شعار الموقع
  1. الصفحة الرئيسية
  2. الدروس العلمية
  3. العقيدة
  4. شرح كتاب الإيمان الكبير
  5. شرح كتاب الإيمان الكبير_49 من قوله قُلْت هَذَا الَّذِي قَالُوهُ أَنَّهُ لَا شَكَّ فِيهِ هُوَ قَوْلُ ابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ - إلى وَقَدْ كَانَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ مَعَ هَذَا يَكْرَهُونَ سُؤَالَ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ

شرح كتاب الإيمان الكبير_49 من قوله قُلْت هَذَا الَّذِي قَالُوهُ أَنَّهُ لَا شَكَّ فِيهِ هُوَ قَوْلُ ابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ - إلى وَقَدْ كَانَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ مَعَ هَذَا يَكْرَهُونَ سُؤَالَ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ

00:00
00:00
تحميل
79

القارئ: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ!

حديثكم عن الإيمان حديث جميل، ونسأل الله العلي القدير أن يثبتنا على الإيمان إلى أن نلقاه، وأن نوافي به ربنا جل وعلا، لو وجهتمونا أيضًا هنا لأهمية أن يتمسك الإنسان بالإيمان إلى أن يلاقي ربه عليه.

الشيخ: الواجب على المسلم أن يشكر الله، ويغتبط بهذه النعمة حيث وفَّقه للإيمان؛ فإنَّ هذه نعمة عظمية ليست بحول من الإنسان ولا قوة، فالإنسان يغتبط بهذه النعمة، ويفرح بها، ويحافظ على هذه النعمة، يحافظ عليها مما ينقضها، أو يبطلها أو ينقصها؛ وذلك بتحقيق التوحيد، وتخليته من  شوائب الشرك والبدع والفسوق والعصيان.

وعليه مع ذلك نضرع إلى الله ونسأله الثبات عليه، كان النبي ﷺ يكثر من هذا الدعاء، يقول: يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ.

أوَّلًا: عليه أن يغتبط بهذه النعمة ويفرح بها، ويعلم منَّة الله عليه وفضله عليه، كما قال الله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].

 وثانيًا: عليه أن يحافظ على نعمة الإيمان والتوحيد؛ بتحقيق التوحيد وتخليصه، وتنقيته من شوائب الشرك والبدع والكبائر، حتى يدخل الجنة من غير حساب ولا عذاب، فمَن حقَّق التوحيد، وخلَّصه وصفاه ونقاه من الشرك والبدع، دخل الجنة بغير حساب.

وعليه مع ذلك أن يسأل الله ويتضرع إليه ويسأله الثبات على دينه، والاستقامة عليه، ويكثر من هذا الدعاء، «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»، فكان النبي ﷺ كان يكثر من هذا الدعاء.

كما ثبت في صحيح مسلم: أن النبي ﷺ كان يكثر من قوله: يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ.([1])

، فكانت عائشة رضي الله عنها تقول له: يا رسول الله، إنك تُكثر أن تقول: يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ.، فهل تخاف، وما يؤمنني يا عائشة وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن إذا أراد أن يقلب قلبه، يقلب قلبه([2]).

فنسأل الله أن يثبتنا على الإيمان ويثبت قلوبنا على دينه وطاعته، ويتوفانا على الإسلام غير مغييرن ولا مبدلين إنه ولي ذلك و القادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله و أصحابه و التابعين.

المتن:

أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ!

قُلْت: هَذَا الَّذِي قَالُوهُ أَنَّهُ لَا شَكَّ فِيهِ هُوَ قَوْلُ ابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ. وَأَمَّا أَكْثَرُ النَّاسِ فَيَقُولُونَ: بَلْ هُوَ إذَا كَانَ كَافِرًا فَهُوَ عَدُوٌّ الِلَّهِ ثُمَّ إذَا آمَنَ وَاتَّقَى صَارَ وَلِيًّا لِلَّهِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ [الممتحنة:1] إلَى قَوْلِهِ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الممتحنة:7].

وَكَذَلِكَ كَانَ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ مَكَّةَ الَّذِينَ كَانُوا يُعَادُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَبْلَ الْفَتْحِ آمَنَ أَكْثَرُهُمْ وَصَارُوا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَابْنُ كُلَّابٍ وَأَتْبَاعُهُ بَنَوْا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوِلَايَةَ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ لِذَاتِ اللَّهِ وَهِيَ الْإِرَادَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَالرِّضَا وَنَحْوُ ذَلِكَ.

فَمَعْنَاهَا إرَادَةُ إثَابَتِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ وَهَذَا الْمَعْنَى تَابِعٌ لِعِلْمِ اللَّهِ فَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ مُؤْمِنًا لَمْ يَزَلْ وَلِيًّا لِلَّهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُرِيدًا لِإِدْخَالِهِ الْجَنَّةَ وَكَذَلِكَ الْعَدَاوَةُ.

وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَيَقُولُونَ: الْوِلَايَةُ وَالْعَدَاوَةُ وَإِنْ تَضَمَّنَتْ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَبُغْضَهُ وَسُخْطَهُ فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَرْضَى عَنْ الْإِنْسَانِ وَيُحِبُّهُ بَعْدَ أَنْ يُؤْمِنَ وَيَعْمَلَ صَالِحًا؛ وَإِنَّمَا يَسْخَطُ عَلَيْهِ وَيَغْضَبُ بَعْدَ أَنْ يَكْفُرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ [محمد:28] فَأَخْبَرَ أَنَّ الْأَعْمَالَ أَسْخَطَتْهُ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ: فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ [الزخرف:55].

قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَغْضَبُونَا وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ.

وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ ([3])عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ؛ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ؛ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي؛ وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ.

فَأَخْبَرَ أَنَّهُ: لَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى يُحِبَّهُ ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا أَحْبَبْته: كُنْت كَذَا وَكَذَا. وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ حُبَّهُ لِعَبْدِهِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ أَنْ يَأْتِيَ بِمُحَابِّهِ.

(الشرح)

فإن المؤلِّف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، نقل فيما سبق مذهب الأشاعرة في الإيمان، وأنهم يرون أنَّ  الإيمان هو التصديق، فمَن صدق فهو مؤمن، ولكن اختلفوا في اشتراط الموافاة، وهو أن يستمر على إيمانه إلى الوفاة، أولًا يشترط؟ أو اشتراط أن يستمر على الإيمان إلى الوفاة، هذا قول الأشاعرة.

القول الأوَّل: اشتراط الموافاة، وهو أنه لا يسمى مؤمن حتى يموت على الإيمان، فالإيمان هو ما يوافي به الإنسان ربه، فإن مات على الإيمان فإيمانه صحيح، وإن لم يمت على الإيمان فبينا فساد إيمانه، وأنه لم يكن مؤمنا وأن إيمانه في الحياة، إيمان فاسد غير معتبر، فلا يسمى مؤمنا؛ لأنَّه لم يوافِ به ربه.

والقول الثاني للأشاعرة: أنه يسمى مؤمنا ولا يشترط الموافاة؛ لأنَّ المؤمن يشتق من اسم الإيمان، كما أن العالم يشتق من العلم، كما أنَّ المؤمن يشتق من الإيمان فهو مصدق في الحال، ويعلم بنفسه أنَّه مصدِّق ويكون مؤمنا، فإذا تغيَّرت حاله بعد ذلك فإنه يعتبر في هذه الحالة انتفت عنه هذه الصفة، وسلبت منه هذه الصفة، وإن كانت معتبرة قبل ذلك.

والذين قالوا: اشترطوا الموافاة، قالوا: إنَّ الإيمان عبادة واحدة، هو عبادة العمر، فلابُدَّ أن يكون الإيمان مكتمل من أول العمر إلى آخره، فإن لم يمت على الإيمان دلَّ على فساد هذه العبادة، كما أنَّ الصلاة يُشترط لها الصحة من أولها إلى آخرها، فإذا طرأ عليها الفساد في أثنائها فسدت هذه الصلاة، وكذلك الصيام وكذلك الحج.

وقالوا: إنَّ المؤمن لا يسمَّى في الحال  سعيدًا ولا وليًّا ولا مرضيًا عند  الله حتى يموت على ذلك، وحتى في حال كونه مؤمنا فلا يسمى مرضيا عنه؛ لأنه لا يدرى إلا إذا وافى به ربه، إذا وافى به ربه فهو وليٌّ لله، وإن لم يوافي به ربه فلا يكون وليًّا، فلا يسمَّى في الحال وليًّا ولا سعيدًا ولا مرضيًا.

وكذلك الكافر، فلا يسمَّى في الحال عدوًّا ولا شقيًّا، إلا إذا وافى ربَّه، هذا كُفر -والعياذ بالله- إلا إذا مات على الكُفر.

المؤلِّف رحمه الله تعقَّب الأشاعرة في هذا، وهذا القول الأوَّل وهو: اشتراط الموافاة، قَوْلُ ابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ وأبي الحسن الأشعري وَأَصْحَابِهِ ووَافَقَهُمْ على ذلك بعض أَصْحَابِ الأئمة الأربعة، ولكنه قولٌ باطل.

بيَّن المؤلِّف رحمه الله أنَّ الكافر هو عدو لله في حالة الكفر، فإن آمن بعد ذلك صار وليًّا لله، وكذلك المؤمن في حال إيمانه وليًّ لله، فإذا ارتد وتغيَّر حاله -والعياذ بالله- صار عدوًّا لله، أو فسق وعصى صار عدوًّا لله من وجه، ووليا لله من وجه.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله للرَّد على هذا القول: وهو اشتراط الموافاة في كونه مؤمنا، وفي كونه وليًا لله، واشتراط الموافاة على الكفر في كونه عدوا لله، قال: "قُلْت: هَذَا الَّذِي قَالُوهُ أَنَّهُ لَا شَكَّ فِيهِ هُوَ قَوْلُ ابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ. وَأَمَّا أَكْثَرُ النَّاسِ فَيَقُولُونَ: بَلْ هُوَ إذَا كَانَ كَافِرًا فَهُوَ عَدُوٌّ الِلَّهِ ثُمَّ إذَا آمَنَ وَاتَّقَى صَارَ وَلِيًّا لِلَّهِ".

يعني تغيَّر حاله؛ لأنَّه في حال كُفره يكون عدوًّا لله، ثُمَّ إذا آمن واستقام صار وليًّا لله، وكذلك العكس؛ فالمؤمن في حال إيمانه وليٌّ لله، فإذا ارتد -والعياذ بالله- أو فَسق صار عدوًّا لله.

ولهذا قال المؤلِّف رحمه الله: "بَلْ هُوَ إذَا كَانَ كَافِرًا فَهُوَ عَدُوٌّ الِلَّهِ ثُمَّ إذَا آمَنَ وَاتَّقَى صَارَ وَلِيًّا لِلَّهِ"

ثُمَّ استدلَّ المؤلِّف بالنصوص فقال: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ [الممتحنة:1] إلَى قَوْلِهِ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الممتحنة:7].

 قال المؤلف: وَكَذَلِكَ كَانَ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ مَكَّةَ الَّذِينَ كَانُوا يُعَادُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَبْلَ الْفَتْحِ آمَنَ أَكْثَرُهُمْ وَصَارُوا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ ورسوله". لما كانوا يعبدون الأصنام ويحاربوا الله ورسوله كانوا من أعداء الله، ولما من الله عليهم بالإسلام وبالإيمان تغير حالهم وصاروا من أولياء الله.

فقال المؤلِّف: "وَابْنُ كُلَّابٍ وَأَتْبَاعُهُ بَنَوْا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوِلَايَةَ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ لِذَاتِ اللَّهِ وَهِيَ الْإِرَادَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَالرِّضَا وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَمَعْنَاهَا إرَادَةُ إثَابَتِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ وَهَذَا الْمَعْنَى تَابِعٌ لِعِلْمِ اللَّهِ فَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ مُؤْمِنًا لَمْ يَزَلْ وَلِيًّا لِلَّهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُرِيدًا لِإِدْخَالِهِ الْجَنَّةَ وَكَذَلِكَ الْعَدَاوَةُ".

يعني يبيِّن المؤلف رحمه الله شُبهة ابن كلاب وأتباعه الذين يقولون: لا يكون وليًّا لله إلا إذا مات على الإيمان ولا يكون عدوًّا لله إلا إذا مات على الكُفر، شبهتهم: أنَّ الإرادة والمحبة والرضا معناها إرادة ثابتة بعد الموت.

شبهتهم أن الولاية صفة قديمة لذات الله؛ لأنهم لا يثبتون الصفات الفعلية، لكن ابن كلاب والأشعرية ينفون الصفات الفعلية كالمحبة والغضب والرضا، والولاية، والعداوة، فهم يقولون: لو كان الله متصفا بها لصار محلا للحوادث.

ففرار من ذلك قالوا: إنَّ الولاية صفة قديمة، لا تنفك عن الباري، ولا يمكن أن يكون الشخص وليًّا لله في وقت وفي وقت آخر يكون عدوًّا لله، لأن لا يكون الرب محلا للحوادث بزعمهم.

ولذلك قال المؤلف: "بَنَوْا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوِلَايَةَ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ لِذَاتِ اللَّهِ وَهِيَ الْإِرَادَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَالرِّضَا وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَمَعْنَاهَا إرَادَةُ إثَابَتِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ وَهَذَا الْمَعْنَى تَابِعٌ لِعِلْمِ اللَّهِ فَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ مُؤْمِنًا لَمْ يَزَلْ وَلِيًّا لِلَّهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُرِيدًا لِإِدْخَالِهِ الْجَنَّةَ وَكَذَلِكَ الْعَدَاوَةُ". فمَن علم الله أنه يموت كافرًا فإنه لم يزل عدوًّا لله، بإرادة الله إدخاله النار.

قال المؤلِّف رحمه الله: "وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَيَقُولُونَ: الْوِلَايَةُ وَالْعَدَاوَةُ وَإِنْ تَضَمَّنَتْ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَبُغْضَهُ وَسُخْطَهُ فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَرْضَى عَنْ الْإِنْسَانِ وَيُحِبُّهُ بَعْدَ أَنْ يُؤْمِنَ وَيَعْمَلَ صَالِحًا؛ وَإِنَّمَا يَسْخَطُ عَلَيْهِ وَيَغْضَبُ بَعْدَ أَنْ يَكْفُرَ".

يعني المؤلِّف رحمه الله يبيِّن أنَّ مذهب الجمهور أن الولاية والعداوة وإن تضمنت المحبة والرضا، وإن تضمنت العداوة البغض والسخط، إلا أن الله يرضى عن الإنسان ويحبه بعد أن يؤمن، فإذا آمن أحبه الله ورضي عنه، فإذا تغيرت حاله وكفر أو فسق، فإن الله يسخط عليه ويغضب عليه، بعد أن يكفر.

ثُمَّ قال المؤلِّف رحمه الله: " كَمَا قَالَ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ [محمد:28]، فَأَخْبَرَ أَنَّ الْأَعْمَالَ أَسْخَطَتْهُ؛ فالأعمال هي التي أسخطته، وَكَذَلِكَ قَالَ: فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ [الزخرف:55]"؛ قال المفسرون: أغضبونا، يعني الانتقام جاء بعد إغضابهم لله، فدل على أن الله غضب عليهم بعد أن أسخطوه.

"وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ". وجه الدلالة: أنَّ الله تعالى يرضى بعد الشُّكر.

ثُمَّ استدلَّ بالحديث القدسي، حديث أبي هريرة الذي هو من كلام الله لفظا ومعنى، وهو حديث قدسي، "قال في الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ ([4]) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ؛ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ؛ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي.

هذا حديث قدسي من كلام الله لفظا ومعنى، والمؤلف بين وجه الاستدلال فقال:  أخبر أنه لَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى يُحِبَّهُ ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا أَحْبَبْته: كُنْت كَذَا، كنت َكَذَا. قال: وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ حُبَّهُ لِعَبْدِهِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ أَنْ يَأْتِيَ بِمُحاَبِّهِ."

وهذا واضح في الرد على الأشاعرة الذين يقولون أنه لا يمكن أن يكون وليا لله إلا إذا مات على ذلك، ولا يكون عدوا لله إلا إذا مات على الكفر، فأخبر الرب كما روى عنه نبيه، أخبر أن العبد لا يزال يتقرب إليه بالنوافل حتى يحبه، ثم قال: فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وهذا يبيِّن أن حبه  لعبده يكون بعد أن يأتي بمحابه، بعد أن يأتي بمحابه أحبه الله، وقبل ذلك ليس محبوبًا لله، فهذا يدل على أنه إذا أتى بما أوجب الله عليه ثم أتى بالنوافل أحبه الله، فهذا يدل على أنه كان قبل ذلك، قبل أن يؤمن، عدوا لله، وبعد أن يؤمن صار محبوبا لله.

(المتن)

وَالْقُرْآنُ قَدْ دَلَّ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، فَقَوْلُهُ: يُحْبِبْكُمْ جَوَابُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: فَاتَّبِعُونِي وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْجَزَاءِ مَعَ الشَّرْطِ، وَلِهَذَا جُزِمَ، وَهَذَا ثَوَابُ عَمَلِهِمْ، وَهُوَ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ، فَأَثَابَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ أَحَبَّهُمْ؛ وَجَزَاءُ الشَّرْطِ وَثَوَابُ الْعَمَلِ وَمُسَبِّبُ السَّبَبِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَهُ لَا قَبْلَهُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وقَوْله تَعَالَى يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف:31]، وقَوْله تَعَالَى اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ۝ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الأحزاب:71] وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة:4]، وَقَوْلُهُ: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۝ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ۝ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف:2،4]، وَكَانُوا قَدْ سَأَلُوهُ: لَوْ عَلِمْنَا أَيَّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ لَعَمِلْنَاهُ.

وَقَوْلُهُ: إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إذْ تُدْعَوْنَ إلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ [غافر:10] فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُبَّهُ وَمَقْتَهُ جَزَاءٌ لِعَمَلِهِمْ وَأَنَّهُ يُحِبُّهُمْ إذَا اتَّقَوْا وَقَاتَلُوا؛ وَلِهَذَا رَغَّبَهُمْ فِي الْعَمَلِ بِذَلِكَ كَمَا يُرَغِّبُهُمْ بِسَائِرِ مَا يَعِدُهُمْ بِهِ؛ وَجَزَاءُ الْعَمَلِ بَعْدَ الْعَمَلِ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إذْ تُدْعَوْنَ إلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ [غافر:10] فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَمْقُتُهُمْ إذْ يَدْعُونَ إلَى الْإِيمَانِ فَيَكْفُرُونَ.

وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18]. فَقَوْلُهُ: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ؛ بَيَّنَ أَنَّهُ رَضِيَ عَنْهُمْ هَذَا الْوَقْتَ فَإِنَّ حَرْفَ إذْ ظَرْفٌ لِمَا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُ ذَاكَ الْوَقْتَ رَضِيَ عَنْهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْعَمَلِ وَأَثَابَهُمْ عَلَيْهِ، وَالْمُسَبِّبُ لَا يَكُونُ قَبْلَ سَبَبِهِ، وَالْمُوَقَّتُ بِوَقْتِ لَا يَكُونُ قَبْلَ وَقْتِهِ؛ وَإِذَا كَانَ رَاضِيًا عَنْهُمْ مِنْ جِهَةٍ فَهَذَا الرِّضَى الْخَاصُّ الْحَاصِلُ بِالْبَيْعَةِ لَمْ يَكُنْ إلَّا حِينَئِذٍ.

كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ([5])  أَنَّهُ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ رَضِيتُمْ؛ فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِك فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؛ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حَصَلَ لَهُمْ هَذَا الرِّضْوَانُ الَّذِي لَا يَتَعَقَّبُهُ سُخْطٌ أَبَدًا. وَدَلَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الرِّضْوَانِ قَدْ يَتَعَقَّبُهُ سُخْطٌ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ([6])  فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: يَقُولُ: كُلٌّ مِنْ الرُّسُلِ: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبْ بَعْدَهُ مِثْلَهُ.

(الشرح)

المؤلِّف رحمه الله يقول: إن القرآن دلَّ على مثل ما دلَ عليه الحديث، فإنَّ الحديث القدسي وهو حديث أبي هريرة السابق، أخبر فيه الرب -سبحانه-: أنه لا يزال يتقرَّب العبد إليه بالنوافل حتى يحبُّه، فإذا أحبه كان سمْعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، وقدمه التي يمشي بها. المعنى أنه يسدده في جوارحه، فلا يسمع بأذنه إلا ما يرضي الله، ولا ينظر ببصره إلا ما يرضي الله، ولا يفعل بيده إلا ما يرضي الله، ولا يمشي برجله إلا بما يرضي الله.

فبيَّن أن حبه لعبده جاء بعد أن يأتي بمحابه وهذا فيه الرد على الأشاعرة  الذين يقولون: إنَّ الإرادة والمحبة ونحو ذلك صفات ثابتة، وأنها صفات قديمة، ويفسرون الإرادة والمحبة والرضاء بالثواب بعد الموت.

يقول المؤلف: "وَالْقُرْآنُ قَدْ دَلَّ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ" يعني: دلَّ على أنَّ الرب يرضى عن العبد ويحب العبد بعد أن يفعل طاعته، ويغضب ويسخط على العبد بعد أن يفعل المعاصي، لا قبل ذلك.

وقال: "وَالْقُرْآنُ قَدْ دَلَّ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]". ووجه الدلالة: "قَوْلُهُ: يُحْبِبْكُمْ جَوَابُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: فَاتَّبِعُونِي وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْجَزَاءِ مَعَ الشَّرْطِ وَلِهَذَا جُزِمَ". قال: يُحْبِبْكُمْ مجزوم، في جواب الأمر، فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ، مثل قولك: اذهب تجد، فيكون الثاني مجزوم، جواب الأمر هنا: يُحْبِبْكُمْ  جواب الأمر، جزم، وهو جواب الأمر فيكون بمنزلة الجزاء مع السبق.

ويقول المؤلِّف: "وَهَذَا ثَوَابُ عَمَلِهِمْ وَهُوَ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ فَأَثَابَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ أَحَبَّهُمْ" يعني: المحبة كانت بعد الاتباع، وقبل الاتباع ليست لهم هذه المحبة.

قال المؤلف: "وَجَزَاءُ الشَّرْطِ وَثَوَابُ الْعَمَلِ وَمُسَبِّبُ السَّبَبِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَهُ لَا قَبْلَهُ". فإذا كانت المحبة هي ثواب في الاتباع، وهي جزاء على ذلك، وهي مسببة، والسبب هو الاتباع، فإن المحبة لا تكون إلا بعد الاتباع، المحبة بعد الاتباع؛ لأنها ثواب العمل، ولأنها هي مسبب السبب، فلا تكون إلا بعده ولا تكون قبله.

وهذا في الرد على الأشاعرة الذين يقولون: إن الكافر إذا علم الله أنه يموت على الإيمان يكون محبوبًا لله في حال كفره، والمؤمن إذا علم الله أنه يموت على الكفر لم يزل عدوًا لله. فهذا باطل، المؤمن في حال إيمانه محبوب له، والكافر في حال كفره الله تعالى يبغضه  ويسخط عليه. قال المؤلف:

"وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] وقَوْله تَعَالَى: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف:31]" يعني: الإستجابة تكون بعد الدعاء، لأنها في جواب الأمر يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف:31]. فالمغفرة والإجارة من العذاب الأليم، تكون بعد إجابة داعي الله.

وقَوْله تَعَالَى اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ۝ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الأحزاب:71]، فإصلاح العمل ومغفرة الذنوب جزاء على تقوى الله والقول السديد.

قال المؤلِّف: "وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة:4] وَقَوْلُهُ: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۝ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ۝ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف:2،4]". فالله –تعالى- يحب المتقين بعد إتصافهم بالتقوى، وكذلك: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا. فالمحبة تكون بعد قتالهم صفًّا، قال: "وَكَانُوا قَدْ سَأَلُوهُ: لَوْ عَلِمْنَا أَيَّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ لَعَمِلْنَاهُ".

فبيَّن لهم الله العمل الذي يحبه، فعملوا فأحبهم الله، وَقَوْلُهُ: إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إذْ تُدْعَوْنَ إلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ [غافر:10]، والمقت أشد البغض، فالله تعالى يمقتهم إذا كفروا بعد أن دُعوا إلى الإيمان، فالمقت هو أشد غضب الله بعد الكفر، لا قبل ذلك.

ولهذا قال المؤلِّف رحمه الله: "فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُبَّهُ وَمَقْتَهُ جَزَاءٌ لِعَمَلِهِمْ" فلما عملوا بما يرضي الله فأحبهم الله، ولما عملوا بما يسخط الله أبغضهم الله، هذا يدل على أن حبه ومقته جزاءً لعملهم وَأَنَّهُ يُحِبُّهُمْ إذَا اتَّقَوْا وَقَاتَلُوا؛ وَلِهَذَا رَغَّبَهُمْ فِي الْعَمَلِ بِذَلِكَ"؛ يعني رغبهم الله فيما كان السبب في محبته، كَمَا يُرَغِّبُهُمْ بِسَائِرِ مَا يَعِدُهُمْ بِهِ؛ وَجَزَاءُ الْعَمَلِ بَعْدَ الْعَمَلِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إذْ تُدْعَوْنَ إلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ [غافر:10] فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَمْقُتُهُمْ إذْ يَدْعُونَ إلَى الْإِيمَانِ فَيَكْفُرُونَ"؛ يعني مقتهم بعد كفرهم، حينما دعوا إلى الإيمان لا قبل ذلك.

قال: "وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18] فَقَوْلُهُ: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ؛ بَيَّنَ أَنَّهُ رَضِيَ عَنْهُمْ هَذَا الْوَقْتَ" الرضا يكون بعد مبايعتهم تحت الشجرة ودليل ذلك قال: "فَإِنَّ حَرْفَ إذْ ظَرْفٌ لِمَا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُ ذَاكَ الْوَقْتَ رَضِيَ عَنْهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْعَمَلِ)"؛ يعني لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ، "إذ" مضى؛ يعني الرضا من الله كان بعد  المبايعة، رضي عنهم بسبب ذلك العمل، وأثابهم عليه، فالرضي مسبب، والبيعة سبب.

قال رحمه الله: "وَأَثَابَهُمْ عَلَيْهِ وَالْمُسَبِّبُ لَا يَكُونُ قَبْلَ سَبَبِهِ وَالْمُوَقَّتُ بِوَقْتِ لَا يَكُونُ قَبْلَ وَقْتِهِ ". فالرضا مسبب والبيعة سبب، فالرضا مؤقت للبيعة، فالمسبب لا يكون قبل السبب، والمؤقت لَا يَكُونُ قَبْلَ وَقْتِهِ؛ وهذا يبيِّن بطلان ما أقره الأشاعرة، من أن الرضا، والغضب، والمحبة لا يكون  إلا بعد موافاة الله على ذلك.

(المتن)

وَإِذَا كَانَ رَاضِيًا عَنْهُمْ مِنْ جِهَةٍ فَهَذَا الرِّضَى الْخَاصُّ الْحَاصِلُ بِالْبَيْعَةِ لَمْ يَكُنْ إلَّا حِينَئِذٍ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ ([7]) أَنَّهُ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ رَضِيتُمْ؛ فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِك فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؛ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حَصَلَ لَهُمْ هَذَا الرِّضْوَانُ الَّذِي لَا يَتَعَقَّبُهُ سُخْطٌ أَبَدًا. وَدَلَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الرِّضْوَانِ قَدْ يَتَعَقَّبُهُ سُخْطٌ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ ([8]) فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، يَقُولُ: كُلٌّ مِنْ الرُّسُلِ: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبْ بَعْدَهُ مِثْلَهُ.

وَفِي الصِّحَاحِ ([9]): عَنْ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ: لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ بِأَرْضِ دَوِيَّةٍ مُهْلِكَةٍ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَطَلَبَهَا فَلَمْ يَجِدْهَا؛ فَاضْطَجَعَ يَنْتَظِرُ الْمَوْتَ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ إذَا دَابَّتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ - وَفِي رِوَايَةٍ - كَيْفَ تَجِدُونَ فَرَحَهُ بِهَا؟ قَالُوا: عَظِيمًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ قَالَ: لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ

وَكَذَلِكَ ضَحِكُهُ إلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ كِلَاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ([10]).؛ وَضَحِكُهُ إلَى الَّذِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ آخِرَ النَّاسِ وَيَقُولُ أَتَسْخَرُ بِي وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ فَيَقُولُ: لَا وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ([11])، وَكُلُّ هَذَا فِي " الصَّحِيحِ ".

وَفِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ: تَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْت([12]) وَالْقَدِيمُ لَا يُتَصَوَّرُ طَلَبُهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: إنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَقَالَ: وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ.

فَهَذَا التَّوَلِّي لَهُمْ جَزَاءُ صَلَاحِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ وَمُسَبِّبٌ عَنْهُ فَلَا يَكُونُ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ إنَّمَا صَارُوا صَالِحِينَ وَمُتَّقِينَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ؛ لَكِنْ تَعَلَّقَ بِكَوْنِهِمْ مُتَّقِينَ وَصَالِحِينَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّوَلِّيَ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ مِثْلَ كَوْنِهِ مَعَ الْمُتَّقِينَ وَالصَّالِحِينَ بِنَصْرِهِ وَتَأْيِيدِهِ؛ لَيْسَ ذَلِكَ قَبْلَ كَوْنِهِمْ مُتَّقِينَ وَصَالِحِينَ.

وَهَكَذَا الرَّحْمَةُ قَالَ ﷺ: الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ([13]).

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ عَلَّقَ الرِّضَا بِهِ تَعْلِيقَ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ وَالْمُسَبِّبِ بِالسَّبَبِ وَالْجَزَاءِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الشَّرْطِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ. يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَشَاءُ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ؛ فَإِذَا ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ الزَّمَانِ.

فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَرَادَ كَوْنَهُ. قَالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ فَبَيَّنَ فِيهِ أَنَّهُ سَيَرَى ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إذَا عَمِلُوهُ.

(الشرح)

فإنَّ المؤلِّف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بيَّن فيما سبق مذهب الأشاعرة والكُلَّابيَّة في مسمَّى الإيمان، وأنَّ مسمَّى الإيمان عندهم هو التصديق، واختلفوا في اشتراط الموافاة، فذهب الأكثرون من الأشاعرة إلى أنه يشترط في صحة الإيمان، وتسمية كونه مؤمنا أن يموت على الإيمان، وهو ما يوافي به ربه.

وعلى ذلك فلا يسمَّى مؤمن في حال الحياة، حتى يموت على ذلك، فلذلك يستثنون، فلذلك يقولون: أنا مؤمن إن شاء الله، فالإستثناء راجع إلى أنه لا يدري ماذا يختم عليه.

وعلى ذلك فلا يسمى الإنسان وليًّا لله في حال الحياة حتى يعلم أنه مات على الإيمان، فإذا عاش في حياته مؤمنا ثُمَّ مات على الكُفر، فإنه في حال إيمانه يكون عدوًّا لله عندهم؛ لأن العبرة بالموافاة.

وكذلك الكافر الذي يعيش في حياته كافرًا، ثُمَّ يموت على الإيمان فإنهم يقولون: لم يزل وليًّا لله حتى و لو كان كافرًا؛ لأنَّ العبرة بالموافاة.

وشيخ الإسلام رحمه الله يردُّ عليهم ويبيِّن بطلان هذا القول، وهو اشتراط الموافاة على الإيمان.

وكذلك أيضًا تسميته مؤمنا،  ووليًّا لله ومرضيا عنه، إنما هذا باعتبار الإيمان فإذا كان مؤمنًا، فإنه يكون وليًّا لله ومرضيا عنه، فإذا تغيَّر حاله بعد ذلك وارتد -والعياذ بالله- فإن الله يسخط عليه ويكون عدوًّا لله.

وكذلك العكس؛ فالكافر في حال كُفْره عدوًّا لله ويبغضه الله، وإذا مَنَّ الله عليه بالإسلام والإيمان فإنه يكون وليًّا لله ومؤمنا به، والمؤلف رحمه الله سرد الأدلة الكثيرة التي تُبيِّن أنَّ الرضا يكون بعد الإيمان، وكذلك الولاية تكون بعد الإيمان، والعداوة والبغض تكون بعد الكُفر.

يعني في حال كفره يكون عدوًّا لله، وفي حال إيمانه فهو ولي لله، ثُمَّ إذا تغيَّرت حال كل واحد منهما فإنه بعد ذلك يسلب هذه الصفة، ولا يكون وليًّا لله الكافر، المؤمن إذا ارتد لا يكون وليًّا لله بعد ردته، والكافر لا يكون عدوًّا لله بعد إيمانه.

ومن الأدلة التي استدلَّ بها المؤلِّف قول الله تعالى: في سورة الفتح، لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، بيَّن المؤلِّف رحمه الله أنه رضي عنهم هذا الوقت بعد البيعة، فإنَّ حرف "إذ" خاصُّ بما مضى من الزمان، فعلم أنَّه  في ذلك الوقت رضي عنهم بسبب هذا العمل.

قال المؤلِّف رحمه الله: "وَإِذَا كَانَ رَاضِيًا عَنْهُمْ مِنْ جِهَةٍ فَهَذَا الرِّضَى الْخَاصُّ الْحَاصِلُ بِالْبَيْعَةِ لَمْ يَكُنْ إلَّا حِينَئِذٍ"؛ يعني الرضا الخاص إنما حصل بعد البيعة.

قال: "كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ رَضِيتُمْ؛ فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِك فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؛ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا". والحديث ثابت في الصحيحين ([14])وغيرهما، ووجه الدلالة بيَّنه المؤلِّف رحمه الله، وهذا يدلُّ على أنه في ذلك الوقت حصل لهم الرضوان، الذي لا يتعقبه سخط أبدًا؛ يعني في حال كلام الله مع أهل الجنة في قوله: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي؛ في هذا الوقت أحله عليهم.

وقال رحمه الله: وَدَلَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الرِّضْوَانِ قَدْ يَتَعَقَّبُهُ سُخْطٌ". فهَذَا الرِّضْوَانُ الَّذِي أحله على أهل الجنة لَا يَتَعَقَّبُهُ سُخْطٌ أَبَدًا". وهو من مفهومه يَدَلَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الرِّضْوَانِ قَدْ يَتَعَقَّبُهُ سُخْطٌ"، فالمؤمن في حال الدنيا يرضى الله عنه، فإذا ارتد -والعياذ بالله- وفسق سخط الله عليه.

قال المؤلِّف: "وَفِي الصَّحِيحَيْنِ([15]) فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ يَقُولُ: كُلٌّ مِنْ الرُّسُلِ: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ. وَلَنْ يَغْضَبْ بَعْدَهُ مِثْلَهُ. هذا حديث الشفاعة المعروف الذي رواه الشيخان وغيرهما، وأن حينما يأتي الناس و يأتون آدم يطلبون منه الشفاعة عند الله حتى يريحهم من هذا الموقف، ثم يعتذر، ثُمَّ يأتون نوحا، ثُمَّ يعتذر، ثم يأتون إبراهيم ثُمَّ يعتذر، ثُمَّ يأتون موسى ثُمَّ يعتذر، ثُمَّ يأتون عيسى ثُمَّ يعتذر، ثُمَّ يأتون النبي ﷺ، فيقول: أَنَا لَهَا، وكل واحد من الأنبياء يعتذر ويقول: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ. وَلَنْ يَغْضَبْ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وفيه إثبات الغضب لله ، والردُّ على من أنكر صفة  الغضب من الأشاعرة والمعتزلة وغيرهم.

ووجه الدلالة أنه قال: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ، فالغضب عندما كان ذلك اليوم، يوم القيامة، لا قبله، وهذا يدلُّ على اتصاف الله بالصفات الفعلية، وأن الله يغضب إذا شاء، ويرضى إذا شاء، خلافا للأشاعرة والكُلَّابية، وفيه ردٌّ على الأشاعرة الذين قالوا: إنَّ الغضب والرضا ليست من الصفات الفعلية التي تتعلَّق بالمشيئة  والإختيار،  وإنما هي تابعة لعلم الله.

وهذا باطل، فإن الحديث صريح في أن الغضب، قال: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا.

 وفيه أن الغضب يتفاوت، فقوله: الْيَوْمَ، هذا هو موضع الرد على الأشاعرة.

قال: "وَفِي " الصِّحَاحِ([16]): عَنْ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ:لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ بِأَرْضِ دَوِيَّةٍ مُهْلِكَةٍ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَطَلَبَهَا فَلَمْ يَجِدْهَا؛ فَاضْطَجَعَ يَنْتَظِرُ الْمَوْتَ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ إذَا دَابَّتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ - وَفِي رِوَايَةٍ - كَيْفَ تَجِدُونَ فَرَحَهُ بِهَا؟ قَالُوا: عَظِيمًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ قَالَ:لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ

والحديث معروف رواه البخاري والشيخان وغيرهما، ووجه الدلالة أنه قال: لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ فيه وصف  الله تعالى بالفرح كما يليق  بجلالته وعظمته، وأنَّ الفرح يكون بعد التوبة لا قبلها، وهذا فيه الردُّ على الأشاعرة الذين ينكرون الصفات الفعلية ويقولون: لا يمكن أن يفرح بعد التوبة، وإنما يكون الفرح مستمر، من الصفات الثابتة تابع للعلم.

قال المؤلف رحمه الله: "وَكَذَلِكَ ضَحِكُهُ إلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ كِلَاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ" ورواه الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ، قال: يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ يَدْخُلاَنِ الجَنَّةَ: يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيُقْتَلُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى القَاتِلِ، فَيُسْتَشْهَدُ.

وكذلك الحديث الآخر، "وَضَحِكُهُ إلَى الَّذِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ آخِرَ النَّاسِ وَيَقُولُ أَتَسْخَرُ بِي وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ فَيَقُولُ: لَا وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ. وَكُلُّ هَذَا فِي الصَّحِيحِ"([17]).

وهو حديث طويل في صحيح البخاري ومسلم في كتاب الإيمان، وفيه أن هذا الرجل هو آخر أهل النار خروجا وآخر أهل الجنة دخولًا، وفيه أنه إذا أقبل على باب الجنة خيل إليه أنها ملأى، فيقول الله له: أدخل الجنة، فيقول يا ربي ملأى، ليس لي مكان، وفيه أنه يقول: أَتَسْخَرُ بِي وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ فَيَقُولُ: لَا وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ.

وفيه أن الله تعالى يقول أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ: لَكَ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، فَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ.

ووجه الدلالة: أن ضحك الرب ، إنما كان بعد حصول الواقعة بين الرجلين، بعد قتل أحدهما واستشهاده ثم إيمان الآخر، وكذلك ضحك الله إلى هذا الرجل بعد خروجه من النار وبعد كلام الله معه، حصل الضحك، فدلَّ على أن الضحك بعد ذلك لا قبل ذلك، ففيه الرد على الأشاعرة الذين يقولون: لا يمكن أن يكون الضحك بعد ذلك، ولا يمكن أن يكون الولاية، لا يمكن أن تكون الضحك متأخر، قبل ذلك؛ لأن هذا الرجل الذي قتل، الذي كان كافرًا لم يزل وليا لله في حال كفره، والنبي بيَّن  أنه إنما يضحك منه بعد إيمانه.

ثم قال المؤلف رحمه الله: "وَفِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ: تَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْت". هذا دعاء القنوت الذي علمه النبي للحسن بن علي كلمات القنوت، اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ. ووجه الدلالة: أنَّ النبي علم الحسن أن يقول: «وتولني فيمن توليت»، دعاء لله يدعو ربه ويقول: «تولني فيمن توليت»؛ يعني تولني في المستقبل.

قال: "وَالْقَدِيمُ لَا يُتَصَوَّرُ طَلَبُهُ" لو كان التولي قديم كما يقول الأشاعرة، فكيف يطلب القديم؟ لا يتصور طلب القديم، إنما الذي يطلب هو الذي يكون في المستقبل، لا يطلب شيء مضى، الأشاعرة يقولون: لم يزل الله  متوليه، لم يزل الله متوليه، يعني المؤمن لم يزل الله متوليه؛ الذي يموت على الإيمان.

فالمؤلف يقول: لو كان التولي قديما فلا حاجة لطلب شيء مضى، طلب شيء حاصل وإنما التولي يكون في المستقبل، والقديم لا يتصور طلبه. قال المؤلف: "وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: إنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وَقَالَ: وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ.

قال المؤلف -رحمه الله-: (فَهَذَا التَّوَلِّي لَهُمْ جَزَاءُ صَلَاحِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ وَمُسَبِّبٌ عَنْهُ) فالله -تعالى- وليهم بعد أن كانوا صالحين، جازاهم على ذلك؛ فالتولي جزاء ومسبب، والجزاء لا يكون إلا بعد الشرط، والمسبب لا يكون إلا بعد السبب، فالتولي إنما كان بعد تَقْوَاهُمْ وَمُسَبِّبٌ عَنْهُ فَلَا يَكُونُ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ، وهذا واضح في الرد على الأشاعرة الذي يقولون:  لم يزل الرب متولي المؤمن.

قال المؤلف: هذا جزاء صلاحهم وتقواهم ومسبب عنه فلا يكون متقدمًا عليه، "وَإِنْ كَانَ إنَّمَا صَارُوا صَالِحِينَ وَمُتَّقِينَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ؛ لَكِنْ تَعَلَّقَ بِكَوْنِهِمْ مُتَّقِينَ وَصَالِحِينَ". لا شك أنهم ما صاروا صالحين ومتقين إلا  بفضله تعالى وإحسانه وتقديره، إلا أن التولي متعلق بكونهم متقين، لما كانوا متقين وصالحين بعد أن وفقهم الله للتقوى والصلاح تولاهم الله.

فقال المؤلف رحمه الله: " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّوَلِّيَ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ"؛ يعني بعد التقوى والصلاح لا قبلها، والأشاعرة يقولون المتقي والصالح بم يزل الله متوليه، منذ إيمانه إلى ما لانهاية، وهذا باطل، لو كان لم يزل متوليه ما كان هناك حاجة للدعاء، ولما كانت الولاية مسببة عن التقوى وجزاءً له.

ولذلك قال المؤلف: " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّوَلِّيَ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ مِثْلَ كَوْنِهِ مَعَ الْمُتَّقِينَ وَالصَّالِحِينَ بِنَصْرِهِ وَتَأْيِيدِهِ"؛ يعني معهم في حال تقواهم وفي حال صلاحهم لا قبل ذلك.

ولهذا قال المؤلف: " هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ مِثْلَ كَوْنِهِ مَعَ الْمُتَّقِينَ وَالصَّالِحِينَ بِنَصْرِهِ وَتَأْيِيدِهِ لَيْسَ ذَلِكَ قَبْلَ كَوْنِهِمْ مُتَّقِينَ وَصَالِحِينَ"، قالوا: "وَهَكَذَا الرَّحْمَةُ قَالَ ﷺ: الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ. وهذا الحديث رواه التِّرْمِذِيُّ والحاكم في المستدرك وهو حَدِيثٌ صَحِيحٌ"([18]).

يقول النبي ﷺ: الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ. ووجه الدلالة: أن الرحمة تكون بعد رحمتهم، جزاء لهم فمن رحم الخلق رحمه الله، الجزاء من جنس العمل الراحمون يرحمهم الرحمن، فجعل رحمته سبحانه جزاءً لهم على رحمتهم، ومسبب عنها، فدلَّ على أنه قبل أن يرحموا الناس لم تكن لهم الرحمة، وهذا واضح في الرد على الأشاعرة الذين يرون أن الرب لم يزل يرحمهم.

"وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ عَلَّقَ الرِّضَا بِهِ تَعْلِيقَ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ وَالْمُسَبِّبِ بِالسَّبَبِ وَالْجَزَاءِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الشَّرْطِ". وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ إذا الرضا بعد الشكر لا قبله فمن شكر الله رضي عنه، والأشاعرة يقولون: لم يزل مرضي عنه مادام أنه مؤمن، فهو لم يزل مرضيا عنه.

المؤلف رحمه الله قال: إنما الرضا لم يكن إلا بعد الشكر؛ لأنه علَّق الرضا بالشُّكر تعليق الجزاء بالشرط، وتعليق المسبب بالسبب، والجزاء يكون بعد الشرط.

"وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَشَاءُ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ". قَوْلُهُ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ؛ يعني دخولهم إنما كان بعد مشيئة الله لا قبلها، والأشاعرة يقولون لم يزالوا كذلك.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فَإِذَا ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ الزَّمَانِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَرَادَ كَوْنَهُ. قَالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ". فقول الله بعد الإرادة لا قبلها، فرتَّب القول على الإرادة ترتب الجزاء على الشرط، ولذلك قال: "(فَإِذَا) ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ الزَّمَانِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَرَادَ كَوْنَهُ، قَالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ فَبَيَّنَ فِيهِ أَنَّهُ سَيَرَى ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إذَا عَمِلُوهُ". إذا عملوا فسيراه الله لا قبله، فدل على أن فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ  مرتب على العمل ترتيب الجزاء على الشرط.

كل الأدلة واضحة في الرد على الأشاعرة الذين يقولون: لم يزل المؤمن مرضيا عنه ومحبوبًا لله، إن كان يموت على الإيمان وإن كان في حال كفره، ولو كان في حال الحياة كافرا فإنه مرضي عنه، والمؤمن الذي تتغير حاله ويرتد والعياذ بالله لم يزل عدوًا لله ولو  كان في وقت إيمانه، وهذا من أبطل الباطل، وهذه النصوص الكثيرة كلها واضحة في الرد عليهم وبطلان ما قرروه.

(المتن)

وَالْمَأْخَذُ الثَّانِي فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ يَتَضَمَّنُ فِعْلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عَبْدَهُ كُلَّهُ؛ وَتَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ كُلِّهَا؛ فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ: أَنَا مُؤْمِنٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَقَدْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ مِنْ الْأَبْرَارِ الْمُتَّقِينَ الْقَائِمِينَ بِفِعْلِ جَمِيعِ مَا أُمِرُوا بِهِ؛ وَتَرْكِ كُلِّ مَا نُهُوا عَنْهُ فَيَكُونُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ.

وَهَذَا مِنْ تَزْكِيَةِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ وَشَهَادَتِهِ لِنَفْسِهِ بِمَا لَا يَعْلَمُ وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ صَحِيحَةً لَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْهَدَ لِنَفْسِهِ بِالْجَنَّةِ إنْ مَاتَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ وَلَا أَحَدَ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ بِالْجَنَّةِ؛ فَشَهَادَتُهُ لِنَفْسِهِ بِالْإِيمَانِ كَشَهَادَتِهِ لِنَفْسِهِ بِالْجَنَّةِ إذَا مَاتَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ؛ وَهَذَا مَأْخَذُ عَامَّةِ السَّلَفِ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَثْنُونَ وَإِنْ جَوَّزُوا تَرْكَ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَعْنَى آخَرَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(الشرح)

المؤلف رحمه الله بين المأخذ الثاني في الإستثناء، سبق أن المؤلف رحمه الله بيَّن أن الذين يستثنون في الإيمان سيقول أحدهم: أنا مؤمن إن شاء الله، له مأخذان:

المأخذ الأول: مأخذ أهل البدع الأشاعرة والكلابية، فيقولون: إن الاستثناء راجع للموافاة؛ لأن الإنسان لا يدري ما يختم له، ماذا يختم عليه عمله، وماذا يموت عليه، وماذا يوافي به ربه، فلهذا يستثني؛ يقول: أنا مؤمن إن شاء الله،لأنه لا يدري هل يموت على الإيمان أم لا؟ لأن الإيمان المعتبر عندهم هو الموافاة، هذا مأخذ أهل البدع.

والمأخذ الثاني: هو مأخذ أهل السنَّة، وهو أن الاستثناء ليس راجع للموافاة، كما يقول الكُلَّابية والأشعرية، وإنما هو راجع للإيمان المطلق، راجع إلى أن الإيمان المطلق يتضمن فعل الأوامر وترك النواهي.

الإيمان المطلق إذا أطلق يتضمن فعل ما أوجب الله عليه، وترك ما حرم الله عليه، والواجبات متعددة والمحرمات متعددة، والإنسان لا يزكي نفسه ولا يجزم بأنه أدى ما عليه فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله، هذا مأخذ أهل السنة وأهل  الحق، خلافًا لأهل البدع  الذين مأخذهم أن الإستثناء راجع إلى الموافاة، وأن الإنسان لا يدري ما يختم له من العمل، وماذا يوافي به ربه.

ولهذا قال رحمه الله : "وَالْمَأْخَذُ الثَّانِي فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ يَتَضَمَّنُ فِعْلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عَبْدَهُ كُلَّهُ؛ وَتَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ كُلِّهَا؛ فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ: أَنَا مُؤْمِنٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَقَدْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ مِنْ الْأَبْرَارِ الْمُتَّقِينَ الْقَائِمِينَ بِفِعْلِ جَمِيعِ مَا أُمِرُوا بِهِ؛ وَتَرْكِ كُلِّ مَا نُهُوا عَنْهُ فَيَكُونُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ؛ وَهَذَا مِنْ تَزْكِيَةِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ وَشَهَادَتِهِ لِنَفْسِهِ بِمَا لَا يَعْلَمُ". لا يزكي الإنسان نفسه، بل يزري على نفسه ولا يجزم بأنه  أدى ما عليه؛ الواجبات يلحقها النقص والخلل، والمحرمات قد يفعل شيء من المحرمات والمكروهات، والإنسان محل الخطأ، وخير الخطائين التوابون، قد يغلب عليه الهوى قد يفعل شيئا بسبب ظلم النفس.

فالمقصود: أن مأخذ أهل الحق هو هذا،أهل السنة والجماعة، مأخذهم في الاستثناء يعني وجه كونهم يستثنون: أنا مؤمن إن شاء الله؛ أن هذا راجع  إلى أن الإيمان المطلق يتضمن فعل الواجبات وترك المحرمات، والإنسان لا يجزم أنه أدى ما عليه ولهذا يقول: أنا مؤمن إن شاء الله.

أما أهل البدع فإنهم يستثنون ويقولون: أن الإيمان المعتبر عند الله هو الذي يوافي به الإنسان ربه، ولا يدري الإنسان ما يوافي به ربه فلهذا يستثني، أما الإيمان عندهم هو التصديق، فصار شيء واحد ليس متعددًا، يعلم الإنسان نفسه أنه مصدق لكن لا يدري ماذا يوافي به ربه؛ فلهذا يستثني، وفرق بين المأخذين.

يقول المؤلف رحمه الله: "وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ صَحِيحَةً لَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْهَدَ لِنَفْسِهِ بِالْجَنَّةِ إنْ مَاتَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ وَلَا أَحَدَ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ بِالْجَنَّةِ". يعني يقول المؤلف رحمه الله: لو كانت الشهادة صحيحة عندما يقول: أنا مؤمن، لو كانت الشهادة صحيحة حينما يقول أنا: مؤمن بإطلاق ولا يستثني لكان ينبغي أن يشهد لنفسه بشيء لا يعلمه، ولكان ينبغي أن يشهد لنفسه بالجنة، إن مات على هذا الحال.

قال المؤلف: " وَلَا أَحَدَ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ بِالْجَنَّةِ"؛ لأن هذا مغيب عند الله ، ولا يشهد لأحد بالجنة إلا من شهدت له النصوص، كالعشرة المبشرين بالجنة والحسن والحسين، وبلال وعمر وعبد الله بن سلام، وجماعة وثابت ابن قيس وسلمان، وغيرهم ممن شهد النبي لهم بالجنة.

لو كان الإنسان يشهد لنفسه بالجنة لم يكن هناك فائدة لمن شهد له النبي بالجنة بخصوصة ولصار كل مؤمن يشهد لنفسه بالجنة، وهذا باطل.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَلَا أَحَدَ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ بِالْجَنَّةِ؛ فَشَهَادَتُهُ لِنَفْسِهِ بِالْإِيمَانِ كَشَهَادَتِهِ لِنَفْسِهِ بِالْجَنَّةِ إذَا مَاتَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ؛ وَهَذَا مَأْخَذُ عَامَّةِ السَّلَفِ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَثْنُونَ وَإِنْ جَوَّزُوا تَرْكَ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَعْنَى آخَرَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى"؛ يعني مأخذهم أن الإيمان المطلق يتضمن فعل الأوامر وترك النواهي، والإنسان لا يجزم أنه أدى  ما عليه ولا يزكي نفسه، ولا يشهد لنفسه بالجنة، فلهذا يستثني.

قال: "وَإِنْ جَوَّزُوا تَرْكَ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَعْنَى آخَرَ"؛ يعني قد يجوزون ترك الِاسْتِثْنَاءِ بمعنى آخر إذا نظر إلى أصل الإيمان، وأراد أصل الإيمان فإنه لا يستثني، وكذلك إذا أراد عدم علمه بالعاقبة، فيستثني، وكذلك إذا أراد التبرك بذكر اسم الله أو أراد الإسلام راجع إلى الإيمان المطلق، أن الإيمان المطلق هو الذي يتضمن فعل الأوامر وترك النواهي يستثني، فيستثني في هذه الحالة، ويستثني إذا أراد التبرك بذكر اسم الله.

وإذا أراد كذلك عدم علمه بالعاقبة يستثني، أما إذا أراد أصل الإيمان فلا يستثني؛ لأنه لا يشك في أصل الإيمان؛ ولهذا يقول المؤلف: " وَإِنْ جَوَّزُوا تَرْكَ الِاسْتِثْنَاءِ بمعنى آخر"، وهو ما إذا أرادوا أصل الإيمان.

(المتن)

قَالَ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ يَعْنِي أَبَا دَاوُد السجستاني قَالَ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: قِيلَ لِي أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ؟ قُلْت نَعَمْ؛ هَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ؟

هَلْ النَّاسُ إلَّا مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ؟ فَغَضِبَ أَحْمَد وَقَالَ: هَذَا كَلَامُ الْإِرْجَاءِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ. مِنْ هَؤُلَاءِ.

ثُمَّ قَالَ أَحْمَد: أَلَيْسَ الْإِيمَانُ قَوْلًا وَعَمَلًا قَالَ لَهُ الرَّجُلُ: بَلَى. قَالَ فَجِئْنَا بِالْقَوْلِ. قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَجِئْنَا بِالْعَمَلِ. قَالَ: لَا. قَالَ: فَكَيْفَ تَعِيبُ أَنْ يَقُولَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ وَيَسْتَثْنِي.

قَالَ أَبُو دَاوُد: أَخْبَرَنِي أَحْمَد بْنُ أَبِي شريح أَنَّ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ كَتَبَ إلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ فَجِئْنَا بِالْقَوْلِ وَلَمْ نَجِئْ بِالْعَمَلِ فَنَحْنُ نَسْتَثْنِي فِي الْعَمَلِ.

وَذَكَرَ الْخَلَّالُ هَذَا الْجَوَابَ مِنْ رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ. وَقَالَ: زَادَ الْفَضْلُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ يَحْمِلُ هَذَا عَلَى التَّقَبُّلِ؛ يَقُولُ: نَحْنُ نَعْمَلُ وَلَا نَدْرِي يُتَقَبَّلُ مِنَّا أَمْ لَا؟

قُلْت: وَالْقَبُولُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِهِ كَمَا أُمِرَ، فَكُلُّ مَنْ اتَّقَى اللَّهَ فِي عَمَلِهِ فَفَعَلَهُ كَمَا أُمِرَ فَقَدْ تُقُبِّلَ مِنْهُ. لَكِنْ هُوَ لَا يَجْزِمُ بِالْقَبُولِ لِعَدَمِ جَزْمِهِ بِكَمَالِ الْفِعْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60] قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهُوَ الرَّجُلُ يَزْنِي وَيَسْرِقُ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَخَافُ؟ فَقَالَ: لا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ بَلْ هُوَ الرَّجُلُ يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يُتَقَبَّلَ مِنْهُ.([19]).

(الشرح)

فإن المؤلف رحمه الله بين فيما سبق مأخذ الاستثناء في الإيمان وهو قول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله، وأن المستثنين في الإيمان لهم مأخذان:

المأخذ الأول مأخذ أهل البدع من الكلابية و الأشاعرة، يقول أحدهم: أنا مؤمن إن شاء الله، فالاستثناء راجع إلى الموافاة، وهو موافاة الإنسان ربه، فهو يستثني لأنه لا يدري ماذا يوافي به ربه، هل يوافي ربه بالإيمان وماذا يختم له من العمل.

والمأخذ الثاني: مأخذ أهل الحق من أهل السنة والجماعة، فإنهم يستثنون؛ لأن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به كله، وترك المحرمات كلها، والإنسان لا يجزم أنه أدى ما عليه، بل يزري على نفسه فلهذا يستثني ويقول أنا مؤمن إن شاء الله.

ثُمَّ سرد المؤلف رحمه الله الأدلة التي تدلُّ لمذهب أهل الحق، ومذهب أهل السنة والجماعة، التي تدلُّ على أن الاستثناء في الإيمان راجع إلى العمل، وأن الأعمال لا يجزم الإنسان بأنه أدى ما عليه، والإنسان يزري على نفسه والعلم يلحقه النقص، ولهذا يستثني ويقول: أنا مؤمن إن شاء الله.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "قَالَ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ"؛ يَعْنِي أَبَا دَاوُد السجستاني"؛ أبو داود هو صاحب السنن، وهو تلميذ الإمام أحمد رحمه الله.

"قَالَ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: قِيلَ لِي أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ؟ قُلْت نَعَمْ؛ هَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ؟ هَلْ النَّاسُ إلَّا مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ؟"؛ يعني هذا الرجل يسأل الإمام أحمد يقول له: قيل لي -يعني قال له شخص-: أمؤمن أنت؟ فقلت نعم. هل علي في ذلك شيء؟ هل الناس إلا مؤمن وكافر؟

"فَغَضِبَ أَحْمَد وَقَالَ: هَذَا كَلَامُ الْإِرْجَاءِ"؛ المرجئة هم الذين يقولون: أنا مؤمن ولا يستثني؛ لأن المرجئة يرون أن الإيمان هو التصديق ويعلم من نفسه أنه صدق، فلهذا لا يستثني، أما أهل السنة والجماعة فيقولون: إن مسمى الإيمان التصديق والعمل، والقول ولا يجزم الإنسان أنه أدى ما عليه من الأعمال، بل النقص يلحق الأعمال؛  فلهذا يستثني، أما المرجئة فالإيمان عندهم هو التصديق، ولا يستثني؛ لأنه بزعمه يعلم أنه مؤمن وأنه يعلم أنه مصدق.

ولهذا غضب الإمام أحمد رحمه الله على هذا الرجل وقال: هذا كلام الْإِرْجَاءِ.

"قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ مِنْ هَؤُلَاءِ ثُمَّ قَالَ أَحْمَد: أَلَيْسَ الْإِيمَانُ قَوْلًا وَعَمَلًا، يخاطب الرجل السائل، قَالَ لَهُ الرَّجُلُ: بَلَى. قَالَ فَجِئْنَا بِالْقَوْلِ. قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَجِئْنَا بِالْعَمَلِ. قَالَ: لَا"؛ يعني يسأل الإمام أحمد هذا الرجل ويقول له: أليس الإيمان قولًا وعملًا؟ قال الرجل: بلى. قال: فجئنا بالقول. يعني صدقنا بالقول قول العمل وقول اللسان، لكن هل جئنا بالعمل كاملًا،  قال: هل جئنا بالعمل كاملًا، هل تصدق أنك أديت العمل كامل، فقال الرجل: لا "فقَالَ: فَكَيْفَ تَعِيبُ أَنْ يَقُولَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ وَيَسْتَثْنِي.

قَالَ أَبُو دَاوُد: أَخْبَرَنِي أَحْمَد بْنُ أَبِي شريح أَنَّ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ كَتَبَ إلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ فَجِئْنَا بِالْقَوْلِ وَلَمْ نَجِئْ بِالْعَمَلِ فَنَحْنُ نَسْتَثْنِي فِي الْعَمَلِ"؛ يعني يبيِّن له أنهم يستثنون من أجل العمل.

"وَذَكَرَ الْخَلَّالُ هَذَا الْجَوَابَ مِنْ رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ"؛ هذا الفضل بن زياد القطان، أبو العباس البغدادي، كان من المقدمين عند الإمام أحمد، وممن روى عنه، وتفرد ببعض المسائل، وذكر الخلال هذا الجواب، وهو قول ابن زياد.

"وَقَالَ: زَادَ الْفَضْلُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ يَحْمِلُ هَذَا عَلَى التَّقَبُّلِ"؛ سليمان بن حرب بن بديع الأزدي، أبو أيوب البصري، من الأئمة الأعلام في الفقه والحديث.

"يَقُولُ: كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ يَحْمِلُ هَذَا عَلَى التَّقَبُّلِ"؛ يعني يحمل الاستثناء على التقبُّل، "يَقُولُ: نَحْنُ نَعْمَلُ وَلَا نَدْرِي يُتَقَبَّلُ مِنَّا أَمْ لَا؟ فلذا نستثني.

قال المؤلف رحمه الله تعليقًا على ذلك، قُلْت: وَالْقَبُولُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِهِ كَمَا أُمِرَ"؛ يعني إن قال: أنا مؤمن وفعل كما أمره الله فهذا يقبل الله منه، أما من يأتي بالقول ولا يأتي بالعمل فلا.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله، قلت: "وَالْقَبُولُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِهِ كَمَا أُمِرَ فَكُلُّ مَنْ اتَّقَى اللَّهَ فِي عَمَلِهِ فَفَعَلَهُ كَمَا أُمِرَ فَقَدْ تُقُبِّلَ مِنْهُ". كل من اتقى الله في العمل وأدى الواجبات وترك المحرمات كما أمر فهذا يقبل الله منه.

قال المؤلف: "لَكِنْ هُوَ لَا يَجْزِمُ بِالْقَبُولِ لِعَدَمِ جَزْمِهِ بِكَمَالِ الْفِعْلِ"؛ يعني هو لا يجزم بالقبول حتى ولو عمل ؛ لأنه لا يدري هل تقبل الله منه أم لا؟ ولا يدري هل كمل الفعل أم لا؟ ولهذا يستثني.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "لَكِنْ هُوَ لَا يَجْزِمُ بِالْقَبُولِ لِعَدَمِ جَزْمِهِ بِكَمَالِ الْفِعْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60]، قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهُوَ الرَّجُلُ يَزْنِي وَيَسْرِقُ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَخَافُ؟ فَقَالَ: لا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ بَلْ هُوَ الرَّجُلُ يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يُتَقَبَّلَ مِنْهُ".

وهذا رواه الإمام أحمد في المسند وابن ماجة في كتاب الزهد، وفيه أن النبي ﷺ أخبر: أن هذه الآية نزلت في من يعمل، ولكنه يخاف ألا يتقبل منه، لأنه لا يدري هل كمل العمل، فدلَّ على أن الاستثناء كما في النصوص كلها وهذه الآثار دلت على أن الاستثناء معلوم عند أهل السنة والجماعة وأنه راجع إلى العمل.

(المتن)

وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: لَا نَجِدُ بُدًّا مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّهُمْ إذَا قَالُوا: مُؤْمِنٌ فَقَدْ جَاءَ بِالْقَوْلِ، فَإِنَّمَا الِاسْتِثْنَاءُ بِالْعَمَلِ لَا بِالْقَوْلِ.

وَعَنْ إسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ قَالَ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: أَذْهَبَ إلَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَالْعَمَلُ الْفِعْلُ، فَقَدْ جِئْنَا بِالْقَوْلِ وَنَخْشَى أَنْ نَكُونَ فَرَّطْنَا فِي الْعَمَلِ؛ فَيُعْجِبُنِي أَنْ يَسْتَثْنِيَ فِي الْإِيمَانِ بِقَوْلِ: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ.

قَالَ: وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَسُئِلَ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ الِاسْتِثْنَاءُ هَاهُنَا عَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَقَعُ؟ قَالَ: عَلَى الْبِقَاعِ لَا يَدْرِي أَيُدْفَنُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي سَلَّمَ عَلَيْهِ أَمْ فِي غَيْرِهِ.

وَعَنْ الْمَيْمُونِيَّ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قَوْلِهِ وَرَأْيِهِ فِي: مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ: أَقُولُ: مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَمُؤْمِنٌ أَرْجُو لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي كَيْفَ الْبَرَاءَةُ لِلْأَعْمَالِ عَلَى مَا اُفْتُرِضَ عَلَيْهِ أَمْ لَا.

وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ أَحْمَد وَأَمْثَالِهِ وَهَذَا مُطَابِقٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُطْلَقَ هُوَ الْقَائِمُ بِالْوَاجِبَاتِ الْمُسْتَحِقُّ لِلْجَنَّةِ إذَا مَاتَ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّ الْمُفَرِّطَ بِتَرْكِ الْمَأْمُورِ أَوْ فِعْلِ الْمَحْظُورِ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ؛ وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُطْلَقَ هُوَ الْبَرُّ التَّقِيُّ وَلِيُّ اللَّهِ فَإِذَا قَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ قَطْعًا كَانَ كَقَوْلِهِ: أَنَا بَرٌّ تَقِيٌّ وَلِيُّ اللَّهِ قَطْعًا.

(الشرح)

المؤلف رحمه الله لا يزال ينقل الآثار عن الإمام أحمد رحمه الله في أن الاستثناء في الإيمان هو قول أهل السنة والجماعة، وأنه راجع إلى الأعمال، وأن الإنسان لا يلزم بأنه أدى الواجبات وترك المحرمات، لا يجد أنه كمل العمل فلذلك يستثني.

وقال المؤلف: " وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ أَبِي طَالِبٍ، هو أبو طالب المكي، قَالَ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هو الإمام أحمد يَقُولُ: لَا نَجِدُ بُدًّا مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ، يعني الاستثناء في الإيمان يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، قال: "لِأَنَّهُمْ إذَا قَالُوا: مُؤْمِنٌ فَقَدْ جَاءَ بِالْقَوْلِ. فَإِنَّمَا الِاسْتِثْنَاءُ بِالْعَمَلِ لَا بِالْقَوْلِ." يعني إذا قال: أنا مؤمن، وشهد أن لا إله إلا  الله بلسانه أتى بالقول، لكن بقي العمل ثم إذا أتى بالعمل لا يدري هل كملة أم لا، فلهذا يستثني.

 قال المؤلف رحمه الله: "وَعَنْ إسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ قَالَ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: أَذْهَبَ إلَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ" كما سبق المؤلف نقل عن [01:06:33] أنه يستثني في الإيمان، قال: "لِأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَالْعَمَلُ الْفِعْلُ فَقَدْ جِئْنَا بِالْقَوْلِ وَنَخْشَى أَنْ نَكُونَ فَرَّطْنَا فِي الْعَمَلِ؛ فَيُعْجِبُنِي أَنْ يَسْتَثْنِيَ فِي الْإِيمَانِ بِقَوْلِ: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ" وهذا واضح في أن الاستثناء إنما هو راجع إلى العمل يقول: القول هذا واضح ما في إشكال، القول يقول: أنا مؤمن، ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله لكن العمل، الأعمال كثيرة والإنسان لا يدري بأنه كمل العمل ولهذا الإنسان يقول نخشى أن نكون فرطنا في العمل، فيعجبنا أن نستثنى في الإيمان نقول: أنا مؤمن إن شاء الله.

قال إسحاق بن إبراهيم: وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، يعني أحمد بن حنبل، وَسُئِلَ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ هذا الحديث رواه الإمام مسلم وأبو داود وأبن ماجة، وأحمد في المسند، يقول: الِاسْتِثْنَاءُ هَاهُنَا عَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَقَعُ؟ سئل الإمام أحمد الاستثناء هنا وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، معناه: أن الإنسان ميت، يعلم أنه يموت، على أي شيء يقع، قَالَ يعني الإمام أحمد: عَلَى الْبِقَاعِ لَا يَدْرِي أَيُدْفَنُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي سَلَّمَ عَلَيْهِ أَمْ فِي غَيْرِهِ"؛ يعني إن شاء الله لا يدري في أي بقعة من الأرض يدفن، هل هو في المكان الذي سلم فيه أم في غيره.

"وَعَنْ الْمَيْمُونِيَّ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قَوْلِهِ وَرَأْيِهِ فِي: مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ: أَقُولُ: مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَمُؤْمِنٌ أَرْجُو".

ثم بين الإمام رحمه الله وجه الاستثناء فقال: لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي كَيْفَ الْبَرَاءَةُ لِلْأَعْمَالِ عَلَى مَا اُفْتُرِضَ عَلَيْهِ أَمْ لَا. لا يدري هل أدى الأعمال على ما أفترض عليه، وبرأت ذمته أو لا.

قال المؤلف: "وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ أَحْمَد وَأَمْثَالِهِ وَهَذَا مُطَابِقٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُطْلَقَ هُوَ الْقَائِمُ بِالْوَاجِبَاتِ الْمُسْتَحِقُّ لِلْجَنَّةِ إذَا مَاتَ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّ الْمُفَرِّطَ بِتَرْكِ الْمَأْمُورِ أَوْ فِعْلِ الْمَحْظُورِ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ؛ يعني بترك شيء من الأوامر، أو فعل المحظور يعني شيء من المحرمات لا يطلق عليه مؤمن لأنه عاصي وإنما يقيد يقال مؤمن ناقص الإيمان أو مؤمن ضعيف الإيمان، أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، قال: وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُطْلَقَ هُوَ الْبَرُّ التَّقِيُّ وَلِيُّ اللَّهِ فَإِذَا قَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ قَطْعًا ولم يستثني كَانَ كَقَوْلِهِ: أَنَا بَرٌّ تَقِيٌّ وَلِيُّ اللَّهِ قَطْعًا." وهذا لا يقوله الإنسان هذا من تزكية النفس، هل يقول الإنسان أنا بر تقي ولي لله قطعًا لا يقول هذا، المؤمن وإنما يزري بنفسه ويقول أنا مؤمن إن شاء الله.

(المتن)

 وَقَدْ كَانَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ مَعَ هَذَا يَكْرَهُونَ سُؤَالَ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ: أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ؟ وَيَكْرَهُونَ الْجَوَابَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ بِدْعَةٌ أَحْدَثَهَا الْمُرْجِئَةُ لِيَحْتَجُّوا بِهَا لِقَوْلِهِمْ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَافِرِ؛ بَلْ يَجِدُ قَلْبَهُ مُصَدِّقًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَيَقُولُ: أَنَا مُؤْمِنٌ فَيُثْبِتُ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ لِأَنَّك تَجْزِمُ بِأَنَّك مُؤْمِنٌ وَلَا تَجْزِمُ؛ بِأَنَّك فَعَلْت كُلَّ مَا أُمِرْت بِهِ؛ فَلَمَّا عَلِمَ السَّلَفُ مَقْصِدَهُمْ صَارُوا يَكْرَهُونَ الْجَوَابَ أَوْ يُفَصِّلُونَ فِي الْجَوَابِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ لَفْظَ " الْإِيمَانِ " فِيهِ إطْلَاقٌ وَتَقْيِيدٌ فَكَانُوا يُجِيبُونَ بِالْإِيمَانِ الْمُقَيَّدِ الَّذِي لَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ شَاهِدٌ فِيهِ لِنَفْسِهِ بِالْكَمَالِ.

وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ إذَا أَرَادَ ذَلِكَ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَقْرِنَ كَلَامَهُ بِمَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ الْكَامِلَ وَلِهَذَا كَانَ أَحْمَد يَكْرَهُ أَنْ يُجِيبَ عَلَى الْمُطْلَقِ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ يُقَدِّمُهُ.

(الشرح)

المؤلف رحمه الله يبين أن الإمام أحمد رحمه الله وغيره من السلف، يكرهون سؤال الرجل لغيره، أمؤمن أنت؛ لأن هذا فيه موافقة للمرجئة الذين يقولون ويعتقدون أن مسمى الإيمان هو التصديق، فإذا امتحنوا الإنسان وقالوا: أمؤمن أنت؟ ثم قال إن شاء الله، قالوا أنت شاك في تصديقك.

فلهذا كان الإمام أحمد وغيره يكرهون هذا السؤال، وصار السلف من أجل ذلك يفصلون، فيقول أحدهم أنا مؤمن بالله ورسوله، يعني مصدق، أما العمل، فإذا أراد العمل فإنه يستثنيه ويقول: أنا مؤمن إن شاء الله.

قال المؤلف رحمه الله: " وَقَدْ كَانَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ مَعَ هَذَا يَكْرَهُونَ سُؤَالَ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ: أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ؟ وَيَكْرَهُونَ الْجَوَابَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ بِدْعَةٌ أَحْدَثَهَا الْمُرْجِئَةُ لِيَحْتَجُّوا بِهَا لِقَوْلِهِمْ؛ لأن قولهم عن الإيمان هو التصديق.

قال: "فَإِنَّ الرَّجُلَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَافِرِ؛ بَلْ يَجِدُ قَلْبَهُ مُصَدِّقًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَيَقُولُ: أَنَا مُؤْمِنٌ فَيُثْبِتُ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ لِأَنَّك تَجْزِمُ بِأَنَّك مُؤْمِنٌ وَلَا تَجْزِمُ؛ بِأَنَّك فَعَلْت كُلَّ مَا أُمِرْت بِهِ؛ فَلَمَّا عَلِمَ السَّلَفُ مَقْصِدَهُمْ صَارُوا يَكْرَهُونَ الْجَوَابَ أَوْ يُفَصِّلُونَ فِي الْجَوَابِ؛" يعني لما علم السلف من مقصد المرجئة أنهم يمتحنون الإنسان ويقولون: أمؤمن أنت؟ فإن قال إن شاء الله قالوا: هذا شاك في إيمانه، صاروا يكرهون الجواب، أو يفصلون في الجواب، فيقول أحدهم: أنا مؤمن بالله ورسوله، مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولكني لا أزكي نفسي، ولا أجزم أني أديت ما على.

ولهذا قال المؤلف: " فَلَمَّا عَلِمَ السَّلَفُ مَقْصِدَهُمْ صَارُوا يَكْرَهُونَ الْجَوَابَ أَوْ يُفَصِّلُونَ فِي الْجَوَابِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ لَفْظَ الْإِيمَانِ فِيهِ إطْلَاقٌ وَتَقْيِيدٌ فَكَانُوا يُجِيبُونَ بِالْإِيمَانِ الْمُقَيَّدِ الَّذِي لَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ شَاهِدٌ فِيهِ لِنَفْسِهِ بِالْكَمَالِ". الإيمان فيه إطلاق وتقييد، فإن أريد أصل الإيمان فهذا ليس فيه أستثنى وإن أريد الإيمان المطلق الذي يستلزم أداء  الواجبات وترك المحرمات، فهذا لابد من الاستثناء.

وكذلك أيضًا إذا أريد المؤمن الذي أدى الواجبات وترك المحرمات، يقال: مؤمن بإطلاق، ويريد المؤمن العاصي، الذي فعل المحرمات وقصر في أداء الواجبات، فلا بد من التقييد، فيقال: مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، مؤمن ضعيف الإيمان.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "  وهذا لأن لفظ الإيمان فِيهِ إطْلَاقٌ وَتَقْيِيدٌ فَكَانُوا يُجِيبُونَ بِالْإِيمَانِ الْمُقَيَّدِ الَّذِي لَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ شَاهِدٌ فِيهِ لِنَفْسِهِ بِالْكَمَالِ"، ولهذا لو سئل كثير من السلف قال: أنا مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.

قال المؤلف رحمه الله: "وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ إذَا أَرَادَ ذَلِكَ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَقْرِنَ كَلَامَهُ بِمَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ الْكَامِلَ وَلِهَذَا كَانَ أَحْمَد يَكْرَهُ أَنْ يُجِيبَ عَلَى الْمُطْلَقِ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ يُقَدِّمُهُ".

(المتن)

قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: نَقُولُ إنَّا مُؤْمِنُونَ؟ قَالَ: وَلَكِنْ نَقُولُ: إنَّا مُسْلِمُونَ؛ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ تَرَكَ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ قَصْدَ الْمُرْجِئَةِ أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ الْقَوْلِ إذَا لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ قَصْدَ الْمُرْجِئَةِ أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ الْقَوْلِ بَلْ يَكْرَهُ تَرْكَهُ لِمَا يَعْلَمُ أَنَّ فِي قَلْبِهِ إيمَانًا وَإِنْ كَانَ لَا يَجْزِمُ بِكَمَالِ إيمَانِهِ؟

قَالَ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنِي أَحْمَد بْنُ أَصْرَمَ المزني أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قِيلَ لَهُ: إذَا سَأَلَنِي الرَّجُلُ فَقَالَ: أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ؟ قَالَ سُؤَالُك إيَّايَ بِدْعَةٌ لَا يَشُكُّ فِي إيمَانِهِ أَوْ قَالَ لَا نَشُكُّ فِي إيمَانِنَا.

قَالَ المزني: وَحِفْظِي أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَقُولُ كَمَا قَالَ طَاوُوسٌ: آمَنْت بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ.

(الشرح)

المؤلف رحمه الله يبيِّن في هذا النقل أن الاستثناء راجع إلى كمال الإيمان، أما أصل الإيمان فليس فيه استثناء.

ولهذا قال المروزي قيل لأبي عبد الله يعني الإمام أحمد بن حنبل نقول: نحن مؤمنون يعني بإطلاق قال: نقول: نحن مسلمون، وذلك أن مسلم يطلق على العاصي بدون قيد، أما الإيمان فلا يطلق على العاصي إلا بقيد.

فلهذا قال الإمام أحمد نقول: نحن مسلمون، أما نقول: نحن مؤمنون فلابد من التقييد، إن شاء الله، وقال أيضًا -يعني المروزي-: "قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: نَقُولُ إنَّا مُؤْمِنُونَ؟ قَالَ: وَلَكِنْ نَقُولُ: إنَّا مُسْلِمُونَ"؛ لأن مسلم يطلق على المقصر في بعض الواجبات أو تارك بعض المحرمات.

قال المؤلف رحمه الله: "وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ تَرَكَ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ قَصْدَ الْمُرْجِئَةِ أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ الْقَوْلِ"... يعلم أن في قلبه إيمان، وإن كان لازم لكمال إيمانه.

يعني المؤلف رحمه الله يبيِّن أن الإمام أحمد لا ينكر على ترك الاستثناء إذا كان قصده أصل الإيمان الذي هو التصديق، فإذا قال: أنا مؤمن وقصده أصل الإيمان الذي هو التصديق فلا يستثني ولا ينكر عليه في هذه الحالة، ولهذا قال: فلا ننكر على من ترك الاستثناء إذا لم يكن قصده قصد المرجئة، إذا كان ما يعتقد اعتقاد المرجئة أن الإيمان هو التصديق، يعتقد أن الإيمان هو التصديق والعمل، لكنه لم يستثني؛ لأنه أراد أصل الإيمان، هذا لا ينكر عليه، ولكنه ترك الاستثناء لما يعلم أن في قلبه إيمانًا.

قال المؤلف رحمه الله: "وَإِنْ كَانَ لَا يَجْزِمُ بِكَمَالِ إيمَانِهِ؟ قَالَ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنِي أَحْمَد بْنُ أَصْرَمَ المزني أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يعين الإمام أحمد رحمه الله، قِيلَ لَهُ: إذَا سَأَلَنِي الرَّجُلُ فَقَالَ: أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ؟ قَالَ سُؤَالُك إيَّايَ بِدْعَةٌ لَا يَشُكُّ فِي إيمَانِهِ أَوْ قَالَ لَا نَشُكُّ فِي إيمَانِنَا." يعني إذا امتحن شخص قال سؤالك هذا بدعه وقال أنا لا اشك في إيمانك.

قَالَ المزني، المزني هذا صاحب الإمام الشافعي هو إسماعيل بن عمرو بن مسلم المزني، قال المزني: وَحِفْظِي أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَقُولُ كَمَا قَالَ طَاوُوسٌ: آمَنْت بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ." يعني إذا سئل وقال له شخص أمؤمن أنت؟ يقول كما قال طاووس، آمَنْت بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ.واليوم الأخر والقدر خيره وشره، يعني مصدق أما العمل فإني أستثني.


([1]) –أخرجه الترمذي رقم (2140)، وابن ماجه رقم (3834) من حديث أنس بن مالك . قال الحافظ الترمذي " هذا حديث حسن".

([2]) –أخرجه أحمد رقم (26133)، وابن أبي شيبة في المصنف رقم (31046) والنسائي في الكبرى رقم (7737) من حديث عائشة رضي الله عنها.

([3]) –رقم (6502)

([4]) –سبق

([5]) – سبق

([6]) –أخرجه البخاري رقم (4712) ومسلم رقم (194) من حديث أبي هريرة .

([7]) – سبق

([8]) –سبق

([9]) –أخرجه مسلم رقم (2744)، من حديث الحارث بن سويد رضي الله عنه، وأخرجه أحمد رقم (18423) من حديث النعمان بن بشير .

([10]) –أخرجه مسلم رقم (1890) عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ قال: يَضْحَكُ اللهُ إِلَى رَجُلَيْنِ، يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ كِلَاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، فَقَالُوا: كَيْفَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُسْتَشْهَدُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ عَلَى الْقَاتِلِ، فَيُسْلِمُ، فَيُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُسْتَشْهَدُ.

([11]) –أخرجه مسلم رقم (187) من حديث عبد الله بن مسعود ، وهو حديث طويل.

([12]) –أخرجه أحمد رقم (1718) ،وأبو داود رقم (1425 ) ، والترمذي رقم (464)، وابن ماجه رقم (1178) من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما .قال الحافظ الترمذي " هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه".

([13]) –أخرجه أحمد رقم (6494) ،وأبو داود رقم (4941) ، والترمذي رقم (1924)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما .

([14]) –سبق

([15]) –سبق

([16]) –سبق

([17]) –سبق

([18]) –سبق

([19]) –أخرجه أحمد رقم (25705) ، والترمذي رقم (3175) من حديث عائشة .

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد