الإيمان.

المتن

"وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَا يَكُونُ النُّقْصَانُ مِنْ إقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ حَقٌّ وَمَا قَالَهُ صِدْقٌ فَيُقَالُ: بَلْ النُّقْصَانُ يَكُونُ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقُلُوبِ مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ وَمَنْ عَلَّمَهُمْ فَلَا تَكُونُ مَعْرِفَتُهُمْ وَتَصْدِيقُهُمْ بِاَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَوَعْدٍ وَوَعِيدٍ كَمَعْرِفَةِ غَيْرِهِمْ وَتَصْدِيقِهِ؛ لَا مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الذِّكْرِ وَالْغَفْلَةِ وَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَبِمَا أَرْسَلَ بِهِ رَسُولَهُ وَكَيْفَ يَكُونُ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مُتَمَاثِلًا فِي الْقُلُوبِ أَمْ كَيْفَ يَكُونُ الْإِيمَانُ بِأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ عَزِيزٌ حَكِيمٌ شَدِيدُ الْعِقَابِ؛ لَيْسَ هُوَ مِنْ الْإِيمَانِ بِهِ فَلَا يُمْكِنُ مُسْلِمًا أَنْ يَقُولَ: إنَّ الْإِيمَانَ بِذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْإِيمَانِ بِهِ وَلَا يَدَّعِي تَمَاثُلَ النَّاسِ فِيهِ.

وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَنْقُصُ كَمَا يَنْقُصُ الْإِيمَانُ فَهَذَا أَيْضًا حَقٌّ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ؛ فإنَّ مَنْ نَقَصَ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ أَوْ الصَّوْمِ أَوْ الْحَجِّ شَيْئًا فَقَدْ نَقَصَ مِنْ إسْلَامِهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ.

وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْكَلِمَةُ فَقَطْ وَأَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ فَقَوْلُهُ خَطَأٌ.

وَرَدُّ الَّذِينَ جَعَلُوا الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ سَوَاءٌ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ إلَى هَؤُلَاءِ؛ فإنَّ قَوْلَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ يُشْبِهُ قَوْلَ الْمُرْجِئَةِ فِي الْإِيمَانِ."

الشيخ

المؤلِّف رحمه الله أيضًا لا يزال يرد على محمد بن نصر المروزي فيما نقله عنه، من كتاب تعظيم قدر الصلاة وتقليد أن الإسلام والإيمان شيء واحد، يقول: "وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ –يعني قول محمد بن نصر المروزي-: لَا يَكُونُ النُّقْصَانُ مِنْ إقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ حَقٌّ وَمَا قَالَهُ صِدْقٌ" يعني يقول النقصان ما يكون الإقرار واحد، هل يكون نقصان في إقرار الناس، بأنه حق وما قاله صدق، "فَيُقَالُ: بَلْ النُّقْصَانُ يَكُونُ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقُلُوبِ" لا يكون الإقرار.

قال: " بَلْ النُّقْصَانُ يَكُونُ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقُلُوبِ مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ وَمَنْ عَلَّمَهُمْ فَلَا تَكُونُ مَعْرِفَتُهُمْ وَتَصْدِيقُهُمْ بِاَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَوَعْدٍ وَوَعِيدٍ كَمَعْرِفَةِ غَيْرِهِمْ وَتَصْدِيقِهِ؛ لَا مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الذِّكْرِ وَالْغَفْلَةِ" يعني النقصان لا يكون من الإقرار كما ذكر محمد بن نصر، الإقرار إنما يكون في الإيمان الذي في القلوب المعرفة تختلف والعلم يختلف، فلا تكون المعرفة والتصديق سواء، ما قال من أسمائه وصفاته وما قاله من أمر ونهي ووعد ووعيد كمعرفة غيرهم وتصديقه، الناس يتفاوتون في المعرفة ويتفاوتون في التصديق، من جهة الإجمال ومن جهة التفصيل، ومن جهة القوة ومن جهة الضعف، ومن جهة الذُكر والغفلة، التذكر و الغفلة.

قال المؤلف رحمه الله: "كل َهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَبِمَا أَرْسَلَ بِهِ رَسُولَهُ" يعني هذه الأمور، يعني تفاوت الناس المعرفة و التصديق من جهة الإجمال والتفصيل والقوة والضعف والذُكر والغفلة، كلها داخلة في الإيمان بالله وبما أرسل به رسوله.

ثم بين المؤلِّف رحمه الله أن الإيمان لا يكون متماثل، متعجب قال: "وَكَيْفَ يَكُونُ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مُتَمَاثِلًا فِي الْقُلُوبِ" لا يمكن الإيمان ليس شيء واحد وما يستقر في القلوب شيء واحد، هذا الاكتساب بمعنى النفي بمعنى التعجب، وكيف يكون الإيمان بالله والأسماء والصفات متماثلة في القلوب،" أَمْ كَيْفَ يَكُونُ الْإِيمَانُ بِأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ عَزِيزٌ حَكِيمٌ شَدِيدُ الْعِقَابِ؛" ليس هو من الإيمان به؟ الإيمان بأن الله بكل شيء عليم والإيمان بأن الله على كل شيء قدير والإيمان بأن الله غفور رحيم والإيمان بأن الله عزيز حكيم، والإيمان بأن الله شديد العقاب، كل هذا من الإيمان بالله.

قال:" فلا يمكن لمسلم أن يقول: لَيْسَ هُوَ مِنْ الْإِيمَانِ بِهِ" وإن كان هذا إقرار، " فَلَا يُمْكِنُ مُسْلِمًا أَنْ يَقُولَ: إنَّ الْإِيمَانَ بِذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْإِيمَانِ بِهِ وَلَا يَدَّعِي تَمَاثُلَ النَّاسِ فِيهِ." يعني الناس لا يتماثلون فيها، وإن كانوا لا يتماثلون دل على الإسلام ليس شيء واحد، الإيمان يتفاوت في القلوب ولهذا قال: " فَلَا يُمْكِنُ مُسْلِمًا أَنْ يَقُولَ: إنَّ الْإِيمَانَ بِذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْإِيمَانِ بِهِ وَلَا يَدَّعِي تَمَاثُلَ النَّاسِ فِيهِ.".

ثم قال المؤلِّف رحمه الله: "وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ ، يعني محمد بن نصر المروزي، مِنْ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَنْقُصُ كَمَا يَنْقُصُ الْإِيمَانُ فَهَذَا أَيْضًا حَقٌّ" هذا وافق عليه، يعني الإسلام ينقص والإيمان ينقص، "كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ؛" على أن الإسلام ينقص والإيمان ينقص، فإذا فعل بعض الواجبات وترك بعض المحرمات، نقص إيمانه، ونقص إسلامه أيضًا.

قال: "فَإِنَّ مَنْ نَقَصَ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ أَوْ الصَّوْمِ أَوْ الْحَجِّ شَيْئًا فَقَدْ نَقَصَ مِنْ إسْلَامِهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْكَلِمَةُ فَقَطْ وَأَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ فَقَوْلُهُ خَطَأٌ." يعني من قال: الإسلام هو الكلمة ومقصوده النطق بالشهادتين، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، هذا يروى عن الإمام أحمد ويروى عن الإمام الزهري، أنه قال: الإسلام هو كلمة، ولكن ليس مراد الإمام الزهري الكلمة أن الإسلام أنه يكتب بالكلمة، لا، بل مراده أنه لو نطق بالشهادتين حكم بإسلامه، وليس مراده أن العمل ليس داخل في مسمى الإسلام، أمَّا من قال الإسلام هو الكلمة وأراد بذلك أنه يزيد ولا ينقص فقوله خطأ وهذا مثل قول المرجئة، الذين يقولون  إن الإيمان هو التصديق، من قال إن الإسلام هو كلمة وأراد أنه يزيد ولا ينقص قوله مثل قول المرجئة الذين قالوا: إن الإيمان هو التصديق، ولا يزيد ولا ينقص.

ولهذا قال المؤلِّف رحمه الله: "وَرَدُّ الَّذِينَ جَعَلُوا الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ سَوَاءٌ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ إلَى هَؤُلَاءِ؛" هؤلاء الذين يقولون أن الإسلام هو كلمة فقط ولا يزيد ولا ينقص، قال: "فَإِنَّ قَوْلَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ يُشْبِهُ قَوْلَ الْمُرْجِئَةِ فِي الْإِيمَانِ." الذين قالوا فإنَّ الإسلام هو الكلمة هو النطق بالشهادتين ولا يزيد ولا ينقص، يشبه قول المرجئة الذين قالوا الإسلام بالتصديق ولا يزيد ولا ينقص، وكلهم من أقوالهم بعض.

المتن:

"وَلِهَذَا صَارَ النَّاسُ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ " فَالْمُرْجِئَةُ يَقُولُونَ: الْإِسْلَامُ أَفْضَلُ؛ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِيمَانُ. وَآخَرُونَ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ سَوَاءٌ وَهُمْ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَحَكَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ عَنْ جُمْهُورِهِمْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ أَنَّ الْإِيمَانَ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ.

ثُمَّ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْإِسْلَامُ مُجَرَّدُ الْقَوْلِ وَالْأَعْمَالُ لَيْسَتْ مِنْ الْإِسْلَامِ.

وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ كُلُّهَا وَأَحْمَد إنَّمَا مَنَعَ الِاسْتِثْنَاءَ فِيهِ عَلَى قَوْلِ الزُّهْرِيِّ: هُوَ الْكَلِمَةُ. هَكَذَا نَقَلَ الْأَثْرَمُ وَالْمَيْمُونِيَّ وَغَيْرُهُمَا عَنْهُ. وَأَمَّا عَلَى جَوَابِهِ الْآخَرِ الَّذِي لَمْ يَخْتَرْ فِيهِ قَوْلَ مَنْ قَالَ: الْإِسْلَامُ الْكَلِمَةُ فَيُسْتَثْنَى فِي الْإِسْلَامِ كَمَا يُسْتَثْنَى فِي الْإِيمَانِ فإنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجْزِمُ بِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ كُلَّ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْإِسْلَامِ.

وَإِذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ([6]) و بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ([7]) فَجَزْمُهُ بِأَنَّهُ فِعْلُ الْخَمْسِ بِلَا نَقْصٍ كَمَا أُمِرَ كَجَزْمِهِ بِإِيمَانِهِ. فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أَيْ الْإِسْلَامِ كَافَّةً أَيْ فِي جَمِيعِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ.

الشرح:

فإن المؤلِّف رحمه الله بين فيما سبق أن الإسلام والإيمان ليس شيء واحدًا كما أقره الشيخ الإمام محمد بن نصر المروزي والبخاري رحمه الله، وإنما الإيمان والإسلام يجتمعان ويفترقان، فإذا أطلق أحدهما دخل فيه الأخر، وإذا اجتمعا فرض كل واحد منهما معنى، كما سبق غير مره، وبين المؤلِّف رحمه الله أقوال في هذا المقطع أقوال الناس في الإيمان والإسلام، وأنها ثلاث أقوال:

قول المرجئة الذين يقولون إن الإيمان هو التصدق، والإسلام هو العمل، وعلى ذلك يكون الإسلام أفضل لأنه أوسع، فالأيمان هو التصديق بالقلب والإسلام هو العمل، فيدخل الإيمان في الإسلام.

والقول الثاني، أن الإيمان والإسلام سواء وهذا قول طائفة من أهل السنة وقول بعض المعتزلة والسوالف.

وقول الثالث أن الإيمان أكمل وأفضل، وهذا هو الصواب الذي تدل عليه النصوص.

ولهذا قال المؤلِّف رحمه الله: "وَلِهَذَا صَارَ النَّاسُ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ " فَالْمُرْجِئَةُ يَقُولُونَ: الْإِسْلَامُ أَفْضَلُ؛" لماذا لأنهم جعلوا الإسلام هو العمل والإيمان هو التصديق بالقلب، فصار الإسلام أفضل.

قال: "فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِيمَانُ. وَآخَرُونَ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ سَوَاءٌ وَهُمْ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ" على رأسهم الإمام البخاري رحمه الله ومحمد بن نصر المروزي.

قال المؤلِّف رحمه الله: "وَحَكَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ عَنْ جُمْهُورِهِمْ" وجمهوره أهل السنة.

قال: "وَلَيْسَ كَذَلِكَ." يعنى الصواب أن جمهور أهل السنة يرون أن الإسلام والإيمان ليس سواء.

قال: "وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ أَنَّ الْإِيمَانَ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ" لماذا؟ لأن الإيمان أداء الواجبات وترك المحرمات، فإذا أدى الإنسان ما أوجب الله عليه من واجبات وانتهى عما حرمه الله  عليه ومن المحرمات، فإنه يكون مؤمنًا كامل الإيمان ويكون مسلمًا، أمَّا إذا قصر في بعض الواجبات وارتكب بعض المحرمات فإنه يسمى مسلم ولا يسمى مؤمن، بإطلاق، بل لابد من القيد يقال مؤمن ضعيف الإيمان مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، دل على أن الإيمان أفضل، أفضل من الإسلام، لأن الإسلام يطلق على العاصي، وأمَّا الإيمان لا يطلق على العاصي إلا بقيد، والقول الثالث أن الإيمان هو الأكمل وأفضل، "وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ." لأن الله تعالى وعد المؤمنين بالجنة وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [التوبة:72]، فدل على أنها أفضل، وأما الإسلام فأخبر أنه دينه الذي فرضه وأنه لا يقبل دين سواه وأنه لا يقبل من أحد دين سواه.

قال المؤلِّف رحمه الله: "ثُمَّ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْإِسْلَامُ مُجَرَّدُ الْقَوْلِ وَالْأَعْمَالُ لَيْسَتْ مِنْ الْإِسْلَامِ." يعنى هناك من يقول إن الإسلام مجرد القول، وهذا يروى عن الزهري، قال الإسلام هو الكلمة يعنى النطق بالشهادتين، يعني لو نطق بالشهادتين هذا هو الإسلام، لكن مراد الزهري رحمه الله أنه إذا نطق بالشهادتين حكم بإسلامه، والأعمال مطلوبة، أمَّا من قال إن الإسلام هو مجرد القول فقط فهذا قول غير صحيح.

ولهذا قال المؤلِّف رحمه الله: "ثُمَّ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْإِسْلَامُ مُجَرَّدُ الْقَوْلِ وَالْأَعْمَالُ لَيْسَتْ مِنْ الْإِسْلَامِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ كُلُّهَا وَأَحْمَد إنَّمَا مَنَعَ الِاسْتِثْنَاءَ فِيهِ عَلَى قَوْلِ الزُّهْرِيِّ: هُوَ الْكَلِمَةُ. هَكَذَا نَقَلَ الْأَثْرَمُ وَالْمَيْمُونِيَّ وَغَيْرُهُمَا عَنْهُ."  يعنى الإمام أحمد رحمه الله منع الاستثناء في الإسلام على قول الزهري، قول الزهري يقول الإسلام هو الكلمة والنطق بالشهادتين وعلى هذا فيقول الإنسان أنا مسلم إن شاء الله، إذا أريد بالكلمة، إذا أريد بالإسلام الكلمة فلتقل أنا مسلم إن شاء الله لأنك نطقت الشهادتين، كيف تستثنى من شيء نطقت به، أمَّا عن القول الأخر إن الإسلام يشمل الأعمال كلها فإنك تستثني فتقول أنا مسلم إن شاء الله، كما تقول أنا مؤمن إن شاء الله، والمعنى أن شرائع الإسلام كثيرة، وشرائع الإيمان كثيرة، ولا يجزم الإنسان بأنه أدى ما عليه ولا يزكي نفسه فلهذا يقول إن شاء الله يستثني، أمَّا لو أريد الإسلام بالكلمة فلا يستثني لأنه نطق بالكلمة، فلا يستثني بشيء تكلم به.

ولهذا قال المؤلِّف رحمه الله: " وَأَحْمَد – الإمام أحمد- إنَّمَا مَنَعَ الِاسْتِثْنَاءَ فِيهِ عَلَى قَوْلِ الزُّهْرِيِّ: هُوَ الْكَلِمَةُ. هَكَذَا نَقَلَ الْأَثْرَمُ وَالْمَيْمُونِيَّ وَغَيْرُهُمَا عَنْهُ.

وَأَمَّا عَلَى جَوَابِهِ الْآخَرِ الَّذِي لَمْ يَخْتَرْ فِيهِ قَوْلَ مَنْ قَالَ: الْإِسْلَامُ الْكَلِمَةُ فَيُسْتَثْنَى فِي الْإِسْلَامِ كَمَا يُسْتَثْنَى فِي الْإِيمَانِ".

فيقول أنا مسلم إن شاء الله، ويقول أنا مؤمن إن شاء الله، وجه ذلك "فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجْزِمُ بِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ كُلَّ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْإِسْلَامِ." لا يجزم الإنسان بأنه أدى كل ما عليه، قصر في الواجبات، قصر في الصلاة، قد يلحقها نقص، يلحقها غفلة، يحصل تقصير في أداء الزكاة، يحصل تقصير في الحج، يحصل تقصير في بر الوالدين، يحصل تقصير في صلة الرحم، ما يجزم الإنسان بأنه أدى ما عليه، ولهذا يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، إن شاء الله ويؤدي ما عليه من الأعمال، ويقول أنا مسلم إن شاء الله، قال: " فإنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجْزِمُ بِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ كُلَّ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْإِسْلَامِ. وَإِذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ([8]) وقال بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ ([9])فَجَزْمُهُ بِأَنَّهُ فِعْلُ الْخَمْسِ بِلَا نَقْصٍ كَمَا أُمِرَ كَجَزْمِهِ بِإِيمَانِهِ." يعني ما يستطيع الإنسان أن يجزم بأنه أدى الأركان الخمسة كلها ولا أن ينقص منها شيء، الشهادتان، والصلاة والزكاة والصيام والحج، كذلك لا يجزم الإنسان بأنه أدى شرائع الإيمان كلها.

فقد قال المؤلِّف رحمه الله: "فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أَيْ الْإِسْلَامِ كَافَّةً أَيْ فِي جَمِيعِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ." ولا بد أن يلحقه نقص في شرائع الإسلام فلهذا يستثني فيقول: أنا مسلم إن شاء الله.

المتن

وَتَعْلِيلُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ مَا ذَكَرُوهُ فِي اسم الْإِيمَانِ يَجِيءُ فِي اسم الْإِسْلَامِ فَإِذَا أُرِيدَ بِالْإِسْلَامِ الْكَلِمَةُ فَلَا اسْتِثْنَاءَ فِيهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ مِنْ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ كُلِّهَا فَالِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ كَالِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ وَلَمَّا كَانَ كُلُّ مَنْ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ صَارَ مُسْلِمًا مُتَمَيِّزًا عَنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ الَّتِي تَجْرِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَانَ هَذَا مِمَّا يَجْزِمُ بِهِ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ فِيهِ فَلِهَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ: الْإِسْلَامُ الْكَلِمَةُ. وَعَلَى ذَلِكَ وَافَقَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَحِينَ وَافَقَهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّ الْإِسْلَامَ الْوَاجِبَ هُوَ الْكَلِمَةُ وَحْدَهَا فإنَّ الزُّهْرِيَّ أَجَلُّ مَنْ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا أَحْمَد لَمْ يُجِبْ بِهَذَا فِي جَوَابِهِ الثَّانِي خَوْفًا مِنْ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ هُوَ إلَّا الْكَلِمَةَ؛ وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ الْأَثْرَمُ لِأَحْمَدَ: فَإِذَا قَالَ: أَنَا مُسْلِمٌ فَلَا يَسْتَثْنِي؟ قَالَ نَعَمْ: لَا يَسْتَثْنِي إذَا قَالَ: أَنَا مُسْلِمٌ. فَقُلْت لَهُ أَقُولُ: هَذَا مُسْلِمٌ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ([10]) وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ النَّاسُ مِنْهُ فَذَكَرَ حَدِيثَ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ.

قَالَ: فَنَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الْكَلِمَةُ وَالْإِيمَانَ الْعَمَلُ. فَبَيَّنَ أَحْمَد أَنَّ الْإِسْلَامَ إذَا كَانَ هُوَ الْكَلِمَةَ فَلَا اسْتِثْنَاءَ فِيهَا فَحَيْثُ كَانَ هُوَ الْمَفْهُومَ مِنْ لَفْظِ الْإِسْلَامِ فَلَا اسْتِثْنَاءَ فِيهِ وَلَوْ أُرِيدَ بِالْإِيمَانِ هَذَا كَمَا يُرَادُ ذَلِكَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَإِنَّمَا أُرِيدَ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ فإنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي عُلِّقَتْ بِهِ أَحْكَامُ الدُّنْيَا هُوَ الْإِيمَانُ الظَّاهِرُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ فَالْمُسَمَّى وَاحِدٌ فِي الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ. وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ الْأَثْرَمُ لِأَحْمَدَ احْتِجَاجَ الْمُرْجِئَةِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ([11]) أَجَابَهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ حُكْمُهَا فِي الدُّنْيَا حُكْمُ الْمُؤْمِنَةِ؛ لَمْ يُرِدْ أَنَّهَا مُؤْمِنَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَسْتَحِقُّ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِلَا نَارٍ إذَا لَقِيته بِمُجَرَّدِ هَذَا الْإِقْرَارِ وَهَذَا هُوَ الْمُؤْمِنُ الْمُطْلَقُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَهُوَ الْمَوْعُودُ بِالْجَنَّةِ بِلَا نَارٍ إذَا مَاتَ عَلَى إيمَانِهِ وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ يُلْزِمُونَ مَنْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِالْإِيمَانِ أَنْ يَشْهَدَ لَهَا بِالْجَنَّةِ؛ يَعْنُونَ إذَا مَاتَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ عَرَفَ أَنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا مَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا.

الشيخ:

المؤلِّف رحمه الله يُبَيِّن أنه يستثنى في الإسلام ويستثنى في الإيمان وذلك أن التعليل الذي علل به الإسلام في الإيمان يعلل به في الإسلام، فإنَّ التعليل الذي علل به الإسلام في الإيمان أن شرائع الإيمان متعددة ولا يجزم الإنسان أنه أدى ما عليه فلذلك يستثني، وكذلك الإسلام شرائعه متعددة فلا يجزم الإنسان بأنه أدى ما عليه، فلذلك يستثنى.

ولذلك قال المؤلِّف رحمه الله: "وَتَعْلِيلُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ على مَا ذَكَرُوهُ فِي اسم الْإِيمَانِ يَجِيءُ فِي اسم الْإِسْلَامِ" لكن إذا أريد بالإسلام الكلمة وهي النطق بالشهادتين ما يكون استثناء، إذا قال: على مراد الزهري المراد بالإسلام الكلمة النطق  بالهادتين هذا ما فيه استثنى، لأن إذا نطق بالشهادتين لا يقول أنا مسلم إن شاء الله يعنى لو نطق بالشهادتين إن شاء الله فقد نطق بها.

ولهذا قال المؤلِّف رحمه الله: "فَإِذَا أُرِيدَ بِالْإِسْلَامِ الْكَلِمَةُ فَلَا اسْتِثْنَاءَ فِيهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ مِنْ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ كُلِّهَا فَالِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ كَالِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ" يعنى إذا أراد بالإسلام أنه فعل الواجبات فيستثني يقول: أنا مسلم إن شاء الله، كما أنه إذا أراد بالإيمان الواجبات كلها يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أمَّا أراد بالإسلام الكلمة والنطق بالشهادتين فلا يستثني، كما أن المرجئة حينما قالوا إن الإيمان هو التصديق فلا يستثنون، المرجئة يقولون الإيمان هو التصديق بالقلب، ولهذا يبدعون بالاستثناء ويشددون في هذا، ويقولون من استثنى فقد شك في إيمانه، ويسمونهم أهل السنة الشكاكة، يقولون: أتعلم من نفسك أنك مؤمن، كما تعلم أنك تحب الرسول، وكما تعلم أنك تبغض اليهود، فكيف تستثني والجواب أن الاستثناء إنما هو راجع إلى نحن نخالفهم في مسمى الإيمان، هم يقولون أن مسمى الإيمان التصديق ونحن نقول مسمى الإيمان جميع الواجبات، وترك جميع المحرمات، ولذلك نستثني.

ولذلك قال المؤلِّف رحمه الله: "وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ مِنْ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ كُلِّهَا فَالِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ كَالِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ وَلَمَّا كَانَ كُلُّ مَنْ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ صَارَ مُسْلِمًا مُتَمَيِّزًا عَنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ الَّتِي تَجْرِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَانَ هَذَا مِمَّا يَجْزِمُ بِهِ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ فِيهِ" يعني إذا وجب في الإسلام النطق بالشهادتين، إذا نطق الإنسان بالشهادتين صار متميز عن اليهود والنصارى، وجرت عليه أحكام الإسلام التي تجري على المسلمين، وعلى هذا فلا يستثني.

قال: "فَلِهَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ: الْإِسْلَامُ الْكَلِمَةُ. وَعَلَى ذَلِكَ وَافَقَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ يعني في إحدى الروايات، وَحِينَ وَافَقَهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّ الْإِسْلَامَ الْوَاجِبَ هُوَ الْكَلِمَةُ وَحْدَهَا فإنَّ الزُّهْرِيَّ أجل من أن يخفى عليه ذلك" يعني الزهري حينما قال الإسلام هو كلمة، لا يريد أنه لا يجب على الإنسان إلا النطق بالشهادتين، الزهري إمام أجل من أن يخفى عليه ذلك، لكن مقصود الزهري، أن الكافر إذا نطق بالشهادتين حُكم بإسلامه، وجبت عليه أحكام الإسلام، وليس مراده أنه لا تجب عليه الواجبات، لأن الواجبات ليست داخله في مسمى الإسلام.

قال المؤلِّف رحمه الله: " وَلِهَذَا أَحْمَد لَمْ يُجِبْ بِهَذَا فِي جَوَابِهِ الثَّانِي خَوْفًا مِنْ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ هُوَ إلَّا الْكَلِمَةَ؛" الإمام أحمد له أجوبه، أحد أجوبته الإسلام كلمة، والجواب الثاني لم يقل كلمة خوفًا من أن يظن أن الإسلام خاص بالكلمة.

قال المؤلف رحمه الله: "وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ الْأَثْرَمُ لِأَحْمَدَ: فَإِذَا قَالَ: أَنَا مُسْلِمٌ فَلَا يَسْتَثْنِي؟ قَالَ نَعَمْ: لَا يَسْتَثْنِي إذَا قَالَ: أَنَا مُسْلِمٌ. فَقُلْت لَهُ أَقُولُ: هَذَا مُسْلِمٌ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ([12]) وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ النَّاسُ مِنْهُ فَذَكَرَ حَدِيثَ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: فَنَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الْكَلِمَةُ وَالْإِيمَانَ الْعَمَلُ." يعني على هذا القول لا يستثني.

قال المؤلِّف رحمه الله: "فَبَيَّنَ أَحْمَد أَنَّ الْإِسْلَامَ إذَا كَانَ هُوَ الْكَلِمَةَ فَلَا اسْتِثْنَاءَ فِيهَا" وإذا كان العمل داخل فيه فيستثني، قال المؤلِّف رحمه الله:" فَحَيْثُ كَانَ هُوَ الْمَفْهُومَ مِنْ لَفْظِ الْإِسْلَامِ فَلَا اسْتِثْنَاءَ فِيهِ وَلَوْ أُرِيدَ بِالْإِيمَانِ هَذَا كَمَا يُرَادُ ذَلِكَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ[النساء:92] فَإِنَّمَا أُرِيدَ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ فإنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي عُلِّقَتْ بِهِ أَحْكَامُ الدُّنْيَا هُوَ الْإِيمَانُ الظَّاهِرُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ فَالْمُسَمَّى وَاحِدٌ فِي الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ." المعنى أنه إذا وجد بالإسلام الكلمة فلا استثناء وإذا ولد بالإيمان كذلك هذا كما في قوله: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ[النساء:92]، يراد به الإسلام الظاهر والإيمان الظاهر، فيكون المسمى واحد، مسمى الإيمان ومسمى الإسلام واحد وهي الأحكام الظاهرة، على هذا القول.

قال "وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ الْأَثْرَمُ لِأَحْمَدَ احْتِجَاجَ الْمُرْجِئَةِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ([13])" يعني الجارية ...، جاءت النبي ﷺ لما أراد أن يعتقها سيدها قال: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ.

المرجئة يقولون هذا دليل على أن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان، "أَجَابَهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ حُكْمُهَا فِي الدُّنْيَا حُكْمُ الْمُؤْمِنَةِ؛ لَمْ يُرِدْ أَنَّهَا مُؤْمِنَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَسْتَحِقُّ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِلَا نَارٍ إذَا لَقِيته بِمُجَرَّدِ هَذَا القول إذ لابد من العمل، وَهَذَا هُوَ الْمُؤْمِنُ الْمُطْلَقُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَهُوَ الْمَوْعُودُ بِالْجَنَّةِ بِلَا نَارٍ إذَا مَاتَ عَلَى إيمَانِهِ " المؤمن المطلق هو الذي يؤدي الواجبات ويبتعد عن المحرمات، هذا هو المؤمن الموعود بالجنة والمبعد عن النار.

"وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ يُلْزِمُونَ مَنْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِالْإِيمَانِ أَنْ يَشْهَدَ لَهَا بِالْجَنَّةِ؛" كان ابن مسعود وغيره يقولون من يشهد على أنه مؤمن نقول: اشهد على نفسك أنك في الجنة لأن كل مؤمن في الجنة، فالإنسان لا يجزم ولا يزكي نفسه ولهذا النبي شهد بالجنة للجماعة العشرة المبشرين بالجنة، لو كان كل واحد يشهد له بالجنة، لم يكن هناك فائدة من شهادة النبي ﷺ للعشرة المبشرين بالجنة، ولأهل بدر، ولأهل بيعة الرضوان، " وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ يُلْزِمُونَ مَنْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِالْإِيمَانِ أَنْ يَشْهَدَ لَهَا بِالْجَنَّةِ؛ يَعْنُونَ إذَا مَاتَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ عَرَفَ أَنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا مَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا.

المتن

" فَإِذَا قَالَ الْإِنْسَانُ: أَنَا مُؤْمِنٌ قَطْعًا وَأَنَا مُؤْمِنٌ عِنْدَ اللَّهِ. قِيلَ لَهُ: فَاقْطَعْ بِأَنَّك تَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِلَا عَذَابٍ إذَا مُتّ عَلَى هَذَا الْحَالِ فإنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ.

وَأَنْكَرَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ حَدِيثَ ابْنِ عَمِيرَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَجَعَ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ؛ فإنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمَّا قِيلَ لَهُ: إنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ: إنَّا مُؤْمِنُونَ فَقَالَ: أَفَلَا سَأَلْتُمُوهُمْ أَفِي الْجَنَّةِ هُمْ؟ وَفِي رِوَايَةٍ: أَفَلَا قَالُوا: نَحْنُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ قِيلَ لَهُ: إنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ؛ قَالَ: فَاسْأَلُوهُ أَفِي الْجَنَّةِ هُوَ أَوْ فِي النَّارِ؟ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: فَهَلَّا وَكَلْت الْأُولَى كَمَا وَكَلْت الثَّانِيَةَ؟ مَنْ قَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَمَنْ قَالَ: أَنَا عَالِمٌ فَهُوَ جَاهِلٌ وَمَنْ قَالَ: هُوَ فِي الْجَنَّةِ فَهُوَ فِي النَّارِ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ وُجُوهٍ مُرْسَلًا مِنْ حَدِيثِ قتادة وَنُعَيْمِ ابْنِ أَبِي هِنْدٍ وَغَيْرِهِمَا."

الشيخ:

المؤلِّف رحمه الله يُبَيِّن أنه لا ينبغي للإنسان أن يزكي نفسه، ويجزم بأنه مؤمن، بل هنا لابد من الاستثناء فلا يقل أنا مؤمن ويسكت، بل يقول أنا مؤمن إن شاء الله، لأن الإنسان لا يزكي نفسه ولا يجزم بأنه أدى ما أوجب الله عليه، بل الإنسان يدري على نفسه ويعترف بالتقصير أنه مقصر، يلحقه في الواجبات نقص في صلاته وزكاته وحجه وبر الوالدين ومعاملة الناس لابد أن يحصل نقص، فكيف يجزم الإنسان أنه أدى عليه؟ وأنكر السلف الجزم بالإيمان بدون استثناء.

ولهذا قال المؤلِّف رحمه الله: " فَإِذَا قَالَ الْإِنْسَانُ: أَنَا مُؤْمِنٌ قَطْعًا وَأَنَا مُؤْمِنٌ عِنْدَ اللَّهِ. قِيلَ لَهُ: فَاقْطَعْ بِأَنَّك تَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِلَا عَذَابٍ إذَا مُتّ عَلَى هَذَا الْحَالِ" وجه ذلك قال: "فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ." إذا قلت أنا مؤمن وتجزم بأنك مؤمن، إذًا أشهد على نفسك أنك في الجنة، لأن الجنة لا يدخلها إلا المؤمنون.

قال: " وَأَنْكَرَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ حَدِيثَ ابْنِ عَمِيرَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَجَعَ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ؛" يعني عبد الله بن مسعود رجع عن الاستثناء وقال: لا استثنني قال: أنكر الاستثناء، قال: ليس بصحيح، قال: بل عبد الله بن مسعود لا يزال يستحي، قال: "فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمَّا قِيلَ لَهُ: إنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ: إنَّا مُؤْمِنُونَ فَقَالَ: أَفَلَا سَأَلْتُمُوهُمْ أَفِي الْجَنَّةِ هُمْ؟" لأن الجنة لا يدخلها إلا المؤمنون، "وَفِي رِوَايَةٍ: أَفَلَا قَالُوا: نَحْنُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ قِيلَ لَهُ: إنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ؛ قَالَ: فَاسْأَلُوهُ أَفِي الْجَنَّةِ هُوَ أَوْ فِي النَّارِ؟ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: فَهَلَّا وَكَلْت الْأُولَى كَمَا وَكَلْت الثَّانِيَةَ؟" وكلت الأولى يعنى قلت أنا مؤمن، هلا وكلتها إلى الله وقلت إن شاء الله، كذلك وكلت الثانية، الأولى تقول أنا مؤمن، ما وكلتها إلى الله، والثانية لما قيل أنت في الجنة قلت الله أعلم: عليك أن تكل الجملة الأولى كما تكل الجملة الثانية، فتقول: أنا مؤمن إن شاء الله.

ثم قال: " مَنْ قَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَمَنْ قَالَ: أَنَا عَالِمٌ فَهُوَ جَاهِلٌ وَمَنْ قَالَ: هُوَ فِي الْجَنَّةِ فَهُوَ فِي النَّارِ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ وُجُوهٍ مُرْسَلًا مِنْ حَدِيثِ قتادة وَنُعَيْمِ ابْنِ أَبِي هِنْدٍ وَغَيْرِهِمَا([14])." يعني أنه يخشى عليه يخشى على من يزكي نفسه.

المتن:

"وَالسُّؤَالُ الَّذِي تُورِدُهُ الْمُرْجِئَةُ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ وَيَقُولُونَ: إنَّ يَزِيدَ بْنَ عَمِيرَةَ أَوْرَدَهُ عَلَيْهِ حَتَّى رَجَعَ جَعَلَ هَذَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَعْلَمُ حَالَهُ الْآنَ وَمَا يَدْرِي مَاذَا يَمُوتُ عَلَيْهِ وَلِهَذَا السُّؤَالِ صَارَ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ يَقُولُونَ: الْمُؤْمِنُ هُوَ مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يُخْتَمُ لَهُ بِالْإِيمَانِ وَالْكَافِرُ مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ كَافِرٌ وَأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا يَجْعَلُونَ الِاسْتِثْنَاءَ وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ النَّاسِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ وَأَصْحَابِهِ. وَلَكِنَّ أَحْمَد وَغَيْرَهُ مِنْ السَّلَفِ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَقْصُودَهُمْ وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ يَتَضَمَّنُ فِعْلَ الْمَأْمُورَاتِ.

فَقَوْلُهُ: أَنَا مُؤْمِنٌ. كَقَوْلِهِ: أَنَا وَلِيُّ اللَّهِ وَأَنَا مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَأَنَا مِنْ الْأَبْرَارِ وَنَحْوَ ذَلِكَ.

وَابْنُ مَسْعُودٍ لَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّ الْجَنَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا لِمَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا وَأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْلَمُ عَلَى مَاذَا يَمُوتُ فإنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَجَلُّ قَدْرًا مِنْ هَذَا وَإِنَّمَا أَرَادَ: سَلُوهُ هَلْ هُوَ فِي الْجَنَّةِ إنْ مَاتَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ؟ كَأَنَّهُ قَالَ: سَلُوهُ أَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ؟ فَلَمَّا قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: أَفَلَا وَكَلْت الْأُولَى كَمَا وَكَلْت الثَّانِيَةَ. يَقُولُ: هَذَا التَّوَقُّفُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّك لَا تَشْهَدُ لِنَفْسِك بِفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ. فَإِنَّهُ مَنْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ شَهِدَ لِنَفْسِهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ وَلِهَذَا صَارَ الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ الِاسْتِثْنَاءَ لِأَجْلِ الْحَالِ الْحَاضِرِ بَلْ لِلْمُوَافَاةِ لَا يَقْطَعُونَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ تَائِبٍ كَمَا لَا يَقْطَعُونَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَاقِبُ مُذْنِبًا فَإِنَّهُمْ لَوْ قَطَعُوا بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ لَزِمَهُمْ أَنْ يَقْطَعُوا لَهُ الْجَنَّةَ وَهُمْ لَا يَقْطَعُونَ لِأَحَدِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لَا بِجَنَّةِ وَلَا نَارٍ؛ إلَّا مَنْ قَطَعَ لَهُ النَّصُّ."

الشيخ:

المؤلِّف رحمه الله يُبَيِّن في هذا أن الصواب في هذه المسألة أن الإنسان عليه أن يستثني في الإيمان والإسلام، فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ومن جزم بأنه مؤمن وقطع على نفسه بالإيمان ولم يستثني فإنَّ هذا مخالف لقول السلف، لأنه من باب التزكية للنفس.

ويقول المؤلِّف: " وَالسُّؤَالُ الَّذِي تُورِدُهُ الْمُرْجِئَةُ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ وَيَقُولُونَ: إنَّ يَزِيدَ بْنَ عَمِيرَةَ أَوْرَدَهُ عَلَيْهِ حَتَّى رَجَعَ جَعَلَ هَذَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَعْلَمُ حَالَهُ الْآنَ وَمَا يَدْرِي مَاذَا يَمُوتُ عَلَيْهِ" يعني السؤال الذي يقوله المرجئة عن بن مسعود يقول: حينما يقول: أنا مؤمن إن شاء الله معناه جعل الإنسان يعلم حاله، لكن ما يدري ماذا يموت عليه، هل يموت على الإيمان ولا على غير الإيمان.

قال المؤلِّف: "وَلِهَذَا السُّؤَالِ صَارَ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ يَقُولُونَ: الْمُؤْمِنُ هُوَ مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يُخْتَمُ لَهُ بِالْإِيمَانِ وَالْكَافِرُ مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ كَافِرٌ" يعني يقولون العبرة بموافاة ربه فإذا وافى ربه مؤمن فهذا هو المؤمن عند الله، وإذا وافى ربه كافر فهو كافر، وعلى ذلك يقولون قد يعيش الإنسان في الدنيا وهو مؤمن، وهو كافر عند الله، ويعيش في الدنيا كافر وهو مؤمن عند الله، لأن العبرة بموافاته يقولون، بموافاته ربه.

قال المؤلف رحمه الله "وَلِهَذَا السُّؤَالِ صَارَ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ يَقُولُونَ: الْمُؤْمِنُ هُوَ مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يُخْتَمُ لَهُ بِالْإِيمَانِ وَالْكَافِرُ مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ كَافِرٌ وَأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا يَجْعَلُونَ الِاسْتِثْنَاءَ" والاستثناء يجعلون من أجل أن الإيمان والكفر عند الله حسب موافاة الإنسان، حين يموت ويواتي ربه.

قال: " وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ النَّاسِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ وَأَصْحَابِهِ." إنما الاستثناء من أجل الموافاة، قال: "وَلَكِنَّ أَحْمَد وَغَيْرَهُ مِنْ السَّلَفِ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَقْصُودَهُمْ" يعنى الصواب في هذه المسألة أن الاستثناء إنما يرجع إلى شرائع الإيمان، وأن الإيمان واجبات متعددة ومحرمات، فيفعل الإنسان الواجبات ويتقي المحرمات، ويجزم الإنسان بأنه أدى ما عليه فلهذا يستثني هو الصواب، وليس المراد أن الاستثناء أن الإنسان لا يعلم ما يوافي به ربه، قال ولكن أحمد وغيره من السلف: "لم يكن هذا مقصودهم وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ –يعني الإيمان الكامل الذي أدى فيه الواجبات- يَتَضَمَّنُ فِعْلَ الْمَأْمُورَاتِ. فَقَوْلُهُ: أَنَا مُؤْمِنٌ. كَقَوْلِهِ: أَنَا وَلِيُّ اللَّهِ وَأَنَا مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَأَنَا مِنْ الْأَبْرَارِ" المؤمن هو الولي وهو التقي، وهو البر فإذا قال أنا مؤمن فكأنه قال أنا ولي الله أنا مؤمن أنا تقي وهل يزكي الإنسان نفسه؟

قال: " وَابْنُ مَسْعُودٍ لَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّ الْجَنَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا لِمَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا وَأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْلَمُ عَلَى مَاذَا يَمُوتُ فإنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَجَلُّ قَدْرًا مِنْ هَذَا وَإِنَّمَا أَرَادَ: سَلُوهُ هَلْ هُوَ فِي الْجَنَّةِ إنْ مَاتَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ؟ كَأَنَّهُ قَالَ: سَلُوهُ أَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ؟ فَلَمَّا قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: أَفَلَا وَكَلْت الْأُولَى كَمَا وَكَلْت الثَّانِيَةَ. يَقُولُ: هَذَا التَّوَقُّفُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّك لَا تَشْهَدُ لِنَفْسِك بِفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ." لما قال سلوه هل هو في الجنة ولا هو في النار قال الله أعلم، قال: توقف، هذا التوقف يشهد على نفسك أنك مثال الواجبات وترك المحرمات، "فَإِنَّهُ مَنْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ شَهِدَ لِنَفْسِهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ.

قال المؤلف رحمه الله: "وَلِهَذَا صَارَ الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ الِاسْتِثْنَاءَ لِأَجْلِ الْحَالِ الْحَاضِرِ بَلْ لِلْمُوَافَاةِ لَا يَقْطَعُونَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ تَائِبٍ كَمَا لَا يَقْطَعُونَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَاقِبُ مُذْنِبًا، لأنه يقول ما ندري هل يقبل الله توبة التائب، والصواب أنه لا يقبل توبة التائب إلا إذا كانت توبةً نصوح، فقال الله تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8]، قال إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53]، فكون أنهم يقولوا أن الله يقطع توبة التائب هذا خطأ منهم، بل توبة التائب مقطوع بأنها مقبولة إذا وجدت الشروط، فالإخلاص لله ، والإقلاع عن المعصية، وندم على ما مضى وعزم على ألا يعود إليها، ورد المظلمة إلى أهلها وكانت قبل الموت، وقبل طلوع الشمس من مغربها، فهي مقبولة، لكن هؤلاء لا يقطعون بأن الله  يقبل توبة التائب، كما لا يقطعون أن الله كان يعاقب مذنبًا، "فَإِنَّهُمْ لَوْ قَطَعُوا بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ لَزِمَهُمْ أَنْ يَقْطَعُوا لَهُ الْجَنَّةَ وَهُمْ لَا يَقْطَعُونَ لِأَحَدِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لَا بِجَنَّةِ وَلَا نَارٍ؛ إلَّا مَنْ قَطَعَ لَهُ النَّصُّ." يعني إلا من شهد لهم النبي ﷺ كالعشرة المبشرين بالجنة والحسن والحسين وغيرهم ما شهد لهم النبي بالجنة.

المتن:

"وَإِذَا قِيلَ: الْجَنَّةُ هِيَ لِمَنْ أَتَى بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ مِنْ جَمِيعِ السَّيِّئَاتِ.

قَالُوا: وَلَوْ مَاتَ عَلَى هَذِهِ التَّوْبَةِ لَمْ يُقْطَعْ لَهُ بِالْجَنَّةِ وَهُمْ لَا يَسْتَثْنُونَ فِي الْأَحْوَالِ بَلْ يَجْزِمُونَ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ مُؤْمِنٌ تَامُّ الْإِيمَانِ وَلَكِنَّ عِنْدَهُمْ الْإِيمَانَ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ مَا يُوَافِي بِهِ فَمَنْ قَطَعُوا لَهُ بِأَنَّهُ مَاتَ مُؤْمِنًا لَا ذَنْبَ لَهُ قَطَعُوا لَهُ بِالْجَنَّةِ فَلِهَذَا لَا يَقْطَعُونَ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ لِئَلَّا يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَقْطَعُوا بِالْجَنَّةِ وَأَمَّا أَئِمَّةُ السَّلَفِ فَإِنَّمَا لَمْ يَقْطَعُوا بِالْجَنَّةِ لِأَنَّهُمْ لَا يَقْطَعُونَ بِأَنَّهُ فَعَلَ الْمَأْمُورَ وَتَرَكَ الْمَحْظُورَ وَلَا أَنَّهُ أَتَى بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَإِلَّا فَهُمْ يَقْطَعُونَ بِأَنَّ مَنْ تَابَ تَوْبَةً نَصُوحًا قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ.

وَجِمَاعُ الْأَمْرِ أَنَّ الِاسْمَ الْوَاحِدَ يُنْفَى وَيُثْبَتُ بِحَسَبِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ فَلَا يَجِبُ إذَا أُثْبِتَ أَوْ نُفِيَ فِي حُكْمِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ وَهَذَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَسَائِرِ الْأُمَمِ لِأَنَّ الْمَعْنَى مَفْهُومٌ.

مِثَالُ ذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ قَدْ يُجْعَلُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَوْضِعٍ؛ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ يُقَالُ: مَا هُمْ مِنْهُمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إلَّا قَلِيلًا ۝ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [الأحزاب:18،19] فَهُنَالِكَ جَعَلَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الْخَائِفِينَ مِنْ الْعَدُوِّ النَّاكِلِينَ عَنْ الْجِهَادِ النَّاهِينَ لِغَيْرِهِمْ الذَّامِّينَ لِلْمُؤْمِنِينَ: مِنْهُمْ.

وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ۝ ​​​​​​​لَوْ يَجِدُونَ مَلْجًَا أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ [التوبة:56،57] وَهَؤُلَاءِ ذَنْبُهُمْ أَخَفُّ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُؤْذُوا الْمُؤْمِنِينَ لَا بِنَهْيٍ وَلَا سَلْقٍ بِأَلْسِنَةِ حِدَادٍ وَلَكِنْ حَلَفُوا بِاَللَّهِ إنَّهُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْبَاطِنِ بِقُلُوبِهِمْ وَإِلَّا فَقَدْ عَلِمَ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّهُمْ مِنْهُمْ فِي الظَّاهِرِ فَكَذَّبَهُمْ اللَّهُ وَقَالَ: وَمَا هُمْ مِنْكُمْ [التوبة:56] وَهُنَاكَ قَالَ: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ [التوبة:57] فَالْخِطَابُ لِمَنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا وَلَيْسَ مُؤْمِنًا بِأَنَّ مِنْكُمْ مَنْ هُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَلَيْسَ مُؤْمِنًا بَلْ أَحْبَطَ اللَّهُ عَمَلَهُ فَهُوَ مِنْكُمْ فِي الظَّاهِرِ لَا الْبَاطِنِ.

وَلِهَذَا لَمَّا اُسْتُؤْذِنَ النَّبِيُّ ﷺ فِي قَتْلِ بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ قَالَ: لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ([15]) فَإِنَّهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي الظَّاهِرِ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُ حَقَائِقَ الْأُمُورِ وَأَصْحَابَهُ الَّذِينَ هُمْ أَصْحَابُهُ لَيْسَ فِيهِمْ نِفَاقٌ كَاَلَّذِينَ عَلَّمُوا سُنَّتَهُ النَّاسَ وَبَلَّغُوهَا إلَيْهِمْ وَقَاتَلُوا الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَاَلَّذِينَ بَايَعُوهُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَأَهْلُ بَدْرٍ وَغَيْرُهُمْ بَلْ الَّذِينَ كَانُوا مُنَافِقِينَ غَمَرَتْهُمْ النَّاسُ.

الشرح:

فإن المؤلِّف رحمه الله شيخ الإسلام ابن تيمية قرر فيما سبق أن مذهب أهل السنة والجماعة هو الاستثناء في الإيمان، وهو أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وهذا الاستثناء، راجع إلى شرائع الإيمان وخصال الإيمان، والواجبات، فالإنسان لا يلزم بأنه أدى عليه، ولا يزكي نفسه بل الأعمال يحدث فيها تقصير، ولهذا يستثني ويقول أنا مؤمن إن شاء الله، وهو الصواب.

وهناك طائفة من الناس يستثنون في الإيمان لكن مقصودهم شيء أخر، مقصودهم أن الإيمان لا يدري ما يوافي به ربه، قال: الإيمان هو ما يوافي به الإنسان ربه، ومع ذلك يقولون: لا نقطع بأن الله يقبل توبة التائب، ولا نقطع بأن الله يعاقب مذنبًا، وهذا خطأ.

والصواب أن الاستثناء إنما راجع إلى خصال الإيمان.

ولهذا قال المؤلِّف رحمه الله: "وَإِذَا قِيلَ: الْجَنَّةُ هِيَ لِمَنْ أَتَى بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ مِنْ جَمِيعِ السَّيِّئَاتِ. قَالُوا: يعني هؤلاء الذين استثنون الإيمان، ويريدون أن الاستثناء راجع للإيمان الذي يوافي به الإنسان ربه، فإذا قيل: الجنة هي من لمن أتى بالتوبة النصوح من جميع السيئات.

قالوا: "وَلَوْ مَاتَ عَلَى هَذِهِ التَّوْبَةِ لَمْ يُقْطَعْ لَهُ بِالْجَنَّةِ وَهُمْ لَا يَسْتَثْنُونَ فِي الْأَحْوَالِ بَلْ يَجْزِمُونَ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ مُؤْمِنٌ تَامُّ الْإِيمَانِ وَلَكِنَّ عِنْدَهُمْ الْإِيمَانَ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ مَا يُوَافِي بِهِ" يعني هو ما يوافي به ربه، وما يموت عليه، هم يقولون المؤمن تام الإيمان، لكن ليس هذا هو الإيمان المعتبر، إنما الإيمان المعتبر ليس هو الإيمان الذي تعيش به في الدنيا، ولكن الإيمان المعتبر هو الذي يوافي به ربه عند الموت فلذلك يستثنون من أجل أن نقول لا نعلم ما يوافي به ربه، أمَّا هو الآن فهو مؤمن تام الإيمان، وهذا خطأ، الاستثناء إنما هو راجع إلى خصال الإيمان.

ولهذا قال المؤلِّف رحمه الله في بيان مذهب هؤلاء، " قَالُوا: وَهُمْ لَا يَسْتَثْنُونَ فِي الْأَحْوَالِ بَلْ يَجْزِمُونَ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ مُؤْمِنٌ تَامُّ الْإِيمَانِ وَلَكِنَّ عِنْدَهُمْ الْإِيمَانَ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ مَا يُوَافِي بِهِ فَمَنْ قَطَعُوا لَهُ بِأَنَّهُ مَاتَ مُؤْمِنًا لَا ذَنْبَ لَهُ قَطَعُوا لَهُ بِالْجَنَّةِ فَلِهَذَا لَا يَقْطَعُونَ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ لِئَلَّا يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَقْطَعُوا بِالْجَنَّةِ – لو قطعوا بأن الإنسان مات مؤمنًا لا ذنب له لقطعوا له بالجنة، لكن لا يقطعون بقبول التوبة؛ فلهذا لا يقطعون له بالجنة- وَأَمَّا أَئِمَّةُ السَّلَفِ فَإِنَّمَا لَمْ يَقْطَعُوا بِالْجَنَّةِ لِأَنَّهُمْ لَا يَقْطَعُونَ بِأَنَّهُ فَعَلَ الْمَأْمُورَ وَتَرَكَ الْمَحْظُورَ –لا يقطعون بأنه أدى الواجبات وترك المحرمات- وَلَا أَنَّهُ أَتَى بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَإِلَّا فَهُمْ يَقْطَعُونَ بِأَنَّ مَنْ تَابَ تَوْبَةً نَصُوحًا قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ."

قال المؤلِّف رحمه الله: "وَجِمَاعُ الْأَمْرِ أَنَّ الِاسْمَ الْوَاحِدَ يُنْفَى وَيُثْبَتُ بِحَسَبِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ" يعني الاسم الواحد قد يثبت للشخص بحسب الأحكام، يثبت للشخص اسم لأن اتصل به حكم، وينفى عنه لأنه اتصل بحكم أخر.

ومثل المؤلِّف رحمه الله المنافقون، المنافقون أحيانًا يدخلوا في اسم المؤمنين لأنهم أظهروا الإسلام ويصلون مع الناس، والأحكام الظاهرة تجري عليهم، وأحيانًا ينسل عنهم الإيمان إذا أظهروا نفاقهم.

ولهذا قال المؤلِّف رحمه الله: " وَجِمَاعُ الْأَمْرِ أَنَّ الِاسْمَ الْوَاحِدَ يُنْفَى وَيُثْبَتُ بِحَسَبِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ فَلَا يَجِبُ إذَا أُثْبِتَ أَوْ نُفِيَ فِي حُكْمِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ وَهَذَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَسَائِرِ الْأُمَمِ لِأَنَّ الْمَعْنَى مَفْهُومٌ. مِثَالُ ذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ قَدْ يُجْعَلُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَوْضِعٍ؛ وَفِي مَوْضِعٍ آخَر لا يكونوا من المؤمنين، المنافقون قد يكونوا مؤمنين في موضع وفي موضع أخر يكونوا ما هم منكم.

مثال الموضع الأول الذي جعله الله للمؤمنين "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:18]، هذه أوصاف المنافقين، لو كانوا مع المسلمين يجاهدون أو في غزوة الأحزاب، لكن وصفهم أنهم يعوقون المؤمنين، ويقولون هلم إلينا، ولا يأتون الحرب إلا قليلًا، أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ [الأحزاب:19]، هذه أوصاف المنافقين، قال: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إلَّا قَلِيلًا ۝ ​​​​​​​أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [الأحزاب:18،19]، فهنا في هذه الآيات جعل المنافقين من المؤمنون، قال: منكم لأنه معهم تجب عليهم أحكام الإسلام.

قال: "فَهُنَالِكَ جَعَلَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الْخَائِفِينَ مِنْ الْعَدُوِّ النَّاكِلِينَ عَنْ الْجِهَادِ النَّاهِينَ لِغَيْرِهِمْ الذَّامِّينَ لِلْمُؤْمِنِينَ: مِنْهُمْ. وفي آية أخرى نفى عنهم الإيمان وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ۝ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئا أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ [التوبة:56،57].

قال المؤلف رحمه الله: "وَهَؤُلَاءِ ذَنْبُهُمْ أَخَفُّ" يعني هؤلاء الموصوفين بأنهم نفي عنهم الإيمان أخف من ذنب أولئك لماذا؟ لأن هؤلاء ما عادوا المؤمنين ولا سلقوهم بألسنة حداد، ولا خذلوا، أمَّا الأولون، فإنهم خذلوا وقالوا لإخوانهم: هلم إلينا وإذا ذهب الخوف سلقون بألسنه حداد.

ولهذا قال المؤلِّف: وهؤلاء ذنبهم أخف، " فَإِنَّهُمْ لَمْ يُؤْذُوا الْمُؤْمِنِينَ لَا بِنَهْيٍ وَلَا سَلْقٍ بِأَلْسِنَةِ حِدَادٍ وَلَكِنْ حَلَفُوا بِاَللَّهِ إنَّهُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْبَاطِنِ بِقُلُوبِهِمْ" يعني يحلفون بالله أننا منكم، وَلَكِنْ حَلَفُوا بِاَللَّهِ إنَّهُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْبَاطِنِ بِقُلُوبِهِمْ وَإِلَّا فَقَدْ عَلِمَ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّهُمْ مِنْهُمْ فِي الظَّاهِرِ فَكَذَّبَهُمْ اللَّهُ وَقَالَ: وَمَا هُمْ مِنْكُمْ [التوبة:56] وَهُنَاكَ قَالَ: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ [التوبة:57] فَالْخِطَابُ لِمَنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا وَلَيْسَ مُؤْمِنًا بِأَنَّ مِنْكُمْ مَنْ هُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَلَيْسَ مُؤْمِنًا بَلْ أَحْبَطَ اللَّهُ عَمَلَهُ فَهُوَ مِنْكُمْ فِي الظَّاهِرِ لَا الْبَاطِنِ." يعني المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، تجرى عليهم أحكام الإسلام في الظاهر، فهم في الظاهر من المؤمنين، وفي الباطن في الدرك الأسفل من النار، في النفاق والعياذ بالله.

قال المؤلِّف رحمه الله: "وَلِهَذَا لَمَّا اُسْتُؤْذِنَ النَّبِيُّ ﷺ فِي قَتْلِ بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ قَالَ: لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ ([16]) لماذا؟ فَإِنَّهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي الظَّاهِرِ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُ حَقَائِقَ الْأُمُورِ" يعني في الظاهر من كان بعيد عن المدينة ولا يعرف يجعل المنافقين من المؤمنين، لأنهم مع النبي ﷺ، يجاهدون معه ويصلون معه فلا يعرف حالهم، ولكن المنافقين يظهرون الإسلام ويظهرون الكفر، فلو قتلهم النبي ﷺ لنفاقهم، لتحدث البعيدون من الناس وقال محمد يقتل أصحابه، وكان في هذا تنفير عن الإسلام، ولهذا تركهم النبي ﷺ، ولهذا قال: فإنهم من أصحابي في الظاهر عند من لا يعرفون حقائق الأمور، أمَّا أصحابه الحقيقيون الذين هم مؤمنون ظاهرًا وباطنًا هذا ليس فيهم نفاق، لا يمكن يكون عندهم نفاق.

قال: "وَأَصْحَابَهُ الَّذِينَ هُمْ أَصْحَابُهُ لَيْسَ فِيهِمْ نِفَاقٌ كَاَلَّذِينَ عَلَّمُوا سُنَّتَهُ النَّاسَ وَبَلَّغُوهَا إلَيْهِمْ وَقَاتَلُوا الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَاَلَّذِينَ بَايَعُوهُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَأَهْلُ بَدْرٍ وَغَيْرُهُمْ –هؤلاء هم المؤمنون حقًا، أما المنافقون كانوا أغمار الناس" الغمر هو الرجل الجاهل بالأمور أغمار الناس الجهلة، أغمار الناس وجهلتهم وسقطهم، هؤلاء هم المنافقون، أمَّا المؤمنون والصحابة هم معروفون بجاهدهم النبي ﷺ ومبايعتهم له، وتعليمهم السنة نشرهم دين الله في مشارق الأرض ومغاربها.

المتن:

"وَكَذَلِكَ الْأَنْسَابُ مِثْلَ كَوْنِ الْإِنْسَانِ أَبًا لِآخَرَ أَوْ أَخَاهُ يَثْبُتُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ دُونَ بَعْضٍ.

فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ ([17])" أَنَّهُ لَمَّا اخْتَصَمَ إلَى النَّبِيِّ ﷺ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زمعة بْنِ الْأَسْوَدِ فِي ابْنِ وَلِيدَةِ زمعةوَكَانَ عتبة بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ قَدْ فَجَرَ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَوَلَدَتْ مِنْهُ وَلَدًا فَقَالَ عتبة لِأَخِيهِ سَعْدٍ: إذَا قَدِمْت مَكَّةَ فَانْظُرْ ابْنَ وَلِيدَةِ زمعة فَإِنَّهُ ابْنِي فَاخْتَصَمَ فِيهِ هُوَ وَعَبْدُ بْنُ زمعة إلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ أَخِي عتبة عَهِدَ إلَيَّ أَخِي عتبة فِيهِ إذَا قَدِمْت مَكَّةَ اُنْظُرْ إلَى ابْنِ وَلِيدَةِ زمعة فَإِنَّهُ ابْنِي أَلَا تَرَى يَا رَسُولَ اللَّهِ شَبَهَهُ بعتبة؟ فَقَالَ عَبْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي؛ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي فَرَأَى النَّبِيُّ ﷺ شَبَهًا بَيِّنًا بعتبة فَقَالَ: هُوَ لَك يَا عَبْدُ بْنُ زمعة، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ. لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ الْبَيِّنِ بعتبة.

فَقَدْ جَعَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ ابْنَ زمعة لِأَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ وَجَعَلَهُ أَخًا لِوَلَدِهِ بِقَوْلِهِ: فَهُوَ لَك يَا عَبْدُ بْنُ زمعة وَقَدْ صَارَتْ سَوْدَةُ أُخْتَه يَرِثُهَا وَتَرِثُهُ؛ لِأَنَّهُ ابْن أَبِيهَا زمعة وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ. وَمَعَ هَذَا فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ ﷺ أَنْ تَحْتَجِبَ مِنْهُ لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ الْبَيِّنِ بعتبة فَإِنَّهُ قَامَ فِيهِ دَلِيلَانِ مُتَعَارِضَانِ: الْفِرَاشُ وَالشَّبَهُ وَالنَّسَبُ فِي الظَّاهِرِ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ أَقْوَى وَلِأَنَّهَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ مُبَاحٌ وَالْفُجُورُ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُعْلَمُ وَيَجِبُ سَتْرُهُ لَا إظْهَارُهُ كَمَا قَالَ: لِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ كَمَا يُقَالُ: بِفِيك الكَثْكَث (1) وَبِفِيك الأثلبَ (2) أَيْ: عَلَيْك أَنْ تَسْكُتَ عَنْ إظْهَارِ الْفُجُورِ فإنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ ذَلِكَ وَلَمَّا كَانَ احْتِجَابُهَا مِنْهُ مُمْكِنًا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ أَمَرَهَا بِالِاحْتِجَابِ لِمَا ظَهَرَ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ أَخَاهَا فِي الْبَاطِنِ.

فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْمَ الْوَاحِدَ يُنْفَى فِي حُكْمٍ وَيَثْبُتُ فِي حُكْمٍ فَهُوَ أَخٌ فِي الْمِيرَاثِ وَلَيْسَ بِأَخٍ فِي المحرمية.

وَكَذَلِكَ وَلَدُ الزِّنَا عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَابْنُ الْمُلَاعَنَةِ عِنْدَ الْجَمِيعِ إلَّا مَنْ شَذَّ؛ لَيْسَ بِوَلَدِ فِي الْمِيرَاثِ وَنَحْوِهِ وَهُوَ وَلَدٌ فِي تَحْرِيمِ النِّكَاحِ والمحرمية.

الشيخ:

المؤلِّف رحمه الله يُبَيِّن في هذا أن الاسم الواحد ينفي ويثبت بحسب الأحكام، كما أن المنافقين يثبت لهم الإيمان وينفى عنهم الإيمان، يثبت لهم الإيمان إذا كانوا مع المؤمنين، وكانوا معهم، وينفى عنهم إذا أظهروا شامل النفاق، فهذا معروف من الأدلة الشريعة.

فمثل المؤلِّف رحمه الله أيضًا المنافقين عندما أثبت لهم الله الإيمان في آية، ونفى عنهم الإيمان في آية، ومثل أيضًا كذلك في الأنساب، قال: "وَكَذَلِكَ الْأَنْسَابُ مِثْلَ كَوْنِ الْإِنْسَانِ أَبًا لِآخَرَ أَوْ أَخَاهُ يَثْبُتُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ دُونَ بَعْضٍ؛" يعني يكون الإنسان أبًا لأخر أو يكون أخًا له، في بعض الأحكام ولا يكون أبًا له ولا أخًا له في بعض الأحكام، ومثل لهذا كما ثبت في الصحيحين([18]) بقصة اختصام سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة، في ابن وليدة زمعة،  وذلك أن زمعة له وليده يعني أمه، يتسراها يطؤها فجاء عتبه ابن أبي وقاص وزنا بها، في الجاهلية، وحملت منه، وولدت، فلما ولدت أوصى أخاه سعد بن أبي وقاص أن يأخذ الولد، فقال: إذا ولدت فقبض الولد فإنه ولدي، فزنا بها في الجاهلية، وزمعة له ولد أسمه عبد، فلما ولدت هذه الآمة ولدت هذا الولد، عبد يقول: هذا أخي ولد على فراش أبي، أبوه يطأه، وسعد بن أبي وقاص يقول هذا ولد أخي أوصاني أن أقبضه فعل بها الزنا في الجاهلية وأنها ولدت منه، فاختصما إلى النبي جعلا يتسابقان في الولد، أخذ الولد ويتسابق فيه.

سعد بن أبي وقاص يوم فتح مكة وعبد بن زمعة، فسعد بن أبي وقاص يقول يا رسول الله هذا ولد أخي عهد إلي أنه ابنه أوصاني في الجاهلية أنه وليدة، فاقبضه فإنه منى أنظر إلى شبهه، ينظر أخاه في الشبة، وقال عبد: يا رسول الله هذا أخي ولد على فراش أبي، فماذا عمل النبي ﷺ، ماذا حكم، حكم بأن الولد للفراش، حكم أنه ولد لزمعة، وقال: الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، معنى الفراش كون الزوجة يطأها زوجها، أو كانت آمة يطؤها السيد فالولد لفراشه، قال: الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ، الزاني له الخيبة، العاهر الزاني له الخيبة لا يعطى الولد وإنما يقام عليه الحد، ويقال: فيك التراب، ولا يعطى ولد وإنما له الخيبة وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ​​​​​​​،

فالنبي ﷺ جعل الولد لزمعة لأنه يطؤها والزنا العارض هذا لا يعطى ولد، الزاني لا يعطى ولد، قال هو لك يا عبد الولد للفراش، هذا حكم شرعي الولد للفراش فإذا كانت المرأة توطأ وتخللها الزنا فلا يعطى الزاني شيء، يقول الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ والزاني ليس له إلا الخيبة، وإقامة الحد، وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ،.

لكن عتبة كان توفي كان توفي وهذا أخوه لا يعرف الحكم الشرعي، فالنبي ﷺ جعل الولد لعبد، قال: الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ،، ثم لما رأى أن شبهه، يشبه عتبة بن أبي وقاص أمر سوده أم المؤمنين أخته سودة أم المؤمنين زوج النبي ﷺ هي أخت لهذا الولد، هي أخت لعبد، أخت لهذا الولد المولود فجعل أخوها يرثها وترثه ولكن لما رأى الشبة قال: وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ بِنْتَ زَمْعَةَ، ففي المحرمية لم يجعله أخًا لها، وفي الميراث جعله أخًا لها، لما رأى أنه يشبه عتبه ابن أبي وقاص الذي فجر بها في الجاهلية، زنا بها، ولكن ما يعتبر في الشرع، الشرع العبرة بالفراش، الولد يكون للفراش، وهو فراش لزمعه، يطأها فإذا ولدت يكون الولد له، وأما العاهر وهو الزاني فلا يُعطى ولد؛ فلذلك قال: الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ،([19]) فدل على أن الحكم الواحد.

المؤلف استدل بهذا على أن الأنساب تثبت في بعض الأحيان دون بعض، كذلك الأسماء تنسب ويوصل بحسب الأحكام، ولهذا قال رحمه الله: "فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ ([20])" أَنَّهُ لَمَّا اخْتَصَمَ إلَى النَّبِيِّ ﷺ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زمعة بْنِ الْأَسْوَدِ فِي ابْنِ وَلِيدَةِ زمعة وَكَانَ عتبة بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ قَدْ فَجَرَ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَوَلَدَتْ مِنْهُ وَلَدًا فَقَالَ عتبة لِأَخِيهِ سَعْدٍ: إذَا قَدِمْت مَكَّةَ فَانْظُرْ ابْنَ وَلِيدَةِ زمعة فَإِنَّهُ ابْنِي فَاخْتَصَمَ فِيهِ هُوَ وَعَبْدُ بْنُ زمعة إلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ أَخِي عتبة عَهِدَ إلَيَّ أَخِي عتبة فِيهِ إذَا قَدِمْت مَكَّةَ اُنْظُرْ إلَى ابْنِ وَلِيدَةِ زمعة فَإِنَّهُ ابْنِي أَلَا تَرَى يَا رَسُولَ اللَّهِ شَبَهَهُ بعتبة؟ فَقَالَ عَبْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي؛ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي فَرَأَى النَّبِيُّ ﷺ شَبَهًا بَيِّنًا بعتبة فَقَالَ: هُوَ لَك يَا عَبْدُ بْنُ زمعة الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ الْبَيِّنِ بعتبة.

فَقَدْ جَعَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ ابْنَ زمعة لِأَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ وَجَعَلَهُ أَخًا لِوَلَدِهِ بِقَوْلِهِ: فَهُوَ لَك يَا عَبْدُ بْنُ زمعة وَقَدْ صَارَتْ سَوْدَةُ أُخْتَه يَرِثُهَا وَتَرِثُهُ؛ لِأَنَّهُ ابْن أَبِيهَا زمعة وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ.

وَمَعَ هَذَا فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ ﷺ أَنْ تَحْتَجِبَ مِنْهُ لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ الْبَيِّنِ بعتبة فَإِنَّهُ قَامَ فِيهِ دَلِيلَانِ مُتَعَارِضَانِ: الْفِرَاشُ وَالشَّبَهُ وَالنَّسَبُ فِي الظَّاهِرِ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ أَقْوَى وَلِأَنَّهَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ مُبَاحٌ وَالْفُجُورُ أَمْرٌ بَاطِنٌ"، والفجور لا يبغي أن يظهر يستر الفجور، أمَّا كون الفراش فهذا زوجها أو سريه هذا أمر ظاهر.

قال: " وَلِأَنَّهَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ مُبَاحٌ وَالْفُجُورُ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُعْلَمُ وَيَجِبُ سَتْرُهُ لَا إظْهَارُهُ كَمَا قَالَ: لِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ يعين الخيبة، العاهر الزاني لا يعطى ولد،  كَمَا يُقَالُ: بِفِيك الكَثْكَث  وَبِفِيك الأثلبَ، الكثكث يعني التراب، الأثلب التراب دقيق الحجارة، أَيْ: عَلَيْك أَنْ تَسْكُتَ عَنْ إظْهَارِ الْفُجُورِ فإنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ ذَلِكَ.

قال المؤلف رحمه الله: وَلَمَّا كَانَ احْتِجَابُهَا مِنْهُ مُمْكِنًا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ أَمَرَهَا بِالِاحْتِجَابِ لِمَا ظَهَرَ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ أَخَاهَا فِي الْبَاطِنِ."

قال المؤلِّف رحمه الله تعليقًا عليه: "فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْمَ الْوَاحِدَ يُنْفَى فِي حُكْمٍ وَيَثْبُتُ فِي حُكْمٍ." ثبت الأخوة في سوده، من جهة الميراث، ولم تثبت له الأخوة من جهة المحرمية، " فَهُوَ أَخٌ فِي الْمِيرَاثِ وَلَيْسَ بِأَخٍ فِي المحرمية." يعني تحتجب منه.

ولذلك قال المؤلِّف رحمه الله: " فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْمَ الْوَاحِدَ يُنْفَى فِي حُكْمٍ وَيَثْبُتُ فِي حُكْمٍ. فَهُوَ أَخٌ فِي الْمِيرَاثِ وَلَيْسَ بِأَخٍ فِي المحرمية."

وَكَذَلِكَ وَلَدُ الزِّنَا عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَابْنُ الْمُلَاعَنَةِ عِنْدَ الْجَمِيعِ إلَّا مَنْ شَذَّ؛" الملاعنة التي تلاعن زوجها، يعني ضرب الزوج زوجته بالزنا والعياذ بالله، لا يقام عليها ولكن لو كان الزوج يقام عليه الحدو إنما يلاعن، كما قال الله في سورة النور، يشهد على نفسه أربع شهادات اشهد بالله لقد زنت زوجتي هذه أربع مرات ثم الخامسة يشهد أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم توجه الأيمان الخمسة إلى المرأة فتقول أشهد بالله أن قد كذب على زوجي في ذلك أربع مرات، ثم تقول في المرة الخامسة أن غضب الله علي إن كان من الصادقين، ثم يفرق بينهما تفريق مؤبدًا، وإذا كان بينهما ولد يُنتفى الولد ينسب الولد إلى أمه ولا ينسب إلى أبيه، لأنه نفاه، فابن الملاعنة يكون كذلك، هو من جهة المحرمية لا يتزوج من بنات هذا الرجل ولكنه لا ينسب إليه، فله حكم من جهة النسب وله حكم من جهة المحرمية، ولذلك قال: " وَكَذَلِكَ وَلَدُ الزِّنَا عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَابْنُ الْمُلَاعَنَةِ عِنْدَ الْجَمِيعِ إلَّا مَنْ شَذَّ؛ لَيْسَ بِوَلَدِ فِي الْمِيرَاثِ وَنَحْوِهِ وَهُوَ وَلَدٌ فِي تَحْرِيمِ النِّكَاحِ والمحرمية." في تحريم المحرمية لا يتزوج ولا يرث من أبيه ولكن بناته تحرم عليه، النكاح والمحرمية.

المتن

"وَلَفْظُ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ فِي الْأَمْرِ يَتَنَاوَلُ الْكَامِلَ وَهُوَ الْعَقْدُ وَالْوَطْءُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: «فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ» وَقَوْلُهُ: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَفِي النَّهْيِ يَعُمُّ النَّاقِصَ وَالْكَامِلَ؛ فَيَنْهَى عَنْ الْعَقْدِ مُفْرَدًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَطْءٌ كَقَوْلِهِ: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ وَهَذَا لِأَنَّ الْآمِرَ مَقْصُودُهُ تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ وَتَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ إنَّمَا يَكُونُ بِالدُّخُولِ كَمَا لَوْ قَالَ: اشْتَرِ لِي طَعَامًا؛ فَالْمَقْصُودُ مَا يَحْصُلُ إلَّا بِالشِّرَاءِ وَالْقَبْضِ وَالنَّاهِي مَقْصُودُهُ دَفْعُ الْمَفْسَدَةِ فَيَدْخُلُ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ مَفْسَدَةٌ وَكَذَلِكَ النَّسَبُ وَالْمِيرَاثُ مُعَلَّقٌ بِالْكَامِلِ مِنْهُ وَالتَّحْرِيمُ مُعَلَّقٌ بِأَدْنَى سَبَبٍ حَتَّى الرَّضَاعِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَكُونُ لَهُ مُبْتَدَأٌ وَكَمَالٌ يُنْفَى تَارَةً بِاعْتِبَارِ انْتِفَاءِ كَمَالِهِ وَيَثْبُتُ تَارَةً بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ مَبْدَئِهِ.

فَلَفْظُ الرِّجَالِ يَعُمُّ الذُّكُورَ وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: وَإِنْ كَانُوا إخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَلَا يَعُمُّ الصِّغَارَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: وَالْمُسْتَضْعَفِين مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا فإنَّ بَابَ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ عَمَلٌ يَعْمَلُهُ الْقَادِرُونَ عَلَيْهِ فَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ لَظُنَّ أَنَّ الْوِلْدَانَ غَيْرُ دَاخِلِينَ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مَنْ أَهْلِهِ وَهُمْ ضُعَفَاءُ فَذَكَرَهُمْ بِالِاسْمِ الْخَاصِّ لِيُبَيِّن عُذْرَهُمْ فِي تَرْكِ الْهِجْرَةِ وَوُجُوبِ الْجِهَادِ.

وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ لَهُ مَبْدَأٌ وَكَمَالٌ وَظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ فَإِذَا عُلِّقَتْ بِهِ الْأَحْكَامُ الدُّنْيَوِيَّةُ مِنْ الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ كَحَقْنِ الدَّمِ وَالْمَالِ وَالْمَوَارِيثِ وَالْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ عُلِّقَتْ بِظَاهِرِهِ لَا يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ إذْ تَعْلِيقُ ذَلِكَ بِالْبَاطِنِ مُتَعَذِّرٌ؛ وَإِنْ قُدِّرَ أَحْيَانًا فَهُوَ مُتَعَسِّرٌ عِلْمًا وَقُدْرَةً؛ فَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ عِلْمًا يَثْبُتُ بِهِ فِي الظَّاهِرِ وَلَا يُمْكِنُ عُقُوبَةُ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ فِي الْبَاطِنِ.

الشرح

فإن المؤلِّف رحمه الله تكلم فيما سبق عن مسمى الإيمان وعن مسمى الإسلام وبين أن مسمى الإيمان ينفى مسمى الإيمان ومسمى غيره لان بعض الأسماء كمسمى الإيمان ومسمى غيره قد ينفى تارة ويثبت تارة بحسب الأحكام المتعلقة، فأسم الإيمان واسم النفاق، بين المؤلِّف رحمه الله أن الاسم الواحد ينفى ويثبت بحسب الأحكام المتعلقة، فمثلًا المنافقون جعلوا من المؤمنين في موضع، ولم يجعلوا من المؤمنين في موضع، ففي قول الله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا ۝ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ [الأحزاب:18،19]، هنا جعل هؤلاء المنافقين الخائفين من العدو الناكرين عن الجهاد الناهين لغيرهم، الذامين المؤمنين منهم، وفي موضع آخر لم يجعل المنافقين من المؤمنين، كقوله في الآية الأخرى: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ [التوبة:56].

وكذلك أيضًا الاسم الواحد ينفى في حكم ويثبت في حكم كما سبق، واثبت المؤلِّف رحمه الله في قصة عبد بن زمعة، لما اختصم فيه سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة، فالنبي ﷺ جعل الولد للفراش وأمر سوده بنت زمعة أم المؤمنين، أن تحتجب عنه لما رأى شبهًا بيننًا بعتبه، فجعله أخ في الميراث ولم يجعل له أخ في المحرمية.

وكذلك كل ما يكون له مبتدأ كمال، ينفى تارة ويثبت تارة، ومن ذلك لفظ النكاح الذي ذكره المؤلِّف رحمه الله فإنه يتناول الكامل والعقد والوطء، ولا يتناول أحدهما في بعض المواضع، ولذلك قال المؤلِّف رحمه الله: "وَلَفْظُ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ فِي الْأَمْرِ يَتَنَاوَلُ الْكَامِلَ وَهُوَ الْعَقْدُ وَالْوَطْءُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]، هنا أمر بالنكاح، الأمر يتناول العقد والوطء جميعًا، فالإنسان مأمور بأن يعقد ويطأ.

وقوله تعالى: وَقَوْلُهُ: فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230]، يشمل الأمرين أيضًا، يتناول كامل، العقد والوطء فإنَّ المطلقة ثلاثًا لا يحل لها أن تعود إلى زوجها السابق حتى تنكح زوج أخر، ثم يطلقها أو يموت عنها، فلابد من أمرين العقد والوطء، وكذلك في النهي.

ولذلك قال المؤلِّف: "وَلَفْظُ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ فِي الْأَمْرِ يَتَنَاوَلُ الْكَامِلَ وَهُوَ الْعَقْدُ وَالْوَطْءُ " لأن لفظ النكاح يطلق على العقد وعلى الوطء، ويطلق على الامرين معًا فأحيانًا لفظ النكاح يتناول الأمرين وأحيانًا يتناول أحدهما، فمثال ما يتناول الأمرين، مثال قوله تعالىِ: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]، ومثل قوله: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ.

يقول المؤلف رحمه الله: وَفِي النَّهْيِ يَعُمُّ النَّاقِصَ وَالْكَامِلَ؛ -يعني في النهي عن النكاح، وفي الناقص يعني أحد الأمرين فَيَنْهَى عَنْ الْعَقْدِ مُفْرَدًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَطْءٌ كَقَوْلِهِ: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:22]، هذا فيه النهي عن نكاح زوجه الأب، ينهى أن يعقد على زوجة الأب ينهى عن الأمرين جميعًا حتى العقد، ينهى عن العقد مفرداَ حتى لو لم يكن هناك وطأ، فالعقد على زوجة الأب حرام كَقَوْلِهِ: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:22]، يعني لا تعقدوا عقد النكاح والوطء من باب أولى.

قال المؤلف رحمه الله مبينًا: "وَهَذَا لِأَنَّ الْآمِرَ مَقْصُودُهُ تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ وَتَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ إنَّمَا يَكُونُ بِالدُّخُولِ" يعني الأمر بالنكاح المقصود تحصيل مصلحة، والمصلحة لا تحصل بالدخول، كذلك النهي عن النكاح زوجه الأب ما نكح الأب إنما وسيله للدخول ينهى عن العقد لأن هو وسيلة للوطء.

ولهذا قال المؤلِّف رحمه الله: "وَهَذَا لِأَنَّ الْآمِرَ مَقْصُودُهُ تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ وَتَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ إنَّمَا يَكُونُ بِالدُّخُولِ" يعني بالدخول بالمرأة يعني ما تحصل المصلحة من العقد إلا بالدخول فالعقد وسيلة للدخول، فينهى عن الوسيلة حتى لا تحصل الغاية، فالنهي عن النكاح نهي عن العقد وعن الدخول من باب أولى لأن العقد وسيلة للدخول والنكاح يطلق عليهما معًا، الأمرين جميعًا ثم مثل المؤلِّف رحمه الله بأن العمل مقصور بتحصيل المصلحة.

 "كَمَا لَوْ قَالَ: اشْتَرِ لِي طَعَامًا؛" هذا أمر، "فَالْمَقْصُودُ مَا يَحْصُلُ إلَّا بِالشِّرَاءِ وَالْقَبْضِ" كأنه يقول اشتر واقبض لكن لم يشتري ولم يقبض ما حصل القبض، اشترى سلعة وتركها عنده ما قبضها، فإذا قال: " اشْتَرِ لِي طَعَامًا" معناه اشتري واقبض، تشتري لي طعامًا في الدكان ما حصل اشتري واقبض، حتى يستفيد منه، فكذلك الأمر بالنكاح، فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ، لا تحصل المصلحة إلا بالعقد والدخول معًا، وكذلك النهي عن نكاح زوجة الأب، الدخول وسيلته العقد، فينهى عن العقد بألا يحصل الدخول.

قال المؤلِّف رحمه الله: "وَالنَّاهِي مَقْصُودُهُ دَفْعُ الْمَفْسَدَةِ فَيَدْخُلُ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ مَفْسَدَةٌ" النهي عن نكاح زوجة الأب هي النهي عن المفسدة والدخول بها، والعقد وسيلة فينهى عن كل جز، فالعقد جزء والدخول جزء وهو الغاية.

قال المؤلِّف رحمه الله: " وَالنَّاهِي مَقْصُودُهُ دَفْعُ الْمَفْسَدَةِ فَيَدْخُلُ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ مَفْسَدَةٌ وَكَذَلِكَ النَّسَبُ وَالْمِيرَاثُ مُعَلَّقٌ بِالْكَامِلِ مِنْهُ" الميراث إذا قيل مثلًا فلان أحد الورثة له نصف الكامل أن تقسم التركة ثم يعطى وكذلك النسب فينسب إلى أبيه، الكامل أن يحصل على متعلقات هذا النسب بكونه ألا يتركه وينسب إليه، وما يحصل أيضًا من المحرمية، وما يحصل من كونه يجب عليه بر والديه وصله أرحامه.

قال: المؤلِّف: " وَكَذَلِكَ النَّسَبُ وَالْمِيرَاثُ مُعَلَّقٌ بِالْكَامِلِ مِنْهُ وَالتَّحْرِيمُ مُعَلَّقٌ بِأَدْنَى سَبَبٍ حَتَّى الرَّضَاعِ." حتى الرضاع كما في الحديث يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، فيحرم النكاح، المحارم حتى من الرضاعة.

قال يرحمه الله: "وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَكُونُ لَهُ مُبْتَدَأٌ وَكَمَالٌ يُنْفَى تَارَةً بِاعْتِبَارِ انْتِفَاءِ كَمَالِهِ وَيَثْبُتُ تَارَةً بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ مَبْدَئِهِ." الأشياء التي لها مبتدأ مثل الإيمان له مبتدأ وله كمال مبتدأ بدأ الإيمان الذي لا يصح الإسلام إلا به، كماله وجوب الواجبات والنهي عن المحرمات، فأحيانًا ينفى تارة عن الشخص باعتبار انتفاءه لأنه انتفى عنه الكمال عن الواجب، ويثبت تارة لأن معه أصل الإيمان.

ثم مثل المؤلف رحمه الله فيقول: "فَلَفْظُ الرِّجَالِ يَعُمُّ الذُّكُورَ وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا" في بعض المواضع يعم الصغار وفي بعض المواضع لا يدخل الصغار، مثال ما يعم الصغار قَوْلِهِ: وَإِنْ كَانُوا إخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء:176]" فقوله رجالًا تشمل الذكور والصغار والكبار، وفي مثل قوله تعالى: وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا [النساء:75]، فقول الرجال، لا يشمل الصغار هنا، وفي الآية الأولى لفظ الرجال يشمل الصغار وإن كانوا إخوة رجالا وفي الآية الثانية لا يشمل الصغار، لماذا؟  لأنهم ذكروا بعد ذلك وللعله التي ذكرها المؤلِّف رحمه الله.

قال: "فَإِنَّ بَابَ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ عَمَلٌ يَعْمَلُهُ الْقَادِرُونَ عَلَيْهِ فَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ لَظُنَّ أَنَّ الْوِلْدَانَ غَيْرُ دَاخِلِينَ"لماذا؟ لأن الهجرة والجهاد، عمل يعمله الكبار ولا يقدر عليه الصغار، فإنَّ قال: المستضعفين من الرجال والنساء، لظن أنه نص دخيل وقال وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَان" لو لم يقل الولدان لظن أنهم غير الداخلين، لماذا؟ لأن الهجرة والجهاد خاصة بالكبار، فلذلك ذكرهم بالاسم الخاص الولدان ليُبَيِّن عذرهم في الهجرة ووجوب الجهاد، يعني هم معذورون وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا [النساء:75]،

الله تعالى أمر بالقتال دفاعًا عن المستضعفين، من الرجال والنساء لأنهم لا يقدرون على  الهجرة، والولدان نص عليهم يُبَيِّن عذرهم لأنهم معذورون، ولهذا قال المؤلِّف رحمه الله، :فلو اقتصر على ذكر المستضعفين من الرجال لظن أن الولدان ليسوا داخلين لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مَنْ أَهْلِهِ وَهُمْ ضُعَفَاءُ فَذَكَرَهُمْ بِالِاسْمِ الْخَاصِّ" ليبين عذرهم في ترك الهجرة وَوُجُوبِ الْجِهَادِ. وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ لَهُ مَبْدَأٌ وَكَمَالٌ وَظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ فَإِذَا عُلِّقَتْ بِهِ الْأَحْكَامُ الدُّنْيَوِيَّةُ فإنما تعلق بالاسم الظاهر، الإيمان له مبدأ مبدأه أصل الإيمان الذي لا يصح الإسلام إلا به وكماله أن يؤدي الواجبات ويترك المحرمات، الأحكام الدنيوية بما لا تعلق، هل تعلق بأصل الإيمان ولا بكمال الإيمان؟ تعلق بأصل الإيمان لأن ما يعلم عنه ليس ظاهرًا لا يعلم إلا الله، من يعلم أن هذا الشخص قصر في بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات، فلهذا الأحكام تعلق بأصل الإيمان بمبدأ الإيمان.

ولذلك قال المؤلِّف رحمه الله: "وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ لَهُ مَبْدَأٌ وَكَمَالٌ وَظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ فَإِذَا عُلِّقَتْ بِهِ الْأَحْكَامُ الدُّنْيَوِيَّةُ مِنْ الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ كَحَقْنِ الدَّمِ وَالْمَالِ وَالْمَوَارِيثِ وَالْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ عُلِّقَتْ بِظَاهِرِهِ" بالإيمان الظاهر وهو أصله، فالمؤمن إذا دخل في دائرة الإسلام وعنده أصل الإيمان الذي يصح به إسلام تتعلق بهذا الأحكام، دمه معصوم وكذلك له حقوقه المالية وله ميراث وعليه العقوبات الدنيوية كلها تعلق بظاهر الإيمان، لماذا لا يمكن أن تعلق بالإيمان الظاهر وهو أداء الواجبات وترك المحرمات وهو كمال الإيمان لأن هذا أمر متعذر.

ولهذا قال المؤلِّف: "إذْ تَعْلِيقُ ذَلِكَ بِالْبَاطِنِ مُتَعَذِّرٌ؛ وَإِنْ قُدِّرَ أَحْيَانًا فَهُوَ مُتَعَسِّرٌ عِلْمًا وَقُدْرَةً؛ فَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ عِلْمًا يَثْبُتُ بِهِ فِي الظَّاهِرِ وَلَا يُمْكِنُ عُقُوبَةُ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ فِي الْبَاطِنِ." فلهذا علقت الأحكام بالإيمان الظاهر ولم تعلق بالإيمان الباطن، لأن تعليقه بالإيمان الباطن متعذر ولو علقت به حال لكانت متعثرة،  لأنه لا يعلم ثبوت ذلك علمًا بحيث يظهر للناس كمال الإيمان.

المتن:

" وَبِهَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَمْتَنِعُ مِنْ عُقُوبَةِ الْمُنَافِقِينَ؛ فإنَّ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُمْ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ؛ وَاَلَّذِينَ كَانَ يَعْرِفُهُمْ لَوْ عَاقَبَ بَعْضَهُمْ لَغَضِبَ لَهُ قَوْمُهُ؛ وَلَقَالَ النَّاسُ: إنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ؛ فَكَانَ يَحْصُلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ نُفُورٌ عَنْ الْإِسْلَامِ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ الذَّنْبُ ظَاهِرًا يَشْتَرِكُ النَّاسُ فِي مَعْرِفَتِهِ. وَلَمَّا هَمَّ بِعُقُوبَةِ مَنْ يَتَخَلَّفُ عَنْ الصَّلَاةِ مَنَعَهُ مَنْ فِي الْبُيُوتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ وَأَمَّا مَبْدَؤُهُ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ خِطَابُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِذَا قَالَ اللَّهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ [المائدة:6]  وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهُوَ أَمْرٌ فِي الظَّاهِرِ لِكُلِّ مَنْ أَظْهَرَهُ وَهُوَ خِطَابٌ فِي الْبَاطِنِ لِكُلِّ مَنْ عَرَفَ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِلرَّسُولِ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقُمْ بِالْوَاجِبَاتِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ وَذَلِكَ أَنَّهُ إنْ كَانَ لَفْظُ: الَّذِينَ آمَنُوا يَتَنَاوَلُهُمْ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُمْ فَذَاكَ لِذُنُوبِهِمْ فَلَا تَكُونُ ذُنُوبُهُمْ مَانِعَةً مِنْ أَمْرِهِمْ بِالْحَسَنَاتِ الَّتِي إنْ فَعَلُوهَا كَانَتْ سَبَبَ رَحْمَتِهِمْ وَإِنْ تَرَكُوهَا كَانَ أَمْرُهُمْ بِهَا وَعُقُوبَتُهُمْ عَلَيْهَا عُقُوبَةً عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ وَالْكَافِرُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَيْضًا لَكِنْ لَا يَصِحُّ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ وَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ الْمَحْضُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ فِي الْبَاطِنِ حَتَّى يُؤْمِنَ.

وَأَمَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ أَوَّلَ الْإِيمَانِ فَهَذَا يَصِحُّ مِنْهُ لِأَنَّ مَعَهُ إقْرَارَهُ فِي الْبَاطِنِ بِوُجُوبِ مَا أَوْجَبَهُ الرَّسُولُ وَتَحْرِيمِ مَا حَرَّمَهُ وَهَذَا سَبَبُ الصِّحَّةِ وَأَمَّا كَمَالِهِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ خِطَابُ الْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ وَالنُّصْرَةِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ النَّارِ فإنَّ هَذَا الْوَعْدَ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ فَعَلَ الْمَأْمُورَ وَتَرَكَ الْمَحْظُورَ وَمَنْ فَعَلَ بَعْضًا وَتَرَكَ بَعْضًا فَيُثَابُ عَلَى مَا فَعَلَهُ وَيُعَاقَبُ عَلَى مَا تَرَكَهُ فَلَا يَدْخُلُ هَذَا فِي اسم الْمُؤْمِنِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ دُونَ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ. وَمَنْ نَفَى عَنْهُ الرَّسُولُ الْإِيمَانَ فَنَفَى الْإِيمَانَ فِي هَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْوَعِيدِ. وَالْوَعِيدُ إنَّمَا يَكُونُ بِنَفْيِ مَا يَقْتَضِي الثَّوَابَ وَيَدْفَعُ الْعِقَابَ وَلِهَذَا مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ نَفْيِ الْإِيمَانِ عَنْ أَصْحَابِ الذُّنُوبِ فَإِنَّمَا هُوَ فِي خِطَابِ الْوَعِيدِ وَالذَّمِّ لَا فِي خِطَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا.

الشيخ:

المؤلِّف رحمه الله قال بهذين المثلين، المثلين الإيمان الذي ذكره، فإنَّ الأحكام إنما تعلق بالظاهر لا في الباطن وكذلك أيضاَ المسألة الثانية ذكر الرجال، تارة يعم الصغار وتارة لا يعم الصغار.

قال: "وَبِهَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَمْتَنِعُ مِنْ عُقُوبَةِ الْمُنَافِقِينَ؛" لماذا؟ لأن المنافقين أظهروا الإيمان والأحكام إنما تتعلق بالظاهر، المنافقين أظهروا الإيمان وأنكروا الكفر، فلهذا يعاملوا معاملة المؤمنين في الدنيا يعني الميراث والنكاح وغير ذلك، فالنبي ﷺ يعاملهم معامله المؤمنين ويمتنع من عقوبة الكافرين، لأنهم أظهروا الإيمان ولأنهم ينتسبون إلى المؤمنين ويعدون أنفسهم من أصحاب النبي ﷺ، وبهذين المثلين كان النبي ﷺ يمتنع من عقوبة المنافقين، "فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُمْ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ؛" يعني في المنافقين من لم يكن يعرفهم النبي ﷺ وهم كمنافقون لا يعرفون، فإنَّ فيهم ما لم نكن نعرفهم، كما أخبر الله بذلك، يعني في قوله تعالى في سورة التوبة: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [التوبة:101]، فنفى أن الرسول بهم والذين كان يعرفهم لو عاقبهم لحصل بذلك مفسدة، وهي غضب قومهم منهم.

ولهذا قال رحمه الله: "وَاَلَّذِينَ كَانَ يَعْرِفُهُمْ لَوْ عَاقَبَ بَعْضَهُمْ لَغَضِبَ لَهُ قَوْمُهُ؛ وَلَقَالَ النَّاسُ: إنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ؛ فَكَانَ يَحْصُلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ نُفُورٌ عَنْ الْإِسْلَامِ؛" لماذا؟ " إذْ لَمْ يَكُنْ الذَّنْبُ ظَاهِرًا يَشْتَرِكُ النَّاسُ فِي مَعْرِفَتِهِ." يعني ذنب المنافقين ما هو ظاهر في الباطن، هم في الظاهر يظهرون الإسلام والإيمان فلو عاقبهم النبي ﷺ لحصلت فتنه ونفر البعيدون من الناس وقالوا أن محمد يقتل أصحابه، يجاهدون معه ويقتلهم، لأن ذنبهم ما هو ظاهر، ذنبهم خفي، إنما الظاهر هو الإيمان، فيحصل بذلك لو عاقبهم نفور على الإسلام.

قال المؤلِّف رحمه الله: " وَلَمَّا هَمَّ بِعُقُوبَةِ مَنْ يَتَخَلَّفُ عَنْ الصَّلَاةِ مَنَعَهُ مَنْ فِي الْبُيُوتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ" يشير إذا حديث النبي ﷺ قال: هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ ([21])وفي لفظ: لولا ما في البيوت من النساء والذرية لحرقتها عليهم([22])

قال رحمه الله: " وَلَمَّا هَمَّ بِعُقُوبَةِ مَنْ يَتَخَلَّفُ عَنْ الصَّلَاةِ مَنَعَهُ مَنْ فِي الْبُيُوتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ وَأَمَّا مَبْدَؤُهُ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ خِطَابُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ" فمبدأ الإيمان يعلق به أحكام وكماله يتعلق به أحكام،  فمبدأه يتعلق به الأوامر والنواهي، وكماله يتعلق به خطاب الوعد بالجنة والنصرة والسلامة من النار، أمَّا مبدأ الإيمان وهو أصل الإيمان فيتعلق بالخطاب، والخطاب يذكر العصاة يذكرون في الخطابات الموجهة للمؤمنين، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ [المائدة:6] يشمل العصاة وغير العصاة.

ولهذا قال المؤلِّف رحمه الله: " وَأَمَّا مَبْدَؤُهُ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ خِطَابُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِذَا قَالَ اللَّهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ [المائدة:6]  وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهُوَ أَمْرٌ فِي الظَّاهِرِ لِكُلِّ مَنْ أَظْهَرَهُ وَهُوَ خِطَابٌ فِي الْبَاطِنِ لِكُلِّ مَنْ عَرَفَ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِلرَّسُولِ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا، فهذا الخطاب أظهر ما أشمله الإسلام، عليه أن يؤدي الصلاة، ويشمل العاصي والمطيع، كلهم مأمورون بالصلاة، يشمل من أظهر الإيمان، ويشمل أيضًا من كان مصدق بالرسول وإن كان عاصي، وإن كان مقصرًا في الواجبات، الباطنة والظاهرة، يعني لو كان عاصي لو كان مقصر في بعض الواجبات، أو في بعض المحرمات يشمله الخطاب.

قال المؤلِّف رحمه الله: "وذلك أنه وَإِنْ كَانَ لفظ الَّذِينَ آمَنُوا يَتَنَاوَلُهُمْ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُمْ فَذَاكَ لِذُنُوبِهِمْ، يعني إن قلنا أيها الذين آمنوا يتناول العصاة فهم داخلون فيه، وإن قلنا لا يتناولهم فالسبب أنهم عصاة لذنوبهم  وذُنُوبُهُمْ مَانِعَةً مِنْ أَمْرِهِمْ بِالْحَسَنَاتِ" هذا أمر بالإحسان وإن كانت ذنوبهم مانعة لهم، من دخول في الخطاب، "الَّتِي إنْ فَعَلُوهَا كَانَتْ سَبَبَ رَحْمَتِهِمْ وَإِنْ تَرَكُوهَا كَانَ أَمْرُهُمْ بِهَا وَعُقُوبَتُهُمْ عَلَيْهَا عُقُوبَةً عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ وَالْكَافِرُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَيْضًا لَكِنْ لَا يَصِحُّ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ الكافر مأمور يعني يجب عليه أن يفعل الأمر، والأوامر موجهة إليه، الأوامر الآن يعاقب على تركها لكن لا تصح منه في حال كفره.

وذلك أن الكفار يخاطبون بشروع الشريعة في أصح قول العلماء، الكافر يعاقب على تركه الصلاة وعلى تركه الزكاة وعلى تركه الصوم، وعلى تركه الحج لكن لا يأمر بالصلاة في حال كفره، ولا بالزكاة ولا بالصوم؛ لأنه لا يصح منه حتى يؤمن فإذا آمن وشهد لله تعالى بالوحدانية وشهد للنبي محمد ﷺ بالرسالة بعد ذلك يأمر بالصلاة والزكاة والصوم، لكنه في يوم القيامة يعاقب على ترك الأيمان وعلى ترك الصلاة وعلى ترك الزكاة وعلى ترك الصوم وعلى ترك الحج.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله والكافر يجب عليه أيضًا لكن لا يصح حتى يؤمن، وَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ الْمَحْضُ -يعني الخالص- لَا يَصِحُّ مِنْهُ فِي الْبَاطِنِ حَتَّى يُؤْمِنَ، لا يطلب منه العمل حتى يؤمن.


([1]) – سبق

([2]) – سبق

([3]) – سبق

([4]) – سبق

([5]) – سبق

([6]) – سبق

([7]) – سبق

([8]) – سبق

([9]) – سبق

([10]) – سبق

([11]) – أخرجه مسلم رقم (537) من حديث معاوية بن الحكم السلمي .  

([12]) – سبق

([13]) – سبق

([14]) – ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

([15]) – أخرجه البخاري رقم (4907)، ومسلم رقم (2584) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

([16]) – سبق

([17]) – أخرجه البخاري رقم (7182) ومسلم رقم (1457) من حديث عائشة رضي الله عنها.

([18]) –سبق

([19]) – سبق

([20]) – سبق

([21]) – أخرجه مسلم رقم (651) من حديث أبي هريرة .

([22]) – أخرجه أحمد رقم (8796) من حديث أبي هريرة أيضًا.قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 168) رواه أحمد، وأبو معشر ضعيف.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد