قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فصل: لما قتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وسار علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى العراق، وحصل بين الأمة من الفتنة والفرقة يوم الجمل ثم يوم صفين ما هو مشهور، خرجت الخوارج المارقون على الطائفتين جميعاً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بهم، وذكر حكمهم ].
الخلاف في الفاسق الملي
المؤلف رحمه الله يبين الخلاف في الفاسق الملي، وهو: المؤمن العاصي الموحد، الذي وحد الله وأخلص له العبادة، ولم يقع في عمله شرك لكنه اقترف بعض الكبائر، أو قصر في بعض الواجبات، وهذا يسمى الفاسق الملي، وهذا هو الذي جاءت النصوص بإثبات الإسلام له ونفي الإيمان عنه، كقوله تعالى في سورة الحجرات: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14]، وقوله سبحانه في سورة الذاريات: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35-36]، وقوله سبحانه في سورة الأحزاب: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب:35]. وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان عن سعد بن أبي وقاص : (أنه لما أعطى رجالاً وترك رجالاً قال سعد : وترك رجلاً هو أعجبهم إلي، قلت: يا رسول الله! ما لك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمنا؟! فقال: أو مسلماً). وهذا الصنف من الناس فيه قولان لأهل العلم: القول الأول: أن الذين أثبت لهم الإسلام ونفي عنهم الإيمان، إنما هم المنافقون، فيكون الإسلام هو الاستسلام في الظاهر، وذهب إلى هذا الإمام البخاري وجماعة، وقالوا: لأن الإسلام هو الإيمان، والإيمان هو الإسلام. القول الثاني: قول جمهور العلماء من السلف والخلف: أن هؤلاء الذين أثبت لهم الإسلام ونفي عنهم الإيمان ليسوا منافقين، وإنما هم ضعفاء الإيمان، وهذا هو الذي يسمى الفاسق الملي، وهذا هو الأرجح والأصوب.
ذكر ما يؤيد أن العاصي مؤمن ضعيف الإيمان وليس كافراً
وهذا القول يرجح من عدة مرجحات وهي: المرجح الأول: قوله سبحانه وتعالى في سورة الحجرات: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14]، والحرف (لما) ينفى به ما قرب وجوده وانتظر، والمعنى أنه: لم يدخل الإيمان الكامل في قلوبكم، وسوف يدخل قريبا. المرجح الثاني: أنه أثبت لهم الطاعة لله ورسوله وهم على حالهم، قال الله تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [الحجرات:14]. المرجح الثالث: أن الله تعالى خاطب هؤلاء بقوله: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الحجرات:14]، ولو لم يكونوا في هذا الحال مثابين لكان خلاف مدلول الخطاب. المرجح الرابع: أنه وصف المؤمنين الذين حققوا إيمانهم بقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15]. والفاسق الملي أو المؤمن الذي ارتكب بعض الكبائر أو قصر في بعض الواجبات يعطى مطلق الإيمان،أي: أصل الإيمان، وينفى عنه الإيمان المطلق، أي: الإيمان الكامل. وهذا القسم يسميه بعض الناس الفاسق الملي، أي: أنه فاسق ولكنه داخل في ملة الإسلام، والناس تنازعوا في اسمه لا في حكمه، والذين يدخلون في مسمى الإسلام أقسام: القسم الأول: المنافقون. القسم الثاني: الصادقون في إيمانهم. القسم الثالث: الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب. القسم الربع: الفاسق الملي، الذي له طاعات وحسنات، وله معاص وسيئات. القسم الخامس: الكافر ظاهراً وباطناً من اليهود والنصارى والوثنيين. والخلاف في الفاسق الملي، أول خلاف ظهر في الإسلام في مسائل أصول الدين، فبعد قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، ظهرت الخوارج وخالفوا في الفاسق الملي، وقالوا: إنه كافر، وخالفوا أهل السنة والجماعة، وأهل السنة والجماعة على أنه مؤمن عاصٍ ضعيف الإيمان. والخوارج قالوا: إنه كافر في الدنيا أو مخلد في النار في الآخرة، والمعتزلة قالوا: إنه خرج من الإيمان، ولم يدخل في الكفر، وهو مخلد في النار كقول الخوارج.
بيان أصل الخوارج
وأول من تكلم في هذا وهو أصل الخوارج -كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الرجل الذي اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: اتق الله واعدل، ولما سأل خالد رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم قتله قال: (إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم عند صلاتهم، وصيامكم عند صيامهم)، أي: من كثرة عبادتهم. فإذاً أول خلاف حصل في مسائل أصول الدين في الفاسق الملي، وقد حصل الخلاف بعد قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، وعندما بويع لأمير المؤمنين علي رضي عنه بايعه أكثر أهل الحل والعقد، وامتنع معاوية وأهل الشام من مبايعته، لا لأنه ليس أهلاً للخلافة بل لأنهم مطالبون بدم عثمان ، و علي رضي الله عنه لم يمانع من أخذ قتلة عثمان ، ولكنه رضي الله عنه يطلب من معاوية وأهل الشام أن يبايعوه، وإذا هدأت الأمور وثبت على جماعة أنهم قتلوا أمير المؤمنين يقتص منهم. ولكن أهل الشام امتنعوا اجتهاداً منهم فحصل الخلاف، وكل من الصحابة مجتهد، كما جاء في الحديث: (من اجتهد فأصاب فله أجران) كـعلي وأهل العراق، (ومن اجتهد وأخطأ فله أجر) كـمعاوية وأهل الشام. فالمؤلف رحمه يبين أن هذا أول خلاف وقع في الإسلام في أصول الدين، وهو خلاف الخوارج، وكان بعد قتل أمير المؤمنين عثمان ، وأصله اعتراض ذي الخويصرة التميمي الذي اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا محمد! اتق الله واعدل، وفي اللفظ الآخر أنه قال: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. وبعد وقعة النهروان خرجت الخوارج، ومرقت مارقة على حين فرقة من المسلمين فقتلهم علي رضي الله عنه وجيشه، قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (تقتلهم أدنى الطائفتين)، أي: أقرب الطائفتين إلى الحق. فالمؤلف يبين هذا، ويبين أن الخوارج صحت فيهم الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال الإمام أحمد: صح حديث الخوارج من عشرة أوجه، بخلاف الأحاديث في القدرية وذمهم فإن رفعها ضعيف، والصحيح أنها موقوفة على الصحابة بخلاف الأحاديث في الخوارج فإنها أحاديث صحيحة ثابتة في الصحيحين وغيرهما. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال الإمام أحمد : صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه، وهذه العشرة أخرجها مسلم في صحيحه موافقة لـأحمد ، وروى البخاري منها عدة أوجه، وروى أحاديثهم أهل السنن والمسانيد من وجوه أخر ]. الأحاديث صحت في الخوارج من عشرة أوجه، وخروج الخوارج كان في الوقت الذي حصل فيه الخلاف بين أهل الشام وأهل العراق يوم الجمل، ثم يوم صفين خرجت الخوارج على الطائفتين جميعاً: على طائفة علي وأهل العراق، وطائفة معاوية وأهل الشام.
صفات الخوارج
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ومن أصح حديثهم حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، و أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ففي الصحيحين عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: إذا حدثتكم عن رسول الله حديثاً فوالله لئن أخر من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن أكذب عليه، وإن حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة ]. هذا فيه بيان عناية الصحابة رضوان الله عليهم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فـعلي رضي الله عنه يقول: إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنا لا أحدث إلا عن يقين، فوالله لأن أخر من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن أكذب عليه، أما إذا حدثت فيما بيني وبينكم بعيداً عن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الحرب خَدْعَة، يقال: خَدْعة، ويقال: خَدَعة، ويقال: خِدعْة، ويقال: خُدعة، بالضم لكن فيه ضعف. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ واني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سيخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة) ]. هذا الحديث رواه البخاري رحمه الله، و مسلم ، و النسائي ، و أحمد ، و البغوي ، و ابن حبان ، و ابن أبي عاصم ، ومعنى: (أحداث الأسنان) أي: صغار الأسنان، وشباب صغار، وسفهاء الأحلام أي: ضعفاء العقول. أسنانهم صغار وأحلامهم ضعاف تأولوا الأحاديث على غير تأويلها، وما فهموها، وأخذوا الأحاديث التي فيها الوعيد، والأحاديث التي جاءت في الكفار فجعلوها في المسلمين فحكموا على المسلمين بأحكام الكفار. فإذا زنا المسلم كفروه، وإذا سرق كفروه، وإذا عق والديه كفروه، وإذا قطع رحمه كفروه، وإذا اغتاب كفروه، كل من فعل كبيرة فهو كافر عندهم ويخلدونه في النار؛ لضعف عقولهم وصغر أسنانهم، كما جاء في الحديث: (يقولن من خير قول البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم)، وفي لفظ: (أنهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم). وفي اللفظ الآخر: (يمرقون من الدين، ثم لا يعودون إليه)، وفي اللفظ الآخر: (لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل عاد)، شبههم بعاد وهم قوم كفار، وفي لفظ: (لأقتلنهم قتل ثمود). واحتج بهذا بعض العلماء على كفر الخوارج، وهو رواية عن الإمام أحمد أن الخوارج كفار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يمرقون من الدين)، وأمر بقتلهم، وقال: (في قتلهم أجر لمن قتلهم عند الله)، وقال: (يمرقون من الإسلام، ثم لا يعودون إليه). قال: هذا دليل كفرهم، وشبههم بعاد وبثمود وهم قوم كفار، فقال: (لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل عاد). ولهذا ذهب بعض العلماء، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله إلى أنهم كفار، ويختار هذا القول سماحة شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله أن الخوارج كفار. والقول الثاني: قول جمهور العلماء: أنهم ليسوا كفاراً ولكنهم مبتدعة؛ لأنهم متأولون، والصحابة رضي الله عنهم عاملوهم معاملة الفساق والمبتدعة، ولم يعاملوهم معاملة الكفار؛ لأنهم متأولون، وهناك فرق بين المتأول وبين الجاهل، فهم تأولوا وغلطوا، وقد استدلوا بقول علي رضي الله عنه لما سئل عن الخوارج: أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا، وعلى قول الجمهور يكونون مبتدعة وليسوا كفاراً.
بداية خروجهم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وفي الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: (بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهيبة في أدم مقروض لم تحصل من ترابها) ]. الأدم: الجلد، ومقروض، أي: مدبوغ بالقرض ، والقرض: شجر يدبغ بورقه وثمره. فـعلي رضي الله عنه لما كان أميراً على اليمن بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة في جلد مدبوغ بالقرض. وقوله: لم تحصل من ترابها أي: أنها لم تخلص من تراب معدنها؛ لأن الذهب إذا استخرج من الأرض يكون قطعة من الذهب، ثم بعد ذلك يجعل جنيهات، ويجعل حلياً، وغير ذلك، فهذه قطعة من الذهب أخذت من التراب على حالها ولم تصغ، فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين أربعة أشخاص من رؤساء القبائل في نجد وغيرها؛ لأنهم أسلموا حديثاً حتى يقوى إسلامهم. فلما رأى رجل ذلك، قال: اعدل يا محمد! فطلب خالد رضي الله عنه قتله، فالنبي صلى الله عليه وسلم منعه من قتله، وقال: (إنه سيخرج من ضئضئ هذا قوم -وهم الخوارج- تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم) وهذا هو أصل الخوارج. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ (قال: فقسمها بين أربعة نفر، فقال رجل من أصحابه: كنا أحق بهذا من هؤلاء، قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء، قال: فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال: يا رسول الله! اتق الله، فقال: ويلك! أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله) ]. هذا الرجل وصفه: أنه غائر العينين من الغور، أي: عيناه داخلتان في محاجرهما لاصقتان بمقر الحدقة، وهو ضد الجحوض، ومشرف الوجنتين أي: بارز العظمين المشرفين على الخدين، وناشز الجبهة أي: مرتفعة جبهته، كث اللحية، محلوق الرأس، وهذه سيما الخوارج، كما في الحديث: (سيماهم التحليق) فعلامة الخوارج حلق الرأس، يشددون ويتعبدون بحلق الرأس حتى يكون أبيض من شدة الحلق بالموسى. فقال هذا الرجل: اتق الله، يا رسول الله! كيف تعطي الذهب بين أربعة ولا تعطينا؟ وفي اللفظ الآخر قال: اعدل. فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويلك أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله)، وفي اللفظ الآخر أنه قال: (ويلك فمن لم يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله). فهذا الرجل الذي اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم هو أصل الخوارج.
جريان الأحكام على الظاهر
قال المصنف رحمه الله تعالى (..قال: ثم ولى الرجل، فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ فقال: لا، لعله أن يكون يصلي، قال خالد رضي الله عنه: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم..) ]. فيه أن الأحكام تجرى على الظاهر فمن كان يصلي فلا يقتل، ولهذا لما استأذن خالد رضي الله عنه أن يضرب عنقه، قال: (لعله أن يكون يصلي، قال خالد : وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم)، أي: فالأحكام على الظاهر، أما الخفي وما داخل النفس فالله أعلم به وهو يحاسبه، ولهذا فإن المنافقين تجرى عليهم أحكام الإسلام وهم منافقون في الباطن، إلا من أظهر نفاقه وكفره قتل من قبل ولاة الأمور، ومن لم يظهر نفاقه تجر عليه أحكام الإسلام: من الإرث، والتغسيل، والنكاح، وجميع الأحكام. وجاء في اللفظ الآخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنه منعهم من ذلك لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه. قال المؤلف: (قال: ثم نظر إليه وهو مقف). قوله: (مقف)، أي: قد ولاه قفاه، وهذا الرجل اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم وقفى، فلما ذهب وأعطاهم قفاه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم عند صلاتهم). قال المصنف رحمه الله تعالى: [ (فقال: إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطباً لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، قال: أظنه قال: لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)، اللفظ لـمسلم. قوله: (من ضئضئ هذا) من نسله وعقبه، قال: (لأقتلنهم قتل عاد) ذكر في الحاشية أن لفظ: (عاد) من رواية مسلم ، وعند مسلم: (لأقتلنهم قتل ثمود) ]. واحتج بهذا الإمام أحمد في رواية على كفر الخوارج؛ لأنه شبههم بثمود وعاد وهم قوم كفار، وقال: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) في اللفظ الآخر: (ثم لا يعودون إليه)، قالوا: وهذا دليل على كفرهم. والقول الثاني لأهل العلم وهم الجمهور: أنهم مبتدعة وعصاة وليسوا كفاراً؛ لأنهم متأولون، وهو الذي عليه عمل الصحابة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ولـمسلم في بعض الطرق عن أبي سعيد رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قوما يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحليق) ]. الفُرقة بالضم: الخلاف، أما الفرقة بالكسر: الجماعة، وقوله: (يخرجون في فرقة من الناس) يعني: الخلاف الذي حصل بين علي وأهل العراق، و معاوية وأهل الشام، وقد خرجوا في وقت الخلاف، وهذا فيه علم من أعلام النبوة، وأنه رسول الله حقاً، حيث أخبر أنهم يخرجون في وقت الفرقة والخلاف فخرجوا بعدما حصل قتال بين علي وأهل الشام. وقوله: (سيماهم التحليق) أي: علامتهم حلق الرأس، فيشددون في حلق الرأس ولا يتركونه يطول، ويحلقونه حلقاً كاملاً ويشددون في هذا، فهذه علامتهم وسيماهم.
الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما
بيان أقرب الطائفتين إلى الحق
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ عن أبي سعيد : (أن النبي صلى الله عليه وسلم: ذكر قوماً يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحليق، ثم قال: شر الخلق أو من شر الخلق، يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق..) ]. قوله: أدنى أي: أقرب الطائفتين إلى الحق، فقتلهم جيش علي رضي الله عنه، فدل على أن علياً رضي الله عنه أقرب إلى الحق من معاوية وأهل الشام. وفي اللفظ الآخر: (عمار تقتله الفئة الباغية)، وقد قتله جيش معاوية وأهل الشام، فدل على أن معاوية وأهل الشام بغاة، لكن لا يعرفون أنهم بغاة، وهم مجتهدون لهم أجر الاجتهاد وفاتهم أجر الصواب، و علي رضي الله عنه وأصحابه مجتهدون مصيبون لهم أجر اجتهاد وأجر الصواب. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال أبو سعيد رضي الله عنه: أنتم قتلتموهم يا أهل العراق، وفى لفظ له: (تقتلهم أقرب الطائفتين إلى الحق)، وهذا الحديث مع ما ثبت في الصحيح عن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحسن بن علي رضي الله عنهما: (إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المؤمنين) ]. وقوله: (ابني هذا سيد) وهو ابن ابنته فاطمة فدل على أن ابن الابن وابن البنت يسمى ابناً، قوله: سيد، وفي اللفظ الآخر: (الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة)، وقوله: (وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المؤمنين)، فيه دليل على أن معاوية وأهل الشام و علياً وأهل العراق كلهم مؤمنون؛ لأنه وصفهم بالإيمان، وفيه الرد على من كفرهم من الخوارج وغيرهم. ولما قتل علي رضي الله عنه وبايع الناس ابنه الحسن بالخلافة، فبقي في الخلافة ستة أشهر، ثم تنازل عن الخلافة لـمعاوية رضي الله عنه بشرط حقن دماء المسلمين، فأصلح الله به بين فئتين عظيمتين، ووضعت الحرب أوزارها، وبويع لـمعاوية بالخلافة في عام أربعين من الهجرة، وسمي ذلك العام عام الجماعة، واجتمع الناس كلهم على معاوية رضي الله عنه. فيكون معاوية أول ملوك المسلمين وبه انتهت الخلافة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة)، وآخر الثلاثين السنة الستة أشهر التي تنازل فيها الحسن بن علي رضي الله عنه لـمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه. والمصنف رحمه الله ذكر في موضع آخر أن الرجل الذي اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم كان قتله جائزاً، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن قتله لم يحل؛ لأن سفك الدماء بغير الحق من أكبر الكبائر، إلى إن قال: ولما قال ذو الخويصرة : اعدل فإنك لم تعدل، وإنما لم يقتلهم لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، ذكر هذا رحمه الله في الصارم المسلول. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فبين أن كلا الطائفتين كانت مؤمنة وأن اصطلاح الطائفتين كما فعله الحسن رضي الله عنه كان أحب إلى الله ورسوله من اقتتالهما، وأن اقتتالهما وإن لم يكن مأموراً به، فـعلى بن أبي طالب رضي الله عنه وأصحابه أقرب إلى الحق من معاوية رضي الله عنه وأصحابه، وأن قتل الخوارج مما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ]. الأقرب: بدل كلمة (قتل): قتال؛ لأن إمام المسلمين قد قاتلهم، وأن قتال الخوارج أحسن، وليس للإنسان أن يأخذ واحداً من الخوارج ويقتله، فتصير المسألة فوضى، لكن هذا إمامه يكشف شبهته إذا كان له شبهه، فإن أبوا قاتلهم الإمام.
أصل الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ولذلك اتفق على قتالهم الصحابة والأئمة ]. قوله: (على قتالهم) هذا يبين المراد، وهذه أربع فوائد استنبطها المؤلف رحمه الله من هذا الحديث: (إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المؤمنين). الفائدة الأولى: أن كلاً من الطائفتين مؤمنة وليسوا كفاراً، فـعلي وأهل العراق و معاوية وأهل الشام كلهم مؤمنون، وفيه الرد على من كفرهم. الفائدة الثانية: أن اصطلاح الطائفتين أحب إلى الله من القتال، وقد اصطلحوا على يد الحسن. الفائدة الثالثة: أن قتال الطائفتين مع كونه غير مأمور به، لكن علياً وأهل العراق أقرب إلى الحق من معاوية وأهل الشام؛ لأن علياً رضي الله عنه هو الخليفة الذي بايعه أكثر أهل الحل والعقد فثبتت له الخلافة، فيجب على معاوية وأهل الشام أن يبايعوه، لكن اجتهد معاوية وأهل الشام، وهم لا يمانعون في أنه يستحق البيعة، لكن قالوا: أولاً نطالب بدم عثمان ونحن أولياؤه، و معاوية يرى أنه من أوليائه، و علي رضي الله عنه لا يمانع، لكن يقول: لا نستطيع أن نأخذ قتلة عثمان في هذا الوقت، فهو وقت التباس واشتباه ووقت فتنة، ولا يعرف أحداً بعينه من الذين قتلوه فقد اندسوا ودخلوا في قبائلهم. فإذا هدأت الأمور استطعنا أن نأخذهم بعد ثبوتهم، لكن معاوية وأهل الشام قالوا: نريد أن نأخذهم الآن، فحصل الخلاف، ورأى علي رضي الله عنه أنه يجب عليه أن يقاتلهم ويجب أن يخضعوا؛ لأنه يجب عليهم أن يبايعوه وألا يشقوا عصا المسلمين، و معاوية وأهل الشام مجتهدون قالوا: نحن نطالب بدم عثمان ولا نريد الخلافة، فحصل الخلاف، فمن أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر. وأكثر أهل العلم وأكثر الصحابة انضموا إلى علي رضي الله عنه ورأوا أن الحق معه، واستدلوا بقول الله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي [الحجرات:9]. قالوا: طائفة معاوية وأهل الشام بغت فيجب قتالهم بنص الآية: فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات:9]، وبعض الصحابة مثل معاوية وأهل الشام أشكل عليهم الأمر وما فهموا هذا المثال، بل فهموا أنهم يطالبون بدم عثمان. وبعض الصحابة اشتبه عليهم الأمر، فتوقفوا واعتزلوا الفريقين، منهم سلمة بن الأكوع الذي ذهب إلى البادية وتزوج، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أذن له في البدو، ومنهم: أسامة بن زيد و ابن عمر وجماعة اشتبه عليهم الأمر فاعتزلوا الفريقين. وأكثر الصحابة اتضح لهم الأمر وعلموا أن علياً رضي الله عنه مصيب، وأنه يجب أن ينصر، وهو الخليفة الراشد الذي تمت له البيعة فمن لم يبايع يجب قتاله، وهذا هو الصواب أن علي هو الذي معه الحق وهو الخليفة بنص حديث معاوية (عمار بن ياسر تقتله الفئة الباغية)، وقد قتله أهل الشام. وحديث الخوارج: (تقتلهم أدنى الطائفتين)، أي: تقتلهم أقرب الطائفتين إلى الحق، فقتلهم علي رضي الله عنه، فدل على أنهم أقرب إلى الحق. ولكن معاوية وأهل الشام مجتهدون، فلا يجوز للإنسان أن يطعن في الصحابة ولا يتكلم فيهم، والصحابة رضوان الله عليهم كلهم مجتهدون، من أصاب فله أجران أجر الإصابة وأجر الاجتهاد، ومن أخطأ فله أجر الاجتهاد وفاته أجر الصواب، ولهم من الحسنات من جهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبقهم إلى الإيمان ونشرهم للإسلام ما يغطي ما صدر عنهم من الهفوات، ونقول كما قال تعالى: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10].
موقف أهل السنة من الخلاف بين الصحابة
وكما قال بعض السلف: هذه الحروب والقتال الذي حصلت نزه الله منها أيدينا فنسأل الله أن ينزه ألسنتنا منها، لكن أهل البدع تجدهم يطعنون في الصحابة، يطعنون في علي ، ويطعنون في معاوية، وهذا خطأ، وهو خلاف معتقد أهل السنة والجماعة. فالواجب الترضي على الجميع، وأن نعتقد أنهم مجتهدون ما بين مجتهد مصيب له أجران، وما بين مجتهد مخطئ له أجر، وما ينقل عن الصحابة كما قال شيخ الإسلام رحمه الله في الواسطية: منه ما هو كذب لا أساس له من الصحة، ومنه ما له أصل ولكن زيد فيه ونقص، ومنه ما هو صحيح، والصحيح هم فيه بين مصيب مجتهد له أجران، والمجتهد المخطئ له أجر، ولهم من الحسنات ما يغطي ما صدر عنهم من الهفوات، هذا هو الواجب على المسلمين، أما الكلام في الصحابة والطعن فيهم، وذكر مساوئهم، فهذا من طريقة أهل البدع. أما أهل السنة والجماعة فإنهم يترضون عن الجميع، ويترحمون على الجميع، ويعتقدون أن قتالهم ليس للهوى ولا للعصبية وإنما هو عن اجتهاد، ويعتقدون أن لهم من الحسنات من السبق إلى الإيمان والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم ونشر الإسلام والدعوة إلى الله، ما يغطي ما صدر عنهم ما الهفوات. ونقول في الجميع كما قال تعالى: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]. فإياك أن تلوث لسانك في الطعن في الصحابة فإن هذا شعار أهل البدع من الخوارج والمعتزلة، والروافض هم الذين يطعنون في الصحابة ويسبونهم، نسأل الله السلامة والعافية. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وهؤلاء الخوارج لهم أسماء يقال لهم: الحرورية؛ لأنهم خرجوا بمكان يقال له: حروراء، ويقال لهم: أهل النهروان؛ لأن علياً رضي الله عنه قاتلهم هناك ]. الخوارج لهم أسماء فيسمون: الحرورية؛ لأنهم خرجوا في مكان في العراق يسمى حروراء، فنسبوا إليه فيقال لهم: الحرورية، ومن ذلك أن عائشة رضي الله عنها سألتها امرأة، فقالت: يا أم المؤمنين، ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، ففهمت عائشة أنها معترضة، وأن السؤال سؤال اعتراض، فقالت: أحرورية أنت؟ أي: هل أنت من الخوارج من بلدة حروراء فتعترضين؟ لأن الخوارج يعتقدون أن الحائض تقضي الصلاة مثل الصوم، فهذه المرأة ليست من الخوارج، لكنها لم تحسن السؤال، فكأنها تقول: ما الحكمة في كون الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، لكن قالت: ما بالها؟ ففهمت منها أنها معترضة وأنها من الخوارج فقالت: أحرورية أنت؟ أأنت من الخوارج ؟ قالت: لا، لست بحرورية ولكن لأفهم، فقالت عائشة رضي الله عنها: (هكذا كان يصيبنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة). فهذه الفرقة تسمى الحرورية نسبة إلى حروراء، ويسمون أهل النهروان؛ لأن علياً قاتلهم بمكان يقال له: النهروان، ويسمون الخوارج ؛ لأنهم خرجوا على الطائفتين، على علي رضي الله عنه وعلى معاوية ، وكفروا الجميع، وقالوا: علي كافر، و معاوية كافر و عثمان كافر، قالوا: لأنهم تقاتلوا؛ ولأنهم حكموا الرجال في كتاب الله فكفروا، فهذا هو مذهبهم يكفرون المسلمين بالمعاصي. ومذهبهم باطل خبيث فهم يخلدون المؤمنين في النار، ويكفرونهم بالمعاصي. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومن أصنافهم الإباضية أتباع عبد الله بن أباض ، و الأزارقة أتباع نافع بن الأزرق ، والنجدات أتباع نجدة الحروري ]. الخوارج أصناف كثيرة ذكر الذين كتبوا في الفرق أنهم يبلغون ما يقرب من أربع وعشرين فرقة، منهم الإباضية نسبة إلى عبد الله بن أباض، ومنهم الأزارقة أتباع نافع بن الأزرق ، ومنهم النجدات، ومنهم الصفرية، فلهم فرق كثيرة متعددة، ولو راجعت كتب الفرق مثل الفرق بين الفرق للبغدادي، والملل والمحل للشهرستاني وغيرها، ففي الفصل والملل لـابن حزم يذكر أن الخوارج أربع وعشرون فرقه أو اثنتان وعشرون فرقة، والشيعة أربع وعشرون فرقة.
من اعتقادات الخوارج
تكفير الخوارج لأهل القبلة بالذنوب واستحلال دمائهم بذلك
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وهم أول من كفر أهل القبلة بالذنوب بما يرونه هم من الذنوب ]. هذا معتقدهم، وأول من كفر أهل القبلة بالذنوب الخوارج، والمراد بأهل القبلة المسلمون الذين يتجهون إلى الكعبة في الصلاة، وفي الذبح، وفي الدعاء، والمسلمون يسمون أهل القبلة؛ لأنهم يستقبلون القبلة في الصلاة، وفي الذبح، وفي الذكر، وفي الدعاء. وبعد قتل عثمان رضي الله عنه خرجت الخوارج فكفروا أهل القبلة بالذنوب، والمعاصي لا يكفر بها الإنسان، إنما يكفر إذا أتى بمكفر، أما المعصية فلا يكفر بها، فهو بالزنا لا يكفر إلا إذا استحله، وبها يكون مؤمناً ضعيف الإيمان. وكذلك شرب الخمر لا يكفر به فيقال فيها: هو ضعيف الإيمان، إلا إذا اعتقد أنه حلال، وإذا تعامل بالربا يكون ضعيف الإيمان وإذا عق والديه ضعيف الإيمان وإذا شهد الزور ضعيف الإيمان. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ واستحلوا دماء أهل القبلة بذلك ]. إذا زنا أو سرق كفروه وقتلوه فيستحلون دمه وماله، ويعاملونه معاملة الكافر: دمه حلال وماله حلال كالكافر سواء بسواء، بل يسمونه كافراً، ويخلدونه في النار، ويحلون الدم والمال نعوذ بالله. ومن العجيب أنهم يقاتلون المسلمين ولا يقاتلون عباد الأوثان، كما جاء في الحديث: (يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان)، فأهل الإسلام يقتلونهم، وأهل الأوثان الذين يعبدون الأوثان والأصنام يتركونهم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فكانوا بذلك كانوا كما نعتهم النبي صلى الله عليه وسلم: (يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان)، وكفروا علي بن أبي طالب رضي الله عنه و عثمان بن عفان رضي الله عنه ومن والاهما ].
اتصاف الخوارج بقتل المسلمين وترك الكفار
وكذلك معاوية ، فكفروا الجميع؛ كفروا عثمان و علياً و معاوية، ولهذا تواطؤ الخوارج في ليلة واحدة على قتل ثلاثة، يقولون: إنهم زعماء الكفر، وانتدبوا لكل واحد واحداً من الخوارج، لقتل علي و معاوية و عمرو بن العاص ، أما علي فإنه لما خرج إلى الصلاة وكان قد اختبأ له عبد الرحمن بن ملجم فقتله. وأما معاوية فإنه جرحه وسلم، وأما عمرو بن العاص فإنه تخلف تلك الليلة فسلم، وهذا الذي قتل علياً رضي الله عنه يسمى عبد الرحمن بن ملجم وكان يرى أنه متقرب إلى الله، ويرى أنه فاز في قتله، وأنه رفع بها درجات، وهناك أبيات في مدحه يمدحه بها واحد من الخوارج ويقول: فاز بها عبد الرحمن درجات بقتله علي رضي الله عنه، وهذه عقيدة خبيثة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقتلوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه مستحلين لقتله، قتله عبد الرحمن بن ملجم المرادي منهم، وكان هو وغيره من الخوارج مجتهدين في العبادة، لكن كانوا جهالاً فارقوا السنة والجماعة ]. هناك أبيات يقول فيها: يا ضربة من تقي ما أرد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا. إني لأذكره يوماً فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزاناً وقد رد عليه رجل من أهل السنة والجماعة رحمه الله فقال: يا ضربة من شقي ما أراد بها إلا ليبلغ عند ذي العرش سخطانا أني لأذكره يوماً فألعنه ديناً وألعن عمران بن حطانا قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فقال هؤلاء: ما الناس إلا مؤمن وكافر ]. هذا مذهب الخوارج وهو أن الناس قسمان: مؤمن أو كافر فقط، والعاصي أدخلوه مع الكافر. وأهل السنة قسموا الناس ثلاثة أقسام أو أربعة أقسام: مؤمن محقق الإيمان، ومؤمن ضعيف الإيمان، وكافر، والمنافق الذي دخل في الإسلام ظاهراً، وعندهم أن المؤمن هو فاعل جميع الطاعات وتارك جميع المنكرات، والكافر هو الذي فعل الكفر أو فعل المعصية، فإذا قصر في بعض الواجبات أو فعل بعض المحرمات فهو كافر، وهذا مذهب الخوارج. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ والمؤمن من فعل جميع الواجبات وترك جميع المحرمات، فمن لم يكن كذلك فهو كافر مخلد في النار، ثم جعلوا كل من خالف قولهم كذلك، فقالوا: إن عثمان رضي الله عنه و علياً رضي الله عنه ونحوهما حكموا بغير ما أنزل الله وظلموا فصاروا كفاراً ]. انتهى بيان مذهب الخوارج الذين يقولون: الناس قسمان: مؤمن وكافر، والمؤمن عند الخوارج من فعل جميع الواجبات وترك جميع المحرمات، فالإيمان عندهم: تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح، مثل أهل السنة. لكن يأتي بعد ذلك الفرق، فأهل السنة يقولون: إذا أخل ببعض الواجبات، أو فعل بعض المحرمات صار ضعيف الإيمان ولا يخرج بذلك عن الإسلام، وهم يقولون: إذا أخل ببعض الواجبات أو فعل بعض المحرمات فهو كافر مخلد في النار، ثم جعلوا كل من خالف قولهم كافراً، فكفروا عثمان و علياً و معاوية . قالوا: لأنهم حكموا بغير ما أنزل الله؛ ولأنهم ظلموا فصاروا كفاراً، فالظالم كافر، ومن حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر، فكفروا الجميع نسأل السلامة والعافية.
شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [12]
ذهب الخوارج إلى تكفير مرتكبي الكبائر، وقد رد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية بنصوص الكتاب والسنة التي تبين أنهم باقون على الإسلام.
الأدلة على بطلان مذهب الخوارج في تكفير الفاسق
بطلان مذهب الخوارج بالأمر بقطع يد السارق دون قتله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومذهب هؤلاء باطل بدلائل كثيرة من الكتاب والسنة، فإن الله سبحانه أمر بقطع يد السارق دون قتله، ولو كان كافرا مرتداً لوجب قتله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بدل دينه فاقتلوه) ]. هذا هو الدليل الأول على بطلان مذهب الخوارج، وهو أن الله أمر بقطع يد السارق ولم يأمر بقتله، ولو كان السارق كافراً كما يقول الخوارج لوجب قتله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، فدل هذا على أن الخوارج مذهبهم باطل، وعلى أن العاصي والسارق ليس بكافر، ولكنه مؤمن ناقص الإيمان. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال صلى الله عليه وسلم (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، أو قتل نفس يقتل بها) ]. هذا الحديث روي عن عثمان وهو محصور في الفتنة رواه أبو داود و الترمذي و النسائي و أحمد و الحاكم ، وهو صحيح، وفيه أنه لا يحل دم امرئ مسلم إلا إذا فعل واحد من الثلاث: إذا ارتد، أو زنا وهو محصن، أو قتل نفساً بغير نفس، والعاصي كالسارق لا يقتل، وإذا زنا وهو محصن يرجم بالحجارة حتى يموت حداً، وإذا قتل عمداً عدواناً يقتل قصاصاً، وإذا ارتد يقتل، وما عدا هذه الثلاثة فلا يحل دمه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأمر سبحانه أن يجلد الزاني والزانية مائة جلدة، ولو كانا كافرين لأمر بقتلهما ]. هذا هو الدليل الثاني على بطلان مذهب الخوارج، وهو أن الزاني والزانية يجلدان ولا يقتلان، ولو كان العاصي كافراً كما تقول الخوارج لوجب قتل الزاني والزانية، والله تعالى يقول: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأمر سبحانه أن يجلد قاذف المحصنة ثمانين جلدة، ولو كان كافراً لأمر بقتله ]. هذا هو الدليل الثالث على بطلان مذهب الخوارج، وهو أن الله تعالى أمر بجلد القاذف، والقاذف فاسق وعاصي، قال تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4]، ولم يقل فاقتلوهم، ولو كان القاذف كافراً لوجب قتله كما تقول الخوارج.
بطلان مذهبهم بالأمر بجلد شارب الخمر دون قتله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلد شارب الخمر ولم يقتله ]. هذا هو الدليل الرابع على بطلان مذهب الخوارج: أن شارب الخمر يجلد ولا يقتل ولو كان كافراً لوجب قتله. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ بل قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وغيره: (أن رجلاً كان يشرب الخمر وكان اسمه عبد الله حماراً وكان يضحك النبي صلى الله عليه وسلم وكان كلما أتي به إليه جلده، فأتي به إليه مرة فلعنه رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله) فنهى عن لعنه بعينه، وشهد له بحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم مع أنه قد لعن شارب الخمر عموماً ]. في لفظ آخر: كان اسمه عبد الله وكان يلقب حماراً ، وهذا الرجل كان كثيراً ما يؤتى به ويجلد في الخمر، فأتي به مرة من المرات وجلد، فقال رجل: لعنه الله، وفي لفظ آخر: (أخزاه الله ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله)؛ ولأن الحد طهارة يطهره من الذنب، فإذا أقيم عليه الحد طهر، والتوبة طهارة. والمرأة الغامدية و ماعز جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم تائبين، وأقيم عليهما الحد، فاجتمع لكل منهما طهارتان: طهارة التوبة، وطهارة الحد. وهذا الحد يطهره؛ ولهذا لما لعنه الرجل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله)؛ لأن عنده أصل الإيمان، وكل مؤمن عنده أصل المحبة لله ورسوله، فمن لم يحب الله ورسوله فهو كافر، ولا تنتهي محبة الله ورسوله إلا إذا جاء الشرك، والعاصي عنده أصل المحبة، ولذلك اتقى الشرك بسبب حبه لله ورسوله، فإذا جاء الشرك انتهت محبة الله ورسوله نعوذ بالله. فهذا الرجل وإن كان قد جلد في الخمر فعنده أصل المحبة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإنه يحب الله ورسوله)، فنهى عن لعنه بعينه، وشهد له بحب الله ورسوله مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد لعن شارب الخمر عموماً فقال: (لعن الله شارب الخمر وعاصرها ومعتصرها وساقيها)، وهذا على العموم، وفرق بين اللعن للعموم ولعن الخصوص، ففي العموم لا يوجد مانع فلك أن تقول: لعن الله اليهود والنصارى، ولعن الله السارق، كما في الحديث: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده)، ولعن الله شارب الخمر. لكن فلان بن فلان السارق، وفلان بن فلان شارب الخمر لا يلعن بعينه على الصحيح؛ لأن الشخص المعين قد يتوب، وقد يكون لم يعلم الحكم، وقد يعفو الله عنه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وهذا من أجود ما يحتج به على أن الأمر بقتل الشارب في الثالثة أو الرابعة منسوخ؛ لأن هذا أتي به ثلاث مرات، وقد أعيا الأئمة الكبار جواب هذا الحديث، ولكن نسخ الوجوب لا يمنع الجواز ]. المؤلف رحمه الله استطرد لما ذكر قصة هذا الرجل الذي كان يؤتي به كثيراً ويجلد في الخمر، والجواب عن الحديث الذي ورد: (من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب الرابعة فاقتلوه) الصواب: أن قتله في الرابعة منسوخ، ودليل ذلك أن هذا الرجل كثيراً ما يؤتي به فيجلد في الخمر ولم يقتله، أي: أنه أتي به مرات كثيرة فيجلد، فلو كان القتل باقياً لقتله، فلما لم يقتله دل على أن الأمر بقتله منسوخ.
حكم قتل الشارب في الرابعة
وقد أعيا الأئمة الكبار الجمع بين الحديثين، ولكن نسخ الوجوب لا يمنع الجواز، فيجوز أن يقال: يجوز قتله إذا رأى الإمام المصلحة. أي: أن الأمر بقتله منسوخ لكن إذا رأى الإمام المصلحة في قتله من باب التعزير، وأنه لا يندفع الشر إلا بذلك، كما إذا كثر الناس وتجرءوا على شرب الخمر وأكثروا من شربه، فلا بأس أن يقتلهم الإمام في الرابعة تعزيراً لا وجوباً. كما أن عمر رضي الله عنه لما تتابع الناس في الطلاق في الثلاث ألزمهم بطلاق الثلاث تعزيراً فصار يوقع الثلاث، وكان الطلاق الثلاث بكلمة واحدة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، و أبي بكر وصدر من خلافة عمر طلقة واحدة، فلما تتابع الناس في الطلاق وأكثروا منه في زمن عمر رضي الله عنه قال: إن الناس استعجلوا شيئاً لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم ردعاً لهم حتى لا يتجرءوا، فصار من طلق بالثلاث يوقع عليه الثلاث. فكذلك شارب الخمر يجلد ثم يجلد ثم يجلد، لكن إذا تتابع الناس ولم يرتدعوا فلا بأس أن يقتل الإمام في الرابعة تعزيراً وردعاً للناس. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فيجوز أن يقال: يجوز قتله إذا رأى الإمام المصلحة في ذلك، فإن ما بين الأربعين إلى الثمانين ليس حداً مقدراً في أصح قولي العلماء كما هو مذهب الشافعي و أحمد في إحدي الروايتين، بل الزيادة على الأربعين إلى الثمانين يرجع إلى اجتهاد الإمام فيفعلها عند المصلحة كغيرها في أنواع التعزير ]. شارب الخمر جاء في الحديث أنه يجلد أربعين، فكان شارب الخمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم و أبي بكر يجلد أربعين جلدة، فلما تتابع الناس استشار عمر الصحابة، فقال عبد الرحمن بن عوف : أخف الحدود ثمانين، فجلده عمر ثمانين. فالزيادة من أربعين إلى الثمانين اجتهاد، فكذلك للإمام أن يجتهد إذا تتابع الناس وأكثروا من شرب الخمر فيقتل شارب الخمر ردعاً وتعزيراً، كما أنه يزيد من الأربعين إلى الثمانين تعزيراً . قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذلك صفة الضرب فانه يجوز جلد الشارب بالجريد والنعال وأطراف الثياب ]. وصفة الضرب كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن يضرب الشارب بالجريد والنعال وأطراف الثياب، جاء في الحديث: (أتي برجل شرب الخمر، قال: فمنا الضارب بيده ومنا الضارب بنعله، ومنا الضارب بثوبه، حتى عد أربعين). فكما أنه للإمام أن يجتهد فيجلد من الأربعين إلى الثمانين، كذلك يجتهد في صفة الضرب فبدل أن يكون بالثياب والنعال يضرب بالجريد كما فعل الصحابة، وكذلك أيضاً للإمام قتله تعزيراً واجتهاداً. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ بخلاف الزاني والقاذف ]. الزاني يجلد مائة ولا اجتهاد فيه، والقاذف يجلد ثمانين بنص القرآن كما قال تعالى في الزاني: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]، وفي القاذف: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4]. أما شارب الخمر فالزيادة على الأربعين اجتهاد. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فيجوز أن يقال: قتله في الرابعة من هذا الباب ]. يجوز أن يقال إن قتل شارب الخمر في الرابعة من باب التعزير اجتهاداً، بخلاف الزاني والقاذف، فهذه جملة معترضة.