( المتن )
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وشيخه ووالديه يا رب العالمين .
قال الإمام عبد الغني المقدسي - رحمه الله تعالى - في كتابه "عمدة الأحكام ":
كتابُ البيوعِ
259 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: إذَا تَبَايَعَ الرَّجُلانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَكَانَا جَمِيعاً أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ.
(الشرح)
بسم الله و الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين .
أمَّا بعد...
قال المؤلف - رحمه الله تعالى - في كتاب البيع ...
البيوع :جمعٌ للبيع ، والبيع مصدر، والمصادر لا تجمع، لكن جُمِع لملاحظة الاختلاف في أنواعه .
والبيع لغة : أخْذُ شيءٍ وإعطاءُ شيء، وأَخَذهُ من البائع الذي يَمُدُّهُ إما بقصد الصفقة أو للتقابض على المعقود عليهما بين الثمن والمثمون، ولفظ البيع يطلق على الشراء - أيضا - فهو من الأضداد ، وكذلك الشراء من الأضداد.
والبيع شرعاً : هو مبادلة مالٍ بمالٍ بقصد التملك، بما يدل عليه من صِيَغِ القول والفعل.
والأصل في البيوع : الحِلُّ ، وجواز البيع : ثابت في الكتاب والسنة والإجماع والقياس .
أمَّا في الكتاب فقول الله - تعالى - : وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275]،
وأما السنة ففي هذا الحديث: البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا.
وأجمع المسلمون على جوازه .
والقياس يقتضيه؛ لأن الحاجة داعيةٌ إليه، فالإنسان لا يتحصَّل على ما يحتاجه إذا كان بيد غيره إلا عن طريق البيع .
والصيغة التي ينعقد بها: إما بالقول أو بالفعل، ينعقد بكل قول أو فعل يعده الناس بيعاً، وكذلك - أيضاً - ينعقد بالمعاطاة : بأنْ يضع الثمن ويأخذ السلعة، في الأشياء الغالية الثمن كالخبز وأشباهه والأشياء التي أسعارها محددة ، يضع الثمن ويأخذ المُثمن، هذا بيعٌ بالمعاطاة.
وهذا الحديث حديث عبد الله بن عمر، يقول النبي ﷺ : البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، الخِيار: بكسر الخاء، اسم مصدر من الاختيار، أي : طلب خير الأمرين من الإمضاء أو الرد ، البَيِّعَانِ بتشديد الياء ، يعني : البائع والمشتري ، أُطلِق عليهما : بائعان ، من باب التغليب، كالعُمَرَين والقمرين، كل واحد من اللفظين يطلق على الآخَر ، البيع والشراء .
قوله : مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا. يعني : ذهبت وزادت، زيادة في الكسب والربح ، البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَكَانَا جَمِيعاً أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، يعني أنْ يقول له : اختر إمضاء البيع.
والحديث فيه دليل على إثبات خيار المجلس لكل من البائع والمشتري، من إمضاء البيع أو فسخه مادام في المجلس.
وما ورد عن ابن عمر - رضي الله عنهما - كان إذا أعجبه (4:31) قال : محمول على أنه خفيت عليه السنة؛ لأنه جاء في الحديث : وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَذهَبَ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ. أو كما جاء في الحديث.
وفيه أن مدة الخيار من حين العقد إلى التفرق من المجلس، وقال بهذا جمهور العلماء إثبات خيار المجلس، خلافاً للإمام مالك - رحمه الله - فإنه رأى أن الخيار يكون بالأقوال، بالقول، وهذا ضعيف .
وقوله : أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، دليل على أنهما إذا أسقطا خيار المجلس سقط؛ لقوله أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، يقول : اخْتَرْ إمضاء البيع ؛ لأن الحق لهما وقد أسقطاه، فلو اتفقا على إسقاطه أو تبايعا على ألَّا خِيار بينهما لَزِمَ العقدُ؛ لأن الحق لهما ، وفيه أنه يحرم التفرق إذا خشيا الفسخ؛ لما رواه في السُّنَن أن النبيَّ ﷺ قال : وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ.
وفيه أهمية الصدق والبيان في البيع، وأنه من أسباب البركة ، وأن الكذب والكتمان من أسباب محق البركة ، فالصدق في المعاملة وبيان ما في السلعة من العيوب سبب البركة في الدنيا والآخرة، والغش والكذب والكتمان سبب محق البركة، وهذا واقع ملموس ومحسوس في أهمية الصدق والبيان ، وجوب الصدق والبيان، وتحريم الكذب والكتمان والغش.
( المتن )
(الشرح )
نعم هذا فيه دليل على ما دل عليه الحديث السابق من وجوب الصدق والبيان وتحريم الكتمان والكذب والغش والخيانة، وأنها من أسباب محق البركة، وفيه إثبات خيار المجلس، كما دلَّ عليه الحديث السابق.
(المتن)
بابُ مانُهِيَ عنْهُ منَ البيوعِ
261 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ الْمُنَابَذَةِ، وَهِيَ طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ بِالْبَيْعِ إلَى الرَّجُلِ قَبْلَ أَنْ يُقَلِّبَهُ أَوْ يَنْظُرَ إلَيْهِ، وَنَهَى عَنْ الْمُلامَسَةِ، وَالْمُلامَسَةُ: لَمْسُ الثَّوْبِ وَلا يُنْظَرُ إلَيْهِ.
(الشرح)
هذا الحديث فيه بيان نوعين من البيوع المنهي عنهما، وهي : المنابذة والملامسة، فسَّرَهُما في الحديث :
المنابذة : وهي طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل قبل أن يقلبه أو ينظر إليه، والملامسة : لمس الرجل الثوب ولا ينظر إليه؛ وذلك لما في هذين البيعين من الغرر؛ لأن المنابذة: أن يطرح الرجلُ الثوبَ قبل أن يُقلِّبَه ويكون هذا بيعه يقول : أيّ ثوب نبذت إليك فهو عليك بمِئة، قد ينبذ إليه ثوباً لا يساوي إلا عشرة، وقد ينبذ إليه ثوباً يساوي ألفاً، وهذا فيه غرر فلا يجوز هذا البيع، لا بد أن يقلبه وينظر إليه وينظر هل يساوي، ثم بعد ذلك يوقِع العقد، أما أن يعقد العقد ويقول : بعتك هذا الثوب بمئة ويطرحه إليه وهو لا يدري، فهذا فيه غرر.
وكذلك اللمس يقال : أي ثوب لمسته عليك فهو بمئة ، أي ثوب لمسته من هذه الثياب اعطيك إياه بمئة، قد يلمس ثوباً لا يساوي إلا عشرة، وقد يلمس ثوباً يساوي ألفاً، ففيه غرر ، فلا يجوز مثل هذا البيع، لابد من النظر والتأمل .
(المتن)
وَفِي لَفْظٍ: هُوَ بِالْخِيَارِ ثَلاثَاً.
(الشرح)
هذا الحديث فيه النهي عن هذه البيوع المذكورة في الحديث، وهي : تلقِّي الرُّكْبان، بيع البعض على بعض، النجش ، بيع الحاضر للبادي، والنهي عن أن يُصِرُّوا الغنم .
وقوله : لا تَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ الركبان : جمع راكب وهم الذين يقدمون إلى البلد بسلع يريدون أن يبيعوها بسعر يومها ثم يذهبون، فيتلقاهم أناس قبل وصولهم إلى السوق فيشترونها منهم برخص ثم يبيعوها على الناس بغلاء، فنهي عن تلقي الركبان، وقد يكون هذا الراكب الذي باع السِّلَع مغبوناً ، فإذا تُلُقِّيَ الركبان ثم ورد إلى السوق ووجد أنه مغبون فله الخيار؛ ولهذا قال : لا تَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ.
وَلا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، يعني :لا يبيع أحد على بيع أحد ومثله في الشراء : لا يشتري أحد على شرائه، وذلك بيع البيع كأن يقول في خيار المجلس أو الشرط : رد هذه السلعة وأعطيك أحسن منها، فيردها المشتري، أو أعطيك بأرخص من ثمنها إن كان مشترياً، أو أشتريها منك بأكثر من ثمنها إن كان بائعاً ، فيفسخ البيع ويعقد معه، هذا البيع على البيع والشراء على الشراء، وهذا يسبب العداوة والشحناء والبغضاء.
وكذلك وَلا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ، ما معنى أن يبيع حاضر لباد؟ ،الحاضر :هو البلدي المقيم في البلد ، والبادي : من سكان البادية ، والمراد به: الذي يَقْدِم لبيع سلعته ، يبيعها بسعر وقتها سواء كان بدويَّاً أو حضَريَّاً ، فيأتي إليه رجل من أهل البلد ويقول : اترك عندي السلعة أبيعها على مهل ، فيبيعها بسعر مرتفع، يُغلِّيها على الناس ، فنهي عن ذلك، دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقِ اللهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كما في الحديث الآخر، يبيعها بسعر يومها، لا ينبغي للحاضر أن يأتي ويقول : أبيع لك السلعة .
والنجش : هو الزيادة في السلعة وهو لا يريد شراءها ، يزيد في السلعة لينفع البائع أو ليضر المشتري، لا يحوز أن يزيد إلا وهو يريد الشراء.
قال : وَلا تُصَرُّوا الْغَنَمَ أصلها : تُصرِّروا الغنم ، ومعنى الصِّرَّار: حبس اللبن في الضرع حتى يجتمع إذا قُصد لتغري المشتري، فيحبس اللبن في الضرع ولا يحلبها يوماً أو يومين، فإذا رآها المشتري وقد امتلأ ضرعها ظن أنها حُلِبَت وأن هذا حليب يومها، فمن اشترى دابَّة مُصرَّاة ووجد أن هذا اللبن ليس هو لبنها المعتاد فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا؛ وَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعاً مِنْ تَمْرٍ: مقابل هذا اللبن الذي أخَذَه قطعاً للنزاع.
وهذه البيوع كلها تسبب الشحناء والعداوة والبغضاء؛ فلذا نهى الإسلام عنها، نهى عن: تلقي الركبان ،عن بيع البعض على بعض ، نهى عن النجش، وعن بيع الحاضر للبادي ...
فالإسلام أراد من المسلمين أن يكونوا إخْوَة متحابين، متآلفين، وأن تزول الشحناء والعداوات التي بينهم؛ لهذا نهى عن هذه البيوع.
(المتن)
قال المصنف - رحمه الله تعالى - :
(الشرح)
نعم، والسمسار : هو الدلال . يعني : يكون له سمساراً ، (أن يبيع حاضر لباد) يعني : إذا ورد شخص معه سلعة إلى البلد يريد بيعها يأتي الحاضر ويقول : أنا أبيعها لك، يكون سمساراً، يعني : دلّالاً ، يبيعها له ويعطيه مقابل؛ لأنه إذا تركها مع الحاضر أغلاها على الناس، باعها بغلاء ، ولأن صاحب السلعة يريد بيعها في الحال فيذهب يأخذ ثمنها ويذهب، فلا ينبغي للحاضر أن يأتي ويكون له سمساراً ، يعني :دلالاً، لا يكون له سمساراً.
في هذا الحديث : النهي عن تلقي الركبان، والنهي عن هذه البيوع : بيع البعض على بعض، بيع الحاضر للبادي ، بيع الدابة المصراة.
وفيه النهي عن تصرية اللبن في ضروع بهيمة الأنعام عند البيع ؛ لما فيه ذلك من التدليس والتغرير للمشتري، وإذا علم التصرية وردها بعد حلبها رد معها صاعاً من تمر بدلاً من اللبن قطعاً للنزاع.
اختلف العلماء في صحة بيع من باع على بيعة أخيه ، في صحة بيع الحاضر للبادي، مِن العلماء مَن قال : إنه يصح ،ومنهم من قال: إنه لا يصح .
(المتن)
(الشرح)
هذا الحديث حديث عبد الله بن عمر فيه النهي عن بيع حبل الحبلة وكان بيعاً يتبايعه أهل الجاهلية، فُسِّر ببيع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها ، وقيل: إنه يبيع بيعاً ويجعل الأجل إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها.
و(حبل الحبلة) : جمع حابل ، كظلمة وظالم ، وكاتب وكتبة.
والجزور: هو البعير ذكر وأنثى، (تُنتج): جاءت على لفظ المبني للمجهول في ألفاظ معدودة : تُنتج وتُزهى ويُهرَعون جاءت على لفظ المبني للمجهول ولو كانت مبنية للمعلوم.
و(الجاهلية): ما كان قبل الإسلام ، فكانوا يتبايعون بهذا البيع :كان يبيع الجزور إلى أن تُنتج الناقة ، يعطيه الثمن ، ثم تنتج التي في بطنها ، هذا مجهول، فيه جهالة، فلا بد تحديد الأجل، وقيل : إنه كان يبيع الشارف : وهي الكبيرة المسنة، بنتاج الجنين الذي في بطن الناقة، فُسِّر بتفسيرين : فُسِّر بالجهالة في الأجل، كان يبيع الرجل الجزورَ، ومتى يعطيه الثمن ؟ إذا أنتجت الناقة ثم أنتجت التي في بطنها، وهذا لا يُعلم وقته، مجهول، أو أنه كان يبيع الشارفة : وهي الكبيرة المسنة بنتاج الجنين الذي في بطن الناقة، فيكون بيع الجهول باع مجهولاً ، فالأول : باع بيعاً الأجل مجهول ، والثاني : البيع مجهول ، يبيع الشارف بنتاج الجنين ، ما يعلم متى ينتج الجنين ، فالأول : باع بيعاً والأجل مجهولٌ ، والثاني باع بيعاً مجهولاً يعني : يكون الثمن مجهولاً ، ما يُعرف نتاج الجنين الذي في بطن الناقة .
ويؤخذ من هذا الحديث تحريم البيع إلى أجل مجهول وتحريم البيع المجهول .
(المتن)
باب النهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها
264 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاحُهَا، نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ.