شعار الموقع

شرح كتاب الإيمان الأوسط_12

00:00
00:00
تحميل
118

 

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فإن قيل: العبد إذا نام عن صلاة أو نسيها كان عليه أن يصليها إذا ذكرها بالنص والإجماع، فلو كان لها بدل من التطوعات لم يجب القضاء، قيل: هذا خطأ. فإن قيل: هذا يقال في جميع مسقطات العقاب، فيقال: إذا كان العبد يمكنه رفع العقوبة بالتوبة لم ينه عن الفعل، ومعلوم أن العبد عليه أن يفعل المأمور ويترك المحظور؛ لأن الإخلال بذلك سبب للذم والعقاب، وإن جاز مع إخلاله أن يرتفع العقاب بهذه الأسباب، كما عليه أن يحتمي من السموم القاتلة، وإن كان مع تناوله لها يمكن رفع ضررها بأسباب من الأدوية، والله عليم حكيم رحيم، أمرهم بما يصلحهم ونهاهم عما يفسدهم، ثم إذا وقعوا في أسباب الهلاك لم يؤيسهم من رحمته، بل جعل لهم أسباباً يتوصلون بها إلى رفع الضرر عنهم، ولهذا قيل: إن الفقيه كل الفقيه الذي لا يؤيس الناس من رحمة الله ولا يجرئهم على معاصي الله؛ ولهذا يؤمر العبد بالتوبة كلما أذنب. قال بعضهم لشيخه: إني أذنبت، قال: تب، قال: ثم أعود، قال: تب، قال: ثم أعود، قال: تب، قال: إلى متى؟ قال: إلى أن تحزن الشيطان. وفي المسند عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يحب العبد المفتن التواب) ].

 

 

 

الرد على القول بأن سقوط عقوبة الذنب بالحسنة مقيد باجتناب الكبائر

 

 

 

المؤلف رحمه الله ذكر المرجحات التي تدل على أن المؤمن العاصي لا يخرج عن دائرة الإسلام لا بالمعصية ولا بالكبيرة، وأن النصوص التي وصفت بعض الناس بالإسلام ونفت عنهم الإيمان لا تدل على أنهم من المنافقين بل مضافة إلى الإيمان، واستدل على ذلك: بأن العقوبة على الذنب تسقط بعشرة أسباب، وذكر من هذه الأسباب ثلاثة: التوبة، والاستغفار، والحسنات الماحية. ثم ذكر اعتراضاً على القول: بأن الحسنات تمحو السيئات، لما استدل بالنصوص: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ [هود:114]، و: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)، و: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، و: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، و: (من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه). وهذه كلها حسنات ماحية تسقط بها عقوبة الذنب، وذكر الاعتراض من بعض الناس وقولهم: إن هذا إنما يكون إذا اجتنبت الكبائر؛ لأن الحديث مقيد: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر). فالحسنات الماحية إنما تخص الصغائر، أما الكبائر فلا بد لها من توبة؛ بدليل أنها قيدت باجتناب الكبائر: (إذا اجتنبت الكبائر)، في حديث: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)، وفي حديث الوضوء لما ذكر في الحديث أن الوضوء يكفر السيئات قال: (ما لم تصب المقتلة)، والمقتلة هي الكبيرة. أجاب المؤلف رحمه الله عن هذا الاعتراض بأجوبة: الجواب الأول: أن شرط اجتناب الكبائر إنما جاء في الفرائض خاصة: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان)، وأما الأعمال الزائدة من التطوعات فلابد أن يكون لها ثواب آخر. الجواب الثاني: أنه قد جاء التصريح في بعض النصوص بأن المغفرة تكون مع الكبيرة، كحديث: (غفر له وإن فر من الزحف)، وحديث الرجل الذي أوجب، أي: فعل ذنباً أوجب له النار قال: (اعتقوا عنه يعتق الله عنه بكل عضو منه عضواً من النار)، وحديث أبي ذر : (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن سرق)، فهذه كبائر. الثالث: حديث حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين فقال عمر : (دعني أضرب عنقه، قال: وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، فهذه كبيرة، وسماها الله تولياً، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة:1]. الجواب الرابع: أنه جاء في الحديث: (أن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله صلاته فإن أكملها وإلا قيل: انظروا هل له من تطوع، فإن كان له تطوع أكملت به الفرائض)، وهذه التطوعات التي تكمل النقص في الفرائض تكمل الواجب ولا تكمل المستحب، فالمستحب إذا ترك لا يحتاج إلى جبران، وهذا يدل على أنه ترك واجباً من واجبات الصلاة فتجبره النوافل، فدل على أن النوافل لها شأن، وأن الحسنات من التطوعات والأعمال الخيرية يجبر الله بها الواجبات في الصلاة، وكذلك الزكاة والصوم والحج. ثم ذكر المؤلف اعتراضاً على هذا، وهو: إن الصلاة إذا نقص شيء من واجباتها كمل هذا الواجب من النوافل، واعترض على ذلك؛ لأن العبد إذا نام عن الصلاة أو نسيها فإنه جاء في الحديث: (من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها)، فلو كان لها بدل من التطوعات ما وجب عليه القضاء، ولو كانت التطوعات تكفي عن الواجبات لكان من نام عن الصلاة أو نسيها نقول له: صل بدلها تطوعات، ولهذا قال المؤلف: قيل هذا خطأ، كونه يترك الفريضة كاملة اكتفاء ببدلها من التطوعات، وإنما هذه تطوعات يكمل بها النقص الذي يحصل في الصلاة، لا أن التطوعات تكفي عن الصلاة.

 

 

 

 

 

 

 

وجوب الابتعاد عن المعاصي والتحذير من الوقوع فيها بنية التوبة

 

 

 

ثم ذكر اعتراضاً آخر فقال: فإن قيل: هذا يقال في جميع مسقطات العقاب، فيقال: إذا كان العبد يمكنه رفع العقوبة بالتوبة لم ينه عن الفعل، وإذا كان الإنسان يمكن أن ترفع عنه عقوبة الذنب بشيء من المسقطات نقول له: لا تفعل هذا الواجب ويكفيك التوبة مثلاً، أو يكفيك الاستغفار، أو تكفيك الحسنات الماحية ما دام أن الحسنات تسقط بها عقوبة ترك الوجبات. فيقال: إذا كان العبد يمكنه رفع العقوبة بالتوبة فليس معنى ذلك أنه ينهى عن الفعل ويقال له: لا تفعل الواجبات اكتفاء بالتوبة أو بالاستغفار والحسنات؛ لأن المسلم مأمور بأن يفعل المأمور ويترك المحظور؛ ولأن ترك الواجب وفعل المحرم سبب للعقوبة، فكون الإنسان يترك الواجب أو يفعل المحرم يتسبب في عقوبته ويتسبب في ذمه، وإن كان يجوز أن تسقط عنه هذه العقوبة بمسقط من المسقطات وهي التوبة، أو الاستغفار، أو الحسنات الماحية، أو دعاء المؤمنين والصدقات، أو غير ذلك، فليس معنى ذلك: أن الإنسان يترك الواجب اكتفاء بالمسقط؛ لأن الإنسان المسلم مكلف بفعل الأوامر وترك النواهي، وإذا ترك الأوامر أو فعل النواهي فقد عرض نفسه للعقوبة؛ ولأنه قد لا يوفق لمسقط من مسقطات العقوبة، وإن كان يجوز أن تسقط عنه العقوبة لسبب من الأسباب، ومثله من يحتمي من السموم القاتلة، وإن كان مع تناوله لها يمكن رفع ضررها بأسباب من الأدوية. فنقول للإنسان: اتق السموم القاتلة، ولا تأكل السم؛ لأن السم يقتلك فلا تتناوله، وإن كان يجوز إذا تناول سماً قاتلاً أن يأتي بأدوية ترفع هذا السم فلا يموت. وهذا مثل من يقول: أنا أترك الواجب أو أفعل المحرم اكتفاء بأني أفعل ما يسقط هذه العقوبة عني، فنقول: يمكن أن تجد أدوية ترفع هذه السموم ويمكن ألا تجد، ثم كون الإنسان يكون سليماً من السم ليس كمن أكل السم أو تناول السم ثم أتى بشيء يرفعه فارتفع، فالأول أكمل حالاً وأحسن، وقد لا يوفق الإنسان لأدوية ترفع السم، كما أن الإنسان مأمور بفعل الأوامر وترك النواهي، فإذا ترك الأوامر أو فعل النواهي تسبب في العقوبة، وقد تسقط العقوبة بسبب من الأسباب لكن قد لا يوفق لمسقط للعقوبة؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (لأن الإخلال بفعل الواجبات وترك المحرمات سبب للذنب والعقاب وإن جاز مع إخلاله أن يرتفع العقاب بهذه الأسباب، كما عليه أن يحتمي من السموم القاتلة وإن كان مع تناوله لها يمكن رفع ضررها بأسباب من الأدوية، والله عليم حكيم رحيم، أمرهم -أي: أمر العباد- بما يصلحهم ونهاهم عما يفسدهم)، فالأوامر فيها صلاح للناس، والنواهي فيها سبب لفسادهم وسلب أحوالهم في الدنيا والآخرة، ثم إذا وقعوا في أسباب الهلاك لم يؤيسهم من رحمته سبحانه وتعالى، فمن زلت به القدم بفعل الكبيرة أو المعصية أو ترك الواجب لم يؤيسه الله من رحمته، بل جعل لهم أسباباً يتوصلون بها إلى رفع الضرر عنهم، فأمر العباد بما فيه صلاحهم وهو فعل الواجبات، ونهاهم عما فيه ضررهم وهو المحرمات، فيجب على المسلم أن يجاهد نفسه حتى يمتثل الأوامر ويجتنب النواهي، فإذا زلت به القدم وترك الواجب أو فعل المحرم فالله تعالى لا يؤيسه من رحمته، بل جعل أسباباً إذا فعلها سقطت هذه العقوبة، وكمل الواجب الذي أخل به، ورفعت العقوبة عن المحرم الذي فعله؛ ولهذا قيل: إن الفقيه كل الفقيه الذي لا يؤيس الناس من رحمة الله ولا يجرئهم على معاصيه، فلا يقول: إن من فعل المعصية أو الكبيرة هالك ولا حيلة له، كما تقول الخوارج إن من فعل الكبيرة كفر وخلد في النار، بل يقول: إن الله جعل أسباباً ترفع العقوبة، فتب إلى الله من هذه المعصية، واستغفر، وافعل الحسنات، وهو كذلك لا يجرئهم على معاصي الله، فلا يقول: الأمر سهل وبسيط، ترك الواجب سهل، فعل المحرم سهل، التوبة تكفي والاستغفار يكفي، فلا نجرئ الناس على معاصي الله ولا نؤيسهم من رحمة الله.

 

 

 

 

 

 

 

الأمر بتجديد التوبة مع كل ذنب

 

 

 

يقول المؤلف رحمه الله: (ولهذا يؤمر العبد بالتوبة كلما أذنب)، والتوبة تكون صحيحة من الذنب إذا وجدت الشروط الثمانية التي سبقت، فإذا وجدت الشروط فالتوبة صحيحة مقبولة يمحو الله بها الذنب، فإذا بلي بالذنب مرة أخرى يؤمر بالتوبة، فتكون التوبة محت الذنب السابق والذنب الجديد يحتاج إلى توبة، فإذا تاب توبة نصوحاً بشروطها الثمانية محت هذه التوبة الذنب، فإذا بلي بالذنب مرة ثالثة عليه أن يتوب وهكذا، ولهذا قال بعضهم لشيخه: إني أذنب، قال: تب، قال: ثم أعود، قال: تب، قال: ثم أعود، قال: تب، قال: إلى متى؟ قال: إلى أن تحزن الشيطان، أي: استمر. وهذا كما جاء في الحديث الذي مر بنا لما وقع العبد في الذنب قال: (إني أذنبت ذنباً فتب علي يا رب، فقال الله: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ، قد غفرت لك، ثم أذنب فقال: رب أذنبت، فقال: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به)، وهكذا ثم قال في آخر الحديث: (فليفعل ما شاء) أي: أنه كلما أذنب تاب، والمعنى: أن التوبة مقبولة إذا تاب توبة نصوحاً، وليس معنى ذلك: أنه أذن له بالمعاصي. قول المؤلف: (وفي المسند عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يحب العبد المفتن التواب) في بعض الألفاظ بدل المفتن: المفتقر، هذا الحديث فيه كلام لأهل العلم، قيل بضعفه، وقيل: إن إسناده ضعيف، وقيل: إن في إسناده راوياً لم يسم، وهو ضعيف جداً؛ لكن المؤلف رحمه الله ذكره لشواهده، ومن شواهده قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]. وهو في المسند وهو من زيادات عبد الله ، وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: إسناده ضعيف جداً، ورواه أبو يعلى في مسنده، والحديث ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، وقال: رواه عبد الله و أبو يعلى وفيه من لم أعرفه، ولفظه: (إن الله يحب العبد المؤمن المفتن التواب)، والمفتن بفتح التاء المشددة: هو الذي يفتن ويمتحن بالذنوب، ورواه في الحلية بلفظ: المفتقر بدل المفتن. وعلى كل حال: الحديث وإن كان ضعيفاً لكن له شواهد من القرآن ومن السنة، كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]. نعم.

 

 

 

 

 

 

 

جواب آخر على القول بأن الحسنات الماحية تكفر الذنوب بشرط اجتناب الكبائر

 

 

 

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأيضاً: من نام عن صلاة أو نسيها فصلاته إذا استيقظ أو ذكرها كفارة لها تبرأ بها الذمة من المطالبة، ويرتفع عنه الذم والعقاب ويستوجب بذلك المدح والثواب، وأما ما يفعله من التطوعات فلا نعلم القدر الذي يقوم ثوابه مقام ذلك، ولو علم فقد لا يمكن فعله مع سائر الواجبات، ثم إذا قدر أنه أمر بما يقوم مقام ذلك صار واجباً فلا يكون تطوعاً، والتطوعات شرعت لمزيد التقرب إلى الله تعالى، كما قال تعالى في الحديث الصحيح: (ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه..) الحديث. فإذا لم يكن العبد قد أدى الفرائض كما أمر لم يحصل له مقصود النوافل ولا يظلمه الله، فإنه تعالى لا يظلم مثقال ذرة بل يقيمها مقام نظيرها من الفرائض، كمن عليه ديون لأناس يريدون أن يتطوع لهم بأشياء، فإن وفاهم وتطوع لهم كان عادلاً محسناً، وإن وفاهم ولم يتطوع كان عادلاً، وإن أعطاهم ما يقوم مقام دينهم وجعل ذلك تطوعاً كان غالطاً في جعله تطوعاً، بل يكون من الواجب الذي يستحقونه ]. هذا أيضاً جواب آخر عن الاعتراض، الجواب الأول: أنه وإن كانت له استطاعة على الذنب فإن الإنسان مأمور بأداء الواجبات وترك المحرمات، ولا يكلف بترك الواجب أو بفعل المحرم لاعتماده على أن له ما يمحوه. وجاء الجواب الثاني عن هذا الاعتراض: وهو أنه قد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك)، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن صلاة الإنسان عندما يستيقظ من النوم بدون اختياره ومن النوم الذي يكون معذوراً فيه كمن يجعل أسباباً توقظه كمنبه الساعة أو بعض أهله، فهذا معذور، ومتى استيقظ صلى، فهذا عمل بأسباب يريد أن يصلي الفرض في وقته فإذا نام مبكراً، وجعل أسباباً توقظه، لكن فاته الفرض دون اختياره، أما إنسان لا ينام إلا متأخراً أو يؤقت الساعة على موعد العمل ويستيقظ مرة واحدة لصلاته وفطوره، فهذا ليس بمعذور، فهو تعمد ترك الصلاة؛ ولهذا لما نام النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره قال: (من يكلؤ لنا الصبح؟ قال بلال : أنا)، فالتزم بذلك، فنام النبي صلى الله عليه وسلم، فلابد أن تجعل لك أسباباً توقظك، وصاحب النوم قد يكون معذوراً وقد لا يكون معذوراً، فالمعذور الذي يجعل له أسباباً توقظه: كأن يكلم بعض إخوانه أو أهله يوقظونه أو جيرانه، أو يوقت الساعة أو الجوال حتى ينتبه، وشخص لا يريد أن يصلي، فيوقت الساعة على العمل، ويستقيظ مرة واحدة لصلاته وفطوره، فهذا متعمد للتأخير، وهذا يكون مرتداً إذا كانت هذه عادته، نعوذ بالله. ومن أخر الصلاة عن وقتها بعذر فكفارتها أن يصليها وقت ما يذكر، وكذلك الناسي؛ لأن الإنسان يعذر بالنوم والنسيان، فحديث: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) بين النبي صلى الله عليه وسلم أن كفارة الصلاة التي أخرت عن وقتها بالنوم أو بالنسيان أن يصليها حال استيقاظه وحال تذكره، وتبرأ بها الذمة فلا يطالب بها يوم القيامة، فلا يقال: صليت في غير وقتها، ويرتفع عنه الذم والعقاب، لا يذم شرعاً ولا عقلاً، وليس عليه عقوبة، ويستوجب بذلك المدح والثواب؛ لأنه أدى الفريضة بقدر استطاعته. لكن الشخص الذي يترك الفريضة ويقول: أنا أفعل تطوعاً وحسنات تمحوها، نقول له: أولاً: إنك لا تعلم القدر الذي يقوم مقام ثواب الفريضة، ولو قدر لك أن تعلم قد لا يمكنك أن تفعله مع الواجبات، ثم لو قدر أنه أمر بتطوع يقوم مقام الفريضة نقول: صار هذا التطوع واجباً، وانتقل من كونه تطوعاً إلى كونه واجباً، أما التطوع فإنه شرع لزيادة القربة إلى الله، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي الصحيح: (وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه). إذاً: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض من أسباب محبة الله. قول المؤلف رحمه الله: (فإذا لم يكن العبد قد أدى الفرائض كما أمر لم يحصل له مقصود النوافل)؛ لأن الإنسان يطالب أولاً بالفرائض، ثم بعد ذلك يأتي بالنوافل فيكون من أحباب الله، لكن إذا لم يكن أدى الفريضة كيف يقال: أنه يأتي بالنوافل؟! والذي أخل بالواجبات لا يقال: إنه يأتي بالنوافل، ولكن عليه أولاً أن يكمل الواجب، ثم يأتي بالنوافل، وذمته مشغولة بالواجب، فإذا فعل تطوعاً نقول: هذا التطوع يسمى فرضاً وليس تطوعاً، ولا يكون له تطوع إلا إذا كمل الفرض. فإذا لم يكن العبد قد أدى الفرائض كما أمر لم يحصل له مقصود النوافل ولا يظلمه الله، فإن الله لا يظلم مثقال ذرة، بل يقيمها مقام نظيرها من الفرائض. أي: إذا أخل الإنسان أخل مثلاً بواجب من واجبات الصلاة ثم صلى النوافل، لا يكتب له النوافل، ونقول له: ذمتك مشغولة بترك الواجب، والله لا يظلمك مثقال ذرة، فالله تعالى يثمن النقص الذي حصل في فريضتك من هذه النوافل، فإذا كملت الفريضة وتمت ثم تطوعت كتب لك ثوابها. ومثال ذلك: شخص ذمته مشغولة لشخص بألف ريال، فإذا أعطاه ألف ريال فهو عادل وإن أعطاه زيادة بدون شرط صار عادلاً محسناً، فإذا قال له: لك عندي ألف ريال لكن سأعطيك ألف ريال صدقة؛ لأنه فقير، وأوفيك الدين بعد ذلك، يقال له: كيف تتصدق عليه وذمتك مشغولة بالواجب؟! فعليك أن تجعل هذه الصدقة هي الدين الواجب، فأد الواجب ثم بعد ذلك تطوع. كذلك الإنسان الذي يريد أن يتنفل وذمته مشغولة بالواجب نقول له: أولاً كمل الواجب، فإذا نقص الواجب يكمل من النوافل؛ ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (فإن الله لا يظلم مثقال ذرة بل يقيمها) أي: يقيم النوافل مقام نظيرها من الفرائض، كمن عليه ديون لأناس يريد أن يتطوع لهم بأشياء فإن وفاهم وتطوع وأعطاهم الزيادة كان عادلاً محسناً، وإن وفاهم ولم يتطوع ولم يعطهم زيادة كان عادلاً، وإن أعطاهم ما يقوم مقام دينهم وجعل ذلك تطوعاً كان غالطاً في جعله تطوعاً، بل يكون من الواجب الذي يستحقه صاحبه، فإن قال المدين: شخص له عندي ألف ريال وأنا أريد أن أتصدق عليه بألف ريال، نقول: هذا غلط منك، فاجعل هذه الصدقة هي قضاء الدين. وبهذا يتبين أن الإنسان إذا أخل ببعض الواجبات ثم تطوع فالتطوع يكمل به الواجب، ولا يعطى ثواب النوافل، وإنما يكمل الواجب الذي عليه.

 

 

 

 

 

 

 

الأسئلة

 

 

 

 

 

 

 

حكم النية للعمل الصالح مع عدم التمكن من فعله

 

 

 

السؤال: لي أربعة أصدقاء حصل لهم حادث شنيع وهم يريدون حضور هذه الدورة، ولم يتمكنوا إلى هذا اليوم من حضورها، فهل لهم نية حضور هذا المجلس الصالح؟ الجواب: يرجى لهم إن شاء الله؛ لأن المسلم إذا نوى أن يفعل الخير ثم منعه مانع فإن الله يكتب له ما نواه، فإذا مرض العبد وكان يصلي مع الجماعة ولم يستطع، أو كان يصوم ولم يستطع بسبب المرض، أو يصلي في الليل ولكن منعه المرض؛ فإن الله يكتب له ما كان يعمله في حالة الصحة، وكذلك إذا سافر ولم يتمكن من أجل السفر أن يصوم عادته الإثنين والخميس أو يصلي في الليل، فإن الله يكتب له أجر ما كان يعمله. ثبت في الحديث الصحيح عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمله صحيحاً مقيماً)، وكذلك الإنسان إذا نوى وفعل الأسباب كأن نوى الحضور إلى حلقة درس علمي ثم منعه مانع فإن الله يكتب له ما نوى، فضلاً منه وإحساناً.

 

 

 

 

 

 

 

حكم التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم

 

 

 

السؤال: هل صحيح ما نسب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من إجازته التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته؟ الجواب: ليس بصحيح هذا، و شيخ الإسلام من أبعد الناس عن هذا، ومن أشد الناس نهياً عن هذا، ولا يجوز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، إنما يكون التوسل بأسماء الله وصفاته، وبالعمل الصالح، وبالتوحيد والإيمان، وبدعاء الحي الحاضر، أما التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو جاه غيره، أو بجاه فلان أو حرمة فلان فإن هذا من البدع.

 

 

 

 

 

 

 

الجواب عن استشكال تكفير الكبائر بالنوافل مع كونه لا يحصل بالفرائض

 

 

 

السؤال: أرجو التكرم بتوضيح قول الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ [هود:114]، حيث ذكرتم أن النوافل تكفر الكبائر بعكس الفرائض فإنها تكفر الصغائر، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (الجمعة إلى الجمعة..) الحديث، وهذا أحدث عندي إشكالاً: إذ كيف يحصل العبد تكفير الكبائر بالنوافل، وهذا ما لا يحصل له بالفرائض؟ الشيخ: هذا جاء في جواب شيخ الإسلام عن الوعيدية، وذلك إن هذا جاء في الفرائض؛ لأن الله تعالى قال: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31]، يعني: الصغائر، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم : (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)، فإذا فعل الإنسان الفرائض وترك الكبائر كفر الله سبحانه وتعالى الصغائر فضلاً منه وإحساناً. وفي الحديث: (فتنة الرجل في أهله وماله تكفرها الصلاة والصيام والصدقة)، لكن هذه غير الفرائض، فمثلاً الحسنات الماحية قد يكفر

 

 

 

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ السبب الرابع الدافع للعقاب: دعاء المؤمنين للمؤمن مثل صلاتهم على جنازته. فعن عائشة و أنس بن مالك رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون إلا شفعوا فيه). وعن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه) رواهما مسلم . وهذا دعاء له بعد الموت، فلا يجوز أن تحمل المغفرة على المؤمن التقي الذي اجتنب الكبائر وكفرت عنه الصغائر وحده، فإن ذلك مغفور له عند المنازعين، فعلم أن هذا الدعاء من أسباب المغفرة للميت ]. هذا هو السبب الرابع من الأسباب التي تسقط بها العقوبة عن المسلم ويسلم بها من شر الذنب، وقد سبق ثلاثة أسباب: السبب الأول: التوبة، السبب الثاني: الاستغفار، والسبب الثالث: الحسنة الماحية. وهذا هو السبب الرابع الدافع للعقاب، وهو دعاء المؤمنين للمؤمن واستغفارهم له، وهذا مما يدفع الله به العذاب عن المؤمن حياً كان أو ميتاً، وبهذا يتبين أن من ارتكب الكبيرة فإنه لا يكون كافراً كما يقول الخوارج، ولا يكون في منزلة بين المنزلتين كما يقول المعتزلة، وإنما يكون مؤمناً معه أصل الإيمان وإن كان إيمانه ناقصاً. استدل المؤلف رحمه الله بحديثين في صحيح مسلم رحمه الله، الحديث الأول حديث عائشة و أنس : (ما من ميت يصلى عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون إلا شفعوا فيه). والثاني حديث ابن عباس : (ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه). وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه، فالدعاء ينفع الله به الحي والميت جميعاً، فالحي الذي يصلي على الجنازة له قيراط من الأجر لو صلى عليها، والميت ينفعه الله بهذا الدعاء الذي يدعو به الأحياء، ويشفعهم الله فيه. وهذه المغفرة التي تقع للميت بدعاء المصلين عليه يقول المؤلف: لا يجوز أن تحمل على المؤمن التقي الذي اجتنب الكبائر وكفرت عنه الصغائر، فإن المؤمن التقي الذي اجتنب الكبائر وكفرت عنه الصغائر مغفور له حتى عند المنازعين من الخوارج والمعتزلة، إذا أدى الفرائض واجتنب الكبائر غفرت له الصغائر، يقول المؤلف: (فعلم أن هذا الدعاء من أسباب المغفرة للميت) حتى من عليه الكبيرة ينفعه الله بذلك.

 

 

سقوط عقوبة الذنب بأعمال البر التي تعمل عن الميت وانتفاعه بها

 

 

 

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ السبب الخامس: ما يعمل عنه من أعمال كالصدقة ونحوها، فإن هذا ينتفع به بنصوص السنة الصحيحة الصريحة واتفاق الأئمة رحمهم الله، وكذلك العتق والحج، بل قد ثبت في الصحيحين أنه قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)، وثبت مثل ذلك في الصحيح في صوم النذر من وجوه أخرى، ولا يجوز أن يعارض هذا بقوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]، لوجهين: أحدهما: أنه قد ثبت بالنصوص المتواترة وإجماع سلف الأمة أن المؤمن ينتفع بما ليس من سعيه، كدعاء الملائكة واستغفارهم له، كما في قول الله تبارك وتعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [غافر:7-9]. ودعاء النبيين والمؤمنين واستغفارهم، كما في قوله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103]، وقوله سبحانه: وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ [التوبة:99]، وقوله عز وجل: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19]، وكدعاء المصلين للميت ولمن زاروا قبره من المؤمنين. الثاني: أن الآية ليست في ظاهرها إلا أنه ليس له إلا سعيه، وهذا حق فإنه لا يملك ولا يستحق إلا سعي نفسه، وأما سعي غيره فلا يملكه ولا يستحقه، لكن هذا لا يمنع أن ينفعه الله تعالى ويرحمه به، كما أنه دائماً يرحم عباده بأسباب خارجة عن مقدورهم، وهو سبحانه بحكمته ورحمته يرحم العباد بأسباب تفعلها العباد ليثيب أولئك على تلك الأسباب، فيرحم الجميع كما في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل يدعو لأخيه بدعوة إلا وكل الله به ملكاً كلما دعا لأخيه قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل). وكما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: (من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان أصغرهما مثل أحد)، فهو قد يرحم المصلي على الميت بدعائه له، ويرحم الميت أيضاً بدعاء هذا الحي له ].

 

 

 

أقوال العلماء في وصول الثواب إلى الميت

 

 

 

هذا هو السبب الخامس من الأسباب التي يدفع الله بها العقوبة والعذاب عن الشخص، وهو ما يهدى للميت من ثواب أعمال البر، والذي يهدى للميت من ثواب أعمال البر بالاتفاق عند أهل السنة والجماعة أربعة أشياء: الدعاء، والصدقة، والحج، والعمرة، والأضحية داخلة في ذلك لأنها نوع من الصدقة، فهذه أربعة أشياء متفق عليها، وكذلك الصوم الواجب؛ فإذا كان عليه صوم واجب كصيام رمضان أو النذر أو الكفارة قضي عنه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)، فهذه من الأعمال التي ينتفع بها الميت بالاتفاق. أما إهداء ثواب الصلاة كأن يصلي ركعتين وينوي ثوابها للميت، أو يصوم أياماً ويهدي ثوابها للميت، أو يقرأ القرآن ويهدي ثوابه للميت، أو يسبح ويهدي ثوابه للميت، أو يطوف بالبيت سبعة أشواط ويهدي ثوابها للميت، فهذا موضع خلاف بين أهل العلم: فمن العلماء من ذهب إلى أنها تنفع الميت، وذهب إلى هذا الحنابلة والأحناف قياساً على الأربعة. ومن العلماء من قال: نقف عند ما وردت به النصوص؛ لأن العبادات توقيفية، ولا قياس في العبادات، وإلى هذا ذهب المالكية والشافعية، وقالوا: نقتصر على الدعاء والصدقة والعمرة والحج والأضحية وصوم الواجب. وهذا هو الأرجح؛ أن نقتصر على هذه الأربع؛ لأن العبادات توقيفية، ولم يرد سوى هذه الأربعة، فلم يرد أن الميت يصلى عنه ركعتين، أو يصام عنه يوم ويهدى له ثوابه، أو يقرأ القرآن ويهدى ثوابه للميت، ولكن من أجازه من العلماء قاسوا على هذه الأربع، ومن منع قال: لا قياس في العبادات، فالعبادات توقيفية، ووصفوا العبادات بالمنع والحظر، وهذا هو الأصوب، فما أهدي للميت من ثواب أعمال البر ينفعه الله به، ويدفع عنه العقاب بذلك، وينتفع بالصدقة وكذلك العتق، فالعتق داخل تحت الصدقة. يقول المؤلف رحمه الله: (إن هذا ينتفع به بنصوص السنة الصحيحة الصريحة كالصدقة ونحو ذلك بل قد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)، قوله: (وعليه) أي: الصوم الواجب، أما صوم النفل والتطوع فهو محل خلاف. وكذلك الخلاف أيضاً في صوم النذر، جاء في اللفظ الآخر: (من مات وعليه صوم نذر)، فبعض العلماء حمله على صوم النذر خاصة، أما الصوم الذي وجد بأصل الشرع كصوم رمضان فلا يقضى عنه، والصواب: أنه يقضى على الميت الواجب سواء كان صوم رمضان أو صوم نذر أو صوم كفارة، فهذا ينفع الله به الميت، ويكفر عنه، ويدفع الله به العقوبة عنه إذا أهدي له، وكذلك الدعاء أو صدقة أو عمرة أو حج.

 

 

 

 

 

 

 

الرد على من يمنع انتفاع الميت بعمل الحي

 

 

 

قول المؤلف رحمه الله: (ولا يجوز أن يعارض هذا بقوله: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39])، فهذه احتج بها أهل البدع كالمعتزلة وغيرهم على أن الميت لا ينتفع إلا بسعي نفسه فقط، وقالوا: لا ينتفع الميت لا بالدعاء ولا بالصدقة ولا بالحج ولا بالعمرة، ولا ينتفع إلا بما تسبب فيه في الحياة كالعلم الذي ينتفع به، أو ولد صالح، كما جاء في الحديث، وكذلك الصدقة الجارية، واحتجوا بهذه الآية: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39] وقالوا: إن المعنى: لا ينتفع الإنسان إلا بسعيه، وأما أهل السنة والجماعة فقالوا: إن الإنسان ينتفع بسعيه وبسعي غيره إذا وهبه له، وأجابوا عن هذه الآية بجوابين ذكرهما المؤلف رحمه الله هما: الجواب الأول: أنه ثبت أن هذه الآية ليس فيها دليل على منع الإنسان من الانتفاع بسعي غيره، وقد ثبت بالنصوص المتواترة وإجماع سلف الأمة أن المؤمن ينتفع بما ليس من سعيه: كدعاء الملائكة، والاستغفار له، كما في الآية الكريمة: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر:7]، وينتفع بدعاء النبيين، ودعاء المؤمنين واستغفارهم، كما في قوله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103]، وقوله سبحانه: وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ [التوبة:99] فتنفعهم صلوات الرسول، وقوله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19]، وينفعه دعاء ولده أيضاً، وكذلك دعاء المصلين عليه، ودعاء زائر القبور. الجواب الثاني: أن قوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39] لم ينف الانتفاع وإنما نفى الملك، وفرق بين نفي الملك ونفي الانتفاع، والمعتزلة قالوا: الآية فيها حصر فقوله تعالى: لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]، يدل على أنه لا ينتفع الإنسان إلا بسعيه. وفي الجواب الثاني نقول: الآية ليس فيها نفي الانتفاع وإنما فيها نفي الملك، فاللام للملك، والمعنى: لا يملك الإنسان إلا سعيه، وأما سعي غيره فهو لغيره، إن أبقاه لنفسه فهو لنفسه، وإن وهبه لغيره انتفع به، فأنت لا تملك إلا سعيك وأما سعي غيرك فهو ملك لذلك الغير، إن أبقاه لنفسه فهو له وإن وهبه لغيره انتفع به، ولهذا قال المؤلف: (لكن هذا لا يمنع أن ينفعه الله ويرحمه به، كما أنه دائماً يرحم عباده بأسباب خارجة عن مقدورهم)، فهو سبحانه بحكمته ورحمته يرحم العباد بأسباب يفعلها العباد ليثيب أولئك على تلك الأسباب فيرحم الجميع، مثل: الإنسان إذا دعا لأخيه فله أجره حينما دعا لأخيه والميت ينتفع بهذا الدعاء، وإذا تصدق عن أخيه له أجر؛ لأنه أحسن لأخيه وصار الثواب للمتصدق عنه، كما في الحديث الصحيح أنه قال: (ما من رجل يدعو لأخيه بدعوة إلا وكل الله به ملكاً كلما دعا لأخيه قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل)، فإذا دعوت لأخيك فلك مثلها، والحديث صحيح رواه مسلم وغيره. فإذا دعوت لأخيك المسلم أجابك ملك وقال: آمين ولك بالمثل، أي: اللهم استجب ولك أيها الداعي مثل ذلك من الأجر، فتكون دعوت لأخيك واستفاد أخوك من دعائك وأنت تستفيد وتعطى مثل ذلك. وكما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان أصغرهما مثل أحد)، فالذي يصلي على الجنازة له قيراط من الأجر فاستفاد هو، والميت استفاد بأن يشفعه الله فيه، فانتفع الحي والميت؛ ولهذا قال: (فهو قد يرحم المصلي على الميت بدعائه له ويرحم الميت أيضاً بدعاء هذا الحي له).

 

 

 

 

 

 

سقوط عقوبة الذنب بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

 

 

 

قال المصنف رحمه الله: [ السبب السادس: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره في أهل الذنوب يوم القيامة، كما قد تواترت عنه أحاديث الشفاعة مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي). وقوله صلى الله عليه وسلم: (خيرت بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة؛ لأنها أعم وأكثر، أترونها للمتقين؟ لا ولكنها للمذنبين المتلوثين الخطائين) ]. هذا هو السبب السادس من الأسباب التي تسقط بها العقوبة عن المسلم، وهو: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره في أهل الذنوب يوم القيامة. وأحاديث الشفاعة بلغت حد التواتر فتفيد العلم بيقين، ومع كونها متواترة أنكرها الخوارج والمعتزلة وقالوا: لا شفاعة للعاصي ولو كان موحداً، فأنكروها مع أنها متواترة، والمتواتر لا يجوز إنكاره، ومن أنكر المتواتر قد يحكم بكفره في بعض الأحيان، لكن هؤلاء متأولون؛ ولهذا أنكر عليهم أهل السنة وبدعوهم وصاحوا بهم وضللوهم: كيف تنكرون النصوص وهي متواترة؟! وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يشفع أربع شفاعات، في كل مرة يحد الله له حداً، والأنبياء يشفعون، والملائكة يشفعون، والأفراط يشفعون، والشهداء يشفعون، فكيف تنكرونها وهي أحاديث صحيحة؟! فمنها: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) أي: لأهل الكبائر الموحدين. ومنها: حديث أبي هريرة : (من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) والحديث في الصحيح، فمن قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه استحق الشفاعة ولو مات عاصياً. وكذلك الحديث الذي ذكره المؤلف: (خيرت بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة؛ لأنها أعم وأكثر أترونها للمتقين؟ لا ولكنها للمذنبين المتلوثين الخطائين) أي: من الموحدين، فالمؤمن الموحد الذي مات على التوحيد استحق الشفاعة ما دام قد مات على التوحيد. أما المشرك فلا نصيب له في الشفاعة؛ لأنه مات على الشرك الأكبر أو الكفر الأكبر أو النفاق الأكبر، وهذا لا خلاف فيه، كما قال الله: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48]، وقال تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ [البقرة:254] وقال تعالى: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر:18]، وهذه كلها في الكفار.

 

 

سقوط عقوبة الذنب بالمصائب، وأهوال القبر والقيامة

 

 

 

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ السبب السابع: المصائب التي يكفر الله بها الخطايا في الدنيا، كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب، ولا هم ولا حزن، ولا غم ولا أذي، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه) ]. السبب السابع من الأسباب التي يدفع بها العقوبة عن العاصي: المصائب التي يكفر الله بها من خطاياه، كالأمراض والهموم والغموم والأحزان وفقد الأحبة والمصائب في النفس أو في المال أو في الولد، فكل هذه يكفر الله بها الخطايا، كما في الصحيحين: (ما يصيب المؤمن من وصب -مرض-، ولا نصب -تعب-، ولا هم ولا حزن ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)، وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ السبب الثامن: ما يحصل في القبر من الفتنة والضغطة والروعة، فإن هذا مما تكفر به الخطايا ]. السبب الثامن: مما يدفع الله به العقوبة عن العاصي هو: الفتنة، والمقصود سؤال منكر ونكير حين يسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وكل هذا امتحان يحصل له به تعب، فإذا حصل له التعب كفر الله من خطاياه، مثل الإنسان الذي يمتحن في الدنيا ويحصل له تعب من الامتحان، فكذلك هنا هذا التعب يكفر الله به من الخطايا. ومن ذلك ضغطة القبر كما في الحديث: (ما من ميت يموت إلا ضمه القبر ضمة)، وفي الحديث أنه: (لو نجا منها أحد لنجا سعد بن معاذ) وهو الذي اهتز له عرش الرحمن، أصابته ضغطة القبر والروعة، وهذا مما تكفر به الخطايا. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ السبب التاسع: أهوال يوم القيامة وكربها وشدائدها ]. هذا هو السبب التاسع، وهو أهوال يوم القيامة وكربها وشدائدها، فهي مما يكفر الله به الخطايا، فقد يكون الإنسان مذنباً ثم تصيبه أهوال وشدائد وكرب في موقف القيامة من دنو الشمس فوق رأسه، وكونه يلجمه العرق، وغير ذلك من الأهوال والشدائد، فهذه يكفر الله بها الخطايا. فقد يحصل لبعض الناس الشدائد والكرب وأهوال وبعضهم لا يحصل له، فالذي يحصل له كرب وشدائد يكفر الله به الخطايا. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ السبب العاشر: رحمة الله وعفوه ومغفرته بلا سبب من العباد ]. هذا هو السبب العاشر: رحمة الله وعفوه ومغفرته بلا سبب؛ لأن المؤمن العاصي تحت مشيئة الله إن شاء الله غفر له ورحمه بتوحيده وإيمانه وإسلامه من دون سبب وأدخله الجنة من أول وهلة، وإن شاء سبحانه عذبه بقدر جرائمه ثم يخرجه من النار، وليس كل العصاة يدخلون النار، فبعضهم يدخل وبعضهم لا يدخل، وبعضهم يغفر له وبعضهم لا يغفر له، فهم تحت مشيئة الله، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]، فإذا عفا الله عن العبد وغفر له سقطت عنه العقوبة، وإن كان مستحقاً لها، هذا هو السبب العاشر: (رحمة الله وعفوه ومغفرته بلا سبب من العباد). قال المصنف رحمه الله: [ فإذا ثبت أن الذم والعقاب قد يدفع عن أهل الذنوب بهذه الأسباب العشرة، كان دعواهم أن عقوبات أهل الكبائر لا تندفع إلا بالتوبة مخالف لذلك ]. يعني: هذه الأسباب العشرة يدفع الله بها عن العصاة الموحدين العقوبة، وعلى هذا ترتفع العقوبات عن أهل الكبائر بواحد من هذه الأسباب العشرة، فقول المعتزلة والخوارج: إن صاحب الكبيرة إذا لم يتب لابد أن يخلد في النار، باطل؛ لأن العقوبة تدفع عن مرتكب الكبيرة بواحد من هذه الأسباب العشرة. فعند الخوارج صاحب الكبيرة -إذا زنى أو سرق- يخلد في النار إلا إذا تاب، والمرابي مخلد في النار إلا إذا تاب، والعاق لوالديه مخلد في النار إلا إذا تاب. ونحن نقول: هذا ليس بصحيح، فقد تدفع عنه العقوبة ولو لم يتب بواحد من الأسباب العشرة المذكورة.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد