(المتن)
وَقَالَ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنِي حَرْبُ بْنُ إسْمَاعِيلَ وَأَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَحْمَد قَالَ: سَمِعْت سُفْيَانَ يَعْنِي ابْنَ عُيَيْنَة، يَقُولُ: إذَا سُئِلَ أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ؟ لَمْ يُجِبْهُ وَيَقُولُ: سُؤَالُك إيَّايَ بِدْعَةٌ وَلَا أَشُكُّ فِي إيمَانِي، وَقَالَ: إنْ قَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَيْسَ يَكْرَهُ، وَلَا يُدَاخِلُ الشَّكُّ([1]).
فَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ قَالَ: لَا نَشُكُّ فِي إيمَانِنَا، وَإِنَّ السَّائِلَ لَا يَشُكُّ فِي إيمَانِ الْمَسْئُولِ، وَهَذَا أَبْلَغُ، وَهُوَ إنَّمَا يَجْزِمُ بِأَنَّهُ مُقِرٌّ مُصَدِّقٌ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ لَا يَجْزِمُ بِأَنَّهُ قَائِمٌ بِالْوَاجِبَاتِ.
فَعُلِمَ أَنَّ أَحْمَد وَغَيْرَهُ مِنْ السَّلَفِ كَانُوا يَجْزِمُونَ وَلَا يَشُكُّونَ فِي وُجُودِ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَيَجْعَلُونَ الِاسْتِثْنَاءَ عَائِدًا إلَى الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ الْمُتَضَمِّنِ فِعْلَ الْمَأْمُورِ، وَيَحْتَجُّونَ أَيْضًا بِجَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ فِيمَا لَا يَشُكُّ فِيهِ، وَهَذَا مَأْخَذٌ ثَانٍ.
وَإِنْ كُنَّا لَا نَشُكُّ فِيمَا فِي قُلُوبِنَا مِنْ الْإِيمَانِ فَالِاسْتِثْنَاءُ فِيمَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ قَدْ جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحِكْمَةِ.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ هَارُونَ قَالَ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ فَقَالَ: نَعَمْ، الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى شَكٍّ مَخَافَةً وَاحْتِيَاطًا لِلْعَمَلِ، وَقَدْ اسْتَثْنَى ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح:27]، وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِأَصْحَابِهِ: إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ([2]) وَقَالَ فِي الْمَيِّتِ: وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إنْ شَاءَ اللَّهُ([3]).
فَقَدْ بَيَّنَ أَحْمَد أَنَّهُ يَسْتَثْنِي؛ مَخَافَةً وَاحْتِيَاطًا لِلْعَمَلِ، فَإِنَّهُ يَخَافُ أَنْ لَا يَكُونُ قَدْ كَمَّلَ الْمَأْمُورَ بِهِ فَيَحْتَاطُ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَقَالَ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى شَكٍّ؛ يَعْنِي مِنْ غَيْرِ شَكٍّ مِمَّا يَعْلَمُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ يَشُكُّ فِي تَكْمِيلِ الْعَمَلِ الَّذِي خَافَ أَنْ لَا يَكُونَ كَمَّلَهُ؛ فَيَخَافُ مِنْ نَقْصِهِ وَلَا يَشُكُّ فِي أَصْلِهِ.
(الشرح)
فإن المؤلِّف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بيَّن -فيما سبق- أنَّ مسمَّى الإيمان عند أهل الحق، عند أهل السنة والجماعة، جماهير أهل السنة أنه تصديقٌ بالقلب، وعمل بالقلب، وعمل بالجوارح وقول باللسان، وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وبيَّن رحمه الله أنَّ أهل السنة يستثنون في الإيمان، فيقول الإنسان الواحد: "أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ".
وبيَّن رحمه الله الخلاف في مسألة الاستثناء، وأن الاستثناء في الإيمان فيه للناس مذاهب منهم: مَن يوجبه، ومنهم مَن يحرِّمه، ومنهم مَن يجوِّز الأمرين، والذين يحرمون الاستثناء ويمنعونه هم المرجئة والجهمية، ومَن سلك سبيلهم ممن يجعل الإيمان شيء واحد يعلمه الإنسان من نفسه كالتصديق للرب ونحو ذلك مما في قلبه ونحو ذلك.
"فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: أَنَا أَعْلَمُ أَنِّي مُؤْمِنٌ كَمَا أَعْلَمُ أَنِّي تَكَلَّمْت بِالشَّهَادَتَيْنِ وَكَمَا أَعْلَمُ أَنِّي قَرَأْت الْفَاتِحَةَ وَكَمَا أَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّ رَسُولَ اللَّهِ؛ وَأَنِّي أُبْغِضُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى. فَقَوْلِي: أَنَا مُؤْمِنٌ كَقَوْلِي: أَنَا مُسْلِمٌ".
قالوا: "فالإنسان لا يشك فيما يعلمه من قلبه"؛ فلذلك يمنعون الاستثناء، ويقولون من استثنى هو شاك في إيمانه، قال: فمن استثنى في إيمانه فهو شاك فيه، وسموا الذين يشكون في إيمانهم بالشكاكة، والذين أوجبوا الاستثناء لهم مأخذان:
المأخذ الأول: أن الإيمان هو ما مات عليه الإنسان، وأن الإنسان إنما يكون عند الله مؤمنًا أو كافرًا باعتبار الموافاة، وهذا مأخذ كثير من المتأخرين من الكلابية والأشاعرة وغيرهم ممَّن يريد أن ينصر ما اشتهر عن أهل السنة والحديث، فقولهم: أنا مؤمن إن شاء الله، يريد مع ذلك أن الإيمان لا يتفاضل ولا يشك الإنسان في الموجود منه، و إنما يشك في المستقبل.
والمأخذ الثاني: مأخذ أهل السنة والجماعة الذين يرون أن الأعمال داخلة في مسمَّى الإيمان، وأن مسمَّى الإيمان يدخل فيه أداء الواجبات وترك المحرمات والإنسان لا يزكي نفسه، ولا يجزم بأنه أدى ما عليه، فلذلك يستثنى فيقول أنا مؤمن إن شاء الله.
وهذا مأخذ أهل الحق، أهل السنة والجماعة، مأخذهم أن الإيمان مسمَّى الإيمان متعدد، يدخل فيه الأعمال والأقوال وأعمال القلوب، فلهذا يستثني الإنسان فيقول: "أنا مؤمن إن شاء الله"، فالاستثناء راجع إلى العمل؛ لأن الإنسان لا يزكي نفسه، ولا يجزم بأنه أدى ما عليه فلهذا يستثني يقول: أنا مؤمن إن شاء الله.
ثُمَّ استدلَّ المؤلِّف رحمه الله بأدلة كثيرة على دخول الأعمال في مسمَّى الإيمان، ونقل نقول عن الإمام أحمد رحمه الله، وعن السلف وعن الصحابة، كلها تؤيد القول بالاستثناء في الإيمان، وأن الإنسان له أن يستثني في الإيمان؛ لأن الاستثناء راجع إلى العمل.
وكذلك أيضًا يجوز الاستثناء استحبابًا فيما لا يشك فيه الإنسان؛ لأن الاستثناء يكون راجع إلى المستقبل، راجع إلى أن الإنسان لا يدري، وأن الإنسان وإن كان لا يشك فيما هو مقر ومصدق به، لكنه يستثنى لتحقيق العمل واحتياطًا للعمل.
قال المؤلِّف رحمه الله: "وَقَالَ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنِي حَرْبُ بْنُ إسْمَاعِيلَ" وهو: حرب بن إسماعيل بن خلف محمد الحنظلي الكرماني، تلميذ الإمام أحمد، له كتاب المسائل، ويقال: إنه من أنفس كتب الحنابلة.
"وَقَالَ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنِي حَرْبُ بْنُ إسْمَاعِيلَ وَأَبُو دَاوُد قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَحْمَد رحمه الله: قَالَ: سَمِعْت سُفْيَانَ يَعْنِي ابْنَ عُيَيْنَة، يَقُولُ: إذَا سُئِلَ أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ؟ لَمْ يُجِبْهُ وَيَقُولُ: سُؤَالُك إيَّايَ بِدْعَةٌ وَلَا أَشُكُّ فِي إيمَانِي وَقَالَ: إنْ قَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَيْسَ يَكْرَهُ وَلَا يُدَاخِلُ الشَّكُّ".
فهذا النقل عن الإمام أحمد وأنه نقل عن سفيان بن عيينة أن السؤال، سؤال الإنسان أمؤمن أنت؟ هذا من البدع، و أنه يقول سؤالك إياي بدعة ولا أشك في إيماني، وسبق أيضًا نقل عن الإمام أحمد أنَّه قال لما سُئل عن الإيمان، قال: أنا مؤمن بالله ورسوله، وأنا مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وقال: إن قال إن شاء الله ليس يكره ولا يدخل الشك.
قال المؤلف رحمه الله -وقد أخبر عن أحمد؛ يعني الإمام أحمد رحمه الله- قال: " لَا نَشُكُّ فِي إيمَانِنَا وَإِنَّ السَّائِلَ لَا يَشُكُّ فِي إيمَانِ الْمَسْئُولِ" وهذا أبلغ.
قال رحمه الله: "وهو إنَّمَا يَجْزِمُ بِأَنَّهُ مُقِرٌّ مُصَدِّقٌ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ لَا يَجْزِمُ بِأَنَّهُ قَائِمٌ بِالْوَاجِبَاتِ". نعم يعني الإنسان يعلم من نفسه أنه مصدق، مقر، مصدق لما جاء به الرسول وأنه ليس عنده شك، لكنه لا يجزم بأنه أدى ما عليه من الواجبات وترك المحرمات.
قال المؤلِّف رحمه الله تعليقًا على ذلك: "فَعُلِمَ أَنَّ أَحْمَد وَغَيْرَهُ مِنْ السَّلَفِ كَانُوا يَجْزِمُونَ وَلَا يَشُكُّونَ فِي وُجُودِ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَيَجْعَلُونَ الِاسْتِثْنَاءَ عَائِدًا إلَى الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ الْمُتَضَمِّنِ فِعْلَ الْمَأْمُورِ"؛ يعني أن السلف لا يشكُّون في أصل الإيمان هو التصديق الإقرار والتصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله، ولكن الاستثناء يجعلونه عائدًا إلى الإيمان المطلق، الإيمان المطلق: هو الذي يتضمن فعل الواجبات وترك المحرمات، هذا الإيمان المطلق.
أمَّا مطلق الإيمان هو أصل الإيمان، هم لا يشكون في أصل الإيمان ولكن يستثنون فيكون استثنائهم راجعًا إلى الإيمان المطلق، وهو الإيمان الكامل الذي يوجب فعل الواجبات وترك المحرمات، الذي يستلزم فعل الواجبات وترك المحرمات.
قال المؤلف رحمه الله: وَيَحْتَجُّونَ أَيْضًا بِجَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ فِيمَا لَا يَشُكُّ فِيهِ وَهَذَا " مَأْخَذٌ ثَانٍ " وَإِنْ كُنَّا لَا نَشُكُّ فِيمَا فِي قُلُوبِنَا مِنْ الْإِيمَانِ فَالِاسْتِثْنَاءُ فِيمَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ قَدْ جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحِكْمَةِ".
هناك مأخذ ثاني من الاستثناء وهو الاستثناء فيما لا يشك فيه، ويكون هذا راجع إلى الاحتياط في العمل ولتحقيق الفعل، راجع إلى الاحتياط في العمل وتحقيق الفعل.
فيكون أهل السنة لهم مأخذان: المأخذ الأول: أن الاستثناء راجع إلى الإيمان المطلق، الذي هو فعل الواجبات وترك المحرمات.
المأخذ الثاني: أنه راجع أيضًا فيما لا يشك فيه، وهو أصل الإيمان؛ لأن الاستثناء في هذه الحالة يكون لتحقيق المطلوب، لتحقيق المطلوب وللاحتياط في العمل.
ثُمَّ أخذ المؤلف رحمه الله: "وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ هَارُونَ"؛ وَهوَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ هَارُونَ أبو جعفر الموصلي البغدادي حدَّث عن الإمام أحمد يقول: " قَالَ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّه؛ وهو الإمام أحمدِ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ" كأن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، " فَقَالَ: نَعَمْ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى شَكٍّ مَخَافَةً وَاحْتِيَاطًا لِلْعَمَلِ" وهذا يدل على أن الاستثناء في العمل معروف عند السلف، الاستثناء في الإيمان إن شاء الله.
وهذا فيه ردٌّ على المرجئة والجهمية الذين يشددون في الاستثناء ويقولون: مَن استثنى في إيمانه فهو شاكٍّ في إيمانه ويمنعونه منعًا باتًا، والسلف يجيزون الاستثناء احتياطًا للعمل، وأيضًا حتى فيما لا يشك فيه، يجوز الاستثناء لتحقيق الفعل، ولأن الإنسان لا يشك في إيمانه، ولكن هذا راجع إلى مستقبل، إلى رجاء، وإلى الرجاء، وأنَّ الإنسان يرجو أن الله تعالى يتم له إيمانه، وأن يحقق له إيمانه.
ولهذا النقل عن محمد بن حسن قال: "سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ فَقَالَ: نَعَمْ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى شَكٍّ مَخَافَةً وَاحْتِيَاطًا لِلْعَمَلِ وَقَدْ اسْتَثْنَى ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ"؛ يعني ابن مسعود من الصحابة استثني، ومذهب الثوري كما سبق، قال الله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27].
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِأَصْحَابِهِ: إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ([4]).
المؤلِّف استدلَّ على جواز الاستثناء في الإيمان بآية وحديث، الآية هي قول الله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27]، وهذه الآية نزلت بعد صُلح الحديبية لما صُدَّ المسلمون، صدَّهم المشركون عن العمرة وحصل الصلح بينهم، حصل للصحابة مشقة؛ لأنهم كانوا متشوقين إلى دخول مكة وإلى أداء العمرة، فالله تعالى وعدهم قال: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27] ([5]).
فهذا وعدٌ من الله، والله تعالى أخذ بالاستثناء مع أنه محقق، فهو محقق ومع ذلك استثنى الله، وقال لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27]، فدلَّ على جواز الاستثناء في الشيء المحقق، وأنه لا بأس في الاستثناء في الشيء المحقق لتحقيقه.
الاستثناء لتحقيق المطلوب، وكذلك استدل بالحديث، وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِأَصْحَابِهِ: إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ([6])، فرأى عليه الصلاة والسلام [12:29]، قال: إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ([7])، مع أن هذا محقق وهو أتقى الناس، هذا الأمر الذي أخرجه النبي ﷺ محقق؛ فهو أتقى الناس وأعبد الناس وأشجع الناس وأكمل الناس، جمع الخصال الحميدة.
فالمؤلف رحمه الله استدلَّ بدليلٍ من الكتاب، ودليل من السُّنَّة على جواز الاستثناء في الأمر المحقق، فدخول المسجد الحرام أمر محقق أخبر الله به، وكون النبي ﷺ أتقى الناس هذا أمر محقق فدلَّ على أنَّ الاستثناء جائز، ولو في الأمر المحقق في تحقيق المطلوب، وهذا فيه الرَّد على المرجئة والجهمية الذين يشددون في النهي، في المنع من الاستثناء ويقولون: إن من استثنى في إيمانه فهو شاك فيه.
وقال: "وَقَالَ فِي الْمَيِّتِ: وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إنْ شَاءَ اللَّهُ"، هذا دليل آخر في الاستثناء، "وَقَالَ فِي الْمَيِّتِ: وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إنْ شَاءَ اللَّهُ". فالبعث لا شك فيه ومع ذلك استثني.
"وَقَالَ فِي الْمَيِّتِ: وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إنْ شَاءَ اللَّهُ". استدل على جواز الاستثناء في الأمر المحقق. نعم، وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ؛ يعني نحيا، وعليه نحيا ونموت.
القارئ: فيما يدري يا شيخ وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ؟
الشيخ: نعم، وهو الخطاب هذا.
القارئ: عَلَيْهِ حَيِيت وَعَلَيْهِ مُتّ وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
الشيخ: لا بأس أو عليه نحيا وعليه نموت وعليه نبعث الأمر في هذا واسع، نبعث أو تبعث.
فالبعث لا شَكَّ فيه، ومع ذلك حصل فيه الاستثناء فدلَّ على جواز الاستثناء في الأمر المحقق، هذا دليل آخر.
قال المؤلِّف رحمه الله تعليقًا على ذلك: "فَقَدْ بَيَّنَ أَحْمَد؛ يعني الإمام أحمد رحمه الله أَنَّهُ يَسْتَثْنِي مَخَافَةً وَاحْتِيَاطًا لِلْعَمَلِ فَإِنَّهُ يَخَافُ أَنْ لَا يَكُونُ قَدْ كَمَّلَ الْمَأْمُورَ بِهِ فَيَحْتَاطُ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَقَالَ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى شَكٍّ؛ يَعْنِي مِنْ غَيْرِ شَكٍّ مِمَّا يَعْلَمُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ".
الإنسان لا يَشكُّ أنه مصدِّق، وأنه مؤمن، وأنه مؤمن بالله ورسوله وملائكته وكتبه ورسله، لكنه يَشكُّ في تكميل العمل.
فالاستثناء راجع إلى العمل احتياطًا، وأيضًا يجوز الاستثناء فيما لا يَشكُّ فيه لتحقيقه، لتحقيق المطلوب.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَإِنَّهُ يَخَافُ أَنْ لَا يَكُونُ قَدْ كَمَّلَ الْمَأْمُورَ بِهِ فَيَحْتَاطُ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَقَالَ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى شَكٍّ؛ يَعْنِي مِنْ غَيْرِ شَكٍّ مِمَّا يَعْلَمُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ وَإِلَّا فَهُوَ يَشُكُّ فِي تَكْمِيلِ الْعَمَلِ الَّذِي خَافَ أَنْ لَا يَكُونَ كَمَّلَهُ؛ فَيَخَافُ مِنْ نَقْصِهِ وَلَا يَشُكُّ فِي أَصْلِهِ". لا يشك في أصل الإيمان ولكنه يخاف من نقص العمل، فلهذا يستثني. نعم
(المتن)
قَالَ الْخَلَّالُ: وَأَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي هَارُونَ: أَنَّ حبيش بْنَ سَنِّدِي حَدَّثَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ حِينَ وَقَفَ عَلَى الْمَقَابِرِ فَقَالَ: وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ.([8])([9])، وَقَدْ نُعِيَتْ إلَيْهِ نَفْسُهُ وَعَلِمَ أَنَّهُ صَائِرٌ إلَى الْمَوْتِ وَفِي قِصَّةِ صَاحِبِ الْقَبْرِ، وَعَلَيْهِ حَيِيت وَعَلَيْهِ مُتّ وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: إنِّي اخْتَبَأْت دَعْوَتِي وَهِيَ نَائِلَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا ([10])([11])، وَفِي مَسْأَلَةِ الرَّجُلِ النَّبِيَّ ﷺ أَحَدُنَا يُصْبِحُ جُنُبًا يَصُومُ؟ فَقَالَ: إنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَصُومُ فَقَالَ: إنَّك لَسْت مِثْلَنَا أَنْتَ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ فَقَالَ: وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ ([12])([13]). وَهَذَا كَثِيرٌ وَأَشْبَاهُهُ عَلَى الْيَقِينِ.
(الشرح)
المؤلِّف رحمه الله لازال ينقل الأدلة التي تدلُّ على جواز الاستثناء في الإيمان خلافًا للمرجئة والجهمية الذين يمنعون الاستثناء في الإيمان.
وهذه الأدلة كلها فيها ردٌّ على المرجئة وعلى الجهمية، وفيها استثناء في الشيء المحقق، فكيف بالذي لم يحقق، فإذا كان الشيء المحقق يستثنى فيه، فالعمل الذي غير محقق والذي يَشكُّ الإنسان فيه من باب أولى.
قال المؤلف رحمه الله: "قَالَ الْخَلَّالُ: وَأَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي هَارُونَ: أَنَّ حبيش بْنَ سَنِّدِي"؛ وهو من كبار أصحاب الإمام أحمد؛ حدثهم في هذه المسألة.
"قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ"؛ وهو الإمام أحمد رحمه الله، "قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ حِينَ وَقَفَ عَلَى الْمَقَابِرِ فَقَالَ: وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، وَقَدْ نُعِيَتْ إلَيْهِ نَفْسُهُ وَعَلِمَ أَنَّهُ صَائِرٌ إلَى الْمَوْتِ".
يعني هذا دليل على جواز الاستثناء في الإيمان؛ وذلك أن النبي ﷺ استثنى في أمر محقق، قوله وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ،؛ فالحي سيلحق الميت، هذا لابد منه، الموت لابد منه ومع ذلك استثنى منه قال وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ،([14]) وَقَدْ نُعِيَتْ إلَيْهِ نَفْسُهُ وَعَلِمَ أَنَّهُ صَائِرٌ إلَى الْمَوْتِ وهذا معلوم.
وكذلك أيضًا في قِصَّةِ صَاحِبِ الْقَبْرِ "وَعَلَيْهِ حَيِيت وَعَلَيْهِ مُتّ وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، فقال إن شاء الله مع أن البعث لا شك فيه فاستثنى في شيء محقق، وإذا استثنى في شيء محقق دل على جواز الاستثناء في الشيء الذي غير محقق من باب أولى وهو العمل.
فإذا قال المؤمن أنا مؤمن إن شاء الله وقصد بذلك أن العمل واجبات متعددة وأن أداء الواجب وترك المحرمات، لا يجزم الإنسان أنه أدى ما عليه، ولا يزكي نفسه، ولكن يزري على نفسه ويعلم أنه مقصر، ولهذا يقول أنا مؤمن إن شاء الله راجع إلى العمل.
وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ إنِّي اخْتَبَأْت دَعْوَتِي وَهِيَ نَائِلَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا وهذا في الصحيحين([15]) وفيه دليل أيضًا دليل على الاستثناء، النبي ﷺ استثنى في شيء محقق، النبي ﷺ محقق أنه سيشفع، وأن شفاعته تنال أهل التوحيد، ولهذا قال: " وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ إنِّي اخْتَبَأْت دَعْوَتِي وَهِيَ نَائِلَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا فاستثنى النبي ﷺ في أمر محقق فدل على جواز الاستثناء في الإيمان، في الأمر المحقق، وفي الأمر المشكوك فيه، الأمر المحقق: وهو ما يعلمه الإنسان من نفسه، والأمر المشكوك فيه، وهو ما يشك فيه وهو تكميل العمل، يجوز الاستثناء في هذا وفي هذا.
قال: "«وَفِي مَسْأَلَةِ الرَّجُلِ النَّبِيَّ ﷺ أَحَدُنَا يُصْبِحُ جُنُبًا يَصُومُ؟ فَقَالَ: إنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ ثُمَّ أَصُومُ فَقَالَ: إنَّك لَسْت مِثْلَنَا أَنْتَ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ فَقَالَ: وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ».([16]) . وَهَذَا كَثِيرٌ"
هذا أيضًا دليل آخر النبي ﷺ قال إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ مع أن هذا أمر محقق، فاستثنى في أمر محقق فدل على جواز الاستثناء في الإيمان في الأمر المحقق وفي الأمر المشكوك فيه، وفي الأمر المشكوك فيه وهو العمل.
قال المؤلف: " وَهَذَا كَثِيرٌ وَأَشْبَاهُهُ عَلَى الْيَقِينِ" يعني كثير الأدلة التي تدل على جواز الاستثناء في الإيمان في الأمر المحقق وعلى اليقين وهو ما يتيقن فيه الإنسان كثير أدلته كثيرة، فدل على جواز الاستثناء والرد على من منع ذلك من المرجئة والجهمية.
(المتن)
قَالَ: وَدَخَلَ عَلَيْهِ شَيْخٌ فَسَأَلَهُ عَنْ الْإِيمَانِ فَقَالَ لَهُ: قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. فَقَالَ لَهُ: أَقُولُ: مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ لَهُ: إنَّهُمْ يَقُولُونَ لِي إنَّك شَاكٍ؛ قَالَ: بِئْسَ مَا قَالُوا ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: رُدُّوهُ فَقَالَ: أَلَيْسَ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: هَؤُلَاءِ يَسْتَثْنُونَ، قَالَ لَهُ: كَيْفَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: قُلْ لَهُمْ: زَعَمْتُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ فَالْقَوْلُ قَدْ أَتَيْتُمْ بِهِ وَالْعَمَلُ لَمْ تَأْتُوا بِهِ فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ لِهَذَا الْعَمَلِ قِيلَ لَهُ: يُسْتَثْنَى فِي الْإِيمَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ أَقُولُ: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَسْتَثْنِي عَلَى الْيَقِينِ لَا عَلَى الشَّكِّ؛ ثُمَّ قَالَ: قَالَ اللَّهُ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح:27] فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ([17]).
(الشرح)
نعم هذا أيضًا من الأدلة على جواز الاستثناء في الإيمان، وأنه لا بأس به في الأمر المحقق وهو أصل الإيمان، وفي الأمر المشكوك فيه وهو العمل.
قال: " قَالَ: وَدَخَلَ عَلَيْهِ شَيْخٌ فَسَأَلَهُ عَنْ الْإِيمَانِ" يعني دخل على الإمام أحمد رحمه الله فَسَأَلَهُ عَنْ الْإِيمَانِ فَقَالَ لَهُ: قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. يعني الإيمان، هذا الشيخ سأل الإمام أحمد عن الإيمان فقال: قول وعمل يزيد وينقص فَقَالَ لَهُ؛ يعني الشيخ أَقُولُ: أمُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ؟ قَالَ يعني الإمام أحمد قال: نَعَمْ. فَقَالَ لَهُ الشيخ للإمام أحمد، فقال له: إنَّهُمْ يَقُولُونَ لِي إنَّك شَاكٍ؛ قَالَ: بِئْسَ مَا قَالُوا؛ أنكر الإمام أحمد قال بئس ما قالوا ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: رُدُّوهُ؛ لما خرج الشيخ قال الإمام أحمد: ردوه، فقال : أَلَيْسَ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ؟ قَالَ الشيخ: نَعَمْ قَالَ: هَؤُلَاءِ يَسْتَثْنُونَ. قَالَ لَهُ: كَيْفَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: قُلْ لَهُمْ: زَعَمْتُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ فَالْقَوْلُ قَدْ أَتَيْتُمْ بِهِ".
فالقول يعني شهد، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد رسول الله تكلم بالإيمان، هذا القول أتيتم به وَالْعَمَلُ لَمْ تَأْتُوا بِهِ فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ لِهَذَا الْعَمَلِ؛ هذا الاستثناء راجع للعمل.
" قِيلَ لَهُ ُتسْتَثْنَى فِي الْإِيمَانِ؟" قيل للإمام أحمد تستثني في الإيمان، قال الإمام أحمد قَالَ: نَعَمْ أَقُولُ: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ اسْتَثْنِي عَلَى الْيَقِينِ لَا عَلَى الشَّكِّ؛ ثُمَّ قَالَ: قَالَ اللَّه تعالى: هذا دليل استدل، ثم قال: قال الله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح:27] فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، يعني الله تعالى خبره محقق ومع ذلك أتى الله بالاستثناء فدل على جواز الاستثناء في الأمر المحقق.
(المتن)
فَقَدْ بَيَّنَ أَحْمَد فِي كَلَامِهِ أَنَّهُ يَسْتَثْنِي مَعَ تَيَقُّنِهِ بِمَا هُوَ الْآنَ مَوْجُودٌ فِيهِ يَقُولُهُ بِلِسَانِهِ وَقَلْبُهُ لَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ وَيَسْتَثْنِي لِكَوْنِ الْعَمَلِ مِنْ الْإِيمَانِ؛ وَهُوَ لَا يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ أَكْمَلَهُ بَلْ يَشُكُّ فِي ذَلِكَ فَنَفَى الشَّكَّ، وَأَثْبَتَ الْيَقِينَ فِيمَا يَتَيَقَّنُهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَثْبَتَ الشَّكَّ فِيمَا لَا يَعْلَمُ وُجُودَهُ، وَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُسْتَحَبٌّ لِهَذَا الثَّانِي الَّذِي لَا يَعْلَمُ هَلْ أَتَى بِهِ أَمْ لَا وَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا لِمَا يَتَيَقَّنُهُ.
فَلَوْ اسْتَثْنَى لِنَفْسِ الْمَوْجُودِ فِي قَلْبِهِ جَازَ كَقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ ([18]).
وَهَذَا أَمْرٌ مَوْجُودٌ فِي الْحَالِ لَيْسَ بِمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ كَوْنُهُ أَخْشَانَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَرْجُو أَنْ يَصِيرَ أَخْشَانَا لِلَّهِ؛ بَلْ هُوَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ حِينَ هَذَا الْقَوْلِ أَخْشَانَا لِلَّهِ. كَمَا يَرْجُو الْمُؤْمِنُ إذَا عَمِلَ عَمَلًا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَقَبَّلَهُ مِنْهُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يَكُونَ تَقَبَّلَهُ مِنْهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60].
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ هُوَ الرَّجُلُ يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ ([19]) وَالْقَبُولُ هُوَ أَمْرٌ حَاضِرٌ أَوْ مَاضٍ وَهُوَ يَرْجُوهُ وَيَخَافُهُ وَذَلِكَ أَنَّ مَا لَهُ عَاقِبَةٌ مُسْتَقْبَلَةٌ مَحْمُودَةً أَوْ مَذْمُومَةً وَالْإِنْسَانُ يَجُوزُ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ. يُقَالُ: إنَّهُ يَرْجُوهُ وَإِنَّهُ يَخَافُهُ.
فَتَعَلَّقَ الرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ بِالْحَاضِرِ وَالْمَاضِي لِأَنَّ عَاقِبَتَهُ الْمَطْلُوبَةَ وَالْمَكْرُوهَةَ مُسْتَقْبَلَةٌ. فَهُوَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَقَبَّلَ عَمَلَهُ فَيُثِيبَهُ عَلَيْهِ فَيَرْحَمَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَيَخَافُ أَنْ لَا يَكُونَ تَقَبَّلَهُ فَيُحْرَمَ ثَوَابَهُ.
كَمَا يَخَافُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ سَخِطَ عَلَيْهِ فِي مَعْصِيَتِهِ فَيُعَاقِبَهُ عَلَيْهَا.
(الشرح)
فإن المؤلف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه بين في هذا كتاب الإيمان الكبير مسمَّى الإيمان عند أهل الحق، وهو كما دلت عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وهو أن مسماه تصديق بالقلب وإقرار واعتراف وإقرار باللسان، ونطق باللسان وعمل بالقلب وعمل بالجوارح، وأنه يجوز الاستثناء في الإيمان، فيقول المؤمن: أنا مؤمن إن شاء الله؛ وذلك لأن الإيمان ليس شيئًا واحد وإنما هو أمر متعدد فيستثني؛ لأنه لا يلزم بأنه أدى ما عليه ولا يزكي نفسه، بل يزري على نفسه.
وأما المرجئة والجهمية فإنهم يمنعون من الاستثناء في الإيمان ويشددون ويقولون إن من استثنى في إيمانه فهو شاك في إيمانه ويسمون المؤمنين الشكاكة.
رد عليهم المؤلف رحمه الله بالأدلة الكثيرة من كتاب الله، ومن سنة رسوله ﷺ، ونقل نقولًا عن السلف وعن الإمام أحمد كلها تؤيد مذهب أهل السنة والجماعة وأن الإيمان يجوز الاستثناء فيه؛ لأنه ليس شيء واحدًا، وإنما أمره متعدد، بل إنه يجوز الاستثناء في الشيء المحقق، واستدل بأدلة كثيرة؛ من ذلك ما استدل به الإمام أحمد رحمه الله على جواز الاستثناء في الأمر المحقق قول الله تعالى لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح:27] فقد أخبر الله أنهم داخلون المسجد الحرام وهذا أمر محقق، لا شك فيه، ومع ذلك استثنى الله في الأمر المحقق ليس بالشك وإنما هو لتحقيق الدخول.
قال المؤلف رحمه الله تعليقًا على ذلك: " فَقَدْ بَيَّنَ أَحْمَد؛ يعني الإمام أحمد رحمه الله فِي كَلَامِهِ أَنَّهُ يَسْتَثْنِي مَعَ تَيَقُّنِهِ بِمَا هُوَ الْآنَ مَوْجُودٌ فِيهِ يَقُولُهُ بِلِسَانِهِ وَقَلْبُهُ لَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ" الإنسان يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، هذا بلسانه، لكن قلبه لا يشك في أنه مصدق ويستثني إن شاء الله لكون العمل من الإيمان، والعمل متعدد، الواجبات والمحرمات، الإنسان لا يجزم بأنه أدى ما عليه من الصلاة ومن الزكاة ومن الصوم ومن الحج ومن بر الوالدين ومن صلة الرحم، ولا يلزم بأنه حصل له أيضًا انشراح لبعض المحرمات فهو يزري على نفسه ولا يزكي نفسه، فلهذا يستثني ويقول أنا مؤمن إن شاء الله ويكون الاستثناء راجع إلى العمل.
ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: " يَقُولُهُ بِلِسَانِهِ وَقَلْبُهُ لَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ وَيَسْتَثْنِي لِكَوْنِ الْعَمَلِ مِنْ الْإِيمَانِ؛ وَهُوَ لَا يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ أَكْمَلَهُ بَلْ يَشُكُّ فِي ذَلِكَ" لا يتيقن أنه كمل ما أوجب الله عليه من الواجبات، بل لابد يحصل نقص وغفلة وتقصير في بعض الواجبات وأيضًا انشراح في بعض المحرمات والمكروهات.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فَنَفَى الشَّكَّ وَأَثْبَتَ الْيَقِينَ فِيمَا يَتَيَقَّنُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَأَثْبَتَ الشَّكَّ فِيمَا لَا يَعْلَمُ وُجُودَهُ وَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُسْتَحَبٌّ لِهَذَا الثَّانِي" يعني فيما لا يعلم وجوده، يعني في هذا الثاني الذي لا يعلم هل أتى به أو لا وهو العمل، تكميل العمل.
قال: "وَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا لِمَا يَتَيَقَّنُهُ" يعني الاستثناء جَائِزٌ أَيْضًا لِمَا يَتَيَقَّنُهُ.
قال: "فَلَوْ اسْتَثْنَى لِنَفْسِ الْمَوْجُودِ فِي قَلْبِهِ جَازَ" يعني يجوز أن يستثني حتى في الشيء الذي لا يشك فيه، ثم استدل بذلك بجواز الاستثناء في الشيء الذي لا يشك فيه، فقال: كَقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ. وهذا الحديث رواه الشيخان البخاري ومسلم([20]) رحمه الله فقول إنِّي لَأَرْجُو هذا شك، شكٌ في أمر متيقن فالنبي ﷺ أخشى الناس، هو أخشي الناس، وأتقى الناس، وأعبد الناس لله .
قال المؤلف: " وَهَذَا أَمْرٌ مَوْجُودٌ فِي الْحَالِ لَيْسَ بِمُسْتَقْبَلِ" يعني كون النبي ﷺ هذا أمرٌ موجود في الحال، في الواقع. ليس بمستقبل قال: " وَهُوَ كَوْنُهُ أَخْشَانَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَرْجُو أَنْ يَصِيرَ أَخْشَانَا لِلَّهِ" يعني لا يرجو في المستقبل، بل هو محقق في الحال فإنه فَإِنَّهُ لَا يَرْجُو أَنْ يَصِيرَ أَخْشَانَا لِلَّهِ؛ بَلْ هُوَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ حِينَ هَذَا الْقَوْلِ أَخْشَانَا لِلَّهِ.
المعنى أنه عليه الصلاة والسلام هو أخشى الناس في الحال، ليس في المستقبل لأن الله تعالى أخبر بذلك، ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ([21]) إن أخشاكم لله وأتقاكم لأنا، فهذا أمرٌ محقق.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فَإِنَّهُ لَا يَرْجُو أَنْ يَصِيرَ أَخْشَانَا لِلَّهِ؛ بَلْ هُوَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ حِينَ هَذَا الْقَوْلِ أَخْشَانَا لِلَّهِ".
قال: " كَمَا يَرْجُو الْمُؤْمِنُ إذَا عَمِلَ عَمَلًا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَقَبَّلَهُ مِنْهُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يَكُونَ تَقَبَّلَهُ مِنْهُ." يعني المؤمن إذا عمل عملًا يرجوا أن يكون الله تقبله، ويخاف إلا يتقبله، ويجمع بين الخوف والرجاء.
قال: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60] هذه الآية من سورة المؤمنون وأولها أثنى على المؤمنين قال: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:57-61]
قال المؤلف رحمه الله تعليقًا على هذا الآية وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ هُوَ الرَّجُلُ يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يُتقْبَلَ مِنْهُ يعني هذه الآية ليست في العاصي وإنما هي في المطيع، وجاء في هذا الحديث أن عائشة رضي الله عنها ظنت أن هذه الآية في العصاة، ثبت أن عائشة رضي الله عنها سألت النبي ﷺ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60] «فقالت يا رسول الله أهم الذين يسرقون ويزنون ويشربون الخمر، يعني ويخافون العقوبة، فقال: لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ! وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يُصَلُّونَ ويَصُومُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَيَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ.([22]) وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، وابن ماجة في كتاب الزهد، وهو حديث ثابت.
قال المؤلف رحمه الله: " وَالْقَبُولُ هُوَ أَمْرٌ حَاضِرٌ أَوْ مَاضٍ وَهُوَ يَرْجُوهُ وَيَخَافُهُ" يعني القبول هو القبول من الله ، أمر حاضر أو ماضي، وهو يعني المؤمن يرجو القبول ويخافه، يرجو أن يكون الله تقبل منه، ويخاف أن لا يتقبل منه.
قال المؤلف رحمه الله: " وَذَلِكَ أَنَّ مَآله عَاقِبَةٌ مُسْتَقْبَلَةٌ مَحْمُودَةً أَوْ مَذْمُومَةً" يعني مآل القبول، ما له القبول عند الله الذي يقبل منه يثيبه الله، والذي يرد يكون يرد عمله يفوته، يفوته القبول، فالعاقبة مستقبله فالإنسان لا يدري، هو في الحال لا يدري، هل قبل عمله أو لا يقبل.
ولهذا قال المؤلف: " وَذَلِكَ أَنَّ مَا لَهُ عَاقِبَةٌ مُسْتَقْبَلَةٌ مَحْمُودَةً أَوْ مَذْمُومَةً وَالْإِنْسَانُ يَجُوزُ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ." يجوز القبول ويجوز عدم القبول " يُقَالُ: إنَّهُ يَرْجُوهُ وَإِنَّهُ يَخَافُهُ. فَتَعَلَّقَ الرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ بِالْحَاضِرِ وَالْمَاضِي لِأَنَّ عَاقِبَتَهُ الْمَطْلُوبَةَ وَالْمَكْرُوهَةَ مُسْتَقْبَلَةٌ."
قال المؤلف: "فَهُوَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَقَبَّلَ عَمَلَهُ فَيُثِيبَهُ عَلَيْهِ فَيَرْحَمَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَيَخَافُ أَنْ لَا يَكُونَ تَقَبَّلَهُ فَيُحْرَمَ ثَوَابَهُ، كَمَا يَخَافُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ سَخِطَ عَلَيْهِ فِي مَعْصِيَتِهِ فَيُعَاقِبَهُ عَلَيْهَا" فدل على الاستثناء لا بأس به، وإن كان في أمر محقق؛ لأن الاستثناء راجع إلى المستقبل، وهو لا يدري هل قبل عمله أو لم يقبل؟ فلهذا جاز الاستثناء.
(المتن)
وَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ يَسْعَى فِيمَا يَطْلُبُهُ كَتَاجِرِ أَوْ بَرِيدٍ أَرْسَلَهُ فِي حَاجَتِهِ يَقْضِيهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَإِذَا مَضَى ذَلِكَ الْوَقْتُ يَقُولُ أَرْجُو أَنْ يَكُونَ فُلَانٌ قَدْ قَضَى ذَلِكَ الْأَمْرَ وَقَضَاؤُهُ مَاضٍ لَكِنْ مَا يَحْصُلُ لِهَذَا مِنْ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَقَاصِدِهِ مُسْتَقْبَلٌ.
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي جَرَتْ عَادَةُ الْحَاجِّ بِدُخُولِهِمْ إلَى مَكَّةَ: أَرْجُو أَنْ يَكُونُوا دَخَلُوا وَيَقُولُ فِي سَرِيَّةٍ بُعِثَتْ إلَى الْكُفَّارِ: نَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ نَصَرَ الْمُؤْمِنِينَ وغنمهم وَيُقَالُ فِي نِيلِ مِصْرَ عِنْدَ وَقْتِ ارْتِفَاعِهِ: نَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ صَعِدَ النِّيلُ كَمَا يَقُولُ الْحَاضِرُ فِي مِصْرَ مِثْلَ هَذَا الْوَقْتِ: نَرْجُو أَنْ يَكُونَ النِّيلُ فِي هَذَا الْعَامِ نِيلًا مُرْتَفِعًا.
وَيُقَالُ لِمَنْ لَهُ أَرْضٌ يُحِبُّ أَنْ تُمْطِرَ إذَا مَطَرَتْ بَعْضُ النَّوَاحِي: أَرْجُو أَنْ يَكُونَ الْمَطَرُ عَامًّا، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ قَدْ مُطِرَتْ الْأَرْضُ الْفُلَانِيَّةُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْجُوَّ هُوَ مَا يَفْرَحُ بِوُجُودِهِ وَيُسْرِهِ فَالْمَكْرُوهُ مَا يَتَأَلَّمُ بِوُجُودِهِ.
وَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِالْعِلْمِ وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ مُسْتَقْبَلٌ فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ انْتَصَرُوا وَالْحَاجَّ قَدْ دَخَلُوا أَوْ الْمَطَرَ قَدْ نَزَلَ فَرِحَ بِذَلِكَ وَحَصَلَ بِهِ مَقَاصِدُ أُخَرُ لَهُ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ الْمَحْبُوبُ الْمَطْلُوبُ فَيَقُولُ: أَرْجُو وَأَخَافُ لِأَنَّ الْمَحْبُوبَ وَالْمَكْرُوهَ مُتَعَلِّقٌ بِالْعِلْمِ بِذَلِكَ وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ.
وَكَذَلِكَ الْمَطْلُوبُ بِالْإِيمَانِ مِنْ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ هُوَ أَمْرُ مُسْتَقْبَلٍ فَيُسْتَثْنَى فِي الْحَاضِرِ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ بِهِ مُسْتَقْبَلٌ ثُمَّ كُلُّ مَطْلُوبٍ مُسْتَقْبَلٌ تَعَلَّقَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَإِنْ جَزَمَ بِوُجُودِهِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْتَقْبَلٌ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ.
(الشرح)
نعم المؤلف رحمه الله ذكر في هذا تنظير، تنظير، ذكر تنظير وأمثلة تدل على جواز الاستثناء في الأمر المحقق لأن الاستثناء راجع إلى المستقبل.
قال: "وَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ يَسْعَى فِيمَا يَطْلُبُهُ كَتَاجِرِ أَوْ بَرِيدٍ أَرْسَلَهُ فِي حَاجَتِهِ يَقْضِيهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَإِذَا مَضَى ذَلِكَ الْوَقْتُ يَقُولُ أَرْجُو أَنْ يَكُونَ فُلَانٌ قَدْ قَضَى ذَلِكَ الْأَمْرَ وَقَضَاؤُهُ مَاضٍ" هذا تنظير كما أن الإنسان يعني يستثني في الإيمان وفي الأمر المحقق؛ لأنه راجع إلى المستقبل من نظائر ذلك، أو نظير ذلك أن الإنسان إذا كان يسعى فيما يطلبه كالتاجر أو البريد الذي أرسل في حاجة يقضيها في بعض الأوقات، فإذا قضي ذلك الوقت، يقول أرجو أن يكون فلان قد قضى ذلك الأمر وقضى وانتهى منه، لكن هو بالنسبة إليه لا يعلم.
قال: "وَقَضَاؤُهُ مَاضٍ لَكِنْ مَا يَحْصُلُ لِهَذَا مِنْ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَقَاصِدِهِ مُسْتَقْبَلٌ" يعني الإنسان حينما تقضى حاجته يحصل له فرح وسرور، وهذا الفرح والسرور إنما هو يحصل في المستقبل وإنه قد قضاه في الماضي، ومثال آخر أيضًا.
قال: "وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي جَرَتْ عَادَةُ الْحَاجِّ بِدُخُولِهِمْ إلَى مَكَّةَ: أَرْجُو أَنْ يَكُونُوا دَخَلُوا" وهم في الواقع أنهم دخلوا فهم مضى دخولهم لكن بالنسبة إليه لا يدري، فيقول :" أَرْجُو أَنْ يَكُونُوا دَخَلُوا"
مثال آخر " وَيَقُولُ فِي سَرِيَّةٍ بُعِثَتْ إلَى الْكُفَّارِ: نَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ نَصَرَ الْمُؤْمِنِينَ وغنمهم" ويكون الله نصر المؤمنين وغنمهم فهو لا يدري فهو يرجو، فهو يقول أرجو يستثني؛ لأنه يريد في المستقبل، يعني لأنه راجع إلى ما يحصل له في المستقبل من الفرح والسرور.
مثال أخر : " وَيُقَالُ فِي نِيلِ مِصْرَ عِنْدَ وَقْتِ ارْتِفَاعِهِ: نَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ صَعِدَ النِّيلُ؛ إذا كان بعيد كَمَا يَقُولُ الْحَاضِرُ فِي مِصْرَ" يعني كل واحد، البعيد الذي خارج مصر يقول: نرجو أن يكون قد صعد النيل، والذي في مصر يقول وهو ليس مشاهدًا للنيل يقول أرجو أن يكون صعد النيل.
فقال: " نَرْجُو أَنْ يَكُونَ النِّيلُ فِي هَذَا الْعَامِ نِيلًا مُرْتَفِعًا"
مثال أخر: " وَيُقَالُ لِمَنْ لَهُ أَرْضٌ يُحِبُّ أَنْ تُمْطِرَ إذَا مَطَرَتْ بَعْضُ النَّوَاحِي أَرْجُو أَنْ يَكُونَ الْمَطَرُ عَامًّا" وقد تكون مطرت لكن هو لا يعلم .
قال: " وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ قَدْ مُطِرَتْ الْأَرْضُ الْفُلَانِيَّةُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْجُوَّ هُوَ مَا يَفْرَحُ بِوُجُودِهِ وَيُسْرِهِ فَالْمَكْرُوهُ مَا يَتَأَلَّمُ بِوُجُودِهِ" وهو الآن يسره كونها تمطر، كونها يرتفع النيل كون المؤمنين ينصرون.
قال المؤلف رحمه الله:". وَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِالْعِلْمِ وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ مُسْتَقْبَلٌ" فيتعلق بالعلم، والعلم بذلك مستقبل، هو يعلم المستقبل ولا يعلم قد يكون هذه الأشياء التي يتمناها حصلت، ولكنه لا يعلم فيكون رجاؤه متعلق بالعلم والعلم بذلك مستقبل.
قال: " فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ انْتَصَرُوا" إذا علم في المستقبل، هم انتصروا في الماضي، لكن علمه تأخر فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ انْتَصَرُوا فرح، وَالْحَجاجَ قَدْ دَخَلُوا أَوْ الْمَطَرَ قَدْ نَزَلَ فَرِحَ بِذَلِكَ وَحَصَلَ بِهِ مَقَاصِدُ أُخَرُ لَهُ، حصل الفرح وحصل أمور أخرى.
قال: " وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ الْمَحْبُوبُ الْمَطْلُوبُ فَيَقُولُ: أَرْجُو وَأَخَافُ" لماذا؟ قال: "لِأَنَّ الْمَحْبُوبَ وَالْمَكْرُوهَ مُتَعَلِّقٌ بِالْعِلْمِ بِذَلِكَ وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ" لأن المحبوب والمكروه يتعلق بالعلم، والعلم إنما يكون في المستقبل.
قال: " وَكَذَلِكَ الْمَطْلُوبُ بِالْإِيمَانِ" وكذلك حين يقول المؤمن أنا مؤمن إن شاء الله؛ لأنه راجع إلى المستقبل، والمطلوب من الإيمان هو السعادة والنجاة من النار، وهذا مستقبل.
قال: " وَكَذَلِكَ الْمَطْلُوبُ بِالْإِيمَانِ مِنْ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ هُوَ أَمْرُ مُسْتَقْبَلٍ فَيُسْتَثْنَى فِي الْحَاضِرِ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ بِهِ مُسْتَقْبَلٌ"
قال: " ثُمَّ كُلُّ مَطْلُوبٍ مُسْتَقْبَلٌ تَعَلَّقَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَإِنْ جَزَمَ بِوُجُودِهِ" فالشيء المطلوب في المستقبل يعلق بمشيئة الله ولو كان جازمًا بوجوده لماذا؟ لأنه لا يكن مستقبل إلا بمشيئة الله.
(المتن)
فَقَوْلُنَا: يَكُونُ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ حَقٌّ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ وَاللَّفْظُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا التَّعْلِيقُ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ التَّعْلِيقِ الشَّكُّ. بَلْ هَذَا بِحَسَبِ عِلْمِ الْمُتَكَلِّمِ فَتَارَةً يَكُونُ شَاكًّا وَتَارَةً لَا يَكُونُ شَاكًّا؛ فَلَمَّا كَانَ الشَّكُّ يَصْحَبُهَا كَثِيرًا لِعَدَمِ عِلْمِ الْإِنْسَانِ بِالْعَوَاقِبِ ظَنَّ الظَّانُّ أَنَّ الشَّكَّ دَاخِلٌ فِي مَعْنَاهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
فَقَوْلُهُ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27]لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ شَكٌّ مِنْ اللَّهِ؛ بَلْ وَلَا مِنْ رَسُولِهِ الْمُخَاطَبِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَلِهَذَا قَالَ ثَعْلَبٌ: هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ اللَّهِ وَقَدْ عَلِمَهُ وَالْخَلْقُ يَسْتَثْنُونَ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ قُتَيْبَةَ إنَّ إنْ بِمَعْنَى إذْ أَيْ: إذْ شَاءَ اللَّهُ وَمَقْصُودُهُ بِهَذَا تَحْقِيقُ الْفِعْلِ بـ (إنْ) كَمَا يَتَحَقَّقُ مَعَ إذْ. وَإِلَّا فَإِذْ ظَرْفُ تَوْقِيتٍ و (إنْ) حَرْفُ تَعْلِيقٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْعَرَبُ تَقُولُ: إذَا احْمَرَّ الْبُسْرُ فَأْتِنِي وَلَا تَقُولُ: إنْ احْمَرَّ الْبُسْرُ. قِيلَ: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا تَوْقِيتُ الْإِتْيَانِ بِحِينِ احْمِرَارِهِ فَأَتَوْا بِالظَّرْفِ الْمُحَقِّقِ وَلَفْظِ: إنْ لَا يَدُلُّ عَلَى تَوْقِيتٍ بَلْ هِيَ تَعْلِيقٌ مَحْضٌ تَقْتَضِي ارْتِبَاطَ الْفِعْلِ الثَّانِي بِالْأَوَّلِ وَنَظِيرُ مَا نَحْنُ فِيهِ أَنْ يَقُولُوا: الْبُسْرُ يَحْمَرُّ وَيَطِيبُ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهَذَا حَقٌّ فَهَذَا نَظِيرُ ذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَطَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ فَرُّوا مِنْ هَذَا الْمَعْنَى وَجَعَلُوا الِاسْتِثْنَاءَ لِأَمْرِ مَشْكُوكٍ فِيهِ فَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27] أَيْ: أَمَرَكُم اللَّهُ بِهِ وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ يَعُودُ إلَى الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ. أَيْ: لَتَدْخُلُنَّهُ آمِنِينَ فَأَمَّا الدُّخُولُ فَلَا شَكَّ فِيهِ. وَقِيلَ: لَتَدْخُلُنَّ جَمِيعُكُمْ أَوْ بَعْضُكُمْ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَمُوتُ فَالِاسْتِثْنَاءُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا جَمِيعَهُمْ.
قِيلَ: كُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَقَعَ أَصْحَابُهَا فِيمَا فَرُّوا مِنْهُ؛ مَعَ خُرُوجِهِمْ عَنْ مَدْلُولِ الْقُرْآنِ فَحَرَّفُوهُ تَحْرِيفًا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ فَإِنَّ قَوْل مَنْ قَالَ: أَيْ: أَمَرَكُمْ اللَّهُ بِهِ هُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ عَلِمَ هَلْ يَأْمُرُهُمْ أَوْ لَا يَأْمُرُهُمْ فَعِلْمُهُ بِأَنَّهُ سَيَأْمُرُهُمْ بِدُخُولِهِ كَعِلْمِهِ بِأَنْ يَدْخُلُوا فَعَلَّقُوا الِاسْتِثْنَاءَ بِمَا لَمْ يَدُلّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَعِلْمُ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُظْهَرِ وَالْمُضْمَرِ جَمِيعًا وَكَذَلِكَ أَمْنُهُمْ وَخَوْفُهُمْ هُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ آمِنِينَ أَوْ خَائِفِينَ، وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ آمِنِينَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ آمِنِينَ فَكِلَاهُمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَكٌّ عِنْدَ اللَّهِ؛ بَلْ وَلَا عِنْدَ رَسُولِهِ.
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: جَمِيعُهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ يُقَالُ: الْمُعَلَّقُ بِالْمَشِيئَةِ دُخُولُ مَنْ أُرِيدَ بِاللَّفْظِ فَإِنْ كَانَ أَرَادَ الْجَمِيعَ فَالْجَمِيعُ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلُوهُ وَإِنْ أُرِيدَ الْأَكْثَرُ كَانَ دُخُولُهُمْ هُوَ الْمُعَلَّقَ بِالْمَشِيئَةِ وَمَا لَمْ يُرِدْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّقَ بـ (إنْ وَإِنَّمَا عُلِّقَ) بـ (إنْ مَا سَيَكُونُ)؛ وَكَانَ هَذَا وَعْدًا مَجْزُومًا بِهِ.
وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ عُمَر لِلنَّبِيِّ ﷺ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ: أَلَمْ تَكُنْ تُحَدِّثُنَا أَنَّا نَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى قُلْت لَك: إنَّك تَأْتِيهِ هَذَا الْعَامَ؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَإِنَّك آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ.([23]) .
(الشرح)
فإن المؤلف شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله بيَّن في هذا الكتاب العظيم مسمَّى الإيمان عند أهل الحق، أهل السنة والجماعة وأن مسمَّى الإيمان عندهم ما دل عليه القرآن والسنة المطهرة من أنها مسمَّى الإيمان إقرار وتصديق بالقلب ونطق باللسان وعمل بالقلب وعمل بالجوارح يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وبين رحمه الله أن أهل السنة والجماعة يستثنون في الإيمان.
فيقول الواحد منهم: " أنا مؤمن إن شاء الله" وهذا ليس، هذا الاستثناء ليس للشك في أصل الإيمان فإن المؤمن يعلم من نفسه أنه مصدق وأنه مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، ولكنه يستثنى؛ لأن الأعمال داخلة في مسمَّى الإيمان، من الواجبات وترك المحرمات، فلا يستثنى [44:32] لأن الإنسان لا يجزم بأنه أدى ما عليه، ولا يزكي نفسه فلهذا يستثني، وكذلك أيضًا يستثني في الشيء المحقق لتحقيقه.
ولذلك افترض المؤلف رحمه الله الأدلة التي تدل على جواز الاستثناء في الشيء المحققٌ، ونقل نقولًا عن الإمام أحمد غيره ونقل عن الصحابة كابن مسعود وغيره في جواز الاستثناء بالشيء المحقق. ردًا على المرجئة والجهمية الذين يمنعون من الاستثناء في الإيمان ويقولون: أن من استثنى في إيمانه فهو شاك فيه.
ومن الأدلة التي استدل بها المؤلف رحمه الله قول الله تعالى لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27]
فإن الله تعالى أخبر بالدخول واستثنى مع أن الدخول محقق، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ.([24]) وكذلك قوله في الميت وإنا إن شاء الله
وكذلك قول الزائر للقبور: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ([25]) وأن هذا قول محقق، ولأن التعليق بالمشيئة لا يكون إلا أن يشاء الله، فالإنسان حينما يستثني؛ لأن ذلك راجع إلى الله وإلى مشيئته فالشك لا يكون إلا في التعليق، والتعليق لا يلزم منه الشك.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: فَقَوْلُنَا: يَكُونُ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ حَقٌّ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا أنْ يشَاءَ اللَّهُ والشك وَاللَّفْظُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا التَّعْلِيقُ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ التَّعْلِيقِ الشَّكُّ. بَلْ هَذَا بِحَسَبِ عِلْمِ الْمُتَكَلِّمِ فَتَارَةً يَكُونُ شَاكًّا وَتَارَةً لَا يَكُونُ شَاكًّا"
بين المؤلف رحمه الله أن المؤمن حينما يقول أنا مؤمن إن شاء الله إن هذا التعليق الشك إنما هو في التعليق، الشك واللفظ إنما هو راجع إلى التعليق، ولا يلزم من التعليق الشك؛ لأن هذا من علم المتكلم، قد يكون المتكلم شاكًا وقد لا يكون شاكًا، لكن لما كان الشك يلازم ذلك كثيرًا لعدم علم الإنسان بالعواقب ظُنَّ أن الشك داخل في معناه وليس كذلك.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فَلَمَّا كَانَ الشَّكُّ يَصْحَبُهَا كَثِيرًا لِعَدَمِ عِلْمِ الْإِنْسَانِ بِالْعَوَاقِبِ ظَنَّ الظَّانُّ أَنَّ الشَّكَّ دَاخِلٌ فِي مَعْنَاهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ"
ثم بين المؤلف رحمه الله الدليل الذي يدل على أنه لا يتصور الشك ومع ذلك جاء فيه الاستثناء وهو قوله تعالى لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27]
فقال: " فَقَوْلُهُ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27] لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ شَكٌّ مِنْ اللَّهِ؛ بَلْ وَلَا مِنْ رَسُولِهِ الْمُخَاطَبِ وَالْمُؤْمِنِينَ"
قال المؤلف رحمه الله: " (وَلِهَذَا قَالَ ثَعْلَبٌ) ثعلب هذا: أحمد بن يحي الشيباني الكوفي العباسي معروف بثعلب، لغوي مشهور، برع في اللغة، ولهذا قال ثعلب هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ اللَّهِ وَقَدْ عَلِمَهُ وَالْخَلْقُ يَسْتَثْنُونَ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ" يعني الله تعالى استثنى وقد علم أنه سيدخلون ذلك فيكون هذا الاستثناء للتحقيق، لتحقيق الدخول.
ولهذا قال ثعلب: "هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ اللَّهِ وَقَدْ عَلِمَهُ وَالْخَلْقُ يَسْتَثْنُونَ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ".
ثم قال المؤلف رحمه الله: "وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ قُتَيْبَةَ إنَّ إنْ بِمَعْنَى إذْ أَيْ: إذْ شَاءَ اللَّهُ وَمَقْصُودُهُ بِهَذَا تَحْقِيقُ الْفِعْلِ بـ (إنْ) كَمَا يَتَحَقَّقُ مَعَ إذْ. وَإِلَّا فَإِذْ ظَرْفُ تَوْقِيتٍ و (إنْ) حَرْفُ تَعْلِيقٍ."
يعني قول أبو عبيدة وابن قتيبة يفسرون إن في قول إِنْ شَاءَ اللَّهُ ويقولون: إن المقصود بذلك تحقيق الفعل لا الشك، تحقيق الفعل بإن، كما أن الفعل يتحقق بإذ وإن كانت إن وإذ بينهما فرق في المعنى، فإن إذ ظرف للتوكيد، وإن حرف تعليق ولكن المقصود بإن يقصد بها ما يقصد بإذ.
ولهذا قال: أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ قُتَيْبَةَ إنَّ إنْ بِمَعْنَى إذْ أَيْ: إذْ شَاءَ اللَّهُ يعني إن شاء الله معناها إذ شاء الله، وَمَقْصُودُهمُ بِهَذَا تَحْقِيقُ الْفِعْلِ بـ (إنْ) كَمَا يَتَحَقَّقُ مَعَ إذْ." وإن كان بينهما الفرق قال: " وَإِلَّا فَإِذْ ظَرْفُ تَوْقِيتٍ و (إنْ) حَرْفُ تَعْلِيقٍ."
ثم ذكر اعتراض وأجاب عنه قال: " فَإِنْ قِيلَ: فَالْعَرَبُ تَقُولُ: إذَا احْمَرَّ الْبُسْرُ فَأْتِنِي وَلَا تَقُولُ: إنْ احْمَرَّ الْبُسْرُ." يعني هذا الاعتراض يقول: كيف تفسر إن بمعنى إذ مع أن بينهما فرق، فإن العرب تقول إذا أحمر الْبُسْرُ فَأْتِنِي وَلَا تَقُولُ: إنْ احْمَرَّ الْبُسْرُ. والبسر واحدها بسرة، وهذا يقال للتمر قبل أن يرطب، يقال: يسمى بسر.
تقول الْعَرَبُ: إذَا احْمَرَّ الْبُسْرُ فَأْتِنِي وَلَا تَقُولُ: إنْ احْمَرَّ يعني تأتي بإذ ولا تأتي بإن.
فأجاب قال: "لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا تَوْقِيتُ الْإِتْيَانِ بِحِينِ احْمِرَارِهِ فَأَتَوْا بِالظَّرْفِ الْمُحَقِّقِ" يعني إنما أتوا إذ ولم يأتوا بإن؛ لأن المقصود توقيف الإنسان بحين احمراره، فأتوا بالظرف المحقق؛ لأنها تدل على التوكيد.
وأما إذ فلا تدل على التوكيد ولهذا قال: "فأتوا بالظرف المحقق ولفظ إن لَا يَدُلُّ عَلَى تَوْقِيتٍ بَلْ هِيَ تَعْلِيقٌ مَحْضٌ تَقْتَضِي ارْتِبَاطَ الْفِعْلِ الثَّانِي بِالْأَوَّلِ وَنَظِيرُ" يعني إن شرطية أنها فسر لها جواب، فجواب الشرط ... –
فتقول: إن تجتهد تنجح، فالنجاح مرتبط بالاجتهاد، إن تأتي أكرمك، فالإكرام مرتبط بالإتيان.
فإن يقول المؤلف: جوابًا على الاعتراض: "تَعْلِيقٌ مَحْضٌ تَقْتَضِي ارْتِبَاطَ الْفِعْلِ الثَّانِي بِالْأَوَّلِ وَنَظِيرُ مَا نَحْنُ فِيهِ أَنْ يَقُولُوا: الْبُسْرُ يَحْمَرُّ وَيَطِيبُ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهَذَا حَقٌّ فَهَذَا نَظِيرُ ذَلِكَ"
يعني قول البسر يحمر الذي يمثل به هو قول أن البسر يحمر ويطيب إن شاء الله، كما قوله فَالْعَرَبُ تَقُولُ: إذَا احْمَرَّ الْبُسْرُ فأتني يختلف عنه؛ لأن قول العرب إذا أحمر البسر فأتني، ولا تقول إن أحمر لأن المقصود توقيت الفعل، أما ما نحن فيه مثاله أن يقولوا: البسر يحمر ويطيب إن شاء الله وهذا تعليق بالمستقبل.
قال: وَهَذَا حَقٌّ فَهَذَا نَظِيرُ ذَلِكَ"
ثم ذكر اعتراض أخر على الاستدلال بالآية الكريمة وهي : لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، قال "فَإِنْ قِيلَ: فَطَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ فَرُّوا مِنْ هَذَا الْمَعْنَى وَجَعَلُوا الِاسْتِثْنَاءَ لِأَمْرِ مَشْكُوكٍ" فيه.
يعني في قول الله تعالى لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27]
بعض الناس تأول الآية وقالوا: الاستثناء ليس راجع إلى الدخول وإنما هو راجع إلى أمر مشكوك فيه ثم ذكر أقوالًا، فقال: "فَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27] أَيْ: أَمَرَكُمْ اللَّهُ بِه" يعني هذا عود إلى أمر بأمر الله بالدخول، وهذا مشكوك فيه يعني في الاستجابة للأمر. هذا قول.
القول الثاني : " وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ يَعُودُ إلَى الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ. أَيْ: لَتَدْخُلُنَّهُ آمِنِينَ فَأَمَّا الدُّخُولُ فَلَا شَكَّ فِيهِ."
وقيل: هذا قول ثاني " لَتَدْخُلُنَّ جَمِيعُكُمْ أَوْ بَعْضُكُمْ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَمُوتُ فَالِاسْتِثْنَاءُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا جَمِيعَهُمْ." هذه ثلاثة أقوال.
بين المؤلف رحمه الله أنها أقوال غير صحيحة؛ لأنها مخالفة لمدلول القرآن، وفيها وحرفوا القرآن بهذه الأقوال.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله قِيلَ: كُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَقَعَ أَصْحَابُهَا فِيمَا فَرُّوا مِنْهُ؛ مَعَ خُرُوجِهِمْ عَنْ مَدْلُولِ الْقُرْآنِ فَحَرَّفُوهُ تَحْرِيفًا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ"
ثم أجاب عنها فقال القول الأول: " فَإِنَّ قَوْل مَنْ قَالَ: أَيْ: أَمَرَكُمْ اللَّهُ بِهِ هُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ عَلِمَ هَلْ يَأْمُرُهُمْ أَوْ لَا يَأْمُرُهُمْ فَعِلْمُهُ بِأَنَّهُ سَيَأْمُرُهُمْ بِدُخُولِهِ كَعِلْمِهِ بِأَنْ سَيَدْخُلُوا فَعَلَّقُوا الِاسْتِثْنَاءَ بِمَا لَمْ يَدُلّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ" يعني إن هؤلاء له علقوا الاستثناء بشيء لا يدل عليه اللفظ، اللفظ وعلق الاستثناء معلق بالدخول صريحة، لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27].
فقولهم أن الاستثناء يعود للأمر هذا غير صحيح؛ لأن الله علم هل يأمرهم أو لا يأمرهم، فعلمه بأنه سيأمرهم بدخوله كعلمه أنهم سيدخلون، فعلقوا الاستثناء بما لا يدل عليه اللفظ.
قال المؤلف رحمه الله وَعِلْمُ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُظْهَرِ وَالْمُضْمَرِ جَمِيعًا وَكَذَلِكَ" لأن المظهر دخولهم، والمضمر علمه بأنه سيأمرهم بدخوله، وعلم الله متعلق بهذا وبهذا.
قال: "وَكَذَلِكَ أَمْنُهُمْ وَخَوْفُهُمْ هُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ آمِنِينَ أَوْ خَائِفِينَ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ آمِنِينَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ آمِنِينَ فَكِلَاهُمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَكٌّ عِنْدَ اللَّهِ"
يعني قال الله تعالى لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27] أخبر الله بهذا أنه سيدخلون آمنين فَكِلَاهُمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَكٌّ عِنْدَ اللَّهِ؛ بَلْ وَلَا عِنْدَ رَسُولِهِ يعني الدخول والأجر ليس به شك، وهو أخبر بأنهم سيدخلون وتكون حالتهم آمنين.
قال القول الثالث :" وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: جَمِيعُهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ يُقَالُ: الْمُعَلَّقُ بِالْمَشِيئَةِ دُخُولُ مَنْ أُرِيدَ بِاللَّفْظِ" يعني لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27]. والمشيئة راجع إلى من يدخل إلى من أريد باللفظ المعلق بمشيئة دخوله فإن كان أراد الجميع فالجميع لا بد أن يدخله، وإن أريد الأكثر كان دخولهم هو المعلق بالمشيئة، وما لم يريده لا يجوز أن يعلق بإن، وإنما عُلق بإن ما سيكون، الله علق ما سيكون من دخولهم.
الذين علم الله أنهم سيدخلون هم الذين داخلوا في التعليق بالمشيئة وما لم يرد الله لا يجوز أن يعلق بإن. قالوا: بـ (إنْ وَإِنَّمَا عُلِّقَ بـ (إنْ مَا سَيَكُونُ)"
قال المؤلف: " هَذَا وَعْدًا مَجْزُومًا بِهِ" هَذَا وَعْدًا مَجْزُومًا بِهِ لا تدخل المسجد إن شاء الله، هذا وعد من الله، مجزوم به ليس فيه شك.
قال: "« قَالَ عُمَر لِلنَّبِيِّ ﷺ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ: أَلَمْ تَكُنْ تُحَدِّثُنَا أَنَّا نَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى قُلْت لَك: إنَّك تَأْتِيهِ هَذَا الْعَامَ؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَإِنَّك آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ.([26]). هذا من تشوق الصحابة، متشوقين إلى دخول المسجد الحرام، قالوا يا رسول الله أنت أخبرتنا أننا سندخل، فقال النبي ﷺ، بَلَى قُلْت لَك: إنَّك تَأْتِيهِ هَذَا الْعَامَ؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَإِنَّك آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ
وكذلك أيضًا عمر قال لأبي بكر نفس المقال قال: يا أبا بكر ألم يقل النبي ﷺ إنكم تدخلون البيت، وتأتونه وتطوفون به، فقال له أبو بكر مثل ما قال النبي ﷺ، هل أخبرك هذا العام؟ قال: لا قال فَإِنَّك آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ فكان جواب أبي بكر مثل جواب النبي ﷺ، وهو لم يكن حاضر.
(المتن)
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَمْ يُعَلِّقْ غَيْرَ هَذَا مِنْ مَوَاعِيدِ الْقُرْآنِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ مَرْجِعِ النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانُوا قَدْ اعْتَمَرُوا ذَلِكَ الْعَامَ وَاجْتَهَدُوا فِي الدُّخُولِ فَصَدَّهُمْ الْمُشْرِكُونَ فَرَجَعُوا وَبِهِمْ مِنْ الْأَلَمِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ فَكَانُوا مُنْتَظِرِينَ لِتَحْقِيقِ هَذَا الْوَعْدِ ذَلِكَ الْعَامَ إذْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ وَعَدَهُمْ وَعْدًا مُطْلَقًا.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ رَأَى فِي الْمَنَامِ قَائِلًا يَقُولُ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَأَصْبَحَ فَحَدَّثَ النَّاسَ بِرُؤْيَاهُ وَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ إلَى الْعُمْرَةِ فَلَمْ تَحْصُلْ لَهُمْ الْعُمْرَةُ ذَلِكَ الْعَامَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ([27]) وَاعِدَةً لَهُمْ بِمَا وَعَدَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الْأَمْرِ الَّذِي كَانُوا يَظُنُّونَ حُصُولَهُ ذَلِكَ الْعَامَ.
وَكَانَ قَوْلُهُ: إنْ شَاءَ اللَّهُ هُنَا تَحْقِيقًا لِدُخُولِهِ وَأَنَّ اللَّهَ يُحَقِّقُ ذَلِكَ لَكُمْ؛ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ فِيمَا عَزَمَ عَلَى أَنْ يَفْعَلَهُ لَا مَحَالَةَ: وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا يَقُولُهَا لِشَكِّ فِي إرَادَتِهِ وَعَزْمِهِ بَلْ تَحْقِيقًا لِعَزْمِهِ وَإِرَادَتِهِ فَإِنَّهُ يَخَافُ إذَا لَمْ يَقُلْ: إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَنْقُضَ اللَّهُ عَزْمَهُ وَلَا يَحْصُلَ مَا طَلَبَهُ.
كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ([28]): أَنَّ سُلَيْمَانَ قَالَ: وَاَللَّهِ لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ كُلٌّ مِنْهُنَّ تَأْتِي بِفَارِسِ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: قُلْ: إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُنَّ إلَّا امْرَأَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ. قَالَ النَّبِيُّ ﷺ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ.
فَهُوَ إذَا قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَكُنْ لِشَكِّ فِي طَلَبِهِ وَإِرَادَتِهِ بَلْ لِتَحْقِيقِ اللَّهِ ذَلِكَ لَهُ إذْ الْأُمُورُ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ فَإِذَا تَأَلَّى الْعَبْدُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيقٍ بِمَشِيئَتِهِ لَمْ يَحْصُلْ مُرَادُهُ فَإِنَّهُ مَنْ يَتَأَلَّى عَلَى اللَّهِ يُكَذِّبُهُ، وَلِهَذَا يُرْوَى: لَا أَتْمَمْت لِمُقَدَّرِ أَمْرًا.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله ذكر اعتراض وملخص هذا الاعتراض أن مواعيد القرآن لم تعلق بالمشيئة، فلماذا لم تعلّق بالمشيئة الله وهذا وعد وهو الدخول إلى المسجد الحرام علق بالمشيئة.
أجاب المؤلف رحمه الله بأن هذا الوعد بالمشيئة؛ لأن الصحابة متشوقين إلى دخول المسجد الحرام لأنهم جاءوا محرمين للعمرة وهم متشوقون، فصدهم المشركون فحصل لهم من الانقباض والتأثر كيف يرجعون ولا يدخلون المسجد الحرام وقد أحرموا، فوعدهم الله، وعدهم الله بأنهم سيدخلون في المستقبل، ولهذا علق بالمشيئة للتحقيق.
قال المؤلف رحمه الله: " فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَمْ يُعَلِّقْ غَيْرَ هَذَا مِنْ مَوَاعِيدِ الْقُرْآنِ؟"
يعني لمَّ لم يعلق بالمشيئة، في مواعيد وعد الله، وعد الله وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ [الفتح:20] ولم يقل إن شاء الله، وهذا وعد وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا [الفتح:20] لكن هنا دخلوهم علق، لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27].
قال المؤلف رحمه الله: " قِيلَ: لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27] نَزَلَتْ بَعْدَ مَرْجِعِ النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ وكان في الستة من الهجرة"
قال: "وَكَانُوا قَدْ اعْتَمَرُوا ذَلِكَ الْعَامَ وَاجْتَهَدُوا فِي الدُّخُولِ فَصَدَّهُمْ الْمُشْرِكُونَ فَرَجَعُوا وَبِهِمْ مِنْ الْأَلَمِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ" يعني تكدروا وتألموا كيف يرجعون بدون الطواف وبدون أداء العمرة.
قال المؤلف رحمه الله: "فَكَانُوا مُنْتَظِرِينَ لِتَحْقِيقِ هَذَا الْوَعْدِ ذَلِكَ الْعَامَ" ظنوا أنهم سيدخلون ذلك العام لكن الله وعدهم بأنهم يدخلونه ولم يحدد ذلك العام.
قال: "إذْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ وَعَدَهُمْ وَعْدًا مُطْلَقًا. وَقَدْ «رُوِيَ أَنَّهُ رَأَى فِي الْمَنَامِ قَائِلًا يَقُولُ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَأَصْبَحَ فَحَدَّثَ النَّاسَ بِرُؤْيَاهُ وَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ إلَى الْعُمْرَةِ فَلَمْ تَحْصُلْ لَهُمْ الْعُمْرَةُ ذَلِكَ الْعَامَ يعني سنة ستة للهجرة فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ»([29]) وَاعِدَةً لَهُمْ بِمَا وَعَدَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ مِنْ الْأَمْرِ الَّذِي كَانُوا يَظُنُّونَ حُصُولَهُ ذَلِكَ الْعَامَ. وَكَانَ قَوْلُهُ: إنْ شَاءَ اللَّهُ هُنَا تَحْقِيقًا لِدُخُولِهِ وَأَنَّ اللَّهَ يُحَقِّقُ ذَلِكَ لَكُمْ"
يعني الله تعالى قال لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27] هذا تحقيق للدخول يحقق الله لهم ذلك وبيان أن هذا أمر محقق، قال: "وَأَنَّ اللَّهَ يُحَقِّقُ ذَلِكَ لَكُمْ؛ "
ثم ذكر نظير لذلك : "كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ فِيمَا عَزَمَ عَلَى أَنْ يَفْعَلَهُ لَا مَحَالَةَ: وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ" فالإنسان يقول فيما عزم على أن يفعله، يقول: والله لأفعلن كذا إن شاء الله، هل يقولها للشك؟ لا يقولها للتحقيق.
قال المؤلف رحمه الله: "لَا يَقُولُهَا لِشَكِّ فِي إرَادَتِهِ وَعَزْمِهِ بَلْ تَحْقِيقًا لِعَزْمِهِ وَإِرَادَتِهِ فَإِنَّهُ يَخَافُ إذَا لَمْ يَقُلْ: إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَنْقُضَ اللَّهُ عَزْمَهُ" فلهذا يقولها للتأكيد فإنه يَخَافُ إذَا لَمْ يَقُلْ: إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَنْقُضَ اللَّهُ عَزْمَهُ وَلَا يَحْصُلَ مَا طَلَبَهُ ثم ذكر أيضًا نظيرًا لذلك كما في الصحيحين أَنَّ سُلَيْمَانَ قَالَ: وَاَللَّهِ لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ كُلٌّ مِنْهُنَّ تَأْتِي بِفَارِسِ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. ولم يقل إن شاء الله.
وهذا الحديث في صحيح البخاري كتاب الإيمان يطوف على تسعين امرأة وكذلك في كفارة الإيمان، وكذلك في كتاب النكاح مائة، وفي كتاب التوحيد ستين، وفي صحيح مسلم ستين، وسبعين، وتسعين. ([30])
هذا فيه حرصه عليه الصلاة والسلام، عنايته بالجهاد وكونه عليه الصلاة والسلام يستحضر هذا الأمر، يطوف على تسعين امرأة إنما قصده من ذلك التعبد لله ، يعني يرجو أن تلد امرأة غلام يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، انظر إلى بعد نظره عليه الصلاة والسلام، إنما يكون هذا عبادة، إنما يكون هذا عبادة.
الإنسان حينما يفعل المباحات وينوي بذلك التعبد لله صار عبادة، فهو عليه الصلاة والسلام قال وَاَللَّهِ لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ كُلٌّ مِنْهُنَّ تَأْتِي بِفَارِسِ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: قُلْ: إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ([31]) في النص الآخر فنسي، وفي نص قال له الملك قل إن شاء الله فلم يقل
قال في الحديث فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُنَّ إلَّا امْرَأَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ يعني جاءت بنصف إنسان، . قَالَ النَّبِيُّ ﷺ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ وفي النص الآخر لَوْ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ لكان دركاً لحاجته ولقاتلوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ
قال المؤلف رحمه الله: " فَهُوَ إذَا قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَكُنْ لِشَكِّ فِي طَلَبِهِ وَإِرَادَتِهِ بَلْ لِتَحْقِيقِ اللَّهِ ذَلِكَ لَهُ" في الإيمان لو قال عليه الصلاة والسلام للتحقيق، تحقيق الله كلامه لا للشك.
قال المؤلف رحمه الله: " إذْ الْأُمُورُ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ فَإِذَا تَأَلَّى الْعَبْدُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيقٍ بِمَشِيئَتِهِ لَمْ يَحْصُلْ مُرَادُهُ" فَإِذَا تَأَلَّى الْعَبْدُ؛ يعني حكم على الشيء وحلف ولم يستثني فإنه، ولم يعلق ذلك بمشيئة الله، لم يحصل المراد، إذا تألى العبد فحكم، وتألى العبد على الله وحكم على الشيء وحلف، ولم يعلقه بمشيئة الله فلم يحصل مراده.
قال المؤلف: " فَإِنَّهُ مَنْ يَتَأَلَّى عَلَى اللَّهِ يُكَذِّبُهُ" مَنْ يَتَأَلَّى عَلَى اللَّهِ وعزم وحكم على الشيء، ولم يعلق بمشيئة الله كذبه الله.
قال ولهذا يروي:" لَا أَتْمَمْت لِمُقَدَّرٍ أَمْرًا ". هذا يروى هذا اللفظ هذا الأثر لا " لَا أَتْمَمْت لِمُقَدَّرِ أَمْرًا ".يعني الذي يقدر الشيء لنفسه ولا يسبقه بمشيئة الله لا يتم له.
(المتن)
وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ: بِمَاذَا عَرَفْت رَبَّك؟ قَالَ: بِفَسْخِ الْعَزَائِمِ وَنَقْضِ الْهِمَمِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24] َإِنَّ قَوْلَهُ: لَأَفْعَلَنَّ فِيهِ مَعْنَى الطَّلَبِ وَالْخَبَرِ وَطَلَبُهُ جَازِمٌ وَأَمَّا كَوْنُ مَطْلُوبِهِ يَقَعُ فَهَذَا يَكُونُ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَطَلَبُهُ لِلْفِعْلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ اللَّهِ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، فَفِي الطَّلَبِ: عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ اللَّهِ.
وَفِي الْخَبَرِ: لَا يُخْبِرُ إلَّا بِمَا عَلِمَهُ اللَّهُ؛ فَإِذَا جَزَمَ بِلَا تَعْلِيقٍ كَانَ كَالتَّأَلِّي عَلَى اللَّهِ فَيُكَذِّبُهُ اللَّهُ، فَالْمُسْلِمُ فِي الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ عَازِمٌ عَلَيْهِ وَمُرِيدٌ لَهُ وَطَالِبٌ لَهُ طَلَبًا لَا تَرَدُّدَ فِيهِ .
يَقُولُ: " إنْ شَاءَ اللَّهُ" لِتَحْقِيقِ مَطْلُوبِهِ وَحُصُولِ مَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ لَا لِتَرَدُّدِ فِي إرَادَتِهِ، وَالرَّبُّ تَعَالَى مُرِيدٌ لِإِنْجَازِ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ إرَادَةً جَازِمَةً لَا مَثْنَوِيَّةَ فِيهَا وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ لَيْسَ كَالْعَبْدِ الَّذِي يُرِيدُ مَا لَا يَكُونُ وَيَكُونُ مَا لَا يُرِيدُ.
فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَحْقِيقُ أَنَّ مَا وَعَدْتُكُمْ بِهِ يَكُونُ لَا مَحَالَةَ بِمَشِيئَتِي وَإِرَادَتِي فَإِنَّ مَا شِئْتُ كَانَ وَمَا لَمْ أَشَأْ لَمْ يَكُنْ؛ فَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ هُنَا لِقَصْدِ التَّحْقِيقِ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ مَطْلُوبُهُمْ الَّذِي وُعِدُوا بِهِ ذَلِكَ الْعَامَ، وَأَمَّا سَائِرُ مَا وُعِدُوا بِهِ فَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.
وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ أَرَادَ بِاسْتِثْنَائِهِ فِي الْيَمِينِ هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ التَّحْقِيقُ فِي اسْتِثْنَائِهِ لَا التَّعْلِيقُ: هَلْ يَكُونُ مُسْتَثْنِيًا بِهِ أَمْ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ؟ بِخِلَافِ مَنْ تَرَدَّدَتْ إرَادَتُهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُسْتَثْنِيًا بِلَا نِزَاعٍ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْجَمِيعِ مُسْتَثْنِيًا لِعُمُومِ الْمَشِيئَةِ وَلِأَنَّ الرَّجُلَ وَإِنْ كَانَتْ إرَادَتُهُ لِلْمَحْلُوفِ بِهِ جَازِمَةً فَقَدْ عَلَّقَهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ فَهُوَ يَجْزِمُ بِإِرَادَتِهِ لَهُ لَا يَجْزِمُ بِحُصُولِ مُرَادِهِ وَلَا هُوَ أَيْضًا مُرِيدٌ لَهُ بِتَقْدِيرِ أَلَّا يَكُونَ؛ فَإِنَّ هَذَا تَمْيِيزٌ لَا إرَادَةَ فَهُوَ إنَّمَا الْتَزَمَهُ إذَا شَاءَ اللَّهُ فَإِذَا لَمْ يَشَأْهُ لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِيَمِينِهِ وَلَا حَلَفَ أَنَّهُ يَكُونُ: وَإِنْ كَانَتْ إرَادَتُهُ لَهُ جَازِمَةً فَلَيْسَ كُلُّ مَا أُرِيدَ الْتَزَمَ بِالْيَمِينِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
(الشرح)
فإن المؤلف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بيَّن في هذا الكتاب "كتاب الإيمان الكبير" مسمَّى الإيمان عند أهل السنة والجماعة، وأنه قول باللسان تصديق بالقلب، وعمل بالقلب وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وبين أن عقيدة أهل السنة والجماعة الاستثناء في الإيمان، جواز الاستثناء في الإيمان، وهو أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله، وذلك لأن الاستثناء راجع إلى العمل، لأن الإنسان لا يزكي نفسه ولا يلزمه بأنه يؤدى ما عليه، ولهذا يقول أنا مؤمن إن شاء الله، وكذلك أيضًا يجوز الاستثناء في الأمر المحقق تحقيقًا للفعل وتعليقًا للأمر بمشيئة الله ، ولأن هذا راجع إلى علم الله في المستقبل، والمؤلف يرد بذلك على المرجئة والجهمية الذين ينكرون الاستثناء في الإيمان ويمنعونه من ذلك منعًا باتًا قاطعًا ويقولون: إن من استثنى في إيمانه فهو شاك في إيمانه فهو شاك في إيمانه.
قد نقل المؤلف رحمه الله الأدلة الكثيرة على جواز الاستثناء في الإيمان، ونقل كلام العلماء من الصحابة وغيرهم كابن مسعود وسفيان الثوري، ونقل نقول عن الإمام أحمد، كلها تدل على جواز الاستثناء؛ لأن الاستثناء راجع إلى العمل ولأن الاستثناء في الأمر المحقق يكون لتحقيقه.
ثم قال المؤلف رحمه الله يؤيد الاستثناء في الأمر المحقق قال: "وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ: بِمَاذَا عَرَفْت رَبَّك؟ قَالَ: بِفَسْخِ الْعَزَائِمِ وَنَقْضِ الْهِمَمِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24] هذا تعليم من الله لنا أن نعلق الأمر بمشيئة الله إذا أردنا أن نفعل شيئًا في المستقبل. قَالَ: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24]
قال: " فَإِنَّ قَوْلَهُ: لَأَفْعَلَنَّ فِيهِ مَعْنَى الطَّلَبِ وَالْخَبَرِ وَطَلَبُهُ جَازِمٌ" يعني إذا قلت لأفعلن كذا فيه معنيان: فِيهِ مَعْنَى الطَّلَبِ وفيه معنى َالْخَبَرِ. والطلب جازم وأما هل المطلوب يقع أو لا يقع؟ هذا إنما يكون بمشيئة الله، والطلب للفعل ينبغي أن يكون من الله، فالمسلم عليه أن يطلب ذلك من الله، وأما الخبر يخبر بما علمه الله، وأما الطلب فإنه يطلبه من الله، فإذا جزم ولم يعلق ترك كأنه حكم على الله حكم على الشيء وحلف ولم يستثنى فكان كالمتألى على الله، فلا يقع مطلوبه بل يكذبه الله.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فَإِنَّ قَوْلَهُ: لَأَفْعَلَنَّ فِيهِ مَعْنَى الطَّلَبِ وَالْخَبَرِ وَطَلَبُهُ جَازِمٌ وَأَمَّا كَوْنُ مَطْلُوبِهِ يَقَعُ فَهَذَا يَكُونُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَطَلَبُهُ لِلْفِعْلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ اللَّهِ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، فَفِي الطَّلَبِ: عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ اللَّهِ، وَفِي الْخَبَرِ: لَا يُخْبِرُ إلَّا بِمَا عَلِمَهُ اللَّهُ" يعني إذا نظر إلى الطلب، فإن الطلب يكون إلا من الله، وإذا نظر إلى الخبر لا يكون إلا بما علمه الله، فإذا جزم بلا تعليق فكان كالمتألى على الله فيكذبه الله.
قال: " فَالْمُسْلِمُ فِي الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ عَازِمٌ عَلَيْهِ وَمُرِيدٌ لَهُ وَطَالِبٌ لَهُ طَلَبًا لَا تَرَدُّدَ فِيهِ يَقُولُ: " إنْ شَاءَ اللَّهُ " لماذا؟ لِتَحْقِيقِ مَطْلُوبِهِ وَحُصُولِ مَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ لَا لِتَرَدُّدِ فِي إرَادَتِهِ،" يعني الإنسان حينما يطلب طلبًا يعلق بمشيئة الله لتحقيق الطلب، لا لأنه يتردد.
قال: " وَالرَّبُّ تَعَالَى مُرِيدٌ لِإِنْجَازِ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ إرَادَةً جَازِمَةً لَا مَثْنَوِيَّةَ فِيهَا" يعني يشير إلى قوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ الله تعالى وعدهم بالدخول وهو منجز ما وعدهم بلا شك.
ولهذا قال: "وَالرَّبُّ تَعَالَى مُرِيدٌ لِإِنْجَازِ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ إرَادَةً جَازِمَةً لَا مَثْنَوِيَّةَ فِيهَا وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ لَيْسَ كَالْعَبْدِ الَّذِي يُرِيدُ مَا لَا يَكُونُ وَيَكُونُ مَا لَا يُرِيدُ"
الله تعالى إذا أراد شيء قال له: كن فيكون لا بد أن يقع، بخلاف العبد قد يريد شيئًا لا يكون ويكون شيئا لا يريده.
قال: " فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَحْقِيقُ"
يعني في قوله تعالى لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27] يقول هذه الآية تحقيق أَنَّ مَا وَعَدْتُكُمْ بِهِ يَكُونُ لَا مَحَالَةَ بِمَشِيئَتِي وَإِرَادَتِي فَإِنَّ مَا شِئْتُ كَانَ وَمَا لَمْ أَشَأْ لَمْ يَكُنْ.
يعني الرب قال: فَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ هُنَا لِقَصْدِ التَّحْقِيقِ يعني في قوله تعالى لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27] لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ مَطْلُوبُهُمْ الَّذِي وُعِدُوا بِهِ ذَلِكَ الْعَامَ هذا عام الحديبية، هم وعدوا ولكن ما حصل في ذلك العام، فأخبر الله أنه سيحصل.
قال: "وَأَمَّا سَائِرُ مَا وُعِدُوا بِهِ فَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ." بخلاف الوعود الأخرى فهذا هو السبب لتعليق هذه الوعود علق بالمشيئة.
قال المؤلف رحمه الله: "وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ أَرَادَ بِاسْتِثْنَائِهِ فِي الْيَمِينِ هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ التَّحْقِيقُ فِي اسْتِثْنَائِهِ لَا التَّعْلِيقُ: هَلْ يَكُونُ مُسْتَثْنِيًا"
اختلف الفقهاء في من أراد بالاستثناء في قوله: لأفعلن كذا إن شاء الله وأراد التحقيق لا التعليق، هل يكون مستثني؟ يعني فلا تلزمه الكفارة، أو تلزمه الكفارة إذا حلف لأنه لا يكون مستثنى هذا قولهم، والصحيح من القولين: أنه يكون مستثنيًا في الأمرين.
بين المؤلف الخلاف في هذه المسألة إذا قال لأفعلن كذا إن شاء الله وقصد التحقيق في الاستثناء على التعليق.
قال بعض العلماء يكون مستثني فلا يلزمه الكفارة، وقال آخرون لا يكون مستثني فتلزمه الكفارة، قال: بخلاف من ترددت إرادته فلا يكون مستثنيًا بلا نزاع الذي ترددت إرادته لا يكون مستثنيًا، فإنه لا يكون مستثنيًا بلا نزاع، أما الذي يتردد ففيه الخلاف.
قال المؤلف: "وَالصَّحِيحُ؛ يعني من القولين أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْجَمِيعِ مُسْتَثْنِيًا"
ثم ذكر وجه الترجيح قال: لأمرين: الأول لِعُمُومِ الْمَشِيئَةِ.
الثاني: وَلِأَنَّ الرَّجُلَ وَإِنْ كَانَتْ إرَادَتُهُ لِلْمَحْلُوفِ بِهِ جَازِمَةً فَقَدْ عَلَّقَهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ فَهُوَ يَجْزِمُ بِإِرَادَتِهِ لَهُ لَا يَجْزِمُ بِحُصُولِ مُرَادِهِ يجزم أنه مورد له ولكن لا يجزم بالحصول ، الحصول هذا إلى الله.
قال: "وَلَا هُوَ أَيْضًا مُرِيدٌ لَهُ بِتَقْدِيرِ أَلَّا يَكُونَ" هو يريده إذا قدر الله أنه يكون ولا يريده إذا لم يقدر الله أن يكون.
قال: "فَإِنَّ هَذَا تَمْيِيزٌ لَا إرَادَةَ فَهُوَ إنَّمَا الْتَزَمَهُ إذَا شَاءَ اللَّهُ" إذا شاء الله يلتزم حصول المراد.
قال: "فَإِذَا لَمْ يَشَأْهُ؛ يعني إذا لَمْ يَشَأْهُ الله لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِيَمِينِهِ وَلَا حَلَفَ أَنَّهُ يَكُونُ: وَإِنْ كَانَتْ إرَادَتُهُ لَهُ جَازِمَةً" يعني هو مريد هو جازم لكن ذلك معلق بمشيئة الله.
قال: "فَلَيْسَ كُلُّ مَا أُرِيدَ الْتَزَمَ بِالْيَمِينِ" ولهذا قال: "فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ"
(المتن)
وَقَدْ تَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: إنْ شَاءَ اللَّهُ يَكُونُ مَعَ كَمَالِ إرَادَتِهِ فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ وَهُوَ يَقُولُهَا لِتَحْقِيقِ الْمَطْلُوبِ؛ لِاسْتِعَانَتِهِ بِاَللَّهِ فِي ذَلِكَ لَا لِشَكِّ فِي الْإِرَادَةِ هَذَا فِيمَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ وَيُرِيدُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27].
فَإِنَّهُ خَبَرٌ عَمَّا أَرَادَ اللَّهُ كَوْنَهُ، وَهُوَ عَالِمٌ بِأَنْ سَيَكُونُ وَقَدْ عَلَّقَهُ بِقَوْلِهِ: إنْ شَاءَ اللَّهُ فَكَذَلِكَ مَا يُخْبِرُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنْ مُسْتَقْبَلِ أَمْرِهِ مِمَّا هُوَ جَازِمٌ بِإِرَادَتِهِ، وَجَازِمٌ بِوُقُوعِهِ فَيَقُولُ فِيهِ: " إنْ شَاءَ اللَّهُ " لِتَحْقِيقِ وُقُوعِهِ لَا لِلشَّكِّ لَا فِي إرَادَتِهِ وَلَا فِي الْعِلْمِ بِوُقُوعِهِ.
وَلِهَذَا يَذْكُرُ الِاسْتِثْنَاءَ عِنْدَ كَمَالِ الرَّغْبَةِ فِي الْمُعَلَّقِ، وَقُوَّةِ إرَادَةِ الْإِنْسَانِ لَهُ. فَتَبْقَى خَوَاطِرُ الْخَوْفِ تُعَارِضُ الرَّجَاءَ؛ فَيَقُولُ: " إنْ شَاءَ اللَّهُ " لِتَحْقِيقِ رَجَائِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنْ سَيَكُونُ كَمَا يَسْأَلُ اللَّهَ وَيَدْعُوهُ فِي الْأَمْرِ الَّذِي قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يَكُونُ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ بَدْرٍ قَدْ أَخْبَرَهُمْ بِمَصَارِعِ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ هُوَ بَعْدَ هَذَا يَدْخُلُ إلَى الْعَرِيشِ يَسْتَغِيثُ رَبَّهُ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِمَا يُقَدِّرُهُ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ قَدَّرَهُ بِأَسْبَابِ، وَالدُّعَاءُ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِهِ، كَذَلِكَ رَجَاءُ رَحْمَةِ اللَّهِ وَخَوْفُ عَذَابِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِهِ وَحُصُولِ رَحْمَتِهِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ يَحْصُلُ فِي الْخَبَرِ الْمَحْضِ وَفِي الْخَبَرِ الَّذِي مَعَهُ طَلَبٌ؛ فَالْأَوَّلُ إذَا حَلَفَ عَلَى جُمْلَةٍ خَبَرِيَّةٍ لَا يَقْصِدُ بِهِ حَضًّا وَلَا مَنْعًا بَلْ تَصْدِيقًا أَوْ تَكْذِيبًا كَقَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَيَكُونَنَّ كَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ لَا يَكُونُ كَذَا.
وَالْمُسْتَثْنِي قَدْ يَكُونُ عَالِمًا بِأَنَّ هَذَا يَكُونُ أَوْ لَا يَكُونُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: لَتَدْخُلُنَّ فَإِنَّ هَذَا جَوَابٌ غَيْرُ مَحْذُوفٍ. وَالثَّانِي: مَا فِيهِ مَعْنَى الطَّلَبِ، كَقَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ لَا أَفْعَلُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ فَالصِّيغَةُ صِيغَةُ خَبَرٍ ضَمَّنَهَا الطَّلَبَ وَلَمْ يَقُلْ: وَاَللَّهِ إنِّي لَمُرِيدٌ هَذَا وَلَا عَازِمٌ عَلَيْهِ بَلْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَيَكُونَنَّ.
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَقَدْ حَنِثَ لِوُقُوعِ الْأَمْرِ بِخِلَافِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَحَنِثَ فَإِذَا قَالَ: " إنْ شَاءَ اللَّهُ " فَإِنَّمَا حَلَفَ عَلَيْهِ بِتَقْدِيرِ: إنْ يَشَأْ اللَّهُ لَا مُطْلَقًا.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله بيَّن أن الإنسان حينما يقول: إن شاء الله لا يلزم من ذلك الشك وإنما يكون مع كمال الإرادة لحصول المطلوب، لكن إنما يعلق الأمر بمشيئة الله؛ لأنه يستعين بالله، استعانة بالله حتى يحقق له مطلوبة، وهذا أيضًا يكون بالشيء الذي يحلف عليه، ثم استدل بالآية، فإن الله وعد المؤمنين بالدخول وهو وعدٌ محقق ومع ذلك علقه بالمشيئة.
قال: "وَقَدْ تَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: إنْ شَاءَ اللَّهُ يَكُونُ مَعَ كَمَالِ إرَادَتِهِ فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ" يعني هو عنده ارادة كاملة في حصول المطلوب وَهُوَ يَقُولُهَا لِتَحْقِيقِ الْمَطْلُوبِ؛ لِاسْتِعَانَتِهِ بِاَللَّهِ فِي ذَلِكَ لَا لِشَكِّ فِي الْإِرَادَةِ هَذَا فِيمَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ وَيُرِيدُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27].
قال: "فَإِنَّهُ خَبَرٌ عَمَّا أَرَادَ اللَّهُ كَوْنَهُ وَهُوَ عَالِمٌ بِأَنْ سَيَكُونُ وَقَدْ عَلَّقَهُ بِقَوْلِهِ: إنْ شَاءَ اللَّهُ" هذا خبر أن ما أراد الله أنه سيكون والله عالم بذلك، ومع ذلك علقه بالمشيئة للتحقيق.
قال: "فَكَذَلِكَ مَا يُخْبِرُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنْ مُسْتَقْبَلِ أَمْرِهِ مِمَّا هُوَ جَازِمٌ بِإِرَادَتِهِ، وَجَازِمٌ بِوُقُوعِهِ فَيَقُولُ فِيهِ: " إنْ شَاءَ اللَّهُ " لماذا؟
قال: "لِتَحْقِيقِ وُقُوعِهِ لَا لِلشَّكِّ لَا فِي إرَادَتِهِ وَلَا فِي الْعِلْمِ بِوُقُوعِهِ" هو جازم بإرادته وهو أيضًا عالم بوقوعه، ومع ذلك يقول إن شاء الله للتحقيق.
قال المؤلف رحمه الله: "وَلِهَذَا يَذْكُرُ الِاسْتِثْنَاءَ عِنْدَ كَمَالِ الرَّغْبَةِ فِي الْمُعَلَّقِ، وَقُوَّةِ إرَادَةِ الْإِنْسَانِ لَهُ. فَتَبْقَى خَوَاطِرُ الْخَوْفِ تُعَارِضُ الرَّجَاءَ" يعني الإنسان يستثني في شيء عنده رغبة كاملة في المعلق وعنده قوة أرادة الله، لكن لماذا يستثني لأن [01:18:55] خواطر الخوف والرجاء، هو يخاف من عدم حصوله ويرجو حصوله، فلذلك يستثني.
قال المؤلف رحمه الله: " وَلِهَذَا يَذْكُرُ الِاسْتِثْنَاءَ عِنْدَ كَمَالِ الرَّغْبَةِ فِي الْمُعَلَّقِ، وَقُوَّةِ إرَادَةِ الْإِنْسَانِ لَهُ. فَتَبْقَى خَوَاطِرُ الْخَوْفِ تُعَارِضُ الرَّجَاءَ؛ فَيَقُولُ: " إنْ شَاءَ اللَّهُ " لِتَحْقِيقِ رَجَائِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنْ سَيَكُونُ " ذكر المؤلف لذلك نظيرًا، نظير ذلك أن الإنسان يسأل الله ويدعوه في أمر يعلم أنه سيحدث مثل دعاء النبي ﷺ في يوم بدر على المشركين وهو قد علم بأنهم سيحصل لهم مصارع ويحصل لهم قتل، لكن لماذا يدعو ربه؟ لأنه يتعبد لله بذلك ولأن المقدر قد يكون معلق بسبب الدعاء من أعظم الأسباب.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " كَمَا يَسْأَلُ اللَّهَ وَيَدْعُوهُ فِي الْأَمْرِ الَّذِي قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يَكُونُ كَمَا «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ بَدْرٍ قَدْ أَخْبَرَهُمْ بِمَصَارِعِ الْمُشْرِكِينَ »([32]) "وهذا معروف حديث رواه الإمام مسلم([33]) عن عمر في كتاب الجهاد وفي كتاب التفسير، فالنبي ﷺ دخل العريش وقال اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي.
قال المؤلف: لِأَنَّ الْعِلْمَ بِمَا يُقَدِّرُهُ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ قَدَّرَهُ بِأَسْبَابِ، وَالدُّعَاءُ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِهِ، كَذَلِكَ رَجَاءُ رَحْمَةِ اللَّهِ وَخَوْفُ عَذَابِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِهِ وَحُصُولِ رَحْمَتِهِ." يعني كما أن الإنسان يدعو بشيء محقق فذلك أيضًا يعلق الأمر بشيء محقق لأن هذا راجع إلى الخوف والرجاء.
قال المؤلف رحمه الله: "َالِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ يَحْصُلُ فِي الْخَبَرِ الْمَحْضِ وَفِي الْخَبَرِ الَّذِي مَعَهُ طَلَبٌ" الخبر المحض يعني خالف ليس فيه طلب، وخبر معه طلب .
قال: "فَالْأَوَّلُ إذَا حَلَفَ عَلَى جُمْلَةٍ خَبَرِيَّةٍ لَا يَقْصِدُ بِهِ حَضًّا وَلَا مَنْعًا بَلْ تَصْدِيقًا أَوْ تَكْذِيبًا كَقَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَيَكُونَنَّ كَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ لَا يَكُونُ كَذَا." إن شاء الله
قال: "وَالْمُسْتَثْنِي قَدْ يَكُونُ عَالِمًا بِأَنَّ هَذَا يَكُونُ أَوْ لَا يَكُونُ كما في الآية كَمَا فِي قَوْلِهِ: لَتَدْخُلُنَّ في قوله لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ [الفتح:27].
قال: فَإِنَّ هَذَا جَوَابٌ غَيْرُ مَحْذُوفٍ. وهو الدخول"
والأمر الثاني الذي فيه الطلب، الأمر الثاني: الاستثناء بالمشيئة في الخبر الذي معه طلب، كَقَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ لَا أَفْعَلُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
قال المؤلف: "فَالصِّيغَةُ صِيغَةُ خَبَرٍ ضَمَّنَهَا الطَّلَبَ وَلَمْ يَقُلْ: وَاَللَّهِ إنِّي لَمُرِيدٌ هَذَا وَلَا عَازِمٌ عَلَيْهِ بَلْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَيَكُونَنَّ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَقَدْ حَنِثَ" يعني إذا لم يحصل هذا حنث يعني تلزمه الكفارة "فَقَدْ حَنِثَ لِوُقُوعِ الْأَمْرِ بِخِلَافِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَحَنِثَ فَإِذَا قَالَ: " إنْ شَاءَ اللَّهُ " فَإِنَّمَا حَلَفَ عَلَيْهِ بِتَقْدِيرِ: إنْ يَشَأْ اللَّهُ لَا مُطْلَقًا" يعني فلا يحلف.
فلو قال لأفعلن كذا وهو عازم ثم لم يحصل فإنه عليه الكفارة إذا حنث، أما إذا علق بالمشيئة وقال: لأفعلن كذا إن شاء الله ثم لم يحصل فلا يحنث لماذا؟ لأنه علقه بالمشيئة؛ لأنه قال حلف بتقدير أن يشاء الله لا مطلق فلهذا لا يحنث.
(المتن)
وَلِهَذَا ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّهُ مَتَى لَمْ يُوجَدْ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ حَنِثَ أَوْ مَتَى وَجَدَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ حَنِثَ سَوَاءٌ كَانَ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا أَوْ جَاهِلًا فَإِنَّهُمْ لَحَظُوا أَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الْخَبَرِ فَإِذَا وُجِدَ بِخِلَافِ مُخْبِرِهِ فَقَدْ حَنِثَ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: بَلْ هَذَا مَقْصُودُهُ الْحَضُّ وَالْمَنْعُ كَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَمَتَى نُهِيَ الْإِنْسَانُ عَنْ شَيْءٍ فَفَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا فَكَذَلِكَ هَذَا.
قَالَ الْأَوَّلُونَ: فَقَدْ يَكُونُ فِي مَعْنَى التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ كَقَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَيَقَعَنَّ الْمَطَرُ أَوْ لَا يَقَعُ وَهَذَا خَبَرٌ مَحْضٌ لَيْسَ فِيهِ حَضٌّ وَلَا مَنْعٌ وَلَوْ حَلَفَ عَلَى اعْتِقَادِهِ فَكَانَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ حَنِثَ وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَلِفِ عَلَى الْمَاضِي وَالْحِلْفِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمَاضِي غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ فَإِذَا أَخْطَأَ فِيهَا لَمْ يَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ كَالْغَمُوسِ بِخِلَافِ الْمُسْتَقْبَلِ.
وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَثْنِيَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إذَا كَانَ فَعَلَهُ. قَالَ تَعَالَى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7] فَأَمَرَهُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى مَا سَيَكُونُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سبأ:3].
كَمَا أَمَرَهُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى الْحَاضِرِ فِي قَوْلِهِ: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إي وَرَبِّي إنَّهُ لَحَقٌّ [يونس:53].
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَنْزِلَنَّ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا وَإِمَامًا مُقْسِطًا ([34]). وَقَالَ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَا قَتَلَ، وَلَا الْمَقْتُولُ فِيمَا قُتِلَ([35]). وَقَالَ: إذَا هَلَكَ كِسْرَى أَوْ لِيَهْلِكَ كِسْرَى ثُمَّ لَا يَكُونُ كِسْرَى بَعْدَهُ وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ. وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ([36]). وَكِلَاهُمَا فِي الصَّحِيحِ.
فَأَقْسَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين.
(الشرح)
نعم المؤلِّف رحمه الله تكلم في مسألة خلافية وهي إذا حلف على شيء في المستقبل أنه يكون أو لا يكون، ثُمَّ لم يحصل المحلوف عليه، بأن فعل ما حلف على تركه أو ترك أو ما حلف على فعله وقد يكون ناسيًا أو مخطئًا أو جاهلًا فما الحكم؟
ذكر المؤلف رحمه الله أن هذه المسألة فيها قولان لأهل العلم قال: "وَلِهَذَا ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّهُ مَتَى لَمْ يُوجَدْ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ حَنِثَ أَوْ مَتَى وَجَدَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ حَنِثَ" يعني إذا قال والله لا أدخل بيت فلان، يعني في المستقبل أو والله لأدخلن بيت فلان ثم قال والله لا أدخل بيت فلان ثم دخله، أو قال والله لأدخلن بيت فلان ثم لم يدخل.
قال المؤلف: يحنث، ذهب كثير من الفقهاء أنه يحنث، بمعنى أن عليه كفارة حيث لم يقع على فعله أو على تركه، حنث أو ما توجه المحلوف عليه أنه لا يكون حلف سواء كان ناسيًا أو مخطئًا او جاهلًا لماذا؟
الذين قالوا، قال جمع من الفقهاء: إنه يحَنِثَْ إذا لم يوجد الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ أو مَتَى وَجَدَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ سواء كان فعله نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا أَوْ جَاهِلًا حجتهم قالوا: لأن لاحظوا أن هذا في معنى الخبر، لاحظوا معنى الخبر قالوا: فَإِذا وُجِدَ بِخِلَافِ مُخْبِرِهِ فَقَدْ حَنِثَ، فيحنث مطلقًا إذا لم يفعل ما حلف على تركه أو على فعله فإنه يكون حانثًا وعليه الكفارة أو فعله ناسيًا أو جاهلًا أو مخطئًا؛ لأنهم نظروا إلى الخبر.
وَقَالَ آخَرُونَ: لا يحنث إذا فعله ناسياً أو مخطئًا أو جاهلًا لماذا؟ لأنهم لاحظوا معنى الأمر.
وقال الآخرون: بَلْ هَذَا مَقْصُودُهُ الْحَضُّ وَالْمَنْعُ كَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَمَتَى نُهِيَ الْإِنْسَانُ عَنْ شَيْءٍ فَفَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا فَكَذَلِكَ هَذَا"
قَالَ الْأَوَّلُونَ الذين قالوا أنه يحنث مبينين وجه نظرهم "قَالَ الْأَوَّلُونَ: فَقَدْ يَكُونُ فِي مَعْنَى التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ" يقولون: إنه يكون في معنى التصديق والتكذيب ويكون خبر محض كَقَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَيَقَعَنَّ الْمَطَرُ أَوْ لَا يَقَعُ وَهَذَا خَبَرٌ مَحْضٌ لَيْسَ فِيهِ حَضٌّ وَلَا مَنْعٌ وَلَوْ حَلَفَ عَلَى اعْتِقَادِهِ فَكَانَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فأنه يحَنِثَ"
قال المؤلف رحمه الله: "وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَلِفِ عَلَى الْمَاضِي وَالْحِلْفِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ" فالحلف على الماضي من غير منعقدة، والحلف على المستقبل اليمين منعقدة، فالكفارة إنما تجب في الحلف على المستقبل إذا لم يوجد المحلوف عليه أو وجد المحلوف عليه أنه لا يفعله تلزمه الكفارة في المستقبل.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَلِفِ عَلَى الْمَاضِي وَالْحِلْفِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمَاضِي غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ فَإِذَا أَخْطَأَ فِيهَا لَمْ يَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ كَاليمين الْغَمُوسِ" اليمين الغموس: هو الذي يحلف الإنسان على شيء مضى على شيء مضى [01:27:50] المسلم كان يحلف الإنسان عند القاضي، أو عند الحاكم الشرعي، يقول ليس لفلان علي حق، ليس لي عليه دين ويكون كذابًا، هذه اليمين الغموس، سميت غموس؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم تغمسه في النار، هذه اليمين غير منعقدة لأنها على شيء مضى على شيء ماضي وإن كان صاحبها يأثم لكن لا تجب فيها الكفارة؛ لأنها على شيء مضي.
قال: "بِخِلَافِ الْمُسْتَقْبَلِ. وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَثْنِيَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إذَا كَانَ فَعَلَهُ." يعني فعل فوجد استثناءه.
ثم استدل المؤلف رحمه الله بأدلة من الكتاب والسنة تدل على أنه لا يلزم الاستثناء على أنه لا يلزم الاستثناء، على انه لا يستثني في المستقبل.
فقال: قال تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7]
قال فَأَمَرَهُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى مَا سَيَكُونُ يعني من غير استثناء ولم يقل إن شاء الله، وكذلك قال تعالى قوله وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سبأ:3] أمره أنه يقسم على شيء مستقبل ولم يأتي الاستثناء ولم يقل إن شاء الله كما أنه لا يستثني في القسم على الحاضر.
قال: "كَمَا أَمَرَهُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى الْحَاضِرِ فِي قَوْلِهِ: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إي وَرَبِّي إنَّهُ لَحَقٌّ [يونس:53] ولم يقل إن شاء الله فلم يستثني على القسم في المستقبل ولم يستثني على القسم في الماضي، ثم ذكر الأدلة من السنة أيضًا أمور مستقبله حلف على أمر مستقبل ومع ذلك لم يستثني النَّبِيُّ ﷺ.
قال: " قَالَ النَّبِيُّ ﷺ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَنْزِلَنَّ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا وَإِمَامًا مُقْسِطًا" يعني عادلًا وهذا الحديث رواه الشيخان([37])، يعني في المستقبل ولم يقل إن شاء الله.
وقال عليه الصلاة والسلام وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَا قَتَلَ، وَلَا الْمَقْتُولُ فِيمَا قُتِلَ.([38]) يعني هذا في المستقبل ولم يقل إن شاء الله.
وقال عليه الصلاة والسلام، وهذا الحديث أيضًا رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة في كتاب الفتن وقال إذَا هَلَكَ كِسْرَى أَوْ لِيَهْلِكَ كِسْرَى ثُمَّ لَا يَكُونُ كِسْرَى بَعْدَهُ وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ. وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ([39])وهذا الحديث رواه البخاري رحمه الله في صحيحه، ورواه مسلم أيضًا، رواه الشيخان. ولهذا قال المؤلف رحمه الله: وَكِلَاهُمَا فِي " الصَّحِيحِ ".
وجه الدلالة من هذه النصوص التي أخبر بها النبي ﷺ قول وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَنْزِلَنَّ فِيكُمْ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا، إذَا هَلَكَ كِسْرَى.
قال: " فَأَقْسَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ".
([1]) – ينظر : السنة للخلال (3/602)
([2]) – سبق
([3]) – أخرجه أحمد رقم (25089) من حديث عائشة رضي الله عنها.، وابن ماجه رقم (4268) من حديث أبي هريرة
([4]) –سبق
([5]) –
([6]) –سبق
([7]) –سبق
([8]) – ينظر : السنة للخلال (3/595)
([9]) –والحديث سبق تخريجه (ص)
([10]) – ينظر : السنة للخلال (3/595)
([11]) – والحديث سبق تخريجه (ص)
([12]) – ينظر : السنة للخلال (3/595)
([13]) – والحديث سبق تخريجه (ص)
([14]) – سبق
([15]) – سبق
([16]) – سبق
([17]) – ينظر: السنة للخلال (3/596)
([18]) – سبق
([19]) – سبق
([20]) – سبق
([21]) – سبق
([22]) – سبق
([23]) –
([24]) – سبق
([25]) – سبق
([26]) –
([27]) –
([28]) – أخرجه البخاري في عدة مواضع منها رقم (3424)، ومسلم رقم (1654) من حديث أبي هريرة .
([29]) –
([30]) – سبق
([31]) –
([32]) –
([33]) – رقم (1763).
([34]) – أخرجه البخاري رقم (2222) ومسلم رقم (155) من حديث أبي هريرة .
([35]) –أخرجه رقم (155) من حديث أبي هريرة .
([36]) – رجه البخاري رقم (3121) ومسلم رقم (2919) من حديث جابر بن سمرة .
([37]) –سبق
([38]) –سبق
([39]) –سبق