بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(المتن)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
(مِنْ أَحْمَدَ ابْنِ تَيْمِيَّة عفا الله عنه إلَى مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ هَذَا الْكِتَابُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ الْمُنْتَمِينَ إلَى جَمَاعَةِ الشَّيْخِ الْعَارِفِ الْقُدْوَةِ أَبِي الْبَرَكَاتِ عَدِيِّ بْنِ مُسَافِرٍ الْأُمَوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُمْ وَفَّقَهُمْ اللَّهُ لِسُلُوكِ سَبِيلِهِ وَأَعَانَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَهُمْ مُعْتَصِمِينَ بِحَبْلِهِ الْمَتِينِ؛ مُهْتَدِينَ لِصِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَجَنَّبَهُمْ طَرِيقَ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالِاعْوِجَاجِ؛ الْخَارِجِينَ عَمَّا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الشِّرْعَةِ وَالْمِنْهَاجِ؛ حَتَّى يَكُونُوا مِمَّنْ أَعْظَمَ عَلَيْهِم الْمِنَّةَ؛ بِمُتَابَعَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛ وَبَعْدُ:
فَإِنَّا نَحْمَدُ اللهَ إلَيْكُمْ اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَهُوَ لِلْحَمْدِ أَهْلٌ؛ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَنَسْأَلُهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكْرَمِ الْخَلْقِ عَلَى رَبِّهِ وَأَقْرَبِهِمْ إلَيْهِ زُلْفَى؛ وَأَعْظَمِهِمْ عِنْدَهُ دَرَجَةً؛ مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا؛ أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ وَأَكْمَلَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ الدِّينَ وَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ النِّعْمَةَ وَجَعَلَهُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ فَهُمْ يُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً هُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ.
وَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَسَطًا أَيْ عَدْلًا خِيَارًا وَلِذَلِكَ جَعَلَهُمْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ هَدَاهُمْ لِمَا بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ جَمِيعَهُمْ مِنْ الدِّينِ الَّذِي شَرَعَهُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ ثُمَّ خَصَّهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا مَيَّزَهُمْ بِهِ وَفَضَّلَهُمْ مِنْ الشِّرْعَةِ وَالْمِنْهَاجِ الَّذِي جَعَلَهُ لَهُمْ).
(الشرح)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فإنني أحمد الله سبحانه وتعالى أن وفقنا لدراسة هذه الرسالة القيمة للإمام العلامة شيخ الإسلام " أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني ".
وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعل مجلسنا هذا مجلس علم وخير، تنزل عليه السكينة وتغشاه الرحمة وتحفه الملائكة ويذكره الله فيمن عنده.
فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده».
وإني أبشركم أيها الإخوان وأهنئكم بهذا الخير العظيم، حيث وفقكم الله سبحانه وتعالى بسلوك سبيل العلم، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة».
وقال ربنا سبحانه وتعالى: )قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)([الزمر/9].
وقال سبحانه: )يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ([المجادلة/11].
فهنيئًا لكم حيث سلكتم سبيل العلم، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وصوابًا على هدي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فإن طلب العلم وسلوك سبيل العلم من أفضل القربات وأجل الطاعات.
ولهذا فإنه يجب على العبد أن يخلص طلبه للعلم، وأن يكون قصده بذلك وجه الله والدار الآخرة، لا رياء ولا سمعة ولا مالًا ولا جاهًا ولا منصبًا، بأن ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره؛ لأن الأصل في الإنسان أنه لا يعلم.
ولهذا قيل للإمام أحمد رحمه الله: كيف يخلص طلبه للعلم؟ قال: ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره؛ لأن الأصل في الإنسان أنه لا يعلم، قال الله تعالى: )وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا([النحل/78].
فالأصل في الإنسان عدم العلم، فطالب العلم إذا أخلص عمله لله فهو على خير عظيم، حتى إن العلماء قالوا: " إن طلب العلم أفضل من نوافل العبادة ".
بمعنى أنه لو تعارض طلبك للعلم مع أداء النوافل نوافل الصلاة أو نوافل الصيام فإنك تقدم طلب العلم، فإن لم تتمكن من أداء صلاة الليل أو من صلاة الضحى فإنك تقدم طلب العلم فهو أفضل من النوافل.
وكذلك أيضًا إذا لم تتمكن من صيام الاثنين والخميس وأيام البيض وكنت لا تستطيع أن تجمع بين طلب العلم وبين الصيام فإن طلب العلم مُفضل مقدَّم، فهو أفضل من نوافل العبادة، ما ذاك إلا لأن المسلم حينما يطلب العلم يتبصر ويتفقه في دينه، فيتعلم فيعلم الحلال والحرام.
وإذا تعلم صار ذلك طريقًا إلى العمل ووسيلة إلى العمل، فإذا به يتبصر ويتفقه في دين الله فينقذ نفسه من الجهل وينقذ غيره من الجهل.
وهذا من علامة الخير من علامات إرادة الله بعبده خيرًا، كونه يوجهه إلى طلب العلم ويتفقه في دين الله هذا من علامات الخير وأن الله أراد به خيرًا، كما ثبت في الصحيحين من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وأنا قاسم والله المعطي».
فهذا الحديث الشريف الذي رواه الشيخان له منطوق وله مفهوم: منطوقه: أن من فقهه الله في الدين فقد أراد الله به خيرًا. ومفهومه: أن من لم يفقهه الله في الدين لم يرد به خيرًا.
وقد تكاثرت النصوص في فضل العلم وطلب العلم، قد ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها طائفة أجادب أمسكت الماء فنفع الله به الناس فسقوا وزرعوا، وكان منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله فنفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به».
قد ثبت في الأحاديث الصحيحة: «أن الملائكة يتتبعون مجالس الذكر فإذا وجدوها قالوا: هذه طلبتكم فيحفونهم».
قد ثبت أيضًا: أن الله تعالى يغفر لأهل الذكر وأهل العلم في مقدمة أهل الذكر، وأنه يأتي إليهم من ليس منهم فتشمله الرحمة فيقول الرب سبحانه: «هم القوم لا يشقى بهم جليسهم».
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر».
فهنيئًا لكم حيث وجهكم الله لهذه الوجهة الشريفة فأقبلتم على طلب العلم، وإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله U، وإخلاص العمل والصدق مع الله في إخلاصكم لله في طلبكم للعلم.
وعلى طالب العلم أن يحرص كل الحرص ويجد في طلب العلم، فيتعلم فيسلك المسالك المتنوعة، فإنه وجد في هذا العصر وسائل متعددة في طلب العلم، فمنها حضور الحلقات في المساجد والدروس العلمية.
ومنها الالتحاق بالجامعات والكليات والمدارس والمعاهد العلمية، ومنها حضور المحاضرات والندوات، ومنها سماع البرامج المفيدة في الإذاعة إذاعة القرآن وغيرها، ومنها سماع الأشرطة المفيدة النافعة، ومنها القراءة في كتب أهل العلم في القديم والحديث.
وعلى الطالب أن يتحرى في قراءته للكتب أن يقرأ لأهل العلم الذين هم على عقيدة السلف الصالح على مذهب أهل السنة والجماعة، وليحذر من القراءة في كتب أهل البدع والضلال.
وكذلك أيضًا من سبل العلم سؤال العلماء والاتصال بهم والأخذ عنهم، وسؤالهم عما أشكل عليهم مباشرةً أو عن طريق الهاتف، كل هذه من وسائل تعلم العلم.
ثم إن على طالب العلم أن يعمل بعلمه، فإن عمله بالعلم يجعله من المنعم عليهم أهل الصراط المستقيم الذين أنعم الله عليهم، فمنَّ الله عليهم بالعلم والعمل.
وكذلك أيضًا عملك بالعلم حفظٌ له وبقاءٌ له، وكما قيل: " العلم يهتف بالعمل(.....) فإن أجابه وإلا ارتحل ".
فعلى طالب العلم أن يتخلق بالأخلاق الفاضلة ويتخلق بأخلاق أهل العلم، ويحذر من الانحراف والزيغ في معتقده أو في عمله أو مشابهة أهل البدع والضلال، وأن يكون قدوة حسنة في اعتقاده، وفي عمله، وفي أخلاقه، وفي معاملته مع الناس.
وأن يقتدي أيضا بالعلماء الربانيين كالصحابة والتابعين وأتباعهم والأئمة كشيخ الإسلام أحمد بن تيمية صاحب هذه الرسالة العظيمة، وغيره من أهل العلم كالشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب.
وهذه الرسالة ألفها شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني المولود سنة إحدى وستين وستمائة من الهجرة، والمتوفى سنة ثمان وعشرين وسبعمائة رحمة الله عليه رحمه الله رحمة واسعة.
هذا الإمام المجاهد الصابر الذي أظهر معتقد أهل السنة والجماعة بعد اندثاره، وأظهر الله به الحق، وقمع به أهل الشرك والبدع والضلال، وتتلمذ على يديه أئمة فحول من أبرزهم الكبير العلامة ابن القيم الجوزية رحمة الله عليه.
فهذا الإمام المجاهد الصابر الذي قمع الله به أهل الشرك والبدع وأحيا به السنة، هو الذي قارع أهل البدع وأبطل شبههم، وقال كما في كتابه " بيان موافقة الصريح المعقول للصحيح المنقول ".
قال: «أنا كفيل بأن أجعل كل دليل يستدل به أهل الباطل حجة عليهم أقلبه حجةً عليهم، كل دليل يستدل به أهل البدع وأهل الباطل فإني كفيل بأن أقلبه حجة عليهم، وأبيّن له أن هذا الدليل الذي يستدل به دليل عليه وحجة عليه» رحمة الله عليه.
وهذه الرسالة سميت بـ " الوصية الكبرى " لتوسعه رحمة الله عليه في الوصية وبيان ما تشمله من العقائد والأعمال والأحوال، وله رسالة أخرى تسمى " الوصية الصغرى " (.....) وقد قرأناها في دورة مضت قريبًا وهي " الوصية الصغرى ".
فوجه الإمام رحمه الله هذه الرسالة إلى عموم المسلمين، إلى عموم من يقتني هذا الكتاب، فقال رحمة الله عليه، افتتح هذه الرسالة بالبسملة بـ)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)( [الفاتحة/1].
اقتداءً بالكتاب العزيز، تأسيًا بكتاب الله عز وجل، فإن الله سبحانه وتعالى افتتح كتابه بالبسملة )بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)([الفاتحة/1-2].
والشيخ الإمام رحمه الله افتتح كتابه بالبسمة تأسيًا بالكتاب العزيز، ثم ابتدأه فقال: (من أحمد بن تيمية إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين).
اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم في كتابته وفي مخاطباته عليه الصلاة والسلام ورسائله إلى الملوك ورؤساء القبائل والعشائر وغيرهم، فإنه عليه الصلاة والسلام لما كتب الكتاب إلى هرقل عظيم الروم قال: «من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى؛ أما بعد: أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)[آل عمران:64]».
فإن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بذكر اسمه فقال: «من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم»، فشيخ الإسلام اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (من أحمد بن تيمية إلى من أرسل إليه هذا الكتاب).
أرأيتم كيف هذا الإمام يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء! من أحمد بن تيمية إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين.
إذًا هذه الوصية لعموم المسلمين وسميت كبرى لتوسعه رحمه الله فيها، وتفصيله في بيان ما تشتمل عليه، وذكر أصول الإيمان وأصول الدين ثم توسع فيها قال: (من أحمد بن تيمية إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين المنتسبين إلى السنة والجماعة).
ثم خصص فقال: (المنتمين إلى جماعة الشيخ العارف القدوة أبي البركات عدي بن مسافر الأموي رحمه الله ومن نحا نحوهم).
فكأنه وجه هذه الرسالة إلى أبي البركات عدي بن مسافر الأموي؛ إما لأنهم طلبوا منه أن يكتب لهم هذه الرسالة، أو لأنه رأى أن يوجه الخطاب إليهم لعنايته بهم، وكونه يريد أن يخصهم بهذه الوصية؛ لأنه رحمه الله رأى أنهم على معتقد أهل السنة والجماعة فأراد أن يزودهم.
أو لأنهم طلبوا منه أن يكتب لهم هذه الرسالة ولم يقدر لي أن أطلع على ترجمة أبي البركات عدي بن مسافر الأموي حتى يتبين معتقده هل عليه ملحوظات في العقيدة أو ليس عليه ملحوظات ؟.
ولكن المؤلف رحمه الله وجه الخطاب إلى عموم المسلمين، ثم خص بعد التعميم، فوجه الخطاب إلى أبي البركات عدي بن مسافر رحمه الله ودعا له، وهذا من نصحه رحمه الله، من نصحه أنه يعلم ويدعو، كما أن الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يقول في رسائله: " اعلم أرشدك الله لطاعته " فيدعو لطالب العلم.
(اعلم أرشدك الله لطاعته أن الحنفية ملة إبراهيم أن تعبد الله مخلصًا له الدين).
ويقول: (أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتولاك في الدنيا والآخرة وأن يجعلك مباركًا حيثما كنت، وأن يجعلك ممن إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر).
فهؤلاء العلماء الربانيون يعلمون الناس ويدعون لهم وهذا من نصحهم، يعلمك ويدعو لك، فالشيخ الإمام أحمد بن تيمية رحمه الله وجه هذه النصيحة وهذه الوصية العظيمة ودعا لهم فقال: (وفقهم الله لسلوك سبيله).
(وفقهم الله) التوفيق من الله؛ لأن الله إذا وفق العبد، فإنه يسلك سبيل الحق، وإذا لم يوفق ويخذل فإنه يوكل إلى نفسه ولا يعان، ولله تعالى نعمة دينية خص بها المؤمن دون غيره، قال الله تعالى:
)وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً ([الحجرات/7-8].
فلله تعالى نعمة دينية خصه بها دون الكافر، خلافًا للمعتزلة والقدرية الذين يقولون: إن الله تعالى بين طريق الخير وطريق الشر لأهل الإيمان ولأهل الكفر على حد سواء، وليس للمؤمن خصوصية، وهذا من أبطل الباطل، فالله تعالى خص المؤمن بنعمة دينية دون الكافر، فوفقهم الله لسلوك سبيله، وسبيل الله هو الصراط المستقيم، هو العمل بالكتاب والسنة، وهو ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، هذا هو سبيل الله.
سبيل الله دينه وحبله المتين، هو اتباع شرع الله ودينه، والعمل بكتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
(وأعانهم على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم).
هذه دعوة أخرى دعاء، قال: (وأعانهم على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم).
وهذا فيه بيان أن الإعانة من الله وأن من لم يعنه الله فإنه لا يتمكن من طاعة الله وطاعة رسوله، إذا لم يعن الله العبد فلا يتمكن "إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده ".
وهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة أن الله تعالى يعين المؤمن، بخلاف المعتزلة والقدرية فلا يقولون إن الله يعين أحدًا؛ بل يقولون: ليس لله إعانة لأحد، بل المؤمن يختار الخير بنفسه بدون إعانة، والكافر يختار طريق الشر بنفسه بدون خذلان، وهذا من أبطل الباطل، فالله تعالى يعين المؤمن، ويخذل الكافر.
(وجعلهم معتصمين بحبله المتين). هذه الدعوة الثالثة، دعا لهم، وجعلهم الله معتصمين بحبله المتين، حبل الله هو دين الله وشرعه، كما قال سبحانه: )وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا([آل عمران/103].
جعلهم معتصمين بحبله، من اعتصم بحبل الله فهو من الناجين، من اعتصم بحبل الله المتين، المتين القوي، فهو دين الله وشرعه.
(مهتدين لصراط الذين أنعم الله عليهم).
هذا وصف، يعني جعلهم معتصمين بحبل الله المتين وجعلهم مهتدين بصراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، هذا هو طريق المنعم عليهم الذين أنعم الله عليهم بالعلم والعمل، منَّ الله عليهم بالعلم ومنَّ الله عليهم بالعمل فصاروا معتصمين بحبل الله مهتدين لصراطه المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم وهم هؤلاء الطبقات الأربعة، النبيون، والصديقون، والشهداء، والصالحون.
قال الله تعالى في كتابه المبين: )وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)([النساء/69].
(وجنبهم طريق أهل الضلال والاعوجاج، الخارجين عما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من الشرعة والمنهاج).
جنبهم يعني جعلهم في جانب، وأهل الضلال في جانب آخر، يعني جعلهم بعيدين متجنبين لطريق أهل الضلال والاعوجاج، الخارجين عما بعث الله به رسوله من الشريعة والمنهاج، وهم طائفتان:
الطائفة الأولى: المغضوب عليهم الذين علموا ولكنهم لم يعملوا، ويدخل في ذلك اليهود دخولًا أوليًا، وكل من فسد من علماء هذه الأمة فهو من المغضوب عليهم.
والطائفة الثانية من أهل الضلال: الضالون الذين لم يتعلموا وإنما عملوا على جهل وضلال، ليس عندهم بصيرة كالصوفية والزهاد الذين يتخبطون في الظلمات من دون بصيرة ولا علم.
كما أمرنا ربنا سبحانه وتعالى أن ندعو في كل ركعة من ركعات الصلاة بأن يهدينا صراط المنعم عليهم، وأن يجنبنا طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين في قوله سبحانه وتعالى في الفاتحة التي هي ركن في كل ركعة من ركعات الصلاة: )اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)([الفاتحة/6-7].
هذا الدعاء أنفع دعاء وأعظم دعاء وأجمع دعاء وحاجة العبد إلى هذا الدعاء أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب، بل أعظم من حاجته إلى النفس الذي يتردد بين جنبيه؛ لأنه إذا فقد الطعام والشراب وفقد الهواء مات والموت لابد منه، ولا يضر الإنسان كونه يموت إذا كان مستقيمًا على صراط الله ودينه، ما يضر الموت لابد منه؛ لكن إذا فقد الهداية مات قلبه وروحه فصار إلى النار والعياذ بالله.
فأيهما أشد موت القلب أو موت البدن؟.
موت القلب، موت البدن لا يضر إذا كان الإنسان مستقيم على طاعة الله، الموت لابد منه إن عاجلاً أو آجلاً، لكن إذا فقد الهداية مات قلبه وروحه، وتبين بهذا أن حاجة العبد إلى هذا الدعاء أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب؛ بل أعظم من حاجته إلى النفس الذي يتردد بين جنبي الإنسان)اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)( [الفاتحة/6-7].
- وقسم الله تعالى الناس ثلاثة أقسام:
- منعم عليهم.
- ومغضوب عليهم.
- وضالون.
(وجنبهم طريق أهل الضلال والاعوجاج، الخارجين عما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من الشرعة والمنهاج). يعني الشريعة والمنهاج الطريق الذي يسير عليه صلى الله عليه وسلم.
(حتى يكونوا ممن أعظم الله عليهم المنة بمتابعة الكتاب والسنة).
فيدعوا لهم أن يوفقهم الله لسلوك سبيله وأن يعينهم على طاعته، وأن يجعلهم معتصمين بحبله، مهتدين لصراطه، وأن يجنبهم طريق أهل الضلال، حتى يكونوا بذلك ممن أعظم الله عليهم المنة بمتابعة الكتاب والسنة.
وهذا فيه دليل على أن من اتبع الكتاب والسنة فإن الله تعالى قد أعظم عليه المنة، كما قال سبحانه وتعالى في المؤمنين: )وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً( [الحجرات/7-8].
إذًا هي منة من الله ليس بحولك ولا قوتك، لست أنت الذي هديت نفسك كما تقوله الجبرية، كما تقوله القدرية والمعتزلة، يقولون: الإنسان هو الذي هدى نفسه، وهو الذي أضل نفسه، وهذا من أبطل من الباطل.
(حتى يكونوا ممن أعظم الله عليهم المنة بمتابعة الكتاب والسنة).
فمن اتبع الكتاب والسنة فإن الله قد أعظم عليه المنة وأنعم عليه بنعمة دينية خصه بها دون غيره، دون غيره ممن خذله فأضله، إذًا متابعة الكتاب والسنة ليست بحولك ولا بقوتك، ولكنها منة من الله ونعمة.
ثم قال: (سلام عليكم ورحمة الله وبركاته).
السلام موجه إلى جميع المسلمين، يقال: سلام بالتنكير، ويقال: السلام، كما قال الله تعالى عن إبراهيم لما سلمت عليه الملائكة: )إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ([الذاريات/25].
الملائكة سلموا على إبراهيم لما دخلوا قالوا: سلامًا، فقال: سلامٌ، قال العلماء: إن سلام إبراهيم أبلغ من سلام الملائكة، كيف ذلك؟ لأن الملائكة قالوا: سلامًا، يعني نسلم عليك سلامًا، فقال إبراهيم (ردَّ عليهم): سلامٌ. يعني عليكم سلامٌ.
فسلام الملائكة جملة فعلية، نسلم عليك سلامًا، والجملة الفعلية تفيد الحدوث والتجدد، وإبراهيم رد عليهم بجملة اسمية: عليكم سلام والجملة الاسمية تفيد الدوام والاستمرار، فالجملة الاسمية أبلغ من الجملة الفعلية؛ لأن الجملة الفعلية تفيد التجدد والحدوث والجملة الاسمية تفيد الاستمرار والثبوت، فكان سلام الملائكة بذلك أقل.
والمؤلف رحمه الله يقول: (سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته)، جملة مبتدأ وخبر، ويجوز التنكير والتعريف، تقول: سلام عليكم، والسلام عليكم.
ثم قال: (وبعد).
والغالب على شيخ الإسلام رحمه الله أنه يقول: أما بعد، وهذه الكلمة يؤتى بها للفصل للدخول في صلب الموضوع بعد أن يأتي بخطبة(.....) الكتاب ويريد أن يدخل في الموضوع يقول: وبعد أو أما بعد.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي بها في خطبه كثيرًا، كان إذا خطب الناس يوم الجمعة عليه الصلاة والسلام يقول: «أما بعد فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة». كان كثيرًا ما يقول: «أما بعد».
فكان شيخ الإسلام يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهنا قال: وبعد اختصر، واختلف في أول من قال: أما بعد، قيل: أول من قالها داود عليه الصلاة والسلام، وقيل: أول من قالها قس بن ساعدة الإيادي، والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعملها في خطبه.
(وبعد: فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير).
فيه أن المؤلف رحمه الله حمد الله، نحمد إليكم الله، والحمد هو الثناء على المحمود بصفاته الاختيارية، مع حبه وإجلاله وتعظيمه، هذا هو الحمد تثني على الشخص بصفاته الاختيارية مع حبه وإجلاله، فإن خلا عن الحب والإجلال صار مدحًا.
فالفرق بين المدح والحمد أن كلاً منهما تثني عليه في صفاته وأفعاله، لكن إن كان مع الثناء حب وإرادة وإجلال فهو الحمد، وإن خلا عن الإرادة والحب والإجلال فهو مدح.
فأنت تثني على الأسد لأنه قوي العضلات، وقوي الهجوم، وهو ملك الحيوانات وأمير الحيوانات، لكن لا تحبه ما في حب وإجلال هذا يسمى مدحا ولا يسمى حمدا، فإن كان معه إرادة ومحبة صار حمدًا، ولهذا جاء في الثناء على الرب الحمد، قال سبحانه: ) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)([الفاتحة/2].
أحمد إليكم الله، الله أعرف المعارف علم على ربنا سبحانه وتعالى، وهو مشتمل على الألوهية، الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين.
وكل أسماء الله مشتقة ومشتملة على صفات، فالرحمن مشتمل على صفة الرحمة، والعليم مشتمل على صفة العلم، والقدير مشتمل على صفة القدرة، وهكذا جميع الصفات، الله مشتمل على الألوهية ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين.
(فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو) هذه كلمة التوحيد، لا إله إلا الله معناها لا معبود حقٌ إلا الله والإله هو المعبود.
ومعنى " لا إله " لا: نافية للجنس من أخوات إن تنصب الاسم وترفع الخبر، وإله اسمها، والخبر محذوف تقديره " حقٌ " والإله: هو المعبود، والمعنى: لا معبود حق إلا الله، وهذا خلاف ما عليه أهل البدع من الأشاعرة الذين يفسرون الإله بأنه القادر على الاختراع، فيقولون: معنى لا إله إلا الله: لا خالق إلا الله، أو لا قادر إلا الله، وهذا من أبطل الباطل؛ لأنه لو كان معنى كلمة التوحيد " لا إله إلا الله " : لا خالق إلا الله، لما حصل نزاع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين.
فإن المشركين يقولون: لا خالق إلا الله، لا قادر على الاختراع إلا الله هذا يقر به أهل الشرك، فلو كان معنى: لا إله الله كما يقوله أهل البدع: لا خالق إلا الله؛ لصالح النبي صلى الله عليه وسلم المشركين ولصار هناك صلح بينه وبينهم وموافقة، لأنهم مقرون بأنه لا خالق إلا الله.
لكن يأبون أشد الإباء أن يفردوا الله بالعبادة، ولا يتبين عظمة هذه الكلمة وأنها كلمة التوحيد التي تنفي الشرك وتبطل عبادة جميع الآلهة إلا إذا فسر الإله بالمعبود، وقدر الخبر بأنه حق، لا إله إلا الله أي لا معبود حق إلا الله.
فالآلهة موجودة كثيرة عبدت من دون الله، فالشمس إله لبعض الناس؛ عبدت، والقمر إله لبعض الناس، والنجم إله لبعض الناس، والبشر والحجر والنجوم والكواكب والجن والملائكة كلها عبدت من دون الله.
لكن هذه العبادة باطلة، والعبادة بالحق هي عبادة الله، قال الله تعالى:
) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ(62)([الحج/62].
وقال سبحانه: )فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ([هود/101] ؛ لأنهم آلهة لكن آلهة باطلة.
قال سبحانه: ) قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)( [الكافرون/1-6].
إذًا: الكفار يعبدون لهم معبودات لكنها باطلة، ولهم دين، لكن دينهم باطل: ) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)([الكافرون/6].
وقال سبحانه عن أهل الكتاب: )وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ( [آل عمران/73].
إذًا: هم على دين، لكن على دين باطل، ولهم عبادة وآلهة لكنها آلهة باطلة، هذه الكلمة لا إله إلا الله تبطل جميع الآلهة المعبودة من دون الله، وتثبت الإلهية الحق لله عز وجل، وهي مشتملة على نفي وإثبات، مشتملة على البراءة من كل معبود سوى الله وهذا هو الكفر بالطاغوت.
ومشتملة على الإيمان بالله وتوحيد الله، فكلمة التوحيد فيها كفر وإيمان، كفر بقولك: لا إله، كفر بالطاغوت في قولك: لا إله، إلا الله، إيمانٌ بالله.
قال تعالى: ) فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)([البقرة/265].
ففيها كفر بالطاغوت وإيمانٌ بالله، ومعنى الكفر بالطاغوت هو البراءة من عبادة كل ما سوى الله، واعتقاد بطلانها ونفيها وإنكارها واعتقاد بطلانها هذا هو الكفر بالطاغوت، لا إله هذا كفر بالطاغوت إلا الله هذا إيمان بالله وحده.
فالمؤلف رحمه الله يقول: (فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو وهو للحمد أهل). هو سبحانه وتعالى للحمد أهل؛ لأنه سبحانه وتعالى هو الذي أوجدنا من عدم، وهو الذي خلقنا ولم نكن شيئًا مذكورًا.
ومنَّ علينا بالنعم العظيمة وهدانا للإسلام، وأعطانا السمع والبصر والفؤاد، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، فهو أهل الحمد سبحانه وتعالى، وهو أهل التقوى وأهل المغفرة، وهو سبحانه على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، كل شيء هو داخل تحت قدرة الله تعالى.
بخلاف المعتزلة فإنهم لا يقولون: وهو على كل شيء قدير، بل يقولون: وهو على ما يشاء قدير، فإذا وجدت في بعض الكتب وهو على ما يشاء قدير، فاعلم أن هذا يتمشى مع مذهب المعتزلة والقدرية؛ لأنهم يقولون: إن الله يقدر على ما يشاء، أما الذي لا يشاؤه فلا يقدر عليه، وهي أفعال العباد، أفعال العباد يخرجونها من قدرة الله ومشيئته.
يقولون: العباد أرادوا أفعالهم من الكفر والإيمان والطاعة والمعصية أرادوها وخلقوها استقلالًا من دون الله، والله ما أراد أفعال العباد، ولا شاءها ولا خلقها، بل العباد هم الذين أوجدوها بأنفسهم استقلالًا، وقصدهم من ذلك أن يفروا بزعمهم من القول بأن الله خلق المعاصي وعذب عليها فلا يكون ظالمًا؛ لأنهم قالوا: لو قلنا: إن الله خلق المعاصي وعذب عليها لكان ظالمًا، وشرًا من ذلك قالوا: إن العباد هم الذين خلقوا أفعالهم من طاعات ومعاصي مستقلين، وهذا من أبطل الباطل.
ولذلك قال تعالى: )وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)([المائدة/120].
فكل ما يسمى شيئًا فالله عليه قدير، ولا يقال: ممتنع ومستحيل كالجمع بين النقيضين فيقال: هل يقدر الله على الجمع بين النقيضين، وهو كون الشيء موجودًا معدومًا في نفس الوقت أو لا موجود ولا معدوم؟ من قال هذا ليس بشيء، الممتنع لا يسمى بشيء؛ لأنه في نفسه متناقض، بعضه ينقض بعضًا ولا يسمى شيئا، الممتنع والمستحيل لذاته لا يسمى شيئًا، فلا يقال: إنه داخل تحت القدرة أو ليس داخلًا؛ لأنه لا يسمى شيئًا، فكل ما يسمى شيئًا فالله عليه قادر وهو على كل شيء قدير سبحانه وتعالى.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم).
(ونسأله) يعني: ونسأل الله عز وجل أن يصلي على خاتم النبيين، خاتم النبيين هو رسول الله نبينا محمد ليس بعده نبي.
قال الله تعالى: )مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ([الأحزاب/40].
فهو خاتم النبيين فمن اعتقد أن بعده نبي فهو كافر بإجماع المسلمين، من قال: إن محمدا ليس خاتم النبيين وأن بعده نبي فهو كافر بإجماع المسلمين.
وكذلك من زعم أن رسالته خاصة بالعرب وأنه ليس برسول إلى العرب والعجم، أو أنه ليس رسولاً إلى الجن، بل هو رسول الله إلى العرب والعجم وإلى الجن والإنس، كما قال سبحانه: )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا([سبأ/28].
وقال سبحانه: )تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)([الفرقان/1]. عام. وقال سبحانه: )وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ([الأنعام/19].
فرسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم رسالة عامة لجميع الثقلين الجن والإنس، العرب والعجم، وهو خاتم النبيين ليس بعده نبي، فمن قال إنه بعده نبي فإنه كافر بإجماع المسلمين.
قال: (ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين) أي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يصلي على خاتم النبيين، صلاة الله على عبده أصح ما قيل في الصلاة في صلاة الله على نبيه، ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي العالية أنه قال: صلاة الله على عبده ثناؤه عليه في الملأ الأعلى.
فأنت تسأل الله أن يثني على عبده في الملأ الأعلى، ومنهم من قال: الصلاة الرحمة، ومنهم من قال: تشمل الرحمة والثناء جميعاً، صلاة الله على عبده ثناؤه عليه في الملأ الأعلى.
(ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين وسيد ولد آدم) وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم هو سيد ولد آدم، وآدم هو أبو البشر الذي خلقه الله من طين، وخلق ذريته من ماء مهين، ربنا آدم مخلوق من طين من تراب، التراب خلط بالماء حتى صار طينًا فخلق الله آدم.
وأما بنو آدم وسلالة آدم فإنهم مخلوقون من ماء مهين، من ماء؛ ماء الرجل وماء المرأة، نطفة يلقيها الرجل في رحم المرأة فتلتقي مع ماء المرأة، وماء الرجل يخرج من الصلب، وماء المرأة يخرج من الترائب عظام الصدر، فيجتمعان فيخلق الله منه الولد تعالى الله، قال الله تعالى: )يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)([الطارق/7].
إلا عيسى، سائر بني آدم مخلوقون من ذكر وأنثى، من ماء الرجل وماء المرأة إلا عيسى عليه السلام فإنه خلق من أم بلا أب؛ ليس له أب أمر الله جبريل أن ينفخ في جيب درع مريم، فولجت النفخة إلى فرجها فحملت بإذن الله.
وأما سائر بني آدم فكلهم مخلوقون من ماء الرجل وماء المرأة وآدم مخلوق من تراب وطين، خُلط فصار طينًا وصلصال يصلصل ويصوت، على كل حال ليس نتعرض للآية فآدم مخلوق من تراب ومخلوق من طين ومخلوق من صلصال كالفخار.
فالتراب خلط بالماء وصار طينًا ثم يبس فصار صلصالا، وأولاده خلقوا من ماء الرجل وماء المرأة إلا عيسى فإنه من مخلوق من أم بلا أب كما قال الله سبحانه وتعالى: )وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا([التحريم/12]. في فرجها.
وقال سبحانه: ) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)([مريم/16-19].
وسيد ولد آدم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم هو سيد ولد آدم كلهم، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر».
هكذا عليه الصلاة والسلام يخبرنا عن مكانته ومنزلته عند الله؛ لأنه ليس بعده نبي يخبرنا فلهذا قال عليه الصلاة والسلام: «أنا سيد ولد آدم». ثم قال: «ولا فخر»، تواضعًا عليه الصلاة والسلام.
لا يفخر (صلى الله عليه)، صلى الله عليه يعني أثنى الله عليه في الملأ الأعلى (وسلم) هذا دعاء له بالسلامة، أنت تدعو الله أن يثني على عبده ورسوله محمد، وتدعو الله أن يسلمه من النقائص والعيوب.
وهذا دليل على أنه عليه الصلاة والسلام ليس رباً وليس إلهاً؛ لأنه يدعى له بالسلامة، ومن يدعى له بالسلامة لا يُدعى، فأنت تسأل الله أن يسلم نبيه من الآفات والنقائص والعيوب وهذا دليل على أنه مخلوق وأنه محتاج إلى غيره، محتاج إلى ربه، فليس ربًا ولا إلهًا، بخلاف الرب والإله فلا يدعى له بالسلامة.
ولهذا ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله من عباده، السلام على جبريل وميكائيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا هكذا: السلام على الله؛ فإن الله هو السلام ومنه السلام، ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته».
فكان الصحابة يقولون: السلام على الله، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، لا يسلم على الله، ليس فوقه أحد سبحانه وتعالى حتى يُسأل أن يسلمه، الذي يدعى له بالسلامة ناقص، فلا يُدعى لله بالسلامة لأنه كامل ولا يحتاج إلى أحد، وليس فوقه أحد حتى يُدعى له بالسلامة، ليس فوقه أحد بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم فإنه مخلوق محتاج للدعاء، فهو نبي كريم، يطاع ويتبع ويعظم، وتصدق أوامره، وتصدق أخباره، وتمتثل أوامره وتجتنب نواهيه، لكنه لا يعبد، فالعبادة حق الله عز وجل، ولهذا يُسلم يدعى له بالسلامة؛ لأنه مخلوق مربوب عبدٌ لله وليس ربًا ولا إلهًا، بخلاف الخالق والرب فإنه لا يدعى له بالسلامة؛ لأن ليس فوقه أحد ولا يلحقه نقص ولا يحتاج إلى أحد سبحانه وتعالى.
(ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم وأكرم الخلق على ربه).
هذا هو نبي الله أكرم الخلق على الله هو نبينا محمد (وأقربهم إليه زلفى) زلفى يعني قربى، يعني أقربهم إلى الله قربى هو النبي هو أقرب الناس إلى الله، وأعظمهم عنده درجة، أعظم الناس عند الله درجة هو نبينا صلى الله عليه وسلم، وبيته عليه الصلاة والسلام هو الوسيلة وسقفه عرش الرحمن أعلى شيء، أعلى بيت في الجنة هو بيت نبينا صلى الله عليه وسلم وهو الوسيلة، كما جاء في الحديث الصحيح أن النبي قال: «إذا سمعتم المؤذن يؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون ذلك هو، فمن سأل الله لي الوسيلة فقد حلت له شفاعتي يوم القيامة».
ولهذا يشرع للمسلم أن يجيب المؤذن، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يقول: «اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته».
آت محمداً الوسيلة والفضيلة الوسيلة هي درجة هي بيت النبي صلى الله عليه وسلم وهي درجة عالية في الجنة، بعض العامة يزيد: " وآت محمد الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة " هذا غلط، الدرجة الرفيعة هي الوسيلة تكرار، لا تكرر ولا تزد شيئا من عندك «آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته».
فالوسيلة هي الدرجة الرفيعة كما أن بعض العامة يزيد في الاستفتاح «سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك». بعض العامة يزيد " ولا معبود سواك ".
لا معبود سواك هي بمعنى لا إله غيرك، لا إله لا معبود تكرار وزيادة، لأن العامة ليس عندهم بصيرة.
فنبينا صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق على ربه وأقربهم إليه زلفى، زلفى يعني قربى وأعظمهم عنده درجة، محمدٍ سمي محمد لكثرة محامده ألهم الله أهله أن يسموه محمدًا، لكثرة خصاله الحميدة التي يحمد عليها، محمد.
(عبده ورسوله) أي عبد الله ورسوله هذا أشرف مقامات النبي صلى الله عليه وسلم العبودية الخاصة والرسالة، فهو عبد الله العبودية الخاصة؛ لأن العبودية تنقسم إلى قسمين: عبودية عامة. وعبودية خاصة.
فالعبودية العامة تشمل جميع المخلوقات، كل المخلوقات معبدة لله، بمعنى أنها مربوبة مدبرة مسيرة، تنفذ فيها قدرة الله ومشيئته وإرادته، جميع المخلوقات في السماوات والأرض والآدميين والحيوانات والطيور، كلهم عبيد لله العبودية العامة، قال الله سبحانه: )إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)([مريم/93].
أما العبودية الخاصة فهي خاصة بالمؤمنين الموحدين الذين يعبدون الله طوعاً باختيارهم، المؤمن يعبد الله يصلي ويصوم ويحج ويزكي وحدوا الله، هذه العبودية الخاصة، عبودية تقتصر على الطواعية الاختيار.
أما العبودية العامة فليس فيها اختيار، أنت معبد مربوب شئت أم أبيت تنفذ فيك قدرة الله، من تعبيدك أنه إذا نزل بك المرض لا تستطيع دفعه مربوب إذا نزل بك الموت لا تستطيع دفعه، إذا نزل بك الفقر ما تستطيع دفعه لأنك معبد.
(محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه).
في الأول قال: (نسأله أن يصلي على خاتم النبيين) هذا دعاء وهنا أيضا دعاء آخر (صلى الله عليه) تكرر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، صلى الله عليه يعني أثنى الله عليه في الملأ الأعلى.
(وعلى آله) آله اختلف في معناها، وأصح ما قيل فيها: إن المراد بآله أتباعه على دينه، ويدخل في ذلك دخولاً أولياً الصحابة وذريته وأهل بيته، المؤمنون داخلون، أهل بيته وذريته والمؤمنون وصحابته داخلون دخولًا أوليًا في قوله: (وعلى آله) وكذلك زوجاته كلهم داخلون في (آله) كلهم المؤمنين من ذريته وأزواجه وآل بيته داخلون في قوله (وعلى آله).
ثم قال: (وصحبه) الصحابة وهم داخلون في آله، فيكون الصحابة ذكروا مرتين: مرةً في دخلوهم مع آله، مرةً في العموم ومرةً في الخصوص.
فقوله: (وعلى آله) يدخل الصحابة، ثم خصهم فقال: (وصحبه).
فكأنه سأل الله أن يصلي على الصحابة مرتين: مرة بالعموم لدخولهم في الآل، ومرة بالخصوص في قوله (وصحبه).
وصحبه يعني أصحابه الذين يصطحبوه ، فالصحابي أصح ما قيل في الصحابي: هو الذي لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً ومات على الإسلام، ولو تخللت ردة على الأصح، هذا هو الصحابي: كل من لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو مؤمنًا ومات على الإسلام ولو تخللت ردة، يعني لو ارتد ثم تاب ومات على الإسلام فلا يضره تبقى له الصحبة. ويحرز أيضا أعماله بخلاف ما إذا ارتد والعياذ بالله، ثم مات على الردة هذا بطلت صحبته وبطلت جميع أعماله، لكن إذا تاب ورجع إلى الإسلام ومات على الإسلام أحرز أعماله وبقيت له ولا تحبط؛ لأن الله U اشترط في كتابه المبين في حبوط العمل أن يكون مات على الكفر، فقال سبحانه: ) وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)([البقرة/217].
(وصحبه وسلم تسليماً) سلم يعني دعاء بالسلام يعني اللهم سلمه من الآفات والنقائص والعيوب، دعاء وهذا يدل على أنه عبد مربوب عليه الصلاة والسلام ليس إلهًا.
(تسليمًا) هذا مصدر للتأكيد، ثم وصف بقوله: (كثيراً) وسلم تسليمًا مصدر للتأكيد ثم أكده بقوله: (كثيرًا) وسلم تسليمًا كثيرًا.
ثم قال: (أما بعد) فكأن المؤلف رحمه الله قال وبعد في الأول ثم قال: أما بعد للدخول في الصلب، في الأول قال: وبعد، قال: نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ونسأله أن يصلي على نبيه ثم قال: أما بعد مرة أخرى لدخوله في الصلب، بعد أن حمد الله وصلى على نبيه وعلى آله وصحبه قال: أما بعد، يعني أما بعد هذه المقدمة دخل المؤلف في الصلب في صلب الموضوع فقال: (فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً).
وهذا اقتباس من قوله عز وجل في سورة الفتح: )هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)([الفتح/28].
(أما بعد: فإن الله بعث محمدًا) هو رسول الله عليه الصلاة والسلام بعثه فهو مبعوث من الله أرسل(.....) من الله فهو رسول الله حقًا مبعوث إلى الخلق كافة، بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم.
(بالهدى ودين الحق) الهدى هو العلم النافع الذي جاء به عليه الصلاة والسلام وهو ما في الكتاب والسنة، الهدى العلم النافع الذي جاء به عليه الصلاة والسلام من الوحي الذي أنزله الله عليه، وهو القرآن بواسطة جبرائيل، حيث تكلم الله بهذا القرآن العظيم فنزل به جبريل على قلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال سبحانه: )نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)([الشعراء/193-194].
وكذلك السنة، فإنها وحي ثانٍ، كما قال الله سبحانه وتعالى: )وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)([النجم/3-4].
فالسنة وحيٌ ثانٍ ولكن القرآن تكلم الله به بلفظه ومعناه، لفظًا ومعنًى من الله، والسنة تنقسم إلى قسمين: أحاديث قدسية. وأحاديث غير قدسية.
فالأحاديث القدسية لفظها ومعناها من الله مثل القرآن، ولهذا يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه، كما في حديث أبي ذر فيما يرويه عن ربه U أن الله تعالى قال: «يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم»، إلى آخر الحديث. فهذا من كلام الله لفظا ومعنًى.
بخلاف السنة، طبعًا الأحاديث غير القدسية فهي من الله معنًى ومن الرسول صلى الله عليه وسلم لفظًا؛ لأن الأحاديث غير القدسية قال رسول الله، أما الأحاديث القدسية فالرسول صلى الله عليه وسلم يروي عن ربه U أنه قال.
مثل الحديث القدسي الذي قاله صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه U أن الله تعالى قال: «من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه».
هذا الحديث القدسي من الله لفظًا ومعنًى مثل القرآن من الله لفظًا ومعنى إلا أن له أحكام خاصة تختلف عن القرآن.
فالقرآن متعبد بتلاوته والحديث القدسي غير متعبد بتلاوته، القرآن لا يمسه إلا المتوضئ، والحديث القدسي يمسه غير المتوضئ، القرآن معجز بلفظه، والحديث القدسي لا يعجز بلفظه، يختلف وكلام الله (.....) يتفاضل بعضه أفضل عن بعض )قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)([الإخلاص]. تعدل ثلث القرآن.
بخلاف السنة غير الأحاديث القدسية فإنها وحي من الله معنى، فهي من الله معنى ومن الرسول صلى الله عليه وسلم لفظاً.
وتجدون في بعض كتب أصول التفسير " كالإتقان " للسيوطي وغيره من يقول: إن الحديث القدسي لفظه من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا يتمشى مع مذهب الأشاعرة، الأشاعرة يرون أن كلام الله معنى قائم بنفسه ليس بحرف ولا صوت، هكذا قول الأشاعرة، يقولون: ما تكلم الله بحرف ولا صوت، ما سمع جبريل منه شيئا.
ولكن الله اضطر جبريل، ففهم المعنى القائم بنفسه، فعبر بهذا القرآن، فهو عبارة عن كلام جبريل وهو يتكلم، أما الله فلم يتكلم بحرف ولا صوت،(.....) كيف؟ جبريل فهم المعنى القائم بنفس الله حيث اضطر ففهم المعنى القائم بنفسه فتكلم بهذا القرآن.
ومن الأشاعرة من يقول: إن الذي عبر به هو محمد لا جبريل، ومنهم من يقول: إن جبريل أخذ القرآن من اللوح المحفوظ، ثلاثة أقوال للأشاعرة وكلها أقوال باطلة.
والصواب: أن كلام الله لفظاً ومعنىً، وأن الله تكلم به بالقرآن بلفظه ومعناه فسمعه جبرائيل من الله، ثم أنزله على قلبه صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (أما بعد: فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق).
الهدى هو العلم النافع الذي جاء في الكتاب والسنة، ودين الحق هو العمل الصالح، فالله تعالى بعث (.....) بالعلم النافع والعمل الصالح، فالهدى هو العلم النافع ودين الحق هو العمل الصالح.
(ليظهره على الدين كله) ليظهره ليعليه يجعله عاليًا مرتفعًا منصورا على الدين كله أي على جميع الأديان.
(وكفى بالله شهيداً): وكفى به سبحانه وتعالى شهيداً هو سبحانه وتعالى شهيد وحاضر وكفيل بأن يظهر دين الإسلام على جميع الأديان ويجعله عالياً ظاهراً منصوراً.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (وأنزل الله الكتاب بالحق) أنزل عليه الكتاب وهو القرآن العزيز، وهو أفضل الكتب وخاتمها وآخرها والمهيمن عليها، أنزله بالحق لا بالباطل، وأنزل هذا القرآن العظيم بالحق لهداية الناس، وإرشادهم وتبصيرهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور، كما قال سبحانه: ) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)([إبراهيم/1].
" وأنزل عليك الكتاب " وهو القرآن بالحق؛ لأن الله سبحانه وتعالى أنزله لهداية الناس وتطهيرهم، وإنقاذهم من الظلمات إلى النور، فهو هداية للناس وشفاءٌ لما في صدورهم، قال سبحانه وتعالى: )يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)([يونس/57].
وقال سبحانه:) قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)( [فصلت/44].
" وأنزل عليك الكتاب " وهو القرآن بالحق؛ (مصدقاً لما بين يديه من الكتاب).
أي مصدقاً لما تقدمه من الكتب السابقة، قوله (من الكتاب) جنس يشمل الكتب السابقة (مصدقًا لما بين يديه من الكتاب) جنس، يعني لما بين يديه من الكتب لما بين يديه يعني ما أمامه من الكتب السابقة كلها (.....) .
قوله: (من الكتاب) يشمل التوراة والإنجيل والزبور، وكل كتاب أنزله الله فهذا القرآن يصدقه (مصدقًا لما بين يديه من الكتاب) مصدقًا للكتب السابقة كالتوراة والإنجيل والقرآن، وكتب الله متضامنة يصدق بعضها بعضاً ويوافق بعضها بعضاً.
(ومهيمناً عليه).
يعني هذا الكتاب مهيمن عليها حاكمًا عليها وناسخًا لها وقاضيًا عليها، فكل الكتب السابقة هيمن عليها القرآن وحكم عليها، فكل حكمٍ جاء في القرآن وليس في الكتب السابقة فهو منسوخ، ما في الكتب السابقة نسخ نسخها الله في هذا الكتاب العظيم، فهو المهيمن عليها والحاكم عليها.
(وأكمل له ولأمته الدين).
أكمل الله لهذا النبي الكريم وهو محمد صلى الله عليه وسلم له ولأمته الدين، فالدين كامل ليس فيه نقص، ولا يحتاج إلى زيادة، كما قال سبحانه: )الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ( [المائدة/3].
(وأتم عليهم النعمة).
أتم الله عليهم النعمة بهدايتهم إلى الصراط المستقيم بهذا القرآن الكريم وبهذا النبي الكريم، أتم الله على هذه الأمة النعمة حيث أنزل عليها هذا الكتاب العظيم وأرسل إليها هذا الرسول العظيم.
فأكمل الله لهذه الأمة دينها وأتم عليها النعمة وكملت الشريعة فليس فيها نقص ولا تحتاج إلى زيادة ولهذا أنزل الله سبحانه وتعالى على نبيه الكريم هذه الآية في يوم عرفة في حجة الوداع أنزل الله هذه الآية: )الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا([المائدة/3].
وقد ثبت أن يهودياً قال لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: آية في كتابكم – يخاطب عمر- لو علينا معشر اليهود أنزلت لاتخذنا يومها عيداً، قال عمر: أي آية هذه؟ فقال اليهودي: )الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا( [المائدة/3].
يقول: لو نزلت علينا هذه الآية نحن اليهود لاحتفلنا جعلنا يومها حفلا وعيدا، فقال عمر: " إني لأعلم المكان الذي نزلت فيه، واليوم الذي نزلت فيه؛ نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في مكة في يوم عرفة وكان يوم جمعة ".
وهي كلها عيد يوم الجمعة عيد لنا، ويوم عرفة عيد لنا، والمكان مكان شريف، وهي عيد لنا بحمد الله، يوم عرفة عيد ويوم الجمعة عيد.
هذا اليهودي يقول لعمر: آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود أنزلت لاتخذنا يومها عيداً، فقال عمر: " إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه؛ نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في عرفة عشية الجمعة في حجة الوداع وهو عيدٌ لنا".
(وأتم عليهم النعمة، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس).
هذه الأمة جعلها خير أمة أخرجت للناس، يعني خير الأمم، لكن هذه الخيرية مقيدة بأي شيء؟ بما وصف الله به هذه الأمة في قوله عز وجل في سورة آل عمران: )كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ([آل عمران/110].
بهذه الصفات كانوا خير أمة أخرجت للناس، كنتم خير أمة أخرجت للناس بأي شيء؟ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، والإيمان بالله أصل الدين وأساس الملة، فهو الأصل؛ لكن الله قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعظم شأنهما وأهميتهما وإلا فإن الإيمان مقدم؛ لأنه أصل الدين وأساس الملة.
)كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ( [آل عمران/110]. بأي شيء؟ )تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ([آل عمران/110].
فمن تحققت فيه هذه الصفات حصلت له الخيرية، ومن فاتته هذه الصفات فاتته الخيرية.
(فهم يوفون سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله).
هذا أخذه المؤلف رحمه الله من الحديث، جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها»، قال: «إنكم توفون سبعين أمة يوم القيامة أنتم خيرها وأكرمها على الله».
يعني هذه الأمة توفي سبعين أمة، وهذه الأمة هي خير الأمم وأكرمها على الله عز وجل، وهذا بفضل الله تعالى وإحسانه إلى هذه الأمة حيث كان نبيها خير الأنبياء وآخر الأنبياء وهي خير الأمم.
(وجعلهم أمة وسطاً).
أي عدلاً وخياراً عدلاً جمع عادل، يعني هذه الأمة عدل جمع عادل خيار فالوسط يأتي بمعنى الشيء الذي يكون بين الطرفين، ويأتي بمعنى الخيار، فالمراد بالوسط هنا الخيرية، وهذا مأخوذ من قول الله عز وجل: )وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا([البقرة/143].
يعني عدولًا عُدُلا خيارًا، فالوسطية معناها الخيرية وجعلهم أمةً وسطًا أي عدلًا خيارًا.
(ولذلك جعلهم شهداء على الناس).
يعني بكونهم عدلاً خياراً صاروا شهداء على الناس، فثبت في القرآن الكريم: )وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا(البقرة/143].
فهذه الأمة عُدُلًا خيارًا لما كانوا عدولًا خيارًا صاروا شهداء على الناس؛ لأن الشهادة تتطلب العدالة، لا يشهد إلا العدل، فلما كانت هذه الأمة موصوفة بالعدالة والخيرية صارت تشهد على الناس.
وبيان ذلك جاء في الأحاديث أنه يؤتى يوم القيامة بآدم، آدم [عمر1] بعثه الله وأرسله إلى أمةٍ وقع فيها الشرك فمكث في قومه ألف سنة إلى خمسين عامًا يدعوهم إلى الله، ومع ذلك ما آمن معه إلا القليل.
ثبت في الحديث: يؤتى يوم القيامة بالأنبياء فيقال: يا نوح هل بلغت؟ فيقول: نعم. فتسأل أمته الكفرة فيقولون: ما جاءنا من بشير ولا نذير. فيقال: من يشهد لك؟ يقول: محمد وأمته. فتأتي هذه الأمة وتشهد على الناس، تشهد أن نوحاً بلغ أمته فتقول لهم أمته: كيف شهدتم؟ كيف عرفتم أن نوحاً بلغ وأنتم لم تحضروا؟ فقالوا: أنزل الله علينا كتاباً وأخبرنا أن نوحاً بلغ فشهدنا، فأنتم تشهدون على الناس ثم يأتي نبينا صلى الله عليه وسلم ويشهد على هذه الأمة، هذه الأمة تشهد على الناس ثم يأتي نبيها ويشهد عليها.
وكذلك غيره من الأنبياء كلهم يُسأل الأنبياء هل بلغتم؟ فيقولون: نعم، فيقال: من يشهد له؟ تأتي أمته تنكر أمته، يسألوهم هل بلغكم؟ يقولون: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فتأتي هذه الأمة وتشهد للأنبياء أنهم بلغوا ثم يأتي نبيهم ويشهد عليهم، فذلك قول الله تعالى: ) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا([البقرة/143].
ولذلك جعلهم شهداء على الناس (هداهم لما بعث به رسله جميعهم من الدين الذي شرعه لجميع خلقه، ثم خصهم بعد ذلك بما ميزهم به وفضلهم من الشرعة والمنهاج الذي جعله لهم).
المعنى أن الله تعالى هدى هذه الأمة لما بعث به رسله جميعهم من الدين، فإن الدين الذي شرعه لجميع خلقه وهي أصول الأديان جاءت بها الأنبياء جميعاً، كل الأنبياء جاءوا بتوحيد الله، إذا هذه الأمة ما هم؟ الرسل جاءوا بأمر أممهم بتوحيد الله وصرف العبادة له، والتحذير من الشرك، والإيمان بالرسل والكتب المنزلة والإيمان باليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره.
وهذا هو الدين الذي أمر الله الأنبياء جميعهم بإقامته، في قوله: ) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ([الشورى/13].
فهذا الدين الذي بعث الله به الرسل هدى الله له هذه الأمة، فآمنوا بالدين الذي بعث الله به الرسل، كل الأنبياء جاؤوا بتوحيد الله والتحذير من الشرك، والإيمان بأصول الدين كله، وتعظيم الأوامر والأمر بطاعة الرسل، وهذه الأمة هداهم الله لهذا ثم فضلهم الله، زيادة على ذلك خصهم بما ميزهم به وفضلهم من الشرعة والمنهاج الذي جعله لهم، وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الشريعة الخاصة، الشريعة الخاصة التي جاء بها محمد، كما قال سبحانه: )لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا([المائدة/48].
فدين الإسلام هو دين الأنبياء جميعاً، وهو دين الله في الأرض والسماء، الإسلام هو دين آدم وهو دين نوح وهو دين هود وهو دين صالح ودين شعيب ودين إبراهيم ودين موسى ودين عيسى ودين محمد عليه الصلاة والسلام، الأنبياء كلهم دينهم واحد وهو التوحيد وهو الإسلام بمعناه العام.
فالإسلام في زمن آدم هو توحيد الله وما جاء به آدم من الشريعة، والإسلام في زمن نوح هو توحيد الله وما جاء به نوح من الشريعة، والإسلام في زمن هود توحيد الله وما جاء به هود من الشريعة، والإسلام في زمن صالح توحيد الله وما جاء به صالح من الشريعة، والإسلام في زمن إبراهيم توحيد الله وما جاء به إبراهيم من الشريعة، والإسلام في زمن موسى توحيد الله وما جاء به موسى من الشريعة، والإسلام في زمن عيسى توحيد الله وما جاء به عيسى من الشريعة، والإسلام في زمن محمد صلى الله عليه وسلم هو توحيد الله وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الشرعة والمنهاج الذي جعله الله تعالى له.
فهذه الأمة خصها الله تعالى هداهم لما بعث به الرسل السابقين ثم خصهم وميزهم بما ميزهم به وفضلهم من الشرعة والمنهاج الذي جعله لهم.
وفق الله الجميع لطاعته.
[عمر1]كانت بنوح، نوح
وهو الصواب
ولكن قالها الشيخ حسب ما أثبتها