شعار الموقع

شرح كتاب الإيمان الأوسط_4

00:00
00:00
تحميل
171

ذكر صفات المنافقين في سورة النساء

 

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال تعالى في سورة النساء: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا [النساء:60-61]إلى قوله: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]. وقال تعالى: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:88-90] الآيات. وقال تعالى: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [النساء:138-139] إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا * الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ [النساء:140-141] إلى قوله: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء:142-143]إلى قوله: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:145-146] ]. إن من الأصول المتفق عليها المعلومة من الدين بالضرورة أن الناس كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف: مؤمنين باطناً وظاهراً، وكفاراً باطناً وظاهرًا، ومسلمين في الظاهر كفاراً في الباطن وهم المنافقون. ولقد سرد المؤلف رحمه الله الآيات التي فيها بيان صفات المنافقين، وهذا الصنف من الناس كثيرون موجودون في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وما بعده من الأزمان إلى يوم القيامة، فإذا قوي المسلمون صار هناك منافقون يخفون كفرهم ونفاقهم؛ لئلا تقام عليهم الحدود؛ لأنهم لو أظهروا كفرهم قتلوا، فهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، لكن في وقت ضعف المسلمين يعلنون كفرهم ولا يبالون، فوجود المنافقين يدل على قوة المسلمين في المجتمع، ولهذا لم يكن في مكة في أول دعوة النبي صلى الله عليه وسلم منافقون، لم يكن فيها إلا مؤمن أو كافر ظاهراً وباطناً، بل إن بعض المؤمنين يخفون إسلامهم بسبب إيذاء الكفار لهم. فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكثر الداخلون في الإسلام، ووقعت غزوة بدر، وانتصر فيها المسلمون انتصاراً عظيماً، وأعز الله جنده ورسوله والمؤمنين؛ أظهر بعض الناس الإسلام وأبطنوا الكفر، ممن في قلوبهم مرض من اليهود والمشركين. ثم بين المؤلف رحمه الله أن الآيات التي فيها بيان صفة المنافقين كثيرة في القرآن العظيم، قل أن تجد سورة مدنية إلا وفيها شيء من صفاتهم.

 

 

 

تحاكم المنافقين إلى الطاغوت

 

 

 

قال تعالى في سورة النساء: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:60] في هذه الآية وصف الله المنافقين بأنهم يتحاكمون إلى الطاغوت، والطاغوت: هو كل ما خالف كتاب الله وسنة رسوله. فقوله: ((ألم تر)) يفهم منه التعجب. وقوله: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ )) أي: يدَّعون. (( أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ )) والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. (( وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ )) لا يمكن أن يجمعوا بين أمرين متناقضين: الإيمان بالله وبرسوله وبما أنزل إليه من قبل، والتحاكم إلى الطاغوت؛ لأن التحاكم إلى الطاغوت ينافي الإيمان بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله، ومع ذلك يتحاكمون إلى الطاغوت، وهو ما خالف كتاب الله وسنة رسوله، فالتحاكم إلى الطاغوت ينقض الإيمان بالله ورسوله، والإيمان بالله ورسوله ينافي التحاكم إلى الطاغوت، فإذا جمعوا بينهما دل على كفرهم ونفاقهم. ثم قال سبحانه: (( وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا )) بين الله سبحانه وتعالى أن التحاكم إلى الطاغوت من إرادة الشيطان، وأنه ضلال بعيد عن الحق. ثم ذكر من أوصاف المنافقين فقال سبحانه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا [النساء:61] أي: إذا دعوا إلى التحاكم إلى الله وإلى ما أنزل الله لووا رءوسهم وأعناقهم وأعرضوا؛ بسبب كفرهم ونفاقهم. فإذاً: التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله واجب، ومن تحاكم إلى الطاغوت الذي هو ما خالف كتاب الله وسنة رسوله، فإنه ينافي الإيمان بالله وبرسوله، وهذا من أوصاف المنافقين.

 

 

 

 

 

 

 

عدم رضا المنافقين بحكم الله ورسوله

 

 

 

قال الله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] وقال قبلها: فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [النساء:62] يعني: إذا أصابتهم مصيبة قدرها الله عليهم بسبب أعمالهم وما قدمت أيديهم، ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا [النساء:62] يعني: إنما نريد الجمع والتوفيق بين هؤلاء وهؤلاء، نريد أن نجمع بين السياسة المخالفة للحق وبين الشريعة، هذه سياسة شيطانية فرعونية أمريكية، فهم يريدون أن يجمعوا بين هؤلاء وهؤلاء؛ لأن قلوبهم مريضة، فهم يخشون أن ينتصر المؤمنون، فإذا هُزِم المؤمنون صاروا مع اليهود والنصارى، وإذا انتصر المؤمنون وغنموا صاروا معهم وقالوا: نحن معكم، كما قال تعالى في سورة النساء: فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:141] كما سيأتي. وفي سورة العنكبوت: وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ [العنكبوت:10] أي: إذا جاء نصر وفتح وغنيمة قالوا: نحن معكم، وإن حصل هزيمة انضموا إلى الصنف الثاني، يريدون أن يتخذوا مع هؤلاء يداً ومع هؤلاء يداً؛ لكفرهم ونفاقهم، ولهذا يقول عز وجل: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا [النساء:62] أي: نريد التوفيق بين الشريعة والسياسة. ثم قال سبحانه: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] هذه الآية عظيمة، فيها بيان أن من لم يتحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه ليس بمؤمن؛ ولذلك أقسم الرب سبحانه بنفسه الكريمة: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ [النساء:65] نفى عنهم الإيمان حتى توجد الغاية، وهي: حَتَّى يُحَكِّمُوكَ [النساء:65] الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65] أي: حتى يحكموا الرسول في موارد النزاع وفيما حصل بينهم من اختلاف وشجار، هذا الأمر الأول. ثم قال سبحانه: ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ [النساء:65] أي: لا يكفي التحاكم، مع وجود الحرج من حكم الله وحكم رسوله، بل لابد أن يوجد الرضا مع التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله. قال سبحانه: (( وَيُسَلِّمُوا)) أي: لا بد من التسليم وهو الاطمئنان، ولا يكفي هذا حتى يكون الاطمئنان كاملاً وتاماً، ولهذا أكد بالمصدر فقال: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]. إذاً: أقسم الرب سبحانه بنفسه الكريم أنه لا يحصل لهم الإيمان إلا بهذه الأمور الأربعة: الأول: تحكيم الرسول عليه الصلاة والسلام في النزاع والخصومة. الثاني: الرضا بهذا الحكم. الثالث: الطمأنينة. الرابع: الطمأنينة التامة. وهذا يدل على أهمية التحاكم إلى الكتاب والسنة.

 

 

 

 

 

 

 

إنكار الله على المؤمنين بسبب اختلافهم في المنافقين

 

 

 

قال سبحانه: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء:88] هذا إنكار على المؤمنين في اختلافهم في المنافقين. وسبب نزول هذه الآية: أنه لما رجع طائفة من المنافقين في غزوة أحد اختلف الصحابة فيهم، فقالت طائفة: نقتلهم لنفاقهم ، وقالت طائفة: لا نقتلهم، فأنزل الله فيهم هذه الآية: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النساء:88] فئة تقول: نقتلهم، وفئة تقول: لا نقتلهم. قوله: وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا [النساء:88] أي: ردهم إلى ما كانوا عليه. قوله: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ [النساء:88]، فيه دليل على أنهم ضالون؛ لكفرهم ونفاقهم. قوله: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء:88] أي: من أضله الله فلا يستطيع أحد أن يهديه؛ لأنه سبحانه وتعالى له الحكمة البالغة، وما أضلهم سبحانه وتعالى إلا عقوبة لهم، حيث إنه تبين لهم الحق واتضح لهم ثم عدلوا عنه فعوقبوا، كما قال سبحانه في الآية الأخرى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5] فالزيغ الأول هو أنهم مالوا وزاغوا عن الحق بعد وضوحه لهم، وعوقبوا بالزيغ الثاني الذي هو أن الله أزاغ قلوبهم. وقال سبحانه في الآية الأخرى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:110] فكانت العقوبة تقليب القلوب والأبصار؛ بسبب أنهم لم يؤمنوا به أول مرة بعد وضوح الحق لهم، جَزَاءً وِفَاقًا [النبأ:26]، وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [آل عمران:117]. وفيه دليل على أن الله هو الهادي وهو المضِل، وهو سبحانه يقذف الهداية إلى القلب فضلاً منه وإحساناً، وهو المضل لمن شاء حكمة منه وعدلاً، وهذا فيه الرد على المعتزلة الذين يقولون: إن الإنسان هو الذي يهدي نفسه ويضل نفسه، والله لا يهدي أحداً ولا يضل أحداً، ويجيبون على الآية بقولهم: إن تسمية الله نفسه بأنه الهادي والمضل هو من باب التسمية فقط، وإلا فالعبد هو الذي يهدي نفسه ويضل نفسه، وهذا باطل، قال تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:178] وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء:88].

 

 

 

 

 

 

 

تمني المنافقين وقوع المسلمين في الكفر الذي وقعوا فيه

 

 

 

لقد بين سبحانه وتعالى شدة عداوة الكفار والمنافقين للمسلمين فقال سبحانه: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89] أي: الكفار يودون ويتمنون ويحاولون جاهدين ويبذلون وسعهم في أن يردوا المسلمين عن دينهم حتى يكونوا كفاراً مثلهم، قال سبحانه وتعالى في الآية الأخرى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]وقال سبحانه في الآية الأخرى: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217]. فإذاً: الكفار بجميع أصنافهم وطبقاتهم لا يودون الخير للمسلمين، فلا ينبغي للمسلم أن يركن إليهم. وقال سبحانه في الآية الأخرى: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:105] أي: أن المشركين لو يستطيعون أن يقطعوا المدد من السماء على المسلمين لقطعوه، لكن لا يستطيعون. قوله: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ [النساء:89] أي: كيف توالون الكفرة من اليهود النصارى والوثنيين، وهم هذه حالهم؟! وفي الآية الأخرى: وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ [آل عمران:118] أي: يودون كل شيء يشق عليكم ويعنتكم ويؤذيكم، ويسعون في إيصاله إليكم، أَبعد هذا يركن المسلم إلى الكفرة ويتخذهم أولياء من دون المؤمنين؟! هذا كلام ربنا، ومن أصدق من الله قيلاً، ومن أحسن من الله حديثاً، فهذه نصيحة الله لعباده المؤمنين، فقد نصحنا سبحانه وتعالى وحذرنا من الأعداء فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ [آل عمران:118] أي: لا تتخذوا بطانة ودخلاء من الكفرة، تفاوضونهم وتسرون إليهم أموركم وتفوضون إليهم الأمور، وهم لا يقصرون في إيصال الأذى والشر إليكم بكل طريق. ثم قال عز وجل: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ [آل عمران:118] أي: ظهرت من أفواههم الكلمات التي تدل على البغضاء. وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118] أي: أعظم مما يبدو على فلتات ألسنتهم من كلمات تدل على البغضاء والعداوة وشدة الحقد. ثم قال سبحانه: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118] آيات عظيمة لو تدبرها المسلمون حق التدبر وتعقلوها وتفهموها وامتثلوها لصاروا أعزة، لكن المصيبة أنا نقرأ الآيات وقلوبنا غافلة، ومن تدبر فإنه لا يطبق ولا يمتثل. قال سبحانه: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:89] أي: لا تتخذوا منهم أصحاباً وأصدقاء ونصحاء حتى يهاجروا في سبيل الله. قال تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:89] هذا الأمر في سائر الكفار وهذا مع القدرة، وهذه الآية فيها النهي عن أن يتخذ المسلمون منهم أولياء وأنصاراً.

 

 

 

 

 

 

 

بيان الأصناف الذين نهى الله عن مقاتلتهم

 

 

 

وقد استثنى الله سبحانه وتعالى صنفين من الناس حيث نهى عن مقاتلهم، الصنف الأول: قال الله فيهم: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:90] أي: الذين يلجئون ويأتون إلى قوم بينكم وبينهم عهد وميثاق، فهم مثلهم في الحكم نهى الله عن أن نقاتلهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما عقد الصلح بينه وبين كفار قريش كان من بنود العقد: من أحب أن يدخل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم دخل، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش دخل، فمنهم من دخل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهم خزاعة، ومنهم من دخل في عهد قريش وهم بكر، هذا الصنف الأول. الصنف الثاني: قال الله سبحانه فيهم: أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ [النساء:90] يعني: ضاقت صدورهم وأبغضوا قتالكم، وكرهوا مع ذلك أن يقاتلوا قومهم معكم، فهؤلاء لا يقاتلون. قيل: إن هذه الآية نزلت في قوم من المؤمنين في مكة أسروا إيمانهم، فلما كانت غزوة بدر خرجوا فيها مع المشركين مكرهين، فنزلت هذه الآية، ومنهم العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم حين أسر وفدى نفسه. قال سبحانه: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا [النساء:90] أي: إذا اعتزلوكم وسالموكم ولم يقاتلوكم فلا تقاتلوهم.

 

 

 

 

 

 

 

الصفات التي استحق المنافقون بسببها التبشير بالعذاب الأليم

 

 

 

قال الله تعالى: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [النساء:138-139] أي: بشر المنافقين بالعذاب الأليم. وقال في المؤمنين: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ [التوبة:21] فالبشارة تكون في الخير وتكون في الشر. وهؤلاء المنافقون وصفهم الله بقوله: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:139] أي: من صفات المنافقين أنهم يتخذون الكافرين أصحاباً وأصدقاء، يوالونهم ويحبونهم ويركنون إليهم. وهذه الآيات فيها تحذير للمؤمنين من أن يتصفوا بهذه الصفات، فقد قص الله تعالى علينا صفات المنافقين؛ لنحذرها ولنبتعد عنها ولنتخلق بصفات المؤمنين، قال سبحانه: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [النساء:139].

 

 

 

 

 

 

 

واجب المؤمن تجاه من يكفر بآيات الله ويستهزئ بها

 

 

 

قال سبحانه: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء:140]. هذه الآية فيها بيان أنه لا يجوز للإنسان أن يجلس في مجلس يعصى الله فيه، ويكفر فيه بآيات الله ويستهزأ بها، وأن من جلس في مثل هذه المجالس فإن عليه أن ينكر، فإن سكت ولم ينكر فحكمه حكمهم، فإذا جلس في مجلس يكفر فيه بالله ويستهزأ به وبكتابه وسكت ولم ينكر، فإن حكمه حكم الكافرين، والراضي بالكفر كافر، وإذا جلس في مجلس غيبة ولم ينكر عليهم، فحكمه حكم المغتابين في الإثم، وإذا جلس في مجلس يشرب فيه الخمر أو الدخان ولم ينكر فحكمه حكم من شرب الخمر أو شرب الدخان. إذاً: الواجب على الإنسان أحد أمرين: الإنكار، فإن زال المنكر وإلا قام عن المجلس، أما إذا لم ينكر وسكت فحكمه حكمهم.

 

 

 

 

 

 

 

تربص المنافقين بالمؤمنين والتمسك بالدنيا

 

 

 

قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا * الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ [النساء:140-141]. أي: من صفات المنافقين أنهم يتربصون بالمؤمنين الدوائر، فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:141] أي: أن المنافقين يجعلون لهم يداً مع المؤمنين، ويداً مع المشركين، فهم إذا حدث للمؤمنين فتح ونصر وغنيمة قالوا: نحن معكم، ويظهرون الإسلام، والموالاة للمؤمنين، ويطلبون أن يكون لهم سهم في الغنيمة، وإن حدث للمسلمين هزيمة صاروا مع الكفار، وهكذا يجعلون مع المؤمنين يداً ويجعلون مع الكفار يداً؛ بكفرهم وضلالهم، وليس عندهم إيمان ثابت. ثم يقول تعالى: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141].

 

 

 

 

 

 

 

خداع المنافقين وتذبذبهم وكسلهم في العبادات

 

 

 

وقال الله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء:142-143] فمن أوصاف المنافقين الخداع. قوله: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142] هذا جزاء الله في مقابلة خداعهم، فالله تعالى يخدع من خدعه، ويكيد من كاده، ويمكر بمن مكر به، وهي صفة كمال في حق الله؛ لأنها جزاء لهم في مقابلة مكرهم، فالمكر والخداع والكيد صفة نقص، لكنها إذا كانت جزاء لهم على أفعالهم صارت صفة مدح وكمال، فالله تعالى موصوف بالكمال ولا يشتق لله أسماء من هذه الصفات، فلا يقال: من أوصافه الماكر ولا الخادع، وإنما يقال: إن الله يمكر بمن مكر به، ويخدع من خدعه، ويكيد من كاده، ولا يقال: من أسمائه الماكر والكائد والخادع، وإنما هذا وصف للفعل، فما جاء مضافاً يبقى مضافاً. ومن أوصافهم الكسل في العبادات، فالصلاة مع أنها أعظم العبادات البدنية، وأفرض الفرائض, وأوجب الواجبات بعد توحيد الله فهذه حالهم معها، قال الله عز وجل: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى [النساء:142]وهذا فيه تحذير للمؤمن من أن يتصف بالكسل؛ فلابد للمسلم أن يقوم للصلاة وغيرها من العبادات وهو نشيط قوي وعنده رغبة؛ لأنه يعلم ما عند الله من المثوبة، بخلاف المنافق الذي لا يرجو ما عند الله، فلا يليق بمسلم أن يتصف بصفة الكسل عند إرادة الصلاة. قوله تعالى: يُرَاءُونَ النَّاسَ [النساء:142] هذا وصف آخر من أوصاف المنافق وهو الرياء، أي: مراءاة الناس بالأعمال الصالحة، فإن المؤمن يعمل العمل ويخلص لله فيه ولا يرائي؛ لأن الرياء شرك وهو من صفات المنافقين. قوله تعالى: وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:142] هذا وصف آخر من أوصاف المنافقين، فقد وصفهم بثلاثة أوصاف عند الصلاة: بالكسل والرياء وعدم ذكر الله إلا قليلاً، وجاء في الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (تلك صلاة المنافق يرقب الشمس حتى إذا كادت أن تغرب بين قرني الشيطان قام فنقر أربعاً، لا يذكر الله فيها إلا قليلاً). ووصف النبي صلى الله عليه وسلم المنافق في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه: (أن المنافق يؤخر صلاة العصر يرقب الشمس حتى إذا كادت أن تغرب قام فنقر أربعاً -أي: ينقرها كنقر الغراب لا يطمئن فيها- ولا يذكر الله فيها إلا قليلاً) فالله تعالى يحذر المسلم من أن يتصف بصفات المنافقين. ثم وصفهم تعالى بقوله: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ [النساء:143] أي: ليس عندهم ثبات، فهم مذبذبون بين المشركين والمؤمنين، فالمنافقون يأتون هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه، وجه مع المؤمنين يظهرون الإسلام، ووجه مع الكفار يظهرون الباطل. فعلى المسلم أن يثبت على التوحيد والطاعة والإيمان ولا يتذبذب ولا يكون مع الكفرة. ثم قال الله تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء:143]وكما جاء في صحيح مسلم : (إن المنافق كالشاة العائر، تعير إلى هؤلاء وإلى هؤلاء).

 

 

 

 

 

 

 

المنافقون في الدرك الأسفل من النار

 

 

 

قال الله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145] هذه الآية فيها جزاء المنافقين في الآخرة. قوله: فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145] أي: أن النار والعياذ بالله دركات سفلى، كل دركة أشد عذاباً من الدركة التي أعلى منها، والجنة درجات، كل درجة أعظم نعيم من الدرجة التي تحتها، والمنافقون أين مكانهم؟ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145] آخر درك، فهم تحت دركة اليهود والنصارى والمشركين. فالمشركون فوق اليهود والنصارى، واليهود والنصارى فوق المنافقين، وإن كانوا جميعاً معذبين وخالدين في النار، فقد جاء في الحديث (إن أهون الناس عذاباً رجل في أخمصيه -يعني: في أسفل رجليه- جمرتان يغلي منهما دماغه) وفي اللفظ الآخر: (إن أهون أهل النار عذاباً لرجل في رجليه شراكان من نار يغلي منهما دماغه). وفي اللفظ الآخر: (لرجل في رجليه نعلان يغلي منهما دماغه، وإنه ليظن أنه أشد أهل النار عذاباً) أي: من شدة ما يجد من الألم وهو أهونهم، فكيف عذاب اليهود والنصارى؟ وكيف عذاب المنافقين في الدرك الأسفل من النار والعياذ بالله؟! فالمنافقون استحقوا أن يكونوا في الدرك الأسفل من النار؛ بسبب أنهم زادوا على اليهود والنصارى والوثنيين بالخداع والتلبيس على المسلمين، فهم يدبرون المكائد للقضاء على الإسلام والمسلمين؛ لأنهم يعيشون بينهم ويظهرون الإسلام، فلهذا صاروا في دركة سفلى، فزاد عذابهم على الكفرة من اليهود والنصارى. إن الله سبحانه وتعالى فتح باب التوبة للمنافقين وغيرهم، فقال سبحانه: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:160] أي: من تاب قبل الموت تاب الله عليه، سواء كان يهودياً أو نصرانياً أو وثنياً أو شيوعياً، والتوبة من المعاصي من باب أولى، فإذا تاب من الزنا أو من السرقة أو شرب الخمر أو عقوق الوالدين، أو قطيعة الرحم توبة نصوحاً تاب الله عليه. فالتوبة النصوح هي الإقلاع عن المعاصي والكفر والضلال، وكذلك الندم على ما مضى، والعزم عزماً جازماً على ألا يعود إلى الذنوب مرة أخرى، وإذا كانت المعصية بينه وبين الناس رد الحقوق إلى أهلها، إن كان مالاً رد المال لهم، وإن كان قصاصاً سلم نفسه، وإن كان عرضاً استحله منهم، قال الله تعالى في كتابه العظيم: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]. وقال سبحانه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53] هذه الآية أجمع العلماء على أنها نزلت في التائبين؛ لأن الله عمم وأطلق فقال: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53] بخلاف الآية الأخرى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] فهذه في غير التائبين؛ لأن الله خصص وعلق، خص الشرك بأنه لا يغفر وعلق ما دونه، وهنا سبحانه وتعالى فتح باب التوبة للمنافقين فقال: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:146] يعني: إلا الذين تابوا من نفاقهم وكفرهم، وأصلحوا أحوالهم وأعمالهم، وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ [النساء:146] أي: لجئوا إليه سبحانه وكانوا مخلصين في توبتهم، فحكمهم حكم المؤمنين، والمؤمنون جزاؤهم كما قال سبحانه: وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:146]. لقد عرض الله التوبة على المثلثة من النصارى، قال سبحانه: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:73-74]، فباب التوبة مفتوح لمن تاب قبل الموت أو قبل طلوع الشمس من مغربها.

 

 

 

 

 

 

الأسئلة

 

 

 

 

 

 

 

مذهب مرجئة الفقهاء في حكم تارك الصلاة

 

 

 

السؤال: هل مرجئة الفقهاء يقولون بعدم كفر تارك الصلاة بناء على مذهبهم؟ الجواب: مرجئة الفقهاء يرون أن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان؛ لأنهم يرون أن الكفر والإيمان لا يكونان إلا بالقلب، وأما تسمية الصلاة كفراً في قوله صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) فتسمية مجازية عندهم. وهناك بعض أهل السنة يرون أن ترك الصلاة ليس كفراً مع عدم جحد وجوبها، والقائلون بهذا القول ليسوا من المرجئة، لكن الصواب الذي تدل عليه النصوص أن تارك الصلاة كافر ولو لم يجحد وجوبها، وهو الذي أجمع عليه الصحابة كما نقله عنهم عبد الله بن شقيق العقيلي و ابن حزم ، وإسحاق بن راهويه وغيرهم. لكن هناك طوائف من أهل السنة المتأخرين يرون أن تارك الصلاة يكون قد كفر كفراً أصغر إذا لم يجحد وجوبها، وهو مذهب المتأخرين من الشافعية والمالكية والأحناف والحنابلة. والرواية الثانية عن الإمام أحمد التي عليها المحققون وهو وجه للشافعية ومن المالكية عبد الملك بن حبيب المالكي أن ترك الصلاة كفر أكبر. والمقصود أن المرجئة يرون أن تارك الصلاة إذا جحد وجوبها يكون كافراً، وإذا لم يجحد وجوبها فلا يكون كافراً كفراً أكبر، وإنما يكون كافراً كفراً أصغر. إذاً: فالذين يقولون: إن ترك الصلاة ليس بكفر قسمان: القسم الأول: المرجئة. القسم الثاني: بعض أهل السنة.

 

 

 

 

 

 

 

حكم إدخال العلمانيين في المنافقين

 

 

 

السؤال: هل يصح دخول العلمانيين في المنافقين؟ الجواب: المنافق هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، وسمي منافقاً من النافقاء، وهي نافقاء اليربوع؛ لأن اليربوع له جحران: ظاهر وباطن يقال لأحدهما: النافقاء ويقال للآخر: القاصعاء، فالجحر الظاهر الذي يدخل منه، والجحر الخفي الباطن هو الذي يلقي عليه التراب الرقيق، فإذا رابه ريب دفع التراب برأسه فخرج، فكذلك المنافق له ظاهر وباطن، ظاهره الإسلام وباطنه الكفر. ففي عصر الصحابة كان يسمى الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر منافقاً، ثم بعد ذلك صار المنافق، وأيضاً الجاحد المعطل الذي يعطل الله من أسمائه وصفاته، أو ينكر وجود الله يسمى زنديقاً، أما في العصر الحاضر فصار يسمى المنافق علمانياً، وهو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، هذه أسماء كلها تحمل معنى النفاق.

 

 

 

 

 

 

 

حقيقة نسبة دعاء (يا حي يا قيوم...) لشيخ الإسلام

 

 

 

السؤال: هل ثبت عن شيخ الإسلام أنه قال: من قال: يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث أربعين مرة بين سنة الفجر وصلاة الفجر أحيا الله قلبه ولم يمته، قيل: إنه موجود في مدارج السالكين لـابن القيم رحمه الله في الجزء الأول صفحة (339) طبعة دار إحياء التراث، وفيه قال ابن القيم : وسمعته من شيخنا يعني ابن تيمية رحمه الله تعالى؟ الجواب: لا أعلم لهذا الدعاء أصلاً ولا أذكر أنه مر عليَّ، لكن يراجع كلام ابن القيم في هذا، على كل حال إذا كان هناك دليل يدل على هذا فالحمد لله، وعلى الرأس والعين، أما إذا لم يوجد دليل فلابد من الدليل.

 

 

 

 

 

 

 

عقيدة الرافضة في الإيمان

 

 

 

السؤال: ما عقيدة الرافضة الإثني عشرية؟ الجواب: عقيدة الإثني عشرية تكفير الصحابة، يقولون: بأن الصحابة ارتدوا وكفروا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن عقيدتهم أيضاً أنهم يعبدون آل البيت ويتوسلون بهم، ومن عقيدتهم اعتقاد أن القرآن غير محفوظ، كل هذه الأنواع كفرية، نسأل الله السلامة والعافية.

 

 

 

 

 

 

 

عقيدة أبي حنيفة في زيادة الإيمان ونقصانه

 

 

 

السؤال: يقال: إن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يرى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فما صحة ذلك؟ الجواب: الإمام أبو حنيفة له روايتان: الرواية الأولى: أن الإيمان هو تصديق القلب فقط ولا يزيد ولا ينقص. الرواية الثانية التي عليها جماهير أصحابه: أن الإيمان شيئان: إقرار باللسان، وتصديق بالقلب، ولا يزيد ولا ينقص. وجميع المرجئة تقول به، ومنهم مرجئة الفقهاء من الماتريدية والأشاعرة والكرامية والجهمية؛ كلهم يقولون: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، لا يقول بالزيادة والنقصان في الإيمان إلا جمهور أهل السنة.

 

 

 

 

 

 

 

الفرق بين معرفة القلب وتصديقه

 

 

 

السؤال: ما الفرق بين معرفة القلب وتصديقه؟ الجواب: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه يعسر التفريق بين معرفة القلب والتصديق المجرد، إذا كان التصديق مجرداً ليس معه عمل فلا فرق بينه وبين المعرفة، أما إذا كان التصديق مقترناً بالعمل فهناك فرق.

 

 

 

 

 

 

 

عقيدة شيخ الإسلام في فناء الجنة والنار

 

 

 

السؤال: ما رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مسألة فناء الجنة والنار؟ الجواب: لا أحد يقول بفناء الجنة إلا الجهم بن صفوان الكافر الضال المضل، ولا أحد من أهل السنة يقول ذلك، فإن أهل السنة ضللوا الجهمية وبدّعوهم، وإنما الكلام في فناء النار، فهناك طائفة من أهل السنة نسب إليهم القول بفناء النار في بعض الآثار، وهو قول ضعيف مرجوح، و شيخ الإسلام له كلام صريح يدل على أن النار مثل الجنة دائمة لا تفنى ولا تبيد، ولهذا يقول الطحاوي : (والجنة والنار دائمتان أبداً لا تفنيان ولا تبيدان)، لكن ابن القيم رحمه الله له كلام في (مدارج السالكين) وكذلك في كتابه (وصف الجنة) وهو يدل على أنه يميل إلى القول بفناء النار، وله أيضاً كلام يؤيد القول ببقاء النار، فلعله له قولان في هذا، فالذي يظهر والله أعلم أنه رجع عن القول بفناء النار، وذكر هذا في (مدارج السالكين) وفي غيره، أما شيخ الإسلام فكلامه صريح في بقاء النار.

 

 

 

 

 

 

 

حكم اختبار عامة المسلمين في عقائدهم

 

 

 

السؤال: هل يجوز اختبار الناس في عقائدهم كسؤال العامة: أين الله؟ الجواب: لا يسأل المسلم ولا يمتحن؛ لأن الأصل أن المسلم على التوحيد وعلى العقيدة، الصحيحة فلا يسأل إلا إذا كثر أهل البدع وأهل الضلال وكان هناك حاجة مثلاً إلى إمام يؤم الناس فيمتحن ويسأل فلا يؤم الناس إلا مسلم، أو شخص يريد أن يتزوج وهو شاك في ذلك لكثرة البدع، فلابد أن يمتحن. وأهل البدع ينكرون السؤال عن الله بأين، يقولون: لا يسأل عن الله بأين؛ لأن (أين) يسأل بها عن المكان، والله ليس له مكان عند أهل البدع، يقولون: الله في السماء وفي الأرض تعالى الله عما يقولون، وهذا كفر وضلال، والنبي صلى الله عليه وسلم سأل الجارية قال: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة). فالمبتدعة الذين أنكروا أن يكون الله في السماء وفي العلو غلطوا النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم غلط حينما سأل الجارية، أو لأن الجارية أعجمية لا تفهم الدين، فسألها سؤالاً فاسداً يناسب عقلها وفهمها، ولما قالت: (في السماء) أقرها على جواب فاسد يناسب عقلها وفهمها، وأن الرسول لم يقصد أن يقول: أين الله؟ وإنما قصد أن يقول: من الله؟ لكن لما كانت الجارية أعجمية اضطر صلى الله عليه وسلم أن يسألها سؤالاً فاسداً، ثم أقرها على الجواب الفاسد. هكذا اتهموا الرسول عليه الصلاة السلام، وكأنه صلى الله عليه وسلم عجز عن أن يقول: من الله؟ (من) حرفان، و(أين) ثلاثة حروف، فهؤلاء والعياذ بالله في قلوبهم مرض، ولهذا يكثر النفاق في أهل الكلام وفي أهل البدع، فمن اتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا يخشى عليه من النفاق، وقد صرح بذلك أهل البدع حيث قالوا: من قال: إن الله في السماء فقد كفر؛ لأنه شبه الله بجسم محدود على محدود، والذي يكون في المكان هو الأجسام والله ليس بجسم، ومن قال: إن الله جسم فقد كفر، هكذا يقولون؛ نعوذ بالله من جهل القلوب!

 

 

 

 

 

 

 

حقيقة الوهابية

 

 

 

السؤال: ما هي الفرقة الوهابية؟ وهل هي على الحق أم على الباطل؟ الجواب: هذا السائل لا أدري لماذا يسأل هذا السؤال، الوهابية لقب ينبز به أعداءُ التوحيد أهل التوحيد وأهل السنة والجماعة، فأهل البدع يقولون (وهابية) نسبة إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ويقولون: إن الوهابية فرقة مخالفة للسنة، مع أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب إمام من أئمة أهل السنة والجماعة ولم يأت بشيء من عنده، وإنما قرأ كتاب الله وسنة رسوله واستدل بالقرآن وبالسنة في جميع كتبه مثل: (الأصول الثلاثة) و(كشف الشبهات)، و(كتاب التوحيد)، وغيرها. لكن أعداء السنة والجماعة أبوا إلا أن ينبزوا أهل السنة والجماعة بالألقاب الشنيعة التي تنفر الناس عن معتقد أهل السنة والجماعة، كما نبزوهم قديماً حيث كانوا يسمونهم: الحشوية والمجسمة والمشبهة أو الغثاء وغير ذلك، فهم ينبزونهم من قديم الزمان، فصاروا في هذا الزمان بعد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب يسمونهم الوهابية. ثم الوهابية هي نسبة إلى والد الشيخ محمد بن عبد الوهاب عبد الوهاب ، وكان الأجدر أن تنسب إليه فنقول: محمدية، لكن هؤلاء ينبزون أهل السنة بلقب بعيد، كما أن الكفار كانوا ينبزون النبي صلى الله عليه وسلم بلقب بعيد يقولون: ابن أبي كبشة ينسبونه إلى جد له من الرضاعة بعيد؛ لشدة عداوتهم، فلهذا أبو سفيان لما ذهب إلى الشام قبل أن يسلم وسأله هرقل الأسئلة العشرة ثم خرج من عنده وكثر اللغط بين الأحبار والرهبان وصار في نفس أبي سفيان شيء قال: (لقد أَمِرَ أَمْر ابن أبي كبشة حتى إنه ليخافه ملك بني الأصفر) يعني: عظم أمر محمد حتى إن ملك الروم يخاف منه. أعداء أهل السنة والجماعة ينسبون الإمام ابن القيم إلى جد غامض بعيد؛ لشدة عداوتهم، فهم الآن ينبزون أهل السنة بالوهابية؛ للتنفير من مذهب أهل السنة والجماعة، وإلا فالشيخ محمد بن عبد الوهاب ما جاء بشيء من عنده، وهذه كتبه واضحة للعيان فيها قال الله قال رسول الله.

 

 

 

شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [6]

 

يعتبر المنافقون أخطر من الكفار على المسلمين، ولذلك أكثر الله تعالى من ذكر أوصافهم التي تبين مفارقة الإيمان لقلوبهم، وتربصهم بالمؤمنين الدوائر، وفي سورة المائدة كثير من هذه الأوصاف، أما سورة التوبة فقد فضحتهم حتى كادت أن تعينهم بأسمائهم.

 

ذكر صفات المنافقين في سورة المائدة

 

 

 

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال تعالى في سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ [المائدة:41]. وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]، إلى قوله: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ [المائدة:52-53]. وقال تعالى: وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ * وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [المائدة:61-62]. وقال تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:77] إلى قوله: تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:80-81] ].

 

 

 

مسارعة المنافقين في الكفر

 

 

 

هذه الآيات في سورة المائدة تذكر أوصاف المنافقين حيث يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ [المائدة:41]. فالله تعالى ينهى رسوله عن أن يحزن على الذين يسارعون في الكفر بالله وبرسوله ولا يبالون، وهؤلاء الذين يسارعون إلى الكفر ويركضون ويجرون حتى يصلوا إليه؛ إنما فعلوا ذلك بسبب تركهم الحق وعنادهم بعد وضوح الحق لهم، فهم لما تركوا الحق وأعرضوا عنه بعد وضوحه، ووالوا الكفار، وأعرضوا عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يعزروا الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يوقروه صاروا يسارعون إلى الكفر ويركضون إليه ركضاً، ولهذا قال الله سبحانه: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [المائدة:41]، فهذا وصف المنافقين، فهم يقولون: آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ [المائدة:41] أي: بألسنتهم وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [المائدة:41] أي: أن قلوبهم مكذبة، وألسنتهم مصدقة. وهذا كما قال سبحانه في الآية الأخرى في أول سورة البقرة: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:8] أي: بألسنتهم، وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] أي: بقلوبهم. وكما قال سبحانه في سورة المنافقين: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون:1] يعني: بألسنتهم، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1] أي: بقلوبهم. فالله تعالى يقول لنبيه: لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [المائدة:41] من المنافقين واليهود، مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [المائدة:41] وهؤلاء هم المنافقون، وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا [المائدة:41] وهم اليهود، سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ [المائدة:41] .. إلى آخر تلك الأوصاف. ثم وصفهم في آخر الآية فقال: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ .. [المائدة:41-42] إلى آخر الآيات في وصف اليهود.

 

 

 

 

 

 

 

المنافقون يتخذون اليهود والنصارى والكفار أولياء

 

 

 

قال المؤلف رحمه الله: [ وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51] ]. في هذه الآية ينهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين عن أن يتخذوا اليهود والنصارى أولياء يحبونهم بقلوبهم، ثم ينشأ عن تلك المحبة في القلب المساعدة والمعاونة بالرأي أو بالسلاح على المسلمين، فتولي الكفار ردة؛ ولهذا قال سبحانه: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]، وتوليهم هو محبتهم في القلب، فحكم على من تولى الكفار بأنه كافر مثلهم. وقال: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [المائدة:51]، فالكفار بعضهم أولياء بعض، كما قال سبحانه في الآية الأخرى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الأنفال:73]، وقال: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، فالمؤمن ولي لأخيه المؤمن، والكافر ولي لأخيه الكافر، فلا يجوز للمسلم أن يتخذ الكافر ولياً، فإذا اتخذه ولياً وأحبه لدينه، ونشأ عن هذه المحبة المساعدة والمعاونة فإن هذه ردة عن الإسلام، فتولي الكفرة ومحبتهم ردة عن الإسلام. وأما الموالاة بمعنى المعاشرة والمصادقة بدون محبة القلب فهذه كبيرة من كبائر الذنوب، كما قال سبحانه في آية الممتحنة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة:1]، وهذا غير البيع والشراء والمعاملة، فلا يلزم منها الموالاة، فإذا باع الإنسان أو اشترى من الكفار عند الحاجة فليس ذلك من الموالاة في شيء إذا كان ذلك مع بغضه لهم ولدينهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد عامل اليهود، فعاملهم على شطر ما يخرج من أرض خيبر من ثمر أو زرع، واشترى غنماً من مشرك، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير، فالمعاملة شيء والموالاة شيء آخر. فالمعاملة كأن يبيع ويشتري منهم عند الحاجة، ولا حرج في ذلك إذا كان الكافر ليس بحربي، وأما الموالاة فمعناها أن يتخذه صديقاً يزوره، ويجيب دعوته من دون حاجة بيع ولا شراء ولا غيرها، وأما محبته بالقلب فهذه ردة عن الإسلام، وهي التولي لهم، وأصل التولي المحبة بالقلب، ثم ينشأ عنها المساعدة، فمن أحب كافراً لدينه كأن يحب يهودياً أو نصرانياً أو وثنياً فهو كافر مثله، كما قال الله في هذه الآية: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]، وأما الموالاة والمعاشرة والمصادقة لهم من دون محبة في القلب فهذه كبيرة من كبائر الذنوب، وهي فسق ومعصية، وتدل على ضعف الإيمان ونقصه. ثم ذكر أوصاف المنافقين فقال سبحانه: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ [المائدة:52]، قوله: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [المائدة:52] هو مرض الشك والنفاق والشبهة. وقد سبق أن ذكرنا أن المرض مرضان: مرض شك، ومرض شهوة، فمرض الشهوة هو مرض المعصية، قال سبحانه وتعالى في خطاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]، فهذا هو مرض المعصية، وهو مرض الزنا ومرض الشهوة. وأما مرض الشك والكفر والنفاق فكما قال سبحانه في سورة البقرة: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة:10]، وهذا أشد من مرض الشهوة؛ لأن هذا مرض في العقيدة. وقال تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم [المائدة:52] أي: يضعون أيديهم مع الكفار من اليهود والنصارى، فإذا قيل لهم: كيف توالون اليهود والنصارى وتكونون معهم؟ قالوا: نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ [المائدة:52] أي: نخشى أن ينهزم المسلمون، فإذا انهزموا لجئوا إلى الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم، وإن حصل للمسلمين فتح ونصر وغنيمة لجئوا إلى المسلمين وقالوا: نحن معكم، فشاركوهم في الغنائم، فيجعلون يداً مع هؤلاء ويداً مع هؤلاء، كما قال الله تعالى: لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ [النساء:143]. قال الله: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ [المائدة:52] أي: للمسلمين، أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا [المائدة:52] أي: المنافقون، عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:52] من موالاتهم للكفار.

 

 

 

 

 

 

 

المنافقون يسارعون في الإثم والعدوان وأكل السحت وتولي الكفار

 

 

 

قال سبحانه: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ [المائدة:53] وهم المنافقون، قال الله عنهم: حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ [المائدة:53]. وقال تعالى في نفس السورة في وصف المنافقين: وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ [المائدة:61]، أي: إذا جاء المنافقون إلى المسلمين قالوا: آمنا وأظهروا لهم الإسلام، وإذا ذهبوا إلى رؤسائهم وإلى الكفار قالوا: نحن معكم كما قال الله سبحانه وتعالى عنهم: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ [البقرة:14]، وهنا قال سبحانه: وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ * وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [المائدة:61-62]، فهذه أوصافهم: المسارعة في الإثم والعدوان، وأكل السحت. وقال بعدها: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:63] . وقال تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:77]، فنهى الله أهل الكتاب عن الغلو في الدين، والغلو: هو مجاوزة الحد، ومن الغلو في الدين أن النصارى غلوا في عيسى حتى جعلوه إلهاً يعبد مع الله. قال تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:77]، فنهاهم الله عن اتباع الضالين. ثم قال سبحانه: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [المائدة:78] إلى قوله: تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [المائدة:80]، فمن وصف المنافقين تولي الكفرة. لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ [المائدة:80]، لعدم إيمانهم، حيث إنهم يريدون أن يخادعوا هؤلاء وهؤلاء، قال الله: أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ [المائدة:80]، أي: سخط الله عليهم بسبب موالاتهم الكفرة، فخلدهم في النار. ثم بين سبحانه أن اتخاذ الكفار أولياء ينافي الإيمان، فلا يجتمع الإيمان واتخاذ الكفرة أولياء، قال سبحانه: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:81] أي: لو كانوا يؤمنون بالله ورسوله حقيقة ما اتخذوا الكفار أولياء يحبونهم ويساعدونهم ويعينونهم على المسلمين، وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:81].

 

 

 

 

 

 

ما جاء في سورة براءة من كشف المنافقين وذكر صفاتهم

 

 

 

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأما سورة براءة فأكثرها في وصف المنافقين وذمهم، ولهذا سميت الفاضحة والمبعثرة، وهي نزلت عام تبوك، وكانت تبوك سنة تسع من الهجرة، وكانت غزوة تبوك آخر مغازي النبي صلى الله عليه وسلم التي غزاها بنفسه، وتميز فيها من المنافقين من تميز، فذكر الله تعالى من صفاتهم ما ذكره في هذه السورة ]. لقد أكثر الله في سورة براءة من صفات المنافقين، ولهذا سميت هذه السورة: الفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين، وتسمى المبعثرة؛ لأنها بعثرتهم، فلم تزل تذكر: ومنهم ومنهم ومنهم ومنهم حتى خاف المنافقون أن يسموا بأعيانهم. قال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ [التوبة:58] ، وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ [التوبة:61]، قال ابن عباس : لم تزل الآيات تذكر أوصافهم ومنهم ومنهم حتى خافوا أن يسموا بأعيانهم؛ ولهذا سميت هذه السورة سورة الفاضحة؛ لأنها فضحتهم. قال سبحانه فيها: انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة:41]، ثم بين وصف المنافقين فقال: لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ [التوبة:42]، أي: لو كان السفر قريباً لاتبعوك، لكن كان السفر بعيداً، أي: أن السفر إلى تبوك في ذلك الوقت كان سفراً بعيداً، وكان في شدة الحر في وقت نضوج الثمار، فلا يستطيع المنافقون الخروج؛ لأنهم ليس لديهم إيمان يدفعهم إلى الجهاد، ولهذا تخلف كثير من المنافقين. وهذا بخلاف المؤمنين الذين يبعثهم إيمانهم بالله ورسوله على التضحية بالأموال والراحة وبكل شيء، وأما المنافقون فليس لديهم ما يبعثهم، فالسفر بعيد ومتعب وطويل المسافة، والمدة طويلة، فالسفر قديماً يحتاج إلى امتطاء ظهور الإبل، وليس كالسفر في وقتنا الحاضر، فقد صار قصيراً، ولهذا قال سبحانه وتعالى: لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ [التوبة:42] أي: لو كانت الغنيمة سهلة، والسفر قريباً لاتبعوك؛ لأنهم ليس لهم هم إلا الدنيا، لكن السفر بعيد، ولا يدرون هل سيحصلون على الغنيمة أو لا، ولم يكن عندهم إيمان يبعثهم. لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ [التوبة:42] أي: إذا رجع الرسول صلى الله عليه وسلم من الغزو، لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [التوبة:42] . ثم قال سبحانه وتعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ [التوبة:43]. ثم قال في أوصافهم: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ * وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ [التوبة:44-46] أي: إلى غزوة تبوك لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:46]. وقد بين الله سبحانه الحكمة في تثبيطهم وعدم خروجهم، فقال: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا [التوبة:47]، فلو خرج المنافقون فإنهم لا يألون المؤمنين خبالاً وشراً وتشويشاً وإدخالاً للهلع والضعف في نفوسهم، وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ [التوبة:47] أي: سعوا في الشر والفساد بينكم، يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة:47] أي: فيكم من يسمع لهم، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي [التوبة:47-49] أي: ومن المنافقين مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [التوبة:49] . أي: أن أحد المنافقين قال: يا محمد! ائذن لي فأنا لا أستطيع وأخشى على نفسي، فإني إذا رأيت بنات بني الأصفر فسأفتن ولا أستطيع أن أمتنع، فأنزل الله فيه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي [التوبة:49]، قال الله: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [التوبة:49]. ومن أوصافهم: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ [التوبة:50]، وقال سبحانه: لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ [التوبة:57]، فهذه من أوصافهم. ثم قال سبحانه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ [التوبة:58] . ثم قال سبحانه: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:61] ، ثم قال سبحانه: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ * يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة:62-66]. ثم ذكر من أوصافهم: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [التوبة:67]، فمن صفات المنافقين أن بعضهم ولي لبعض، فينصر بعضهم بعضاً، وهذا فيه تحذير من الاتصاف بهذه الصفات، فالمؤمن ينصر أخاه المؤمن ويوالي أخاه المؤمن. ومن أوصافهم: يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ [التوبة:67]، إذاً المنافق يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، والمؤمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ [التوبة:67] أي: عن النفقة في سبل الخير، فليس عندهم إيمان يدفعهم إلى ذلك، فلا ينفق إلا المؤمن، نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [التوبة:67] . ومن أوصافهم: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [التوبة:75-78]. ومن أوصافهم: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:79]، فالمنافقون لا يتصدقون، ولما حث النبي على الصدقة تصدق بعض الصحابة بصدقة كبيرة فقالوا: هذا مراء، ثم جاء بعضهم بالقليل فقالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا، فأنزل الله: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ [التوبة:79] أي: لا يجدون إلا القليل، فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:79]. وقد ذكر الله تعالى من أوصافهم في هذه السورة ما لم يذكره في غيرها، قال: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُم

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد