شعار الموقع

شرح كتاب الإيمان الأوسط_9

00:00
00:00
تحميل
169

  

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأيضاً: فإن الله تعالى قال: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ .. [الحجرات:9-10]، الآية. فقد وصفهم بالإيمان والأخوة وأمرنا بالإصلاح بينهم ]. ما زلنا في ذكر المرجحات والأدلة التي تدل على أن من وصفوا بالإسلام دون الإيمان في النصوص هم ضعفاء الإيمان، وأنهم لم يخرجوا من دائرة الإسلام، خلافاً لمن قال إنهم منافقون. وقد سبق ذكر مرجحات منها: أن الحرف (لما) في قوله تعالى: وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14]، ينفي به ما قرب وجوده وانتظر وجوده. ومنها أنه قال: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [الحجرات:14]. فأثبت لهم طاعة لله ورسوله فدل على أنهم مؤمنون وليسوا منافقين، ومنها أن الله وجه الخطاب إليهم، ولو كانوا منافقين لكان هذا خلاف مدلول الخطاب. ومن المرجحات المذكورة هنا قول الله سبحانه وتعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9].

 

 

 

 

 

 

الأسئلة

 

 

 

 

 

 

 

حكم لعن المعين

 

 

 

السؤال: هل يجوز لعن الكافر المعين؟ الجواب: هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم مثل الفاسق، وفيها قولان لأهل العلم: من العلماء من قال: يجوز لعن الفاسق بعينه، ويجوز لعن الكافر بعينه. والقول الثاني:أنه لا يلعن الفاسق ولا الكافر بعينه وإن كان ميتاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الأموات فإنهم أفضوا إلى ما قدموا)، أي: ولو كان ميتاً فلا تسبوه بعينه فإنه أفضى إلى ما قدم، وإذا كان حياً فكذلك؛ لأنه قد يجوز أن يتوب الله عليه، إلا إذا اشتد أذى الكافر للمسلمين في الحياة فيجوز لعنه، وكذلك إذا كان الميت الكافر أو الفاسق صاحب بدعة، فتحذر الناس من هذه البدعة ولو كان فيه سب له؛ لأن هذا فيه مصلحه للأحياء. أما إن لم يكن صاحب بدعة فلا يلعن على الصحيح لا الكافر بعينه ولا العاصي بعينه، وإنما يلعن بالعموم، فتقول: لعن الله السارق أي: جنس السارق، لعن الله شارب الخمر أي: جنسه، لعن الله القاذف، أي: جنسه، لعن الله الكافر أي: جنس الكافر، أما فلان بن فلان الكافر فلا يلعن؛ لأنه أفضى إلى ما قدم إن كان ميتاً، وإن كان حياً فلعل الله أن يهديه فيدعى له بالهداية، ولما عصت دوس، فقيل: يا رسول الله! إن دوساً أبت وعصت فادع الله عليهم، فقال أحد الصحابة: هلكت دوس، فقال: (اللهم اهد دوساً وائت بهم)، فهداهم الله وجاءوا مسلمين. فالمقصود: أن لعن المعين سواء كان كافر أو فاسقاً فيه قولان لأهل العلم: قيل: يجوز، وقيل: لا يجوز. والصواب من القولين: أنه لا يجوز لعن المعين الفاسق ولا الكافر، إلا إذا كان الميت كافراً أو فاسقاً أو صاحب بدعة فيحذر الناس من بدعته؛ لأن فيه مصلحة للأحياء، وإلا إذا اشتد أذى الحي منهم على المسلمين الأحياء فلا بأس بلعنهم والدعاء عليهم والقنوت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قنت ودعا على رعل وذكوان، ودعا على شيبة بن ربيعة و عتبة بن ربيعة في الصلاة وقال: اللهم اللعن فلاناً وفلاناً؛ لأنه اشتد أذاهم للمسلمين.

 

 

 

 

 

 

 

وقت القيام للصلاة

 

 

 

السؤال: بعض الناس يقومون عند سماع المقيم للصلاة عند قوله: قد قامت الصلاة، فهل هذا عليه دليل؟ الجواب: لا أعلم له دليلاً وإنما تقوم في أي وقت، قال بعض السلف: يقوم إذا رأى الإمام، لأنه قد يكون بينه وبين الإمام علامة فيقيم والإمام في البيت إذا كان بيته قريباً ثم يأتي، فيشق على الإنسان، فإذا رأى الإمام قام، وهذا هو الأولى، وإن قمت فلا حرج لكن هذا فيه مشقه عليك، ولا يوجد تحديد للقيام.

 

 

 

 

 

 

 

علة كفر من نكح امرأة أبيه

 

 

 

السؤال: ما علة كفر من نكح امرأة أبيه عند أهل السنة كما في حديث البراء رضي الله عنه: أنه لقي عمه ومعه الراية فسأله: إلى أين أنت ذاهب، فقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلان لأقتله وآخذ ماله، فإنه نكح امرأة أبيه؟ الجواب: هذا الرجل الذي نكح زوجة أبيه استحلها فكفر بالاستحلال؛ ولذلك عقد النبي صلى الله عليه وسلم لواءً للبراء وأمره بأن يذهب إليه ويقتله ويأخذ ماله لكفره؛ لأنه رأى أن زوجة أبيه حلال واستحلها ونكحها. مثل من استحل الخمر، فقال: الخمر حلال، أو الربا حلال، أو الزنا حلال فهو كافر، أو قال: نكاح زوجة الأب حلال فيكفر، فهذا الرجل استحل نكاح زوجة أبيه ونكحها مستحلاً لذلك، فلهذا كفر، وعقد النبي صلى الله عليه وسلم لواءً للبراء وأمره أن يقتله ويأخذ ماله لكفره وضلاله، فمن استحل الكبيرة المعلومة من الدين بالضرورة كفر، وإذا لم يستحلها كان عاصياً، لكن هذا استحلها.

 

 

 

 

 

 

 

الخلاف في كفر الخوارج

 

 

 

السؤال: هل صح أن شيخ الإسلام ابن تيمية نقل إجماع الصحابة على عدم كفر الخوارج في منهاج السنة؟ الجواب: شيخ الإسلام قال: إن الصحابة عاملوا الخوارج معاملة أهل البدع والعصاة لا معاملة الكفرة؛ لأنهم متأولون، وهذا هو مذهب جمهور العلماء. والقول الثاني لأهل العلم: أنهم كفار وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، واستدلوا بظواهر الأحاديث كما قال: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، وفي لفظ: (ثم لا يعودون إليه)، وفي لفظ: (لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل عاد - أو قتل ثمود -)، شبههم بـعاد و ثمود وهم قوم كفار، فدل على كفرهم، والجمهور والصحابة عاملوهم معاملة المبتدعة. ولا يقال: إن معاملة الصحابة رضي الله عنهم للخوارج كفساق قبل أن يقيم ابن عباس رضي الله عنهما عليهم الحجة، وبعد إقامة الحجة من لم يرجع عن مذهبه فهو كافر؛ لأنهم متأولون وبعضهم بقي على شبهته.

 

 

 

 

 

 

 

حكم من يصف الآمر بالمعروف والمجاهد بأنه خارجي

 

 

 

السؤال: ظهر في هذا العصر من يقول: إن المجاهد خارجي ومن أنكر المنكرات فهو خارجي، فما رأيكم؟ الجواب: نسأل الله السلامة والعافية، فهذا تعدى مذهب الخوارج، كيف يقال: المجاهد في سبيل الله خارجي؟ ومن أنكر المنكر خارجي؟ والله تعالى يقول: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [التوبة:71]، فالذي يعتقد أن من ينكر المنكر يكون خارجياً فهو مصادم للنصوص، نسأل الله السلامة والعافية، والله تعالى أثنى على المجاهدين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الصف:10-12]. وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111]، أفبعد هذه النصوص الآن في الثناء على المجاهدين يقال للمجاهد خارجي؟! وكذلك الذي ينكر المنكرات أيكون خارجياً! قال الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، فالخيرية حصلت في هذه الأمة بالإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكيف يقال للذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر: خارجي، ما يقول هذا إلا فاسد العقيدة، أو جاهل جهلاً مركباً.

 

 

 

 

 

 

 

حكم حلق الرأس

 

 

 

السؤال: ما حكم حلق الرأس بالموسى؟ الجواب: لا بأس به فهو جائز مباح، لكن تركه أولى، كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يحلق إلا في حج أو عمرة، قال الإمام أحمد رحمه الله: هو سنة، أي: ترك الرأس وإبقاء الشعر، لو نقوى عليه لا تخذناه، لكن له كلفة ومشقة، جاء في الحديث: (ومن كان له شعر فليكرمه). فالسنة تربيته اقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام، لكن يحتاج إلى تعب ومشقة من غسل ودهن وشد، فهذا لا نقوى عليه، وحلقه مباح. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لصبي رآه حلق بعض رأسه وترك بعضه: (احلقه كله أو اتركه كله) فهو مباح؛ لكن الأفضل تركه إذا كان يريد أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم. أما إذا أراد أن يقلد الفسقه أو يقلد -كما يقال- طائفةً من الخنافس، وقد كان قبل سنوات طائفة تسمى الخنافس يربون شعورهم في بريطانيا وفي غيرها، فإذا كان قصده أن يقلد الكفرة فهذا شيء آخر، أما إذا أراد أن يقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم فشيء طيب. وقد تجد بعض الناس يحلق لحيته ويربي شعره، فإذا قلت له: لماذا تربي شعرك؟ قال: أقتدي بالرسول، فيقال له: تقتدي بالرسول في إبقاء شعر الرأس وأنت تحلق لحيتك، فإذا كان الإنسان يريد أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو أفضل، وهو كما قال الإمام أحمد سنة، فيكون متبعاً للسنة، وحلقه جائز لا بأس به. وإذا كان شعره كشعر الفسقة أو كان الإنسان شاباً يخشى عليه من الفتنة فحلقه أفضل في هذه الحالة، حتى يبتعد عن شعار الفسقة وحتى يسلم من الشر؛ لأنه قد يكون الشاب إذا فرد شعره وهو أمرد وليس له لحية قد يخشى عليه من بعض الفسقة.

 

 

 

 

 

 

 

حكم دفع الزكاة لمن عليه دين ليسدد دينه

 

 

 

السؤال: هل يجوز دفع الزكاة لمن كان عليه دين وليس له دخل ويريد سداد الدين الذي عليه؟ الجواب: نعم، صاحب الدين من الغارمين، قال الله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ [التوبة:60]. من عليه دين هو الغارم، والغارمون صنفان: الصنف الأول: غارم لمصلحة نفسه، وهو الذي عليه ديون من أجل النفقة على نفسه، والكسوة لنفسه وأهله وأولاده وأجرة السكن، فهذا يعطى ما يكفيه لمدة سنة من نفقة وكسوة وأجرة مسكن. والثاني: غارم لإصلاح ذات البين، كالذي يصلح بين الناس ويتحمل في ذمته ديوناً، فيصلح بين القبائل أو بين الأشخاص ولا يصطلحون إلا إذا تحمل، فيأتي إلى القبيلتين بينهما شر فيقول: أنا أتحمل، ويعطي هؤلاء مائة ألف وهؤلاء مائة ألف حتى يصطلحون، ويتحملها في ذمته، فهذا يعطى من الزكاة ما يسدد هذه الديون ولو كان غنياً؛ تشجيعاً له على هذا العمل النبيل، وقد كان هذا في الجاهلية وأقره الإسلام، قال الله تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114].

 

 

 

 

 

 

 

نوع كفر إبليس وأنواع الكفر

 

 

 

السؤال: مما استدل به الأزارقة على مذهبهم كفر إبليس، وقالوا: ما ارتكب إلا كبيرة حيث أمر بالسجود لآدم فامتنع فطرد من الجنة؟ الجواب: هذا المستدل جهله مركب، فإبليس ليس كفره بالمعصية بل كفره بالإباء والاستكبار، والإباء والاستكبار نوع من أنواع الكفر، فالكفر أنواع: منها: التكذيب، فمن كذب الله ورسوله كفر، ومنها: الإباء والاستكبار، وهو: أن يتلقى أمر الله وأمر رسوله بالإباء والاستكبار، بالرفض لا بالتكذيب. وإبليس ما كذب الله، فالله تعالى قال: اسجدوا لآدم، وهو وامتنع واعترض على الله، وقال: لا يمكن أن أسجد لآدم؛ لأن عنصري أحسن من عنصر آدم ، فعنصر آدم الطين، وأنا عنصري النار، والنار خير من الطين، ولا يمكن أن يخضع الفاضل للمفضول كما قال تعالى: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]. فإذاً: كفر إبليس بالرفض والإباء والاستكبار، وليس بمعصية. واليهود يعلمون أن محمداً هو رسول الله حقاً، كما قال الله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:146]، فكفرهم بالإباء والاستكبار. وكفر أبي طالب عم الرسول عليه الصلاة والسلام الذي يقول: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا كان بالإباء والاستكبار، فكان مستكبراً عن عبادة الله، وحملته الحمية أن يكون على دين قومه، فكان مستكبراً عن عبادة الله واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فكفره بالإباء والاستكبار. فإبليس كفره بالإباء والاستكبار وهو نوع من أنواع الكفر، والكفر أنواع منها: كفر التكذيب، وكفر الإباء والاستكبار، وكفر الإعراض، وكفر الشك، وكفر الرفض، وقد يكون بالاعتقاد، بأن يعتقد أن لله صاحبة أو ولداً، أو يكذب الله ورسوله، كما يكون بالقول كأن يسب الله أو يسب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يستهزئ بالله وبرسوله، وكفر يكون بالعمل كالسجود للصنم، وكفر بالرفض والامتناع كأن يعرض فلا يتعلم دين الله ولا يعبد الله، قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف:3]، فإبليس كفره بالإباء والاستكبار.

 

 

 

 

 

 

 

موقف المسلم تجاه ما حصل بين الصحابة

 

 

 

السؤال: ما هو موقف المسلم تجاه ما حصل بين الصحابة رضي الله عنهم، وما حكم من يطعن في الصحابة رضي الله عنهم؟ الجواب: أن الواجب على المسلم أن يترضى على الصحابة، وأن يكف اللسان عن ما صدر منهم، وأن يعتقد أن ما حصل بينهم كما قال الشيخ ابن تيمية رحمه الله: الأخبار التي تروى عن الصحابة منها ما هو كذب لا أساس له من الصحة، ومنها ما له أصل لكن زيد فيه ونقص وغير عن وجهه، ومنها ما هو صحيح، والصحيح هم فيه ما بين مصيب له أجران، ومخطئ له أجر. ويجب على الجميع أن يعتقد أن الصحابة أفضل الناس وخير الناس لا كان ولا يكون مثلهم، وهم قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، فهم أفضل الناس وخير الناس، سبقونا إلى الإيمان والجهاد، وحملوا الشريعة، وبلغوا دين الله، فلهم من الحسنات والسبق إلى الإيمان وتبليغ دين الله ونشر الإسلام ما يغطي ما صدر منهم من الهفوات. ولما أراد بعض العلماء أن يقارن بين عمر بن عبد العزيز وورعه و معاوية بن أبي سفيان ، قال: عمر بن عبد العزيز له إيمانه وتقاه وورعه، لكن ليس له مزية الصحبة فلا يلحق الصحابة، والصحابة لهم مزية الصحبة ولا يلحقهم من بعدهم إلى يوم القيامة، ولهم مزية الجهاد في سبيل الله مع الرسول عليه الصلاة والسلام والسبق إلى الإسلام، وهي مزية لا يمكن أن يلحقهم فيها من بعدهم، ولهذا لما جاء في الحديث أن: (الصابر على دينه له أجر خمسين من الصحابة)، قال العلماء: له أجر خمسين في ناحية الصبر، لكن ليس معناه أنه أفضل من الصحابة، فالصحابة فاقوا عليه بالجهاد، وفاقوا عليه بالصحبة، وفاقوا عليه بنشر دين الله، لكن في هذه الخصوصية فقط. ولهذا قال بعض العلماء: الغبار الذي دخل في أنف معاوية في جهاده مع النبي صلى الله عليه وسلم يعدل ورع عمر بن عبد العزيز ، فالصحابة لا كان ولا يكون مثلهم، فهم خير الناس وأفضل الناس بعد الأنبياء. ثم أيضاً باب التوبة مفتوح، ولهم من الحسنات والمصائب التي يشاركون الأمة فيها، فكيف بعد هذا يكون مسلم يؤمن بالله ورسوله يسب الصحابة أو يكفرهم أو يضللهم.

 

 

 

شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [13]

 

ظهرت المعتزلة في عهد الحسن البصري وقالوا بأن الفاسق يخرج من الإيمان، لكن لا يدخل في الكفر، واعتزلوا حلقة الحسن البصري رحمه الله، ولهم أقوال رديئة فاسدة.

 

حكم الفاسق عند المعتزلة

 

 

 

 

 

 

 

ظهور المعتزلة وإنكارهم الشفاعة للعصاة

 

 

 

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فلما شاع في الأمة أمر الخوارج تكلمت الصحابة رضي الله عنهم فيهم، ورووا عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الأحاديث فيهم، وبينوا ما في القرآن من الرد عليهم، وظهرت بدعتهم في العامة. فجاء بعدهم المعتزلة الذين اعتزلوا الجماعة بعد موت الحسن البصري رحمه الله، وهم: عمرو بن عبيد و واصل بن عطاء الغزال وأتباعهما ]. لما شاع في الأمة أمر الخوارج تكلمت الصحابة فيهم وبينوا بدعتهم وحذروا الناس منهم، ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث فيهم، وسبق أن الأحاديث في الخوارج كلها صحيحة، وفيهم عشرة أحاديث في الصحيحين وفي غيرهما، بخلاف الأحاديث التي في القدرية فرفعها ضعيف ووقفها أصح. فبدعة الخوارج أول البدع ظهوراً، ظهرت في أواخر عهد الصحابة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، ثم بعد ذلك ظهرت بدعة المعتزلة في أوائل عهد التابعين في أوائل المائة الثانية، وسببها: أن الحسن البصري -وهو تابعي جليل- كان له حلقة يدرس فجاء رجل فسأل الحسن البصري عن العاصي وعن الفاسق فأجابه، وكان في حلقته عمرو بن عبيد و واصل بن عطاء فاعترضا على شيخهما فقال واصل بن عطاء: أنا لا أقول إنه مؤمن ولا أقول إنه كافر، ثم جلس في حلقة مستقلة واعتزل حلقة شيخه الحسن البصري ، ومن ذلك الوقت سموا معتزلة؛ لأنهم اعتزلوا حلقة شيخهم الحسن البصري. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فقالوا: أهل الكبائر يخلدون في النار كما قالت الخوارج، ولا نسميهم لا مؤمنين ولا كفاراً بل فساق ننزلهم منزلة بين منزلتين ]. هذا مذهب المعتزلة وقد قالوا: أن أهل الكبائر مخلدون في النار كما قالت الخوارج، فهم يوافقون الخوارج في تخليد العاصي في النار في الآخرة، أما في الدنيا فيخالفونهم، فالخوارج يقولون: إذا فعل الكبيرة خرج من الإيمان ودخل في الكفر، والمعتزلة يقولون: خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، وصار في منزلة بين المنزلتين لا مؤمناً ولا كافراً، ويقولون: نسميه فاسقاً، والحقيقة أنه ليس هناك منزلة بين الإيمان الكفر، والناس إما مؤمن أو كافر، وهم اختلقوا من عند أنفسهم منزلة بين المنزلتين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأنكروا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته، وأن يخرج أحد من النار بعد أن دخلها ]. إنكار الشفاعة مشترك بين المعتزلة والخوارج، فكلهم أنكروا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته، وقالوا: إن العاصي مخلد في النار لا شفاعة له، واستدلوا بالآيات التي جاءت في الكفار كقوله تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48]، وقوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ [البقرة:254]، وقوله: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر:18]. فهذه الآيات في الكفار حملوها على المؤمنين فقالوا: ليس لهم نصيب في الشفاعة، ولا يمكن أن يخرج أحد من النار بعد دخولها أبداً، فالزاني والسارق وشارب الخمر والكافر كلهم مخلدون في النار، ولا يمكن أن يشفع في أحد، ولا يمكن أن يخرج أحد من النار بعد دخولها مع أن الأحاديث في إخراج العصاة الموحدين بلغت حد التواتر ومع ذلك أنكرها الخوارج والمعتزلة، فأنكر عليهم أهل السنة و صاحوا بهم وبدعوهم وضللوهم وفسقوهم، وقالوا: كيف تنكرون النصوص وهي متواترة ولا حصر لها، والنبي صلى الله عليه وسلم يشفع أربع شفاعات، والأنبياء يشفعون، والملائكة يشفعون، والشهداء يشفعون، والأفراط يشفعون، فكيف تنكرون الشفاعة ونصوصها متواترة؟ قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقالوا: ما الناس إلا رجلان سعيد لا يعذب أو شقي لا ينعم، والشقي نوعان: كافر وفاسق، ولم يوافقوا الخوارج على تسميتهم كفارا ]. المعتزلة قالوا: الناس رجلان سعيد لا يعذب أو شقي لا ينعم، والسعيد الذي لا يعذب هو الموحد الذي أدى الواجبات وترك المحرمات، والشقي نوعان: كافر أتى بالكفر ومات على الكفر، والثاني: فاسق -وهو المؤمن العاصي- وهذا قالوا فيه: إنه شقي كالكافر سواء ليس هناك فرق بينه وبين الكافر. والخوارج قالوا: الشقي نوع واحد وهو الكافر، والكافر عندهم الذي أتى بالكفر والذي أتى بالمعصية سواء بسواء ولا فرق. والمؤسس للاعتزال هو واصل بن عطاء و عمرو بن عبيد ، وقد كان عمرو بن عبيد زاهداً في الدنيا لكنه ابتلي بالكلام، ونفى صفات الله عز وجل، وكذلك واصل بن عطاء ، وقد كانوا في حلقة الحسن البصري يدرسون، ولكن ابتلوا بهذه الآراء السيئة، وكان واصل بن عطاء الغزال فصيحاً جداً، وعنده قوة في الخطابة والأسلوب وتصريف الكلام، حتى أنه يخطب الخطبة الطويلة -ساعتين أو ثلاثاً- لا يتلعثم إلا أنه في لسانه لثغة في الراء، فمن فصاحته صار يتجنب الراء في الخطبة الطويلة، فيأتي بخطبة طويلة ليس فيها راء حتى لا تبين لثغته، ومن فصاحته أنه قيل له مرة: قل أمر الأمير بحفر البئر في قارعة الطريق، فقال: أوعز القائد بقلب القليب في الجادة، فأدى المعنى بدون راء، ولكنه ابتلي بهذا الاعتقاد الفاسد، وهو المؤسس لمذهب المعتزلة هو و عمرو بن عبيد وهو القول بأن المؤمن العاصي يخرج من دائرة الإيمان في الدنيا ويخلد في النار في الآخرة، نسأل الله السلامة والعافية.

 

 

 

 

 

 

 

الرد على المعتزلة في تقسيم الناس بين الإيمان والكفر

 

 

 

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وهؤلاء يرد عليهم بمثل ما رد به على الخوارج، فيقال لهم: كما أنهم قسموا الناس إلى مؤمن لا ذنب له وكافر وفاسق لا حسنة له ]. الضمير يعود إلى الخوارج، (فكما أنهم) أي: الخوارج (قسموا الناس إلى مؤمن لا ذنب له وكافر لا حسنة له)، والمؤمن الذي لا ذنب له هو المؤمن المطيع، والكافر الذي لا حسنة له هو الكافر والعاصي. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قسمتم الناس إلى مؤمن لا ذنب له وإلى كافر وفاسق لا حسنة له ]. قوله: (قسموا): الضمير يعود إلى المعتزلة، والمعنى: قسمتم أيها المعتزلة الناس إلى مؤمن لا ذنب له وهو المطيع، وإلى كافر وفاسق لا حسنة له، فالكافر معروف، والفاسق هو المؤمن العاصي، فجعلوهم قسمين، لكن الفاسق لا حسنة له كما أن الكافر لا حسنة له، فجعلوا الفاسق مثل الكافر، والفاسق مؤمن له حسنات عند أهل الحق، لكن عند المعتزلة ليس له حسنة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فلو كانت حسنات هذا كلها محبطة، وهو مخلد في النار لاستحق المعاداة المحضة بالقتل والاسترقاق، كما يستحقها المرتد ]. هذا هو الرد الأول، أن نقول للمعتزلة: لو كانت حسنة العاصي مرتكب الكبيرة حابطة وهو مخلد في النار لاستحق المعاداة المحضة بالقتل والاسترقاق كما يستحقها المرتد، ولو كان الزاني والسارق وشارب الخمر أو المرابي تحبط أعماله كالكافر وليس له حسنات لاستحق المعاداة المحضة فيقتل ويسترق كما أن الكافر يقتل ويسترق، فالمؤمنون إذا قاتلوا الكفار يقتلونهم ويسترقونهم، وإذا وقعوا أسرى بأيديهم فالإمام مخير بين القتل والاسترقاق والمفاداة، فهذا المؤمن العاصي الذي تقول المعتزلة إنه لا حسنة له وإن أعماله حابطة لو كانت أعماله حابطة لكان يستحق أن يعادى معاداة تامة كالكافر ويقتل ويسترق، لكن النصوص دلت على أنه يعامل معاملة المؤمنين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فإن هذا قد أظهر دينه بخلاف المنافق ]. العاصي مرتكب الكبيرة قد أظهر دين الإسلام وهو مؤمن، وإذا سألت العاصي فقلت له: أأنت مؤمن؟ قال: نعم أنا مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، ونحن نصلي ونصوم، فهو يظهر دينه وينتسب إلى الإسلام بخلاف الكافر.

 

 

 

 

 

 

بيان الرد على الوعيدية بآية (إن الله لا يغفر أن يشرك به...)

 

 

 

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقد قال الله في كتابه: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]. فجعل ما دون ذلك الشرك معلقاً بمشيئته ]. هذه الآية فيها رد على المعتزلة، ووجه الرد من الآية قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]. فخص الله الشرك بأنه لا يغفر، وعلق ما دونه بالمشيئة، فدل على أن العاصي تحت المشيئة؛ لأن معصيته دون الشرك، فهو تحت مشيئة الله إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه، وإذا عذبه فإنه يخرج من النار بشفاعة الشافعين، أو برحمة أرحم الراحمين كما دلت على ذلك النصوص. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ولا يجوز أن يحمل هذا على التائب، فإن التائب لا فرق في حقه بين الشرك وغيره ]. قوله: (لا يجوز أن يحمل هذا) الإشارة تعود إلى الحكم الذي دلت عليه الآية السابقة، وهي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]. أي: فلا يقول قائل في التائب؛ لأن التائب لا فرق في حقه بين الشرك وغيره، والتوبة تجب ما قبلها سواء كان شركاً أو غير شرك، فمن تاب من الشرك قبل الله توبته إذا كانت توبة نصوحاً، ومن تاب من الزنا أو السرقة أو الربا قبل الله توبته، والآية فرقت بين الشرك وغيره: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]. فدل على أن هذا في غير التائبين؛ لأن الله تعالى فرق بين الشرك وغيره، فخص الشرك بأنه لا يغفر وعلق ما دونه تحت المشيئة، أما التوبة فإنها تجب ما قبلها أياً كانت، كالتوبة من الشرك أو الكفر أو النفاق أو الزنا أو السرقة، فإذا كانت التوبة نصوحاً وجاء التائب بشروطها: أن تكون التوبة لله، وأقلع عن المعصية، وندم على ما مضى، وعزم على عدم العودة إليها، ورد المظلمة إلى أهلها، وكانت التوبة قبل الموت وقبل طلوع الشمس من مغربها في آخر الزمان، فهذه مقبولة من كل شخص، حتى من المثلثة النصارى الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، فقد عرض الله عليهم التوبة بقوله: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ [المائدة:74]. فهذه الآية في غير التائبين، بخلاف آية الزمر فإنها في التائبين كما سيذكر المؤلف رحمه الله وهي قوله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53]. فهذه أجمع العلماء على أنها في التائبين؛ لأن الله عمم وأطلق، فقال: إِِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53]، أي ذنب: سواء كان كفراً، أو شركاً، أو نفاقاً، فعمم وأطلق ولم يخصص ولم يقيد، فدل على أنها في التائبين، فآية الزمر في التائبين، وآية النساء في غيرهم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ كما قال تعالى في الآية الأخرى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53]، فهنا عمم وأطلق؛ لأن المراد به التائب، وهناك خص وعلق ]. قوله: (هناك): الإشارة تعود إلى آية النساء، و(هنا) الإشارة تعود إلى آية الزمر. والتخصيص هو تخصيص الشرك بأنه لا يغفر، وعلق ما دون الشرك على المشيئة فقال: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، وفي آية الزمر عمم وأطلق.

 

 

أصناف المؤمنين في القرآن

 

 

 

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [فاطر:32-35]. فقد قسم الله سبحانه الأمة التي أورثها الكتاب واصطفاها إلى ثلاثة أصناف: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات، وهؤلاء الثلاثة ينطبقون على الطبقات الثلاث المذكورة في حديث جبريل عليه الصلاة والسلام: الإسلام، والإيمان، والإحسان، كما سنذكره إن شاء الله تعالى ]. هذه الآية هي آية فاطر: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32]، وفيها أقسام المؤمنين، وهؤلاء الثلاثة كلهم مؤمنون، لأن الله أورثهم الكتاب واصطفاهم، فكلهم مصطفون، وكلهم أورثهم الله القرآن: فالصنف الأول: هو الظالم لنفسه، وهو المؤمن العاصي الذي أخل ببعض الواجبات أو فعل بعض المحرمات. والصنف الثاني: هو المقتصد، وهو المؤمن المطيع الذي أدى الواجبات وترك المحرمات، لكن ليس عنده نشاط في فعل المستحبات والنوافل، وليس عنده نشاط في ترك المكروهات كراهة تنزيه وفضول المباحات، بل قد يتوسع في المباحات وقد يفعل المكروهات، فهؤلاء يقال لهم: مقتصدون، ويقال لهم أصحاب اليمين. والصنف الثالث: السابق بالخيرات، وهم الذين أدوا الواجبات، ومع ذلك عندهم نشاط ففعلوا المستحبات والنوافل، وتركوا المحرمات، وتركوا المكروهات كراهة تنزيه، وتركوا فضول المباحات خشية الوقوع في المحرمات، وهؤلاء كلهم مؤمنون، فإن قيل: كيف يكون العاصي من المصطفين؟ قلنا: لما سلم من الشرك ووحد الله وأخلص له العبادة صار من المصطفين دون الكفار. والقسم الرابع: الكفار. وفي سورة الواقعة قسمهم الله ثلاثة أصناف فقال: وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً [الواقعة:7]، وقال: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ [الواقعة:10]، وقال: وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ [الواقعة:27]، وقال: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ [الواقعة:41]. وفي آخر الواقعة قسمهم كذلك. وهؤلاء الثلاثة: الظالم والمقتصد والسابق ينطبقون على الطبقات الثلاث في حديث جبريل: الإسلام والإيمان والإحسان، فالظالم لنفسه يسمى مسلماً ولا يسمى مؤمناً؛ لأنه ترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات، والمقتصد يسمى مؤمناً، والسابق للخيرات يسمى محسناً. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ومعلوم أن الظالم لنفسه إن أريد به من اجتنب الكبائر أو التائب من جميع الذنوب فذلك مقتصد أو سابق، فإنه ليس أحد من بني آدم يخلو عن ذنب، لكن من تاب كان مقتصداً أو سابقاً ]. الأقرب والله أعلم أن الظالم لنفسه لا يراد به من اجتنب الكبائر، وقوله: (إن أريد به من اجتنب الكبائر) أي: ما أريد به من اجتنب الكبائر فإن هنا نافية بمعنى (ما)؛ لأن الظالم لنفسه هو الذي يفعل بعض الكبائر، والتائب من جميع الذنوب، إما مقتصد إذا كان يفعل بعض النوافل والمستحبات، وإما سابق بالخيرات إن كان يفعل مع ذلك المستحبات. فإذاً الظالم لنفسه غير التائب، لأن الظالم لنفسه هو الذي يفعل بعض المحرمات ويترك بعض الواجبات ولم يتب، أما من تاب من فعله لبعض الكبائر فيكون من المقتصدين أو من السابقين، فالظالم لنفسه يراد به من يفعل بعض الكبائر ولا يراد به من اجتنب الكبائر. قال المصنف رحمه الله تعالى: [كذلك من اجتنب الكبائر كفرت عنه السيئات كما قال تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31]، فلا بد أن يكون هناك ظالم لنفسه موعود بالجنة، ولو بعد عذاب يطهر من الخطايا ]. التائب إما مقتصد أو سابق، ويقولون: ليس أحد من بني آدم يخرج من الذنب، فالإنسان محل الذنب، لكن من تاب كان مقتصداً أو سابقاً، إن تاب من الذنب وفعل المستحبات فهو سابق، وإن تاب من الذنب ولم يفعل النوافل فهو مقتصد، ومن اجتنب الكبائر كفرت عنه السيئات، كما قال تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31]. إذاً: لابد أن يكون هناك ظالم لنفسه موعود بالجنة ولو بعد عذاب يطهر به من الخطايا وهذا هو المؤمن العاصي، وهو موعود بالجنة إن عاجلاً أو آجلاً؛ إن عفا الله عنه دخل الجنة من أول وهلة، وإن لم يعف الله عنه عذب بالنار ثم أخرج منها إلى الجنة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن ما يصيب المؤمن في الدنيا من المصائب مما يجزى به ويكفر به من خطاياه، كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن و لا غم ولا أذىً حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه) ]. وهذا الحديث صحيح رواه الشيخان البخاري و مسلم وغيرهما. والوصب المرض. والنصب: التعب. والهم والحزن والغم من أمراض الداخلية والباطن، والأذى عام، وقيل الهم ينشأ عن الفكر في ما يتوقع حصوله مما يتأذى به. والغم كرب يحدث للقلب بسبب ما حصل. والحزن يحصل لفقد ما يشق على المرء فقده. وهذه كلها يكفر بها من خطاياه، فإذا أصاب الإنسان مرض أو تعب أو هم أو حزن أو غم أو أذى حتى الشوكة إذا أصابت جسمه يكفر الله بها من خطاياه، ولما نزل قوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123] بين النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر أن الحزن والهم يجزى به الإنسان. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وفي المسند وغيره أنه لما نزلت هذه الآية: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123]. قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! جاءت قاصمة الظهر، وأينا لم يعمل سوءاً؟ فقال: (يا أبا بكر ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟ فذلك مما تجزون به)]. اللأواء: الشدة وضيق العيش. أبو بكر رضي الله عنه بفقهه وعلمه وورعه يفهم معنى الآية: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123]، إذ معناه: أن كل سوء يعمله الإنسان لا بد أن يجازى به، فقال: يا رسول الله! جاءت قاصمة الظهر، ومن يستطيع ألا يعمل شيئاً ولا يقع في سيئة ولا هفوة، وكل شيء نعمله لابد أن نجازى به، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن الجزاء ليس خاصاً في الآخرة، بل عام في الدنيا فقال: (يا أبا بكر ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء والشدة والهم والغم قال: بلى، قال: ذلك مما تجزون به). فإذا تعب الإنسان أو أصابه نصب أو هم أو غم أو شوكة أو أذى أو ضيق أو مصيبة كفر بها من خطاياه، والحمد لله على ذلك، والمؤمن أمره كله له خير؛ ولهذا جاء في الحديث: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له، وإن أصابته سراء فشكر كان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن)، فالمؤمن ينصب ويحزن ويتعب، وتصيبه اللأواء والشدة وضيق العيش والمرض، وهذا كله مما يبتلى به الإنسان. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأيضاً فقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه يخرج أقوام من النار بعدما دخلوها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في أقوام دخلوا النار ]. هذا هو المرجح السادس من المرجحات: أن وصف العصاة بالإيمان والإسلام لضعف إيمانهم لا لنفاقهم، وأن المؤمن العاصي إذا دخل النار فإنه يعذب بها ثم يخرج، وقد يشفع فيه فلا يدخل النار، وقد يعفو الله عنه، فدل هذا على أن الفاسق أو العاصي والذي وصف بالإيمان دون الإسلام لا يخرج من الإيمان ولو ضعف إيمانه. وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يخرج أقوام من النار بعدما دخلوها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في أقوام دخلوا النار، بل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في العصاة أربع مرات، وكل مرة يحد الله له حداً، جاء في بعض الأحاديث: أن الله يقول: (أخرج من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان) وفي بعضها: (مثقال نصف دينار) وفي بعضها: (أخرج من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان) وفي بعضها: (أخرج من في قلبه أدنى مثقال حبة خردل من إيمان) وفي بعضها: (أخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان) فيخرجهم بالعلامة وقد جعل الله له علامة، وهذا فيه رد على الخوارج والمعتزلة الذين يقولون بتخليد العصاة في النار وأنهم لا يخرجون منها، فهذا دليل ومن المرجحات على أن العاصي وضعيف الإيمان لا يخرج من الإيمان ولا يسمى منافقاً، بل عنده أصل الإيمان، فيقال: إنه مؤمن ضعيف الإيمان، مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته.

 

 

الاحتجاج على طائفتي الوعيدية والمرجئة بنصوص الوعد والوعيد

 

 

 

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وهذه الأحاديث حجة على الطائفتين الوعيدية الذين يقولون: من دخلها من أهل التوحيد لم يخرج منها، وعلى المرجئة الواقفة الذين يقولون: لا ندري هل يدخل من أهل التوحيد النار أحد أولاً ]. هذا الحديث حجة على الطائفتين: الوعيدية: وهم الخوارج والمعتزلة، ويسمون الوعيدية؟ لأنهم يعملون بنصوص الوعيد، ويغمضون أعينهم عن نصوص الوعد، فيعملون ببعض النصوص ويتركون بعض النصوص، مثل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النساء:10]. فهذا من نصوص الوعيد، إذاً آكل مال اليتيم مخلد في النار. وقوله: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [النساء:93]، إذاً القاتل مخلد في النار، وهكذا عملوا بالنصوص التي فيها الوعيد للعصاة كالحديث: (من اقتطع مال امرئ بيمينه أوجب الله له النار). أما نصوص الوعد كالحديث: (من قال: لا إلا الله دخل الجنة) و (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً) فهذه يغمضون أعينهم عنها، ولا يعملون إلا بنصوص الوعيد، وهذه علامة أهل الزيغ، أنهم يأخذون ببعض النصوص ويتركون البعض الآخر. فالخوارج والمعتزلة أخذوا نصوص الوعيد فخلدوا العصاة في النار وأخرجوهم من الإيمان في الدنيا، وأغمضوا أعينهم عن نصوص الوعد، وقابلتهم المرجئة فأخذوا بنصوص الوعد، فقالوا في مثل: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة)، إن المعاصي لا تضر، وإن زنى وإن سرق، أما الأثر: (من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) فقالوا فيه: الموحد لا يضره أي كبيرة يعملها. أما نصوص الوعيد فقد أغمضوا أعينهم عنها؛ لأنهم من أهل الزيغ. فجاء أهل السنة وأخذوا نصوص الوعيد وصفعوا بها وجوه المرجئة وأبطلوا بها مذهبهم، وقالوا: مذهبكم باطل بنصوص الوعيد، وأخذوا نصوص الوعد وصفعوا بها وجوه الخوارج والمعتزلة وأبطلوا بها مذهبهم وقالوا: مذهبكم باطل، فأبطلوا مذهب الخوارج والمعتزلة بأدلة المرجئة، وأبطلوا مذهب المرجئة بأدلة الخوارج والمعتزلة، وتعارضا فتساقطا، وبقي مذهب أهل السنة والجماعة. قال أهل السنة: أنتم أدلتكم أيها الخوارج نأخذها ونستدل بها على أن المعاصي تضعف الإيمان وتنقص الإيمان، لكن لا يخرج بها من الإيمان بدليل نصوص الوعد، ونأخذ أدلتكم أيها المرجئة من نصوص الوعد ونستدل بها على أن العاصي معه أصل الإيمان، ولا يخرج من الإيمان، ولكن المعاصي تضره وتنقصه بدليل نصوص الوعيد، فأخذوا أدلة هؤلاء وأدلة هؤلاء، وعملوا بالأدلة من الجانبين، وأبطلوا مذهب المعتزلة بأدلة المرجئة، وأبطلوا مذهب المرجئة بأدلة الخوارج والمعتزلة، وبقي مذهب أهل السنة في الميدان هو الصحيح. وهذه الأحاديث حجة على الطائفتين: الوعيدية الذين يقولون من دخلها من أهل التوحيد لم يخرج منها، وهذا وصف مشترك بين الخوارج والمعتزلة، وحجة على المرجئة الواقفة الذين يقولون: لا ندري هل يدخل من أهل التوحيد النار أحد أم لا؟ فهؤلاء متوقفون عندهم شك، ويسمون الواقفة، فإذا قيل لهم: هل أهل التوحيد يدخلون النار؟ قالوا: لا ندري، فهذه النصوص حجة عليهم، فالنصوص فيها أنهم يدخلون ويخرجون. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ كما يقول ذلك طوائف من الشيعة والأشعرية، كالقاضي أبي بكر وغيره ]. القاضي أبو بكر الباقلاني من أمكن الأشاعرة، وقد وافق المرجئة الواقفة طوائف من الشيعة والأشعرية وتوقفوا في دخول العصاة أهل التوحيد النار. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأما ما يذكر عن غلاة المرجئة أنهم قالوا: لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد فلا نعرف قائلاً مشهوراً من المنسوبين إلى العلم يذكر عنه هذا القول ]. يقولون: لن يدخل النار من أهل التوحيد أحد ولو فعل جميع الكبائر وجميع المعاصي، وهذا يقوله غلاة المرجئة كالجهمية، ولا يوجد أحد من العلماء المنتسبين للعلم يقول بهذا القول، إنما يقوله غلاة المرجئة وغلاة المرجئة هم الجهمية الذين يقولون لا يضر مع الإيمان طاعة كما لا ينفع مع الكفر معصية، فيقولون: إن المؤمن إذا عرف ربه بقلبه يكفيه، ولو فعل المنكرات وجميع الكبائر، حتى لو فعل المكفرات فلا يضره ما دام أنه يعرف ربه بقلبه، وهذا من أبطل الباطل.

 

 

إثبات الإيمان للعصاة

 

 

 

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد شهد لشارب الخمر المجلود مرات بأنه يحب الله ورسوله ونهى عن لعنه، ومعلوم أن من أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أحبه الله ورسوله بقدر ذلك ]. هذا هو المرجح السابع من مرجحات مذهب جمهور السلف والخلف القائلين بأن الذين وصفوا بالإسلام دون الإيمان ليسوا منافقين، وإنما معهم أصل الإيمان، خلافاً لطائفة من أهل السنة على رأسهم الإمام البخاري وجماعة حينما قالوا: إن هؤلاء منافقون. فالمرجح السابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد شهد لشارب الخمر بأنه يحب الله ورسوله ونهى عن لعنته، فالرجل الذي كان يؤتى به كثيراً ويجلد في الخمر لما لعنه رجل قال: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله، ومعلوم أن من أحب الله ورسوله أحبه الله ورسوله بقدر ذلك، والذي يحبه الله ورسوله لا يمكن أن يكون كافراً أو منافقاً؛ لأن المنافق لا يحبه الله ورسوله، فدل على أنه مؤمن. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأيضاً فإن الذين قذفوا عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، كان فيهم مسطح بن أثاثة. وكان من أهل بدر، وقد أنزل الله فيه لما حلف أبو بكر رضي الله عنه ألا يصله: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22] ]. قصة قذف عائشة معروف أنه أشاعه أهل الإثم وعلى رأسهم عبد الله بن أبي ابن سلول رئيس المنافقين، كان يشيع الإفك، والإفك أسوأ الكذب، وهو قذف عائشة رضي الله عنها بالفاحشة، وذلك لما تخلفت عن الجيش وأركب هودجها الذين وكلوا بالهودج وظنوا أنها فيه لخفتها وهي كانت خرجت لحاجتها، فسار الجيش وتركها، فجاء صفوان بن المعطل السلمي وكان قد تأخر فلما رآها عرفها فخمرت وجهها بجلبابها ثم أناخ لها البعير فركبت وجعل يقودها إلى المدينة، فأشاع أهل الإفك من المنافقين وغيرهم ذلك، و عبد الله بن أبي يستوشيه ويجمعه ولكن لا يثبت عليه شيء؛ ولهذا ما جلده النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ما ثبت عليه شيء، فهو يستوشيه وينشره من بعيد، ولكن لا يتكلم به أمام أحد حتى لا يثبت عليه شيء، وهو الذي تولى كبره قال تعالى: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:11]. وشارك في هذا وتكلم فيه بعض الصحابة، منهم حسان بن ثابت الشاعر، ومنهم مسطح بن أثاثة ابن خالة أبي بكر رضي الله عنه، وكان أبو بكر ينفق عليه لقرابته وفقره، فجلد النبي صلى الله عليه وسلم مسطح وأقام عليهم الحد ثمانين جلدة، ومعلوم أن الحد طهارة، فطهرهم الله بالحد والتوبة طهارة، فلما شارك مسطح بن أثاثة في الإفك حلف أبو بكر أن يقطع النفقة عنه، أنزل الله هذه الآية تنهى أبي بكر عن الحلف، قال الله تعالى: وَلا يَأْتَلِ [النور:22]، أي: لا يحلف وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ [النور:22]. والفضل: السعة والغنى: أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى [النور:22]، وهو مسطح : وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ [النور:22]. فـمسطح من القرابة وهو مسكين ومهاجر، اجتمعت فيه الأوصاف، قال تعالى: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22]. قال أبو بكر لما نزلت هذه الآية: بلى والله أحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى النفقة التي ينفقها على مسطح. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وإن قيل إن مسطحاً رضي الله عنه وأمثاله تابوا؛ لكن الله تعالى لم يشترط في الأمر بالعفو عنهم والصفح والإحسان إليهم التوبة ]. إن هذه الآية أنزلها الله في أمر أبي بكر بالعفو والصفح، فإذا قيل إن مسطحاً وأصحابه تابوا إلى الله والحد طهارة وقد أقيم عليهم الحد، فيقال: الآية ليس فيها شرط التوبة وما قال الله: وليعفوا وليصفحوا إذا تابوا، فدل على أنه مأمور بالصفح والتوبة حتى ولو لم يتوبوا؛ لأنه مؤمن ولو كان عاصياً، فدل على أنه بقي على ِإيمانه وأنه ليس من المنافقين. ووجه الدلالة: أن الله أمر أبا بكر بالعفو والصفح والنفقة ولم يشترط التوبة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وكذلك حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه كاتب المشركين بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أراد عمر رضي الله عنه قتله قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه قد شهد بدراً، وما يدريك أن الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم،) ]. هذا هو المرجح التاسع من المرجحات أن من وصف بالإسلام دون الإيمان فإنه يبقى على إيمانه، وأن من فعل المعصية فهو باق على أصل إيمانه، وفي ذلك قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه لما كاتب المشركين بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم وتأول فقال: إنه يريد أن يضع يداً عندهم ليحموا بها أهله وعشيرته، فهذا عذره وهو صادق في ذلك، وما أنكر الله عليه وأنزل فيه صدر سورة الممتحنة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ [الممتحنة:1]، وفي آخرها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [الممتحنة:13]. فجعل الله فعل حاطب من التولي ومع ذلك فهو مسلم من الصحابة وممن شهد بدراً. فهذا كله من المرجحات لجمهور السلف والخلف على أن من فعل معصية فإن يبقى على إيمانه، وأن من وصف بالإسلام دون الإيمان فإنه لا يخرج بذلك عند دائرة الإيمان ولا يكون من المنافقين، ولما أراد عمر قتله وقال: دعني أضرب عنقه، وفي اللفظ الآخر: (أن عمر قال: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق فقد خان الله ورسوله و - عمر معذور؛ لأنه متأول حيث رأى حاله- فلما دعا النبي صلى الله عليه وسلم حاطباً وسأله قال: يا رسول الله! لا تعجل علي، فوالله ما فعلت ذلك رضا بالكفر بعد الإيمان وإنما أردت أن أتخذ يداً عندهم يحمون بها أهلي وعشيرتي، وإن من عندك من قريش لهم قرابات يحمون أهليهم فأردت إن فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يداً، فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فإنه قد خان الله ورسوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما أنه قد صدقكم، وقال: أما إنه قد شهد بدراً وما يدرك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). فقصة حاطب بن أبي بلتعة دليل لجمهور السلف والخلف على بقاء الإيمان مع المعصية، وأن من وصف بالإسلام دون الإيمان فإنه لا يكون من المنافقين.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد