شعار الموقع

شرح كتاب الإيمان الأوسط_5

00:00
00:00
تحميل
160

 

أوصاف المنافقين في سورة النور

 

 

 

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد قال الله تعالى في سورة النور: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [النور:47] إلى قوله تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور:51] ]. لا يزال المؤلف رحمه الله يستعرض الآيات من كتاب الله تعالى سورة سورة في وصف المنافقين، وذلك أن المنافقين -وهم الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر- خطرهم على الإسلام شديد؛ لأنهم عدو ملتبس، يخفي أمره؛ لأنه يعيش بين المسلمين، بخلاف الكافر ظاهراً وباطناً فإنه عدو مكشوف لكل أحد، فلهذا أكثر الله من أوصاف المنافقين في كتابه العظيم، قال سبحانه وتعالى في سورة النور: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [النور:47] . قوله: وَيَقُولُونَ [النور:47] يعني: المنافقين، وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا [النور:47] أي: أنهم يظهرون الإيمان والطاعة لله ورسوله ولكنهم يعرضون عن حكم الله وعن حكم رسوله، فإذا دعوا إلى التحاكم إلى كتاب الله وإلى رسوله في حياته وإلى سنته بعد وفاته أعرضوا وتولوا، فنفى الله تعالى عنهم الإيمان فقال: وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [النور:47] ففعلهم يناقض قولهم؛ ولهذا قال سبحانه: وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [النور:47]، فمن تولى عن الأوامر والنواهي فليس بمؤمن، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل:16]، فهذا وصف الكافر أنه يكذب الخبر، ويتولى عن الأمر. فهؤلاء يتولون عن الأوامر والنواهي ولا يمتثلون ولا يتحاكمون إلى شرع الله ودينه، ولهذا نفى سبحانه عنهم الإيمان: وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ [النور:47-48] أي: إذا دعوا إلى التحاكم إلى شرع الله فإنهم يتولون عن الأمر، مع أنهم يظهرون الطاعة في الظاهر، ثم قال سبحانه: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ [النور:50] أي: هل في قلوبهم مرض ملازم لهم؟ أم عندهم شك؟ أم يخافون الجور من الله ومن رسوله صلى الله عليه وسلم؟ وكل واحد من هذه الثلاثة يدل على نفاقهم وكفرهم. فقوله: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [النور:50] أي: مرض الكفر والشك، أَمِ ارْتَابُوا [النور:50] أي: أم في قلوبهم شك وريب، أم يتهمون ربهم ونبيهم بالظلم والجور، وكل هذا كفر وضلال. ثم بين وصف المؤمنين الخلص فقال: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور:51] فوصف المؤمنين بالسمع والطاعة والامتثال.

 

 

 

أوصاف المنافقين في سورة العنكبوت

 

 

 

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال تعالى في سورة العنكبوت: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ [العنكبوت:10-11] . قوله تعالى في سورة العنكبوت: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10] هذا وصف المنافق، فإنه إذا أوذي ارتد عن دينه، ولا يتحمل المحنة والشدة أو الصد عن دينه. وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ [العنكبوت:10] أي: إن حصل للمسلمين نصر وغنيمة وفتح جاءوا وقالوا: لقد كنا معكم، وطلبوا المشاركة في الغنيمة، وإن حصل نكبة أو هزيمة ارتدوا عن دينهم، وهذا كقوله تعالى في سورة الحج: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ [الحج:11] أي: ارتد عن دينه، فإن أصابه خير من فتح ونصر وغنيمة قال: هذا دين طيب، وإن حصل للمسلمين نكبة أو هزيمة ارتد عن دينه خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11]. وهنا بين أن المنافق لا يصبر على المحن ولا على الشداد، فإذا أصابته محنة أو شدة فإنه يرتد عن دينه، وإن حصل له مال وغنيمة وسعة ثبت؛ لأنه ليس لديه إيمان يثبت به قلبه، ولكنه كما في الآية الأخرى (على حرف)، نسأل الله السلامة والعافية. قال الله تعالى: أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ [العنكبوت:10]، فالله تعالى يعلم ما في صدور العالمين من الإيمان والطاعة، ومن الكفر والنفاق. وقال سبحانه: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ [العنكبوت:11] أي: يعلم علم ظهور، فهو سبحانه عالم بحالهم، لكن المعنى: أنه سبحانه وتعالى يجعل من الأسباب ما يظهر به المنافق للناس ظهور عيان، فالمحن والشدائد والمصائب يتبين بها المؤمن الصابر الثابت على دينه من المنافق الذي ليس عنده إيمان ولا ثبات، فيظهر نفاقه عند المحن والشدائد، ولهذا قال سبحانه: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ [العنكبوت:11].

 

 

أوصاف المنافقين في سورة الأحزاب

 

 

 

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال في سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الأحزاب:1]. وذكر فيها شأنهم في الأحزاب، وذكر من أقوال المنافقين وجبنهم وهلعهم، كما قال تعالى: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12] إلى قوله: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:18-20] . وقال تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [الأحزاب:60-61] إلى قوله: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب:73] ]. ذكر الله تعالى هذه الآيات في أوصاف المنافقين وفي شأنهم، وهي في سورة الأحزاب، وسميت الأحزاب باسم غزوة الأحزاب التي تحزب فيها الكفار وتجمعوا من كل قوم حتى أحاطوا بالمدينة النبوية؛ للقضاء على الإسلام والمسلمين، قال الله تعالى في أول هذه السورة: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الأحزاب:1]. قوله: اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:1] أمر، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم مأموراً بالتقوى فغيره من باب أولى، وتقوى الله هي جماع الدين، وهي أصل الدين وأساس الملة، قال طلق بن حبيب : تقوى الله أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخشى عقاب الله. فاجعل بينك وبين النار وغضب الله وقاية بالتوحيد وأداء الواجبات وترك المحرمات. وقوله: وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [الأحزاب:1] نهى عن طاعة الكفار والمنافقين، وهذا يراد به التنبيه بالأعلى على الأدنى، أي: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم يوجه إليه هذا الخطاب فغيره من باب أولى، فالمؤمنون مأمورون بتقوى الله، ومأمورون بألا يطيعوا الكافرين والمنافقين، ومأمورون بالتوكل على الله: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [الأحزاب:3] . ثم بين الله سبحانه وتعالى في هذه السورة أنه في وقت الشدائد والمحن في غزوة الأحزاب ظهر النفاق، وذلك أن غزوة الأحزاب حصل فيها محن وشدائد على المؤمنين، ورمتهم العرب عن قوس واحدة، وذلك أن بعض رؤساء اليهود ذهبوا إلى كفار قريش وحرضوهم على قتال النبي صلى الله عليه وسلم وواعدوهم بأن يساعدوهم، وذهبوا إلى غيرهم من القبائل فاستجابوا لهم وتحزبوا وتجمعوا. فجاءت قريش بقيادة أبي سفيان ، وجاءت غطفان وغيرهم من العرب، وكان في المدينة ثلاث قبائل من اليهود قد صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: بنو قينقاع، وبنو قريظة، وبنو النضير، فنقضت بنو النضير العهد فأجلوا، ونقضت بنو قريظة أيضاً، فكانت هذه الأيام شديدة على المسلمين. ولكن الله سبحانه وتعالى بعد ذلك فرج كربة المؤمنين، ونصرهم بالملائكة والريح بجنود لم يرها المسلمون؛ بسبب تقواهم، تحقيقاً لقول الله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2] ، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4]. ولهذا خاطب الله المؤمنين وأمرهم بأن ينصروا الله، وذكر نعمته عليهم حيث نجاهم من عدوهم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ [الأحزاب:9]، وهم جنود من الكفرة من جميع القبائل ومعهم قريش، فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [الأحزاب:9] أي: جنوداً من الملائكة، وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الأحزاب:9-10]، فبعضهم نزل في أسفل المدينة وبعضهم نزل في أعلاها. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق لما سمع بقدوم قريش، وكان ذلك بإشارة من سلمان الفارسي ، فأمر بحفر الخندق حول المدينة؛ حتى لا تقتحمه الخيول. وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ [الأحزاب:10] أي: من شدة هذا الأمر، وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [الأحزاب:10-11]. وبعد ذلك ذكر أهل النفاق فقال: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12]. وذلك أن بعض المنافقين قال: أين محمد الذي يعدنا بأن نأكل من خزائن كسرى و قيصر وأحدنا لا يستطيع أن يذهب إلى الخلاء من شدة الخوف؟! وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ [الأحزاب:13] يعني: المنافقين، يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ [الأحزاب:13] قال الله: وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا [الأحزاب:13]. ثم قال: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا [الأحزاب:14] يعني: المدينة ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا [الأحزاب:14] أي: لارتدوا وسارعوا إلى الكفر. ثم قال: وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا * قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا * قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [الأحزاب:15-17]، فكل هذه من أوصاف المنافقين. ثم قال سبحانه: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [الأحزاب:18] أي: أنهم يعوقونهم ويثبطونهم، وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:18] أي: الحرب والقتال، أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ [الأحزاب:19] أي: إذا ذهب الخوف والحرب والقتال صاروا أشحاء وبلغاء يتكلمون بكلام فصيح بليغ، فيطالبون بحقوقهم والمشاركة في الغنيمة، فإذا جاء الخوف والحرب رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [الأحزاب:19] ، قال الله: أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ [الأحزاب:19] أي: بكفرهم وضلالهم ونفاقهم، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [الأحزاب:19]. ثم قال سبحانه: يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ [الأحزاب:20]، وهذه من شدة هلعهم وخوفهم، فقد ارتحل الأحزاب وذهبوا ولكن هؤلاء من شدة خوفهم لا يزالون هلعين خائفين، يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ [الأحزاب:20] أي: أنهم إذا جاء الأحزاب يتمنون أنهم ليسوا في المدينة بل خارج المدينة في البوادي، فيسمعون الأخبار وماذا حصل للمسلمين، وهذا من شدة خوفهم، وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:20-21] . فهذه أوصاف المنافقين بينها الله لنا لنحذرها، فالمؤمن يرجو ثواب الله والدر الآخرة، لذلك تجد عنده شجاعة وإقداماً، وقوة وثبات قلب، وليس كالمنافقين الهلعين الخائفين، ولهذا وصف الله المؤمنين فقال: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا ع

 

 

أوصاف المنافقين في سورة محمد

 

 

 

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال تعالى في سورة القتال: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:29-30] إلى ما في السورة من نحو ذلك ]. هذه الآيات في سورة القتال ويقال لها: سورة محمد. يقول الله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ [محمد:29]، هذا المرض هو مرض النفاق والشك والشبهة، وهو أشد من مرض الشهوة، ومرض الشهوة هو مرض المعاصي، ومرض الشبهة هو مرض القلب ومرض الشك والريب والنفاق. أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ [محمد:29]، بل إن الله تعالى سيخرج أضغانهم، ويبين صفاتهم لعباده المؤمنين، ولهذا قال سبحانه: وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ [محمد:30] ولكنه سبحانه وتعالى أخفى ذلك؛ لتكون الأحكام على الظاهر، وتوكل السرائر إلى الله عز وجل. وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30] أي: قد يظهر من أقوالهم ما يدل على ما تخفيه بواطنهم، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ [محمد:30] . ثم قال سبحانه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31] أي: أن الله تعالى يختبر عباده في السراء والضراء والمحن والشدائد؛ حتى يتميز الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق كما قال سبحانه في آية العنكبوت: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ [العنكبوت:11].

 

 

أوصاف المنافقين في سورة الفتح

 

 

 

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال تعالى في سورة الفتح: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا * وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [الفتح:4-6] ]. هذه الآيات في سورة الفتح، وقوله: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1] المراد بالفتح هنا: صلح الحديبية، وسمي فتحاً لأنه مقدمة الفتح، فلما عقد النبي صلى الله عليه وسلم الهدنة والصلح بينه وبين الكفار عشر سنين تضع الحرب فيها أوزارها اختلط الكفار بالمسلمين، فلما سمعوا كلام الله وكلام رسوله أسلم منهم عدد كبير، وتفرغ النبي صلى الله عليه وسلم لفتح خيبر، فحصل خير عظيم، ثم نقضت قريش العهد بعد سنتين، فغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم وفتح مكة، وسماه الله فتحاً. وجاء في بعض الأحاديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أفتح هو؟ قال: نعم) ، ولهذا قال الله سبحانه: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1] وهو صلح الحديبية، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:2]. وقال فيها سبحانه: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا [الفتح:4-5]، ثم قال سبحانه: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ [الفتح:6]، فهذا جزاء المنافقين والمشركين، الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ [الفتح:6]، وظن السوء هذا جاء تفسيره بأنهم ظنوا أن الله تعالى لا يحفظ رسوله والمؤمنين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم سيقتل ويقضى على الإسلام والمؤمنين فلا تبقى للإسلام قائمة، فهذا هو ظن السوء. فمن كان يظن أن الحق سيقضى عليه، وأن الله يديل الباطل على الحق إدالة مستمرة ينتهي معها الحق ولا يبقى إلا الباطل فقد ظن بالله ظن السوء؛ لأن الله تعالى وعد أنه سينصر دينه، فقال: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33] ، فلابد أن يظهر هذا الدين، ولهذا جاء في الحديث: (ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك بيت مدر ولا شعر إلا أدخله بعز عزيز أو بذل ذليل). وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى). فالحق لابد أن يبقى، والطائفة المنصورة باقية إلى قيام الساعة، لكن هذه الطائفة تقل أحياناً وتكثر أحياناً، وتكون مجتمعة أحياناً وتكون متفرقة أحياناً أخرى، فقد تكون مثلاً في بعض الأزمنة في الجزيرة العربية، وقد تكون في الشام، وقد تكون في مصر، وقد تكون في إفريقيا، وقد يكون بعضها هنا وبعضها هناك، وفي آخر الزمان قبيل خروج الدجال تكون في الشام، وقبيل خروج المهدي تحصل الفتن، فأهل الحق يجتمعون في الشام بعد الحروب الطاحنة التي تحصل لهم، وبعد فتح القسطنطينية يخرج الدجال، ثم ينزل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام. قال تعالى: عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ [الفتح:6] أي: سيعود وبال ظنهم عليهم، فهذا الظن كفر، فمن ظن بالله هذا الظن فقد ظن بالله ظن السوء، فعليه دائرة السوء، وغضب الله عليه ولعنه وأعد له جهنم وساءت مصيراً. فالواجب على المسلم أن يظن بالله الظن الحق وأن يحسن الظن بربه، وأن يعلم أن هذا الدين لابد أن ينتصر، وأن الله لابد أن يظهر دين الإسلام، وفي الحديث القدسي الصحيح يقول الرب عز وجل: (أنا عند ظن عبدي فليظن بي ما شاء) أو كما جاء في الحديث. وهذا فيه تحذير لنا من صفات المنافقين، ولهذا بين هذا الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه في كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران:154] ، وذكر هذه الآية: الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ [الفتح:6] قال: هو أن يظن بالله أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستمرة، وأنه لا يبقى على الحق أحد. قال: (ولو فتشت من فتشت لوجدت عنده تعنتاً على القدر واعتراضاً عليه، وأنه ينبغي أن يكون كذا، ولماذا يكون كذا؟) فبعض الناس يعترض على الله: أنه لماذا يكون كذا؟ ولماذا يقدر كذا؟ ولماذا يعطي هذا؟ ولماذا يجعل هذا غنياً؟ ولماذا يجعل هذا فقيراً؟ ثم قال الشيخ رحمه الله: (وفتش نفسك هل أنت سالم)، أي: فتش نفسك هل أنت سالم من هذه الظنون السيئة أو غير سالم. فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لأخالك ظالما. يعني: كل واحد يفتش نفسه ويتفقد حاله من هذه الظنون السيئة بالله. ومن الظنون السيئة: الاعتراض على الله وعلى قدره وعلى إنعامه على من أنعم عليه، والله تعالى ذكر صفات المنافقين هذه لنحذرها.

 

 

أوصاف المنافقين في سورة الحديد

 

 

 

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال تعالى في سورة الحديد: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحديد:12-15] ]. هذه الآيات فيها بيان حال المؤمنين وحال المنافقين، ففيها حال المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله باطناً وظاهراً، واستقاموا على توحيد الله وطاعته، وفيها حال المنافقين الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، ودبروا الحيل والمكائد في الدنيا للقضاء على الإسلام والمسلمين، فماذا كان حالهم؟ وماذا كانت نتيجتهم؟ لقد كانت النتيجة أن الله تعالى نجى المؤمنين من شدائد يوم القيامة وأهوالها، فحصلوا على الفوز العظيم، والنعيم المقيم، وأما المنافقون فإن نفاقهم وكفرهم خذلهم في أحرج المواقف، وانطفأ نورهم وصاروا في الظلمات، ثم سيقوا إلى الجحيم والدركات في النار، نسأل الله السلامة والعافية، فبين الله حالهم ومآلهم فقال: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ [الحديد:12] أي: أمامهم، فيمشون في النور، فلما كانوا صادقين في إيمانهم صار هذا النور المعنوي في الدنيا نوراً حسياً حقيقاً في الآخرة، فيكون أمامهم ويكشف لهم الطريق؛ ليمشوا على بصيرة، يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الحديد:12] فتبشرهم الملائكة بذلك. وأما المنافقون فقال عنهم: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ [الحديد:13] أي: يمشى المنافقون والمؤمنون جميعاً في النور، ثم ينطفئ نور النفاق، فالمنافقون لا يزالون في خداعهم فيظنون أنهم مع المؤمنين، فلما كانوا مع المؤمنين في الدنيا ظنوا أن هذا سينفعهم في الآخرة، فمشوا معهم يوم القيامة فانطفأ نورهم، وبقي نور المؤمنين مضيئاً، فقالوا للمؤمنين: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13] أي: اصبروا وانتظرونا فليس عندنا نور، فقال لهم المؤمنون: ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ [الحديد:13] أي: فصل بينهم وبين المؤمنين بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ [الحديد:13] أي: من قبل المؤمنين، وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13] من قبل المنافقين، ثم سوقوا إلى النار عياذاً بالله، فهذا جزاؤهم بسبب كفرهم وعنادهم. قوله: يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ [الحديد:14] أي: لما انطفأ نور المنافقين وضرب بينهم بسور جعل المنافقون ينادون المؤمنين، فليس لديهم الآن إلا النداء: ألم نكن معكم في الدنيا فكنا نصلي معكم، ونصوم معكم، ونجاهد معكم؟ فما الذي حصل؟ ولماذا افترقنا؟ قَالُوا بَلَى [الحديد:14] أي: كنتم معنا، وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [الحديد:14] فلستم على استقامة، ولستم على إيمان، ولستم على توحيد. فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحديد:15] ، لا يمكن أن تفدوا أنفسكم من عذاب الله لا أنتم ولا الكفار ظاهراً وباطناً، مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحديد:15]، فهذه عاقبة الكفار والمنافقين، نسأل الله السلامة والعافية.

 

 

أوصاف المنافقين في سورة المجادلة

 

 

 

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال تعالى في سورة المجادلة: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ .. [المجادلة:8] إلى قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [المجادلة:14-16] إلى آخر السورة. وقوله: مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ [المجادلة:14] ]. هذه الآيات من سورة المجادلة في صفات المنافقين، قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ [المجادلة:8] . فنهاهم الله عن النجوى والتناجي بالسر؛ لأن الكفار قد يتناجون بالكلام فيما بينهم بما فيه مضرة على المسلمين، فنهاهم الله تعالى عن ذلك، فلم ينته هؤلاء المنافقون عن ذلك؛ عصياناً لله ولرسوله، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ [المجادلة:8] أي: أنهم استمروا في تلك الخصلة الذميمة، بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المجادلة:8] أي: بما فيه إثم ومعصية، وبما فيه عدوان على المسلمين في دمائهم أو أموالهم أو أعراضهم. قوله: وَإِذَا جَاءُوكَ [المجادلة:8] الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام، حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ [المجادلة:8]. وهذا في المنافقين من اليهود، فإنهم إذا جاءوا إلى صلى الله عليه وسلم يظهرون أنهم يسلمون عليه فيقولون: السام عليك، فيحذفون اللام، والسام هو الموت. وكان يرد عليهم فيقول: وعليكم، فسمعتهم عائشة ! من وراء الحجاب فقالت: وعليكم السام واللعنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة إن الله يبغض الفحش والتفحش، فقالت: يا رسول الله! ألم تسمع ما قالوا؟ قال: ألم تسمعي ما قلت: وعليكم، فرددت عليهم تحيتهم، فإنها تقبل منا ولا تقبل منهم) . قوله: وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ [المجادلة:8] أي: لو كان نبياً لعذبنا الله على مقولتنا له، فأنزل الله: حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ [المجادلة:8] أي: مصيرهم، وبئس المقام مقامهم. وقال سبحانه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ [المجادلة:14] وهذا وصف المنافقين على الصحيح، والذين غضب الله عليهم هم اليهود، فالمنافقون يتولونهم من دون المؤمنين، ويحبونهم وينصرونهم ويؤيدونهم، وموالاة الكفار ومحبتهم لدينهم كفر وردة، وقد وقع هذا من المنافقين، فإنهم يتولون اليهود الذين وصفهم الله بقوله: غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [المجادلة:14]. قوله: مَا هُمْ مِنْكُمْ [المجادلة:14] أي: أن المنافقين ليسوا من المؤمنين، وَلا مِنْهُمْ [المجادلة:14] أي: وليسوا من اليهود، بل هم صنف ثالث. ومن أوصافهم: وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [المجادلة:14] أي: يحلفون على الكذب وهم يعلمون أنه كذب نعوذ بالله، فالله تعالى قص علينا خبرهم ونبأهم وبينا لنا أوصافهم لنحذرها، فالواجب على المسلم أن يحذر من تولي الكفرة واليهود، ويحذر من الحلف على الكذب. قوله: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [المجادلة:15-16] أي: جعلوا أيمانهم سترة في إخفاء كفرهم ونفاقهم، فإذا جاءوا إلى النبي حلفوا له، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل ظواهرهم ويكل السرائر إلى الله، فلما تخلفوا عن غزوة تبوك جاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فحلفوا له أنهم لا يستطيعون، وأن لهم أعذاراً، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم ظواهرهم وحالهم، ووكل سرهم إلى الله، فهم اتخذوا أيمانهم جنة وسترة يتسترون بها لإخفاء كذبهم وكفرهم ونفاقهم، فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [المجادلة:16] أي: بذلك فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [المجادلة:16] * لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المجادلة:17] أي: لا تنفعهم أموالهم ولا أولادهم يوم القيامة، بل سيخلدون في النار، يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ [المجادلة:18] أي: أنهم يوم القيامة إذا بعثوا فإنهم يبقون على كذبهم وخداعهم، فيحلفون أمام الله عز وجل أنهم صادقون كما يحلفون للمؤمنين في الدنيا، ويظنون أن هذا ينفعهم. اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ [المجادلة:19] أي:توحيده وطاعته، أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المجادلة:19]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة) . أي: أن المنافقين مذبذبون، فلهم ظاهر ولهم باطن، فظاهرهم مع المؤمنين وباطنهم مع الكفار، لذا شبههم النبي صلى الله عليه وسلم بالشاة بين الغنمين، فهي مرة تذهب مع هذه الغنم ومرة تذهب مع الغنم الأخرى، فليس عندها ثبات، وكما قال الله: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ [النساء:143] أي: لا إلى المؤمنين ولا إلى الكفار، فمرة مع المؤمنين ومرة مع الكفار، فهم يخافون وعندهم ذعر يقولون: نجعل يداً مع المؤمنين ويداً مع الكفار. قال تعالى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ [النساء:143] لا إلى المؤمنين ولا إلى الكفار، فهم مرة مع المؤمنين ومرة مع الكفار، وعندهم ذعر وخوف، فهم يقولون: نكون مع المؤمنين، فإن انتصر المؤمنون شاركناهم في الغنيمة، وكنا معهم، وإن انتصر الكفار صرنا معهم، فليس عندهم ثبات، ولا إيمان، وهذا فيه تحذير من صفات المنافقين، وفيه حث على الإيمان والثبات والاستقامة.

 

 

أوصاف المنافقين في سورة الحشر

 

 

 

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال تعالى في سورة الحشر: أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ * لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ [الحشر:11-13] ]. هذه الآيات في سورة الحشر، يقول الله سبحانه وتعالى فيها: أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا [الحشر:11]؛ ولأنهم منافقون يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحشر:11] وهم اليهود. وذلك أن عبد الله بن أبي وغيره من المنافقين جاءوا إلى يهود بني قريظة، وحرضوهم على نقض العهد، وقالوا لهم: نحن معكم؛ إن قاتلكم محمد قاتلنا معكم، وإن أخرجكم خرجنا معكم، فهؤلاء المنافقون يمنون اليهود بهذا الكلام، وهم أجبن من أن يقاتلوا؛ ولهذا أنزل الله فيهم قوله: أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ [الحشر:11] يعني: من المدينة لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ [الحشر:11] فبين كذبهم بقوله: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ [الحشر:11-12]، وهذا وصف المنافقين بأنهم كذبة. وعندما أخرج اليهود لم يخرجوا معهم، بل ما استطاعوا الخروج، ولما حاصر النبي صلى الله عليه وسلم بني قريظة لم ينصروهم، ولا قربوا منهم، فهم يخشون على أنفسهم، ولو قاتلوا على الفرض والتقدير، لولوا منهزمين، قال الله تعالى في وصفهم: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ [الحشر:13]، هذا وصف المنافقين بأنهم يخشون المؤمنين ويخافونهم أشد من خوفهم من الله؛ لأنهم ليس عندهم إيمان، فلو كان عندهم إيمان لخافوا الله، ولكنهم يخافون من المؤمنين أن يطلعوا على ما في نفوسهم من النفاق فيقتلونهم، لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الحشر:13]. ثم ذكر الله من أوصاف اليهود، فقال: لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ [الحشر:14]، وهذا الوصف هو أنهم لا يقاتلون، وهنا وصف بالجبن والهلع، فلا يقاتلون إلا في قرى محصنة أي: من وراء حصون، ولا يبرزون إلى الصحاري؛ لأنهم لا يؤمنون ولا يرجون الشهادة، بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الحشر:14-15]. ثم ضرب الله مثلين، مثلاً بالذين من قبلهم من الذين ذاقوا وبال أمرهم، والمثل الثاني هو الشيطان في قوله: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [الحشر:16]. أي: ومثل المنافقين عندما يحرضون المنافقين على نقض العهد ويقولون لهم: إننا معكم، وهم يكذبون في ذلك، فلما نقضوا العهد تركوهم، فمثلهم هذا كمثل الشيطان عندما دعا الإنسان للكفر؛ فلما كفر تبرأ منه. وقد جاء في سبب نزول هذه الآية: أنها نزلت في عابد جاءه الشيطان، فلم يزل به حتى زنى بامرأة وحملت، ثم قتل الولد، فأخذ وصلب، فجاءه الشيطان وقال له: أنا الذي فعلت بك كذا وكذا، وأنا الذي أخلصك إذا فعلت شيئاً واحداً، قال: وما هو؟ قال: تومئ لي برأسك بالسجود، فأومأ له برأسه بالسجود، فقال: أنا بريء منك، فتبرأ منه، فأنزل الله: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ [الحشر:16]. ووجه الشبه أن المنافقين قالوا لليهود: انقضوا العهد، وقاتلوا محمداً ونحن معكم، فلما نقضوا العهد تبرءوا منهم، وهذا المثل كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ [الحشر:16-17]، نسأل الله السلامة والعافية. وقد ذكر الله هذه الأوصاف تحذيراً لنا؛ لئلا يصيبنا ما أصابهم.

 

 

شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [8]

 

الآيات القرآنية الواردة في ذكر صفات المنافقين كثيرة، بل أنزل الله سورة كاملة باسمهم وبين فيها صفاتهم، وقد صار الفقهاء يطلقون مصطلح الزنديق على المنافق، وذلك لما كثر المسلمون من العجم وتداولوا هذا المصطلح، واختلف الفقهاء في حكم الزنديق وقبول توبته.

 

أوصاف المنافقين في سورة المنافقون

 

 

 

 

 

 

 

المنافقون يظهرون خلاف ما يبطنون

 

 

 

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد ذكر في سورة المنافقين قوله تعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1] إلى آخر السورة، والمقصود بيان كثرة ما في القرآن من ذكر المنافقين وأوصافهم ]. ذكر الله تعالى سورة كاملة في شأن المنافقين تسمى سورة المنافقين، بين الله تعالى فيها أوصافهم وأخلاقهم؛ تحذيراً لعباده المؤمنين أن يتصفوا بصفاتهم، قال سبحانه: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ [المنافقون:1] وهم الذي كفروا في الباطن، وأظهروا الإسلام في الظاهر قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون:1] هذا قولهم باللسان وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1] إذاً: لهم ظاهر وباطن، ظاهرهم الشهادة لله تعالى بالوحدانية باللسان، وكذلك الشهادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وأما في الباطن فقلوبهم مكذبة. اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [المجادلة:16] أي: اتخذوا أيمانهم وقاية يتقون بها العقوبات التي تصيبهم في الدنيا، فكلما فعلوا شيئاً حلفوا أيماناً أنهم ما فعلوا فيسلمون من العقاب؛ لأن الأحكام إنما تكون على الظاهر، والسر تكله إلى الله، فجعلوا أيمانهم وقاية. وهذا فيه تحذير للمؤمن من الأيمان، فنجد بعض المؤمنين يحلف ولا يبالي، وهذه من صفات المنافقين، وبئسما صنعوا، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ [المنافقون:3] آمنوا: عرفوا الحق، ووضح لهم، ثم كفروا، فلما كفروا بعد وضوح الحق عوقبوا بأن طبع الله على قلوبهم، فجعل عليها غلافاً كالطابع. وفي آية أخرى أخبر عنهم سبحانه بقوله: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ [البقرة:88] أي: إذاً قلوبهم عليها غلاف وطابع وختم؛ بسبب تركهم الحق، وإعراضهم عنه بعد وضوحه، كما قال تعالى عن أهل القرى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5] فقد أزاغ الله قلوبهم بسبب زيغهم وتركهم الحق بعد وضوحه. وقال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110] ومن أوصافهم أنهم ممن يعجبك منظرهم، وأيضاً كلامهم معسول وبليغ وفصيح، لكن القلوب خراب وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [المنافقون:4] أي: خاوية ليس فيها شيء فهي جوفاء. يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [المنافقون:4] وذلك بسبب ما في قلوبهم من الهلع، يظنون كل أمر وبلاء ينزل نازلاً بهم، ويرون أن كل حادثة هي عليهم؛ بسبب ما في قلوبهم من الريب والزيغ. قال الله تعالى: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4] أي: هم العدو الحقيقي اللدود، شديد العداوة، وإن كان اليهود أعداء، والنصارى أعداء، لكن هؤلاء أشد عداوة؛ ولهذا قال: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4].

 

 

 

 

 

 

 

المنافقون يرفضون استغفار الرسول لهم

 

 

 

قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ [المنافقون:5] أي: ومن صفاتهم أنهم لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [المنافقون:5] فإذا جاء الرسول ليستغفر لهم لووا رءوسهم كأنهم لا يحتاجون؛ لما في قلوبهم من الكفر والنفاق، فإذا استغفر لهم أعرضوا وصدوا ولم يقبلوا وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [المنافقون:5]. قال تعالى: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [المنافقون:6] يعني: ما داموا على كفرهم ونفاقهم؛ فلن يجدوا المغفرة، حتى ولو استغفر لهم الرسول عليه الصلاة والسلام.

 

 

 

 

 

 

 

المنافقون يصدون الناس عن الرسول

 

 

 

قال تعالى: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المنافقون:7] أي من أوصافهم أنهم يقولون لبعضهم البعض: لا تنفقوا على المؤمنين، ولا تبذلوا أموالكم، بل اتركوهم في حاجتهم وفقرهم، حتى ينفضوا عن النبي صلى الله عليه وسلم ويتركوه، فلا يبقى عنده أحد، وهذا من ظنهم السيئ أن الإسلام سينتهي، فهم يقولون: لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ [المنافقون:7] أي: من الصحابة لعلهم ينفضون عنه ويتركونه ولا يبقى معه أحد. فقال الله رداً عليهم: وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ [المنافقون:7]، أي: إذا منعتم النفقة أنتم، فإن الله له خزائن السموات والأرض، فالرزق بيد الله.

 

 

 

 

 

 

 

سبب نزول قوله تعالى (يقولون لئن رجعنا)

 

 

 

وذكر الله من أوصافهم قوله: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ [المنافقون:8]. وهذه الكلمة قالها عبد الله بن أبي عندما حصل نزاع بين بعض المهاجرين وبعض الأنصار، والمهاجرون هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، والأنصار هم الذين نصروهم واستقبلوهم في المدينة حتى أعز الله المسلمين. والنزاع الذي حدث بين بعض الشباب من الأنصار والمهاجرين أن مهاجريا كسع أنصارياً، فتنادى هؤلاء وهؤلاء، وبلغ ذلك عبد الله بن أبي ، فقال: أوفعلوها، وقال: ما حالهم إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك! يعني: جئنا بهم إلى المدينة والآن صاروا ضدنا. ثم قال: والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ويقصد بالأعز نفسه، وبالأذل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فسمعها زيد بن أرقم ، فأنزل الله: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]، ولما سمع عبد الله بن أبي ابنه عبد الله ، وكان من أصلح عباد الله، جاء ووقف أمام أبيه بالسيف، وقال: والله لا تدخل المدينة؛ حتى تكون أنت الأذل والرسول هو الأعز! وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! إني سمعت أنك تقتل عبد الله -يعني أباه- وإني لا أستطيع أن أرى قاتل أبي، ولكن إن أردت قتله، فأمرني أن آتيك برأسه! فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: لا، نستبقيه؛ حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، فأنزل الله قوله: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8] أي: ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين أبداً دائماً إلى يوم الدين، رغم أنوف الكافرين والمنافقين، واليهود والنصارى، وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8] أي: لا يعلمون أن العزة باقية لله ولرسوله وللمؤمنين. فنسأل الله أن يعزنا بطاعته، ونسأل الله أن يعز الإسلام وأهله، وأن يذل الشرك وأهله، وأن يخذل الكفار والمنافقين ويهلكهم، ويقطع دابرهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد