شعار الموقع
  1. الصفحة الرئيسية
  2. الدروس العلمية
  3. العقيدة
  4. شرح كتاب الإيمان الكبير
  5. شرح كتاب الإيمان الكبير_47 من قوله وَأَمَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ أَوَّلَ الإيمان فَهَذَا يَصِحُّ مِنْهُ - إلى وَمَأْخَذُ هَذَا الْقَوْلِ طَرَدَهُ طَائِفَةٌ مِمَّنْ كَانُوا فِي الْأَصْلِ يَسْتَثْنُونَ فِي الإيمان

شرح كتاب الإيمان الكبير_47 من قوله وَأَمَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ أَوَّلَ الإيمان فَهَذَا يَصِحُّ مِنْهُ - إلى وَمَأْخَذُ هَذَا الْقَوْلِ طَرَدَهُ طَائِفَةٌ مِمَّنْ كَانُوا فِي الْأَصْلِ يَسْتَثْنُونَ فِي الإيمان

00:00
00:00
تحميل
71

(المتن)

وَأَمَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ أَوَّلَ الإيمان فَهَذَا يَصِحُّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ مَعَهُ إقْرَارَهُ فِي الْبَاطِنِ بِوُجُوبِ مَا أَوْجَبَهُ الرَّسُولُ وَتَحْرِيمِ مَا حَرَّمَهُ، وَهَذَا سَبَبُ الصِّحَّةِ، وَأَمَّا كَمَالِهِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ خِطَابُ الْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ وَالنُّصْرَةِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ النَّارِ، فَإِنَّ هَذَا الْوَعْدَ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ فَعَلَ الْمَأْمُورَ وَتَرَكَ الْمَحْظُورَ، وَمَنْ فَعَلَ بَعْضًا وَتَرَكَ بَعْضًا فَيُثَابُ عَلَى مَا فَعَلَهُ وَيُعَاقَبُ عَلَى مَا تَرَكَهُ فَلَا يَدْخُلُ هَذَا فِي اسْمِ الْمُؤْمِنِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ دُونَ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ.

وَمَنْ نَفَى عَنْهُ الرَّسُولُ الإيمان فَنَفَى الإيمان فِي هَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْوَعِيدِ. وَالْوَعِيدُ إنَّمَا يَكُونُ بِنَفْيِ مَا يَقْتَضِي الثَّوَابَ وَيَدْفَعُ الْعِقَابَ وَلِهَذَا مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ نَفْيِ الإيمان عَنْ أَصْحَابِ الذُّنُوبِ فَإِنَّمَا هُوَ فِي خِطَابِ الْوَعِيدِ وَالذَّمِّ لَا فِي خِطَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا.

(الشرح)

فإن المؤلف رحمه الله بيَّن فيما سبق أنَّ الإيمان له مبدأ وله كمال، وأن مبدأه وهو أصل الإيمان يتعلق به أحكام وكماله يتعلق به أحكام فمبدأه وهو أصل الإيمان يتعلق به خطاب الأمر والنهي فيدخل في خطاب الأمر والنهي المؤمن العاصي والمطيع.

في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ...[المائدة:6] وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [الأحزاب:70]

فيدخل في الخطابات العاصي، والمؤمن، وأما الكافر فإنه لا يصح منه الأمر، لا يصح منه الفعل وإن كان يعاقب على ترك الأوامر وعلى ترك الإيمان، لكنه لا يصح منه في حال كفره كالكافر والمنافق المحض الخالص هؤلاء لا تصح منهم الأعمال حتى يؤمنوا، لكنهم في يوم القيامة يعاقبون على ترك الإيمان، ويعاقبون على ترك الأوامر.

ثم قال المؤلف رحمه الله: " وَأَمَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ أَوَّلَ الإيمان فَهَذَا يَصِحُّ مِنْهُ لِأَنَّ مَعَهُ إقْرَارَهُ فِي الْبَاطِنِ بِوُجُوبِ مَا أَوْجَبَهُ الرَّسُولُ ﷺ وَتَحْرِيمِ مَا حَرَّمَهُ وَهَذَا سَبَبُ الصِّحَّةِ"، من كان معه أول الإيمان وأصل الإيمان الذي يدخله في دائرة الإسلام، فهذا يصح منه فعل الأوامر، ويصح منه ترك النواهي لماذا؟ لأن معه إقرار في الباطل وهو مقر في الباطن بوجوب اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، ووجوب امتثال أوامره وتحريم ما حرمه فلما كان معه هذا الإقرار وكان معه أصل الإيمان صار ذلك سببًا لصحة الأعمال منه.

وأما كمال الإيمان: وهو المؤمن الذي أدى الواجبات وترك المحرمات واستقام على طاعة الله، فهذا يتعلق به خطاب الوعد، خطاب الوعد بالجنة، وخطاب الوعد بالنصرة، و خطاب الوعد بالسلامة من النار، هذه الخطابات معلقة بكمال الإيمان، الوعد بالجنة إنما هو لمن أدى الواجبات وترك المحرمات، أما العاصي فهو موعود بالنار الزاني والسارق وشارب الخمر متوعد بالنار، بخلاف المؤمن الذي أدى الواجبات وترك المحرمات فهذا موعود بالجنة وموعود بالنصرة إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7] موعود بالسلامة من النار.

أما العاصي فليس له هذا الوعد، ليس موعود بالجنة ولكنه متوعد بالنار، وليس موعود بالنصرة، العصاة إنما النصرة للمطيعين إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7]

وكذلك السلامة من النار هذا إنما هو الخطاب للمؤمن الذي معه كمال الإيمان، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَأَمَّا كَمَالِهِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ خِطَابُ الْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ وَالنُّصْرَةِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ النَّارِ فَإِنَّ هَذَا الْوَعْدَ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ فَعَلَ الْمَأْمُورَ وَتَرَكَ الْمَحْظُورَ" يعني من فعل الأوامر وترك النواهي المحذور يعني المحرمات.

قال المؤلف رحمه الله: "وَمَنْ فَعَلَ بَعْضًا وَتَرَكَ بَعْضًا فَيُثَابُ عَلَى مَا فَعَلَهُ وَيُعَاقَبُ عَلَى مَا تَرَكَهُ فَلَا يَدْخُلُ هَذَا فِي اسْمِ الْمُؤْمِنِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ دُونَ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ" الذي يفعل بعض الأوامر ويترك بعض الأوامر، ويترك بعض النواهي ويفعل بعض النواهي، هذا ليس من المؤمنين المستحقين للحمد والمدح والثناء، بل من المؤمنين المستحقين للذم؛ لأنهم عصاة.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فَلَا يَدْخُلُ هَذَا فِي اسْمِ الْمُؤْمِنِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ دُونَ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ"

قال المؤلف رحمه الله: " وَمَنْ نَفَى عَنْهُ الرَّسُولُ ﷺ الإيمان فَنَفَي الإيمان فِي هَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْوَعِيدِ" من نفى الرسول الإيمان فهذا على سبيل الوعيد، كما نفي عن الزاني، نفي عن السارق، نفي عن شارب الخمر، كما في الحديث لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ([1]) وكما نفي الإيمان عن من لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه. لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ([2]) ، وكما نفي الإيمان عن من لا يأمن جاره بوائقه.([3])

كل هؤلاء نفى عنهم الإيمان على سبيل الوعيد، فنفي الإيمان إنما هو نفي لكمال الإيمان، قال: "وَالْوَعِيدُ إنَّمَا يَكُونُ بِنَفْيِ مَا يَقْتَضِي الثَّوَابَ وَيَدْفَعُ الْعِقَابَ"

قال المؤلف رحمه الله: "وَلِهَذَا مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ نَفْيِ الإيمان عَنْ أَصْحَابِ الذُّنُوبِ فَإِنَّمَا هُوَ فِي خِطَابِ الْوَعِيدِ وَالذَّمِّ لَا فِي خِطَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا" يعني العصاة الذين نفي عنهم الإيمان مثل الزاني والسارق وشارب الخمر ومن ما لا يأمن جاره بوائقه، ومن غش فليس منا، من حمل علينا السلاح فليس منا، هؤلاء كلهم أصحاب ذنوب أصحاب معاصي، نفي عنهم الإيمان على سبيل الذم والوعيد أما خطاب الأمر والنهي فلا ينفى بل يدخلون في ذلك.

الأمر بالوضوء، الأمر بتقوى الله، الأمر بإقامة الصلاة، كل هذا يدخل فيه، يدخلون في خطاب الأمر والنهي وكذلك في أحكام الدنيا، الأحكام يعامل معاملة المؤمنين من الميراث والنسب والجهاد وغير ذلك من أحكام الدنيا، هذه كلها متعلقة بأصل الإيمان.

(المتن)

وَاسْمُ الْإِسْلَامِ وَالإيمان وَالْإِحْسَانِ هِيَ: أَسْمَاءٌ مَمْدُوحَةٌ مَرْغُوبٌ فِيهَا لِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ لِأَهْلِهَا فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْعَاقِبَةَ الْحَسَنَةَ لِمَنْ اتَّصَفَ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَهُ.

وَلِهَذَا كَانَ مَنْ نَفَى عَنْهُمْ الإيمان؛ أَوْ الإيمان وَالْإِسْلَامَ جَمِيعًا وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ كُفَّارًا إنَّمَا نَفَى ذَلِكَ فِي أَحْكَامِ الآخرة وَهُوَ الثَّوَابُ لَمْ يَنْفِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا.

لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ ظَنَّتْ أَنَّهُ إذَا انْتَفَى الِاسْمُ انْتَفَتْ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ فَلَمْ يَجْعَلُوا مَعَهُمْ شَيْئًا مِنْ الإيمان وَالْإِسْلَامِ فَجَعَلُوهُمْ مُخَلَّدِينَ فِي النَّارِ وَهَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ شَيْءٌ مِنْ الإيمان وَالْإِسْلَامِ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ لَكِنْ كَانُوا كَالْمُنَافِقِينَ.

وَقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُنَافِقِ الَّذِي يُكَذِّبُ الرَّسُولَ فِي الْبَاطِنِ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِ الْمُذْنِبِ فَالْمُعْتَزِلَةُ سَوَّوْا بَيْنَ أَهْلِ الذُّنُوبِ وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالآخرة فِي نَفْيِ الْإِسْلَامِ وَالإيمان عَنْهُمْ بَلْ قَدْ يُثْبِتُونَهُ لِلْمُنَافِقِ ظَاهِرًا وَيَنْفُونَهُ عَنْ الْمُذْنِبِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا.

(الشرح)

نعم المؤلف رحمه الله يبيِّن أنها تشمل الإيمان واسم الإسلام واسم الإحسان هذه أسماء ممدوحة مرغوب فيها، لحسن عاقبة أهلها فمن اتصف بها فعاقبته حسنة.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَاسْمُ الْإِسْلَامِ وَالإيمان وَالْإِحْسَانِ هِيَ أَسْمَاءٌ مَمْدُوحَةٌ مَرْغُوبٌ فِيهَا لِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ لِأَهْلِهَا فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْعَاقِبَةَ الْحَسَنَةَ لِمَنْ اتَّصَفَ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَهُ".

العاقبة الحسنة تكون لمن اتصف بالإسلام  واتصف بالإيمان واتصف بالإحسان، واتصف بالإسلام يعني حسن إسلامه، فأدى الواجبات وترك المحرمات، واتصف بالإيمان فلم يقصر في بعض الواجبات ولم يترك بعض المحرمات وكذلك الإحسان، من عبد الله على المراقبة كأنه يراه فإن لم يكن يرى الله فأن الله يراه، من كان كذلك فالعاقبة الحسنة له ، العاقبة الحسنة له، فهو موعود بالجنة وموعود بالنصرة وموعود بالسلامة من النار.

أما من نفي عنهم الإيمان فهؤلاء إنما هو من باب الوعيد، نفي عنهم من باب الوعيد؛ لكونهم فعلوا المحرمات أو تركوا بعض الواجبات.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْعَاقِبَةَ الْحَسَنَةَ لِمَنْ اتَّصَفَ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ نَفَى عَنْهُمْ الإيمان؛ أَوْ الإيمان وَالْإِسْلَامَ" يعني من نفى عنهم الشارع، من نفى عنهم الشارع الإيمان، مثل قوله عليه الصلاة والسلام لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ([4]) لا يأمن من لا يأمن جاره بوائقه ([5]) لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ([6])

هؤلاء ليسوا كفار بل هم عصاة، إيمانهم ضعيف ناقص نفي عنهم كمال الإيمان لا أصل الإيمان، وكذلك من نفي عنهم الإيمان وهو كما في قوله تعالى للأعراب قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14] نفى عنهم الإيمان وأثبت لهم الإسلام، هؤلاء ليسوا كفارًا، لكن نفي ذلك في أحكام الآخرة وهو الثواب.

النفي لما هو في أحكام الآخرة وهو الثواب والوعد بالجنة لكن في أحكام الدنيا داخلٌ في اسم الإيمان ، تشملهم الأوامر والنواهي.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " إنَّمَا نَفَى ذَلِكَ فِي أَحْكَامِ الآخرة وَهُوَ الثَّوَابُ لَمْ يَنْفِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا. لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ ظَنَّتْ أَنَّهُ إذَا انْتَفَى الِاسْمُ انْتَفَتْ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ" فالمعتزلة وهم أتباع واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد الذين اعتزلوا الجماعة، الذين اعتزلوا مجلس الحسن البصري، وابتدعوا في دين الله، فإن لهم عقيدة خارج عقيدة أهل السنة والجماعة، وهو أنهم يعتقدون أن العاصي إذا فعل المعصية أو الكبيرة خرج من الإيمان، وحينئذ إذا خرج من الإيمان فإنه يخلد في النار.

فظنوا أنه إذا نفي الإيمان عن العاصي لا تنتفي جميع أجزاءه في الدنيا والآخرة وهذا من جهلهم وغلطهم، وكذلك الخوارج، الخوارج يقولون إذا عصى وفعل الكبيرة خرج من الإيمان ودخل في الكفر وفي الآخرة مخلد في النار، يخلدون في النار، والمعتزلة يقولون: إذا فعل الكبيرة خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر في الدنيا بل يكون في منزلة من المنزلتين لا مؤمن ولا كافر يسمونه فاسقًا، وأما في الآخرة فإنهم يخلدونه في النار، فيوافقون الخوارج.

ومذهب الخوارج ومذهب المعتزلة باطل يصادم النصوص من الكتاب والسنة.

ولهذا أنكر عليهم السنة والجماعة وردوا عليهم وصاحوا بهم وبدَّعوهم، فالمؤلف رحمه الله يبين بطلان مذهب المعتزلة حيث أنهم ظنوا إذا انتفى الاسم عن العاصي انتفت جميع أجزاءه فظنوا أن النبي ﷺ لما قال:  لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ أن الزاني مخلد في النار، وأن السارق مخلد في النار، وهذا من جهلهم وضلالهم.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ ظَنَّتْ أَنَّهُ إذَا انْتَفَى الِاسْمُ انْتَفَتْ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ فَلَمْ يَجْعَلُوا مَعَهُمْ شَيْئًا مِنْ الإيمان وَالْإِسْلَامِ فَجَعَلُوهُمْ مُخَلَّدِينَ فِي النَّارِ" قال المؤلف رحمه الله في بيان بطلان مذهبهم وَهَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ".

ثم رد عليهم: " وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ شَيْءٌ مِنْ الإيمان وَالْإِسْلَامِ" كما تدعيه المعتزلة "لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ لَكِنْ كَانُوا كَالْمُنَافِقِينَ"

لو كان ... كما يقول المعتزلة أنهم ينتهي الإيمان ولا يبقى معهم شيء من الإيمان ويخلدون في النار كما تقول الخوارج  والمعتزلة، لو كان كذلك حكمهم، لما ثبت في حقهم شيء من أحكام المؤمنين، فإن أحكام المؤمنين كلها ثابتة لهم، لو كانوا كفار لوجب قتلهم؛ لقول النبي ﷺ: مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ([7])  الكافر يقتل لكن الزاني والسارق وشارب الخمر يقام عليهم الحدود ولا يقتلون ويرثون من أقاربهم، ويغسلون إذا ماتوا ويصلى عليهم، ليسوا كفارًا.

لو كانوا كما تقول المعتزلة لوجب قتلهم ولما أعطوا شيئًا من الأحكام، ولكانوا كالمنافقين الذين  ليس معهم شيء من الإيمان.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ شَيْءٌ مِنْ الإيمان وَالْإِسْلَامِ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ لَكِنْ كَانُوا كَالْمُنَافِقِينَ. وَقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُنَافِقِ الَّذِي يُكَذِّبُ الرَّسُولَ ﷺ فِي الْبَاطِنِ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِ الْمُذْنِبِ" النصوص فرقت بينهما.

الكافر المنافق الذي يكذب الله ورسوله في الباطن هذا مخلد في النار، مخلد في النار وليس له من أحكام المؤمنين شيء، أما المذنب العاصي هذا ليس مخلد في النار بل هو تحت مشيئة الله إن شاء الله غفر الله وإن شاء عذبه، وتحت مشيئة الله وقد يعفى عنه، وقد يعذب، وإذا عذب فلا يخلد في النار، بل يخرج منها.

فرقٌ بين المؤمن العاصي، وبين المنافق المكذب لله ولرسوله؛ المنافق المكذب لله ولرسوله هذا من أهل النار مخلد في النار، والعاصي المذنب هذا في الدنيا له أحكام وفي الآخرة له أحكام، في الآخرة لا يخلد في النار إذا دخلها وقد يعفى عنه، وهو تحت مشيئة الله وهو من أهل الجنة في النهاية، وفي الدنيا تجري عليه أحكام المسلمين.

ولها قال المؤلف رحمه الله: " وَقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُنَافِقِ الَّذِي يُكَذِّبُ الرَّسُولَ فِي الْبَاطِنِ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِ الْمُذْنِبِ فَالْمُعْتَزِلَةُ سَوَّوْا بَيْنَ أَهْلِ الذُّنُوبِ وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالآخرة فِي نَفْيِ الْإِسْلَامِ وَالإيمان عَنْهُمْ" هذا من جهلهم وضلالهم سوى بينهم " بَلْ قَدْ يُثْبِتُونَهُ لِلْمُنَافِقِ ظَاهِرًا" يثبتون يعني بعض الأحكام ظاهرًا يُثْبِتُونَهُ لِلْمُنَافِقِ ظَاهِرًا وَيَنْفُونَهُ عَنْ الْمُذْنِبِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا"

فهذا من جهلهم عكسوا، فالمعتزلة أحيانًا يثبتون بعض الأحكام للمنافق الذي يظهر الإيمان، وينفون الأحكام في الدنيا والآخرة عن المذنب باطنًا وظاهرًا وهذا من جهلهم وضلالهم، نعم.

(المتن)

فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمًا وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا - الإيمان الْكَامِلَ - كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ جِبْرِيلَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ مَعَ الْقُرْآنِ وَكَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ عَمَّنْ ذَكَرَ عَنْهُ مِنْ السَّلَفِ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ الطَّاعَاتُ الظَّاهِرَةُ وَهُوَ الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ لِأَنَّ " الْإِسْلَامَ فِي الْأَصْلِ " هُوَ الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ.

وَهَذَا هُوَ الِانْقِيَادُ وَالطَّاعَةُ وَالإيمان فِيهِ مَعْنَى التَّصْدِيقِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَهَذَا قَدْرٌ زَائِدٌ فَمَا تَقُولُونَ فِيمَنْ فَعَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَتَرَكَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مُخْلِصًا لِلَّهِ تَعَالَى ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؟ أَلَيْسَ هَذَا مُسْلِمًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْجَنَّةُ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ فَهَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا.

قُلْنَا: قَدْ ذَكَرْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ الإيمان الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ إذْ لَوْ لَمْ يُؤَدِّ الْوَاجِبَ لَكَانَ مُعَرَّضًا لِلْوَعِيدِ؛ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ مِنْ الإيمان مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إمَّا لِكَوْنِهِ لَمْ يُخَاطِبْ بِهِ أَوْ لِكَوْنِهِ كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ وَهَذَا أَوْلَى.

لِأَنَّ الإيمان الْمَوْصُوفَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَالْإِسْلَامَ لَمْ يَكُونَا وَاجِبَيْنِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بَلْ وَلَا أَوْجَبَا عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ قَبْلَنَا مِنْ الْأُمَمِ اتِّبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ أَهْلَ الْجَنَّةِ مَعَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ مُسْلِمُونَ وَمَعَ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَا يُقْبَلُ دِينًا غَيْرَهُ.

وَهُوَ دِينُ اللَّهِ فِي الْأَوَّلِينَ والآخرين؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ بِمَا أَمَرَ فَقَدْ تَتَنَوَّعُ أَوَامِرُهُ فِي الشَّرِيعَةِ الْوَاحِدَةِ، فَضْلًا عَنْ الشَّرَائِعِ، فَيَصِيرُ فِي الْإِسْلَامِ بَعْضُ الإيمان بِمَا يَخْرُجُ عَنْهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ كَالصَّلَاةِ إلَى الصَّخْرَةِ كَانَ مِنْ الْإِسْلَامِ حِين كَانَ اللَّهُ أَمَرَ بِهِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْإِسْلَامِ لِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ.

(الشرح)

نعم، المؤلف رحمه الله بيَّن هنا سؤال وجوابه قال: " فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمًا وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا -الإيمان الْكَامِلَ- كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ جِبْرِيلَ". فما تقولون فيمن فعل ما أمر الله وترك ما نهى الله عنه، أليس هذا مسلمًا في  الباطن وفي الظاهر؟.

هذا السؤال يقول المؤلف رحمه الله: "السائل يقول ما دمتم قررتم أن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمن الإيمان الكامل فما تقولن فيما فعل الأوامر وترك النواهي أليس هذا مسلما في الباطن والظاهر؟

المؤلف رحمه الله كما سبق قرر أن المؤمن، أن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمن، والمعنى أن المؤمن الذي يطلق عليه الإيمان يعني يوصف بالإيمان بإطلاق ويقال مؤمن إنما هو الذي أدى الواجبات وترك المحرمات، وهذا لابد أن يكون مسلمًا؛ لأنه تجاوز الإسلام إلى الإيمان، لأن الإيمان أكمل فالعاصي يسمى مسلم ولا يسمى مؤمن بإطلاق لابد من القيد، أما المؤمن بإطلاق فإنه يسمى مسلمًا ومؤمنًا وليس كل مسلم مؤمنًا، ليس كل مسلم مؤمنًا ، ليس كل من دخل في دائرة الإسلام يطلق عليه الإيمان، كالعاصي، العاصي نسميه مسلمًا ولكن لا نسميه مؤمنًا بإطلاق، بل لابد من القيد فنقول مؤمن ضعيف الإيمان، مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ولا نطلق عليه الإيمان إلا إذا أدى الواجبات وترك المحرمات فنقول مؤمن بإطلاق، وعلى هذا فليس كل مسلم مؤمنًا، العاصي نسميه مسلمًا ولكن لا نسميه مؤمنًا إلا بقيد بإطلاق.

هذا قوله: " فَإِذَا كَانَ كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمًا وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا يعني - الإيمان الْكَامِلَ - كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ جِبْرِيلَ وَغَيْرِهِ" فإن حديث جبريل لما سئل عن الإسلام لما سأل النبي ﷺ عن الإسلام فسر بالأعمال الخمسة بالشهادتين والصلاة والزكاة والصوم والحج. ولما سأله عن الإيمان فسر بالأمور الباطنة الْإِيمَان أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ.([8])

فالمسلم المؤمن هو الذي أدى الواجبات الظاهرة والمعتقدات الباطنة، هذا هو المسلم ظاهر وباطن، أما من أتى بالأعمال الظاهرة ولكنه لم يؤدي المعتقدات الباطنة، هذا هو المنافق، يسمى مسلم في الظاهر، ولا يسمى مؤمن، يسمى مسلم في الظاهر.

فالمؤلف رحمه الله يقول في الاعتراض: " فَإِذَا كَانَ كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمًا وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا - الإيمان الْكَامِلَ - كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ جِبْرِيلَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ مَعَ الْقُرْآنِ وَكَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ عَمَّنْ ذَكَرَ عَنْهُ مِنْ السَّلَفِ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ الطَّاعَاتُ الظَّاهِرَةُ وَهُوَ الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ"

الإسلام هو الطاعات في الظاهر وسمي إسلام من الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ؛ لأن الإسلام في الأصل هو الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ وهذا هو الانقياد والطاعة.

والإيمان فيه معنى التصديق والطمأنينة في الباطن، وهذا قدر زائد يعني التصديق قدرٌ زائد على الاستسلام والانقياد في الظاهر.

المسلم هو الذي يستسلم في الظاهر وأما الإيمان فهو التصديق والطمأنينة، والتصديق والطمأنينة في الباطن، هذا قدرٌ زائد عن الأعمال.

قال: " فَمَا تَقُولُونَ فِيمَنْ فَعَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَتَرَكَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مُخْلِصًا لِلَّهِ تَعَالَى ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؟ أَلَيْسَ هَذَا مُسْلِمًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْجَنَّةُ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ فَهَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا"

قال المؤلف رحمه الله في الجواب عن هذا الاعتراض مبينًا أنه لابد أن يكون، لابد أن يكون معه الإيمان الذي، هذا المسلم باطنًا وظاهرًا لابد أن يكون معه أصل الإيمان الذي يصح به إسلامه، ولكن هناك من الإيمان ما لا يجب عليه، قد يكون غير مخاطب وقد يكون عاجز، لكن الإيمان الذي لابد منه فأصل الإيمان الذي يصح به إسلامه لابد منه.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " قُلْنَا: قَدْ ذَكَرْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ الإيمان الَّذِي وَجَبَ" يعني الذي يصح به إسلامه هذا لابد منه وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره.

وأن تشهد لله بالوحدانية وأن تشهد للنبي محمد ﷺ بالرسالة، وألا يفعل شركًا ولا ناقضًا من نواقض الإسلام، هذا لابد منه يعني لا يصح الإسلام إلا به.

هذا لابد منه، لكن هناك من الإيمان ما لا يجب عليه كأن يكون مثلًا من الإيمان ما لا يخاطب به كأن يكون مثلًا غير متزوج، فلا يخاطب بالنفقة لأنه ليس واجب عليه، قد يكون عاجر عن الجهاد فلا يخاطب بالجهاد، قد يكون مثلًا عاجز فلا يخاطب.

فهذا لا  يضره كونه مثلا ليس معه هذا الإيمان، لكن الإيمان الذي لابد منه الذي لا يصح  الإسلام إلا به هذا لابد منه.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " . قُلْنَا: قَدْ ذَكَرْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ الإيمان الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ إذْ لَوْ لَمْ يُؤَدِّ الْوَاجِبَ لَكَانَ مُعَرَّضًا لِلْوَعِيدِ؛ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ مِنْ الإيمان مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إمَّا لِكَوْنِهِ لَمْ يُخَاطِبْ بِهِ أَوْ لِكَوْنِهِ كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ وَهَذَا أَوْلَى"

قال المؤلف رحمه الله: " لِأَنَّ الإيمان الْمَوْصُوفَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَالْإِسْلَامَ لَمْ يَكُونَا وَاجِبَيْنِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ" يعني مثلًا في حديث جبريل بيَّن الإسلام الشهادتان والصلاة والزكاة والصوم والحج.

في أول الإسلام ما كان الحج واجب، وفي أول الإسلام ما كان الصوم واجب، ففي أول الإسلام الذين ماتوا قبل وجوب الصيام وقبل وجوب الحج مسلمون وليس معهم الإيمان بالصيام والحج لأنه لم يجب عليهم في ذلك الوقت، فلا يضرهم.

كذلك المحرمات التي حرمت بعد ذلك، مات بعض الصحابة وقد شرب الخمر، وقبل أن تحرم الخمر قُتل في بدر، ولهذا لما نزل تحريم الخمر أشكل على الصحابة، قالوا: كيف حال إخواننا الذين قتلوا شهداء وهي في بطونهم؟ فأنزل الله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ  ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:93] ([9]) فهذا لا يضره كونه لم يخاطب بذلك أو لكونه كان عاجزًا.

ولذلك قال المؤلف رحمه الله: لِأَنَّ الإيمان الْمَوْصُوفَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَالْإِسْلَامَ لَمْ يَكُونَا وَاجِبَيْنِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بَلْ وَلَا وْجَبَا عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ قَبْلَنَا مِنْ الْأُمَمِ" صيامه ليس كصيامنا مثلا، وكذلك الحج  "بَلْ وَلَا أَوْجَبَا عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ قَبْلَنَا مِنْ الْأُمَمِ اتِّبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ أَهْلَ الْجَنَّةِ مَعَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ مُسْلِمُونَ وَمَعَ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَا يُقْبَلُ دِينًا غَيْرَهُ؛ وَهُوَ دِينُ اللَّهِ فِي الْأَوَّلِينَ والآخرين" يشير إلى قوله تعالى إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] وقوله  وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]

فالإسلام هو دين الله، دين الله في الأرض وفي السماء وهو دين الأولين والآخرين، ومع ذلك هناك يعني من الأمم السابقة من لم يجب عليهم الإيمان بما وجب على أمة محمد ﷺ.

قال المؤلف رحمه الله: " لِأَنَّ الْإِسْلَامَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ بِمَا أَمَرَ " والأوامر تتنوع في كل شريعة، كل شريعة تتنوع الأوامر يعني المؤمنون في زمن نوح هم الذين آمنوا بالله، آمنوا بالله وآمنوا بنوح وامتثلوا الأوامر التي جاءت في شريعة نوح، وكذلك المؤمنون في زمن هود وصالح وشعيب وإبراهيم وموسى وعيسى كلهم مكلفون بالأوامر التي جاءت في شريعتهم.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "ولما بعث نبينا ﷺ كان الإسلام هو توحيد الله والالتزام بالشريعة الخاتمة التي شرعها الله تعالى لهذه الأمة على لسان محمد ﷺ"

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " لِأَنَّ الْإِسْلَامَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ بِمَا أَمَرَ فَقَدْ تَتَنَوَّعُ أَوَامِرُهُ فِي الشَّرِيعَةِ الْوَاحِدَةِ فَضْلًا عَنْ الشَّرَائِعِ فَيَصِيرُ فِي الْإِسْلَامِ بَعْد الإيمان بِمَا يَخْرُجُ عَنْهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ" يعني في وقت قد يكون هذا الشيء من الإيمان، وفي وقت لا يكون من الإسلام.

مثل له المؤلف رحمه الله قال: " كَالصَّلَاةِ إلَى الصَّخْرَةِ؛ يعني بيت المقدس كَانَ مِنْ الْإِسْلَامِ حِين كَانَ اللَّهُ أَمَرَ بِهِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْإِسْلَامِ لِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ" لما هاجر النبي ﷺ إلى المدينة وجهه الله إلى بيت المقدس، القبلة في الصلاة ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، ففي ذلك الوقت لما وُجه إلى بيت المقدس كان الصلاة إلى بيت المقدس من الإسلام، ثم بعد ذلك وجه إلى الكعبة، ولما وجه إلى الكعبة كان الصلاة إلى بيت المقدس ليس من الإسلام.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله : " فَيَصِيرُ فِي الْإِسْلَامِ بَعْد الإيمان بِمَا يَخْرُجُ عَنْهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ كَالصَّلَاةِ إلَى الصَّخْرَةِ كَانَ مِنْ الْإِسْلَامِ حِين كَانَ اللَّهُ أَمَرَ بِهِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْإِسْلَامِ لِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ." وبهذا يتبين أن الجواب على هذا السؤال وأن المسلم هو الذي معه الإيمان الذي يصحح إسلامه، وأما ما عجز عنه أفضل ما لم يؤمر به أو ما نسخ فإنه في ذلك يكون خارجًا عن مسمى الإيمان في حقه، نعم.

(المتن)

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَمْسَ الْمَذْكُورَةَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ([10]) لَمْ تَجِبْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بَلْ الصِّيَامُ وَالْحَجُّ وَفَرَائِضُ الزَّكَاةِ إنَّمَا وَجَبَتْ بِالْمَدِينَةِ؛ وَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ إنَّمَا وَجَبَتْ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ.

وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَحَادِيثِ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْحَجِّ لِتَأَخُّرِ وُجُوبِهِ إلَى سَنَةِ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ؛ وَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ كَانَ مَنْ اتَّبَعَهُ وَآمَنَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُؤْمِنًا مُسْلِمًا؛ وَإِذَا مَاتَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ هَذَا زَادَ " الإيمان وَالْإِسْلَامُ " حَتَّى قَالَ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ.

 وَكَذَلِكَ الإيمان فَإِنَّ هَذَا الإيمان الْمُفَصَّلَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ الْعَلَقِ وَالْمُدَّثِّرِ بَلْ إنَّمَا جَاءَ هَذَا فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ كَالْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الإيمان الْمُفَصَّلُ وَاجِبًا عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ قَبْلَنَا.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ مُسْلِمًا يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَمَعَهُ الإيمان الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَيْسَ مَعَهُ هَذَا الإيمان الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ.

لَكِنَّ هَذَا يُقَالُ: مَعَهُ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الإيمان وَالْإِسْلَامِ وَقَدْ يَكُونُ مُسْلِمًا يَعْبُدُ اللَّهَ كَمَا أُمِرَ وَلَا يَعْبُدُ غَيْرَهُ وَيَخَافُهُ وَيَرْجُوهُ؛ وَلَكِنْ لَمْ يَخْلُصْ إلَى قَلْبِهِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَلَا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِهِ وَمَالِهِ؛ وَأَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَأَنْ يَخَافَ اللَّهَ لَا يَخَافَ غَيْرَهُ؛ وَأَنْ لَا يَتَوَكَّلَ إلَّا عَلَى اللَّهِ؛ وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ الإيمان الْوَاجِبِ؛ وَلَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الِاسْتِسْلَامُ وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الْخُضُوعَ لِلَّهِ وَحْدَهُ؛ وَالِانْقِيَادَ لَهُ وَالْعُبُودِيَّةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ؛ وَهَذَا قَدْ يَتَضَمَّنُ خَوْفَهُ وَرَجَاءَهُ. وَأَمَّا طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ بِمَحَبَّتِهِ وَحْدَهُ وَأَنْ يَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَبِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَحْدَهُ وَبِأَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ؛ فَهَذِهِ مِنْ حَقَائِقِ الإيمان الَّتِي تَخْتَصُّ بِهِ فَمَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا وَكَذَلِكَ وَجَلُ قَلْبِهِ إذَا ذَكَرَ اللَّهُ وَكَذَلِكَ زِيَادَةُ الإيمان إذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِ آيَاتُهُ.

(الشرح)

فإن المؤلف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بيَّن فيما سبق أن الإيمان له أصل ومبدأ وله كمال، وأن مبدأ الإيمان وأصله لابد منه في صحة الإسلام، فمن لم يكن معه أصل الإيمان ومبدأ الإيمان فإنه لا يصح منه أي عمل.

وذلك مثل ما أن يكون مؤمنًا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ومثل أن يكون مصدقًا لله ولرسوله في الباطن.

وكذلك أيضًا اشترط في أصل الإيمان ومبدأه الذي لا يصح الإسلام إلا به أن يكون موحدًا لله لا يقع في عمله شرك، فلا يكون مشركًا في العبادة، فلا يفعل شرك في العبادة، ولا يفعل ناقضًا من نواقض الإسلام كأن ينكر أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة هذا لابد منه في أصل الإيمان، ولا يصح الإسلام إلا به، وأمَّا كمال الإيمان فهو أن يكون مع ذلك ملتزمًا بأداء الواجبات وترك المحرمات، فيؤدي ما أوجب الله عليه، وينفي عن ما حرم الله عليه، فالأول الذي معه أصل الإيمان ومبدأه قد يكون عاصيا، يفعل بعض المحرمات أو يترك بعض الواجبات لكن يسمى مسلم ولا يسمى مؤمن بإطلاق؛ لأن معه أصل الإيمان ومبدأه وليس معه كماله.

أما من كان معه أصل الإيمان وكماله فهو الذي يؤدي الواجبات وينفي[29:27] عن المحرمات وهذا هو الموعود بالجنة، والموعود بالنصر، والموعود بالسلامة من النار، وهذا هو المؤمن الممدوح الذي جاءت النصوص بمدحه والثناء عليه.

والإيمان الواجب يختلف، يختلف باختلاف الأشخاص واختلاف الأوقات والأزمان، فالأمم السابقة معهم الإيمان الواجب وإن كانوا لم يؤمروا بما أُمرت به هذه الأمة.

وكذلك الإنسان قد يكون مؤمنا الإيمان الواجب لكنه لا يجب عليه الإيمان المفصل كالإيمان الذي يعجز عنه، والإيمان الذي لم يخاطب به، وكذلك أيضًا في أول الإسلام كان الحج والصيام قبل أن يشرعا ليسا واجبين وكان المؤمنون مؤمنون وإيمانهم صحيح، وإسلامهم صحيح، وإن كانوا لم يأتوا بالصوم وبالحج لأنهم لم يؤمروا به.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: ". وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَمْسَ الْمَذْكُورَةَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ لَمْ تَجِبْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ" والمراد بالخمس المذكورة أركان الإسلام الخمسة حينما سأل النبي ﷺ جبرائيل عن الإسلام فقال: الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ([11])

هذه الخمس، خمس أركان، أصلها وأساسها: الشهادة لله تعالى بالوحدانية، والشهادة لنبيه محمد ﷺ بالرسالة، هذا أصل الإيمان، لا يصح الإيمان والإسلام إلا به، ثم الصلاة ثم الزكاة ثم الصوم ثم الحج.

يقول المؤلف رحمه الله: " وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَمْسَ الْمَذْكُورَةَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ لَمْ تَجِبْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ" يعني في أول الأمر يجب على الناس لما كان المسلمون في مكة، كانوا مأمورين بالتوحيد وليس عليهم صلاة ولا زكاة ولا صوم ولا حج، وإيمانهم كامل، ومن مات منهم فهو في الجنة، ثم بعد ذلك شرعت الصلاة، ولما هاجر النبي ﷺ إلى المدينة بعد ذلك شرع الصيام في السنة الثانية من الهجرة ثم شرع الحج في السنة التاسعة أو في السنة العاشرة.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَمْسَ الْمَذْكُورَةَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ لَمْ تَجِبْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بَلْ الصِّيَامُ وَالْحَجُّ وَفَرَائِضُ الزَّكَاةِ إنَّمَا وَجَبَتْ بِالْمَدِينَةِ؛ وَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ إنَّمَا وَجَبَتْ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ؛ وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَحَادِيثِ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْحَجِّ لِتَأَخُّرِ وُجُوبِهِ إلَى سَنَةِ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْن"

ثم قال المؤلف رحمه الله: " وَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ كَانَ مَنْ اتَّبَعَهُ وَآمَنَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُؤْمِنًا مُسْلِمًا؛ وَإِذَا مَاتَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ هَذَا زَادَ " الإيمان وَالْإِسْلَامُ " يعني كالمؤمنين مثلًا في مكة من مات منهم فهو من أهل الجنة، وإن كان لم يصلي ومن لم يصوم ومن لم يزكي ومن لم يحج، ثم بعد ذلك  زاد الإيمان الإسلام لما هاجر النبي ﷺ إلى المدينة؛ لأنه شرع الأذان وشرعت صلاة الجماعة وشرعت الحدود، وشرع الصيام، وشرعت المعاملات والعقود، وشرع الحج، بعد ذلك في السنة التاسعة أو في السنة العاشرة.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ كَانَ مَنْ اتَّبَعَهُ وَآمَنَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُؤْمِنًا مُسْلِمًا؛ وَإِذَا مَاتَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ هَذَا زَادَ " الإيمان وَالْإِسْلَامُ " حَتَّى قَالَ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]

هذه الآية نزلت على النبي ﷺ وهو واقف بعرفة([12]) في السنة العاشرة من الهجرة وعاش النبي ﷺ بعدها ثمانين ليلة أو تزيد قليلًا.

قال المؤلف رحمه الله: " وَكَذَلِكَ الإيمان فَإِنَّ هَذَا الإيمان الْمُفَصَّلَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ" يعني الأعمال الخاصة التي ذكرت في حديث جبريل لم يكن مأمور به في أول الْأَمْرِ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ الْعَلَقِ وَالْمُدَّثِّرِ" سورة العلق: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ۝ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ [العلق:1،2] وسورة المدثر: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ۝ قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:1،2] لما أنزل الله هاتين الصورتين ما كانت الصلاة واجبة ولا كانت الزكاة واجبة ولا الصوم ولا الحج، ومع ذلك من آمن به فهو مؤمن تام الإيمان.

قال المؤلف رحمه الله: " بَلْ إنَّمَا جَاءَ هَذَا فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ كَالْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ" يعني الإيمان مفصل جاء متأخرًا، قيل: الإيمان مفصل ليس واجب عل المسلمين الذين تقدم إسلامهم.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الإيمان الْمُفَصَّلُ وَاجِبًا عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ قَبْلَنَا" الأمم السابقة، وكذلك المؤمنين في مكة.

قال: " وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ مُسْلِمًا يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَمَعَهُ الإيمان الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَيْسَ مَعَهُ هَذَا الإيمان الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ" وهذا واضح الأمم السابقة ما وجب عليهم مثل ما وجب على هذه الأمة من الصيام والزكاة والحج يختلف وكذلك الذين آمنوا في مكة، من مات منهم فهو من أهل الجنة، ومعه الإيمان التام، وليس، ولم يجب عليه الإيمان المفصل من صلاة وزكاة والصوم والحج.

يقول المؤلف رحمه الله: "لَكِنَّ هَذَا يُقَالُ: مَعَهُ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الإيمان وَالْإِسْلَامِ" يعني هذا معه ما أمر به وهو مأمور بأن يؤمن ويوحد الله وليس مأمور بذلك الوقت بالصلاة والزكاة والصوم والحج، فيقال.

يقول المؤلف رحمه الله: " يقَالُ: مَعَهُ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الإيمان وَالْإِسْلَامِ" ثم قال المؤلف رحمه الله: " وَقَدْ يَكُونُ مُسْلِمًا يَعْبُدُ اللَّهَ كَمَا أُمِرَ وَلَا يَعْبُدُ غَيْرَهُ وَيَخَافُهُ وَيَرْجُوهُ؛ وَلَكِنْ لَمْ يَخْلُصْ إلَى قَلْبِهِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَلَا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِهِ وَمَالِهِ؛ وَأَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَأَنْ يَخَافَ اللَّهَ لَا يَخَافَ غَيْرَهُ؛ وَأَنْ لَا يَتَوَكَّلَ إلَّا عَلَى اللَّهِ؛ وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ الإيمان الْوَاجِبِ؛ وَلَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ الْإِسْلَامِ"

يعني قد يكون الإنسان مسلم ولكن ليس معه حقيقة الإيمان، مسلم أن يعبد الله كما أمر، لم يقع في عمل شرك، ولا يعبد غيره، ويخاف الله، ويرجوه، لكن لم يخلص إلى قلبه حقيقة الإيمان وهو أن يكون الله ورسوله أحب إليه من سواهما. يعني يشير إلى حديث أنس في الصحيحين أن النبي ﷺ قال ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الإيمان أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بعد إذ أنقذه الله منه كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ([13])

هذه من حقائق الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، قد يكون الإنسان مسلم، ولكن لم يصل إلى هذه الدرجة أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، يعني يقدم محبة الله ومحبة الرسول على كل شيء.

قد يكون مؤمن ومسلم ولكنه يقدم شيء من الدنيا على محبة الله ورسوله وعلى الجهاد، يقدم محبة الآباء أو الأبناء أو الإخوان أو العشيرة أو التجارة، أو المساكن يقدمها على محبة الله ورسوله وعلى الجهاد في سبيله، تجده قد يتعامل بالربا، قد يأكل الرشوة، هذا قدم، قدم المال على محبة الله ورسوله، قد يتأخر عن الجهاد وهو واجب عليه فيكون قدم الدنيا على محبة الله ورسوله ومع ذلك هو مؤمن، عنده أصل الإيمان ولكن ليس عنده كماله وهو حقيقة الإيمان.

كما قال الله تعالى في سورة التوبة قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24] بين أن من قدم شيء من الأصناف الثمانية على محبة الله ورسوله فإنه متوعد بالوعيد، متوعد بالوعيد وهو من الفاسقين لكن معه أصل الإيمان ومبدأه، فهو مسلم يعبد الله ولا يعبد غيره ويرجوه ويخافه لكن ليس معه حقيقة الإيمان؛ لكونه قدم شيء من هذه الأصناف الثمانية على محبة الله ورسوله.

هذا ما يقوله المؤلف: " وَقَدْ يَكُونُ مُسْلِمًا يَعْبُدُ اللَّهَ كَمَا أُمِرَ وَلَا يَعْبُدُ غَيْرَهُ وَيَخَافُهُ وَيَرْجُوهُ؛ وَلَكِنْ لَمْ يَخْلُصْ إلَى قَلْبِهِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَلَا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِهِ وَمَالِهِ؛" يشير إلى آيات التوبة أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [التوبة:24] هذا وعيد شديد، انتظروا ماذا يحل بكم من عقوبة، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24] إشارة إلى من فعل ذلك فهو فاسق، يعني: عاصي، وإن كان مسلم، وأن يحب لأخيه ما لا يجب لنفسه.

يشير إلى الحديث: لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ([14]) فالذي يحبُ، لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه مسلم، إذا كان يعبد الله لكن ليس معه حقيقة الإيمان، ليس معه كمال الإيمان.

عنده أصل الإيمان ومبدأه لكن ليس عنده كمال الإيمان، وأن يخاف الله ولا يخاف غيره، وألا يتوكل على إلا على الله هذه كلها من حقائق الإيمان، قد يكون الإنسان مسلم وإن كان يخاف غير الله، وإن كان قد يتوكل على غير الله في الأمور الظاهرة التي يقدر عليها الإنسان.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ الإيمان الْوَاجِبِ" يعني هذه الأمور أن يحب الله ورسوله أحب إليه سواهما، وكون الله ورسوله والجهاد في سبيله أحب إليه، وأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه كل هذا مِنْ الإيمان الْوَاجِبِ؛ وَلَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ الْإِسْلَامِ قد يكون مسلم وليست معه.

قال: "فَإِنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الِاسْتِسْلَامُ وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الْخُضُوعَ لِلَّهِ وَحْدَهُ؛ وَالِانْقِيَادَ لَهُ وَالْعُبُودِيَّةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ:" وهذا مسلم خاضع مستسلم لله خاضع له منقاد له لكنه لم يخلص إلى قلبه حقيقة الإيمان.

قال المؤلف: "وَهَذَا قَدْ يَتَضَمَّنُ خَوْفَهُ وَرَجَاءَهُ. وَأَمَّا طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ بِمَحَبَّتِهِ وَحْدَهُ وَأَنْ يَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَبِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَحْدَهُ وَبِأَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ؛ فَهَذِهِ مِنْ حَقَائِقِ الإيمان الَّتِي تَخْتَصُّ بِهِ" يعني من حقائق الإيمان، يعني قد يكون الإنسان مسلم مستسلم ومنقاد وخاضع لله، ويعبد الله لكن ليس معه حقيقة الإيمان، وهي طمأنينة القلب، بأن يحب الله ويحب رسوله أحب إليه مما سواهما، وبالتوكل عليه وبأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه.

قال المؤلف: "فَمَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا" يعني: من  لم يحب لأخيه ما لا يحب لنفسه، ومن قدم محبة شيئا من الدنيا على محبة الله ورسوله هذا مسلم ولكن ليس من المؤمنين حقًا، فلا يقال أنه مؤمن بإطلاق، وإنما يقال مؤمن ناقص الإيمان، وفي النفي لا يقال ليس بمؤمن بل يقال ليس بمؤمن حقًا، ولكنه يلطق عليه الإسلام، فيقال هو مسلم.

قال: " وَكَذَلِكَ وَجَلُ قَلْبِهِ إذَا ذَكَرَ اللَّهُ وَكَذَلِكَ زِيَادَةُ الإيمان إذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِ آيَاتُهُ" هذه كلها من حقيقة الإيمان، يكون الإنسان مسلم ولكن ما يوجل القلب عند ذكر الله، الوجل: خوف القلب، ولا يزيد الإيمان عند تلاوة القرآن فيسمى مسلم لكن الإنسان معه حقيقة الإيمان، حقيقة الإيمان وكماله إنما تكون بالذي يوجل قلبه عند ذكر الله، والذي يزداد عند تلاوة القرآن، فمن لم يوجل قلبه عند ذكر الله ولم يزدد عن تلاوة القرآن، فهو مسلم ولكن ليس معه حقيقة الإيمان، مسلم ومؤمن ولكن ليس معه حقيقة الإيمان، معه أصل الإيمان الذي يصح به إسلامه ومبدأه، ولكن ليس معه كمال الإيمان الذي هو حقيقته.

(المتن)

فَإِنْ قِيلَ: فَفَوَاتُ هَذَا الإيمان مِنْ الذُّنُوبِ أَمْ لَا؟ قِيلَ: إذَا لَمْ يَبْلُغْ الْإِنْسَانُ الْخِطَابَ الْمُوجِبَ لِذَلِكَ لَا يَكُونُ تَرْكُهُ مِنْ الذُّنُوبِ، وَأَمَّا إنْ بَلَغَهُ الْخِطَابُ الْمُوجِبُ لِذَلِكَ فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ كَانَ تَرْكُهُ مِنْ الذُّنُوبِ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ.

وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ هَذِهِ التَّفَاصِيلُ الَّتِي تَدْخُلُ فِي الإيمان مَعَ أَنَّهُمْ قَائِمُونَ بِالطَّاعَةِ الْوَاجِبَةِ فِي الْإِسْلَامِ وَإِذَا وَقَعَتْ مِنْهُمْ ذُنُوبٌ تَابُوا وَاسْتَغْفَرُوا مِنْهَا.

وَحَقَائِقُ الإيمان الَّتِي فِي الْقُلُوبِ لَا يَعْرِفُونَ وُجُوبَهَا؛ بَلْ وَلَا أَنَّهَا مِنْ الإيمان بَلْ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَعْرِفُهَا مِنْهُمْ يَظُنُّ أَنَّهَا مِنْ النَّوَافِلِ الْمُسْتَحَبَّةِ إنْ صَدَّقَ بِوُجُوبِهَا.

فَالْإِسْلَامُ يَتَنَاوَلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الإيمان وَهُوَ الْمُنَافِقُ الْمَحْضُ وَيَتَنَاوَلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ مَعَ التَّصْدِيقِ الْمُجْمَلِ فِي الْبَاطِنِ وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَلْ الْوَاجِبَ كُلَّهُ لَا مِنْ هَذَا وَلَا هَذَا وَهُمْ الْفُسَّاقُ يَكُونُ فِي أَحَدِهِمْ شُعْبَةُ نِفَاقٍ وَيَتَنَاوَلُ مَنْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ الْوَاجِبِ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الإيمان؛ وَلَمْ يَأْتِ بِتَمَامِ الإيمان الْوَاجِبِ.

وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا فُسَّاقًا تَارِكِينَ فَرِيضَةً ظَاهِرَةً وَلَا مُرْتَكِبِينَ مُحَرَّمًا ظَاهِرًا لَكِنْ تَرَكُوا مِنْ حَقَائِقِ الإيمان الْوَاجِبَةِ عِلْمًا وَعَمَلًا بِالْقَلْبِ يَتَّبِعُهُ بَعْضُ الْجَوَارِحِ مَا كَانُوا بِهِ مَذْمُومِينَ.

وَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ الَّذِي كَانَ يَخَافُهُ السَّلَفُ عَلَى نُفُوسِهِمْ. فَإِنَّ صَاحِبَهُ قَدْ يَكُونُ فِيهِ شُعْبَةُ نِفَاقٍ.

(الشرح)

المؤلِّف رحمه الله بعد أن بيَّن أن المسلم الذي معه  أصل الإيمان ومبدأه وفاته حقيقة الإيمان، هل حقيقة الإيمان كالأمثلة التي ذكرها المؤلف رحمه الله؟ كونه لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وكونه قدم شيئا من المال على محبة الله ورسوله والجهاد في سبيله إذا فاته ذلك هل يكون مذنب أو ليس مذنب؟

قال المؤلِّف: فيه تفصيل؛ يفصل إن كان لم يبلغه الخطاب فليس بمذنب، وإن كان بلغه الخطاب ولم يعمل به فهو مذنب هو مذنب عاص.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله في بيان السؤال والجواب: "فإن قِيلَ: فَفَوَاتُ هَذَا الإيمان مِنْ الذُّنُوبِ أَمْ لَا؟"؛ يعني هل هذا الذي يفوته كونه لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه مثلًا؟ كونه يقدم محبة المال على محبة الله ورسوله والجهاد في سبيله هل هذا مذنب أو ليس بمذنب؟

قال المؤلف رحمه الله: "الجواب قِيلَ: إذَا لَمْ يَبْلُغْ الْإِنْسَانُ الْخِطَابَ الْمُوجِبَ لِذَلِكَ لَا يَكُونُ تَرْكُهُ مِنْ الذُّنُوبِ وَأَمَّا إنْ بَلَغَهُ الْخِطَابُ الْمُوجِبُ لِذَلِكَ فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ كَانَ تَرْكُهُ مِنْ الذُّنُوبِ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ".

هذا هو الجواب، إذن الجواب فيه تفصيل، هذا الذي لا يعمل بحقائق الإيمان، هل هو مذنب أو لا؟ الجواب: إن كان بلغه الخطاب الموجب لذلك ولم يعمل به وهو قادر كان مذنبًا وإن كان لم يبلغه الخطاب أو بلغه وكان عاجز ويعلم الله من نيته أنه لو كان قادرا لفعل فإنه لا يكون مذنبًا.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ هَذِهِ التَّفَاصِيلُ الَّتِي تَدْخُلُ فِي الإيمان مَعَ أَنَّهُمْ قَائِمُونَ بِالطَّاعَةِ الْوَاجِبَةِ فِي الْإِسْلَامِ وَإِذَا وَقَعَتْ مِنْهُمْ ذُنُوبٌ تَابُوا وَاسْتَغْفَرُوا مِنْهَا؛ وَحَقَائِقُ الإيمان الَّتِي فِي الْقُلُوبِ لَا يَعْرِفُونَ وُجُوبَهَا؛ بَلْ وَلَا أَنَّهَا مِنْ الإيمان بَلْ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَعْرِفُهَا مِنْهُمْ يَظُنُّ أَنَّهَا مِنْ النَّوَافِلِ الْمُسْتَحَبَّةِ إنْ صَدَّقَ بِوُجُوبِهَا"

يبيِّن المؤلف رحمه الله أنَّ كثير من الناس ما عندهم هذه التفاصيل التي، حقائق الإيمان التي تدخل في الإيمان، كثير من الناس ما يعرف أن من الإيمان أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، ما يعرفها، تجد عنده أنانية، يحب لنفسه شيء لا يحبه لإخوانه المؤمنين، ولا يظن أن هذا من الإيمان وكلامه هذا ما هو صحيح.

يقول: "وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ هَذِهِ التَّفَاصِيلُ الَّتِي تَدْخُلُ فِي الإيمان مَعَ أَنَّهُمْ قَائِمُونَ بِالطَّاعَةِ الْوَاجِبَةِ فِي الْإِسْلَامِ". مسلم ويؤدي الواجبات ولكنه تفوته هذه الأشياء ولا تخطر على باله، بل ولا يظن أنها من الإيمان وَإِذَا وَقَعَتْ مِنْهُمْ ذُنُوبٌ تَابُوا وَاسْتَغْفَرُوا مِنْهَا؛ وَحَقَائِقُ الإيمان الَّتِي فِي الْقُلُوبِ لَا يَعْرِفُونَ وُجُوبَهَا؛ ولا يوجل قلبه عند ذكر الله ولا يزيد عند تلاوة القرآن ولا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ولا يقدم محبة الله ومحبة رسوله والجهاد في سبيله على الأموال والأولاد، ليست عنده هذه التفاصيل.

فحقائق الإيمان التي في القلوب لَا يَعْرِفُونَ وُجُوبَهَا؛ بَلْ وَلَا أَنَّهَا مِنْ الإيمان" بعضهم لا يظن أنها من الإيمان قال: " بَلْ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَعْرِفُهَا مِنْهُمْ يَظُنُّ أَنَّهَا مِنْ النَّوَافِلِ الْمُسْتَحَبَّةِ إنْ صَدَّقَ بِوُجُوبِهَا."

وهذا سببه الجهل، لكن بعض الناس ما يعرف أن هذه من الإيمان، وبعضه يعلم لكنه يتركها، وبعضهم يظن أنها من الإيمان لكن ليست واجبة بل هي مستحبة، إن صدق بوجوبها، وهذا كله سببه الجهل.

قال المؤلف رحمه الله: "" فَالْإِسْلَامُ " يَتَنَاوَلُ يعني مسمى الإسلام في الشرع يتناول أصناف من الناس؛ يتناول الْمُنَافِقُين الذين أظهروا الإسلام، ويتناول المسلم الذي قصَّر في بعض الواجبات وترك المحرمات، ويتناول المؤمن كامل الإيمان، فعلى هذا يتناول ثلاث أصناف من الناس يسمى مسلم.

 الصنف الأول: المنافقون الذين أظهروا الإسلام في الظاهر وأبطنوا الكفر، هؤلاء يسمون مسلمين في الدنيا في أحكام الدنيا، ويعاملون معاملة المسلمين في الميراث والنكاح وتغسيل الميت وغير ذلك.

أو الصنف الثانية: مؤمن ناقص الإيمان ضعيف، مؤمن معه أصل الإيمان، [46:32] ولكنه يقصر في بعض الواجبات أو يترك بعض المحرمات هذا يسمى مؤمن ولكنه فاسق مؤمن بإيمانه وهو ناقص الإيمان.

والصنف الثالث: الذي أدى الواجبات وترك المحرمات هذا المؤمن بإطلاق وهو كامل الإيمان.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "" فَالْإِسْلَامُ " يَتَنَاوَلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الإيمان وَهُوَ الْمُنَافِقُ الْمَحْضُ" هذا الصنف الأول "وَيَتَنَاوَلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ مَعَ التَّصْدِيقِ الْمُجْمَلِ فِي الْبَاطِنِ وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَلْ الْوَاجِبَ كُلَّهُ لَا مِنْ هَذَا وَلَا هَذَا"

لا من هذا يعني: الإسلام، ولا من هذا يعني: الإيمان، ما فعلو الواجب من الإسلام، ولا فعلوا الواجب من الإيمان اكتفى بالتصديق بالمجمل يتناول، هذا عاص ولا يسمى مؤمن، وهو فاسق.

قال: "وَهُمْ الْفُسَّاقُ يَكُونُ فِي أَحَدِهِمْ شُعْبَةُ نِفَاقٍ وَهُمْ الْفُسَّاقُ يَكُونُ فِي أَحَدِهِمْ شُعْبَةُ نِفَاقٍ نِفَاقٍ وَيَتَنَاوَلُ مَنْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ الْوَاجِبِ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الإيمان؛ وَلَمْ يَأْتِ بِتَمَامِ الإيمان الْوَاجِبِ. هذه الصفة الثالثة، . وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا فُسَّاقًا تَارِكِينَ فَرِيضَةً ظَاهِرَةً وَلَا مُرْتَكِبِينَ مُحَرَّمًا ظَاهِرًا لَكِنْ تَرَكُوا مِنْ حَقَائِقِ الإيمان الْوَاجِبَةِ عِلْمًا وَعَمَلًا بِالْقَلْبِ يَتَّبِعُهُ بَعْضُ الْجَوَارِحِ مَا كَانُوا بِهِ مَذْمُومِينَ."

يعني المؤلف رحمه الله بين الإسلام هؤلاء الأصناف الثلاثة:

المنافق الذي لا يظهر الإسلام.

والثاني: المؤمن العاصي الذي لم يفعل الواجب كله لا من هذا –الإشارة الأولى تعود إلى الإسلام- ولا من هذا وهو الإيمان وهم الفساق.

والصنف الثالث: من أتى بالإسلام الواجب لكن لم يأت بتمام الإيمان الواجب وهؤلاء يقول: " لَيْسُوا فُسَّاقًا تَارِكِينَ فَرِيضَةً ظَاهِرَةً وَلَا مُرْتَكِبِينَ مُحَرَّمًا ظَاهِرًا لَكِنْ تَرَكُوا مِنْ حَقَائِقِ الإيمان الْوَاجِبَةِ عِلْمًا وَعَمَلًا بِالْقَلْبِ يَتَّبِعُهُ بَعْضُ الْجَوَارِحِ مَا كَانُوا بِهِ مَذْمُومِينَ."

وهذا هو النفاق الذي كان يخافه السلف على نفوسهم، يعني كون الإنسان أتى بما يلزمه من الإيمان، لكن لم يأتي بتمام الإيمان الواجب، لم يأتي بحقائق الإيمان الواجبة علمًا وعملًا الذي يتبعه بعض الجوارح.

حقائق الإيمان الواجبة بالقلب، علمًا وعملًا في القلب يتبعه بعض الجوارح.

قال المؤلف: " وَهَذَا هُوَ " النِّفَاقُ " الَّذِي كَانَ يَخَافُهُ السَّلَفُ عَلَى نُفُوسِهِمْ. فَإِنَّ صَاحِبَهُ قَدْ يَكُونُ فِيهِ شُعْبَةُ نِفَاقٍ."  ومن ذلك ان عمر ، ثبت أن عمر أتى حذيفة، وكان حذيفة صلاحب سر النبي ﷺ وأسر إليه بأسماء المنافقين، قال: «هل عدَّني رسول الله ﷺ من المنافقين؟ أسألك: هل عدَّني رسول الله ﷺ من المنافقين؟ فقال حذيفة: لا، ولا أزكي بعدك أحدًا أبدًا». ([15])

عمر يخاف على نفسه من هذا النفاق، يخشى أن يكون ترك حقائق الإيمان الواجبة علمًا وعملًا وليس المراد النفاق الاعتقادي الذي [49:20].

وكذلك أيضًا ما ثبت عند البخاري ([16])علق أنه قال: قال ابن أبي مليكة: «أدركت ثلاثين من أصحاب النبي ﷺ كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل» ما هو هذا النفاق الذي يخافه على نفسه؟

كما ذكر المؤلف: "يخاف أن يأتي مِنْ حَقَائِقِ الإيمان الْوَاجِبَةِ عِلْمًا وَعَمَلًا "

وهناك صنف الرابع: وهم من المؤمنين وهم الذين أدوا الواجبات وتركوا المحرمات وأتوا بحقائق الإيمان الواجبة علمًا وعملًا، فيكون اسم الإسلام يتناول أربع أصناف:

الصنف الأول: المنافق المحض.

الصنف الثاني: من أظهر الإسلام مع التصديق المجمل وقصر في بعض الواجبات وفعل المحرمات [50:06].

الصنف الثالث: من أتى بالإيمان الواجب وما يلزمه ولم يأت بحقائق الإيمان.

الصنف الرابع: من أتى بحقائق الإيمان الواجبة علمًا وعملًا، نعم.

(المتن)

وَبَعْدَ هَذَا مَا مَيَّزَ اللَّهُ بِهِ الْمُقَرَّبِينَ عَلَى الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ مِنْ إيمَانٍ وَتَوَابِعِهِ وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنْ بَابِ الْمُسْتَحَبَّاتِ وَقَدْ يَكُونُ أَيْضًا مِمَّا فُضِّلَ بِهِ الْمُؤْمِنُ: إيمَانٌ وَإِسْلَامٌ مِمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَى غَيْرِهِ.

وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإيمان ([17]).

وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الإيمان مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ([18])، فَإِنَّ مُرَادَهُ: أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ هَذَا الْإِنْكَارِ مَا يَدْخُلُ فِي الإيمان حَتَّى يَفْعَلَهُ الْمُؤْمِنُ؛ بَلْ الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ آخِرُ حُدُودِ الإيمان لَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنْ الإيمان حَبَّةُ خَرْدَلٍ.

وَلِهَذَا قَالَ: لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ، فَجَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ ثَلَاثَ طَبَقَاتٍ وَكُلٌّ مِنْهُمْ فَعَلَ الإيمان الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ لَكِنَّ الْأَوَّلَ لَمَّا كَانَ أَقْدَرَهُمْ كَانَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَكْمَلَ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الثَّانِي وَكَانَ مَا يَجِبُ عَلَى الثَّانِي أَكْمَلَ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْآخَرِ وَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاضَلُونَ فِي الإيمان الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِمْ مَعَ بُلُوغِ الْخِطَابِ إلَيْهِمْ كُلِّهِمْ.

(الشرح)

فإن المؤلف رحمه الله بيَّن في ما سبق أن الإسلام يتناول أصناف من الناس.

الصنف الأول: المنافق المحض.

الصنف الثاني: من أظهر الإسلام المجمل  ولكنه لم يؤدي الواجب عليه.

الصنف الثالث: من أتى بالإسلام الواجب وما يلزمه من الإيمان، لكن لم يأتِ بتمام الإيمان، بل ترك حقائق الإيمان الواجبة.

الصنف الرابع: أشار إليه هنا في قوله "مَا مَيَّزَ اللَّهُ بِهِ الْمُقَرَّبِينَ عَلَى الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ مِنْ إيمَانٍ وَتَوَابِعِهِ"، فالرابع: المقربون.

السابقون المقربون، والسابقون المقربون هم الذين أدوا الواجبات والفرائض وكان عندهم نشاط ففعلوا المستحبات والنوافل وتركوا المحرمات والكبائر وكان عندهم نشاط فتركوا أيضًا المكروهات وتركوا فضول المباحات وبذلك فإن السابقين المقربين يفضلون المقتصدين الأبرار، والمقتصدون أصحاب اليمين، فإن أصحاب اليمين الأبرار إنما يقتصرون على فعل الواجبات فقط، وليس عندهم نشاط لفعل المستحبات والنوافل، ويقتصرون على ترك المحرمات فقط ولكن قد يفعلون المكروهات، وقد يتوسعون في المباحات، فضول المباحات.

ولذلك صار السابقون المقربون درجاتهم أعلى في الجنة من درجات الأبرار أصحاب اليمين وإن كان كل من الصنفين يدخل الجنة من أول وهلة، بخلاف الظالمين لأنفسهم الذين قصروا في بعض الواجبات وفعلوا بعض المحرمات، هؤلاء عليهم الوعيد على خطر من دخول النار.

هم تحت مشيئة الله بعضهم قد يعفى عنه، وبعضهم يعذب في قبره، وبعضهم تصيبه أهوال وشدائد في يوم القيامة ، وبعضهم يدخل النار ويعذب فيها، هؤلاء هم الظالمون لأنفسهم، ولكن كل من الأصناف الثلاثة كلهم مؤمنون وكلهم ورثوا الكتاب، وكلهم مآلهم إلى الجنة، لكن الصنفين الأولوين المقتصدون والمقربون يدخلون الجنة من أول وهلة، أما الظالمون لأنفسهم فقد يعذبون وقد يعفى الله عنهم بإيمانهم وإسلامهم، وقد يعذبون.

كما قال الله تعالى في كتابه العظيم في سورة فاطر ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32]

فجعلهم ثلاثة أصناف، كلهم أورثهم الله الكتاب، وكلهم اصطفاه الله، حتى الظالم لنفسه العاصي فهو ممن اصطفاه الله؛ لأنه سلم من الشرك من الشرك الأكبر والنفاق الأكبر فسلم من الدخول في النار، ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ۝ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا [فاطر:32/33] كلهم من أهل الجنة هؤلاء.

ثم ذكر الصنف الرابعة: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا فجعل المؤمنين ثلاث طبقات:

فالسابقون المقربون هم الذين أتوا بحقائق الإيمان، أدوا الواجبات وتركوا المحرمات وفعلوا المستحبات والنوافل وتركوا المحرمات والمكروهات  وفضول المباحات.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَبَعْدَ هَذَا مَا مَيَّزَ اللَّهُ بِهِ" بعد هذا يعني يتناول الإسلام، يتناول الأصناف الثالثة السابقة وهذا الصنف الرابع، وَبَعْدَ هَذَا مَا مَيَّزَ اللَّهُ بِهِ الْمُقَرَّبِينَ عَلَى الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ مِنْ إيمَانٍ وَتَوَابِعِهِ، فالمقربون يفوقون الأبرار وأصحاب اليمين بالإيمان وتوابعه؛ لأنهم فعلوا المستحبات والنوافل وتركوا المكروهات وفضول المباحات.

قال: " وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنْ بَابِ الْمُسْتَحَبَّاتِ" المستحبات يفعلها المقربون، وأما المقتصدون فإنهم يقتصرون على فعل الواجبات.

قال: " وَقَدْ يَكُونُ أَيْضًا مِمَّا فُضِّلَ بِهِ الْمُؤْمِنُ: إيمَانٌ وَإِسْلَامٌ مِمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَى غَيْرِهِ."  نعم قد يكون هذا من الأمور التي فضل الله بها المؤمن إيمانًا وإسلامًا، مما وجب عليه ولم يجب على غيره كان يقول مثلًا ينكر المنكر باليد  فضله الله على غيره وغيره لا يستطيع المنكر باللسان لأنه عنده علم فإذا الله بالعلم فينكر المنكر بخلاف غيره فلا يستطيع فلا يكون هذا من السابق المقربين بسبب هذا الإيمان الذي فضله الله به.

ومثل المؤلف رحمه الله: " وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإيمان وهذا الحديث رواه مسلم([19]) .

قال: " وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الإيمان مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ([20])" ما هو هذا الإيمان الذي هو قوله أَضْعَفُ الإيمان ، لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الإيمان مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ.

قال المؤلف: فَإِنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ هَذَا الْإِنْكَارِ مَا يَدْخُلُ فِي الإيمان حَتَّى يَفْعَلَهُ الْمُؤْمِنُ؛ بَلْ الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ آخِرُ حُدُودِ الإيمان" يعني يقول ليس وراءه من الإيمان ليس المراد أنه يكون كافر من لم ينكر بقلبه، كما يظنه بعض من لا علم عنده،  الذي لا ينكر المنكر ما يكون كافرًا، إلا إذا كان المنكر كفر،  إذا كان المنكر كفر فلا يكون كافر، فمن يرضى بالكفر يكون كافرًا ، لكن إذا كان المنكر دون الكفر، فلا ينكر مسألة شرب الخمر أو لا ينكر الغيبة والنميمة فلا يكون كافرًا، يكون عاصيًا، يكون حكمه حكم من شرب الخمر، حكمه حكم من لم ينكر الغيبة يكون حكمه حكم من فعل الغيبة، وإن لم يفعلها، إذا أقرها فلو جلس في مجلس مثلًا تكلم الناس بالكفر سب الله وسب الرسول واستهزاء بالله وبكتابه وبرسوله، هذا يجب عليه أن ينكرها، فإن لم ينكر يجب أن يقوم، فإن لم يقم مع قدرته عليه صار حكمه حكمه يكون كافرا مثله، نعم.

وإذا جلس في مجلس يجب عليه أن ينكر الخمر يجب عليه ينكر الخمر، فإن لم يستطيع قام فإن لم يقم صار حكمه حكم من شرب الخمر في الذنب والمعصية، من جلس في مجلس يغتاب فيه الناس، يجب عليه أن  ينكر عليهم يقول: الغيبة حرام، لا يجوز لكم، فإن لم امتنعوا فالحمد الله يجلس، وإن استمروا يجب عليه أن يقوم عنهم، فإن لم يقم مع قدرته صار حكمه حكمهم، عليه من الإثم ما عليهم، الدليل قول الله تعالى وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140] فمن جلس في مجلس يكفر بالله ولم ينكر منكر حكمه حكمهم، وإن جلس بمجلس يعصى الله فيه ولم ينكر المعصية فحكمه حكمهم أيضًا يكون عاصيًا مثلهم.

كذلك هنا من لم ينكر المنكر لا بلسانه ولا بقلبه يكون عاصيًا ليس عنده شيء من الإيمان،لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الإيمان مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ.

يقول المؤلف: فَإِنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ هَذَا الْإِنْكَارِ مَا يَدْخُلُ فِي الإيمان حَتَّى يَفْعَلَهُ الْمُؤْمِنُ؛ بَلْ الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ آخِرُ حُدُودِ الإيمان" آخر حدود الإيمان؛ يعني الإيمان المطلق الواجب الإيمان المطلق الواجب عليه هذا آخر حدوده، فإذا لم ينكر المنكر بالقلب ما بقى شيء من الإيمان الواجب عليه تجاه إنكار هذا المنكر.

وليس مراده أن من لم ينكر المنكر لا يكون معه الإيمان ويكون كافرًا ليس المراد بهذا.

بعض يظن أن من لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنْ الإيمان حَبَّةُ خَرْدَلٍ أنه يكون كافرًا ليس المراد هذا، المؤلف يبين: " الإيمان لَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنْ الإيمان"

يعني الإيمان المطلق حَتَّى يَفْعَلَهُ الْمُؤْمِنُ؛ بَلْ الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ آخِرُ حُدُودِ الإيمان بل الإيمان الواجب عليه ليس مراده أن من لم ينكر ذلك لم يكن معه من الإيمان حبة خردل فيكون كافرًا ليس هذا المراد.

ولهذا قال المؤلف: " : لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ " فَجَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ ثَلَاثَ طَبَقَاتٍ" يعني تجاه إنكار المنكر

الطبقة الأولى: من ينكر من بيده.

الطبقة الثانية: من ينكر بلسانه.

الطبقة الثالثة: من ينكر بقلبة.

فالذي لا ينكر لا بيده ولا بلسانه ولا بقلبه ينتهي الإيمان الواجب عليه اتجاه إنكار المنكر.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فَجَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ ثَلَاثَ طَبَقَاتٍ وَكُلٌّ مِنْهُمْ فَعَلَ الإيمان الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ لَكِنَّ الْأَوَّلَ الذي ينكر بيده لَمَّا كَانَ أَقْدَرَهُمْ كَانَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَكْمَلَ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الثَّانِي"

لما كان الذي ينكر بيده هذا أقدرهم كان الواجب عليه أكمل، " وَكَانَ مَا يَجِبُ عَلَى الثَّانِي أَكْمَلَ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْآخَرِ" الذي يجب على الثاني الذي ينكر بلسانه أَكْمَلَ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الثالث الذي ينكر بقلبه.

وقال المؤلف: " وَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاضَلُونَ فِي الإيمان الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِمْ مَعَ بُلُوغِ الْخِطَابِ إلَيْهِمْ كُلِّهِمْ." فالناس كلهم بلغهم هذا الحديث مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ ([21])

 الذي يستطيع أن ينكر منكر بيده أكمل إيمان من الذي ينكر المنكر بلسانه، والذي ينكر المنكر بلسانه أكمل من الذي ينكر المنكر بقلبه، والذي لا ينكر المنكر لا بقلبه ولا بلسانه ليس معه شيء من الإيمان الواجب، الإيمان المطلق، وليس المراد أنه يكون كافرًا كما يظنه بعض الناس.

(المتن)

فَصْلٌ:

وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فِي الإيمان؛ بِقَوْلِ الرَّجُلِ: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَالنَّاسُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

مِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَرِّمُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُجَوِّزُ الْأَمْرَيْنِ بِاعْتِبَارَيْنِ؛ وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ.

فَاَلَّذِينَ يُحَرِّمُونَهُ هُمْ الْمُرْجِئَةُ وَالْجَهْمِيَّة وَنَحْوُهُمْ مِمَّنْ يَجْعَلُ الإيمان شَيْئًا وَاحِدًا يَعْلَمُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ كَالتَّصْدِيقِ بِالرَّبِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِي قَلْبِهِ؛ فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: أَنَا أَعْلَمُ أَنِّي مُؤْمِنٌ كَمَا أَعْلَمُ أَنِّي تَكَلَّمْت بِالشَّهَادَتَيْنِ وَكَمَا أَعْلَمُ أَنِّي قَرَأْت الْفَاتِحَةَ وَكَمَا أَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّ رَسُولَ اللَّهِ؛ وَأَنِّي أُبْغِضُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى.

فَقَوْلِي: أَنَا مُؤْمِنٌ كَقَوْلِي: أَنَا مُسْلِمٌ وَكَقَوْلِي: تَكَلَّمْت بِالشَّهَادَتَيْنِ وَقَرَأَتْ الْفَاتِحَةَ وَكَقَوْلِي: أَنَا أُبْغِضُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْحَاضِرَةِ الَّتِي أَنَا أَعْلَمُهَا وَأَقْطَعُ بِهَا وَكَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَنَا قَرَأْت الْفَاتِحَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ كَذَلِكَ لَا يَقُولُ: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَكِنْ إذَا كَانَ يَشُكُّ فِي ذَلِكَ فَيَقُولُ: فَعَلْته إنْ شَاءَ اللَّهُ قَالُوا: فَمَنْ اسْتَثْنَى فِي إيمَانِهِ فَهُوَ شَاكٌّ فِيهِ وَسَمَّوْهُمْ الشَّكَّاكَةَ.

وَاَلَّذِينَ أَوْجَبُوا الِاسْتِثْنَاءَ لَهُمْ مَأْخَذَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الإيمان هُوَ مَا مَاتَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ؛ وَالْإِنْسَانُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ اللَّهِ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا بِاعْتِبَارِ الْمُوَافَاةِ وَمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يَكُونُ عَلَيْهِ وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ لَا عِبْرَةَ بِهِ.

قَالُوا: وَالإيمان الَّذِي يَتَعَقَّبُهُ الْكُفْرُ فَيَمُوتُ صَاحِبُهُ كَافِرًا لَيْسَ بِإِيمَانِ كَالصَّلَاةِ الَّتِي يُفْسِدُهَا صَاحِبُهَا قَبْلَ الْكَمَالِ؛ وَكَالصِّيَامِ الَّذِي يُفْطِرُ صَاحِبُهُ قَبْلَ الْغُرُوبِ وَصَاحِبُ هَذَا هُوَ عِنْدَ اللَّهِ كَافِرٌ لِعِلْمِهِ بِمَا يَمُوتُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الْكُفْرِ وَهَذَا الْمَأْخَذُ مَأْخَذُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْكُلَّابِيَة وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُرِيدُ أَنْ يَنْصُرَ مَا اُشْتُهِرَ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ وَيُرِيدُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الإيمان لَا يَتَفَاضَلُ؛ وَلَا يَشُكُّ الْإِنْسَانُ فِي الْمَوْجُودِ مِنْهُ وَإِنَّمَا يَشُكُّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَانْضَمَّ إلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: مَحَبَّةُ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَسُخْطُهُ وَبُغْضُهُ قَدِيمٌ.

ثُمَّ هَلْ ذَلِكَ هُوَ الْإِرَادَةُ أَمْ صِفَاتٌ أُخَرُ؟

لَهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ، وَأَكْثَرُ قُدَمَائِهِمْ يَقُولُونَ: إنَّ الرِّضَى وَالسُّخْطَ وَالْغَضَبَ وَنَحْوَ ذَلِكَ صِفَاتٌ لَيْسَتْ هِيَ الْإِرَادَةُ كَمَا أَنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ لَيْسَ هُوَ الْعِلْمَ وَكَذَلِكَ الْوِلَايَةُ وَالْعَدَاوَةُ.

هَذِهِ كُلُّهَا صِفَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ عِنْد أَبِي مُحَمَّدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَمِنْ أَتْبَاعِ الْمَذَاهِبِ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ.

(الشرح)

المؤلِّف رحمه الله يبيِّن في هذا الفصل هذه المسألة مسألة الاستثناء في الإيمان، ومسألة الاستثناء في الإيمان كأنه يقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله، هل يجوز أن يستثني فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله أو لا يجوز.

بيَّن المؤلف رحمه الله أن الناس لهم فيها ثلاثة أقوال، منهم: مَن يوجب الاستثناء، يقول: يجب عليك أن تقول: "أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ"، ومنهم: مَن يحرمه ويمنعه وهم المرجئة، يقولون: لا تقل أنا مؤمن إن شاء الله، لا تشك في إيمانك، قول: أنا مؤمن أجزم بدون شك، ومنهم: مَن يجوز الأمرين، وهم أهل الحق، أهل السنة يجوز باعتبار ولا يجوز باعتبار وهذا هو الصواب.

يقول المؤلف: " أنه يجوز الاستثناء في حالين:  في حال لا يجوز، وفي حال لا يجوز فإذا قال أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وقصده الشك في أصل إيمانه هذا لا يجوز، أما إذا أراد قال أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وقصده الواجبات متعددة والمحرمات أيضًا كثيرة والإنسان لا يزكي نفسه، ولابد أن يؤدي ما أوجب الله عليه.

 بل يزري على نفسه ولا يزكي نفسه فإنه يقول أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ يعني شرع الإسلام كثيرة، والواجبات كثيرة لا يجزم الإنسان أنه أدى ما عليه فلهذا يقول أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ، أما إذا قصد الشك في قصد إيمانه فهذا لا يجوز له، وكذلك إذا قصد الاستثناء عدم علمه بالعاقبة لا بأس يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أو التبرك بذكر اسم الله فلا بأس، أما إذا أراد الشك في أصل إيمانه فهذا ممنوع، هذا هو الصواب الذي عليه الحق، وعليه أهل السنة والجماعة.

التفصيل في الاستثناء في الإيمان، أما المرجئة فإنهم يحرمون الاستثناء يقول لا تقول أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ لا تستثني أن تعلم من نفسك أنك مؤمن، الإيمان هو التصديق تعلم من نفسك أنك مصدق، تشك في تصديقك، تشك في إيمانك يعلم الإنسان أنه مؤمن، كما يعلم أنه قرأ الفاتحة، وكما يعلم أنه يحب الرسول عليه الصلاة والسلام، وكما أنه يعلم أنه يبغض اليهود، لا يشك في هذا.

وهناك طائفة يقول: يجب أن تستثني في إيمانك حتى إنهم الذين يوجبون غلوُّ في هذا الوجوب، وقالوا أيضًا يستثني في العمل، وقالوا إن هذا يرجع، إن الله تعالى قادر على أن يغير الشيء حتى أنهم غَلوٌّ وقالوا يجب الاستثناء في الأعمال وفي غيرها.

فالناس في مسألة الاستثناء على هذه الأقوال الثلاثة: منهم من يوجب الاستثناء، ومنهم من يحرمه ومنهم من يجوز الأمرين باعتبارين والذين يجوزون الأمرين باعتبارين هذا هو قول الصواب وهو قول أهل الحق.

ثم ذكر المؤلف رحمه الله هذه الأصناف الثلاثة تناولها قال: " . فَاَلَّذِينَ يُحَرِّمُونَهُ هُمْ الْمُرْجِئَةُ وَالْجَهْمِيَّة؛ الذين يمنعون الاستثناء، وَنَحْوُهُمْ مِمَّنْ يَجْعَلُ الإيمان شَيْئًا وَاحِدًا يَعْلَمُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ" يعني كل من يقول أن الإيمان شيء واحد لا يتعدد يمنع الاستثناء، فالمرجئة تقول الإيمان شيء واحد هو التصديق في القلب، إذا تعلم من نفسك أنك مصدق لا تستثني، وكذلك الكرامية يقولون الإيمان هو النطق باللسان وكذلك الماتريدية يقولون: الإيمان هو التصديق، وكذلك أيضًا المرجئة الفقهاء يقولون: الإيمان هو قول باللسان وتصديق بالقلب.

كل من يقول أن الإيمان شيء واحد يقول ممنوع الاستثناء في الإيمان ولا يجوز لك أن تستثني، ومن استثنى فهو شاك في إيمانه؛ ولهذا يسمونهم أهل السنة والجماعة الذين يستثنون، يقولون الشكاكة أنتم الشكاكة، يسمونهم الشكاكة  تشكون في إيمانكم.

فالمؤلف رجمه الله يقول: "فَاَلَّذِينَ يُحَرِّمُونَهُ" يحرمون يعني الاستثناء هم المرجئة والجهمية، المرجئة الإيمان هو التصديق، والجهمية مرجئة " وَنَحْوُهُمْ مِمَّنْ يَجْعَلُ الإيمان شَيْئًا وَاحِدًا يَعْلَمُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ كَالتَّصْدِيقِ بِالرَّبِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِي قَلْبِهِ؛ فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: أَنَا أَعْلَمُ أَنِّي مُؤْمِنٌ كَمَا أَعْلَمُ أَنِّي تَكَلَّمْت بِالشَّهَادَتَيْنِ وَكَمَا أَعْلَمُ أَنِّي قَرَأْت الْفَاتِحَةَ وَكَمَا أَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّ رَسُولَ اللَّهِ؛ وَأَنِّي أُبْغِضُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى."

إذن هذا أعلمها من نفسي  كيف استثني فيها؟

 قال المؤلف رحمه الله: "فَقَوْلِي: أَنَا مُؤْمِنٌ كَقَوْلِي: أَنَا مُسْلِمٌ وَكَقَوْلِي: تَكَلَّمْت بِالشَّهَادَتَيْنِ وَقَرَأَتْ الْفَاتِحَةَ وَكَقَوْلِي: أَنَا أُبْغِضُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْحَاضِرَةِ الَّتِي أَنَا أَعْلَمُهَا وَأَقْطَعُ بِهَا" يعني لا يستثنى فيها " وَكَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَنَا قَرَأْت الْفَاتِحَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ كَذَلِكَ لَا يَقُولُ: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ"

إذا قرأت الفاتحة وسألتك هل قرأت الفاتحة؟ ماذا تقول؟ تقول: نعم، هل تقول نعم إن شاء الله؟، كذلك أنت تعلم من نفسك أنك مصدق فلا تقول أنا مؤمن إن شاء الله هذا توجيهم الآن

قال: " وَكَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَنَا قَرَأْت الْفَاتِحَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ كَذَلِكَ لَا يَقُولُ: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَكِنْ إذَا كَانَ يَشُكُّ فِي هل قرأ الفاتحة  أو ما قرأها فهذا يرجع إلى الشك، لَكِنْ إذَا كَانَ يَشُكُّ فِي قَلبِهِ فَيَقُولُ: فَعَلْته إنْ شَاءَ اللَّهُ قَالُوا :يعني الذين يحرمون الاستثناء المرجئة والجهمية فَمَنْ اسْتَثْنَى فِي إيمَانِهِ فَهُوَ شَاكٌّ فِيهِ وَسَمَّوْهُمْ الشَّكَّاكَةَ" هذه وجهة نظر الذين يمنعون الاستثناء.

وَاَلَّذِينَ أَوْجَبُوا الِاسْتِثْنَاءَ الذين يقولون: يجب أن تقول إن شاء الله عكس هؤلاء ولا يجوز يحرم أن تقول أنا مؤمن إن شاء الله وهؤلاء يقولن يجب أن تقول أنا مؤمن إن شاء الله.

قال: "وَاَلَّذِينَ أَوْجَبُوا الِاسْتِثْنَاءَ لَهُمْ مَأْخَذَانِ: المأخذ الأول: أَحَدُهُمَا أَنَّ الإيمان هُوَ مَا مَاتَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ؛ وَالْإِنْسَانُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ اللَّهِ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا بِاعْتِبَارِ الْمُوَافَاةِ وَمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يَكُونُ عَلَيْهِ وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ لَا عِبْرَةَ بِهِ" هذه وجهة نظرهم يقولون الإنسان ما يدري ما يموت عليه، يجب عليه يقول أنا مؤمن إن شاء الله؛ لأن الإنسان ما يدري ما يختم له، فيجب عليك، الإيمان المعتبر: هو ما يوافي الإنسان به ربه عند الموت.

وأنت ما تدري ماذا يختم لك، إذن يجب عليك أن تقول أنا مؤمن إن شاء الله هذا وجه نظرهم إن الإيمان ما مات عليه الإنسان، والإنسان إنما يكون عند الله عند الله مؤمنا وكافرا عند الموافاة عند الموت وَمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يَكُونُ عَلَيْهِ وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ لَا عِبْرَةَ بِهِ. قَالُوا مثلًا الإنسان المؤمن ثم يكفر بعد ذلك فيموت على الكفر لا عبرة بالإيمان الأول.

قال: لأن الإيمان الأول فسد، مثل الصلاة التي يفسدها صاحبها قبل أن يتمها والصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب.

ولهذا قالوا: منهي عنه.

 قالوا: وَالإيمان الَّذِي يَتَعَقَّبُهُ الْكُفْرُ فَيَمُوتُ صَاحِبُهُ كَافِرًا لَيْسَ بِإِيمَانِ كَالصَّلَاةِ الَّتِي يُفْسِدُهَا صَاحِبُهَا قَبْلَ الْكَمَالِ؛ وَكَالصِّيَامِ الَّذِي يُفْطِرُ صَاحِبُهُ قَبْلَ الْغُرُوبِ"

قالوا: " وَصَاحِبُ هَذَا هُوَ عِنْدَ اللَّهِ كَافِرٌ لِعِلْمِهِ بِمَا يَمُوتُ عَلَيْهِ"

قال: " وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الْكُفْرِ" قال المؤلف: "وَهَذَا الْمَأْخَذُ مَأْخَذُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْكُلَّابِيَة وَغَيْرِهِمْ" الأشاعرة، هذه وجه نظر كثير من أهل الكلام، من الكلابية أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب، وتبعهم الأشعرية، أبو الحسن الأشعري هذه وجه نظرهم يوجبون الاستثناء.

قال: " وَهَذَا الْمَأْخَذُ مَأْخَذُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْكُلَّابِيَة وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُرِيدُ أَنْ يَنْصُرَ مَا اُشْتُهِرَ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ وَيُرِيدُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الإيمان لَا يَتَفَاضَلُ؛ وَلَا يَشُكُّ الْإِنْسَانُ فِي الْمَوْجُودِ مِنْهُ وَإِنَّمَا يَشُكُّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ" يعني هم أرادوا أن يجمعوا بين أمرين أرادوا أن ينفوا أهل السنة  فيما أشتهر عنهم من قول أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وأرادوا أيضًا مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الإيمان لَا يَتَفَاضَلُ؛ وَلَا يَشُكُّ ولا ينقص ولا يشك الْإِنْسَانُ فِي الْمَوْجُودِ مِنْهُ، فأرادوا أن يجمعوا بين الأمرين فلم يقولوا بقول المرجئة الذين يحرمون الاستثناء، ولم يقولوا بقول أهل السنة الذين يجوزون الأمرين باعتبارين بل أرادوا أن يجمعوا بين الأمرين.

فقالوا : يجب الاستثناء، يعني جمعًا بين الأمرين.

قال المؤلف: " وَانْضَمَّ إلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: مَحَبَّةُ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَسُخْطُهُ وَبُغْضُهُ قَدِيمٌ." يعني يقولون أن الصفات الفعلية المحبة والرضا والغضب هو قديم ما يقولوا أن الله يغضب إذا شاء ويرضى إذا شاء، لا.

يقولون: لو قلنا ذلك أنه حادث للزم حلول الحوادث في ذات الله.

فقالوا المحبة قديمة، والرضا والسخط، قالوا: الكافر الذي يعمل طول حياته في الكفر ثم إذا علم الله أنه يموت على الإيمان، قالوا: لم يكن محبوب عند الله ولو كان يعتاد الكفر لأن العبرة بالخاتمة.

قالوا: والصحابة قبل أن يسلموا كانوا يعبدون كانوا يعبدون الأصنام والأوثان، كانوا محببون عند الله، لأن الله يعلم أنهم سيؤمنون العبرة بالموافاة، هكذا يقولون لا شك أن هذا باطل؛ لأن المؤمن يحبه الله في حال إيمانه ويبغضه الله في حال كفره

قال: " وَانْضَمَّ إلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: مَحَبَّةُ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَسُخْطُهُ وَبُغْضُهُ قَدِيمٌ. ثُمَّ هَلْ ذَلِكَ هُوَ الْإِرَادَةُ أَمْ صِفَاتٌ أُخَرُ؟" يعني هل المحبة هي الإرادة أو الإرادة صفة والمحبة صفة أخرى وكذلك الغضب، قال لَهُمْ فِي ذَلِكَ " قَوْلَانِ": منهم من يقول أن المحبة هي الإرادة ومنهم من يقول الإرادة صفة والمحبة صفة أخرى. لهم قولان.

" وَأَكْثَرُ قُدَمَائِهِمْ يَقُولُونَ: إنَّ الرِّضَى وَالسُّخْطَ وَالْغَضَبَ وَنَحْوَ ذَلِكَ صِفَاتٌ لَيْسَتْ هِيَ الْإِرَادَةُ كَمَا أَنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ لَيْسَ هُوَ الْعِلْمَ" القدماء يقولون هذا فالرضا والسخط هذه الصفات غير الإرادة والمتأخرون يقولون الرضى والسخط والغضب هي الإرادة، والأوائل يقولون ...

 كما السَّمْعَ وَالْبَصَرَ لَيْسَ هُوَ الْعِلْمَ السمع صفة، والبصر صفة، والعلم صفة أخرى، وَكَذَلِكَ الْوِلَايَةُ وَالْعَدَاوَةُ صفة الولاية وصفة العداوة صفتان.

قال: " هَذِهِ كُلُّهَا صِفَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ عِنْد أَبِي مُحَمَّدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ" وهم الأشاعرة الصفات القديمة عندهم ما يقول إن الله يغضب  إذا شاء و يُحِبُّ إذا شاء، قالوا لألا تحل الحوادث في ذات الله.

والمتكلمين و الأشاعرة قال المؤلف وبعض أتباع المذاهب بعض من  الحنابلة والشافعية والمالكية ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " هَذِهِ كُلُّهَا صِفَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ عِنْد أَبِي مُحَمَّدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ يعني من الأشاعرة  وَمِنْ أَتْبَاعِ الْمَذَاهِبِ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ."

بعض اتباع المذاهب في الفروع على مذهب الإمام أحمد وعلى مذهب الشافعي وعلى مذهب الإمام مالك لكن في العقيدة لا.

قالوا: "عقيدة الأشاعرة والكلابية"

 (المتن)

قَالُوا: وَاَللَّهُ يُحِبُّ فِي أَزَلِهِ مَنْ كَانَ كَافِرًا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ مُؤْمِنًا. فَالصَّحَابَةُ مَا زَالُوا مَحْبُوبِينَ لِلَّهِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ مُدَّةً مِنْ الدَّهْرِ وَإِبْلِيسُ مَا زَالَ اللَّهُ يُبْغِضُهُ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَكْفُرْ بَعْدُ. وَهَذَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَهُمْ فَالرِّضَى وَالسُّخْطُ يَرْجِعُ إلَى الْإِرَادَةِ وَالْإِرَادَةُ تُطَابِقُ الْعِلْمَ، فَالْمَعْنَى: مَا زَالَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُثِيبَ هَؤُلَاءِ بَعْدَ إيمَانِهِمْ وَيُعَاقِبَ إبْلِيسَ بَعْدَ كُفْرِهِ.

وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ أَنْ يَخْلُقَ كُلَّ مَا عَلِمَ أَنْ سيخلقه.

وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يُثْبِتُهَا صِفَاتٍ أُخَرَ يَقُولُ: هُوَ أَيْضًا حُبُّهُ تَابِعٌ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُثِيبَهُ. فَكُلُّ مَنْ أَرَادَ إثَابَتَهُ فَهُوَ يُحِبُّهُ وَكُلُّ مَنْ أَرَادَ عُقُوبَتَهُ فَإِنَّهُ يُبْغِضُهُ وَهَذَا تَابِعٌ لِلْعِلْمِ. وَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ لَا يَرْضَى عَنْ أَحَدٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ سَاخِطًا عَلَيْهِ وَلَا يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدٍ بَعْدَ أَنْ تَابَ عَلَيْهِ بَلْ مَا زَالَ يَفْرَحُ بِتَوْبَتِهِ. وَالْفَرَحُ عِنْدَهُمْ إمَّا الْإِرَادَةُ وَإِمَّا الرِّضَى.

وَالْمَعْنَى مَا زَالَ يُرِيدُ إثَابَتَهُ أَوْ يَرْضَى عَمَّا يُرِيدُ إثَابَتَهُ. وَكَذَلِكَ لَا يَغْضَبُ عِنْدَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ دُونَ مَا قَبْلَهُ. بَلْ غَضَبُهُ قَدِيمٌ إمَّا بِمَعْنَى الْإِرَادَةِ وَإِمَّا بِمَعْنَى آخَرَ.

فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إذَا عَلِمَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَمُوتُ كَافِرًا لَمْ يَزَلْ مُرِيدًا لِعُقُوبَتِهِ فَذَاكَ الإيمان الَّذِي كَانَ مَعَهُ بَاطِلٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ بَلْ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. فَلَيْسَ هَذَا بِمُؤْمِنِ أَصْلًا وَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ مُؤْمِنًا لَمْ يَزَلْ مُرِيدًا لِإِثَابَتِهِ وَذَاكَ الْكُفْرُ الَّذِي فَعَلَهُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ.

فَلَمْ يَكُنْ هَذَا كَافِرًا عِنْدَهُمْ أَصْلًا. فَهَؤُلَاءِ يُسْتَثْنَوْنَ فِي الإيمان بِنَاءً عَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ وَكَذَلِكَ بَعْضُ مُحَقِّقِيهِمْ يُسْتَثْنَوْنَ فِي الْكُفْرِ مِثْلَ أَبِي مَنْصُورٍ الماتريدي فَإِنَّ مَا ذَكَرُوهُ مُطَّرِدٌ فِيهِمَا. وَلَكِنْ جَمَاهِيرُ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَثْنَى فِي الْكُفْرِ وَالِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ بِدْعَةٌ لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَلَكِنْ هُوَ لَازِمٌ لَهُمْ. وَاَلَّذِينَ فَرَّقُوا مِنْ هَؤُلَاءِ قَالُوا: نَسْتَثْنِي فِي الإيمان رَغْبَةً إلَى اللَّهِ فِي أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَيْهِ إلَى الْمَوْتِ وَالْكُفْرُ لَا يَرْغَبُ فِيهِ أَحَدٌ.

لَكِنْ يُقَالُ: إذَا كَانَ قَوْلُك: مُؤْمِنٌ كَقَوْلِك: فِي الْجَنَّةِ. فَأَنْتَ تَقُولُ عَنْ الْكَافِرِ: هُوَ كَافِرٌ. وَلَا تَقُولُ: هُوَ فِي النَّارِ إلَّا مُعَلِّقًا بِمَوْتِهِ عَلَى الْكُفْرِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَافِرٌ فِي الْحَالِ قَطْعًا. وَإِنْ جَازَ أَنْ يَصِيرَ مُؤْمِنًا كَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ. وَسَوَاءٌ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ غَيْرِهِ.

فَلَوْ قِيلَ عَنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ: هَذَا كَافِرٌ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ يَمُوتُ كَافِرًا؛ وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ أَحَدًا مُؤْمِنًا إلَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ عَلَيْهِ؛ وَهَذَا الْقَوْلُ قَالَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَصْحَابِ ابْنِ كُلَّابٍ وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْهُ أَتْبَاعُ الْأَئِمَّةِ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ لَا الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ وَلَا كَانَ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ الَّذِينَ يُسْتَثْنَوْنَ فِي الإيمان يُعَلِّلُونَ بِهَذَا لَا أَحْمَد وَلَا مَنْ قَبْلَهُ.

(الشرح)

المؤلف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بين في هذا الفصل مسألة الاستثناء في الإيمان وهو قول الرجل: "أنا مؤمن إن شاء الله" قول الإنسان "أنا مؤمن إن شاء الله" فهل هذا مشهور؟

وهل الاستثناء واجب أو محرم أم جائز؟

بين المؤلف رحمه الله أن الاستثناء في غير توقعات الناس

 القول الأول: أنه واجب.

القول الثاني: أنه محرم.

والقول الثالث: أنه أن الأمرين جائزان

فالقائلون بالتحريم هم المرجئة والجهمية الذين يدعون الإيمان شيء واحد، يعلمه الإنسان من نفسه كالتصديق فق في الرب، فيقول الواحد أنا أعلم أني مؤمن كما أعلم أني تكلمت بالشهادتين وكما أعلم أني قرأت الفاتحة وكما أني أعلى أني أحب الرسول عليه الصلاة والسلام، كما أعلم أني أبغض اليهود، هؤلاء يمنعون الاستثناء في الإيمان، لأن الإيمان شيء ثابت يعلمه الإنسان، فليس في القلب يعلمه الإنسان بنفسه ولا يستثني، ولا يكون في عبث ولهذا يسمونه المستثنى في إيمانه يسمونه شاك في إيمانك، يسمونه الشكاك.

والطائفة الثانية: الذين يوجبون الاستثناء، و الذين يوجبون الاستثناء بين المؤلف رحمه الله أن لهم مأخذان.

المأخذ الاول: هو مأخذ كثير من المتأخرين أهل البدع من الكلابية والأشاعرة وغيرهم، وذلك أن مأخذهم أن الإيمان هو مات عليه الإنسان والإنسان إنما يكون عند الله مؤمنًا أو كافرًا باعتبار موافاته، باعتبار موافاته لربه وما سبق في علم الله انه يكون عليه، وأما ما قبل ذلك ...  فهم  يوجبون الاستثناء بهذا المأخذ.

والمأخذ الثاني الذي قال بالاستثناء مأخذ أهل السنة والجماعة الذين يقولون أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به، ادى كله وترك المحرمات كلها، فإذا قال الرجل أنا مؤمن بهذا الاعتبار شهد لنفسه بأنه من الأبرار المتقين، القائمين بفعل الواجبات وترك المحرمات ويكون من اولياء الله وهذا ...

فلهذا يرون أنه لابد من الاستثناء هذا مأخذ اهل السنة والجماعة.

أما المأخذ الأول وهو مأخذ أهل البدع هو مأخذ كثير من أهل البدع من الكلابية والأشاعرة وغيرهم .

والمؤلف رحمه الله في هذا المقطع يبين هذا المأخذ وهو مأخذ الين اوجبوا الاستثناء، مأخذهم أن الإيمان هو ما نص عليه الإسلام وأن الإنسان يكون عند الله مؤمنًا وكافرًا باعتبار الموافاة لربه وسبق أن يكون عليه.

ولهذا قال المؤلف: "قالوا؛ يعني استناد لهذا المأخذ قَالُوا: وَاَللَّهُ يُحِبُّ فِي أَزَلِهِ مَنْ كَانَ كَافِرًا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ مُؤْمِنًا" هذا مبني على مأخذهم في الإيمان، مأخذهم أن الإيمان ما مات عليه الإنسان، هو ما وافى به ربه، فعلى هذا من عاش في حياته كافر والله عليم أنمه يموت مؤمنًا يكون الله يحبه في أزله .للأن العبرة بموافاة ربه ولهذا قالوا:" قَالُوا: وَاَللَّهُ يُحِبُّ فِي أَزَلِهِ مَنْ كَانَ كَافِرًا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ مُؤْمِنًا. فَالصَّحَابَةُ مَا زَالُوا مَحْبُوبِينَ لِلَّهِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ مُدَّةً مِنْ الدَّهْرِ" يعني أنهم شيء منهم، فالصحابة في الجاهلية الذين اسلموا روي أنهم أن الله يحبهم.

قال: " فَالصَّحَابَةُ مَا زَالُوا مَحْبُوبِينَ لِلَّهِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ مُدَّةً مِنْ الدَّهْرِ وَإِبْلِيسُ مَا زَالَ اللَّهُ يُبْغِضُهُ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَكْفُرْ بَعْدُ" يعني إبليس كان الله يبغضه وأن كان قبل أن يكفر قبل ...

 لأن العبرة بالموافاة لربه، العبرة بما مات عليه بما كان عليه وما يكون عليه.

يقول المؤلف: " . وَهَذَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَهُمْ" يعني المتأخرين من الكلابية والأشاعرة أحد القولين لهم " وَهَذَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَهُمْ فَالرِّضَى وَالسُّخْطُ

يَرْجِعُ إلَى الْإِرَادَةِ وَالْإِرَادَةُ تُطَابِقُ الْعِلْمَ،" يعني هم بين صفة الرواء وصفة السخط الإرادة لأن...

فالعصاة شيء معروف مع أن السمع والبصر والعلم والقدرة والإرادة أما المحبة عندهم ينفونها.

فالمحبة عندهم مع الإرادة يعني بعض...

 أما أن يرجعوها إلى الإرادة وهي أحد الصفات هنا وأما أن يفسرونها بأثر الصفات ، بالأثار من النعم والعقوبات.

فيفسرون الرضا بالثواب، ويفسرون الغضب بالعقاب، ويفسرون الرحمة بالإنعام، او يرجعونها إلى الإرادة.

ولهذا قال المؤلف: " وَهَذَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَهُمْ فَالرِّضَى وَالسُّخْطُ يَرْجِعُ إلَى الْإِرَادَةِ وَالْإِرَادَةُ تُطَابِقُ الْعِلْمَ، فَالْمَعْنَى: مَا زَالَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُثِيبَ هَؤُلَاءِ بَعْدَ إيمَانِهِمْ وَيُعَاقِبَ إبْلِيسَ بَعْدَ كُفْرِهِ. وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ."

يقول المؤلف: " وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ. فَإِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ أَنْ يَخْلُقَ كُلَّ مَا عَلِمَ أَنْ سيخلقه." نعم لأن القدر له مراتب أربع وهي العلم وحفظ الكتابة ثم الإرادة ثم الخلق فالخلق مكتوب في الإرادة.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ. فَإِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ أَنْ يَخْلُقَ كُلَّ مَا عَلِمَ أَنْ سيخلقه." يقول المؤلف رحمه الله: " وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يُثْبِتُهَا صِفَاتٍ أُخَرَ يَقُولُ: هُوَ أَيْضًا حُبُّهُ تَابِعٌ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُثِيبَهُ" يعني الأشاعرة والكلابية الذين يقولن أن الإيمان ما يعبد الإنسان ربه ولا يزال لله يحبه، الكافر إذا علم أنه يموت مؤمنًا والمؤمن يبغضه إذا علم أنه يموت كافرًا فيبقى أو لا.

الأول يبدأ بالسخط بالإرادة، والقول الثاني أنها فات أخر وأن الرضا والسخط ... ويكون الحب تابع لمن يريد الله أن يثيبه.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " . وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يُثْبِتُهَا صِفَاتٍ أُخَرَ يَقُولُ: هُوَ أَيْضًا حُبُّهُ تَابِعٌ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُثِيبَهُ. فَكُلُّ مَنْ أَرَادَ إثَابَتَهُ فَهُوَ يُحِبُّهُ" كل من أراد الله أثابته من الطاعة فهو يحبه وكل من أراد الله عقوبته فأنه يموت ولا يرد لأن العبرة بالموافاة.

قال المؤلف رحمه الله: " وَهَذَا تَابِعٌ لِلْعِلْمِ." فعلى هذا يكون هؤلاء يرون أن الإيمان هو ما يلقى الإنسان ربه وهو ما سبق أنه يكون عليه ويكون في العبرة، ويكون الرواة والسخط على قول لهم هو الإرادة، وعلى القول الثاني صفات أخر ويكون حب تابع لمن يريد الإيمان، والبغض تابع لمن ينزل عقوبته.

قال المؤلف رحمه الله: " وَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ لَا يَرْضَى عَنْ أَحَدٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ سَاخِطًا عَلَيْهِ" عند هؤلاء لا يرضى عن أحد إذا كان ساخطًا عليه لأنهم يرون أن لا يقوم بالصفات الفعلية، لأن الصفات الفعلية جعلوها يلزم حلول الحوادث في ذات الرب وَلَا يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدٍ بَعْدَ أَنْ تَابَ عَلَيْهِ بَلْ مَا زَالَ يَفْرَحُ بِتَوْبَتِهِ، يعني أنهم لا يرون أنهم الصفات الفعلية لا يصفونهم بالصفات الفعلية وأنها تتعلق بالمشيئة والإرادة فيثبتون الفرح ولا يثبتون ... ولا يثبتون السخط.

ولهذا قال: " وَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ لَا يَرْضَى عَنْ أَحَدٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ سَاخِطًا عَلَيْهِ وَلَا يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدٍ بَعْدَ أَنْ تَابَ عَلَيْهِ بَلْ مَا زَالَ يَفْرَحُ بِتَوْبَتِهِ" يعني لا يتعلق بالفرح بالإرادة قال: " بَلْ مَا زَالَ يَفْرَحُ بِتَوْبَتِهِ. وَالْفَرَحُ عِنْدَهُمْ إمَّا الْإِرَادَةُ وَإِمَّا الرِّضَى. وَالْمَعْنَى مَا زَالَ يُرِيدُ إثَابَتَهُ" هذا معنى معنى الإرادة مَا زَالَ يُرِيدُ إثَابَتَهُ  والغضب يغضب عنده يوم القيامة وهو ما قبله يشير إلى الحديث الشفاعة الحديث الصحيح الذي فيه أن الأنبياء أن الناس يأتون يوم القيامة الأنبياء يطلبون الشفاعة يأتون نوح ثم يأتون إبراهيم ويأتون موسى ثم عيسى وكل نبي يقول  إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ ...فهم لا يقولون بهذا.

لا يقولن أن الغضب بتفاوت بل يقولون لا يغضب وَكَذَلِكَ لَا يَغْضَبُ عِنْدَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ دُونَ مَا قَبْلَهُ. بَلْ غَضَبُهُ قَدِيمٌ إمَّا بِمَعْنَى الْإِرَادَةِ وَإِمَّا بِمَعْنَى آخَرَ.

قال المؤلف: " فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إذَا عَلِمَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَمُوتُ كَافِرًا لَمْ يَزَلْ مُرِيدًا لِعُقُوبَتِهِ" يعني إذا علم الله إذا علم الله أن الإنسان يموت كافرًا لم يزل يريد عقوبته وأن كان مؤمنًا فذات الإيمان الذي كان معه باطل لا فائدة فيه، بل وجوده كعدمه، فليس هذا بمؤمن أصلًا هذا مبني على مأخذه وهو أن الإيمان ما مات عليه الإنسان، وما سبق أن يكون عليه.

قال المؤلف رحمه الله: "وإذا علم أنه يموت مسلمًا لم يزل مولد لأثابته" يعني ولو كان كافرًا وذاك الكفر الذي فعله وجوده كعدمه، فلا يكون هذا كافر عندهم أصلًا لماذا؟ لأن العبرة بالموافاة، الإيمان هو يلقي الإنسان به ربه.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فَهَؤُلَاءِ يُسْتَثْنَوْنَ فِي الإيمان بِنَاءً عَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ" وهو أن الإيمان هو ما مات عليه الإنسان، والإيمان والكفر باعتبار الموافاة وما سبق بعلم يكون عليه.

يقول المؤلف رحمه الله: " وَكَذَلِكَ بَعْضُ مُحَقِّقِيهِمْ يُسْتَثْنَوْنَ فِي الْكُفْرِ مِثْلَ أَبِي مَنْصُورٍ الماتريدي" من الأشاعرة، يعني بعض المحققين الأشاعرة يستثنون في الكفر كما يستثنون في الإيمان.

يقول المؤلف: " فَإِنَّ مَا ذَكَرُوهُ مُطَّرِدٌ فِيهِمَا" مضطرد في الإيمان والكفر، كما أنه مستثني في الإيمان مستثني في الكفر وقال هو مؤمن إن شاء الله وقال هو كافر إن شاء الله.

يقول المؤلف رحمه الله: " وَلَكِنْ جَمَاهِيرُ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَثْنَى فِي الْكُفْرِ وَالِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ بِدْعَةٌ لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَلَكِنْ هُوَ لَازِمٌ لَهُمْ." يعني الجماهير الأئمة على أن الكفر لا يستثني فيه إنما يثاب الإيمان لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَلَكِنْ هُوَ لَازِمٌ لَهُمْ. ملازم لهؤلاء على مأخذهم.

يقول المؤلف رحمه الله: " وَاَلَّذِينَ فَرَّقُوا مِنْ هَؤُلَاءِ" يعني الذين فرقوا بين الإيمان والكفر في الاستثناء فأجدوا في الإيمان ومنعوا الكفر ...

.الذين فرقوا يعني بين الإيمان والكفر فعجزوه في الإيمان وفي الكفر قَالُوا: نَسْتَثْنِي فِي الإيمان رَغْبَةً إلَى اللَّهِ فِي أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَيْهِ إلَى الْمَوْتِ وَالْكُفْرُ لَا يَرْغَبُ فِيهِ أَحَدٌ" هذا وجه نظرهم ، يقول الإيمان يثبتنا عليه الله عند الموت، وأما الكفر فلا يثتني .

قال المؤلف رحمه الله : " لَكِنْ يُقَالُ: إذَا كَانَ قَوْلُك: مُؤْمِنٌ كَقَوْلِك: فِي الْجَنَّةِ. فَأَنْتَ تَقُولُ عَنْ الْكَافِرِ: هُوَ كَافِرٌ. وَلَا تَقُولُ: هُوَ فِي النَّارِ إلَّا مُعَلِّقًا بِمَوْتِهِ عَلَى الْكُفْرِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَافِرٌ فِي الْحَالِ قَطْعًا." يعني أنك إذا كنت تقول أن القول قول الإنسان هو مؤمن مثل قوله في الجنة، يعني إذا ذكرت وقال أنه مؤمن فأنه يجزم بأنه في الجنة ويحكم على بأنه في  الجن، وكذلك الكافر  فلا تقول أنه كافر وهو معلق على الكفر فدل على أن الكافر من حال قطعًا إذا قال هو كافر ولا في النار إلا إذا ثبت على الكفر لكن يكون كافر بالحال.

وَإِنْ جَازَ أَنْ يَصِيرَ مُؤْمِنًا كَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ يقال أنه مؤمن ولا يلزم  في ذلك أنه قال شهد له بالجنة، بل يقال أنه مؤمن مات على الإيمان وكما أنه إذا يقول أنه كافر، ولا يقول أنه في النار ويعلق الموت على الكفر، وكذلك هو مؤمن ولا يزال بأنه مؤمن ولا يزال في الجنة إلا إذا مات على الإيمان.

قال المؤلف رحمه الله: " كَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ. وَسَوَاءٌ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ غَيْرِهِ فَلَوْ قِيلَ عَنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ: هَذَا كَافِرٌ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ؛" يعني إذا لم يعلم أنه كافرًا يعني المشيئة ترجع إلى حال.

قال : " وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ أَحَدًا مُؤْمِنًا إلَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ عَلَيْهِ؛ وَهَذَا الْقَوْلُ قَالَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَصْحَابِ ابْنِ كُلَّابٍ وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْهُ أَتْبَاعُ الْأَئِمَّةِ" يعني لا يعلم أحدٌ مؤمنًا لا يعلم أحدٌ أنه يوصف بالإيمان إلا إذا علم أنه يموت عليه فالعبرة  الموافاة.

قال المؤلف رحمه الله: " لَكِنْ لَيْسَ هَذَا قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ لَا الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ وَلَا كَانَ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ الَّذِينَ يُسْتَثْنَوْنَ فِي الإيمان يُعَلِّلُونَ بِهَذَا لَا أَحْمَد وَلَا مَنْ قَبْلَهُ" يعني القول بأن الإيمان هو ما مات عليه الإنسان، والإيمان والكفر باعتبار الموافاة وما سبق عليه الأئمة هذا قولٌ مبتدع ما قاله أحد من السلف، ولا قاله أحد من الأئمة الأربعة، ولم يقله أحد من قبلهم بل الإنسان يثبت إيمانه إذا كان مؤمن بالحال يثبت إيمانه بالكافر إذا كان كافر يفهم أنه ... أما بعد ذلك يتغير الحال.

إذا تغير الحال تغير الوصف، فيوصف إذا كان الإنسان مؤمن ، يوصف بأنه مؤمن وإذا كان الإنسان كافر يوصف بأنه كافر.

وإذا تغير حاله فيتغير فهذا الوصف، أما لا نعلق موته فهذا لا يعلمه إلا الله كونه أنه يتصف بالإيمان أما إذا علم أنه مات على الإيمان أو أن الإيمان والكفر صفات باعتبارهم موافاة .

يقول المؤلف : " هَذَا قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ لَا الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ وَلَا كَانَ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ الَّذِينَ رحلوا فيما قبلهم" سيكونوا قولًا باطل. نعم.

(المتن)

وَمَأْخَذُ هَذَا الْقَوْلِ طَرَدَهُ طَائِفَةٌ مِمَّنْ كَانُوا فِي الْأَصْلِ يَسْتَثْنُونَ فِي الإيمان اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ وَكَانُوا قَدْ أَخَذُوا الِاسْتِثْنَاءَ عَنْ السَّلَفِ وَكَانَ أَهْلُ الشَّامِ شَدِيدَيْنِ عَلَى الْمُرْجِئَةِ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الفريابي صَاحِبُ الثَّوْرِيِّ مُرَابِطًا بِعَسْقَلَانَ لَمَّا كَانَتْ مَعْمُورَةً وَكَانَتْ مِنْ خِيَارِ ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ وَلِهَذَا كَانَ فِيهَا فَضَائِلُ لِفَضِيلَةِ الرِّبَاطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَكَانُوا يَسْتَثْنُونَ فِي الإيمان اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ.

وَاسْتَثْنَوْا أَيْضًا فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كَقَوْلِ الرَّجُلِ: صَلَّيْت إنْ شَاءَ اللَّهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ بِمَعْنَى الْقَبُولِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ عَنْ السَّلَفِ.

ثُمَّ صَارَ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ بِآخِرَةِ يَسْتَثْنُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَيَقُولُ هَذَا ثَوْبِي إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهَذَا حَبْلٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ.

فَإِذَا قِيلَ لِأَحَدِهِمْ: هَذَا لَا شَكَّ فِيهِ؛ قَالَ: نَعَمْ لَا شَكَّ فِيهِ؛ لَكِنْ إذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُغَيِّرَهُ غَيَّرَهُ؛ فَيُرِيدُونَ بِقَوْلِهِمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ جَوَازَ تَغْيِيرِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ لَا شَكَّ فِيهِ؛ كَأَنَّ الْحَقِيقَةَ عِنْدَهُمْ الَّتِي لَا يُسْتَثْنَى فِيهَا مَا لَمْ تَتَبَدَّلْ كَمَا يَقُولُهُ أُولَئِكَ فِي الإيمان: إنَّ الإيمان مَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَتَبَدَّلُ حَتَّى يَمُوتَ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ.

(الشرح)

يقول المؤلف رحمه الله: إنَّ ما أخذ هذا القول الذي قال به الأشاعرة والكلابية وهو أن الإيمان هو ما مات عليه الإنسان، وأن الإيمان بل الموافاة، وما سبق في علم الله أن يكون عليه فيذهب طائفة طلبوا ذلك ممن كانوا في الأصول يستثنون في الأصل تباع للسلف غلوا في استخدام الاستثناء، كانوا يستثنون في الإيمان اتباع للسلف، وكانوا قد أخذوا الاستثناء اتباع للسلف.

ثم بعد ذلك غلوا حتى يجعلوا يغالون في الأعمال في الصلاة وفي الصيام وفي الحج، يقول صليت إن شاء الله، ثومن إن شاء الله، حجيت إن شاء الله ثم إذا زاد في الغلو في الجمادات.

يقول: "هَذَا ثَوْبِي إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهَذَا حَبْلٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ. فَإِذَا قِيلَ لِأَحَدِهِمْ: هَذَا لَا شَكَّ فِيهِ؛ "لأن ... واضح.

فقال: " نَعَمْ لَا شَكَّ فِيهِ؛ لَكِنْ إذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُغَيِّرَهُ غَيَّرَهُ؛ فَيُرِيدُونَ بِقَوْلِهِمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ جَوَازَ تَغْيِيرِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ لَا شَكَّ فِيهِ؛ كَأَنَّ الْحَقِيقَةَ عِنْدَهُمْ الَّتِي لَا يُسْتَثْنَى فِيهَا مَا لَمْ تَتَبَدَّلْ كَمَا يَقُولُهُ أُولَئِكَ فِي الإيمان: إنَّ الإيمان مَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَتَبَدَّلُ حَتَّى يَمُوتَ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ"

فالمؤلف رحمه الله بين أن هذه الطائفة غلت في استخدام الاستثناء وطردوا الاستثناء من الإيمان إذا الاستثناء في الأعمال إلى في الجمادات وجه نظر أن نوالهم أن الحقيقة عندهم التي لا يستثنى فيها لا تتبدل وهذه الجمادات أن كان يبدلها الله.

كما أن أولئك الكلابية والأشاعرة يستثنون في الإيمان، يعتبرون الإيمان ما علم الله أنه يتبدل حتى يموت صاحبه عليه.

وعلى كل حال هذا مأخذ كما سبق، بين المؤلف رحمه الله هو غير صحيح، وأن المأخذ الصحيح هو أن المأخذ الصحيح للشريعة هو أن الإنسان لا يزكي نفسه ولا يجزم أنه يؤدي ما  عليه، يثتني الواجبات كثيرة والمحرمات كثيرة ولا يلزم الإنسان أنه ادى ما عليه ولا يزكي نفسه.

فلهذا يقول أنا مؤمن إن شاء الله، أما مأخذ هؤلاء وأن العبرة بالموافاة وأن الإيمان والكفر هو ما يموت الإنسان عليه وأن الإيمان لا يتبدل فأنه مأخذه غير صحيح. قال به أهل البدع ولم يقول به أحد من السلف، نعم.


([1]) –سبق

([2]) –سبق

([3]) –سبق

([4]) –سبق

([5]) –سبق

([6]) –سبق

([7]) –

([8]) –سبق

([9]) –أخرجه البخاري رقم (2464)، ومسلم رقم (1980) من حديث  أنس بن مالك .

([10]) –سبق 

([11]) –سبق 

([12]) –أخرجه البخاري رقم (45)، ومسلم رقم (3017) من حديث عمر بن الخطاب

([13]) –سبق 

([14]) –سبق 

([15]) –أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (37390) ،  والخلال في السنة رقم (1630)،

([16]) –أخرجه معلقًا قبل حديث رقم (48)

([17]) –أخرجه مسلم رقم (49) من حديث أبي سعيد .

([18]) –أخرجه مسلم رقم (50) من حديث عبد الله بن مسعود

([19]) –سبق

([20]) –سبق

([21]) –سبق

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد