(المتن)
لَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ قَالَهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ بِاجْتِهَادٍ وَنَظَرٍ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْتَثْنُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ تَلَقَّوْا ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ أَتْبَاعِ شَيْخِهِمْ، وَشَيْخُهُمْ الَّذِي يَنْتَسِبُونَ إلَيْهِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ مَرْزُوقٍ، لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَرَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ بَلْ كَانَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ؛ وَلَكِنْ أَحْدَثَ ذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بَعْدَهُ، وَكَانَ شَيْخُهُمْ مُنْتَسِبًا إلَى الْإِمَامِ أَحْمَد، وَهُوَ مِنْ أَتْبَاعِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ المقدسي، وَأَبُو الْفَرَجِ مِنْ تَلَامِذَةِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى.
وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ وَإِنْ كَانُوا مُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِمَامِ أَحْمَد فَهُمْ يُوَافِقُونَ ابْنَ كُلَّابٍ عَلَى أَصْلِهِ، الَّذِي كَانَ أَحْمَد يُنْكِرُهُ عَلَى الْكُلَّابِيَة، وَأَمَرَ بِهَجْرِ الْحَارِثِ المحاسبي مِنْ أَجْلِهِ، كَمَا وَافَقَهُ عَلَى أَصْلِهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ كَأَبِي الْمَعَالِي الجُوَيْنِي، وَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي، وَأَبِي مَنْصُورٍ الماتريدي وَغَيْرِهِمْ.
وَقَوْلِ هَؤُلَاءِ فِي مَسَائِلَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا كَمَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ: هَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؟ أَمْ الْقُرْآنُ لَازِمٌ لِذَاتِهِ؟ وَقَوْلُهُمْ فِي الِاسْتِثْنَاءِ مَبْنِيٌّ عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ.
وَكَذَلِكَ بَنَاهُ الْأَشْعَرِيُّ وَأَتْبَاعُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ كلابية يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا يَرْضَى وَلَا يَغْضَبُ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ إيمَانِهِ وَكُفْرِهِ وَلَا يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ.
وَلِهَذَا وَافَقُوا السَّلَفَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، ثُمَّ قَالُوا: إنَّهُ قَدِيمٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ هَذَا فِي الْقَدِيمِ أَهُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ؟ أَمْ حُرُوفٌ قَدِيمَةٌ مَعَ تَعَاقُبِهَا؟ كَمَا بُسِطَتْ أَقْوَالُهُمْ وَأَقْوَالُ غَيْرِهِمْ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ.
وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ تُنْكِرُ أَنْ يُقَالَ: قَطْعًا فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ مَعَ غُلُوِّهِمْ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، حَتَّى صَارَ هَذَا اللَّفْظُ مُنْكَرًا عِنْدَهُمْ، وَإِنْ قَطَعُوا بِالْمَعْنَى فَيَجْزِمُونَ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ، وَلَا يَقُولُونَ: قَطْعًا.
وَقَدْ اجْتَمَعَ بِي طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَنْكَرَتْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ؛ وَامْتَنَعَتْ مِنْ فِعْلِ مَطْلُوبِهِمْ حَتَّى يَقُولُوا: قَطْعًا وَأَحْضَرُوا لِي كِتَابًا فِيهِ أَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: قَطْعًا وَهِيَ أَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ مُخْتَلَقَةٌ قَدْ افْتَرَاهَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ.
(الشرح)
فإن المؤلِّف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بيَّن فيما سبق مسألة الاستثناء في الإيمان، وأنَّ فيه للناس ثلاث أقوال:
قولٌ يمنع الاستثناء ويحرمه؛ وهم المرجئة والجهمية، وقول يوجبه؛ وهم طائفتان لكل منهم مأخذان؛ طائفة من أهل السنة، وطائفة الكلابية، والأشاعرة، والقول الثالث: أنه يجوز الأمرين باعتبارين وهذا أكثر أهل السنة.
فسبق أن بيَّن المؤلف رحمه الله أن الذين أوجبوا الاستثناء لهم مأخذان؛ المأخذ الأول: هو أن الإيمان هو ما مات عليه الإنسان، وأن الإنسان إنما يكون عند الله مؤمنًا، أو كافرًا باعتبار الموافاة، وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وما قبل ذلك لا عبرة به، هذا مأخذ الأشاعرة والكلابية في وجوب الاستثناء، ثم فرض هذا الاستثناء طائفة ممن كانوا يستثنون في الإيمان تبعًا للسلف، فرضوا هذا الاستثناء فحتى استثنوا في الأعمال، فيقول أحدهم: صليت إن شاء الله، صمت إن شاء الله، حججت إن شاء الله، ثم أيضًا تتدرجوا فصاروا يستثنون في الجمادات؛ يقول: هذا ثوب إن شاء الله، هذا حبل إن شاء الله، فإذا قيل لأحدهم هذا لا شك فيه قال: نعم، لا شك فيه لكن إذا شاء الله تغيره غيره، فيكون الاستثناء راجع إلى أن الحقيقة عندهم هي التي لا يستثنى فيها هي التي لا تتبدل.
ثم يقول المؤلف رحمه الله: "لَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ. قَالَهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ بِاجْتِهَادِ وَنَظَر"؛ هناك يعني وافقهم قوم من أهل العلم والدين والاجتهاد، فقالوا بالاستثناء باجتهاد ونظر لا موافقة لهم في مأخذهم.
ثم قال المؤلف رحمه الله: " وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْتَثْنُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ"؛ يعني يستثنون مثلا في الجماد في كل شيء، يقول هذا حبل إن شاء الله، هذا ثوب إن شاء الله.
يقول المؤلف رحمه الله: " وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْتَثْنُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ تَلَقَّوْا ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ أَتْبَاعِ شَيْخِهِمْ وَشَيْخُهُمْ الَّذِي يَنْتَسِبُونَ إلَيْهِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ مَرْزُوقٍ"؛ وهو ابن حميد بن ثلاب القرشي أبو عمرو كان فقيهًا زاهدًا استوطن مصر وعاش فيها، وروى عنه تلاميذه أقوالا في هذا؛ ومنها أنه كان يستثني في كل شيء.
يقول المؤلف رحمه الله: " لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَرَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ بَلْ كَانَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ؛ وَلَكِنْ أَحْدَثَ ذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بَعْدَهُ"؛ يعني كأنه أبو عمرو عثمان بن مرزوق لم يكن يرى هذا الاستثناء لكن أحدث ذلك بعض أصحابه فنسب ذلك إليه، أحدث هذا بعض أصحابه استثنوا في كل شيء، قال: " وَكَانَ شَيْخُهُمْ مُنْتَسِبًا إلَى الْإِمَامِ أَحْمَد وَهُوَ مِنْ أَتْبَاعِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ المقدسي"؛ وهو عبد الوهاب بن عبد الواحد بن محمد بن علي الشيرازي الدمشقي المعروف بالحنبلي أبو القاسم كان فقيهًا، واعظًا، مفسرًا كان شيخ الحنابلة في وقته.([1])
يقول المؤلِّف رحمه الله: "وَأَبُو الْفَرَجِ مِنْ تَلَامِذَةِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى".
يقول المؤلف رحمه الله: " وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ وَإِنْ كَانُوا مُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِمَامِ أَحْمَد فَهُمْ يُوَافِقُونَ ابْنَ كُلَّابٍ عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي كَانَ أَحْمَد يُنْكِرُهُ عَلَى الْكُلَّابِيَة"؛ يعني أبو الفرج المقدسي، عبد الوهاب بن الشيخ أبي الفرج المقدسي، والقاضي أبو يعلى وقبله أبو عمرو بن عثمان بن مرزوق، وكلهم هؤلاء على أصله يوافقون بن كلاب على أصله الذي كان أحمد ينكره عليه، وهو أن الاستثناء في الإيمان راجع إلى أن الإيمان هو ما مات عليه الإنسان، وأن الإيمان والكفر باعتبار الموافاة، وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، هم يوافقون ابن كلاب على هذا الأصل؛ يعني هذا مأخذهم يوافقون ابن كلاب على أصله الذي كان أحمد ينكره على الكلابية " وَأَمَرَ بِهَجْرِ الْحَارِثِ المحاسبي مِنْ أَجْلِهِ"؛ من أجل هذا الأصل وهو أن الاستثناء راجع إلى أن الإيمان هو ما مات عليه الإنسان، وأن الإيمان والكفر باعتبار الموافاة، وما علم الله أنه يكون عليه، الإمام أحمد قال: " وَأَمَرَ بِهَجْرِ الْحَارِثِ المحاسبي مِنْ أَجْلِهِ".
يقول المؤلف رحمه الله: " كَمَا وَافَقَهُ عَلَى أَصْلِهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ"؛ يعني وافق ابن كلاب على أصله طائفة من أصحاب مالك، وطائفة من أصحاب الشافعي، وطائفة من أصحاب أبي حنيفة " كَأَبِي الْمَعَالِي الجُوَيْنِي" وهو من الشافعية " وَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي كان من المالكية، وَأَبِي مَنْصُورٍ الماتريدي وَغَيْرِهِمْ" كل هؤلاء وافقوا ابن كلاب على أصله؛ وهو أن الاستثناء في الإيمان راجع إلى اعتبار الموافاة؛ أن الإيمان هو باعتبار الموافاة، ما يوافي به الإنسان ربه، وهو ما سبق في علم الله أنه يموت عليه كلهم يقولون بهذا المأخذ؛ مأخذ ابن كلاب.
يقول المؤلف رحمه الله: " وَقَوْلِ هَؤُلَاءِ فِي مَسَائِلَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا"؛ يعني هؤلاء لهم أقوال في مسائل متعددة من مسائل الصفات وما يتعلق " بِهَا كَمَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ هَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؟ أَمْ الْقُرْآنُ لَازِمٌ لِذَاتِهِ؟ وَقَوْلُهُمْ فِي " الِاسْتِثْنَاءِ " مَبْنِيٌّ عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ"؛ هل الكلام لازم لذات الرب، أو أنه تكلم بقدرته ومشيئته، أهل السنة يرون إن الكلام يكون بمشيئة الله وقدرته، تكلم متى شاء إذا شاء كما شاء، وأهل البدع من الأشاعرة وغيرهم يقولون: لا يتكلم بقدرته ومشيئته بل القرآن لازم لذاته؛ لأنهم عندهم أصل، وهو أن الصفات الفعلية، ينكرون الصفات الفعلية؛ لأنه يلزم عليها حلول الحوادث بذات الرب، قالوا: لو قلنا يتكلم إذا شاء، أو يرضى إذا شاء، أو يغضب إذا شاء لكان محل الحوادث، والله منزه عن حلول الحوادث، فلذلك قالوا: لا يتكلم بمشيئته لم يزل عنه التكلم، لا يتكلم بمشيئته وقدرته، ولا يرضى إذا شاء، ولا يغضب إذا شاء بل قالوا: هو لازم له، الغضب لازم له، الكلام لازم له.
ولهذا يقول المؤلف رحمه الله: " قول هؤلاء فِي مَسَائِلَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ مبني على هذا الأصل.
ولهذا قال المؤلف: " كمسألة القرآن" هل هو سبحانه يتكلم بمشيئته وقدرته، أم القرآن لازم لذاته، وقولهم في الاستثناء مبني على هذا الأصل؛ يعني هل الله يتكلم بمشيئته وقدرته، أم القرآن لازم لذاته " وَكَذَلِكَ بَنَاهُ الْأَشْعَرِيُّ وَأَتْبَاعُهُ عَلَيْهِ؛ يعني على الأصل المذكور، وهل الله يتكلم بمشيئته وقدرته، أم القرآن لازم لذاته؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ كلابية يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا يَرْضَى وَلَا يَغْضَبُ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ إيمَانِهِ وَكُفْرِهِ وَلَا يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ" لماذا؟ هذا مبني على أصلهم يقولون: لأن هذه حوادث، والرب ينزه عن حلول الحوادث في ذاته، فلو قلنا: إنه يرضى إذا شاء، ويغضب إذا شاء لكان محل الحوادث.
يقول المؤلف رحمه الله: ". وَلِهَذَا وَافَقُوا السَّلَفَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. ثُمَّ قَالُوا: إنَّهُ قَدِيمٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ"؛ بناء على هذا الأصل؛ لأنه لو كان الكلام بمشيئته وقدرته لكان محل الحوادث، يحدث الكلام، ففرارًا من ذلك قالوا: إن القرآن قديم.
يقول المؤلف رحمه الله: " ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ هَذَا فِي الْقَدِيمِ أَهُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ؟ أَمْ حُرُوفٌ قَدِيمَةٌ مَعَ تَعَاقُبِهَا؟"؛ يعني بعضهم قال: إن القرآن قديم لكنه معنى الواحد؛ وهم الأشاعرة، الأشاعرة قالوا: معنى واحد، والكلابية قالوا: أربعة معاني في نفسه: الأمر، والنهي، والخبر، والاستفهام، هو واحد لكنه أربعة معاني في نفسه عند الكلابية، والأشاعرة يقولون: هو واحد، وهو معنى واحد لا يتعدد، ولا يتجزأ، ولا يتكسر، ولكن يختلف هذا باختلاف العبارات، فيقولون: إن القرآن والتوراة، والإنجيل، والزبور، كلها معنى واحد، لكن باختلاف العبارات؛ إن عبر عنه بالعربية فهو قرآن، أو عبر عنه بالعبرية فهو توراة، أو عبر عنه بالسريانية فهو الإنجيل، أو عبر عنه بالداودية هو الزبور ، وهو معنى واحد.
ويقولون مثال ذلك: مثل الإنسان يكون أبًا باعتبار أبناءه، ويكون عمًا باعتبار أبناء أخيه، ويكون خالًا باعتبار أبناء أخواته، وهو شيء واحد، فكذلك القرآن معنى واحد، ويختلف اختلاف العبارات.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ هَذَا فِي الْقَدِيمِ أَهُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ؟" كما يقوله الأشاعرة، " أَمْ حُرُوفٌ قَدِيمَةٌ مَعَ تَعَاقُبِهَا؟"؛ يكون حروف قديمة ليست حالة في ذات الرب " كَمَا بُسِطَتْ أَقْوَالُهُمْ وَأَقْوَالُ غَيْرِهِمْ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ"؛ بسطت الأقوال في مواضع كثيرة في كتب ابن كلاب من هدي السنة، وفي غيرها من كتبه، مجموع الفتاوي.
يقول المؤلف رحمه الله: " وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ تُنْكِرُ أَنْ يُقَالَ: قَطْعًا فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ مَعَ غُلُوِّهِمْ فِي الِاسْتِثْنَاءِ"؛ يعني هذه الطائفة عندهم غلو في الاستثناء، ومع ذلك لا يقطعون في شيء من الأشياء؛ يعني يقولون:لا نقطع بأن هذا حبل لأن الله إذا شاء أن يغيره غيره، لا نقطع بأن هذا ثوب، لا نقطع بأن هذا حبل، وإن كان أمامهم يرون الحبل والثوب، قالوا: لا نقطع، مع غلوهم في الاستثناء فيقولون: حبل إن شاء الله، هذا دلو إن شاء الله، هذا ثوب إن شاء الله؛ فهم يغلون في الاستثناء ولا يقطعون لا يقطعون أنه حبل، وأنه ثوب، وأنه دلو، وأنه كتاب، فإذا قيل لهم لا شك أن هذا أمامكم هذا كتاب، هذا سكين، هذا إناء، قالوا: لو شاء الله أن يغيره غيره؛ فهم عندهم غلو في الاستثناء، وعندهم شك؛ عدم قطع في الأشياء لا يجزمون، ولا يقطعون بالأشياء على ما هي عليه، لا يقطعون بأن هذا كتاب، لا يقطعون بأن هذا إناء بل عندهم شك، ومع ذلك يغلون في الاستثناء، فيقولون: هذا دلو، هذا حبل إن شاء الله، هذا ثوب إن شاء الله، هذا كتاب إن شاء الله، هذا إناء إن شاء الله.
قال المؤلف رحمه الله: "حَتَّى صَارَ هَذَا اللَّفْظُ مُنْكَرًا عِنْدَهُمْ"؛ إذًا ينكر عندهم ؛ ينكر هذه الطائفة ينكر عليهم شيئان:
الشيء الأول: غلوهم في الاستثناء حتى يستثنوا في الجمادات؛ فيقولون: هذا ثوب إن شاء الله، هذا حبل إن شاء الله، هذا كتاب إن شاء الله.
والأمر الثاني: عدم القطع في شيء من الأشياء؛ يعني يترددون، ولا يجزمون بأن هذا الشيء يسمى ثوب، أو إناء.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "حَتَّى صَارَ هَذَا اللَّفْظُ مُنْكَرًا عِنْدَهُمْ"؛ يعني يقولون: هذا حبل إن شاء الله، هذا ثوب إن شاء الله " وَإِنْ قَطَعُوا بِالْمَعْنَى فَيَجْزِمُونَ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ وَلَا يَقُولُونَ: قَطْعًا"؛ يجزمون يقولون: نجزم بأن الله ربنا، ونجزم بأن محمدًا رسول الله لكنهم لا يقولون قطعًا.
يقول المؤلف رحمه الله: شيخ الإسلام: " وَقَدْ اجْتَمَعَ بِي طَائِفَةٌ مِنْهُمْ"؛ يعني هذه الطائفة التي تقول هذا اللفظ المنكر " فَأَنْكَرَتْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ؛ وَامْتَنَعَتْ مِنْ فِعْلِ مَطْلُوبِهِمْ حَتَّى يَقُولُوا: قَطْعًا" المؤلف رحمه الله أدبهم، قال: أنكرت عليهم هذا الكلام، وامتنعت من فعل مطلوبهم وتحقيقه حتى يقولوا: قطعًا؛ يجزمون، لا يترددون؛ هذا شيء واضح، كيف يترددون في شيء أمامهم واضح.
قال المؤلف رحمه الله: " وَأَحْضَرُوا لِي كِتَابًا فِيهِ أَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: قَطْعًا".
يقول المؤلف رحمه الله: " وَهِيَ أَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ مُخْتَلَقَةٌ قَدْ افْتَرَاهَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ" لا عبرة بهذه الأحاديث، لكن الذي ينكر قولهم: كونهم لا يجزمون بالشيء الواضح أمامهم، وكونهم يغلون في الاستثناء، ويستثنون في الجمادات.
المتن:
" وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ " الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْإِيمَانِ " لَمَّا عُلِّلَ بِمِثْلِ تِلْكَ الْعِلَّةِ طَرَدَ أَقْوَامٌ تِلْكَ الْعِلَّةَ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمَوْجُودَةَ الْآنَ إذَا كَانَتْ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَتَبَدَّلُ أَحْوَالُهَا؛ فَيُسْتَثْنَى فِي صِفَاتِهَا الْمَوْجُودَةِ فِي الْحَالِ وَيُقَالُ: هَذَا صَغِيرٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ يَجْعَلُهُ كَبِيرًا وَيُقَالُ: هَذَا مَجْنُونٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ يَجْعَلُهُ عَاقِلًا وَيُقَالُ لِلْمُرْتَدِّ: هَذَا كَافِرٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ لِإِمْكَانِ أَنْ يَتُوبَ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَثْنَوْا فِي الْإِيمَانِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ ظَنُّوا هَذَا قَوْلَ السَّلَفِ.
وَهَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يَنْصُرُونَ مَا ظَهَرَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ كَمَا يَنْصُرُ ذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْجَهْمِيَّة وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ فَيَنْصُرُونَ إثْبَاتَ الصَّانِعِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَيَنْصُرُونَ مَعَ ذَلِكَ مَا ظَهَرَ مِنْ مَذَاهِبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ كَمَا يَنْصُرُ ذَلِكَ الْكُلَّابِيَة والكَرَّامِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةُ وَنَحْوُهُمْ يَنْصُرُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَرَى فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ أَهْلَ الْقِبْلَةِ لَا يَكْفُرُونَ بِالذَّنْبِ وَلَا يَخْلُدُونَ فِي النَّارِ وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَهُ شَفَاعَةٌ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَأَنَّ فِتْنَةَ الْقَبْرِ حَقٌّ وَعَذَابَ الْقَبْرِ حَقٌّ وَحَوْضَ نَبِيِّنَا ﷺ فِي الْآخِرَةِ حَقٌّ.
وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي شَاعَ أَنَّهَا مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. كَمَا يَنْصُرُونَ خِلَافَةَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَفَضِيلَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَنَحْوَ ذَلِكَ".
الشرح:
المؤلف رحمه الله يبيَّن الخلاصة فيما سبق؛ وهو أن الاستثناء في الإيمان لما علله الكلابية والأشاعرة بهذه العلة: وهي أن الإيمان هو ما مات عليه الإنسان، وأن الإيمان والكفر إنما يكون باعتبار الموافاة، وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، لما علل بهذه العلة الباطلة فتحوا باب لطائفة فدخلت هذه الطائفة الأخرى وطردوا هذه العلة في الأشياء التي لا يجوز فيها الاستثناء بإجماع المسلمين بناء على أن الأشياء الموجودة الآن إذا كانت في علم الله تتبدل أحوالها فيستثنى في صفاتها الموجودة في الحال، فصاروا يستثنون فيقولون: هذا صغير إن شاء الله، هذا كبير إن شاء الله، هذا رجل إن شاء الله، فإذا قيل لهم كيف تستثنون في هذا؟! قالوا: لأن الصغير قد يجعله الله كبيرًا، والمجنون قد يجعله الله عاقلًا، ويقال المرتد هذا كافر إن شاء الله قالوا: لإمكان أن يتوب فالذي فتح لهم الباب من هم؟ الذي فتح لهم الباب هم الكلابية والأشعرية؛ يعني لما عللوا بعلة باطلة في الاستثناء في الإيمان، قالوا العلة: الاستثناء في الإيمان هو أن الإيمان هو ما مات عليه الإنسان، والإيمان والكفر باعتبار الموافاة، وما سبق في علم الله أنه يكون عليه؛ لأن الإنسان تتبدل حالته وتتغير فالعبرة بما يكون عليه لما عللوا بهذه العلة جاء هؤلاء القوم وطردوا هذه العلة، وصاروا يعللون بها ويستثنون في أشياء لا يستثنى فيها بإجماع المسلمين، فيقولون في الصغير: هذا صغير إن شاء الله هذا لا يستثنى فيه؛ كيف تقول: هذا صغير إن شاء الله؟! لا داعي للإستثناء هو صغير الآن، يقولون الإنسان: هذا مرتد، هذا كافر إن شاء الله الاستثناء ما له محل هنا، هو كافر في الحال، هذا مجنون، يقولون: هذا مجنون إن شاء الله، ما معنى الاستثناء؟ قالوا: لأن الله، العبرة بحاله التي لا تثبت ما ندري لأن الله قد يبدل حاله، فإذا شاء الله أن يجعله كبيرًا؛ لأن الله قد يجعله كبيرًا، وهذا مجنون، المجنون قالوا: بأن الله قد يجعله عاقلًا، والمرتد قالوا: بإمكانه أن يتوب؛ فهم استثنوا في أشياء لا يجوز فيها الاستثناء بإجماع المسلمين؛ وسبب ذلك إن الكلابية والأشعرية لما عللوا الاستثناء في الإيمان بهذه العلة طرده قوم ودخلوا من هذا الباب.
قال المؤلف رحمه الله: " وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَثْنَوْا فِي الْإِيمَانِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ" وهو أن الإيمان هو ما مات عليه الإنسان، وأن الكفر والإيمان باعتبار موافاة الإنسان ربه، الذين استثنوا بناء على هذا المأخذ ظنوا أن هذا هو قول السلف بسبب جهلهم ظنوا أن هذا قول السلف فلذلك صاروا مع أهل السنة والجماعة في ناحية، ومع أهل البدع في ناحية، فصاروا ينصرون ما ظهر من دين الإسلام هؤلاء صاروا ينصرون ما ظهر من دين الإسلام، فينصرون إثبات الصانع، وينصرون إثبات النبوة والمعاد كما يوافقهم على ذلك المعتزلة والجهمية.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَهَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يَنْصُرُونَ مَا ظَهَرَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ كَمَا يَنْصُرُ ذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْجَهْمِيَّة وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ فَيَنْصُرُونَ إثْبَاتَ الصَّانِعِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَيَنْصُرُونَ مَعَ ذَلِكَ مَا ظَهَرَ مِنْ مَذَاهِبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ كَمَا يَنْصُرُ ذَلِكَ الْكُلَّابِيَة والكَرَّامِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةُ"؛ الكلابية: أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب، والكرامية أتباع عبد الله بن كرام، والأشعرية أتباع أبي الحسن الأشعري؛ يعني هؤلاء كلهم ينصرون ما ظهر من دين الإسلام، ينصرون إثبات الصانع، وإثبات النبوة، وإثبات المعاد.
وقال المؤلف رحمه الله: "يَنْصُرُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ اللَّهَ يرَى فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ أَهْلَ الْقِبْلَةِ لَا يَكْفُرُونَ بِالذَّنْبِ وَلَا يَخْلُدُونَ فِي النَّارِ وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَهُ شَفَاعَةٌ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَأَنَّ فِتْنَةَ الْقَبْرِ حَقٌّ وَعَذَابَ الْقَبْرِ حَقٌّ وَحَوْضَ نَبِيِّنَا ﷺ فِي الْآخِرَةِ حَقٌّ" ينصرون هذه الأمور الظاهرة.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي شَاعَ أَنَّهَا مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. كَمَا يَنْصُرُونَ خِلَافَةَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَفَضِيلَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَنَحْوَ ذَلِكَ"؛ فهم سلكوا يعني مسلكًا وسطًا؛ الأشاعرة سلكوا مسلكًا وسطًا بين المعتزلة وبين السلف في كثير من الأمور الاعتقادية، والمقصود أن هؤلاء ظنوا لما استثنوا في الإيمان بناء على هذا المأخذ ظنًا منهم أن هذا هو قول السلف ولذلك صاروا ينصرون ما ظهر من دين الإسلام، ويوافقون أهل السنة في هذه الأمور وإن كانوا يخالفونهم في هذا المأخذ.
المتن:
" وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَنْصُرُهُ لَا يَكُونُ عَارِفًا بِحَقِيقَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ وَلَا مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ. وَلَا مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ. فَيَنْصُرُ مَا ظَهَرَ مِنْ قَوْلِهِمْ بِغَيْرِ الْمَآخِذِ الَّتِي كَانَتْ مَآخِذَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ بِمَآخِذَ أُخَرَ قَدْ تَلَقَّوْهَا عَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ فَيَقَعُ فِي كَلَامِ هَؤُلَاءِ مِنْ التَّنَاقُضِ وَالِاضْطِرَابِ وَالْخَطَأِ مَا ذَمَّ بِهِ السَّلَفُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ فَإِنَّ كَلَامَهُمْ فِي ذَمِّ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ كَثِيرٌ. وَالْكَلَامُ الْمَذْمُومُ هُوَ الْمُخَالِفُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكُلِّ مَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَهُوَ بَاطِلٌ وَكَذِبٌ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115]
فَهَؤُلَاءِ لَمَّا اُشْتُهِرَ عِنْدَهُمْ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُمْ يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ وَرَأَوْا أَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ إلَّا إذَا جُعِلَ الْإِيمَانُ هُوَ مَا يَمُوتُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا يُوَافِي بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ ظَنُّوا أَنَّ الْإِيمَانَ عِنْدَ السَّلَفِ هُوَ هَذَا؛ فَصَارُوا يَحْكُونَ هَذَا عَنْ السَّلَفِ؛ وَهَذَا الْقَوْلُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ؛ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ حَكَوْهُ عَنْهُمْ بِحَسَبِ ظَنِّهِمْ: لِمَا رَأَوْا أَنَّ قَوْلَهُمْ لَا يَتَوَجَّهُ إلَّا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ مَا نَصَرُوهُ مِنْ أَصْلِ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ هُوَ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ وَالنُّظَّارِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ.
وَمِثْلُ هَذَا يُوجَدُ كَثِيرًا فِي مَذَاهِبِ السَّلَفِ الَّتِي خَالَفَهَا بَعْضُ النُّظَّارِ وَأَظْهَرَ حُجَّتَهُ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ قَوْلِ السَّلَفِ؛ فَيَقُولُ مَنْ عَرَفَ حُجَّةَ هَؤُلَاءِ دُونَ السَّلَفِ أَوْ مَنْ يُعَظِّمُهُمْ لِمَا يَرَاهُ مِنْ تَمَيُّزِهِمْ عَلَيْهِ: هَذَا قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ، وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ. وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ الْمُخَالَفَةِ لِلْعَقْلِ مَعَ الشَّرْعِ؛ وَهَذَا كَثِيرًا مَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْمُبْتَدِعِينَ وَبَعْضِ الْمُلْحِدِينَ وَمَنْ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَإِيمَانًا؛ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ التَّحْقِيقِ إلَّا مَا هُوَ دُونَ تَحْقِيقِ السَّلَفِ لَا فِي الْعِلْمِ وَلَا فِي الْعَمَلِ وَمَنْ كَانَ لَهُ خِبْرَةٌ بِالنَّظَرِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ وبالعمليات عَلِمَ أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابَةِ دَائِمًا أَرْجَحُ مِنْ قَوْل مَنْ بَعْدَهُمْ وَأَنَّهُ لَا يَبْتَدِعُ أَحَدٌ قَوْلًا فِي الْإِسْلَامِ إلَّا كَانَ خَطَأً وَكَانَ الصَّوَابُ قَدْ سَبَقَ إلَيْهِ مِنْ قَبْلِهِ".
الشرح:
فإن المؤلف شيخ الإسلام: ابن تيمية رحمه الله بيَّن فيما سبق مسألة الاستثناء في الإيمان وهو قول الإنسان: أنا مؤمن إن شاء الله، وبيَّن في هذه المسألة أقوالًا ثلاثة للناس:
قول من يحرم الاستثناء ويمنعه؛ وهو قول الجهمية والمرجئة، وقول من يوجبه، وقول من يجوز الأمرين.
والذين أوجبوا الاستثناء لهم مأخذان، الذين أوجبوا الاستثناء في الإيمان لهم مأخذان:
المأخذ الأول: مأخذ الكلابية والأشاعرة؛ وهو أن الإيمان هو ما مات عليه الإنسان، وأن الإيمان والكفر باعتبار موافاة الإنسان ربه.
والمأخذ الثاني: قول أهل السنة والجماعة، وهو أن الاستثناء إنما هو راجع إلى أن شرائع الإسلام متعددة، وأن الواجبات كثيرة، وأن الإنسان لا يزكي نفسه، ولا يجزم بأنه أدى ما عليه، فلهذا يقول أنا مؤمن إن شاء الله.
أما مأخذ الأشاعرة والكلابية الذين يستثنون في الإيمان مأخذهم هو أن الإيمان هو ما مات عليه الإنسان، وأن الإيمان والكفر باعتبار موافاة الإنسان ربه، باعتبار الموافات، وما سبق في علم الله أنه يكون عليه؛ هؤلاء هذا مأخذهم ظنوا أن هذا هو قول السلف، لما رأوا السلف يستثنون في الإيمان، ظنوا أن هذا هو مأخذهم؛ فصاروا ينصرون ما ظهر من دين الإسلام كما ينصر ذلك المعتزلة والجهمية، فينصرون إثبات الصانع، وإثبات النبوة، والمعاد، وينصرون أيضا ما ظهر من مذاهب أهل السنة والجماعة كما يفعل ذلك الكلابية والكرامية، والأشاعرة؛ فينصرون أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنه الله يرى في الآخرة، وأن أهل القبلة لا يكفرون بالذنب، ولا يخلدون في النار، وينصرون أن النبي ﷺ له الشفاعة في أهل الكبائر، وأن فتنة القبر حق، وعذاب القبر حق، وحوض نبينا حق، وهم في الحقيقة ينصرون هذه الأمور التي ظهرت من دين الإسلام، وهم لا يكونون عارفين بحقيقة دين الإسلام، ولا ما جاءت به السنة، ولا ما كان عليه السلف، لكن ينصرون ما ظهر من قولهم بمأخذ غير المأخذ الذي يأخذ به أهل السنة، بل بمأخذ آخر سبقهم عليه أهل البدع؛ كما أن الكلابية والأشاعرة صاروا يستثنون في الإيمان بمأخذ غير مأخذ أهل السنة، والجماعة؛ مأخذهم: أن الإيمان هو ما مات عليه الإنسان وما وافى به ربه، فيقولون: أنا مؤمن إن شاء الله؛ لأنه لا يدري ما يموت عليه، فالكفر والإيمان بحسب ما مات عليه؛ فلذلك استثنوا، أما أهل السنة والجماعة يستثنون باعتبار مأخذ آخر؛ وهو أن الإنسان لا يزكي نفسه، ولا أنه يدري ما أدى عليه؛ فلهذا صاروا ينصرون دين الإسلام، وما جاءت به السنة، وما كان عليه السلف بمأخذ غير مأخذ أهل السنة؛ فلهذا يقع في كلامهم تناقض، واضطراب، وخطأ.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله في بيان ذلك: "وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَنْصُرُهُ لَا يَكُونُ عَارِفًا بِحَقِيقَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ وَلَا مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ. وَلَا مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ. فَيَنْصُرُ مَا ظَهَرَ مِنْ قَوْلِهِمْ بِغَيْرِ الْمَآخِذِ الَّتِي كَانَتْ مَآخِذَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ بِمَآخِذَ أُخَرَ قَدْ تَلَقَّوْهَا عَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ فَيَقَعُ فِي كَلَامِ هَؤُلَاءِ مِنْ التَّنَاقُضِ وَالِاضْطِرَابِ وَالْخَطَأِ مَا ذَمَّ بِهِ السَّلَفُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ فَإِنَّ كَلَامَهُمْ فِي ذَمِّ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ كَثِيرٌ. وَالْكَلَامُ الْمَذْمُومُ هُوَ الْمُخَالِفُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكُلِّ مَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَهُوَ بَاطِلٌ وَكَذِبٌ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115]؛ المعنى وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا صدقًا في الأخبار وعدلًا في الأحكام.
يقول المؤلف رحمه الله: "فهؤلاء"؛ يعني الكلابية والأشاعرة "فَهَؤُلَاءِ لَمَّا اُشْتُهِرَ عِنْدَهُمْ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُمْ يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ وَرَأَوْا أَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ إلَّا إذَا جُعِلَ الْإِيمَانُ هُوَ مَا يَمُوتُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا يُوَافِي بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ ظَنُّوا أَنَّ الْإِيمَانَ عِنْدَ السَّلَفِ هُوَ هَذَا؛ فَصَارُوا يَحْكُونَ هَذَا عَنْ السَّلَفِ"؛ يحكون عن السلف أنهم يستثنون في الإيمان بأن الإيمان هو باعتبار ما يوافي به الإنسان ربه، ولا يدري الإنسان ما يوافي به ربه فلذلك يستثنى، وظنوا أن هذا هو مذهب السلف فصاروا يحكون عن السلف بسبب جهلهم مع أن هذا القول ما قال به السلف.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " ظَنُّوا أَنَّ الْإِيمَانَ عِنْدَ السَّلَفِ هُوَ هَذَا؛ فَصَارُوا يَحْكُونَ هَذَا عَنْ السَّلَفِ؛ وَهَذَا الْقَوْلُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ؛ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ حَكَوْهُ عَنْهُمْ بِحَسَبِ ظَنِّهِمْ: لِمَا رَأَوْا أَنَّ قَوْلَهُمْ لَا يَتَوَجَّهُ إلَّا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ"؛ يعني هؤلاء الكلابية، والأشاعرة حكوا عن السلف أنهم يستثنون؛ لأن الإيمان باعتبار الموافاة؛ الإيمان والكفر باعتبار ما يوافي به الإنسان ربه، وهو ما يموت عليه الإنسان، هم يستثنون باعتبار هذا المأخذ وظنوا أن السلف إنما يستثنون لهذا المأخذ بسبب جهلهم.
قال المؤلف رحمه الله: " وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ مَا نَصَرُوهُ مِنْ أَصْلِ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ هُوَ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ وَالنُّظَّارِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ"؛ يعني الأشاعرة ينصرون مذهب جهم في الإيمان، مذهب جهم في الإيمان هو التصديق المجرد نصره أبو الحسن الأشعري، نصره الكلابية وادعوا أن هذا قول المحققين، وقول النظار من أصحاب الحديث.
قال المؤلف رحمه الله: ". وَمِثْلُ هَذَا يُوجَدُ كَثِيرًا فِي مَذَاهِبِ السَّلَفِ الَّتِي خَالَفَهَا بَعْضُ النُّظَّارِ وَأَظْهَرَ حُجَّتَهُ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ قَوْلِ السَّلَفِ"؛ مثل هذا في مذاهب السلف التي خالفها بعض النظار الذين يزعمون أنهم يعتمدون على الأدلة العقلية، والنظر والتأمل، ولا يعتمدون على الأدلة الشرعية، سموا النظار؛ لأنهم يعتمدوا على الآراء، والعقليات، والنظر.
يقول المؤلف رحمه الله: " وَمِثْلُ هَذَا يُوجَدُ كَثِيرًا فِي مَذَاهِبِ السَّلَفِ الَّتِي خَالَفَهَا بَعْضُ النُّظَّارِ وَأَظْهَرَ حُجَّتَهُ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ قَوْلِ السَّلَفِ؛ فَيَقُولُ مَنْ عَرَفَ حُجَّةَ هَؤُلَاءِ دُونَ السَّلَفِ أَوْ مَنْ يُعَظِّمُهُمْ لِمَا يَرَاهُ مِنْ تَمَيُّزِهِمْ عَلَيْهِ: هَذَا قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ. وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ"؛ فهو ينسب هذا إلى المحققين، ويقول هذا قول المحققين، قال المحققون؛ لأنه لم يعرف حجة السلف، ولم يعرف مأخذهم، ويقول: هذا قول المحققين.
يقول المؤلف: " وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ الْمُخَالَفَةِ لِلْعَقْلِ مَعَ الشَّرْعِ؛ وَهَذَا كَثِيرًا مَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْمُبْتَدِعِينَ وَبَعْضِ الْمُلْحِدِينَ"؛ الذين ينسبون إلى السلف من الأقوال ما لم يقولوه.
يقول المؤلف رحمه الله: "إن هذا لا ينطبق على أهل البصيرة، وأهل العلم، إنما ينطبق هذا على الجهال؛ يعني المقالة مقالة هؤلاء ونسبة أقوالهم، أو مآخذهم إلى السلف إنما ينخدع بذلك الجهال، أما من عنده علم وبصيرة فهو يعلم أقوال السلف.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَمَنْ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَإِيمَانًا؛ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ التَّحْقِيقِ إلَّا مَا هُوَ دُونَ تَحْقِيقِ السَّلَفِ لَا فِي الْعِلْمِ وَلَا فِي الْعَمَلِ"؛ وهذا لا شك فيه، لا شك أن المتقدمين؛ السلف أعمق علمًا، وعملًا من المتأخرين ... متأخرين في العلم والعمل.
قال المؤلف رحمه الله: " وَمَنْ كَانَ لَهُ خِبْرَةٌ بِالنَّظَرِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ وبالعمليات عَلِمَ أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابَةِ دَائِمًا أَرْجَحُ مِنْ قَوْل مَنْ بَعْدَهُمْ وَأَنَّهُ لَا يَبْتَدِعُ أَحَدٌ قَوْلًا فِي الْإِسْلَامِ إلَّا كَانَ خَطَأً وَكَانَ الصَّوَابُ قَدْ سَبَقَ إلَيْهِ مِنْ قَبْلِه"ِ؛ وهذا لا شك أنه واضح؛ أن الصحابة لا يحق قول من بعدهم؛ لأنهم شهدوا التنزيل، ورسول الله ﷺ بين أظهرهم، وبيَّن لهم القرآن، وينزل الوحي عليه وهم يشاهدونه، فلا يكون قول من بعدهم أرجح من قولهم، ولا يحق قول من بعدهم، وهذا واضح بين.
المتن:
"قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ فِيمَا حَكَاهُ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ الإسفراييني لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ أَبِي الْحَسَنِ وَأَصْحَابِهِ فِي الْإِيمَانِ وَصَحَّحَ أَنَّهُ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ قَالَ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا؛ مَنْ قَالَ بِالْمُوَافَاةِ وَشَرْطٌ فِي الْإِيمَانِ الْحَقِيقِيِّ أَنْ يُوَافِيَ رَبَّهُ بِهِ وَيَخْتِمَ عَلَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ شَرْطًا فِيهِ فِي الْحَالِ.
قَالَ الْأَنْصَارِيُّ: لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ مُعْظَمَ أَئِمَّةِ السَّلَفِ كَانُوا يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ قَالَ: الْأَكْثَرُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْمُوَافَاةِ. وَمَنْ قَالَ بِالْمُوَافَاةِ فَإِنَّمَا يَقُولُهُ فِيمَنْ لَمْ يُرِدْ الْخَبَرَ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَأَمَّا مَنْ وَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ عَلَى إيمَانِهِ كَالْعَشَرَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ.
ثُمَّ قَالَ: وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ الْمُحَقِّقُونَ؛ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَقْوَالِهِمْ فِي الْمُوَافَاةِ؛ وَأَنَّ ذَلِكَ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ وَحَقِيقَتُهُ فِي الْحَالِ وَكَوْنُهُ مُعْتَدًّا عِنْدَ اللَّهِ بِهِ وَفِي حُكْمِهِ فَمَنْ قَالَ: إنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ فِيهِ يُسْتَثْنَوْنَ فِي الْإِطْلَاقِ فِي الْحَالِ؛ لَا أَنَّهُمْ يَشُكُّونَ فِي حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ وَالْمَعْرِفَةِ؛ لَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَا يَدْرِي أَيَّ الْإِيمَانِ الَّذِي نَحْنُ مَوْصُوفُونَ بِهِ فِي الْحَالِ هَلْ هُوَ مُعْتَدٌّ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ؟ عَلَى مَعْنَى أَنَّا نَنْتَفِعُ بِهِ فِي الْعَاقِبَةِ وَنَجْتَنِي مِنْ ثِمَارِهِ. فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: أَمُؤْمِنُونَ أَنْتُمْ حَقًّا؟ أو تَقُولُونَ إنْ شَاءَ اللَّهُ؟ أو تَقُولُونَ نَرْجُو؟ فَيَقُولُونَ نَحْنُ مُؤْمِنُونَ إنْ شَاءَ اللَّهُ يَعْنُونَ بِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ تَفْوِيضَ الْأَمْرِ فِي الْعَاقِبَةِ إلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِيمَانُ إيمَانًا مُعْتَدًّا بِهِ فِي حُكْمِ اللَّهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَمَ الْفَوْزِ وَآيَةَ النَّجَاةِ وَإِذَا كَانَ صَاحِبُهُ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - فِي حُكْمِ اللَّهِ مِنْ الْأَشْقِيَاءِ يَكُونُ إيمَانُهُ الَّذِي تَحَلَّى بِهِ فِي الْحَالِ عَارِيَةً. قَالَ: وَلَا فَرْقَ عِنْدَ الصَّائِرِينَ إلَى هَذَا الْمَذْهَبِ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: أَنَا مُؤْمِنٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَطْعًا؛ وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا".
الشرح:
المؤلف رحمه الله نقل عن أبي القاسم الأنصاري حكايته عن أبي إسحاق الإسفراييني، وأبو القاسم هذا شافعي، سلمان بن ناصر بن عمران بن محمد الأنصاري النيسابوري، وأخذ الفقه، والتفسير، والتصوف، والكلام أخذه عن إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، وله شرح الإرشاد، فهو يحكي عن أبي إسحاق الإسفراييني وهو من الأشاعرة، أن أبا إسحاق الإسفراييني لما ذكر قول أبي الحسن الأشعري، وأصحابه في الإيمان.
قال: إن الأشاعرة لهم قولان في هذا؛ يعني أبو قاسم الأنصاري ظاهر أنه من الأشاعرة، وأنه أخذ عن إمام الحرمين، وهو أشعري، فأبو القاسم الأنصاري يحكي عن أبي إسحاق الإسفراييني، وأبو إسحاق الأسفرييني معروف أنه من الأشاعرة من أهل الكلام أن أَبَا إسْحَاقَ الإسفراييني لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ أَبِي الْحَسَن؛ أبي الحسن الأشعري، وَأَصْحَابِهِ فِي الْإِيمَان ذكر أن للأشاعرة قولين:
القول الأول: أن الإيمان يشترط فيه الموافاة؛ يعني العبرة بالإيمان هو ما يوافي به الإنسان ربه، وهو ما يموت عليه الإنسان، أما الإيمان الذي قبل ذلك فلا يسمى إيمان، كما سبق؛ قالوا: الإيمان الذي يعقبه الكفر لا عبرة به، وجوده كعدمه، والكفر الذي يعقبه الإيمان لا عبرة به، فالعبرة بما يوافي به الإنسان ربه وما يموت عليه، فيشترطون في الإيمان الموافاة.
والقول الثاني: أنه لا يشترط الموافاة، ولا يجعلونه شرطا فيه في الحال؛ فهما قولان مشهوران عند الأشاعرة، وأهل الكلام والكلابية، وكل قول سينبني عليه ما يأتي من الكلام، وإن كان القول باشتراط الموافاة هذا هو المشهور عندهم.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ فِيمَا حَكَاهُ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ الإسفراييني لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ أَبِي الْحَسَنِ وَأَصْحَابِهِ فِي الْإِيمَانِ وَصَحَّحَ أَنَّهُ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ" قال: الإيمان: تصديق القلب، لكن هل يشترط الموافاة، أو لا يشترط؟ قولان " وَصَحَّحَ أَنَّهُ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ قَالَ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا؛ مَنْ قَالَ بِالْمُوَافَاةِ"؛ يعني من قال: العبرة بالموافاة؛ يعني ما يوافي به الإنسان ربه وما يموت عليه، فإذا علم الله أنه يموت على الإيمان فهذا هو المؤمن، وإن علم الله أنه يموت على الكفر فهذا هو الكافر، والمؤمن إذا سبق إيمانه الكفر فلا عبرة به، والكافر إذا سبق كفره إيمان فلا عبرة به؛ العبرة بما يوافي به ربه على هذا القول.
ولهذا قال: " الإيمان صح تصديق في القلب، قال: وَمِنْ أَصْحَابِنَا؛ الأشاعرة "مَنْ قَالَ بِالْمُوَافَاةِ وَشَرْطٌ فِي الْإِيمَانِ الْحَقِيقِيِّ أَنْ يُوَافِيَ رَبَّهُ بِهِ وَيَخْتِمَ عَلَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ شَرْطًا فِيهِ فِي الْحَالِ" قال: لا نجعله شرطا في الحال، قَالَ الْأَنْصَارِيُّ: لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ مُعْظَمَ أَئِمَّةِ السَّلَفِ كَانُوا يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْمُوَافَاةِ"؛ يعني أن الإيمان هذا؛ مسمى الإيمان: تصديق بالقلب، وإقرار باللسان وعمل الجوارح، لكن الإيمان المعتبر هو ما يوافي به الإنسان ربه، قال الأكثرون من هؤلاء على قول الموافاة هذا قول الأكثرين، وهذا هو المعتمد عندهم.
قال: " وَمَنْ قَالَ بِالْمُوَافَاةِ فَإِنَّمَا يَقُولُهُ فِيمَنْ لَمْ يُرِدْ الْخَبَرَ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَأَمَّا مَنْ وَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ عَلَى إيمَانِهِ كَالْعَشَرَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ"؛ يعني يقول: الذي تشترط فيه الموافاة الذي لم يرد خبر بأنه من أهل الجنة، أما من أخبر؛ ورد النص بأنه من أهل الجنة، هذا مقطوع بأنه يموت على الإيمان فلا يشترط ... عرفنا هذا من الشارع كالعشرة المبشرين بالجنة هؤلاء يجزم بأنهم نقول بأنهم مؤمنون، يجزم بأنهم مؤمنون؛ لأن الشارع أخبرنا أنهم في الجنة.
ولهذا قال المؤلف: "وَمَنْ قَالَ بِالْمُوَافَاةِ فَإِنَّمَا يَقُولُهُ فِيمَنْ لَمْ يُرِدْ الْخَبَرَ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَأَمَّا مَنْ وَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ عَلَى إيمَانِهِ كَالْعَشَرَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ.
ثُمَّ قَالَ: وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ الْمُحَقِّقُونَ؛ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَقْوَالِهِمْ فِي الْمُوَافَاةِ؛ وَأَنَّ ذَلِكَ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ وَحَقِيقَتُهُ فِي الْحَالِ أو لا؟" قولان سبق أنهم قولين؛ قول يشترط في صحة الإيمان الموافاة، يشترط في صحة الإيمان وحقيقته في الحال الموافاة؛ يعني لو كان مؤمن الآن مصدق، أقرَّ بقلبه، أقرَّ بلسانه وصدق بقلبه، وعمل بجوارحه يشترط في صحة الإيمان الموافاة؛ هذا قول.
وقال: " وَأَنَّ ذَلِكَ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ وَحَقِيقَتُهُ فِي الْحَالِ وَكَوْنُهُ مُعْتَدًّا عِنْدَ اللَّهِ بِهِ وَفِي حُكْمِهِ فَمَنْ قَالَ: إنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ فِيهِ يُسْتَثْنَوْنَ فِي الْإِطْلَاقِ فِي الْحَالِ؛ لَا أَنَّهُمْ يَشُكُّونَ فِي حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ وَالْمَعْرِفَةِ"؛ يعني من قال: أنه يشترط في صحة الإيمان الموافاة يستثني يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فالاستثناء راجع إلى الموافاة؛ لأنه لا يدري ما يوافي به ربه، فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله وليس ذلك بالشك وليس الاستثناء راجع للشك، ولكن الاستثناء راجع إلى الموافاة ما يدري بماذا يختم له.
ولهذا قال: فَمَنْ قَالَ: إنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ فِيهِ يُسْتَثْنَوْنَ فِي الْإِطْلَاقِ فِي الْحَالِ؛ لَا أَنَّهُمْ يَشُكُّونَ فِي حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ وَالْمَعْرِفَةِ لَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَا يَدْرِي أَيَّ الْإِيمَانِ الَّذِي نَحْنُ مَوْصُوفُونَ بِهِ فِي الْحَالِ هَلْ هُوَ مُعْتَدٌّ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ؟ عَلَى مَعْنَى أَنَّا نَنْتَفِعُ بِهِ فِي الْعَاقِبَةِ وَنَجْتَنِي مِنْ ثِمَارِهِ. فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: أَمُؤْمِنُونَ أَنْتُمْ حَقًّا؟ أو تَقُولُونَ إنْ شَاءَ اللَّهُ؟ أو تَقُولُونَ نَرْجُو؟ فَيَقُولُونَ نَحْنُ مُؤْمِنُونَ إنْ شَاءَ اللَّهُ"؛ إذا قيل لهم: هل تؤمنون أنتم حقًا؛ يعني هل تجزمون أنكم مؤمنون بدون تقيد بإطلاق، أو تقولون: إن شاء الله، أو تقولون: نرجو فيقولون: نحن مؤمنون إن شاء الله.
قال المؤلف: " يَعْنُونَ بِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ تَفْوِيضَ الْأَمْرِ فِي الْعَاقِبَةِ إلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِيمَانُ إيمَانًا مُعْتَدًّا بِهِ فِي حُكْمِ اللَّهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَمَ الْفَوْزِ وَآيَةَ النَّجَاةِ"؛ يقولون: إننا نستثني؛ لأننا نفوض الأمر في العاقبة إلى الله ما ندري ماذا يختم به للإنسان؛ فنستثني، هذا مأخذنا، مأخذنا أننا نفوض الأمر في العاقبة إلى الله ولا ندري بماذا يختم للإنسان، والإيمان الذي معتد به هو ما يفوز به الإنسان وينجو به من عذاب الله، وهو الذي يوافي به ربه، وأما الذي يوافي ربه بغير الإيمان والعياذ بالله فهذا من الأشقياء، ويكون تحلى بالإيمان في الدنيا عارية، تحلى بالإيمان عارية.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِيمَانُ إيمَانًا مُعْتَدًّا بِهِ فِي حُكْمِ اللَّهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَمَ الْفَوْزِ وَآيَةَ النَّجَاةِ وَإِذَا كَانَ صَاحِبُهُ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - فِي حُكْمِ اللَّهِ مِنْ الْأَشْقِيَاءِ يَكُونُ إيمَانُهُ الَّذِي تَحَلَّى بِهِ فِي الْحَالِ عَارِيَةً" يتحلى به عندما يتكلم يكون عارية؛ لأنه سينزع منه والعياذ بالله، قَالَ: وَلَا فَرْقَ عِنْدَ الصَّائِرِينَ إلَى هَذَا الْمَذْهَبِ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: أَنَا مُؤْمِنٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَطْعًا؛ وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا" يقول لا فرق بينهما؛ لأنه إذا شهد لنفسه بالإيمان فإنه يشهد لنفسه بالجنة؛ لأن المؤمن في الجنة؛ ولهذا فإنه لا يشهد لنفسه بالجنة فلا يشهد لنفسه بالإيمان لابد من الاستثناء، وسيجيب المؤلف على هذا.
المتن:
" قُلْت: هَذَا إنَّمَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ الْإِيمَانَ مُتَنَاوَلًا لِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ؛ فَمَنْ مَاتَ عَلَى هَذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُرْجِئَةِ وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي نَصَرَهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَصَرُوا قَوْلَ جَهْمٍ؛ فَإِنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْإِيمَانِ قَطْعًا وَيَكُونُ كَامِلَ الْإِيمَانِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ مَعَ هَذَا عِنْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ فَلَا يَلْزَمُ إذَا وَافَى بِالْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
وَهَذَا اللَّازِمُ لِقَوْلِهِمْ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ. وَكَذَلِكَ قَالُوا: لَا سِيَّمَا وَاَللَّهُ يَقُولُ: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ [التوبة: 72] الْآيَةَ. قَالَ: فَهَؤُلَاءِ - يَعْنِي الْقَائِلِينَ بِالْمُوَافَاةِ جَعَلُوا الثَّبَاتَ عَلَى هَذَا التَّصْدِيقِ وَالْإِيمَانَ الَّذِي وَصَفْنَاهُ إلَى الْعَاقِبَةِ وَالْوَفَاءَ بِهِ فِي الْمَآلِ شَرْطًا فِي الْإِيمَانِ شَرْعًا لَا لُغَةً وَلَا عَقْلًا.
قَالَ: وَهَذَا مَذْهَبُ سَلَفِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالْأَكْثَرِينَ؛ قَالَ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ فورك؛ وَكَانَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَة يَغْلُو فِيهِ وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ قَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا فَهُوَ مُبْتَدِعٌ.
وَأَمَّا مَذْهَبُ سَلَفِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابِهِ وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ عُيَيْنَة وَأَكْثَرِ عُلَمَاءِ الْكُوفَةِ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ فِيمَا يَرْوِيه عَنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ فَكَانُوا يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ. وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ عَنْهُمْ لَكِنْ لَيْسَ فِي هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ: أَنَا أَسْتَثْنِي لِأَجْلِ الْمُوَافَاةِ وَأَنَّ الْإِيمَانَ إنَّمَا هُوَ اسْمٌ لِمَا يُوَافِي بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ؛ بَلْ صَرَّحَ أَئِمَّةُ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إنَّمَا هُوَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَتَضَمَّنُ فِعْلَ الْوَاجِبَاتِ فَلَا يَشْهَدُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ كَمَا لَا يَشْهَدُونَ لَهَا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَعْلَمُونَهُ وَهُوَ تَزْكِيَةٌ لِأَنْفُسِهِمْ بِلَا عِلْمٍ؛ كَمَا سَنَذْكُرُ أَقْوَالَهُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْمُوَافَاةُ؛ فَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ عَلَّلَ بِهَا الِاسْتِثْنَاءَ وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يُعَلِّلُ بِهَا مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ؛ كَمَا يُعَلِّلُ بِهَا نُظَّارُهُمْ كَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا قَوْلَ سَلَفِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ".
الشرح:
فإن المؤلف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ذكر فيما سبق مسألة الاستثناء في الإيمان، وبيَّن أن الاستثناء في الإيمان اختلف الناس فيه منهم من يمنعه ويحرمه، ومنهم يجيزه باعتبارين، ومنهم يوجبه، وأن الذين يوجبون الاستثناء في الإيمان لهم مأخذان: المأخذ الأول: مأخذ لأهل البدع، ومأخذ لأهل السنة، مأخذ أهل البدع الأشاعرة والكلابية: أن الإيمان وإن كان قولًا باللسان وتصديقًا بالقلب، وعملًا بالجوارح إلَّا أنه يشترط الموافاة، يشترط أن يوفيه بالإيمان؛ الموافاة، الإيمان الحقيقي عندهم هو الذي يوافي به الإنسان ربه، ويختم عليه بذلك، فيشترطون في صحة الإيمان الموافاة؛ يعني ما يوافي به الإنسان ربه، وإذا قيل لهم: هل أنتم مؤمنون حقًّا، أو تقولون : إن شاء الله تقولون: نرجو؟ قالوا: نحن مؤمنون إن شاء الله؛ يعنون بهذا الاستثناء تفويض الأمر في العاقبة إلى الله، وأن الإنسان إنما يكون مؤمنًا عند الله؛ يعني في حكم الله إذا كان يموت على الإيمان، ولا فرق عند هؤلاء بين أن يقول: أنا مؤمن من أهل الجنة، أو يقول: أنا مؤمن حقً.
ا تعقبه شيخ الإسلام رحمه الله، وقال: "قُلْت: هَذَا إنَّمَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ الْإِيمَانَ مُتَنَاوَلًا لِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ؛ فَمَنْ مَاتَ عَلَى هَذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنّة"؛ يعني إنما يجيء القول: بأن لا فرق بين أنا مؤمن حقًّا، أو يقول: أنا مؤمن من أهل الجنة لا فرق بينهما هذا عند أهل السنة؛ أهل الحق؛ الجماعة، السلف الذين يقولون: إن الإيمان متناولًا لأداء الواجبات وترك المحرمات، فالمؤمن هو الموحد الذي أخلص العبادة لله، وأدي ما أوجبه الله عليه من الواجبات، وترك المحرمات، ووقف عند حدود الله، واستقام على دين الله من مات على هذا كان من أهل الجنة، ويقال أنه مؤمن حقًّا؛ هذا عند أهل السنة حق، لا فرق بين أن يقول: أنا مؤمن حقًّا، أو يقول: أنا من أهل الجنة؛ ولهذا فإن السلف لا يقول أحدٌهم : أنا مؤمن حقًّا ... على نفسه، ويستثني، ويعلم أنه يلحقه نقص في أداء الواجبات، وترك المحرمات، فهو يستثني فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله؛ يعني لا أدري هل أديت ما أوجبه الله عليَّ، ولا أزكي نفسي، فالمؤمن لا يزكي نفسه، فهو يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ولا يقول: أنا مؤمن حقًّا؛ لأن من قال: أنا مؤمن حقًا كمن قال: أنا في الجنة، لا فرق بينهما من زكى نفسه، من شهد لنفسه بأنه مؤمن حقا شهد لنفسه بالجنة، ولا يشهد لأحد بالجنة إلَّا من شهدت له النصوص، ولا يزكي الإنسان نفسه، فقولهم: لا فرق عندهم بين أن يقول: أنا مؤمن من أهل الجنة، أو يقول: أنا مؤمن حقًّا.
فيقول المؤلف رحمه الله: " إن هذا يجيء على قول السلف، وأما على قول الجهم، والمرجئة الذي نصر هؤلاء الأشاعرة، والكلابية، فإنه عندهم يموت على الإيمان قطعًا، ويكون كامل الإيمان ولو كان مرتكبًا للكبائر؛ لأنهم يرون أن الإيمان هو التصديق، فمن صدق فهو مؤمن وإذا مات على تصديق فهو مؤمن، ولو كان مرتكبًا للكبائر، فلا يلزم إذا وفى بالإيمان أن يكون من أهل الجنة؛ لأنه يكون مؤمنًا مصدقًا وهو من أهل الكبائر، ففرق بين قول أهل السنة، وبين قول الجهمية، والمرجئة الذي نصره أبو الحسن الأشعري، ومن تبعه من الأشاعرة، والكلابية، قول أهل السنة: يرون أن الإيمان متناولًا للأعمال، وأنه يلزم منه أداء الواجبات وترك المحرمات، فمن مات على هذا كان من أهل الجنة، وأما على قول الجهمية والمرجئة الذي نصره الأشاعرة، والكلابية؛ نصره أبو الحسن الأشعري، فإنه يموت على الإيمان، ويكون كامل الإيمان عندهم مؤمن كامل الإيمان؛ لأن الإيمان هو التصديق، فمن صدق بقلبه فهو مؤمن كامل الإيمان ولو كان مع ذلك مصر على الكبائر: الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، فإنه يموت على الإيمان قطعًا، ويكون كامل الإيمان عندهم ومع ذلك فهو من أهل الكبائر الذين يدخلون النار.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " قُلْت: هَذَا إنَّمَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ الْإِيمَانَ مُتَنَاوَلًا لِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ؛ فَمَنْ مَاتَ عَلَى هَذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُرْجِئَةِ وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي نَصَرَهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَصَرُوا قَوْلَ جَهْمٍ؛ فَإِنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْإِيمَانِ قَطْعًا وَيَكُونُ كَامِلَ الْإِيمَانِ عِنْدَهم"؛ لأن الإيمان هو التصديق فقط بدون عمل "وَهُوَ مَعَ هَذَا عِنْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ فَلَا يَلْزَمُ إذَا وَافَى بِالْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ"؛ يعني على قول جهم، على قول الجهمية والمرجئة لا يلزم إذا وافى ربه بالإيمان أن يكون من أهل الجنة، إذا وافى ربه بالتصديق وهو مصر على الكبائر لا يلزم أن يكون من أهل الجنة لأنه متوعد بالنار، صاحب الكبيرة "فَلَا يَلْزَمُ إذَا وَافَى بِالْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
قال: "وَهَذَا اللَّازِمُ لِقَوْلِهِمْ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ"؛ يعني كونه يلزم ممن مات كامل الإيمان ألا يدخل الجنة؛ لأنه مصر على الكبائر يدل على فساد مسمى الإيمان عندهم، مسمى الإيمان عندهم هو التصديق فقط فمن صدق فهو كامل الإيمان ولو كان مصرًّا على الكبائر التي يتوعد صاحبها بالنار هذا التلازم يدل على فساد التعريف، أو يدل على فساد مسمى الإيمان عندهم؛ لأنه مخالف للنصوص، فمسمى الإيمان الذي دلت عليه النصوص: هو أن يكون مصدقًا بقلبه، وعاملًا بجوارحه وبقلبه، وناطقًا بلسانه؛ هذا مسمى الإيمان، أما مسمى الإيمان عند الجهمية والمرجئة: فهو التصديق فقط وكونه يصر على الكبائر والمعاصي، بل إن الجهمية يرون حتى لو ارتكب أنواع الردة فإنه لا يكون كافرًا مادام أنه مصدق، ولا يكون مرتدًا، ولا يكون كافرًا إلَّا إذا جهل ربه بقلبه.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: هذا يدل على التلازم، أو هذا اللازم يدل على فساد قولهم في الإيمان، وأما على قول جهم فإنه يموت على الإيمان قطعًا، ويكون كامل الإيمان عندهم، وهو مع هذا عندهم من أهل الكبائر الذين يدخلون النار، فلا يلزم إذا وافى بالإيمان أن يكون من أهل الجنة، وهذا اللازم لقولهم يدل على فساده؛ يعني فساد مسمى الإيمان عندهم.
قال: "لِأَنَّ اللَّهَ وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ. وَكَذَلِكَ قَالُوا: لَا سِيَّمَا وَاَللَّهُ يَقُولُ: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ [التوبة:72] الْآيَةَ. قَالَ: فَهَؤُلَاءِ - يَعْنِي الْقَائِلِينَ بِالْمُوَافَاةِ"؛ وهم الأشاعرة والكلابية الذين يقولون إن الإيمان لا بد فيه، المعتبر هو ما يوافي به الإنسان ربه.
قال: "فَهَؤُلَاءِ - يَعْنِي الْقَائِلِينَ بِالْمُوَافَاةِ جَعَلُوا الثَّبَاتَ عَلَى هَذَا التَّصْدِيقِ وَالْإِيمَانَ الَّذِي وَصَفْنَاهُ إلَى الْعَاقِبَةِ وَالْوَفَاءَ بِهِ فِي الْمَآلِ شَرْطًا فِي الْإِيمَانِ شَرْعًا لَا لُغَةً وَلَا عَقْلًا؛ يعني يقولون: الإيمان شرط تسميته مؤمنًا أن يوافي به ربه، يقول: هذا الشرط إنما دل عليه الشرع؛ يعني هذا الشرط إنما أخذ من الشرع لا من اللغة ولا من العقل.
قال المؤلف رحمه الله: " قَالَ: وَهَذَا مَذْهَبُ سَلَفِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالْأَكْثَرِينَ"؛ يعني كأن يقال، الضمير يعود لأبي القاسم الأنصاري " قَالَ: وَهَذَا مَذْهَبُ سَلَفِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالْأَكْثَرِينَ، قَالَ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ فورك"؛ يعني يشترطون الموافاة؛ الموافاة في الإيمان، يشترطون في الإيمان أن يوافي به ربه نسب إلى " أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالْأَكْثَرِينَ، قَالَ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ فورك، وَكَانَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَة يَغْلُو فِيهِ وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ قَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا فَهُوَ مُبْتَدِعٌ"؛ يسمى غلو يعني هذا يسمى غلوا وهذا ... يعني من قال أنا مؤمن حقًّا معناه أنه زكى نفسه، والحديث لا يقول أحدهم: أنا مؤمن حقًا.
ولهذا قال: محمد بن إسحاق بن خزيمة من أئمة أهل السنة، وكان يقول: من قال: أنا مؤمن حقًا فهو مبتدع؛ لأنه خالف قول السلف؛ ولأنه زكى نفسه، فلا يقول: أنا مؤمن بإطلاق...؛ ولهذا لما سئل الأئمة: إذا سئل أحدٌ قال: أنا مؤمن، قال: أنا مؤمن بالله ورسوله، أو يستثني فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله إشارة إلى الأعمال، إلى أن الأعمال متعددة.
قال المؤلف رحمه الله: "وَأَمَّا مَذْهَبُ سَلَفِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابِهِ وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ عُيَيْنَة" ابن مسعود: عبد الله بن مسعود، والثوري: سفيان الثوري، وابن عيينة: سفيان بن عيينة " وَأَكْثَرِ عُلَمَاءِ الْكُوفَةِ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ فِيمَا يَرْوِيه عَنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ فَكَانُوا يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ؛ وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ عَنْهُمْ " لكن يستثنون بمأخذ آخر غير مأخذ أهل البدع، يستثنون من أجل أن الإيمان يتضمن فعل الواجبات وترك المحرمات، فلا يشهدون لأنفسهم بذلك، وليس مأخذهم هو مأخذ أهل البدع: أن الإيمان هو ما يوافي به الإنسان ربه.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " لَكِنْ لَيْسَ فِي هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ: أَنَا أَسْتَثْنِي لِأَجْلِ الْمُوَافَاةِ"؛ يعني كما يقول أبو الحسن الأشعري وأصحابه " وَأَنَّ الْإِيمَانَ إنَّمَا هُوَ اسْمٌ لِمَا يُوَافِي بِهِ الْعَبْدُ رَبَّه"ُ؛ هذا قول الأشاعرة.
قال: " بَلْ صَرَّحَ أَئِمَّةُ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إنَّمَا هُوَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ" ؛ يعني هؤلاء الأئمة كالإمام أحمد، والشافعي، ومالك، وسفيان الثوري، وابن عيينة، ويحيى بن سعيد بن القطان وغيرهم صرحوا: " بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إنَّمَا هُوَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَتَضَمَّنُ فِعْلَ الْوَاجِبَاتِ فَلَا يَشْهَدُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ كَمَا لَا يَشْهَدُونَ لَهَا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَعْلَمُونَهُ وَهُوَ تَزْكِيَةٌ لِأَنْفُسِهِمْ بِلَا عِلْمٍ"؛ وهذا واضح يعني لا يشهد الإنسان لنفسه بالإيمان، ولا يشهد لنفسه بأنه من الأبرار، ولا من المتقين؛ هذه تزكية للنفس، وهو ... للإنسان بما لا يعلم.
قال المؤلف: " كَمَا سَنَذْكُرُ أَقْوَالَهُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمُوَافَاةُ؛ فَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ عَلَّلَ بِهَا الِاسْتِثْنَاءَ"؛ المؤلف قال الموافاة؛ يعني اشتراط يشترط في الإيمان أن يوافي به ربه ولا يسمى مؤمنًا إلَّا باعتبار الموافاة، قال: فما علمت أحدًا من السلف علل بهذا الاستثناء "وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يُعَلِّلُ بِهَا مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ؛ كَمَا يُعَلِّلُ بِهَا نُظَّارُهُمْ كَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا قَوْلَ سَلَفِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ"؛ يعني يقول: أهل الحديث، والأئمة، والعلماء لا يعللون بهذه، بتعليل الأشاعرة، لكن أتباعهم من المتأخرين قد يعللون بهذا التعليل ويوافقون الأشاعرة، والكلابية مخالفين في ذلك أقوال أئمتهم.
المتن:
" ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إذَا قُلْتُمْ إنَّ الْإِيمَانَ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الشَّرِيعَةِ هُوَ مَا وَصَفْتُمُوهُ بِشَرَائِطِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مُتَلَقًّى مِنْ اللُّغَةِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ قَوْلُكُمْ إنَّ الْإِيمَانَ لُغَوِيٌّ؟ قُلْنَا الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ لُغَةً وَشَرْعًا غَيْرَ أَنَّ الشَّرْعَ ضَمَّ إلَى التَّصْدِيقِ أَوْصَافًا وَشَرَائِطَ: مَجْمُوعُهَا يَصِيرُ مَجْزِيًّا مَقْبُولًا كَمَا قُلْنَا فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِهَا وَالصَّلَاةُ فِي اللُّغَةِ: هِيَ الدُّعَاءُ غَيْرَ أَنَّ الشَّرْعَ ضَمَّ إلَيْهَا شَرَائِطَ.
فَيُقَالُ: هَذَا يُنَاقِضُ مَا ذَكَرُوهُ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا زَعَمُوا أَنَّهُ فِي اللُّغَةِ التَّصْدِيقُ وَالشَّرْعُ لَمْ يُغَيِّرْهُ أَوْرَدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ الصَّلَاةُ وَالْحَجُّ وَالزَّكَاةُ مَعْدُولَةً عَنْ اللُّغَةِ مُسْتَعْمَلَةً فِي غَيْرِ مَذْهَبِ أَهْلِهَا.
قُلْنَا: قَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مُقَرَّرَةٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَمُبْقَاةٌ عَلَى مُقْتَضَيَاتِهَا وَلَيْسَتْ مَنْقُولَةً إلَّا أَنَّهَا زِيدَ فِيهَا أُمُورٌ.
فَلَوْ سَلَّمْنَا لِلْخَصْمِ كَوْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَنْقُولَةً أَوْ مَحْمُولَةً عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْمَجَازِ بِدَلِيلِ مَقْطُوعٍ بِهِ فَعَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ فِي الْإِيمَانِ. فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ إزَالَةُ ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ بِسَبَبِ إزَالَةِ ظَاهِرٍ مِنْهَا.
فَيُقَالُ: أَنْتُمْ فِي الْإِيمَانِ جَعَلْتُمْ الشَّرْعَ زَادَ فِيهِ وَجَعَلْتُمُوهُ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَذْكُرَ شَيْئًا مِنْ الشَّرْعِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُسَمَّى بِهِ إلَّا الْمُوَافَاةُ بِهِ وَبِتَقْدِيرِ ذَلِكَ فَمَعْلُومٌ أَنَّ دَلَالَةَ الشَّرْعِ عَلَى ضَمِّ الْأَعْمَالِ إلَيْهِ أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ فَكَيْفَ لَمْ تَدْخُلْ الْأَعْمَالُ فِي مُسَمَّاهُ شَرْعًا؟
الشرح:
المؤلف رحمه الله نقل عن أبي القاسم الأنصاري ... فأجاب عنه المؤلف رحمه الله، قال: ثم قال؛ لأن أبو قاسم الأنصاري سبق أن أبو قاسم الأنصاري أخذ عن أبي المعالي الجويني من الأشاعرة نقل عن أبي الحسن.
ثم قال أبو القاسم الأنصاري: "فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إذَا قُلْتُمْ إنَّ الْإِيمَانَ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الشَّرِيعَةِ هُوَ مَا وَصَفْتُمُوهُ بِشَرَائِطِهِ"؛ يعني يضاف إلى الشرائط يضاف إليها أداء الواجبات وترك المحرمات، يضاف إليها الفعل، القول، التصديق، والنطق، والعمل "وَلَيْسَ ذَلِكَ مُتَلَقًّى مِنْ اللُّغَةِ" إذا قلتم إن الإيمان في الشريعة هو الأعمال، والتصديق، والأقوال "وَلَيْسَ ذَلِكَ مُتَلَقًّى مِنْ اللُّغَةِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ قَوْلُكُمْ إنَّ الْإِيمَانَ لُغَوِيٌّ؟"؛ يعني كيف تقول الإيمان لغوي، وأنتم تقولون: الإيمان الموجود في الشريعة له شرائط؛ يشترط فيه قول اللسان، تصديق القلب، وعمل الجوارح، وأنتم تقولون الإيمان لغوي.
فأجاب المؤلف رحمه الله: بأن الإيمان هو التصديق في اللغة، ولكن الشارع ضمَّ إلى التصديق أوصاف، وأشياء أخرى، أصل الإيمان هو التصديق في اللغة، ثم الشرع أضاف إليه أقوال اللسان، وأعمال القلوب، وأعمال الجوارح مثل الصلاة، الصلاة الصلاة في اللغة: الدعاء، ثم الشرع أضاف إليها الأقوال، والأفعال؛ الهيئة المختتمة بالتسليم، والمفتتحة بالتكبير، كذلك الصوم يدل عليه الإمساك، ثم أضاف الشرع إليه أنه إمساك بنية من شخص مخصوص من طلوع الفجر الثاني، على أشياء مخصوصة، من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، والحج في اللغة: القصد، ثم أضاف إليه الشارع: قصد مكة لأداء مناسك الحج في وقت مخصوص من شخص مخصوص.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " قُلْنَا الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ لُغَةً وَشَرْعًا غَيْرَ أَنَّ الشَّرْعَ ضَمَّ إلَى التَّصْدِيقِ أَوْصَافًا وَشَرَائِطَ: مَجْمُوعُهَا يَصِيرُ مَجْزِيًّا مَقْبُولًا"؛ يعني الإيمان في اللغة التصديق ضم إليه الشارع أقوال اللسان، وعمل القلب، وعمل الجوارح فإذا ضمت هذه الأشياء بعضها إلى بعض صار الإيمان مجزيًا مقبولًا عند الله "كَمَا قُلْنَا فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِهَا" كما قلنا: إن الصلاة أصلها: الدعاء، والصوم أصله: الإمساك، والحج أصله: القصد، فضمَّ إليه الشارع أمورًا أخرى.
قال: "وَالصَّلَاةُ فِي اللُّغَةِ: هِيَ الدُّعَاءُ غَيْرَ أَنَّ الشَّرْعَ ضَمَّ إلَيْهَا شَرَائِطَ" قال: " فَيُقَالُ: هَذَا يُنَاقِضُ مَا ذَكَرُوهُ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا زَعَمُوا أَنَّهُ فِي اللُّغَةِ التَّصْدِيقُ وَالشَّرْعُ لَمْ يُغَيِّرْهُ رَدُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ".
"فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ الصَّلَاةُ وَالْحَجُّ وَالزَّكَاةُ مَعْدُولَةً عَنْ اللُّغَةِ مُسْتَعْمَلَةً فِي غَيْرِ مَذْهَبِ أَهْلِهَا"؛ هذا اعتراف، فقال: " قُلْنَا: قَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ"؛ يعني اختلف في الصلاة هل هي الصلاة في اللغة الدعاء؟ ثم الشرع عدل بها واستعملها في غير ما وضعت له، وكذلك الزكاة والحج.
فبيَّن المؤلف أن هذا اختلاف، وبيَّن الصحيح أنها باقية على استعمال أهل اللغة إلَّا إن الشارع زاد فيها أمور، وكذلك الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله: ""فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ الصَّلَاةُ وَالْحَجُّ وَالزَّكَاةُ مَعْدُولَةً عَنْ اللُّغَةِ مُسْتَعْمَلَةً فِي غَيْرِ مَذْهَبِ أَهْلِهَا.
قُلْنَا: قَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مُقَرَّرَةٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَمُبْقَاةٌ عَلَى مُقْتَضَيَاتِهَا وَلَيْسَتْ مَنْقُولَةً " بل الصلاة معناها الدعاء، والصلاة مشتملة على الدعاء وغيرها "إلَّا أَنَّهَا زِيدَ فِيهَا أُمُورٌ. فَلَوْ سَلَّمْنَا لِلْخَصْمِ كَوْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَنْقُولَةً أَوْ مَحْمُولَةً عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْمَجَازِ بِدَلِيلِ مَقْطُوعٍ بِهِ فَعَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ فِي الْإِيمَانِ"؛ يقول: لو سلمنا؛ يعني جدلًا لو سلمنا للخصم أن هذه الألفاظ نقلت من اللغة إلى الشرع، أو حملت على وجه من المجاز بدليل مقطوع به لو... إنما تكون شرط فرضي لا يكون، هذا شرط تقديري، شرط فرضي مثل قوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]؛ هذا شرط تقديري لبيان عظم الشرك، والنبي ﷺ معصوم عن الشرك.
فالمؤلف رحمه الله يبيَّن لو فرضنا، لو سلمنا؛ يعني جدلًا للخصم كون هذه الألفاظ منقولة الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والإيمان كذلك " أَوْ مَحْمُولَةً عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْمَجَازِ بِدَلِيلِ مَقْطُوعٍ بِهِ"؛ لو سلمنا أنها نقلت بدليل مقطوع به " فَعَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ فِي الْإِيمَانِ"؛ يقول: لو سلمنا، أنتم تقولون: إن الصلاة، والزكاة والحج، والصوم مثل الإيمان، الصلاة باقية على معناها اللغوي، والحج باقي على معناه اللغوي، والصوم كذلك، لو سلمنا أن هذه منقولة؛ الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، أو محمولة على وجه من المجاز فلا نسلم بالإيمان، هات الدليل على أن الإيمان كذلك، أن الإيمان نقل عن معناه اللغوي، وأزيل عن ظاهره، " فَلَوْ سَلَّمْنَا لِلْخَصْمِ كَوْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَنْقُولَةً أَوْ مَحْمُولَةً عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْمَجَازِ بِدَلِيلِ مَقْطُوعٍ بِهِ فَعَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ فِي الْإِيمَانِ. فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ إزَالَةُ ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ بِسَبَبِ إزَالَةِ ظَاهِرٍ مِنْهَا. فَيُقَالُ: أَنْتُمْ فِي الْإِيمَانِ جَعَلْتُمْ الشَّرْعَ زَادَ فِيهِ وَجَعَلْتُمُوهُ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَذْكُرَ شَيْئًا مِنْ الشَّرْعِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُسَمَّى بِهِ إلَّا الْمُوَافَاةُ بِهِ"
يقول: أنتم في الإيمان جعلتم الشرع زاد فيه زاد فيه؛ يعني العمل، والنطق باللسان، وجعلتموه كالصلاة، الصلاة: دعاء وزاد فيها الشارع، والزكاة كذلك هي تطهير؛ يعني هي الطهارة زاد فيها الشارع، وكذلك الصوم: الإمساك زاد فيه الشارع " مَعَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَذْكُرَ شَيْئًا مِنْ الشَّرْعِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُسَمَّى بِهِ إلَّا الْمُوَافَاةُ بِهِ" أنتم تقولون: أن الإيمان لا يسمى إيمانًا إلَّا ما يوافي به الإنسان ربه هات الدليل على هذا؟ ما عندكم دليل، فأنتم الآن تنكرون كون الإيمان في اللغة، والشارع زاد عليه الشرائط ومعهم الأدلة واضحة في هذا، الأدلة واضحة في إدخال الأعمال في مسمى الإيمان وإدخال قول اللسان كما في الحديث: الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ([2])، وَقَوْلُهُ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ: آمُرُكُمْ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ، أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وصوم رمضان وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ([3])، وكما في الآية القرآنية: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:2-4 ]؛ فأدخل أعمال القلوب، وأعمال الجوارح في مسمى الإيمان.
فالأدلة على أن الشارع أدخل الأعمال في مسمى الإيمان واضحة كثيرة من الكتاب والسنة، لكن أنتم؛ الأشاعرة والكلابية لا يمكنكم أن تأتوا بدليل من الشرع يدل على أن الإيمان لا يسمى إيمانًا إلَّا ما مات عليه الإنسان، إلَّا ما يوافي به ربه "وَبِتَقْدِيرِ ذَلِكَ" لو قدرنا فرضًا فَإنَّ دَلَالَةَ الشَّرْعِ عَلَى ضَمِّ الْأَعْمَالِ إلَيْهِ أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ فَكَيْفَ لَمْ تَدْخُلْ الْأَعْمَالُ فِي مسمى الإيمان" وتقول: الإيمان هو مجرد التصديق؛ يعني لو قدرنا ذلك، وأن الإيمان هو ما يوافي به الإنسان ربه، فلماذا لا تعتبرون دلالة الشرع على ضمِّ الأعمال في مسمى الإيمان؟ وتدخلون الأعمال في مسمى الإيمان؟ وتقولون: الإيمان هو مجرد التصديق، مع أن دلالة الشرع على ضم الأعمال كثيرة ومشهورة، فلماذا لا تعتبرون مسماها.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " مَعَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَذْكُرَ شَيْئًا مِنْ الشَّرْعِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُسَمَّى بِهِ إلَّا الْمُوَافَاةُ بِهِ وَبِتَقْدِيرِ ذَلِكَ فَمَعْلُومٌ أَنَّ دَلَالَةَ الشَّرْعِ عَلَى ضَمِّ الْأَعْمَالِ إلَيْهِ أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ فَكَيْفَ لَمْ تَدْخُلْ الْأَعْمَالُ فِي مُسَمَّاهُ شَرْعًا؟"؛ هذه مناقشة، مناقشة للمؤلف رحمه الله للأشاعرة والكلابية في كونهم يخرجون الأعمال عن مسمى الإيمان، ويوجبون ويشترطون في مسمى الإيمان الموافاة، وهو ما يوافي به ربه فاشترطوا شرطا بغير دليل وأخذوا الأعمال عن مسمى الإيمان بغير دليل.
المتن:
وَقَوْلُهُ: لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ عَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: النَّقْضُ بِالْمُوَافَاةِ فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ فِيهِ.
الثَّانِي: لَا نُسَلِّمُ بَلْ نَحْنُ نَقْطَعُ بِأَنَّ حُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةَ اللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَعْظَمُ مِمَّا نَقْطَعُ بِبَعْضِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ كَمَسَائِلِ النِّزَاعِ.
ثُمَّ أَبُو الْحَسَنِ وَابْنُ فورك وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْقَائِلِينَ بِالْمُوَافَاةِ هُمْ لَا يَجْعَلُونَ الشَّرْعَ ضَمَّ إلَيْهِ شَيْئًا بَلْ عِنْدَهُمْ كُلُّ مَنْ سَلَبَهُ الشَّرْعُ اسْمَ الْإِيمَانِ فَقَدْ فَقَدَ مِنْ قَلْبِهِ التَّصْدِيقَ. قَالَ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ لَمْ يَجْعَلْ الْمُوَافَاةَ عَلَى الْإِيمَانِ شَرْطًا فِي كَوْنِهِ إيمَانًا
حَقِيقِيًّا فِي الْحَالِ وَإِنْ جَعَلَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ عَلَيْهِ وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ والكَرَّامِيَة وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي إسْحَاقَ الإسفراييني وَكَلَامُ الْقَاضِي يَدُلُّ عَلَيْهِ.
قَالَ: وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِنَا أَبِي الْمَعَالِي؛ فَإِنَّهُ قَالَ: الْإِيمَانُ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ قَطْعًا لَا شَكَّ فِيهِ وَلَكِنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي هُوَ عَلَمُ الْفَوْزِ وَآيَةُ النَّجَاةِ إيمَانُ الْمُوَافَاةِ. فَاعْتَنَى السَّلَفُ بِهِ وَقَرَنُوهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَلَمْ يَقْصِدُوا الشَّكَّ فِي الْإِيمَانِ النَّاجِزِ.
قَالَ: وَمَنْ صَارَ إلَى هَذَا يَقُولُ: الْإِيمَانُ صِفَةٌ يُشْتَقُّ مِنْهَا اسْمُ الْمُؤْمِنِ وَهُوَ الْمَعْرِفَةُ وَالتَّصْدِيقُ؛ كَمَا أَنَّ الْعَالِمَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعِلْمِ فَإِذَا عَرَفْت ذَلِكَ مِنْ نَفْسِي قَطَعْت بِهِ كَمَا قَطَعْت بِأَنِّي عَالِمٌ وَعَارِفٌ وَمُصَدِّقٌ فَإِنْ وَرَدَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا يُزِيلُهُ خَرَجَ إذْ ذَاكَ عَنْ اسْتِحْقَاقِ هَذَا الْوَصْفِ. وَلَا يُقَالُ: تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ إيمَانًا مَأْمُورًا بِهِ بَلْ كَانَ إيمَانًا مَجْزِيًّا فَتَغَيَّرَ وَبَطَلَ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَنَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَغِيبٌ عَنْهُ وَهُوَ مَرْجُوٌّ.
قَالَ: وَمَنْ صَارَ إلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَتَمَسَّكُ بِأَشْيَاءَ. مِنْهَا أَنْ يُقَالَ: الْإِيمَانُ عِبَادَةُ الْعُمْرِ وَهُوَ كَطَاعَةِ وَاحِدَةٍ فَيَتَوَقَّفُ صِحَّةُ أَوَّلِهَا عَلَى سَلَامَةِ آخِرِهَا. كَمَا نَقُولُ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ. قَالُوا: وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى فِي الْحَالِ وَلِيًّا وَلَا سَعِيدًا وَلَا مَرْضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ لَا يُسَمَّى فِي الْحَالِ عَدُوًّا لِلَّهِ وَلَا شَقِيًّا إلَّا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْأَعْدَاءِ فِي الْحَالِ لِإِظْهَارِهِ مِنْ نَفْسِهِ عَلَامَتَهُمْ".
الشرح:
فإن المؤلف شيخ الإسلام: ابن تيمية رحمه الله نقل فيما سبق كلام أبا القاسم الأنصاري النيسابوري الشافعي فيما حكاه عن أبي إسحاق الإسرافييني لما ذكر قول أبي الحسن وأصحابه في الإيمان.
قال: وصحح أنه تصديق القلب، ثم ذكر أن الأشاعرة؛ وهم أصحاب أبي الحسن اختلفوا على قولين:
أحدهما: قول اشتراط الموافاة؛ يعني أن الإيمان هو ما يوافي به الإنسان ربه في الآخرة.
والقول الثاني: أنه لا يشترط ذلك، لا يكون شرطا، وإنما الإيمان هو ما يكون عليه الإنسان في الحال.
ولهذا قال: هناك من أصحابنا من قال بالموافاة، وشرط في الإيمان الحقيقي أن يوافى به، ويختم عليه، ومنهم من لم يجعل ذلك شرطا في الحال، والذين قالوا بالموافاة هم الأكثرون أصحاب أبي الحسن؛ الأشاعرة، الأكثرون قالوا: بالموافاة؛ وهو أنه يشترط في الإيمان الحقيقي أن يوافي به الإنسان ربه ويختم عليه، ولكنهم قالوا: هذا فيما لم يرد الخبر أنه من أهل الجنة، وأما ما ورد الخبر أنه من أهل الجنة، فإنه يقطع على إيمانه كالعشرة المبشرين بالجنة.
ثم المؤلف رحمه الله يناقش قول أبي القاسم أنه لا بد من دليل مقطوع به؛ يعني فيمن ورد الخبر بأنه من أهل الجنة هذا يقطع به، وأما غير ذلك فلا يقطع به.
يقول المؤلف رحمه الله: "لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ عَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: النَّقْضُ بِالْمُوَافَاةِ فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ فِيهِ"؛ يعني يقول: اشتراط أنه لا بد من دليل مقطوع به يجاب عنه بجوابين الجواب الأول أن دليلكم هذا منقوض بالموافاة فإنه لا يقطع فيه بالموافاة؛ لأنه لا يدرى ماذا يموت عليه؟، والثاني.
القول الثاني قال: "الثَّانِي: لَا نُسَلِّمُ " أنه لا بد من دليل مقطوع "بَلْ نَحْنُ نَقْطَعُ بِأَنَّ حُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةَ اللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَعْظَمُ مِمَّا نَقْطَعُ بِبَعْضِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ "؛ يعني نقطع بأن أعمال القلوب كحب الله ورسوله، وخشية الله ونحو ذلك أن هذا داخل في مسمى الإيمان في كلام الله ورسوله أعظم مما نقطع بدخول بعض أفعال الجوارح كالصلاة، والصوم، والحج " كَمَسَائِلِ النِّزَاعِ".
قال المؤلف رحمه الله: "ثمَّ أَبُو الْحَسَنِ؛ يعني أبو الحسن الأشعري، وَابْنُ فورك وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْقَائِلِينَ بِالْمُوَافَاةِ"؛ يعني الذين يقولون: أنه لابد أنه يشترط في الإيمان في كونه إيمانًا أن يوافي به ربه؛ لأن الأشاعرة على قولين: القول الأول: هو أن الإيمان هو التصديق، ولكن الإيمان الحقيقي هو الذي يوافي به الإنسان ربه، الذي يختم عليه، ويوافي به الإنسان ربه؛ هذا هو الإيمان.
يقول المؤلف رحمه الله: " أَبُو الْحَسَنِ، وَابْنُ فورك وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْقَائِلِينَ بِالْمُوَافَاةِ هُمْ لَا يَجْعَلُونَ الشَّرْعَ ضَمَّ إلَيْهِ شَيْئًا"؛ لا يجعلون الشرع ضم إلى التصديق شيئًا " بَلْ عِنْدَهُمْ كُلُّ مَنْ سَلَبَهُ الشَّرْعُ اسْمَ الْإِيمَانِ فَقَدْ فَقَدَ مِنْ قَلْبِهِ التَّصْدِيقَ"؛ يعني يقولون: إن قول أبو الحسن الأشعري، وابن فورك، ومن وافقهما يقول: الإيمان هو التصديق كقول: الجهم، ولا يضم إليه الشرع أحد، ما يقولون: أن الشرع ضم إليه شيئًا من أعمال القلوب، ولا من أعمال الجوارح، ويقولون: من سلبه الشرع اسم الإيمان فهذا؛ لأنه فقد في قلبه التصديق، فمثلا: لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ([4]) قالوا: نفي الإيمان عن الزاني والسارق، وشارب الخمر، والناهب الذي ينتهب نهبة؛ لأنه فقد التصديق في قلوبهم، وكذلك لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ؛ قالوا: من لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه فقد التصديق في قلبه، وكذلك وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ. قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ.([5]) نفي عنه الإيمان؛ لأنه فقد التصديق في قلبه، وهذا باطل؛ لأن معلوم أن الزاني، والسارق، وشارب الخمر ما فقد التصديق من قلوبهم، يصدقون بالله وملائكته وكتبه ورسله، وكذلك من لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه؛ وهذا يدل على بطلان هذا القول، وهو أن الإيمان مجرد التصديق، واشتراط الموافاة، وأنه لا يشترط في كونه إيمانًا أن يوافي به ربه، وأن كل من سلبه الشارع اسم الإيمان فإنما ذلك في كونه فقد التصديق في قلب؛ هذا باطل.
" قَالَ؛ يعني قال أبو القاسم الأنصاري: وَمِنْ أَصْحَابِنَا"؛ يعني نقل عن أبي الحسن، قال: ومن أصحابنا؛ وهم الأشاعرة أصحاب أبي الحسن "مَنْ لَمْ يَجْعَلْ الْمُوَافَاةَ عَلَى الْإِيمَانِ شَرْطًا فِي كَوْنِهِ إيمَانًا حَقِيقِيًّا فِي الْحَالِ وَإِنْ جَعَلَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ عَلَيْهِ"؛ هذا القول الثاني للأشاعرة: وهو عدم جعل الموافاة على الإيمان شرطًا في كونه مؤمنًا بل يكون مؤمنًا ولا يشترط الموافاة، لكن الموافاة على الإيمان شرط في استحقاق هذا الثواب عليه، لا يستحق الثواب على الإيمان إلَّا إذا وفى به ربه، لكنه يسمى مؤمنًا ولا يشترط أن يموت على الإيمان.
فهما قولان للأشاعرة:
القول الأول أن الإيمان هو التصديق، والموافاة شرط في صحة الإيمان لابد أن يوافي به ربه بأن يموت على التصديق وإلَّا فلا يسمى مؤمن، وعندهم إنما سلبه الشرع اسم الإيمان فإنما ذلك لفقد التصديق من قلبه.
والقول الثاني: أن الإيمان هو التصديق ولا يشترط الموافاة على الإيمان، فالموافاة على الإيمان؛ يعني الموت على الإيمان، لا يجعل الموافاة على الإيمان شرطًا في كونه إيمانًا حقيقيًا في الحال، لكنه شرط لاستحقاق الثواب عليه، فإن مات على الإيمان استحق الثواب عليه، وإن لم يمت على الإيمان فلا يستحق الثواب عليه وإن كان يسمى مؤمنًا في الحياة؛ وهذا القول الثاني.
يقول المؤلف: "وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ والكَرَّامِيَة"؛ مذهب المعتزلة أصحاب واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، والكرامية أتباع محمد بن كرام وهو اختيار أبي إسحاق الإسرافييني كما ذكر ذلك في الأذكار، وكما ذكر ذلك في أصول الدين البغدادي.
قال المؤلف: "وَكَلَامُ الْقَاضِي يَدُلُّ عَلَيْهِ"؛ يعني القاضي الباقلاني في كتابه "الإنصاف والتمهيد" يدل على أنه اختار هذا القول: وهو أن الإيمان هو التصديق ولا يكون الموافاة على الإيمان شرطًا في كونه إيمانًا.
قَالَ: وهو أبو القاسم الأنصاري: وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِنَا أَبِي الْمَعَالِي؛ يعني أبو المعالي الجويني، أبو المعالي الجويني في "كتاب الإرشاد" اختار القول الثاني الذي هو مذهب المعتزلة والكرامية، والذي اختاره أبو إسحاق الإسرافييني، والذي اختاره القاضي الباقلاني كلهم يختارون أن الإيمان هو التصديق ولا يشترط الموافاة؛ يعني لا يشترط أن يوافي به ربه، وأن يموت عليه، وإنما هذا الشرط لاستحقاق الثواب، وليس شرطًا في تسميته مؤمنًا بل يسمى مؤمنًا ولا يشترط الموافاة بخلاف القول الأول، القول الأول يشترطون الموافاة لا يسمى مؤمنًا إلَّا إذا وفى ربه على الإيمان، بالإيمان.
يقول أبو القاسم الأنصاري: قال: وهو اختيار شيخنا أبي المعالي الجويني فإنه قال؛ يعني في كتابه الإرشاد، " فَإِنَّهُ قَالَ: الْإِيمَانُ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ قَطْعًا لَا شَكَّ فِيهِ"؛ هذا دليل على أنه لا يشترط الموافاة، قال أبو المعالي الجويني: الإيمان ثابت في الحال قطعًا من غير اشتراط الموافاة هذا يقاطع قول: لا بد من أنه يكون مقطوع به، هنا أبو المعالي الجويني قال: من صدق فالإيمان ثابت له في الحال قطعًا؛ يعني من غير اشتراط الموافاة.
ولهذا قال: "الْإِيمَانُ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ قَطْعًا لَا شَكَّ فِيهِ" قال: " وَلَكِنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي هُوَ عَلَمُ الْفَوْزِ وَآيَةُ النَّجَاةِ إيمَانُ الْمُوَافَاةِ. فَاعْتَنَى السَّلَفُ بِهِ وَقَرَنُوهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَلَمْ يَقْصِدُوا الشَّكَّ فِي الْإِيمَانِ النَّاجِزِ"؛ يعني أبو المعالي الجويني يقول: إن الإيمان ثابت في الحال قطعًا لا شك فيه لمن صدق ولا يشترط الموافاة، لكن الإيمان الذي يحصل به الفوز بالجنة، والنجاة من النار هو إيمان الموافاة؛ هو الذي يوافي به ربه فإن وافى ربه بالإيمان فهو ناجٍ، فهو الفائز الناجي، وإن لم يوافي به ربه فإنه وإن كان يسمى في الحياة مؤمنًا إلَّا أنه ليس ناجيًا.
ولهذا قال: "فَاعْتَنَى السَّلَفُ بِهِ وَقَرَنُوهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ"؛ يعني يقول: أنا مؤمن إن شاء الله؛ لأن الاستثناء راجع إلى الموافاة؛ لأنه لا يدري هل يوافي ربه بالإيمان، أو لا؛ فلهذا يستثني.
قال: " وَلَمْ يَقْصِدُوا الشَّكَّ فِي الْإِيمَانِ النَّاجِزِ"؛ حينما يستثنون لم يقصد الشك في الإيمان الناجز؛ لأنهم لا يقصدون أنه في الحال غير مصدق، بل هو مصدق في الحال لكن أرادوا بالاستثناء ما يوافي به الإنسان ربه فإنه لا يدري هل يوافي ربه بالإيمان أو لا ؟
قال؛ يعني أبو المعالي الجويني: ومن صار إلى هذا؛ يعني وهو ثبوت الإيمان في الحال من غير اشتراط الموافاة، وأن من سمى مؤمن في الحال في الحياة الدنيا ولو لم يوافي ربه بالإيمان، ولا يشترط أن يوافي ربه بالإيمان.
قَالَ: وَمَنْ صَارَ إلَى هَذَا يَقُولُ: الْإِيمَانُ صِفَةٌ يُشْتَقُّ مِنْهَا اسْمُ الْمُؤْمِنِ وَهُوَ الْمَعْرِفَةُ وَالتَّصْدِيقُ؛ الإيمان صفة يشتق منها اسم المؤمن وهو المعرفة والتصديق؛ وهو في الحال مصدقًا فيسمى مؤمن فاشتُق، فالإيمان يشتق منه اسم المؤمن ، وهو مؤمن في الحال "كَمَا أَنَّ الْعَالِمَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعِلْمِ"، فكذلك المؤمن يشتق من الإيمان.
قال: " فَإِذَا عَرَفْت ذَلِكَ مِنْ نَفْسِي قَطَعْت بِهِ "؛ يعني إذا عرفت نفسي أني مؤمن ، وأني مصدق أقطع من غير استثناء، ولا احتاج الاستثناء، فلا أقول أنا مؤمن إن شاء الله، بل أنا مؤمن "فإِذَا عَرَفْت ذَلِكَ مِنْ نَفْسِي قَطَعْت بِهِ كَمَا قَطَعْت بِأَنِّي عَالِمٌ وَعَارِفٌ وَمُصَدِّقٌ"؛ لأن هذا أمرٌ معلوم، الإنسان يعرف نفسه إنه عالم فيقول أنا عالم ولا يستثني ولا يقول: إن شاء الله، فإذا كان عارفًا ومصدقًا ويعي من نفسه ذلك فلا يستثني ولا يقول إن شاء الله، قال: "فَإِنْ وَرَدَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا يُزِيلُهُ خَرَجَ إذْ ذَاكَ عَنْ اسْتِحْقَاقِ هَذَا الْوَصْفِ"؛ يعني إذا ورد في المستقبل ما يزيل هذا الإيمان بأن كذَّب فإنه خرج عن استحقاق هذا الوصف فلا يسمى مؤمن؛ وهذا قول أبو المعالي الجويني وهذا قول من لم يشترط الموافاة، من لم يشترط الموافاة؛ يعني من لم يشترط كون الإيمان ما يوافي به ربه يقول: هو مؤمن الآن ومصدق فيشتق اسم المؤمن من الإيمان ولا ... فإذا تبيَّن بعد ذلك أنه زال عنه هذا الوصف، وكذَّب بعد أن صدَّق سلب عنه هذا الوصف.
قال: " وَلَا يُقَالُ: تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ إيمَانًا مَأْمُورًا بِهِ بَلْ كَانَ إيمَانًا مَجْزِيًّا فَتَغَيَّرَ وَبَطَلَ"؛ يعني هذا المؤمن المصدق تسميه مؤمنًا، فإذا كذَّب تغير حاله، ولا يستحق هذا الوصف وتبيَّن أنه تغير وبطل هذا الاسم، سلب هذا الاسم، ولا يقال: تبينَّا أنه لم يكن إيمانًا مأمورًا به، بل كان إيماناً مجزئ؛ يعني لا يقال: أن تبيَّن أنه لا بكون إيمانًا إن ورد كما يقول أهل القول الأول، أهل القول الأول الذين يشترطون في الإيمان أن يوافي به ربه، يقولون: إذا لم يوافي ربه بالإيمان تبيَّنَّا أنه إيمانًا، أن الإيمان الذي عاش به في حال الحياة لم يكن إيمانًا مأمورًا به، أما أهل القول الثاني يقولون: لا، إنه مؤمن، إن إيمانه إيمان صحيح، وصفة اتصف بصفة صحيحة لكن تغير وبطل بعد أن كذَّب، وإيمانه في الأول كان إيمانًا مجزئ لكنه تغير وبطل.
قال المؤلف: " وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَنَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَغِيبٌ عَنْهُ وَهُوَ مَرْجُوٌّ"؛ يعني يقول: يختلف هذا؛ يعني قوله: أنا مؤمن يختلف عن قوله: أنا من أهل الجنة؛ يعني قوله: أنا مؤمن يعلم من نفسه أنه اتصف بصفة الإيمان فلا يستثني؛ لأنه يعلم بنفسه أنه مصدق ولا يستثني بخلاف قوله: أنا من أهل الجنة فإن ذلك مغيب عنه وهو مرجو ولا يدري ولا يلزم بشيء مغيب عنه، أما الإيمان فهو شيء حاضر؛ يعرفه من نفسه، يعلم نفسه أنه مؤمن، فيقول: أنا مؤمن؛ هذا أهل القول الثاني، أما أهل القول الأول: فيقولون: لا بد من الاستثناء فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله؛ لأن الإيمان الصحيح المعتبر هو الذي يوافي به ربه، ولا ندري ماذا يوافي به ربه؟ هل يوافي ربه مؤمنًا؟ أو يوافي ربه وقد زال عنه اسم الإيمان، فلذلك يستثني فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله.
أما أهل القول الثاني فإنهم يقولون: إن الإيمان اسم لما عليه الإنسان في الحال، في حاضره، فإذا كان مصدقًا فإنه يسمى مؤمنًا، وأما إذا تغير حاله فإنه ليس بهذا الوصف لكنه مؤمن، هو مؤمن فلا يستثني؛ لأنه يعلم بنفسه أنه مؤمن ولا يقال إن مثله في ذلك مثل من قال: أنا من أهل الجنة فإن هذا مغيب عنه وهو مرجو فلا يقول: أنا من أهل الجنة إلَّا إذا استثنى يقول: أنا من أهل الجنة إن شاء الله، أما الإيمان فيقول: أنا مؤمن ولا يستثني؛ لأنه يعلم من نفسه أنه مصدق.
قال أبو القاسم الأنصاري: "وَمَنْ صَارَ إلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ"؛ القول الأول للأشاعرة وهو اشتراط الموافاة في كونه إيمانًا " يَتَمَسَّكُ بِأَشْيَاءَ"؛ يعني يستدل بأشياء؛ يعني هو قولان للأشاعرة، القول الأول: إن الإيمان اسم للإيمان في الوقت الحاضر، اسم للإيمان لما عليه الإنسان في الحال ولا يشترط الموافاة، والقول الأول أن الإيمان يشترط فيه الموافاة في كونه مؤمنًا، فإذا كان مصدقًا في الحال ومات على الإيمان فإنه يكون مؤمنًا، فإن كان مصدقًا ثم لم يمت على الإيمان تبينَّا أن إيمانه الأول ليس معتبرًا وليس مجزئ، بل هو إيمان غير مأمور به.
يقول المؤلف: " قَالَ: وَمَنْ صَارَ إلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَتَمَسَّكُ بِأَشْيَاءَ. مِنْهَا أَنْ يُقَالَ: الْإِيمَانُ عِبَادَةُ الْعُمْرِ وَهُوَ كَطَاعَةِ وَاحِدَةٍ فَيَتَوَقَّفُ صِحَّةُ أَوَّلِهَا عَلَى سَلَامَةِ آخِرِهَا. كَمَا نَقُولُ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ"؛ يعني من حجة من قال: أن الإيمان لا يكون إيمان صحيحًا إلَّا ما مات عليه ووافى به الإنسان ربه وحجته.
قال: "الْإِيمَانُ عِبَادَةُ الْعُمْرِ "؛ والعمر ينتهي بالوفاة فهي عبادة واحدة فلا بد أن يستمر الإيمان من أول العمر إلى آخره، فإن مات على الإيمان ووافى ربه على الإيمان فهو مؤمن، وإن آمن ثم تغيرت حاله وارتد والعياذ بالله وكذَّب تبينَّا فسدت هذه العبادة لم تكن عبادة صحيحة؛ لأنه يتوقف صحة أولها على سلامة آخرها، فالإيمان عبادة العمر لا بد أن يكون مستمر من أول العمر إلى آخره، فإن مات على الإيمان تبيَّنَّا أن هذه العبادة صحيحة، وإن آمن وصدق ثم تغيرت حاله تبيَّنَّا أن هذه العبادة عبادة صحيحة، وإن آمن وصدق ثم تغيرت حاله، تبينا أن هذه العبادة عبادة فاسدة، كما تقول في الصلاة، الصلاة لا بد أن تكون صحيحة من أولها إلى آخرها، فإذا صلى الإنسان ركعة، أو ركعتين ثم أحدث بطلت العبادة، وكذلك الصيام لا بد أن يصوم يمسك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، فإذا فعل ما يناقض الصيام في أثناء النهار فسدت العبادة، وكذلك الحج هذه حجتهم.
قَالُوا: وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى فِي الْحَالِ وَلِيًّا" قالوا من أدلتهم ولا شك أنه لا يسمى في الحال وليًّا وَلَا سَعِيدًا وَلَا مَرْضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ لَا يُسَمَّى فِي الْحَالِ عَدُوًّا لِلَّهِ وَلَا شَقِيًّا إلَّا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْأَعْدَاءِ فِي الْحَالِ لِإِظْهَارِهِ مِنْ نَفْسِهِ عَلَامَتَهُمْ"؛ يعني من حجتهم يقولون: إن المؤمن لا يسمى في الحال وليًّا، ولا سعيدًا، ولا مرضيًّا عند الله حتى يوافي ربه بهذا الإيمان في الحال ما يسمى ولي، ولا سعيد؛ لأن ما ندري ماذا يموت عليه، فإن مات على الإيمان تبيَّنَّا أنه ولي، وأن إيمانه صحيح، وإنه سعيد، وإن لم يمت على الإيمان تبيَّنَّا فساد إيمانه الذي كان في الحياة.
ولهذا قالوا: ولا شك أنه لا يسمى في الحال وليًّا وَلَا سَعِيدًا وَلَا مَرْضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ لَا يُسَمَّى فِي الْحَالِ عَدُوًّا لِلَّهِ وَلَا شَقِيًّا إلَّا إذا مات على الكفر؛ لأنه لا ندري قد يؤمن فإن مات على الكفر فهو في الحال عدو الله، وشقي، وإن كان في حال الحياة كافرًا ولكن الله علم أنه يموت على الإيمان فإنه لا يكون عدوًّا لله ولو كان كافرًا في الحال باعتبار الموافاة إلَّا على معنى أنه تجري عليه أحكام الأعداء في الحال، إذا قيل أنه تجري عليه أحكام الأعداء، تجري عليه أحكام الكفار فلا، فإنه تجري عليه أحكام الكفر، كما أن المؤمن تجري عليه أحكام الإيمان ولو ارتد، فكذلك الكافر تجري عليه أحكام الكفار ولو آمن فيما بعد، لماذا؟ قال: لإظهاره من نفسه علامتهم، هذا أظهر من نفسه علامة الإيمان، وهذا أظهر من نفسه علامة الكفر.
وسيأتي أن المؤلف رحمه الله يناقشهم في هذا ويبيَّن أن هذا باطل، وأن المؤمن ولي لله في الحال، فإذا تغيرت حاله صار عدو لله، وكذلك الكافر في حال كفره عدو لله، فإذا تغير حاله وآمن صار ولي، فيبيَّن المؤلف بعد هذا الرد عليهم ويذكر الأدلة في هذا.
([1]) –
([2]) –سبق
([3]) –سبق
([4]) –سبق
([5]) –سبق