صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الآن الدرس في عمدة الأحكام، الشروط في البيع ..سيكون فيما بعد - إن شاء الله - رسالة في التوحيد...
(المتن)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
نفعنا الله بشيخنا وعلمه والسامعين.
يقول المؤلف ابن قدامة - رحمه الله - :
بابُ الشُّروطِ في البيعِ
277 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ: فَقَالَتْ: كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ ، فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ، فَأَعِينِينِي. فَقُلْتُ: إنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ وَوَلاؤُكِ لِي فَعَلْتُ. فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إلَى أَهْلِهَا، فَقَالَتْ: لَهُمْ، فَأَبَوْا عَلَيْهَا. فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ جَالِسٌ. فَقَالَتْ: إنِّي عَرَضْتُ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِي ، فَأَبَوْا إلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْوَلاءُ. فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ ﷺ. فَقَالَ:خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلاءَ؛ فَإِنَّمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ. ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَمَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ.
(الشرح)
قال المؤلف - رحمه الله تعالى - : (باب الشروط في البيع)، الشروط : جمع شرط، وهو ما يلزم من وجوده الوجود ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدمٌ لذاته، الشرط يكون خارج المشروط ،كالصلاة لها شروط، من شروطها : الوضوء ، فالوضوء خارج الصلاة، الشرط يكون خارج الشيء، خارج الماهية، وهو ما يلزم من وجوده الوجود ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدمٌ لذاته.
فمثلاً : من شروط الصلاة : الوضوء، من شروط الصلاة : استقبال القبلة، من شروط الصلاة : ستر العورة، فإذا عُدِم الوضوء عُدِمَتِ الصلاةُ، لا يمكن أن توجد الصلاة بدون الوضوء، أو كذلك إذا عُدِمَ استقبال القبلة مع القدرة.
"ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدمٌ لذاته" : لا يلزم من وجود الوضوء وجود الصلاة، قد يوجد الوضوء ولا توجد الصلاة، قد يوجد استقبال القبلة ولا توجد الصلاة، هذا هو الشرط، الشرط: "ما يلزم من عَدَمِهِ العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدمٌ لذاته"، لذاته، يعني : قطع النظر عن الشيء المشروط، هذا هو الشرط.
والبيع، في اللغة : هو الأخذ والإعطاء ، وشرعاً : مبادلة مال بمال أو بِعِوَضٍ على وجه مخصوص، مبادلة مال بمال أو بمنفعة .
ذكر المؤلف - رحمه الله - حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت : (جاءتني بريرة فقالت: كاتبتُ أهلي على تسع أواقٍ...) بريرة هذه : مولاة عائشة، مولاة، يعني : أَمَة، ( كاتبتْ أهلها على تسع أواقٍ)، يعني : اشترت نفسها من أسيادها على تسع أواقٍ، والأواق : جمع أوقية، والأوقية : أربعون درهماً ، (في كل عام أوقية) يعني: اشترت بريرة نفسها من أهلها بتسع أواقٍ منجَّمَة: في كل سنة تدفع نجماً (أوقية)، أي : أربعون درهماً.
وهذا فيه دليل على جواز البيع المؤجل، بيع التأجيل، ولهذا هذا بيعٌ مؤجل، اشترت نفسها من أسيادها على تسع أواقٍ، في كل عام تدفعُ أُوقيَّةً، يعني : يُخلُّونَ بينها وبين العمل حتى تعمل، ودل هذا على جواز بيع التأجيل.
ودل هذا على مشروعية المكاتبة، وأنَّهُ يُشرَعُ للإنسان أن يكاتبَ عبدَهُ أو أمَتَهُ إذا طلب الكتابة وكان عنده قدرة على الكسب، قال الله - تعالى - : فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُم فِيهِمْ خَيْرَاً [النور : 33]، وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور : 32]، الْأَيَامَى: جمع أَيِّمٍ، والأَيِّمُ : هو الذي لا زوج له، رجل أو امرأة يقال له : أيم، ومن الحديث : لَا تُنْكَحُ الثَّيِّبُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ.
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور : 32]، هذا أمر من الله - تعالى - بتزويج الأيامى، الذي لا زوج له، وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ، حث على تزويج الأيم، وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ، أي : والصالحين من العبيد والإماء، والصالحين من العبيد، إذا كان العبد صالحاً، يُنكَح : يُزَوَّجُ، وكذلك الصالحة من الإماء، الأَمَةُ، ولو كان فقيراً؛ ولهذا قال الله - تعالى -: إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ من فضْلِهِ[النور : 32] الفقر ما يمنع من التزويج، إذا كان الشخص مستقيماً صالحاً مستقيم على طاعة الله يُزَوَّج، ولو كان فقيراً، الفقر يأتي ويذهب، المال يغدو ويروح، إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ من فضْلِهِ[النور : 32]، هذا وعدٌ من الله - تعالى - للمتزوجين بأن يغنيهم الله، جاء في الحديث ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ، منهم : النَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ العَفَافَ، بس أخذ العلماء من الآية استحباب المكاتبة إذا كان المُكَاتَبُ فيه خيرٌ، يُمكِنُ أن يعمل ويؤدي ما عليه من الكتابة، ويكون له مكانة في المجتمع، يستطيع أن ينفع، أما إذا كان العبد أو الأمة يضيع لو كاتَبَه سيده ولا يستطيع، فإنه لا ينبغي في هذه الحالة أن يكاتبه إذا كان لا يستطيع، إذا كان شيخاً كبير السن، ولا يستطيع ولو كاتَبه ضاع، ولا يجد من ينفق عليه؛ ولهذا قال الله - تعالى - : إِنْ عَلِمْتُم فِيهِمْ خَيْرَاً [النور : 33]
ومن ذلك أنّ "بريرة" هذه مولاة: أمة لأُناسٍ من الأنصار، فاشترت نفسها منهم بتسع أواقٍ، والأوقيَّة : أربعونَ دِرهَماً، مُنجَّماً : تدفع في كل سنة أُوْقِيَّة، فجاءت إلى عائشة - رضي الله عنها - تستعينها في قضاء دينها، جاءت إلى عائشة أُمِّ المؤمنين وقالت : أعينيني - يا أُمَّ المؤمنين - على كتابتي؛ فإني اشتريتُ نفسي من أهلي.
ففيه دليل على مشروعية طلب الإعانة، جواز طلب الإعانة ممن يُعْلَم أنه يعين، وأنَّهُ لا بأس بكون الإنسان يقول لأخيه : أَعِنِّي على كذا، أعنِّي على قضاء دَيني، أعِنِّي على إصلاحِ مزرعتي، أعِنِّي على إصلاحِ سيارتي، إِنَّما المُؤْمِنُونَ إِخْوَة [الحُجُرات : 10]، وقال الله - تعالى -: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة : 2].
فبريرة هذه الأمة جاءت إلى أُمِّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - وقالت : أعينيني - يا أُمَّ المؤمنين - اشتريتُ نفسي من أهلي بتسع أواقٍ، فقالت لها أُمُّ المؤمنين : إن أَحَبَّ أهلُك أن أعُدَّها لهم ويكون ولاؤكِ لي فعلتُ، قالت لها أم المؤمنين : (إن أحب أهلك)، يعني : أسيادها، (أن أعدها لهم)، يعني : أُعطيهم تسع أواق في الحال، وفي لفظٍ آخر : ( أن أصُبَّها لهم صَبَّاً)، وهذا دليل على أن أم المؤمنين في هذا الوقت كان عندها دراهم، قد يكون جاءت هذه الدراهم كذا أو كذا، يأتيها أحياناً دراهم، وفي بعض الأحيان لا يكون عندها شيء، وكانت - رضي الله عنها - من الأجواد الكرام، إذا جاءها شيء تنفقه، ما يبقى شيء، جاءها في يوم مالٌ غزير ففرقته في يومها وكانت صائمة ولم تبق شيئاً للإفطار، فقالت لها مولاتها : يا أُمَّ المؤمنينَ، ما بقي لنا شيء للإفطار، بعدما فرقتْهُ، فقالت لها : لو ذَكَّرْتِني لَفَعَلْتُ، لو ذكرتني لأبقيتُ شيئاً، لكن ما ذكَّرْتِني، فأنفقَتْ جميع ما عندها، مالٌ جزيلٌ جاءها في يوم واحد وأنفقتْهُ - رضي الله عنها -، ففي بعض الأحيان يكون عندها دراهم، هنا عندها دراهم، قالت : (إذا أحب أهلك أن أصبَّها لهم صبَّاً)، تسع أواقٍ عندها في الحال، موجودة في ذلك الوقت.
(ويكون ولاؤكِ لي)، الولاء : هو العُصُوبة، وشرعا: عصوبةٌ سَبَبُها نعمةُ المعتق على رقيقِهِ بالعتق ، يعني : الولاء إذا مات العبد وليس له وارث من العَصَبة : ليس له آباء ولا أجداد، ولا أبناء ولا بنات، ولا أعمام، في هذه الحالة يرثه سيده الذي أعتقه بالولاء، هذا هو الولاء .
عائشة - رضي الله عنها - تقول : إن أحب أهلُكِ أن أشتريَكِ (أصب لهم صبّاً تسع أواق ويكون الولاء لي): العصوبة تكون لي، وتكونين أنتِ مولاةً لي، وإرثكِ يكون لي عند الحاجة، فهذه عصوبة، الولاء تابعة للعتق، من أعتق كان له الولاء، فذهبت بريرة إلى أهلها وأخبرتهم بقول عائشة، (فقالت لهم، فأبوا عليها): رفضوا، وقالوا : إن أحبَّت عائشة أنْ تشتريَكِ لوجه الله ويكون الولاء لنا تفعل، وإلا فلا، نحن نريد الولاء، الولاء: العصوبة تبقى كونها تنتسب إليهم، يكون منهم وينسب إليهم ويكون الإرثُ لهم، قالوا : نحن نريد الولاء، إن أحبت عائشة أن تشتريك لوجه الله وتترك الولاء يكون لنا وإلا فلا، فأبوا عليها.
(فجاءت من عندهم ورسول الله ﷺ جالس فقالت : إني عرضت ذلك عليهم فأبوا) - تقول لعائشة ذلك والرسول ﷺ يسمع - (إلا أن يكون لهم الولاء)، فأخبرَتْ عائشةُ النبيَّ ﷺ فقال: خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلاءَ؛ فَإِنَّمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، يعني : قال النبي ﷺ لعائشة : اشتريها وأعطيهم الشرط، قُولي: لكم الولاء، لكن لا ينْفُذُ هذا الشرط؛ لأن الولاء إنما يكون لمن أعتق، والذي لم يُعتِق لا يكون له الولاء، فهذا الشرط يبْطُلُ ويصحُّ البيع، فقال النبي: خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلاءَ؛ فَإِنَّمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، ففعلت عائشة، اشترتْها وقالت : لكم الولاء.
(ثم قام رسول الله ﷺ في الناس)؛ ليبين بطلان هذا الشرط، اشتراط الولاء، (ثم قام رسول الله ﷺ في الناس فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال : أَمَّا بَعْدُ، فَمَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ.
فبطل الشرط وصح العتق، صح العتق وبطل شرطهم أن يكون لهم الولاء، وانقلب الولاء لعائشة، صار الولاء لعائشة تلقائياً ولو كانت اشترطت لهم الولاء؛ لأن الولاء تابع للعتق، من أعتق كان له الولاء، وعائشة هي التي أعتقت، ولا يكون لهم الولاء.
وهذا فيه من الفوائد كما سبق : جواز البيع إلى أجل.
وفيه مشروعية المكاتبة للعبد والأمة إن كان فيه خير، كما ذكر الله في كتابه، وفيه دليل أن الشرط المخالف للنصوص يبطل ويصح البيع.
وفيه دليل على أن من الشروط ما يبطل والبيع صحيح، ومن الشروط ما إذا بطل بطل البيع، ومن الشروط ما يَبطل ويكون البيع صحيحاً، مثلما اشترط هؤلاء الأنصار على عائشة أن يكون لهم الولاء، بطل الشرط وصح البيع، وانتقل الولاء إلى عائشة.
وفيه دليل وهذه قاعدة عامة قال: إِنَّمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. فيه دليل على أن الولاء لا يكون إلا لمن أعتق، ولو اشترطه غير من أعتق لا يكون له.
وفيه مشروعية الخطبة من الإمام أو نائبه لتنبيه الناس وتعليمهم ما ينفعهم، وتحذريهم مما يضرهم، وبيان بطلان الشروط الفاسدة.
وفيه مشروعية حمد الله والثناء عليه في الخطبة، وإنه يُشرع حمد الله والثناء عليه والصلاة على نبيه، ومشروعية قول: أما بعد، أما بعد: يؤتى بها في الخُطب وفي الرسائل للانتقال من موضوع إلى موضوع، حَمِد الله وأثنى عليه وصلى على النبي وقال : أَمَّا بَعْدُ، انتقل من الخطبة إلى الدخول في صُلب الكلام.
وكان النبي ﷺ يأتي بها في خُطبِهِ ورسائله، فكان في خُطبة الجمعة يقول : أَمَّا بَعْدُ، فإِنَّ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا.
وفي مكاتباته للملوك والرؤساء يكتب هذا، يقول : أَمَّا بَعْدُ، كما كتب لـ "هِرَقْلَ" عظيم الروم، قال : مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ، فكلمة (أما بعد) مشروعة كتابتها في الخطب والرسائل.
وهي أَوْلَى من قول بعض الناس : (وبعد) أو بعض الخطباء : (وبعد)، (أما بعد) أحسن من (وبعد).
قيل : إنها هي فصل الخطاب الذي أوتيها "داود"، وأول من قالها داود، وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ص : 20]، وقيل : أول من قالها "قسُّ بن ساعدة الإيادي"، وقيل غير ذلك.
وفيه دليل على أنه إذا أخطأ بعض الناس أو غلِطَ أو فعلَ بعضهم معصية فإنه لا يسمى وإنما يعمم ولا يسمى بعينه، فالنبي ﷺ يريد أن ينبه هؤلاء الأنصار الذين غلطوا لكن ما سماهم قال : مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟، ما قال ما بال فلان وفلان الأنصار الذين اشترطوا على عائشة هذا الشرط؛ لأنه يحصل المقصود بذلك من دون أن يتضرر من فعل ذلك، قال : مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وما بكتاب الله : حكمُ الله وشريعته؛ لأن هذا ليس في القرآن، وإنما كتاب الله يشمل القرآن والسنة، حكم الله، كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ فيه دليل على أن الشروط المخالفة لنصوص الكتاب والسنة باطلة.
قولهُ: لَيْسَ فِي كِتَابِ : يشمل الكتاب والسنة، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ يعني: مقدم على قضاء غيره، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ.
هذا الحديث يسمى بحديث "بريرة" مشهور عند أهل العلم.
وفيه من الفوائد : جواز تصرف المرأة في مالها إذا كانت رشيدة ولو لم تستأذن زوجها، بغير إذن زوجها، فيه دليل على أن المرأة إذا كانت رشيدة لها التصرف في مالها، ولا يشترط أن تستأذن زوجها ولا أباها...، إذا كانت رشيدة، فهذه عائشة - رضي الله عنها - اشترت بريرة قبل أن تخبر النبي ﷺ ولم ينكر عليها، وكذلك - أيضاً - دل على هذا أن النبي ﷺ في صلاة العيد خطب الناس وحثهم على الصدقة، وجاء إلى النساء بعد خطبة العيد ووجه الخطبة للنساء وقال : تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ، ومعه بلال ، فبسط بلال رداءه، وجعلت النساء يتصدقن من حليهن، جعلت المرأة تلقي القرط من أذنها وتلقيه، والخاتم من أصبعها وتلقيه، ذهبٌ، ولم تستأذن هؤلاء النساء، ما استأذن أزواجهن ولا استأذنَّ آباءهنَّ، فدل على أن المرأة لها التصرف في مالها إذا كانت رشيدة ولو بغير إذن زوجها.
ويدل على ذلك - أيضاً - ما ثبت في صحيح مسلم أن ميمونة زوج النبي ﷺ أعتقت مولاةً لها ولم تخبر النبي ﷺ فلما جاء يومُها جاء إليها النبي ﷺ قالت : أشعرتَ أنني أعتقت فلانة؟ ميمونة تقول للنبي: أما علمتَ أني أعتقت فلانة؟ فقال النبي ﷺ لها : أَمَا إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكِ، ولم ينكر عليها، ما قال : لماذا لم تستأذنيني؟ قال : أَمَا إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكِ، فيه دليل على أن صلة الرحم أفضل من العتق، أخوالها رَحِمٌ، صلة الرحم أفضل من العتق، هي أعتقتها ولكن بيَّنَ لها النبي ﷺ أنها لو أعطتها أرحامها كان أفضل، أَمَا إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكِ.
وأما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي ﷺ قال: لَا يَحِلُّ لِامرَأَةٍ التَّصَرُفُ فِي مَالِهَا بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا.
فهذا أجاب عنه العلماء بجوابين:
الجواب الأول : أنه ضعيف، وهو شاذ لشذوذه ومخالفته للنصوص، الأحاديث التي في مسلم وفي البخاري أصح منه، فيكون الحديث ضعيفاً؛ لشذوذه.
والجواب الثاني : أنه لو صح فهو محمول على أن لا يحل لامرأة عطية بغير إذن زوجها من مالِه هو لا من مالها، لا يحل لها عطية من مال زوجها إلا بإذنه، أما مالُها فلها أن تعطي ولو لم تستأذن زوجها، لكن الأفضل أن تستأذن زوجها من باب تطييب الخاطر، كونها تستأذن زوجها، كونها تخبره هذا من حسن العشرة ومن مكارم الأخلاق.
وفيه مشروعية إعانة المُكاتَبِ على كتابته.
وفيه مشروعية الخُطبة لأمر يحدث.
وفيه جواز رفع الصوت لإنكار المنكر لكنه يكون عامّاً ولا يُخصص به أحد.
(المتن)
(الشرح)
نعم هذا الحديث حديث جابر، وفي الصحيحين عن جابر بن عبد الله الأنصاري (أنه كان يسير على جمل فأعيا)، يعني : تأخَّرَ في السير وتعِب، (فأراد أن يسيبه): أتعبه، فأراد أن يذهب ويتركه؛ لأنه أتعبه وآذاه بسبب تأخره، وعدم لحوقه للركب، فهذا الجمل أتعب جابر كان مع الجيش، أتعبه هذا الجمل فأراد أن يسيبه ويتركه بسبب إعيائه، وإتعابه له.
قال : (فلحقني النبي ﷺ فدعا لي وضربه، فسار سيراً لم يسر مثله قط) يعني : جاء النبي ﷺ وضربه، وفي لفظٍ آخر : أنه جاءه النبي ﷺ ونَخَسَهُ، وفي لفظ : أن جابر ما علِم أنه جاءه رجل من خلفه فنخسه، (فسار سيراً لم يسر مثله): صار يسير سريعاً، تقدَّم على الجيش، بدل ما كان يتعبه ويؤخره يريد أن يتركه، نخسه النبي ﷺ أو ضربه، فسار سيراً سريعاً.
هذا فيه علامة من علامات النبوة، معجزة للرسول - عليه الصلاة والسلام - ، جملٌ أتعب جابر، بذل فيه جميع الحيل حتى يسير وحتى يلحق الركب فلم يفعل، فلما جاء النبي ﷺ بمجرد ما نخسه سار سيراً سريعاً وتقدم ، وهذا فيه معجزة من معجزات النبي ﷺ وعلامة من علامات النبوة، وأنه رسول الله حقَّاً.
وفيه دليل على قدرة الله العظيمة، وأن الله - تعالى - لا يعجزه شيء، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [يس : 82] ودلائل النبوة ومعجزات النبي ﷺ كثيرة : منها تكثير الطعام، ومنها تكثير الماء، ومنها انشقاق القمر ، وغير ذلك من المعجزات، جمعها العلماء في مؤلفات : دلائل النبوة للبيهقي، وكذلك القاضي عياض جمع في هذا شيئاً، وهي مبثوثة في الكتب، وفي الصحاح والسنن والمسانيد .
فهذا من معجزاته ومن دلائل نبوَّته كونه نخس هذا البعير فسار سيراً، وكان قد أعيا وأتعب صاحبه.
قال جابر : ثم قال : بِعْنِيهِ بِأُوُقِيَّةٍ.: بعنيه - يا جابر - الجمل هذا بأوقية، والأوقية : أربعون درهماً، (قلت لا) : في الأول قال : لا، ثم قال : بِعْنِيهِ. قال : (فبعته بأوقية واستثنيت حملانه إلى أهلي): قلت : يا رسول الله، أبيعك إياه لكن بشرط أن الحمل أؤديه إلى أهلي ثم أُسلِّمك إياه.
هذا فيه دليل على جواز البيع والشرط، هذا شرطٌ : باعه الجمل جابر واشترط حُمْلَانَهُ إلى أهلِهِ، هذا شرط صحيح، والشرط الذي في حديث "بريرة" شرطٌ فاسدٌ، فإذا كان الشرط فاسداً يبطل الشرط ويصح البيع، وإذا كان الشرط صحيحاً يبقى، يبقى البيع صحيحاً والشرط صحيحاً، لا بد من تنفيذه، فاشترط حُمْلَانَهُ إلى أهلِهِ.
فيه دليل على جواز البيع وشرطٍ واحد، وأما إذا كان في البيع شرطان، كأنْ يشترط عليه، مثلاً : أن يحمل معه الحطب، ويشترط عليه أن يُكسِّرَه، شرطان فأكثر، ففيه خلاف بين أهل العلم : من العلماء من قال : لا يجوز أكثر من شرط، واستدلوا بحديث لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، ومن العلماء من أجاز ذلك، لكن الشرط الواحد هذا متفق على جوازه، وهذا شرطٌ واحد، فيه دليل على جواز البيع والشرط إذا كان صحيحاً، وأما إذا كان فاسداً فإنما يبطل الشرط ويصح البيع كما في حديث "بريرة" : اشترطوا الولاء فبطل الشرط وصح البيع، وهنا صح البيع والشرط، اشترط حملانه إلى أهلي.
(فلما بلغتُ) قال : (أتيته بالجمل، فنقدني ثمنه) : أعطاه النبي ﷺ ثمنه، ثم رجع إلى أهله، فلما رجع، قال : أرسل النبي ﷺ في أثري، مرة ثانية، (فأرسل في أثري) فقال : أَتُرَانِي مَاكَسْتُكَ لآخُذَ جَمَلَكَ؟
المماكسة هي : طلب التخفيض في البيع، كأنْ تأتي عند البائع تقول : بكم السلعة؟ فيقول لك : بمائة، فتقول : لا، بثمانين، فيقول : لا، بمائة، فتقول : لا، بثمانين، فيقول : بتسعين، فتقول: لا، بثمانين، هذا يسمى : مماكسة، تطلب منه التخفيض في البيع، فيه دليل على أنه لا بأس في المماكسة، كونك تطلب أن يُنزِّل في البيع، لا بأس.
بعض الناس الحُجَّاج يسأل، يقول: هل هذه المماكسة من الجدال في الحج؟ لا، ليست من الجدال في الحج، إذا كانت بأسلوب هادئ، ليست من الجدال في الحج، فلا بأس بالمماكسة، تريد أن تشتري السلعة وتطلب منه أن يُخفِّض من ثمنها لا بأس؛ فالنبي ﷺ قال لجابر لما جاءه : أَتُرَانِي مَاكَسْتُكَ لآخُذَ جَمَلَكَ؟ يعني : تريد أنني نزلتك من البيع إذ قلت : بعنيه بأوقية، نزَّلت القيمة لأجل أن آخذ جملك ؟ خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ فَهُوَ لَكَ، أعطاه الجمل والدراهم؛ لأن الرسول ﷺ ما لَهُ هدف في البيع، أراد أن يبين للناس البيع والشراء وأحكام البيع والشراء، فاشترى من جابر الجملَ ، وأعطاه الثمن، وأعطاه الجمل، خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ، اشتراه بأوقية وأعطاه الدراهم، ثم رده مرة ثانية وأعطاه الجمل.
قد تكون ،جاء في بعض الروايات أن جابر كانت نفسه متعلقة بالجمل، وأن بعض أخواله لَامَهُ على بيعه، فالنبي ﷺ ليس له غرض في البيع وليس من مقصوده الدنيا أو مقصوده المكاسب، إنما غرضه أن يعلم أمته كيف يبيعون، وكيف يشترون، ويبين لهم أن البيع والشرط جائز، فباعه واشترط شرط حملانه إلى أهله، وماكَسَ أيضاً، فدل على أن هذه الأحكام صحيحة، وهي جواز البيع والشرط، وجواز المماكسة في البيع.
وفيه أن البيع يكون حاضراً ويكون مؤجَّلاً، قوله : (فنقدني ثمنه): أعطاه الثمن في الحال، وفي قصة "بريرة" البيع مؤجل، لكن نقدتْه عائشة، نقَدَتْهُمُ الثمن.
وقوله : (فأرسل في إثري)، يعني : خلفي، (استثنيت)، يعني : اشترطت، استثنيت حملانه إلى أهلي، يعني : الحِمْل إلى أهلي، (أراد صاحبه أن يسيبه)، يعني: يتركه.
وفيه حسن معاملة النبي ﷺ لأصحابه.
وفيه كَرَمُ النبي ﷺ حيث أعطاه الجمل والثمن.
وفيه دليل على جواز تأخير الثمن، وهذا هو الشاهد : أن فيه دليلاً على جواز تأخير الثمن وأنه لا بأس به.
وفيه دليل على جواز البيع المؤجل والبيع الحاضر.
(المتن)
(الشرح)
هذا الحديث حديث أبي هريرة اشتمل على أحكام :
الحكم الأول : نهي بيع الحاضر للباد، والحكم الثاني : حكم النجش، والحكم الثالث: حكم بيع الرجل على بيع أخيه، والحكم الرابع: حكم خِطبة الرجل على خطبة أخيه، والحكم الخامس : نهي المرأة أن تسأل طلاق أختها، خمسة أحكام.
ملاحظة : قال شيخنا الفاضل أثابه الله.. اشتمل الحديث على ستة أحكام ثم بدا له أثناء شرحه للحديث أنها خمسة أحكام فعدلها في سياق الشرح ، لذلك قمنا بالتعديل من بداية كلامه وكتبناها خمسة بدلاً من ستة كما عدلها هو حفظه الله .
اشتمل هذا الحديث على خمسة أحكام، وهو حديث صحيح رواه الشيخان وغيرهما.
هذه الأحكام الخمسة كلها منهيٌّ عنها، خمسة أنواع منهيٌّ عنها: بيع الحاضر للبادي منهيٌّ عنه، النجش منهيٌّ عنه، بيع الرجل على بيع أخيه منهيٌّ عنه، خِطبة الرجل على خِطبة أخيه منهيٌّ عنه، سؤال المرأة طلاق أختها منهيٌّ عنه، خمسة أحكام.
بيع الحاضر للباد : أصل الحاضر : من كان من أهل البلد، والبادي : مَن جاء مِن البادية، من خارج البلد؛ وذلك أن القادم إلى البلد إذا كان معه سلعة يريد أن يبيعها بسعر يومها ويمشي، فيبيعها برخص، فيستفيد أهل البلد، فإذا جاء الحاضر للبادي وباع له فإنه يعرف السلع؛ لأنه من أهل البلد، فإذا باع له معناه استوفى الثمن كاملاً فضرَّ أهل البلد؛ فلهذا نهى النبي ﷺ أن يبيع حاضرٌ لباد.
وصورة الحاضر للباد : أن يجيء البلدَ غريبٌ ليس من أهل البلد بسلعة يريد بيعها في السوق بسعر يومها في ذلك الوقت، فيأتي حَضَرِيٌّ من أهل البلد، فيقول : ضعها عندي لأبيعها لك بالتدريج بأغلى من هذا الثمن، أنا أعرف البيع، أنت تبيعها الآن بخمسمائة وهي تساوي ثمانمائة، خليها عندي بعد أسبوع أبيعها لك بالتدريج : بثمانمائة، تسعمائة، ألف، فيضر أهل البلد، فهذا هو الحكمة من النهي؛ فلهذا نهى النبي ﷺ أن يبيع الحاضر للباد، دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقِ اللهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كما في الحديث الآخر.
والحاضر : هو من كان من أهل البلد، والبادي : من كان من خارج البلد، سواء من البادية أو من غيرها، لكن الأصل أنه يأتي البلد من البادية، يكون معه سمنٌ، أو أَقِطٌ مثلاً : يريد أن يبيعها بسعر يومها في الحال ويخرج، ما يريد أن يقيم، يخرج إلى أهله، فيبيعها بما يسَّر الله، أول بيعة، ثاني بيعة، هذا فيه مصلحة لأهل البلد، فإذا جاء واحدٌ من أهل البلد، وقال له : أعطني السلعة أبيعها لك بالتدريج، ضرَّ أهل البلد؛ لأنه يعرف قيمة السلعة، يزيد، فلا يبيعها بمثل ما يبيعها؛ فلهذا نهى النبي ﷺ أن يبيع حاضر لباد؛ قال: نهى أن يبيع حاضر لباد، لئلا يضر أهل البلد، (أن يبيع حاضر لباد) هي أصلها : أن يبيع حضَرِيٌّ لِبَدَوِيٍّ، أصل الحاضر: الحضريُّ، والبادي : البدويٌّ، ولكن المقصود بالبادي: كل من ورد إلى البلد وليس من أهل البلد بسلعة يريد أن يبيعها بسعر يومها، فليس لواحد من أهل البلد أن يأتي إليه ويقول : ضع السلعة عندي لأبيعها لك؛ لئلا يضر أهل البلد.
الحكم الثاني : النجش، والنجش : هو الزيادة في السلعة وهو لا يريد شراءها، قال : وَلا تَنَاجَشُوا كأن يزيد في السلعة ليضر المشتري، يزيد في السلعة ، السلعة مثلاً : بخمسمائة، يزيد ستمائة وهو لا يريد شراءها ستمائة سبعمائة يريد أن ينفع البائع أو يريد أن يضر المشتري، أو يريد الأمرين معاً، هذا حرامٌ عليه، لا تزد في السلعة إلا إذا كنت تريدها، بعض الناس ما يريد الشراء، لو وقفَتْ عليه ما اشتراها، لكن يزيد، يدرِّجها، يمشيها حتى يرتفع ثمنها بدل ما تساوي ألفاً تساوي ألفين أو ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف حتى ينفع البائع، أو حتى يضر المشتري؛ لأنه بينه وبينه خصومة، أو للأمرين معاً.
فالنجش : حرام، والناجش : عاصٍ آثمٌ، فلا يحل للإنسان أن يزيد في السلعة إلا إذا كان يريد شراءها، وهذا يسبب العداوة والبغضاء - أيضاً - بين المسلمين إذا عرفوا أنه يزيد في السلعة، يحصل بينه وبين المشتري عداوة.
وَلا يَبِعِ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ: لا يبيع الرجل على بيع أخيه ،نُهي أن يبيع الرجل على بيع أخيه وذلك بعد استقرار الثمن وركون أحدهما إلى الآخر، أو بيع الرجل على بيع أخيه إذا كان في مدة الخيار، كأنْ يقول لمن اشترى سلعة في زمن خيار المجلس أو الشرط : بمائة، شخص باع سلعة لشخص بمائة، واشترط أن يكون له الخيار عشرة أيام، فيجيء إلى المشتري شخصٌ آخر فيقول : افسخ ا لبيع لأبيعك خيراً منها بثمانين، أنت لك الخيار عشرة أيام اشتريتها بمائة، أنا أعطيك سلعة مثلها أو أحسن منها بثمانين، افسخِ البيع .
أو يقول للبائع : افسخ البيع وأنا أعطيك أكثر، اشتراها بمائة وأنا أشتريها بمائة وعشرين، افسخ البيع، هذا البيع على البيع والشراء على الشراء بمعنى واحد، فلا يجوز للإنسان أن يبيع على بيع أخيه، كأن يقول لمن اشترى في زمن الخيار أو في زمن الشرط: افسخ البيع لأبيعك خيراً منها بمثل ثمنها أو أقل، أو يقول للبائع : افسخ البيع لأعطيك ثمناً أكثر، يقول مثلاً للمشتري: افسخ البيع وأنا أعطيك مثلها بأنقص من ثمنها، أو يقول للبائع : افسخ البيع وأنا أشتريها بأكثر من ثمنها، فهذا حرام، البيع على البيع والشراء على الشراء، وكذلك السوم في الحديث الآخر لاَ يَبِيعُ أَحَدُكُم عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلاَ يَسُومُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ السوم على سومه : كأنْ يأخذ الشخص سلعة ويساومه إياها فيقول له : بمائة، فيركن إليه، يريد أن يبيعها فيأتي إليه ويقول : لا، بمائة وعشرة، فليس له أن يسوم على سوم أخيه، مادام استقر، ركن إليه البائع، ومال إلى أنه يريد أن يبيع، لا تَسُمْهُ، ولكن إذا كان في المزاد العلني لا بأس، يقولون : مائة، قال الثاني : مائة وعشرة، مائة وعشرون،... والبائع ما ركَن، يريد، يطلب، يزيد،: من يزيد، من يزيد، لك أن تزيد، لكن شخص أخذ السلعة، وقال : أنا أشتريها بمائة، قال : والله كذا، استقر، يعني : ركن إليه، يريد أن يبيع، فيجيء شخص آخر، فيقول : أشتريها بمائة وعشرة، فالحديث فيه وَلا يَبِعِ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ عرفنا بيع الرجل على بيع أخيه، كأن يقول للمشتري: افسخ البيع لأبيعك خيراً منها بمثل ثمنها، وكذلك الشراء على الشراء، كأن يقول للبائع : افسخ البيع لأشتري منك بأكثر من ثمنها.
الحكم الرابع : قوله : وَلا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَتِهِ، وذلك إذا خطب رجل امرأة فركن إليه أهلها واتفقا على صداق معلوم وتراضيا ولم يبق إلا العقد، فيجيء آخر ويخطب ويزيد في الصداق مثلاً، أو هو يعلم أن فلاناً خطب فلانة، ثم يأتي ويخطب عليه، لا يجوز له أن يخطب حتى يأذن له الخاطب الأول، أو يردوه، أو يرد ، جاء في الحديث لا يَخْطُبْ أَحَدُكُم عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَأذَنَ أَو يُرَدُ، إذا خطب رجل امرأة من شخص فليس لك أن تخطب إلا إذا استأذنته وأذِنَ لك أو ردَّهُ أهل المرأة، إذا ردوا الأول فلا بأس أن تخطب، أو أذن لك، في الحالتين يجوز.
الحكم الخامس : وَلا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلاقَ أُخْتِهَا لِتَكْفِئَ مَا فِي إِنَائِهَا. تسأل المرأة طلاق أختها، كأنْ يريد شخص أن يخطب امرأة من آل فلان، فيشترطون عليه أن يطلق زوجته الأولى ، يقولون : أنت رجل شريف ولك مكانة عندنا لكن المشكلة زوجتك الأولى، إذا طلقت زوجتك الأولى زوجناك وإلا فلا، هذا حرام عليهم، ما يجوز لهم هذا.
بل هم الواجب عليهم أحد الأمرين: إما أن يزوجوه، وإما أن يردوه، أما أن يشترطوا طلاق زوجته الأولى فهذا حرام، فالمرأة لا يجوز لها أن تشترط طلاق أختها؛ ولهذا قال النبي: وَلا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلاقَ أُخْتِهَا، لا تسأل المرأة الجديدة طَلاقَ أُخْتِهَا، زوجته الأولى، لِتَكْفِئَ مَا فِي إِنَائِهَا، شبه الرسول - عليه الصلاة والسلام - ما يحصل للزوجة الأولى من العِشرة والنفقة بالشيء الذي في الإناء يُكفأ،يعني : لا تسأل طلاق أختها لتستأثر بعشرة الزوج ونفقته بدلاً من زوجته الأولى، النفقة والمعاشرة التي تكون للزوجة الأولى تكون للزوجة الثانية، شبَّهَ النفقة والعشرة بالشيء الذي يكون في إناء ثم يُكْفَأ.
هذا الحديث اشتمل على هذه الأحكام الخمسة : تحريم بيع الحاضر للبادي، تحريم النجش، تحريم بيع الرجل على بيع أخيه، ومثله الشراء على شراء أخيه، ومثله السوم على سوم أخيه، تحريم خِطبة الرجل على خطبة أخيه، تحريم سؤال المرأة طلاق الزوجة الأولى.
والحكمة من تحريم هذه الأشياء : أنها تؤدي إلى الشحناء، والعداوة، والبغضاء، ومحن، ولأن الإنسان إذا باع الحاضر للباد حصل نزاع بينه وبين أهل البلد، هذا الذي باع، وقالوا : أنت تسببت في غلاء السعر علينا، وكذلك النجش يسبب العداوة والبغضاء، وكذلك بيع الرجل على بيع أخيه، والشراء على شراء أخيه، والخطبة على خطبة أخيه، وسؤال المرأة طلاق زوجها...، كل هذه تؤدي إلى المحن والبغضاء والشحناء والعداوات، والإسلام أراد من المسلمين أن يكونوا إخوَةً متحابِّين، ليس بينهم عداوات، إِنَّما المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحُجُرات : 10] أراد الإسلام من المؤمنين ألا يكون فيه صدورهم محن ولا بغضاء ولا عداوات، وأن يكونوا متآلفين، وأن تكون صدورهم سليمةً.
وهذا الحديث أصل عظيم في مكارم الأخلاق.
قوله لا يَبِع عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ: هذا من باب التلطف والعطف، والمراد : أُخُوَّةُ الإسلام، وفيه أن الإسلام يحارب أسباب الشقاق والبغضاء والعداوات، ويدعو إلى عوامل المحبة بين الناس.
(المتن)
بابُ الرِّبا والصَّرْفِ
280 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: الذَّهَبُ بِالذَّهِبِ رِبًا إلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِباً إلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِباً إلاَّ هَاءَ وَهَاءَ.
(الشرح)
هذا الباب باب الربا والصرف ، والربا، لغةً : الزيادة.
وشرعاً : الزيادة في المعاملة بالنقود أو المطعومات إما في القدر أو في الأجل.
والصرف : يكون في النقود خاصَّة، في النقود أو ما يقوم مقامها.
الربا : في اللغة : الزيادة.
وشرعاً : الزيادة في المعاملة بالنقود أو المطعومات، في القدر أو في الأجل، في القدر، يعني : يبيع مثلاً : مائة بمائة وعشرين، أو في الأجل، يعني : مائة بمائة وعشرين مؤجلة.
والصرف : بيع نقدٍ بنقدٍ، بيع الدراهم بدراهم، هذا الصرف، وسمي صرفاً؛ لصرفه عن مقتضى البيوع من جواز التفاضل فيه عند اختلاف الجنس.
وقوله : هَاءَ وَهَاءَ : خُذْ وَأَعْطِ بدون تأجيل، هَاءَ: خُذْ، وَهَاءَ : أَعْطِ، خذ وأعط دراهم ما في تأجيل، خذ وأعط ، ذهب بذهب خذ وأعط، ذهب بفضة خذ أعط .
والنبي ﷺ نصّ على ستة أنواع يجري فيها الرِّبا في حديث عبادة بن الصامت أن النبي ﷺ قال : الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَمَنْ زَادَ، أَوِ اسْتَزَادَ، فَقَدْ أَرْبَى
هذه الربويات الست : الذهب، والفضة، والبُرُّ، والشعير، والتمر، والملح، هذه مُجْمَعٌ عليها، نصَّ عليها النبي ﷺ.
فاختلف العلماء: هل يُقاس عليها غيرها أو لا يُقاس عليها؟
فالظاهرية (أهل الظاهر) قالوا : لا يجري الربا إلا في هذه الأمور الستة، وما عداها فليس فيه ربا.
والجمهور قالوا : يقاس عليها ما وافقها في العلة ، واختلفوا في العلة ما هي؟ :
أما الذهب والفضة، فالعلة : الثمنية، كل ما كان ثمناً للأشياء فهو له هذا الحكم، من ذلك الأوراق النقدية الآن، فالأوراق النقدية يجري فيها الربا وليست ذَهَباً ولا فضةً، لماذا؟ لأن العلة ثمنية، لأنها قائمة مقام الذهب والفضة، فحكمها حكم الذهب والفضة، فالعلة الثمنية: كل ما كان ثمناً للأشياء.
حتى نص العلماء على هذا قديماً حتى الإمام مالك - رحمه الله - قال : "لو تعامل الناس بالجلود لكان له حكم الذهب والفضة"، الآن يتعامل الناس بالورق وهي أضعف من الجلود، الجلد قوي يستمسك، لكن الورق يذوب في الماء، قال : "لو تعامل الناس بالجلود لكان له حكم الذهب والفضة"، الآن يتعامل الناس بالأوراق فلها حكم الذهب والفضة.
هذه الأمور الستة التي نص عليها النبي ﷺ في حديث عبادة لا يجوز فيها الربا، يعني : لا يجوز فيها الزيادة، ولا يجوز فيها التأجيل؛ ولهذا قال النبي ﷺ : لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا الوَرِقَ بِالوَرِقِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ
وفي لفظ: إلَّا يَدًا بِيَدٍ، وفي لفظ: إِلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وقوله : تُشِفُّوا، يعني: تُفضِّلوا وتزيدوا. الشفّ : يُطلَقُ على الزيادة ويُطلق على النقص.
وقوله: مِثْلًا بِمِثْلٍ يعني : الذهب يباع بالذهب وَزْنًا بِوَزْنٍ، وغَائِبًا بِنَاجِزٍ يعني: حالَّاً بمؤجَّلٍ، والوَرِقَ المراد به : الفضة، وقوله: وَزْنًا بِوَزْنٍ، المراد: التساوي.
هذه الربويات الست التي ذكرها النبي ﷺ : الذهب، والفضة، والبُرُّ، والشعير، والتمر، والملح، إذا بيع واحد منها بمثْلِهِ فلابد للسلامة بهذه البيوع من شرطين، إذا بيع ذهب بذهب، فضة بفضة، بر ببر، شعير بشعير، تمر بتمر، ملح بملح، بيع الشيء بمثله، لابد من شرطين:
الشرط الأول: أن يتساويا في المقدار بالوزن أو الكيل، إذا كان يوزن بالوزن، وإذا كان يُكال بالكيل، وأصل التمر والبر والشعير والملح، هذه مكِيلَة، والذهب والفضة بالوزن.
إذا بعت ذهباً بذهب فلابد أن يكون الوزن واحداً، ولو كان أحدهما ذهباً جديداً والثاني قديماً، الجديد والقديم واحد، لا يجوز بيع الربوي بربوي إلا بالوزن ذهب بذهب.
فإذا قال شخص : إذا كان شخص أو امرأة تريد أن تبيع ذهباً قديماً بذهب جديد ولا يمكن أن يقبلوا؛ ثمن الجديد أغلى، أرادت مثَلاً : تبيع مصاغاً لها قديماً بمصاغٍ جديد، فتجد صاحب الذهب يقول : أنا أشتري منك الذهب - سواءً أسورة أو خواتم أو غيرها- أشتريها مثَلاً : بعشرة آلاف وأُعطيكِ جديداً باثني عشرَ ألفاً، هذا ربا لا يجوز، هذا مثَلاً :الذهب القديم يباع بالذهب الجديد بزيادة، وتعطيه زيادةً ألفين؛ لأن هذا جديد وهذا قديم ، نقول : هذا ربا لا يجوز، إذاً ما المخرج؟ أنا ما يمكن أن أبيع الجديد بالقديم بدون زيادة، ما المَخْرَجُ؟ المخرج: أن تبيع الذهب القديم بدراهم ثم تشتري بالدراهم ذهباً جديداً، تبيعه بصنف آخر غير الذهب حتى ما يحصل تماثل؛ لأنه إذا لم يكن تماثلٌ جازتِ الزيادة.
فإذاً، إذا بيع ذهب بذهب فلابد فيه من أمرين:
الأمر الأول: التماثل بالوزن.
والأمر الثاني : التقابض بمجلس العقد، خُذ وأعطِ، ما في تأجيل، تأخذ الذهب القديم إلى الصائغ الآن وبعد ساعتين الذهب الجديد أو بعد يوم، لا ما فيه، خذ وأعطِ، خذ ذهباً قديماً بذهب جديد في الحال يداً بيد كما قال النبي ﷺ والوزن بالوزن.
فإذا اختلف الأصناف: باع ذهباً بفضة، سقط شرط وبقي شرط ، سقط شرط : وهو التماثل، ما يجب التماثل، لكن بقي التقابض بمجلس العقد يداً بيد.
خذ وأعط في الحال، لكن ما في مانع أنك تبيع ذهباً قديماً يساوي مثلاً: عشرة آلاف بذهب جديد يساوي ثمانية آلاف أو اثني عشر ألفاً، ما في مانع؛ لأنه اختلف الجنس، اختلف الصنف، فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم، لكن لابد أن يكون يداً بيد.
ومثله : إذا باع بُرَّاً بِبُرٍّ لا بد من شرطين :
الشرط الأول: التماثل بالكيل، صاع بر بصاع بر ولو كان هذا براً جيداً وهذا براً رديئاً، وكذلك إذا باع تمراً جديداً بتمر قديم لا يجوز الزيادة، لابد أن يكون بالكيل أو بالوزن، ولابد أن يكون يداً بيد.
فإذا قال : ما يمكن أن يشتري تمراً مثلاً: جديداً جيِّداً مثلاً :سُكَّرِي غالي، بتمر رديء، أو مثَلاً: عجْوَة : تمر المدينة "العجوة"، غالي بتمر عادي، ما المخرج ؟ المخرج أنك تبيع التمر القديم بدراهم وتشتري بالدراهم تمراً جديداً، أو تبيع البر القديم بالدراهم وتشتري بالدراهم براً جديداً، هذا هو المخرج، حتى يختلف الصنف.
كذلك بر ببر، ملح بملح، إذا اتحد الجنس فلا بد من شرطين:
الشرط الأول: التماثل بالوزن أو الكيل.
والثاني: التقابض بمجلس العقد.
وإذا اختلفت الأصناف: ذهب بفضة، بر بشعير، تمر بملح سقط شرط وبقي شرط :
سقط شرط التماثل، يجوز الزيادة، وبقي شرط التقابض بمجلس العقد، هذا معنى قوله في حديث عُبادة : الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، هذا التماثل، ثم قال ﷺ: فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ: ذهب بفضة، بر بشعير، تمر بملح، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يعني : من الزيادة والنقصان، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ هذا شرط التقابض، التقابض هذا لابد منه.
وعلى ذلك مثل: التحويل الآن، إذا أراد شخص أن يحول عملة سعودية دراهم في البنك يحولها مثلاً : دولاراً أو عملة مصرية، أو عُملة كويتيَّة، أو عُملة ليبية ...، ماذا يعمل؟
يجري فيها كما سبق، نقول له : لك أحد أمرين :
الأمر الأول: أن تشتري عملة بلدك تشتريها بالعملة السعودية قبل ثم تحولها، وتستلمها هناك بعملة البلد، أو تحول العملة السعودية ثم إذا وصلت هناك تقول للبنك: صارفني، يصارفك العملة السعودية بعملة بلدك، يصارفك في الحال.
أما أن تحول مثلاً: عملة سعودية الآن، تحول دراهم سعودية ثم تأخذها هناك عملة أخرى لا ، ما يجوز هذا، لابد من أحد الأمرين: إما أن تشتري العملة من بلدك وتحولها أو تحول العملة السعودية تأخذ العملة السعودية هناك وتصارف البنك في الحال، هذا هو المخرج.
ومما ينبغي التنبيه عليه في باب الربا والصرف : مسألة يغفل عنها كثير من العامة في الصرف،
وهو أن الإنسان إذا اشترى من البقالة مثلاً: شيئاً من البقالة، سلعة ، ثم أعطاه دراهم فئة خمسمائة أو مئتين أو مائة واشترى مثلاً: بمائة أو بخمسين، كم بقي له إذا كان اشترى بمائة وخمسين وأعطاه خمسمائة؟ صاحب البقالة قال: أنا ما عندي خمسمائة الآن، الآن أعطيك مئتين أو مئة ويبقى لك مائة بعد ساعة أو ساعتين أو غداً، نقول: هذا لا يجوز؛ لابد أن يكون يداً بيد، هذا صرف، هذا لا يجوز، ما المخرج؟
المخرج أحد أمرين: إما أن تترك الدراهم مع المشتري ويأتي بها من الغد، يعني : تترك الدراهم معه وتقول : ما دام ما معي صرف أكمل لك الآن خلِّ الخمسمائة معك وغداً تأتيني بالقيمة، تأتيني بالمائة والخمسين هذا هو المخرج . واضحٌ هذا؟
تنبيه:لم يذكر الشيخ هنا إلا أمراً واحداً للمخرج في هذه المسألة، وقد ذكر حفظه الله أن هناك أمرين ، ولم يذكر غير أمرا واحدا؟!
أما أن يعطيَه مثلاً: شيئاً من الصرف ويبقى بقية، فهذا لا يجوز، لا بد أن يكون يداً بيد، ما في تأجيل؛ لأنها دراهم بدراهم.
ومعنى قول النبي ﷺ في حديث عمر بن الخطاب : الذَّهَبُ بِالذَّهِبِ رِبًا إلاَّ هَاءَ وَهَاءَ الذهب بالذهب، يعني : تأخيره ربا، إلاَّ هَاءَ وَهَاءَ ، هاء: خذ، وهاء: أعطِ، وَالفِضَّةَ بِالفِضَّةِ رِبًا إلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، إذا كان فيه تأجيل، إلاَّ هَاءَ وَهَاءَ : خذ وأعط في الحال، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ كذلك إذا كان فيه تأجيل، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا، إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، والبر والشعير صنفان، البر صنف والشعير صنف.
والربا نوعان :
الربا الأعظم : هو ربا النسيئة والتأجيل، وهو ربا الجاهلية؛ ولهذا قال النبي ﷺ : الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ وفي لفظ آخر: إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ يعني: إنما الربا الأعظم، مثل قوله: الْحَجُّ عَرَفَةُ يعني : عرفة الركن الأعظم في الحج، الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ يعني : الربا الأعظم، إنما الربا الأعظم في النسيئة، وإلا فهناك رِبَاً آخر : وهو ربا الفضل وهو : الزيادة، كأنْ تبيعه دراهم بدراهم وزيادة، فضة بفضة بزيادة، ذهب بذهب وزيادة، هذا يسمى ربا الفضل، وهو وسيلة إلى ربا النسيئة، الذي هو ربا الجاهلية.
وربا الجاهلية: كان الدائن يقول للمَدِينِ إذا حلّ الدين: أعطني حقي، فإذا قال : ليس عندي ما عندي شيء، فقال : أزيدك في الأجل وتزيدني في الدين، حلّ الأجل يقول الدائن للمدين: أعطني عشرة آلاف، قال : ما عندي، قال : أزيدك، أجعلها خمسة عشر ألفاً وأؤجلك إلى السنة الثانية، فإذا حلَّتِ السنة الثانية قال : أعطني، قال : ما عندي شيء، قال : أزيدك في الدين وتزيدني في الأجل، فيجعلها مثلاً: عشرين ويؤجله سنة ثانية، وهكذا حتى يتضاعف الدين أضعافاً مضاعفة على المدين بدون سبب، وهذا هو قوله - تعالى - : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاْ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافَاً مُضَاعَفَةً [آل عمران : 130] .
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
انتهى.