بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(المتن)
قال الإمام عبد الغني المقدسي في كتابه عمدة الأحكام:
كتابُ الزكاةِ
176 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ -: إنَّك سَتَأْتِي قَوْماً أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَك بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَك بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ.
(الشرح)
الزكاة في اللغة: النماء والطهارة والتطهير، وفي الشرع: حق غالب في مال مخصوص.
والتي تجب فيها الزكاة أربعة أشياء: بهيمة الأنعام والخارج من الأرض والنقدان الذهب والفضة وعروض التجارة.
والزكاة مأخوذة من التزكية وتنمية المال وتطهير صاحبها فالزكاة تنمي المال وتطهره وتقيه الآفات وتطهر نفس صاحبها من الشح والبخل.
والزكاة أحد أركان الإسلام فهي الركن الثالث من أركان الإسلام وهي قرينة الصلاة في كتاب الله .
ولا تجب الزكاة إلا بشروط أهمها: الإسلام فلا تجب على كافر، ومن شروطها ملك النصاب ومن شروطها مضي الحول.
والزكاة من محاسن الإسلام، جاء للتراحم والتعاطف والتعاون وقطع دابر الشر الذي ينشأ من حقد الفقراء على الأغنياء إذا لم يؤدّوا الزكاة، جعلها الله طهر لصاحبها من ردية البخل وتنمية حسيّة معنوية للمال.
في هذا الحديث أن النبي ﷺ بعث معاذاً إلى اليمن داعياً ومعلماً وقاضياً، بيّن له صفة الدعوة والحكمة وأخبره أولاً عن حال القادم عليهم حتى يستعد لهم في الخطاب الذي يلائمهم، وأخبره أنهم من أهل الكتاب وأنهم عندهم علم وحجج يجادلون بها حتى يستعد لهم، ثم أمره أن يدعوهم في الأهم فالأهم أمرهم بأن يدعوهم إلى التوحيد إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله لأن أصل الدين وأساسه هي الشهادتان هما أصل الدين وأساس الملّة لأن الشهادتين هما أصل الدين وأساس الملّة، فلا تصح العبادة إلا بهما، لا بد من الإقرار بهما قلباً والاعتقاد بمعناهما والعمل بمقتضاهما.
ثم بعد ذلك أمره إن أطاعوه أن يخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة.
ثم أمره بعد ذلك إذا التزموا أخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنياءهم وتُردّ على فقراءهم.
وفيه أن أهم شيء التوحيد لأنه الأساس الذي لا تصح العبادات بدونه.
وفيه أن الصلوات الخمس تأتي في المرتبة الثانية بعد التوحيد لأنها عمود الدين.
وفيه أنه يأتي بعدها الزكاة في الدرجة الثالثة.
وفيه أنه لا ينتقل من دعوة إلى أخرى حتى يُطاع في الأولى.
وفيه أن الزكاة مواساة فهي تؤخذ من الأغنياء لتُعطى الفقراء.
وفيه تحذير من الظلم قال: فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ يعني: لا تأخذ النفيس من الأموال فإن هذا ظلم، والله تعالى أعدل العادلين وأحكم الحاكمين أمر بالعدل ونهى عن الظلم.
وفيه مشروعية بعث الإمام لجباية الزكاة.
قوله تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ دليل على جواز صرف الزكاة بصفة واحدة على الأصناف الثمانية.
وأما نقل الزكاة فإنها تكون في البلد ويصح نقلها لمصلحة راجحة في وجود قريب فقير أو لفقير أشد حاجة.
(المتن)
(الشرح)
هذا الحديث هو حديث أبي سعيد الخدري ، فيه بيان الأنصبة في الزكاة وأن الفضة نصابها خمس أواق، والأوقية أربعون درهماً فيكون نصاب الفضة مئتا درهم.
وَلا فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ أي: الإبل النصاب هو الخمس ما دونها ليس فيه زكاة والمراد زكاة السوم إذا كانت سائمة ترعى من البر أكثر الحول.
وَلا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ. الوساق من التمر والحبوب والوسق ستون صاعاً فتكون الخمس أوسق ثلاثمائة صاع -الصاع النبوي- فما دونها ليس فيه زكاة.
فهذا الحديث فيه تحديد للأنصبة، نصاب الفضة خمس أواق وهي مئتا درهم، نصاب الإبل خمس، نصاب الحبوب والثمار خمسة أوسق وهي ثلاثمائة صاع -صاع النبي ﷺ-.
في هذا الحديث من الأحكام وجوب الزكاة فيمن عنده نصاب من هذه الأشياء المذكورة.
وفيه عدم وجوبها فيمن لم يبلغ النصاب.
وفيه زكاة الفضة ربع العشر وهي واحد من أربعين أو اثنان ونصف بالمئة (2،5%).
وإذا بلغت الإبل خمساً فبها شاة، والعشر شاتان، والخمس عشرة ثلاث شياه، والعشرون أربع شياه، فإذا بلغت خمس وعشرين فبها بنت مخاض، وما دون ذلك فليس فيه زكاة، ولم يذكر في الحديث الذهب لأن غالب عملتهم الفضة.
والزكاة تجب في الحبوب والثمار التي تُدّخر –الأوسق- الأوسق من الحبوب والثمار التي تكال وتدّخر، أما الخضراوات فليس فيها زكاة على الصحيح، خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله- لأنه يؤكل ويُدّخر كملت فيه النعمة.
(المتن)
وَفِي لَفْظٍ: إلاَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ.
(الشرح)
هذا الحديث حديث ابن هريرة ، فيه بيان ما لا زكاة فيه قال عليه الصلاة والسلام لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ.
فيه أن ما يملكه الإنسان ويستعمله ليس فيه زكاة إذا لم يُعدّ للتجارة، فالعبد الذي يملكه الإنسان ليس فيه زكاة إلا زكاة الفطر يُخرج عنه صاعاً ليلة العيد، العبد والأمة التي يملكها الإنسان لأن العبد والأمة مال العبد "قن ما بقي عليه درهم فهو مال" فليس فيه زكاة، إلا إذا عنده رقيق أعدّه للبيع وكان ثمنه يبلغ النصاب فإنه يزكي زكاة فإذا حال عليه الحول يزكي زكاة التجارة.
وكذلك الفرس ليس عليه فيه زكاة إلا إذا أعدّه للتجارة، لكن إذا أعدّه للاستعمال الفرس ومثله السيارات التي يستعملها الإنسان ولم يعدّها للبيع والشراء ليس فيها زكاة، وكذلك ما يكون في البيت من الفرش من الدواليب ومن الأشياء التي أعدّها للاستعمال ولم يعدّها للبيع فليس فيها زكاة، لا تجب الزكاة في العبد الذي للخدمة والفرس المعدّ للركوب والسيارة المعدّة للركوب لكن لو أعدها للبيع والتكسّب فإن فيها زكاة إذا حال عليها الحول وكانت قيمتها تبلغ النصاب.
(المتن)
قال المصنف: الجبار: الهدر الذي لاشيء فيه. والعجماء: الدابة البهيم. أهـ
(الشرح)
هذا الحديث فيه بيان الشيء الذي لا شيء فيه.
قال: الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ، العجماء هي الدابة البهيم ما أصابت وأثابت وليس فيه شيء.
وَالْبِئْرُ جُبَارٌ لو سقط فيها أحد فليس على صاحبها شيء.
وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ كذلك المعدن لو كان معدن فيه مكان محفور من المعادن ثم سقط فيه أحد فإنه جُبار ومعنى جُبار يعني هدر لا ضلال فيه.
فالعجماء ما أصابت وما أتلفت بيديها هدر لا ضلال فيه، والبئر من سقط فيه فإنه هدر لا ضلال فيه، وكذلك المعدن من سقط في مكان يُحفر من المعادن فإنه هدر لا ضلال فيه.
وَفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ. الركاز يوجد من دفن الجاهلية، وليس علامتها الإسلام من المعادن وغيرها فإنه إذا استُخرج واستخدمه صاحبه فإنه يدفع الخمس لأنه حصل له بدون تعب.
فالنبي ﷺ بيّن هذه الأشياء التي يحصل منها تلف خارجاً عن قدرة الإنسان ويتسببه من إهماله وأنه ليس عليه من جراء اتلافها شيء، كالبهيمة التي لم يفرط في إرسالها ولم يكن متصرفاً فيها فتتلف زرعاً أو تضر أحداً بعضّ أو ضرب بيدها أو نفح برجلها.
أما لو كان متصرفاً فيها فإنه يضمن كما جاء في الحديث الآخر يضمن ما أتلفته من الأمام لا من الخلف، وكذلك أيضاً لو لم يحفظها في الليل ثم خرجت وأتلفت الزرع فإنه يضمن لأن النبي ﷺ أمر بحفظ أهل الدواب أمر بحفظها في الليل، وأهل المزارع أن يحفظوا مزارعهم في النهار.
فإن هذا الحديث مطلق لكن قُيّد بالأحاديث الأخرى، إذا كان متسببا الإنسان تسبب بالتلف الذي أتلفته الدابة، إذا لم يكن هناك تقصير من صاحبها أما إذا أهملها وتركها في الليل دخلت المزارع فإنه يضمن في هذه الحالة أو كان له تسبب في شيء، مثلاً يقودها أو قائداً لها ثم أتلفت شيئاً وهو معها ولم يمنعها فإنه في هذه الحالة يضمن، والحديث نزل على هذا جمع من النصوص، وكذلك صاحب البئر عليه أن يضع عليها شيئاً إذا كانت في الطريق أو في مكان لا بد أن يضع عليها حاجز أو مانع.
ومصرف الركاز يُصرف في المصالح العامة، والزكاة تُصرف في الأوجه الثمانية المعروفة.
الركاز فيه الخمس والزكاة أكثر ما فيها العشر إذا كان يسقى بدون مؤونة الحبوب والثمار التي تسقى بدون مؤونة فيها العشر، وإن كان بمؤونة فيها نصف العشر، وإن كان بعضه بمؤونة وبعضه بدون مؤونة فيها ثلاث أرباع العشر، أما الركاز فيه الخمس لأنه حصل له بدون تعب وتمت النعمة عليه يُصرف الخمس في المصالح العامة.
(المتن)
(الشرح)
هذا الحديث فيه أن النبي ﷺ بعث عمر بن الخطاب على الصدقة لجباية الزكاة، كعادته في بعث السعاة، فجاء عمر عباس بن عبد المطلب وخالد بن الوليد وابن جميل يريدون منهم الزكاة فمنعوا أداءها فجاء عمر إلى النبي ﷺ يشكي هؤلاء الثلاثة فقال: ﷺ أما ابن جميل فليس له من العذر في منعها إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله فقابل نعمة الله كفراً وشكره بالنكير.
وأما خالد فإنكم تظلمونه بقولكم منع الزكاة وقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله فليس عليه فيهن زكاة، لأنه احتبسها في سبيل الله، أو لأنه جعل أدوات يستعملها في الجهاد، والأشياء التي للقنية ليس فيها زكاة، أو أن معنى أنه لا يمكن أن يمنع الزكاة وقد احتبس أعتاده وأدراعه في سبيل الله، رجل احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله فلا يمكن أن يمنع الزكاة.
وأما العباس فقد تحمّلها عنه النبي ﷺ قال فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا. وذلك لمقامه ومنزلته من النبي ﷺ ويدل عليه قول النبي ﷺ أَمَا عَلِمتَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ؟ يعني مثل أبيه في منزلة أبيه، وقيل لأن النبي ﷺ قدّم زكاة لعامين، فقد تسلّمها النبي ﷺ، لكن هذا ورد فيه ضعف.
في الحديث من الفوائد مشروعية بعض بعث الإمام السعاة لإثبات الزكاة.
وفيه جواز شكوى من امتنع من الزكاة إلى من يأمره بأدائها، ومثله شكوى كل ممتنع عن واجب أو فَعَل محرم.
وفيه ذم من جحد نعمة الله عليه شرعاً وعقلاً.
وفيه أن الأشياء الموقوفة في سبيل الله والمعدّة في سبيل الله ليس فيها زكاة.
وفيه الاعتذار عن العباس إما لأن النبي ﷺ تحمل عنه الزكاة أو لأنه تعجل منه الزكاة، زكاة سنتين.
وفيه منزلة العم وعظيم حقه وأنه بمنزلة الأب.
(المتن)
(الشرح)
هذا الحديث فيه أن النبي ﷺ لما أفاء الله عليه في يوم حنين من الغنائم قسم هذه الغنائم في الناس والمؤلّفة قلوبهم ولم يعطِ الأنصار شيئاً فتكلم معه شباب الأنصار فجمعهم النبي ﷺ وقال لهم هذه المقالةـ.
وحنين وادي بين مكة والطائف بالقرب من الشرائع معروف الآن، حصل فيه وقعة غزوة بين النبي ﷺ وبين هوازن ومعهم ثقيف في شوال من السنة الثامنة من الهجرة، المؤلّفة قلوبهم: هم الذين يتألّفهم النبي ﷺ على الإسلام بإعطائهم من الغنائم والصدقات ليتمكن الإسلام من قلوبهم أو لكونهم زعماء لهم نفوذ وأتباع يسلمون بإسلامهم أو يطوّعوهم في دفع الزكاة أو الجزية إذا كانوا غير مسلمين، والعالة هم الفقراء، قول فأمنّ يعني: أكثر منّة علينا وأعظم.
قول الأَنْصَارُ شِعَارٌ الشعار هو: الثوب الذي يلي الجسد، والدثار هو الذي فوقه، الأَنْصَارُ شِعَارٌ يعني: خص الأنصار شعار وَالنَّاسُ دِثَارٌ، فالأنصار أقرب الناس مثل الثوب الذي يلي الجسد، والناس مثل الثوب الذي فوقه.
وقوله سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً يعني: استئثار بالشيء المشترك يعني يؤثر غيرهم عليهم من استأثر بالدنيا عنهم ولا يعطيهم حقهم، فيأتي من يؤثر غيرهم عليهم في الأعطيات وفي الوظائف.
وشعب هو الوادي بين جبلين، في هذه الغزوة التقى المسلمون بالمشركين في حنين فكانت الهزيمة على المشركين فغنم المسلمون أموالهم ونساءهم وذراريهم، وكان مع النبي ﷺ في هذه الغزوة قوم من سادات العرب ورؤسائهم -رؤساء القبائل- الذين أسلموا ولم يتمكن الإيمان من قلوبهم فأعطاهم النبي ﷺ من الغنيمة أعطاهم عطايا جزلة ليتألفهم على الإسلام، أعطاهم مئة مئة، أعطاهم مئة من الإبل أعطاهم وعدد من رؤساء القبائل، ولم يعطِ الأنصار شيئاً لأنه وكلهم إلى ما عندهم من الإيمان في قلوبهم فتكلّم بعض الشباب الأنصار الشباب تكلموا فقالوا: يعطي الرسول الله صناديد قريش وسيوفنا تقتل مدائنهم ولا يعطينا شيئاً، فالنبي ﷺ لما علم بذلك جمعهم ولم يكن معه غيرهم خطبهم فقال لهم: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلاَّلاً فَهُدَاكُمْ اللَّهُ بِي؟ وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمْ اللَّهُ بِي؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ بِي؟ كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمنُّ، فلما ذكّرهم النبي ﷺ بنعمه عليهم التي جاءتهم على يده من الهداية فهي أعظم المطلوب، والألفة بعد الحروب الطاحنة التي تكون وبينهم والمشاجرات، ونعمة الغنى والغنائم ومن كرمه ﷺ وحبه ذكّرهم بما لهم من أيادٍ على الإسلام والمسلمين حيث آووا المهاجرين ونصروهم، والأنصار نصروا المهاجرين وآووهم وواسوهم بأموالهم، لأن المهاجرين خرجوا من ديارهم وأموالهم فأكرمهم الأنصار وواسوهم بأنفسهم وأموالهم، فالنبي ﷺ ذكّرهم وسلّاهم من حطام الدنيا بما لهم عند الله تعالى من الثواب، قال أَلا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ إلَى رِحَالِكُمْ؟ الناس يأخذون الإبل والغنم وأنتم تأخذون رسول الله معكم أنتم أحسن، حتى قالوا رضينا برسول الله قسما، فما كانوا منهم إلا أن رضوا وأعينهم تفيض من الدمع حتى أخضلوا لحاهم ، ثم أراد النبي ﷺ أن يطمئن قلوبهم ويشرح صدروهم، ويبين فضائلهم السبق في الإيمان والإيواء والنصرة لرسول الله ولدين الله، قال لَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الأَنْصَارِ، لولا الهجرة -ما أتخلى عنها- لكنت واحداً منكم من الأنصار، وهذا فيه دليل على أن الهجرة أفضل وأن المهاجرين أفضل من الأنصار، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِياً أَوْ شِعْباً لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا، لأن الأنصار شِعارٌ بالنسبة للرسول ﷺ والدين والناس من ورائهم دِثارٌ، فهم أولى به ﷺ.
بهذه الموعظة البليغة علموا وعلم غيرهم من الناس بأن النبي ﷺ لم يحرمهم من الغنائم ويعطها منه ودونهم إيماناً وسابقةً وفضلاً إلا اتكالاً على ما وقر في قلوبهم من الإيمان وإيثار الآخرة على الدنيا، ثم ذكر لهم ﷺ علامة من علامات النبوة وهي: أنه سيأتي قوم يستأثرون بالدنيا عليهم فلا يلهيهم ذلك فإن متاع الدنيا قليل قال فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ. قال سيأتي من الناس من يؤثر غيرهم في العطيات وفي الوظائف.
وفيه من الفوائد أن إعطاء المؤلفة قلوبهم من الغنيمة بحسب رأي الإمام واجتهاده وأن الإمام له أن يقسم الغنيمة على حسب اجتهاده في مصلحة الإسلام والمسلمين.
وفيه شرعية الموعظة والخطبة في المناسبات.
وفيه أن الصبر جميل على المصائب من أسباب ورود الحوض قال ﷺ: اصبروا حتى تروني على الحوض.
(المتن)
قال المصنّف -رحمه الله تعالى-
بابُ صدقةِ الفِطرِ
182 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صَدَقَةَ الْفِطْرِ - أَوْ قَالَ رَمَضَانَ - عَلَى الذَّكَرِ وَالأُنْثَى وَالْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ: صَاعاً مِنْ تَمْرٍ ، أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ. قَالَ: فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ ، عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ .
وَفِي لَفْظٍ: أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلَى الصَّلاةِ .
(الشرح)
هذا الباب باب صدقة الفطر، نسبت إلى الفطر من باب نسبة المسبب إلى سببه، يعني: هذه الصدقة سببها الفطر في رمضان.
قد أجمع العلماء على وجوبها.
شرعها الله تعالى لحكم عظيمة وفوائد منها أنها توبة للصائم وشكر لله تعالى على أن منّ عليه بتكميل صيام شهر رمضان، ومنها أنها مواساة للفقراء إذا أعطوهم شيئاً من أموالهم غنموا بذلك وواسوهم وساووهم في عدم الانشغال بطلب القوت في هذا اليوم، وشاركوهم في أفراحهم والله لطيف بعباده وهو الحكيم الخبير.
في هذا الحديث حديث بن عمر دليل على فرضية صدقة الفطر وأنها فرض على كل واحد مسلم على الذكر والأنثى والحر والمملوك.
فيه دليل على أن الصدقة فرض على القادر على من يجد شيئاً زائد عن قوته يومه وليلته يجب عليه أن يُخرج صاع.
وفيه دليل على أن صدقة الفطر صاع، صاع عن كل فرد من أفراد المسلمين، فالرجل يُخرج عن أهل بيته عن أولاده وعن زوجته وعن عبيده ومماليكه وعن من يمون في شهر رمضان، يُخرج عن كل واحد صاع وهذا فرض، إذا كان فاضل عن حاجته وحاجة قوت عياله فإن لم يجد سقط عنه وأمر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة هذا هو الأفضل، ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين.
وقوله صاعا من تمر أو صاعا من شعير، جاء في حديث أبي سعيد صاع من تمر أو صاع من شعير أو صاع من بر أو صاع من أقط، قال ابن عمر فعدل الناس به نصف صاعٍ من برّ على الصغير والكبير وهذا في زمن معاوية -كما سيأتي في الحديث بعده-، لما جاءت الحبة السمراء في الشام وهي حبوب تقوي فيها نظرة وقوة فاجتهد معاوية فقال إن نصف الصاع يكفي عن الصاع من هذه الحبوب الجيدة، فقال إذا أخرج تمراً أو شعيراً يُخرج صاع وإذا أخذ من هذه السمراء يكفي نصف الصاع، وأخذ الناس بقول معاوية وأما أبو سعيد فقال: فأما أنا فلا أزال أخرجه صاعاً كما كنت أخرجه على عهد النبي ﷺ.
لهذا يقول الفقهاء يجب عليه صاع أو نصف صاع من بر أو شعير، على هذا على ما ذهب إليه معاوية .
والصواب أنه يجب صاع كامل وكذلك أيضاً إذا وجب عليه نصف الصاع يجب عليه نصف صاع قالوا من وجب عليه نصف صاع الفقير يُخرج نصف الصاع أو يُخرج ربع صاع من البر ومن السمراء، والصواب أن نصف الصاع واجب عليه من بر وغيره، وكذلك الصاع هنا واجب صاع من بر أو غيره هذا هو الذي كان على عهد النبي ﷺ وما ذهب إليه معاوية وغيره هذا اجتهاد منه أخذ به جمع من الفقهاء كما سيأتي بالحديث الذي بعده.
(المتن)
(الشرح)
هذا الحديث فيه بيان الأشياء التي تُخرج منها صدقة الفطر في زمن النبي ﷺ، ذكر أبو سعيد قال: كنا نعطيها في زمن النبي ﷺ صاعاً من طعام أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير أو صاعاً من أقط أو صاعاً من زبيب خمسة أشياء.
قال العلماء يُجزي عنها ما يقتات أهل البلد كالأرز مثلاً الأرز هو قوت أهل البلد فإذا أخذ أرزا فقد أخرج من قوت البلد.
فلما جاء معاوية يعني في خلافته وجاءت السمراء وهي حبوب جيدة في الشام اجتهد معاوية قال أرى مدّاً من هذه يعدل مدّين، فالصاع منها يعدل نصف صاع، فصار معاوية يأخذ نصف صاع وأخذ بذلك جمع من الفقهاء، أما أبو سعيد قال: أبو سعيد "أما أنا فلا أزال أُخرجه كما كنت أُخرجه على عهد رسول الله ﷺ " يعني صاع.
وهذا هو الصواب أنه يبقى صاع، وأما معاوية قالوا: يكفي نصف الصاع لجودة السمراء ونفعها.
والحديث فيه وجوب زكاة الفطر وهو إجماع بين المسلمين لقوله فرض رسول الله ﷺ فيها أن زكاة الفطر تُخرج عن كل مسلم صغير أو كبير ذكر أو أنثى حر أو عبد ولا تجب على الجنين، لكن استحبّها جمع من أهل العلم إخراجها عن الجنين.
ظاهر الحديث تحديد الإخراج عن هذه الأشياء ومشهور بمذهب الإمام أحمد أنه لا يوجد غير هذه الأشياء مع وجود شيء منها، اختار شيخ الإسلام جواز إخراجها من قوت البلد، ولو قدر على الأصناف المذكورة، وهو رواية عن الإمام أحمد -رحمه الله- وقول أكثر العلماء.
وظاهر حديث أبي سعيد أنه يجب الصاع سواء كان من الحنطة أو من غيرها، وهذا هو الذي ذهب إليه جمع من أهل العلم مالك والشافعي وأحمد والجمهور مذهب الجماهير والعلماء، وذهب أبو حنيفة إلى أنه يُجزي من الحنطة نصف صاع أخذاً باجتهاد معاوية .
تم وبالله التوفيق.