بطلان مذهب المعتزلة في التوحيد والعدل
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ومن العجب أن المعتزلة يفتخرون بأنهم أهل التوحيد والعدل وهم في توحيدهم نفوا الصفات نفياً يستلزم التعطيل والإشراك، وأما العدل الذي وصف الله به فهو ألا يظلم مثقال ذرة، وأنه من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، وهم يجعلون جميع حسنات العبد وإيمانه حابطاً بذنب من الكبائر، وهذا من الظلم الذي نزه الله تعالى نفسه عنه، فكان وصف الرب تعالى بالعدل الذي وصف به نفسه أولى من جعل العدل هو التكذيب بقدر الله تعالى ]. من العجب أن المعتزلة يفتخرون بأنهم أهل التوحيد والعدل، والمعتزلة عندهم في أصول الدين خلط، وكل أصل ستروا تحته معنى باطلاً، وعند أهل السنة أصول الإيمان: الإيمان بالله، والإيمان بالملائكة، والإيمان بالكتب، والإيمان بالرسل، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره. وبدلاً من أصول الدين عند أهل السنة ألغى المعتزلة هذه الأصول وأحدثوا أصولاً لهم، فأصول الدين عند المعتزلة: التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكل أصل من هذه الأصول ستروا تحته معنى باطلاً، فالتوحيد ستروا تحته: نفي الصفات، والقول بخلق القرآن، وأن الله تعالى لا يرى في الآخرة، فمعنى التوحيد عندهم نفي الصفات، ومن أثبت الصفات كان مشركاً؛ لأنه شبه الله بخلقه، ومن أثبت أن القرآن كلام الله وأن الله يرى في الآخرة فهو مشرك عند المعتزلة. والعدل ستروا تحته: التكذيب بالقدر، والقول بأن الله لا يخلق المعاصي ولا يعذب عليها إلا أن يكون ظالماً. وفي المنزلة بل المنزلتين قالوا: مرتكب الكبيرة خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، فهو في منزلة بين الإيمان والكفر. وإنفاذ الوعيد قالوا: مرتكب الكبيرة لابد أن ينفذ الله فيه الوعيد ويخلده في النار. والأمر بالمعروف ستروا تحته إلزام الناس بآرائهم واجتهاداتهم الباطلة، والنهي عن المنكر ستروا تحته: الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي والظلم، فهذه أصول المعتزلة. ومن العجب أنهم يقولون: نحن أهل التوحيد والعدل، ويفتخرون بذلك، وهم ينفون الصفات، ويكذبون بالقدر. المؤلف رحمه الله يقول: ومن العجب أن المعتزلة يفتخرون بأنهم أهل التوحيد والعدل، وهم في توحيدهم نفوا الصفات نفياً يستلزم التعطيل، قالوا: إن الله ليس له سمع ولا بصر ولا علم ولا قدرة ولا رحمة ولا صوت ولا هو فوق ولا تحت، فعطلوا الرب، بل إن الشيء الذي ليس له اسم ولا صفة لا يوجد إلا في الذهن، وبذلك شبهوا الله بالمعدوم فأشركوا، فصار توحيدهم يستلزم التعطيل والإشراك. وأما العدل فإنهم يقولون: العدل معناه القول بأن أفعال العباد هم الذين خلقوها، والله تعالى لا يقدر على خلقها، فالعباد خلقوا الطاعات والمعاصي، ولهذا يستحقون الثواب على الله كما يستحق الأجير أجرته، ويجب على الله أن ينفذ الوعيد في العاصي ولا يغفر له ولا يرحمه. وأما وجوب إنفاذ الوعيد: فهم يرون وجوب تخليد العصاة في النار، يقولون: العدل منه أنه لا يخلف وعيده، ويجب على الله أن يجازي المطيع؛ لأنه هو الذي خلق فعله، والعبد إذا فعل الكبيرة حبط إيمانه وخرج من الإيمان، وهذا ليس بعدل بل هو ظلم. وذكر المؤلف أن العدل الذي وصف الله به نفسه هو أنه لا يظلم مثقال ذرة وأن من يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8]، فلا يمنع أحداً من ثواب حسناته، ولا يحمل أحداً أوزار غيره، فلا يظلم مثقال ذرة، بل من عمل أي عمل ولو مثقال ذرة من الخير يجده أو من الشر يجده، قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8]. وهم -أي: المعتزلة- يجعلون جميع حسنات العبد وإيمانه حابطاً بذنب واحد من الكبائر، ويقولون: إذا زنى أو سرق أو شرب الخمر أو تعامل بالربا حبط العمل كله، وخرج من دائرة الإيمان، وخلد في النار، وهذا ظلم نزه الله نفسه عنه؛ فكان وصف الرب سبحانه بالعدل الذي وصف به نفسه أولى من جعل العدل هو التكذيب بقدر الله. وذلك أن الله تعالى نزه نفسه عن الظلم، والظلم الذي نزه الله نفسه عنه هو وضع الشيء في غير موضعه؛ بأن يمنع أحداً من ثوابه لحسناته أو يحمله أوزار غيره، وهم جعلوا العدل التكذيب بالقدر، والقول بأن الله لا يخلق أفعال العباد، وأن العباد هم الذين خلقوا أفعالهم من طاعات أو معاص، ويوجبون على الله أن يثيب المطيع، وأن يعذب العاصي، فالله أولى بوصف العدل الذي وصف به نفسه وهو أن لا يحرم أحداً من ثوابه أو يحمله وزر غيره.
جواب آخر على القول بأن الحسنات الماحية لا تسقط عقوبة الذنب بشرط اجتناب الكبائر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ الخامس: إن الله لم يجعل شيئاً يحبط جميع الحسنات إلا الكفر، كما أنه لم يجعل شيئاً يحبط جميع السيئات إلا التوبة، والمعتزلة مع الخوارج يجعلون الكبائر محبطة لجميع الحسنات حتى الإيمان، قال الله تعالى وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:217] فعلق الحبوط بالموت على الكفر، وقد ثبت أن هذا ليس بكافر، والمعلق بشرط يعدم عند عدمه، وقال تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة:5]، وقال تعالى لما ذكر الأنبياء: وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:87-88]، وقال تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، مطابق لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]، فإن الإشراك إذا لم يغفر وأنه موجب للخلود في النار لزم من ذلك حبوط حسنات صاحبه. ولما ذكر سائر الذنوب غير الكفر لم يعلق بها حبوط جميع الأعمال. وقوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:28]؛ لأن ذلك كفر، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2]؛ لأن ذلك قد يتضمن الكفر فيقتضي الحبوط وصاحبه لا يدري، والمعنى: كراهية أن يحبط أو خشية أن يحبط، فنهاهم عن ذلك لأنه يفضي إلى الكفر المقتضي للحبوط، ولا ريب أن المعصية قد تكون سبباً للكفر، كما قال بعض السلف رحمهم الله: المعاصي بريد الكفر، فينهى عنها خشية أن تفضي إلى الكفر المحبط، كما قال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ [النور:63] وهي الكفر، أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، وإبليس خالف أمر الله فصار كافراً وغيره أصابه عذاب أليم ]. هذا هو الجواب الخامس من الأجوبة على الاعتراض على مسقط من مسقطات العقوبة، وهي الحسنة الماحية، والاعتراض هو: أن هذه الحسنات الماحية إنما تكون ماحية للصغائر دون الكبائر. فالجواب الخامس: أن الله لم يجعل شيئاً يحبط جميع الحسنات إلا الكفر، كما أنه لم يجعل شيئاً يحبط جميع السيئات إلا التوبة، وإذا فعل الكفر بطلت جميع الأعمال، وإذا مات على الكفر والعياذ بالله خلد في النار، لكن إذا فعل المعصية: كما إذا عق والديه، أو قطع رحمه، أو تعامل بالربا وهو يعلم أنه حرام، لا نقول له: بطلت صلاتك وصومك وحجك، لكن إذا دعا غير الله وذبح لغير الله ومات على ذلك بطلت جميع الأعمال. فالله تعالى لم يجعل شيئاً يحبط جميع الحسنات إلا الكفر، كما أنه لم يجعل شيئاً يحبط جميع السيئات إلا التوبة، حتى الكفر، فإذا تاب توبة نصوحاً من الشرك أو الكفر أو الزنا أو السرقة أو عقوق الوالدين أو التعامل بالربا بشروطها الثمانية فالتوبة تجب ما قبلها، وتزيل جميع المعاصي، كما أن الكفر يزيل جميع الحسنات. والمعتزلة مع الخوارج يخالفون النصوص، ويجعلون الكبيرة محبطة لجميع الحسنات حتى الإيمان، ويقولون: إذا زنا أو سرق أو شرب الخمر أو عق والديه أو تعامل بالربا بطلت جميع الأعمال حتى الإيمان، فخرج من الإيمان وخرج من الإسلام وبطلت جميع أعماله، وصار مخلداً في النار. وهذا من أبطل الباطل؛ لأن الله تعالى بين في كتابه أن الذي يحبط الأعمال الكفر والشرك لا المعاصي، وبشرط: أن يموت على الكفر، فإذا منّ الله عليه بالإسلام لا تحبط أعماله بل تبقى له يخرجها الإيمان، فإن مات على الكفر بطلت جميع الأعمال، والدليل قول الله تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:217]، ووجه الدلالة قوله: فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ [البقرة:217]، فعلق الحبوط بالموت على الكفر. وقد ثبت أن مرتكب الكبيرة ليس بكافر، والمعلق بشرط يعدم عند عدمه، وحبوط العمل معلق بشرط وهو الموت على الكفر، فإذا لم يمت على الكفر بعد عن حبوط العمل. ومن الأدلة على أن الكفر يحبط الأعمال قوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة:5]، ومنها: قوله تعالى لما ذكر الأنبياء: وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ [الأنعام:87] إلى قوله: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]. ومن الأدلة على أن الشرك يحبط الأعمال قوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]. إذاً: الشرك يحبط الأعمال إذا مات على الكفر، وهو مطابق لقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]، فالشرك لا يغفر أبداً إذا مات صاحبه عليه، فإن الشرك إذا لم يغفر موجب للخلود في النار ويلزم من ذلك حبوط الحسنات وصاحبها، ولما ذكر الله سائر الذنوب غير الكفر لم يعلق بها حبوط جميع الأعمال. أما قول الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:28]، فلأن ذلك كفر، ومن كره شيئاً مما جاء عن الله وعن رسوله حبط عمله، وهو ردة وكفر، فمن كره التشريع الذي أنزله الله في كتابه أو أنزله على رسوله حبط عمله بردته نعوذ بالله. وأما قول الله تعالى: لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2]، هذا قد يتضمن الكفر الذي يقتضي الحبوط وصاحبه لا يدري، والذي يرفع صوته فوق صوت النبي قد يحبط عمله وقد لا يحبط. فإذاً: نهي عن رفع الصوت خشية أن يؤدي إلى حبوط العمل، فنهاهم الله عن رفع الصوت؛ لئلا يفضي إلى الكفر الذي يقتضي الحبوط، ولا ريب أن المعصية قد تكون سبباً للكفر، كما قال بعض السلف: المعاصي بريد الكفر، فينهى عن المعصية خشية أن تفضي إلى الكفر المحبط، كما قال الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، فهذا تخويف، للذي يخالف أمر الله وعليه أن يحذر، وقوله: أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ [النور:63] هو الشرك، ولهذا قال بعضهم: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، ولعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الفتنة فيهلك، وإبليس خالف أمر الله فصار كافراً، وغيره خالف أمر الله فأصابه عذاب أليم. إذاً: الذي يخالف أمر الله قد يكون كافراً كإبليس، وقد يكون عاصياً يعرض نفسه للعذاب الأليم كالعاصي.
الأسئلة
الفرق بين التوبة والاستغفار
السؤال: ما الفرق بين التوبة والاستغفار؟ الجواب: التوبة عرفنا أن معناها: الرجوع إلى الله من الذنب الذي حصل منه بشروطه الثمانية، والاستغفار طلب المغفرة.
الذكر بعد الأذان
السؤال: ما هو الذكر الذي يقال بعد الأذان؟ الجواب: الذكر الذي يقال بعد الأذان أولاً: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يقال: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، كما جاء في الحديث أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إن المؤذنين يغبنوننا -أي: يحصلون على الأجر- فقال: من سمع المؤذن ثم قال مثل قوله، ثم صلى عليَّ، وقال: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة، حصل له مثل ما يحصل للمؤذن)، وكذلك أيضاً في الحديث: (إلا حلت له شفاعتي يوم القيامة).
حكم توبة المريض مرض الموت
السؤال: هل المصاب بمرض خطير ومصيره في الغالب إلى الموت إذا تاب تاب الله عليه، أم يكون حكمه حكم من بلغت روحه الحلقوم؟ الجواب: المريض ولو في مرض الموت تصح منه التوبة ما لم تصل الروح إلى الحلقوم؛ ولهذا ذكر العلماء أن المريض إذا حضره الموت يذكر بالتوبة ويذكر بالشهادة، فإنها تنفعه، ولا يقال له: قل: لا إله إلا الله، حتى لا يضجر ويرفض، بل يقال عنده: لا إله إلا الله، أمامه حتى يتذكر فيقولها. فإذا قالها سكت، فإن تكلم بشيء من كلام الدنيا أعاد وقال: لا إله إلا الله. كذلك ذكر العلماء أن من قرب موته يذكر بالتوبة فإنها تنفعه، مثل شخص سيقام عليه الحد قصاصاً فيذكر بالتوبة وبالاستغفار، ولو كان يعلم أنه سيقام عليه الحد عن قريب، فيذكر بالتوبة والاستغفار فإنها تنفعه ما لم تصل الروح إلى الحلقوم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، فإذا سيقت الروح من الجسد ووصلت إلى الحلقوم انتهى الأمر، وكشف للإنسان عن المستقبل وصار الغيب شهادة، وعاين الملائكة؛ فلا توبة حينئذ.
حكم توبة من نوى قبل فعل الذنب التوبة بعد فعله
السؤال: هل تقبل توبة من فعل ذنباً ونوى قبل فعله للذنب أن يتوب بعد فعله؟ الجواب: إذا وجدت الشروط الثمانية بعد الذنب فهي صحيحة، وإذا اختل شرط منها فلا.
وقت أذكار الصباح والمساء
السؤال: متى تقال أذكار الصباح والمساء على الصحيح من أقوال العلماء؟ الجواب: أذكار الصباح بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، وأذكار المساء بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، قال الله تعالى: َسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا [طه:130] .. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ [ق:40]، ذكر هذا أهل العلم، وذكر هذا العلامة ابن القيم في الوابل الصيب، ولكن سماحة شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه يرى أن الأمر واسع، وأنه إذا فاته بعد العصر فله أن يأتي بالذكر بعد المغرب والعشاء، وكذلك في أذكار الصباح إذا فاتته له أن يأتي بالأذكار إلى الظهر.
الطريقة الصحيحة في رد المحكم إلى المتشابه
السؤال: هل الأحاديث فيها من المحكم والمتشابه كما في القرآن الكريم؟ وإذا كان كذلك فلماذا تؤول؟ الجواب: النصوص من السنة والقرآن فيها محكم وفيها متشابه، وكذلك أقوال أهل العلم، والقاعدة عند أهل العلم: أن المتشابه يرد إلى المحكم، ويوضح فيتضح، وأما أهل الزيغ فإنهم يأخذون بالمتشابه ويتركون المحكم. مثال ذلك: النصوص التي أثبت الله فيها علوه على خلقه كثيرة لا حصر لها، قال الله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [يونس:3] في سبعة مواضع، وقال سبحانه وتعالى: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255]، وكل نص فيه إثبات العلو، وكل نص فيه الرفع قال تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:158]، وكل نص فيه الصعود: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10]، والتنزيل: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر:1]، وأفراد هذه الأدلة تزيد ثلاثة آلاف، وجاء في النصوص الأخرى ما يدل على المعية كقوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4] وقوله: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، فأهل الزيغ من أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والمعطلة تعلقوا بالمتشابه، وعارضوا النصوص وضربوا بعضها ببعض، وقالوا: إن نصوص المعية تبطل نصوص العلو والفوقية، وقالوا: إن الله مشترك بين مخلوقاته، وإنه مع الخلق في كل مكان. تعالى الله عما يقولون! أما أهل الحق فإنهم ردوا المتشابه إلى المحكم، وعملوا بالنصوص من الجانبين، وقالوا: إنه لا معارضة بين النصوص، وليس معنى المعية الاختلاط والاهتزاز، فإن المعية في لغة العرب لمطلق المصاحبة، والمصاحبة لا تقتضي الاختلاط، والعرب تقول: ما زلنا نسير والقمر معنا، وما زلنا نسير والنجم معنا، ويقال: فلان المتاع معه، وإن كان فوق رأسه، ويقال: فلان زوجته معه وإن كانت في المشرق وهو في المغرب، فالمعية لا تقتضي المصاحبة، ولها معان على حسب متعلقها. فالمقصود: أن النصوص المحكمة والمتشابهة في الكتاب أو في السنة أو في أقوال أهل العلم ترد إلى نصوص المحكم وتفسر بها. أما أهل الزيغ فإنهم يتعلقون بالمتشابه ويتركون المحكم، قال الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7].
المراد بأهل القبلة ودخول المنافقين فيهم
السؤال: ما المراد بأهل القبلة؟ وهل الرافضة يعدون منهم؟ الجواب: المراد بأهل القبلة كل من اتجه إلى القبلة في الصلاة وفي الذكر وفي الذبح، وأهل القبلة لا يكفرون عند أهل السنة والجماعة إلا إذا ثبت عليهم مكفر، وإلا فالأصل أن أهل القبلة يحكم عليهم بالإسلام، ومن أهل القبلة المنافقون الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر فإنهم يعاملون معاملة المسلمين في النكاح وغيره، إلا من أظهر منهم النفاق فإنه يقتل؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل عبد الله بن أبي رئيس المنافقين وغيره من المنافقين معاملة المسلمين في جميع الأحداث. ولهذا لما مات عبد الله بن أبي رئيس المنافقين ووضع في حفرته: (جاءه النبي صلى الله عليه وسلم -كما ثبت في صحيح البخاري - واستخرجه من حفرته، ونفث فيه من ريقه، وألبسه قميصه). ولما أراد أن يصلي عليه أخذ عمر بن الخطاب ثوبه وجره وقال: يا رسول الله أتصلي على منافق؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخر عني يا عمر ، فإني خيرت فقيل لي: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ [التوبة:80]، قال: ولو أعلم أني لو زدت على السبعين أن يغفر له لزدت على السبعين)، وإنما فعل هذا عليه الصلاة والسلام رجاء أن يغفر الله له؛ لأنه لم ينه عن ذلك، ومراعاة لرهطه الأوس، ومراعاة لابنه عبد الله ؛ لأنه كان من أصلح عباد الله، ولما قال ابن أبي القولة المشهورة: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ [المنافقون:8]، وقف ابنه عبد الله وقال: والله لا تدخل المدينة حتى تكون الأذل ورسول الله هو الأعز. فالنبي صلى الله عليه وسلم مراعاة لابنه عبد الله وللأوس، ورجاء أن يغفر الله له صلى عليه؛ ولأنه لم ينه عن ذلك، ثم بعد ذلك أنزل الله هذه الآية: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:84]، فلم يصل على منافق مات بعد ذلك، وبين الله العلة فقال: إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة:84]، وهذا رواه البخاري في الصحيح.
عدد النفخات في الصور
السؤال: ما هو الصحيح من أقوال العلماء في عدد النفخات هل هي اثنتان أو ثلاث؟ الجواب: الصواب أنهما نفختان، كما قال الله تعالى في سورة الزمر: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68]، النفخة الأولى نفخة الصعق والموت، والنفخة الثانية نفخة البعث. وبعض العلماء ذهب إلى أنها ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ونفخة الصعق (الموت)، ونفخة البعث، وجاء في حديث الصور، وهو حديث ضعيف؛ لأن في سنده رجلاً ضعيفاً، جاء فيه أنها ثلاث نفخات، والصواب: أنهما نفختان: النفخة الأولى هي نفخة طويلة أولها فزع وآخرها صعقة الموت، كما قال الله في سورة النمل: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [النمل:87]، وفي سورة الزمر: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ [الزمر:68]، فهي نفخة واحدة أولها فزع وآخرها صعقة الموت، وهي نفخة يطولها إسرافيل ولا يزال الصوت يقوى شيئاً بعد شيء حتى يموت الناس، جاء في الحديث: (أنه لا يسمعها أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً)، أرأيتم صفارات الإنذار؟ رأيتم في حرب الخليج ماذا يحصل للناس من الرعب إذا جاء الصوت، وهو صوت عادي، وإذا زاد مثل هذا الصوت مائة مرة ماذا يحصل للناس، فهكذا صوت إسرافيل أوله ليس بالقوي ثم لا يزال الصوت يقوى ويقوى حتى يموت الناس، وهذه نفخة الصعق. والثانية: نفخة البعث، يمكث الناس بعدها أربعين، كما جاء في الحديث: (قيل لـأبي هريرة : أربعين سنة؟ قال: أبيت، قيل: أربعين شهراً؟ قال: أبيت، قيل: أربعين يوماً؟ قال: أبيت) أي: ليس عندي علم في هذا، ثم ينزل الله مطراً تنبت منه أجساد الناس، وينشئون تنشئة غير هذه التنشئة في الدنيا، الذوات هي هي، لكن تبدل الصفات، فإذا تم نباتهم أذن الله لإسرافيل فنفخ في الصور نفخة البعث فتتطاير الأرواح، وتدخل كل روح في جسدها، فيقوم الناس ينفضون التراب عن رءوسهم ويقفون بين يدي الله للحساب، والأرواح باقية لا تموت بل تبقى إما في عذاب أو في نعيم، فروح المؤمن تنقل في الجنة، ولها اتصال بالجسد. والروح تعذب مفردة ومتصلة بالجسد، فروح الكافر تنقل إلى النار، ولها صلة بالجسد، فإذا نفخ إسرافيل في الصور دخلت الأرواح في أجسادها، فالصواب أنهما نفختان.
شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [16]
مما استدل به الخوارج والمعتزلة على تخليد صاحب الكبيرة في النار أن الله لا يتقبل إلا من المتقين، وصاحب الكبيرة ليس منهم فلا يقبل الله منه عملاً صالحاً فيكون في النار، وقد رد عليهم أهل السنة في ذلك وبينوا غلطهم.
استدلال الخوارج والمعتزلة على خلود مرتكب الكبيرة في النار بآية (إنما يتقبل الله من المتقين) والرد عليهم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقد احتجت الخوارج والمعتزلة بقول الله تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]، قالوا: فصاحب الكبيرة ليس من المتقين فلا يتقبل الله منه عملاً، فلا تكون له حسنة، وأعظم الحسنات الإيمان فلا يكون معه إيمان، فيستحق الخلود في النار. وقد أجابتهم المرجئة: بأن المراد بالمتقين من يتقي الكفر، فقالوا: اسم المتقين في القرآن يتناول المستحقين للثواب، كقوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:54-55]، وأيضاً فابنا آدم حين قربا قرباناً لم يكن المقرب المردود قربانه حينئذ كافراً، وإنما كفر بعد ذلك إذ لو كان كافراً لم يتقرب. وأيضاً: فما زال السلف يخافون من هذه الآية، ولو أريد بها من يتقي الكفر لم يخافوا. وأيضاً: فإطلاق لفظ المتقين والمراد به من ليس بكافر، لا أصل له في خطاب الشارع فلا يجوز حمله عليه. والجواب الصحيح: أن المراد من اتقى الله في ذلك العمل، كما قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود:7] قال: أخلصه وأصوبه، قيل: يا أبا علي ! ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً. والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة، فمن عمل لغير الله كأهل الرياء لم يقبل منه ذلك، كما في الحديث الصحيح، يقول الله عز وجل: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري فأنا بريء منه، وهو كله للذي أشركه). وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الحديث الصحيح: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول). وقال: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار). وقال في الحديث الصحيح: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: فهو مردود غير مقبول، فمن اتقى الكفر وعمل عملاً ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل منه، وإذا صلى بغير وضوء لم يقبل منه؛ لأنه ليس متقياً في ذلك العمل، وإن كان متقياً للشرك. وقد قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، وفي حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: (يا رسول الله! أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ويخاف أن يعذب؟ فقال: لا يا ابنة الصديق ولكنه الرجل يصلى ويصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه). وخوف من خاف من السلف أن لا يتقبل منه لخوفه أن لا يكون أتى بالعمل على وجهه المأمور، وهذا أظهر الوجوه في استثناء من استثنى منهم في الإيمان وفي أعمال الإيمان، كقول أحدهم: أنا مؤمن إن شاء الله، وصليت إن شاء الله، لخوف ألا يكون أتى بالواجب على الوجه المأمور به لا على جهة الشك فيما لقلبه من التصديق. ولا يجوز أن يراد بالآية: أن الله لا يقبل العمل إلا ممن اتقى الذنوب كلها؛ لأن الكافر والفاسق حين يريد أن يتوب ليس متقياً، فإن كان قبول العمل مشروطاً بكون الفاعل حين فعله لا ذنب له امتنع قبول التوبة، بخلاف ما إذا اشترط التقوى في العمل فإن التائب حين يتوب يأتي بالتوبة الواجبة، وهو حين شروعه في التوبة منتقل من الشر إلى الخير لم يخلص من الذنب، بل هو متق في حال تخلصه منه ].
اتحاد استدلال الخوارج والمعتزلة بقوله تعالى: (إنما يتقبل من المتقين)
ذكر المؤلف رحمه الله هنا حجج الخوارج وحجج المرجئة، وبين الجواب الصحيح. فالخوارج مذهبهم: أن مرتكب الكبيرة يحبط إيمانه كله ويخرج من دائرة الإيمان، ويستدلون على هذا المذهب الباطل بأدلة من القرآن من غير تأويل. والمرجئة يقولون: الإيمان لا يضر معه أي معصية وأي كبيرة. واحتجوا على ذلك من القرآن، فالمؤلف رحمه الله يبين بطلان وجه احتجاجهم من النصوص، ويبين الجواب الصحيح. فالخوارج احتجوا بقوله تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]، وقالوا: صاحب الكبيرة ليس من المتقين فلا يتقبل الله منه عملاً، فلا يكون له حسنة، وأعظم الحسنات الإيمان، فلا يكون معه إيمان، فيستحق الخلود في النار. أجابتهم المرجئة وقالوا: المراد بالمتقين من يتقي الكفر، وقالوا: اسم المتقين في القرآن يتناول المستحقين للثواب، فالذي يتقي الكفر يقبل منه أي عمل، والذي يفعل الكبيرة واتقى الكفر ما وصل إلى الكفر فلا يحبط عمله، ولا يضره فعل الكبيرة. واحتجت المرجئة على أن اسم المتقين في القرآن يتناول المستحقين للثواب، بمثل قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:54-55]. وقالوا: ابنا آدم قابيل و هابيل حينما قتل أحدهما أخاه؛ لأنهما قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، فقتل أحدهما الآخر. وهما حين قربا قرباناً لم يكن المقرب المردود قربانه حينئذ كافراً، وإنما كفر بعد القتل، وقبل ذلك ما كان كافراً إذ لو كان كافراً لم يتقرب. وأيضاً قالوا لهم: ما زال السلف يخافون من هذه الآية: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]، ولو أريد بها من يتقى الكفر لم يخافوا؛ لأنهم اتقوا الكفر، فدل على أنهم خافوا ما دون الكفر. وأيضاً: فإطلاق لفظ المتقين والمراد به من ليس بكافر لا أصل له في خطاب الشارع، فلا يجوز الحمل عليه.
الرد على استدلال الخوارج والمعتزلة
المؤلف رحمه الله يقول: والجواب الصحيح عن هذه الآية رداً على الخوارج والمعتزلة والمرجئة: أن المراد بقوله: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]، من اتقى الله في ذلك العمل الذي يعمله، فإذا كان متقياً في ذلك العمل تقبل الله منه، وإن كان غير متق لله لا يتقبله منه، ويتقبل الله العمل إذا كان خالصاً لله وصواباً على شرع الله، فإذا كان العمل خالصاً لله وصواباً لله صار من المتقين في ذلك الأمر، وإن لم يكن خالصاً ولا صواباً لم يكن من المتقين، فإذا كان خالصاً وصواباً قبل الله منه؛ لأنه متق، وإذا كان ليس خالص ولا صواباً فلا يقبل منه. إذاً: الجواب الصحيح هو: أن المراد بذلك من اتقى الله في ذلك العمل كما قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود:7]، قال: أخلصه وأصوبه، قيل: يا أبا علي ! ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكون صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة، فمن عمل لغير الله كأهل الرياء لم يقبل منه ذلك، المرائي لا يقبل الله منه عمل، كما في الحديث الصحيح يقول الله عز وجل في: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي فيه غيري فأنا بريء منه، وهو كله للذي أشركه به)، رواه ابن ماجة و البغوي . وفي رواية مسلم : (من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)، وفي الحديث الصحيح: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول)، وقال: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار)، كل هذا فيه نفي القبول، فكذلك العمل الذي فيه رياء لا يقبله الله، والعمل الذي ليس موافقاً أو فيه شرك لا يقبله الله، والعمل الذي ليس موافقاً للشرع مردود. وقال في الحديث الصحيح: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) رواه مسلم في صحيحه، وفي الصحيحين: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)؛ لأنه مخالف للشرع، أي: فهو مردود غير مقبول، فمن اتقى الكفر وعمل عملاً ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل منه، وإذا اتقى الكفر كما تقول الخوارج ثم عمل عملاً بدعة لا يقبل، أو عمل عملاً ليس بدعة موافق للشرع لكنه ليس خالصاً لله فلا يقبل، فإذا صلى اتقى الكفر؛ لكنه إن صلى بغير وضوء لم يقبل منه؛ لأنه ليس متقياً في ذلك العمل وإن كان متقياً للشرك، وقد قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، وفي حديث عائشة أنها قالت: (يا رسول الله! أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ويخاف أن يعذب؟ قال: لا يا ابنة الصديق ، ولكنه الرجل يصلى ويصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه)، فهو قد اتقى الشرك، ومع ذلك يخاف ألا يقبل منه. قول المؤلف: (وخوف من خاف من السلف ألا يتقبل منه لخوفه ألا يكون أتى بالعمل على وجهه المعروف)، فالسلف كانوا يخافون ألا يقبل منهم، ويخشون أن يكونوا قصروا في هذا العمل فلم يأتوا به موافقاً للشرع. قول المؤلف: (وهذا أظهر الوجوه في استثناء من استثنى منهم في الإيمان وفي أعمال البر، كقول أحدهم: أنا مؤمن إن شاء الله، وصليت إن شاء الله)، فهم يستثنون لأن أعمال الإيمان متعددة، وأحدهم يخشى ألا يكون قد أدى الواجبات، فهو يستثني ويقول: أنا مؤمن إن شاء الله لا على جهة الشك فيما بقلبه من تصديق. (ولا يجوز أن يراد بالآية: إن الله لا يقبل العمل إلا لمن يتقي الذنوب كلها؛ لأن الكافر والفاسق حين يريد أن يتوب ليس متقياً، ومع ذلك إذا تاب قبل الله توبته، فإن كان قبول العمل مشروطاً بكون الفاعل حين فعله لا ذنب له امتنع معه قبول التوبة)، أي: لو قيل إن العمل لا يقبل حتى يكون الإنسان ليس له ذنب لكان معنى ذلك أنه لا تقبل التوبة؛ لأن الشخص حينما يريد أن يتوب يكون متلبساً بالمعاصي. فقول الخوارج والمعتزلة في قوله: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27] إنه الذي ليس له ذنب ولا معصية، باطل، بخلاف ما إذا اشترط التقوى في العمل، فإذا أتى بالتقوى في العمل فإن التائب حين يتوب يأتي بالتوبة الواجبة، أي: إذا اتقى في العمل تكون التوبة لله موافقة للشرع، وهو حين شروعه في توبة منتقل من الشر إلى الخير ولم يخلص من الذنب، بل هو متق في حال تخلصه منه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأيضاً: فلو أتى الإنسان بأعمال البر وهو مصر على كبيرة ثم تاب لوجب أن تسقط سيئاته بالتوبة وتقبل منه تلك الحسنات، وهو حين أتى بها كان فاسقاً ]. أي: لو أتى الإنسان بأعمال البر كأن أتى بالحسنات من حج وصام وبر والديه لكنه مصر على التعامل بالربا ثم تاب فعلى معتقد الخوارج لا تقبل؛ لأنه مصر على المعاصي. والصواب: أنه إذا تاب فإن الله يقبل توبته، وتسقط السيئات بالتوبة وتقبل منه تلك الحسنات، ولو كان حين أتى بها فاسقاً كأن كان مصراً على كبيرة ثم تاب يقبل الله توبته وتقبل منه حسناته خلافاً للخوارج والمعتزلة.
الرد على المعتزلة والخوارج بقبول إسلام الكافر والذمي الذي عليه مظالم للناس
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأيضاً: فالكافر إذا أسلم وعليه للناس مظالم من قتل وغصب وقذف، وكذلك الذمي إذا أسلم قبل إسلامه مع بقاء مظالم العباد عليه، فلو كان العمل لا يقبل إلا ممن لا كبيرة عليه لم يصح إسلام الذمي حتى يتوب من الفواحش والمظالم، بل يكون مع إسلامه مخلداً، وقد كان الناس يسلمون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهم ذنوب معروفة وعليهم تبعات فيقبل إسلامهم، ويبرئون إلى الله من التبعات، كما ثبت في الصحيح: (أن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه لما أسلم وكان قد رافق قوماً في الجاهلية فغدر بهم وأخذ أموالهم، وجاء فأسلم، فلما جاء عروة بن مسعود عام الحديبية و المغيرة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف، دفعه المغيرة بالسيف، فقال: من هذا؟ فقالوا: ابن أختك المغيرة ، فقال: يا غدر! ألست أسعى في غدرتك، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: أما الإسلام فأقبله، وأما المال فلست منه في شيء). وقد قال تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنعام:52]. وقال لنوح عليه الصلاة والسلام: قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ [الشعراء:111-113]. ولا يعرف من المسلمين من جاءه ذمي يسلم فقال له: لا يصح إسلامك حتى لا يكون عليك ذنب، وكذلك سائر أعمال البر: من الصلاة والزكاة والصيام ]. مما يرد به على الخوارج والمعتزلة الذين يكفرون بالمعصية وبالكبيرة، أن يقال لهم: الكافر إذا أسلم وعليه للناس مظالم من قتل وغصب وقذف، وكذلك الذمي إذا أسلم هل يقبل إسلامه أو لا يقبل؟ يلزم على الخوارج أن يقولوا: لا يقبل حتى يتوب من المظالم، ويتوب من القتل، ويتوب من الغصب! وهذا باطل، فالذمي إذا أسلم صح إسلامه، والكافر إذا أسلم وعليه للناس مظالم أو إذا تاب المشرك من الشرك، وكان يشرب الخمر، ويعق والديه، ويقطع رحمه، ويتعامل بالربا، صح إسلامه، وبقي عليه التوبة من الخمر والربا وغيره، فالتوبة تكون عامة، والكافر إذا أسلم قد يحسن إسلامه، ويتوب من جميع الذنوب مع الشرك، وهناك كافر يسلم ولكن لا يحسن إسلامه، وهو أنه يتوب من الشرك فقط، فإذا تاب من الشرك صحت توبته من الشرك وبقيت عليه الذنوب فيحتاج إلى توبة منها. فعلى قول الخوارج الكافر إذا أسلم من الشرك ولم يتب من المعاصي والزنا والسرقة فتوبته هذه لا تقبل، وهذا باطل، والصواب أنها تصح وإن كانت عليه للناس مظالم، فلو كان العمل لا يقبل إلا ممن لا كبيرة عليه لم يصح إسلام الذمي حتى يتوب من الفواحش والمظالم، وهذا باطل. وهم يقولون: هو مع إسلامه يخلد في النار، وهذا من أبطل الباطل؛ لأن الناس كانوا يسلمون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولهم ذنوب معروفة، وعليهم تبعات، فيقبل إسلامهم، ولا يقول: لا يصح إسلامكم حتى تتوبوا من المعاصي. ودليل ذلك ما ثبت في الصحيح: أن المغيرة بن شعبة لما أسلم وقد رافق قوماً في الجاهلية فغدر بهم وأخذ أموالهم قبل أن يسلم، وجاء فأسلم، فلما جاء عروة بن مسعود عام الحديبية يفاوض النبي صلى الله عليه وسلم في الصلح، كان المغيرة بن شعبة قائماً على رأس النبي يحرسه بالسيف، فلما مد يده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم دفعه بقائم السيف وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله، فقال: من هذا الذي ضرب بالسيف؟ قالوا: ابن أختك المغيرة ، فقال: يا غدر ألست أسعى في غدرتك؟ أي: الذي فعلت في الجاهلية من غدر بأصحابك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما الإسلام فأقبله، وأما المال فلست منه بشيء). واستدل المؤلف بقوله تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنعام:52]، وقال لنوح: قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ [الشعراء:111-113] أي: أن الإنسان يقبل بما هو عليه ويعامل بالظاهر، أما ما بينه وبين الله من المعاصي فالله هو الذي يحاسبه. يقول المؤلف: ولا نعرف أحداً من المسلمين جاءه ذمي يسلم، فقال له: لا يصح إسلامك حتى لا يكون عليك ذنب، ما قال هذا إلا الخوارج، كذلك سائر أعمال البر: من الصلاة والزكاة والصوم، لم يقل: لا تصح صلاتك ولا صومك ولا زكاتك حتى تتوب حتى لا يكون عليك ذنب، هذا من أبطل الباطل، وبهذا يبطل مذهب الخوارج والمعتزلة ومذهب المرجئة، ويبقى مذهب أهل السنة والجماعة الذي فيه العمل بالنصوص من الجانبين.