(المتن)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
غفر الله لنا ولشيخنا والسامعين.
يقول المؤلف - رحمه الله - :
280 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالوَرِقِ بِالْوَرِقِ رِبًا إلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِباً إلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِباً إلاَّ هَاءَ وَهَاءَ.
(الشرح)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أَمَّا بَعْدُ...
قد سبق الكلام على هذا الحديث البارحة، وأن الربا معناه في اللغة : الزيادة.
وشرعًا : الزيادة في المعاملة بالنقود أو المطعومات، إِمَّا في القَدْرِ أو في الأجَلِ؛ لِأَنَّ الرِّبَا قد يكون في الأجل، وهو : ربا النسيئة، وقد يكون في الزيادة، وهو : ربا الفضل.
والصرف: هو بيع نقد بنقد، وسُمِّيَ صرفًا؛ لصرفه عن مقتضى الباعات من جواز التفاضل فيه عند اختلاف الجنس.
وسبق الكلام على حديث عبادة وهو أنَّ النبي ﷺ نصَّ على أن الربا يجري في ستة أصناف : وهي (الذهب، والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والملح).
في حديث عبادة بن الصامت أن النبي ﷺ قال : الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَمَنْ زَادَ، أَوِ اسْتَزَادَ، فَقَدْ أَرْبَى.
هذه الأصناف الستة نص عليها النبي ﷺ بأنه لا يجوز التفاضل فيها ولا يجوز التأجيل إذا بيع واحدٌ من هذه الأصناف بجنسه: إذا بيع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة أو البر بالبر أو الشعير بالشعير أو التمر بالتمر أو الملح بالملح.
فإنه يجب تحقق أمرين:
الأمر الأول : التماثل وعدم الزيادة بالوزن أو بالكيل، فالذهب والفضة يكون بالوزن، إذا بيع ذهبٌ بذهب ولو كان أحد الذهبين جديداً والآخر قديماً فلا بد من التماثل بالميزان، ولابد من التقابض بمجلس العقد (خذ وأعطِ) لا بد من الأمرين :
الأمر الأول : التماثل بالوزن، ذهب بذهب، فضة بفضة، وكذلك الأوراق النقدية تقوم مقامها، الأوراق النقدية تقوم مقام الذهب والفضة، الأوراق النقدية التي يتعامل بها الناس اليوم حُكْمُها حُكمُ الذهب والفضة، فلا يجوز أن تبيع عملةً بعملةٍ بزيادة : دراهم ...ريالات سعودية بريالات سعودية بزيادة، لا، لابد أن يكون متماثلاً، عشرة بعشرة، مائة بمائة وهكذا.
وكذلك المطعومات الأربعة : البر والشعير والتمر والملح، إذا بيع كل واحد بجنسه فلا بد من التماثل : صاع بر بصاع بر بدون زيادة، بالكيل؛ لأن هذا مكيل، كذلك صاع شعير بصاع شعير بدون زيادة، كذلك صاع تمر بصاع تمر، صاع ملح بصاع ملح.
فلو باع ذهباً قديماً خمسة وثمانين غراماً ذهباً قديماً باعهُ بخمسة وسبعين غراماً جديداً، نقول : هذا ربا، هذا لا يجوز، لابد من التماثل، وكذلك شرط آخر وهو : التقابض بمجلس العقد.
فلو باع شخصٌ أو امرأةٌ ذهباً قديماً بذهبٍ جديدٍ مُؤَجَّلاً، مثلاً : (أعطى الشخصُ الصائغَ ذهباً قديماً ووعدَهُ بأن يعطيه الذهب الجديد بعد يوم أو يومين أو ساعة أو ساعتين، هذا لا يجوز؛ ربا، لابد من التقابض بمجلس العقد : خذ وأعطِ، خذ الذهب القديم وأعطني الذهب الجديد يداً بيدٍ، فالتأجيل ربا، وهو الربا الأعظم ربا الجاهلية؛ لقول النبي ﷺ : الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ، أو : إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ، وفي لفظ : لاَ رِبًا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ، يعني : الربا الأعظم.
وإلا فالربا نوعان : ربا التأجيل، وربا الزيادة.
فربا التأجيل : هو أن يبيع رِبَوِيَّاً بِرِبَوِيٍّ مؤجلاً: تبيع ذهباً قديماً بذهب جديد مؤجلاً، كذلك تبيع فضة بفضة مؤجلاً، تبيع براً ببر مؤجلاً، تبيع تمراً بتمر مؤجلاً، ملاحظة : نصبنا لفظ "مؤجل" على أنه نائب لمفعول مطلق محذوف تقديره: بيعاً مؤجلاً، حسب تقديرنا ويجوز مؤجلٍ على أنه نعت لما قبله ولكن النصب أولى؛ لأن المقصود البيع لا المبيع (ما يجوز، خذ وأعطِ: خذ المثمن وأعطني الثمن في الحال، يداً بيد، ما في تأخير لا ساعة ولا ساعتين، ومن ذلك قلت لكم : ما يفعله بعض الناس حينما يشتري من البقالة شيئاً من الأغراض، يشتري مثَلاً : طعاماً أو شيئاً، يشتري سلعةً فيعطيه فئة خمسمائة أو فئة مائتين، ثم يرد عليه البائع... مثَلاً : يشتري بمائة ويعطيه مائة ويبقى له ثلاثمائة، يقول له : "يبقى لك ثلاثمائة بعد ساعة أو ساعتين أو بعد يوم أو يومين" هذا لا يجوز؛ ربا ، لابد أن تسلمه الباقي يدًا بيد صرف هذا اشتريت بمائتين تسلمه ثلاثمائة، إذا لم يكن عندك شيء تُبقي الدراهم مع المشتري حتى يأتي بها، "أُبقيها معك وفي الغد تصرف أنت وتأتيني بالثمن"، أما أن تعطيه خمسمائة وأنت اشتريت بمائتين ويعطيك مئة ويبقى مائتان عنده هذا لا يجوز؛ ربا، لابد أن يكون يدًا بيد ما في تأجيل.
كذلك إذا بيع صاعٌ من البر الجيد بصاعين من الرديء، ما يجوز الزيادة ولا يجوز التأجيل، أو صاع تمر عجوة بصاعين رديء أو ثلاثة لا يجوز، تبيع صاعاً من الجيد بصاعين أو ثلاثة من الرديء لا يجوز، لابد أن يكون متماثلاً: صاعاً بصاع، ولابد من التقابض بمجلس العقد، ذهب بذهب متماثل يداً بيد، فضة بفضة متماثل يدًا بيد، والأوراق النقدية كذلك، بر ببر يدًا بيد متماثلاً ما في زيادة ويداً بيد، شعير بشعير متماثلاً يداً بيد في الحال، تمر بتمر متماثلاً يداً بيد في الحال، ملح بملح متماثلاً : ما في زيادة، ويداً بيد : في الحال .
"طيِّب ما المخرج؟ إذا قال إنسان: "أنا ما أشتري الذهب القديم بذهب جديد"، ما يرضى الصائغ، تعطي ذهباً قديماً بذهب جديد مِثْلاً بِمِثْل لابد من الزيادة، ما يمكن؛ الذهب الجديد سعره أغلى من الذهب القديم، ما المخرج؟"
تقول : المخرج تبيع الذهب القديم بدراهم ثم تشتري بالدراهم ذهباً جديداً؛ لأن هذه الأصناف الستة مثلاً : إذا بعت ذهب بذهب فضة بفضة بر ببر شعير بشعير تمر بتمر ملح بملح إذا تماثلت.
بيع الجنسُ بجنسه لابد من شرطين:
الشرط الأول : التماثل بالوزن أو بالكيل، لا يزيد أحدهما على الآخر ولا شعرة ولا حبة. الأمر الثاني : التقابض بمجلس العقد، خذ وأعطِ ما في تأجيل لا ساعة ولا ساعتين في الحال خذ وأعطِ.
لكن إذا اختلفت هذه الأصناف : بعت الواحد منها بغير جنسه : بعتَ ذهباً بفضة، أو بُرَّاً بشعير، أو تمراً بملح سقط شرطٌ وبقي شرطٌ:
سقط شرط وهو : التماثل، لا يجب التماثل،ولكن يجب التقابض بمجلس العقد.
فإذا بعت ذهباً بفضة ما في مانع من الزيادة، لكن في الحال يداً بيد ما في تأجيل، مثلاً: تبيع ذهباً قديماً يساوي قيمته مثلاً : بعشرة آلاف، تشتري فضة مثلاً: بعشرين ألفاً، ما في مانع بالزيادة، لكن لابد أن يكون يداً بيد.
كذلك إذا بعت صاعاً من التمر بصاعين من البر لا حرج أو بثلاثة أصْوُع الزيادة ما فيها مانع؛ لأن الجنس اختلف لكن لابد أن يكون يداً بيد.
إذا بعت صاع تمر بثلاثة أصْوُع ملح الزيادة ما فيها مانع، لكن لا بد أن يكون يداً بيد.
هذه الأصناف الستة في حديث عبادة: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ يقول الرسول ﷺ : مِثْلًا بِمِثْلٍ يعني : ما في زيادة ، يَدًا بِيَدٍ: هذا التقابض، ثم قال - عليه الصلاة والسلام - : فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا، كَيْفَ شِئْتُمْ يعني : من الزيادة والنقصان، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ، إذا اختلفت هذه الأصناف ذهب بفضة، بر بشعير، تمر بملح فبيعوا كيف شئتم من الزيادة والنقصان إذا كان يداً بيد.
واضحٌ هذا؟
فلابد للمسلم أن يعلم هذا جيداً أن هذه الستة التي نص عليها النبي ﷺ إذا بيع الجنس بالجنس لابد من شرطين :
أحدهما: التماثل، فلا يزيد أحدهما على الآخر.
والثاني: التقابض بمجلس العقد، فليس هناك تأخير.
ومن ذلك حديث عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله ﷺ : الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ يعني : إلا خذ وأعطِ، ما في تأجيل، وَالفِضَّةَ بِالفِضَّةِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ: إلا خُذْ وأعطِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِباً إلاَّ هَاءَ وَهَاءَ: خُذ وأعطِ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِباً إلاَّ هَاءَ وَهَاءَ. يعني : يقول البائع : هاء، يعني : خذ، ويقول المشتري : هاء، يعني : يقبض.
واختلف العلماء في : هل يجري الربا في غير هذه الستة التي نص عليها النبي ﷺ فهذه الستة نص عليها النبي ﷺ متفقٌ على أنه يجري فيها الربا.
والربا -كما سبق - نوعان : ربا النسيئة، وربا الفضل والزيادة.
ربا النسيئة : هو الربا الأعظم؛ ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث : الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ، وفي رواية : إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ، وفي رواية: لاَ رِبًا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ،، يعني : لا ربا الأعظم، وهو ربا الجاهلية، التأجيل، دراهم بدراهم مؤجلة، ذهب بذهب، أو ذهب بفضة مؤجل، هذا ربا الجاهلية.
والثاني: ربا الفضل والزيادة : وهو أن تبيع مثلاً : ذهباً بذهب في الحال لكن بزيادة، ذهباً قديماً بذهب جديد أقل منه، هذا لا يجوز، براً ببر أحدهما أكثر من الآخر هذا ربا، تمراً بتمر أحدهما أكثر من الآخر هذه الزيادة ربا الفضل وهكذا ..هذا يسمى : ربا الفضل، ولكن الربا الأعظم الذي هو ربا الجاهلية هو ربا النسيئة، وربا الفضل وربا الزيادة هو وسيلة إليه.
وكانوا في الجاهلية يتعاملون بالربا، وكان الواحد منهم إذا كان له الدين على شخص وحل الدين، يقول : "أعطني حقي"، فإذا لم يكن عنده شيء زاده الدائن في الأجل وزاده الآخر في المال، فإذا كان يطلبه عشرة آلاف وحل الدين قال له : "إما أن تقضي وإما أن تربي، أعطني عشرة آلاف، قال : "ما عندي"، قال : "تُرْبي : أزيدك في الدين وتزيدني في الأجل، أُؤجلها إلى السنة الثانية وأجعلها خمسة عشر ألفاً"، فإذا حل الدين في السنة القادمة يقول له : "إما أن تقضي وإما أن تربي"، فإذا لم يكن عنده شيء زاده الدائن في الأجل وزاده الثاني في المال فيجعلها عشرين، وهكذا حتى يتضاعف الدين على المدين أضعافاً مضاعفةً، كما قال الله - تعالى - : يا أيُّها الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافَاً مُضَاعَفَةً [آل عمران : 130]
والربا حُرِّم؛ لما فيه من الظلم والجشع واستغلال الفقير، ولأنه يتسبب فيه انقطاع المعروف، فالربا حرم؛ لما فيه من الظلم؛ لأن الزيادة هذه ظلم، والظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ، ولما فيه من الجشع، جشع الأغنياء، واستغلال الغني لأخيه الفقير، ولأنه يبعث على عدم الرحمة، ويَبعث على القسوة، ويبعث على انقطاع المعروف وانقطاع الصدقة، والإسلام أراد من المسلمين أن يكونوا إخوة متحابين، يعطف بعضهم على بعض، ويرحم بعضهم بعضا، فالربا فيه استغلال للفقير، وفيه جشع وظلم، وفيه زيادة من غير حق، وفيه سبب لانقطاع المعروف، وانقطاع الصدقة والإحسان، ولأن الربا سببٌ في كساد السلع، فإذا كان المرابي يأتيه زيادة وهو قاعد على فراشه لا يتحرك، وتكون الأموال مكدسة ويأتيه الزيادة رضي بذلك، وحينئذٍ ينقطع المعروف وتنقطع الصدقة، وتنقطع حركة التجارة بخلاف البيع والشراء فيه حركة، فيه بيع وشراء، وفيه أخذ وإعطاء، وفيه - أيضاً -كون السلعة تحملها وتنقلها، وفيه العامل يستفيد، والحامل يستفيد، والبائع يستفيد، والمشتري يستفيد، فيه حركة، وفيه ينتفع مجموعة كبيرة من الناس، بخلاف الربا، فإنه واحد أو أشخاص معيَّنون تكون عندهم أموال مُكدَّسة يضعونها في البنوك أو في غيرها ويأخذون عليها فوائد ربوية ولا يحركونها، فتبقى طبقة من الناس ترتفع أموالهم وتتضخم، والبقية من الناس يهلكون، ينقطع المعروف، ينقطع الإحسان، ينقطع البيع، ينقطع الشراء، لا تتحرك السلعة، ولا يستفيد البائع ولا المشتري، ولا الحامل ولا كذا، وهكذا.
ولهذا البيع والشراء فيه حركة، فيه من سينقل السلعة، يبيعها، ينقلها من مكانه، الحامل يستفيد، والبائع يستفيد، وتتحرك السلع، وتنتقل من مكان إلى مكان، ومن شخص إلى شخص، بخلاف الربا؛ لأن الربا فيه ظلم وجَشَعٌ، وهو ضد الصدقة؛ ولهذا تجد الآيات التي فيها تحريم الربا تقابلها آيات الصدقة، لمَّا ذكر الله آيات الصدقة، قال تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ والنَّهَارِ سِرَّاً وَعَلَانِيَةً فلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة : 274]هذه الصدقة والإحسان .
قال بعدها : الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة : 275] انظر كيف الوعيد الشديد ، ولهذا قال بعض السلف أخذاً من هذه الآية :(المرابي يبعث يوم القيامة مجنوناً) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة : 275] اعترضوا على الله، واعترضوا على حكم الله وشرعه، المرابون قالوا : ما في فرق بين البيع والربا، هذا مبادلة وهذا مبادلة، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة : 275]
قال الله - تعالى - رداً على عليهم : وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة : 275]، ثم قال الله : يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة : 276] فالمرابي موعود بمحق البركة.
ثم قال - تعالى - : إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ هذا فيه انفاق لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة : 277]
ثم آذن الله المرابي بحربه وحرب رسوله، فقال : يا أيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِن لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ [البقرة : 279-278] هذا وعيد شديد، من يستطيع أن يحارب الله ورسوله؟!
ولهذا جاء في بعض الآثار أنه يقال يوم القيامة للمرابي : (قم خذ سلاحك فحارب ربك) - نعوذ بالله - من حارب الله فهو مهزوم هالك، فَإِن لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ [البقرة : 279].
ولم يأتِ وعيدٌ على ذنب أعظم من الوعيد على الربا، لم يأتِ وعيدٌ مثل هذا الوعيد على ذنب من الذنوب فَإِن لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكِمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ [البقرة : 279] هذا المخرج : خذ رأس مالك لا تأخذ الزيادة، إذا أعطاك المرابي زيادةً لا تأخذها، بعض الناس يقول : "كيف أتركها ؟ أتركها للناس أو أتركها للنصارى يستعينون بها على المسلمين"؟ نقول : "أصلاً أنت لست مستحقاً لها ليست لك، ليس لك إلا رأس المال، فلا تأخذها، وإذا كنت لا تريد أن تعطيهم هذه الفائدة هم أخذوا حينما وضعتها شيئاً كثيراً وأعطوك شيئاً قليلاً".
المقصود أن الربا الزيادة هذه ظلم ولا يستحقها الإنسان وليست بملكٍ له وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكِمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ [البقرة : 279]
اختلف العلماء هل يجري الربا في غير الستة :
- ذهب الظاهرية إلى أنه لا يجري الربا إلا في الستة هذه التي نص عليها النبي ﷺ الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح.
- وذهب جمهور العلماء إلى أنه يقاس عليها ما وافقها في العلة وشاركها في العلة.
اختلف العلماء في العلة:
أما الذهب والفضة فالعلة فيها : الثمنية، كل ما كان ثمناً للأشياء فإنه يجري فيه الربا، الذهب والفضة هو الأصل في الأثمان، الآن صارت الأوراق النقدية تقوم مقامها، فحكمها حكم الذهب والفضة؛ لأن هي الثمن للأشياء؛ ولهذا قال العلماء ،قال الإمام مالك - رحمه الله - : (لو تعامل الناس بالجلود لكان لها حكم الذهب والفضة)، في زمانه - الآن - يتعامل الناس بالأوراق النقدية وهي أضعف من الجلود ، هذه تذوب في الماء، الجلود تستمسك بعض الشيء، لكن الأوراق أضعف وأضعف، لو تعامل الناس بالجلود لكان لها حكم الثمنية.
فالآن العملات، العملة الواحدة لا يجوز الزيادة فيها، عملة سعودية بعملة سعودية ما فيها زيادة، لكن عملة سعودية مثلاً بعملة دولار أو بعملة كويتية أو عملة مصرية، أو عملة كذا... يجوز الزيادة لكن لابد أن يكون يداً بيد؛ لأنها تعتبر نوعاً، هذا جنس وهذا جنس، فالزيادة إذا اختلفت العملات تجوز لكن لابد أن تكون يدًا بيد.
وقلت لكم في الأمس : إن التحويل، إذا أراد الإنسان أن يحول دراهم فله أحد الطريقين:
الطريق الأول : إذا أردت أن تحول مثلاً : أنت معك ريالات سعودية تحولها عملة مصرية ماذا تعمل؟
لك أحد طريقين:
الطريق الأول : تشتري العملة المصرية - الآن - ثم تحول العملة المصرية وتأخذها من هناك.
الطريق الثاني : تحول العملة السعودية فإذا جئت للبنك هناك فإنك تصارف البنك في الحال، تقول: "صارفني، أنا حولت عملة سعودية وآخذ عملة مصرية، صارفني الآن في الحال مصارفة"، هذا هو الطريق المخرج منها.
الذي عنده سؤال يكتب السؤال في آخر الدرس إن شاء الله.
س :... نعم، نعم ... إيش إيش، التحويل،22:52-59
التحويل قلنا لك أحد الطريقين:
الطريق الأول : أن تشتري العملة عملة بلدك تشتريها بالريالات السعودية، ثم تحولها تحول عملة بلدك، ثم تستلمها هناك.
الطريق الثاني : أنك تحول العملة السعودية نفسها، فإذا أردت أن تستلمها من البنك هناك تصارفه في الحال تقول له : "صارفني في الحال، اصرف لي العملة السعودية بالعملة المصرية مثلاً : بما تساويه"، ويصارفك في الحال، أو تأخذ العملة السعودية وتروح تصرفها في أي مكان.
اختلف العلماء في الربا : هل يجري في غير الأمور الستة :
- فالظاهرية (أهل الظاهر وحزم وداود الظاهري وجماعة) قالوا : لا يجري الربا إلا في هذه الستة التي نص عليها النبي ﷺ.
- وأما جمهور العلماء فقالوا :إنه يجري الربا في ما وافقها في العلة، واختلفوا في العلة :
- أما الذهب والفضة فالعلة فيهما : الثمنية: كل ما كان ثمناً للأشياء: أوراق، جلود... حكمها حكم الذهب والفضة.
- وأما البر والشعير والتمر والملح، فاختلف العلماء في العلة :
- فذهب الحنابلة والأحناف إلى أن العلة : الكيل والوزن، فقالوا : كل مكيل وموزون يجري فيه الربا، ومن ذلك : الرصاص، والحديد... فيكون يجري فيه الربا؛ لأنه مكيل، وهذه مكيلة : البر والشعير والتمر والملح، قالوا :كله مَكِيلٌ.
- وذهب الشافعية إلى أن العلة : الطُعْم، قالوا : كل مطعوم، وعلى هذا فالرصاص والحديد ليس بمطعوم فلا يجري فيه الربا.
- وذهب المالكية إلى أن العلة : الكيل و الادِّخار، كونه يُدَّخَر. والأقرب - والله أعلم - أنه إذا اجتمع فيها الطعم والكيل والادِّخار، إذا كان مكيلاً ومطعوماً ومُدَّخراً.
فعلى هذا فالأرز يجري فيه الربا، يقاس على البر، فيأتي الفقيه مثلاً: ويقيس الأرز على البر، الأرز ما نص عليه النبي ﷺ فيقول : الأرز كالبر في جريان الربا في كلٍّ منهما بجامع الطُّعْمِ إذا كان شافعيَّاً، أو بجامع الكيل والادخار إذا كان مالكيَّاً، وإذا كان حنفيَّاً أو حنبليَّاً قال : بجامع الكيل والوزن، فالأرز مكيل ومطعوم ومدخر، كذلك - أيضاً - الدخن، كل ما يكال ويُدَّخَر.
أما مثلاً : التفاح، والبرتقال، هذا لا يجري فيه الربا، يجوز تبيع أحدهم بالزيادة؛ لأنه وإن كان مطعوماً لكنه غير مكيل وغير مُدَّخَرٍ، ما يجلس مُدَّة، والزبيب كذلك قد يقاس عليه؛ لأنه مكيل ومدخر ومطعوم أيضاً، وما أشبه ذلك كالخضار التي لا تبقى، هذه لا يجري فيها الربا، إنما يجري في شيء مكيل ومدخر ومطعوم، مُدَّخر : يبقى مُدة، ويُكال، يقاس عليه .
(المتن)
وَفِي لَفْظٍ إلاَّ يَداً بِيَدٍ.
وَفِي لَفْظٍ إلاَّ وَزْناً بِوَزْنٍ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ.
(الشرح)
نعم، الحديث الأول ذكر : الذهب والفضة والبر والشعير، وفي حديث أبي سعيد ذكر زيادةً :الملح والتمر، وفي هذا الحديث حديث أبي سعيد أن النبي الله ﷺ قال : لا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، إلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، يعني : من غير زيادة، ما في زيادة، ذهب بذهب بالوزن مثْلاً بمثل، ولو كان أحدهما قديماً والآخر جديداً، وإذا أراد الزيادة المخرج : فإنه يبيع الذهب القديم بدراهم، ثم يشتري بالدراهم ذهباً جديداً ، هذا المخرج.
أما أن تبيع ذهباً بذهب ولو كان أحدهما قديماً والآخر جديداً، فلا يجوز الزيادة، والمخرج أن تبيع الذهب القديم بدراهم ثم تشتري بالدراهم ذهباً جديداً.
لا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، يعني : متساوياً، وَلا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ يعني : لا تزيدوا بعضها على بعض، والشف يطلق على الزيادة ويطلق على النقص ،
و مِثْلاً بِمِثْلٍ، يعني : يباع الذهب بالذهب بالوزن مثلاً بمثل.
وَلا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إلاَّ مِثْلاًّ بِمِثْلٍ، الورق: الفضة، مِثْلاًّ بِمِثْلٍ،، يعني : بالوزن بدون زيادة، وَلا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ يعني : لا تزيدوا بعضها على بعض، لا يزيد بعضها على بعض .
وَلا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِباً بِنَاجِزٍ. الناجز : الحال ، والغائب : المؤجل، المعنى : لا تبيعوا منها مؤجلاً بحاضر.
ما تبيع ذهباً تعطيه الآن الذهب القديم ويعطيك الذهب الجديد بعد شهر أو بعد أسبوع أو يوم لا، في الحال، ما في غائب، ناجز، لا تبيعوا غائباً بناجز: يداً بيد.
وفي لفظ : إلاَّ يَداً بِيَدٍ، وهذا معنى قوله : وَلا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِباً بِنَاجِزٍ.
وفي لفظ : إِلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ مِثْلاًّ بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ هذه المماثلة.
فالحديث فيه دليل على اشتراط الشرطين :
الشرط الأول : التماثل ، في قوله : إلاَّ مِثْلاًّ بِمِثْلٍ،إلاَّ يَداً بِيَدٍ، إِلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ هذا التماثل.
الشرط الثاني : التقابض بمجلس العقد في قوله : وَلا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِباً بِنَاجِزٍ.
(المتن)
(الشرح)
هذا الحديث عن أبي سعيد الخِدْري فيه قصة شراء بلال مؤذن رسول الله ﷺ قبل أن يعلم بالحكم الشرعي جاء إلى النبي ﷺ بتمر برني، التمر البرني : تمر جيد من أنفَسِ التمور، فقال له النبي ﷺ من أين لك هذا التمر الجيد؟ قال بلال : كان عندنا تمر رديء فبعت منه صاعين بصاع حتى أطعم النبي ﷺ من التمر الجيد، كان عندي تمر رديء فبعت الصاعين من التمر الرديء بصاع من التمر الجيد؛ لأجل أن أطعم النبي ﷺ فقال له النبي ﷺ عند ذلك : أَوَّهْ:كلمة توجّع؛ ليكون أبلغ في الزجر، أَوَّهْ، أَوَّهْ، عَيْنُ الرِّبَا، عَيْنُ الرِّبَا، لا تَفْعَلْ
قوله : أَوَّهْ، أَوَّهْ: للتوجع ليكون أبلغ في الزجر، وسبب التَّأَوُّهِ التَّألُّم من هذا الفعل، وهو معذور؛ لأنه لم يعلم بالحكم الشرعي ، قال له : أَوَّهْ، أَوَّهْ، عَيْنُ الرِّبَا، يعني : هذا عين الربا، الذي فعلته عين الربا ، تبيع صاعين من التمر الرديء بصاع جيد هذا ربا، عَيْنُ الرِّبَا، عَيْنُ الرِّبَا، لا تَفْعَلْ .
إذن الرسول ﷺ أنكر عليه ثلاثة أنواع من الإنكارات:
النوع الأول : قولهُ : أَوَّهْ: كلمة توجُّع.
الثاني : قوله عَيْنُ الرِّبَا،، يعني : ما فعلته عين الربا، أو هذا عين الربا، هذا الفعل عين الربا، عين : خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير : هذا الفعل عين الربا،كررها مرتين.
أَوَّهْ من، تنبيه: (31:46) إلى (31:54) لا يوجد صوت
لا تبع تمراً بتمر بزيادة.
أَوَّهْ: كلمة توجُّع، مرَّتين : أَوَّهْ، أَوَّهْ: ثم قال: عَيْنُ الرِّبَا، عَيْنُ الرِّبَا، يعني : هذا الفعل عين الربا، ثم قال : لا تَفْعَلْ: لا تبع تمراً بتمر أكثر منه، زيادة، ثم بين له المخرج الشرعي فقال : وَلَكِنْ إذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ فَبِعْ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ: بع التمر بدراهم أو بع التمر مثلاً : بشعير، أو بر، ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ:: ثم اشترِ به التمر، يعني : بع التمر الرديء الصاعين، بعه بدراهم، ثم اشْتَرِ بالدراهم التمر الجيِّد، أو بعِ التمر الرديء ببر ثم اشتر بالبر التمر الجيد.
فالنبي ﷺ منعه من المحرم وفتح له الباب الحلال، وهذا الطريق الذي ينبغي للمفتي أن يقتدي بالرسول ﷺ إذا منع الناس من شيء يفتح لهم الباب الحلال الذي أحله الله، منعتهم من شيء محرم افتح الباب، بيِّنِ المخرج حتى لا يقع الإنسان في حيرة، فالرسول ﷺ منعه من المحرم قال: لا تَفْعَلْ: تبيع صاعين بصاع هذا عين الربا، لكن المخرج الصحيح : إذا أردت أن تشتري بع التمر ببيعٍ آخر، بعه بدراهم، بعه بشعير، بملح، ببر، ثم اشترِ به التمر الجديد.
فإذن : الحديث فيه دليل على أنه لا يجوز بيع التمر بتمر متفاضلاً ولو كان أحدهما جيداً.
وفيه دليل على أن بيع التمر بالتمر هذا عين الربا.
وفيه الإنكار والتغليظ على من فعل ذلك.
وفيه أن المفتي يفتح باباً يبين الحلال، يفتح باباً للمخرج من الحرام؛ حتى لا يقع في الحرام ينهاه عن الحرام ثم يبين له الباب الذي أحله الله.
وفيه دليل على أنه لا بأس بأكل الطعام الجيد، وأن هذا لا ينافي الزهد، وليس من الزهد أن الإنسان يترك الحلال، الزهد إنما الزهد في الحرام، يبتعد عن الحرام هذا الزهد، ويبتعد عن المتشابه، ويبتعد عن الإسراف، أما أكل الطعام الطيب فلا حرج، فالنبي ﷺ ما أنكر عليه كونه يشتري تمراً جيداً ليطعم النبي ﷺ، والله - تعالى - قال في كتابه العظيم : قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَهَا لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف : 32]
والنبي ﷺ كان يحب العسل والحلوى.
فالمقصود أن الزهد : إنما الزهد يكون في ترك الحرام، وترك المتشابه، أما التمتع بما أحل الله فلا مانع منه، ولا ينافي الزهد إذا كان من غير إسراف؛ ولهذا لم ينكر النبي ﷺ عليه كونه اشترى طعاماً جيداً ليطعم النبيﷺ، وإنما أنكر عليه التعامل بالربا.
وفيه دليل على أن الإنسان إذا لم يعلم الحكم فلا يأثم؛ ولهذا لم يعاقب النبي ﷺ بلالاً؛ لأنه لم يعلم الحكم الشرعي، وإنما غلّظ وشدّد حتى يعلم الحكم الشرعي، حتى يبتعد عنه، وليكون ذلك أبلغ في الزجر له ولغيره؛ لأن النبي ﷺ مُشرِّعٌ - عليه الصلاة والسلام - وحكمه على الواحد حكمٌ على الجميع، إذا أمر النبي ﷺ شخصاً فهو أمر للأمة كلها، وإذا نهى شخصًا فهو نهيٌ للأمة كلها، وإذا رغّبَ في شيء فهو ترغيبٌ للأمة كلها، ولو كان المخاطب واحداً، إلا ما دل الدليل على الخصوصية، هذا تشريع للأمة كلها، ليس خاصاً ببلال.
فالحديث فيه هذه الأحكام :
- أنه لا يجوز بيع التمر بتمر،" متماثلا ملاحظة ربما المقصود (متفاضلاً لا متماثلاً)
- وأنه لا بأس بأكل الطعام الطيب، وأن هذا لا ينافي الزهد.
- والثالث : في الزجر والتغليظ على من فعل الربا.
- والرابع : فتح باب الحلال إذا سد الإنسان باب الحرام فإنه يفتح باب الحلال؛ حتى لا يقع المسؤول أو المحذَّر في حيرة، يُمنع من الحرام ويفتح له باب الحلال.
فبيع التمر بالتمر متفاضلاً هذا حرام، والحلال هو أن تبيع التمر الرديء ببيع آخر ثم تشتري بالبيع الآخر تمراً جيداً.
(المتن)
(الشرح)
نعم هذا الحديث عن أبي المنهال، قال : (سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم - رضي الله عنهما - عن الصرف...)، (الصرف) يعني : بيع نقد بنقد، بيع دراهم بدراهم، بيع نقد بنقد: بيع ذهب بذهب، أو فضة بفضة، هذا يسمى صرفاً، و(الوَرِق) :هو الفضة.
(فكل واحد منهما قال : هذا خيرٌ مني)، هذا فيه التورع في الفُتْيَا، هذا من ورع الصحابة وأنه ينبغي التورع عن الفتيا إذا وُجِد من يقوم بها غيره، كان الصحابة والسلف يتتبعون الفتيا، كان الواحد إذا سُئل يقول : اسأل فلاناً، وهذا يقول : اسأل فلاناً، حتى ترجع إلى الأول، من باب الورع، فإذا وُجِد من يقوم بالفتوى : غيرك، وأرشدتَ إليه فحسَنٌ، أما إذا لم يوجد غيرك، أو تعيَّنَتِ الفُتيا، أو لا يجد السائل من يسأل غيرك فإنه يجب عليك أن تفتيه إذا كان عندك علم، يجب الفتيا إذا كان بالناس حاجة إلى هذا الشيء فلا يجوز كتم العلم، وكذلك إذا سأل يجب عليك أن تجيبه، إلا إذا أرشدته إلى من هو خير منك أو أعلم منك، ووُجِد من يقوم بذلك فلا بأس، أما إذا لم يوجد من يفتيه فإنه يجب عليك أن تفتيه، وليس لك أن تكتم العلم؛ لأن هذا من كتمان العلم.
وكتمان العلم يكون في حالتين :
- حالته الأولى : إذا كان بالناس حاجة إلى هذا العلم وكتمه الإنسان وليس هناك من يبين هذا إلا هو.
- والحالة الثانية : أن يسأل، وفي هذه الحالة يجب عليك أن تجيبه إذا كان عندك علم أو ترشده إلى غيرك.
أما إذا لم يكن الإنسان عنده علم، أو عنده شك فليس له أن يفتي، بل عليه أن يتوقف، ويرشده إلى من هو أعلم منه، أو يؤجل السائل إلى وقت آخر حتى يبحث المسألة.
ولهذا الصحابة البَرَاء وزيد كل واحد يقول في الآخر: هو خير مني، وكلاهما يقول : {نهى رسول الله ﷺ عن بيع الذهب بالورق ديناً} (الوَرِق): الفضة، (دَينَاً) يعني : بيع الذهب بالورق مؤجلَّاً، بيع الذهب بالفضة لابد أن يكون يداً بيد، هذا شرط، لكن الزيادة ما في مانع؛ لأن الجنس اختلف، هذا ذهب وهذا فضة، الزيادة جائزة، لكن الدين ما يجوز، لابد أن يكونا يداً بيد.
فدل على أن اختلاف الجنسين لا بأس فيه بالزيادة، كالذهب بالفضة، والبر بالشعير، والتمر بالملح، لا بأس من الزيادة، لكن لا يجوز الدين، وهو التأجيل.
وفي هذا فضل الصحابة - رضوان الله عليهم - وتواضعهم، واعتراف كل واحد منهم بحق الآخر.
(المتن)
(الشرح)
نعم هذا الحديث حديث أبي بكرة قال :{نهى رسول الله ﷺ عن الفضة بالفضة والذهب بالذهب إلا سواءً بسواء...}(سواءً بسواء) يعني : متماثلان، إذا بيع الشيء بجنسه فلابد من التماثل، (نهى عن بيع الفضة بالفضة إلا سواءً بسواء) سواء بسواء، يعني : متماثلان في الوزن، (والذهب بالذهب إلا سواء بسواء): بالوزن، ذهب بذهب فضة بفضة اتفق الجنس، لابد من التساوي، وهو بمعنى قوله في الحديث الآخر : مِثْلاًّ بِمِثْلٍ.
وقوله : (إلا مثلاً بمثل، سواء بسواء)، وقوله : (إلا وزناً بوزن)كلها العبارات مؤداها واحد، وهو أنه لا يجوز الزيادة، لابد من التماثل إذا اتفق الجنس،{نهى النبي ﷺ عن الفضة بالفضة والذهب بالذهب إلا سواءً بسواء...}
{وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا} هنا اختلف الجنس، {كيف شئنا} يعني : من الزيادة، وليس المراد أنه يجوز الدين، لا، {وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا}: من الزيادة والنقصان؛ لأن الجنس اختلف: فضة بذهب.
{وأن نشتري الذهب بالفضة كيف شئنا}، الأول: نشتري الفضة بالذهب، تشتري الفضة وتعطي الذهب، والثاني : بالعكس، تشتري الذهب وتعطي الفضة، لا مانع من هذا؛ لأن الجنس مختلف.
{وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا} يعني : من الزيادة والنقصان.
{وأن نشتري الذهب بالفضة كيف شئنا} من الزيادة والنقصان.
{فسأله رجلٌ فقال : يداً بيد} هذا الشرط الثاني، {قال : هكذا سمعت}يعني : يداً بيد: هذا ما فيه تأجيل، هذا التأجيل.
الشرط الأول: (سواء بسواء) إذا اتفق الجنس.
الشرط الثاني: (يداً بيد) هذا التقابض بمجلس العقد.
لكن إذا اختلف الجنس فإنه يسقط الشرط الأول؛ ولهذا قال : {وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا} من الزيادة والنقصان، {وأن نشتري الذهب بالفضة كيف شئنا} من الزيادة والنقصان، قال : يَدًا بِيَدٍ؟ فَقَالَ: هَكَذَا سَمِعْتُ يعني : التقابض لا بد منه ولو اختلف الجنس، التقابض هذا لا بد منه بمجلس العقد، أما الزيادة والنقصان هذا يجوز إذا اختلف الجنس.
(المتن)
بابُ الرَّهْنِ وغيرِهِ
285 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَاماً وَرَهَنَهُ دِرْعاً مِنْ حَدِيدٍ.
(الشرح)
نعم هذا الحديث متفق عليه رواه الشيخان، وهذا الحديث عقَدَهُ المؤلف - رحمه الله - للرهن و(غيره): الشفعة... وغيرها من الأحكام.
الرهن في اللغة : الثبوت والدوام، يقال : الحالة الراهنة، في الحالة الراهنة، أي : الحالة الثابتة الدائمة، فالرهن في اللغة : الثبوت والدوام.
وشرعاً : تَوْثِقَةُ دَيْنٍ بِعَيْنٍ، يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْهَا أَوْ مِنْ ثَمَنِهَا عِنْدَ الْعَجْز، تُوَثِّق الدين بعين، "كأنْ تبيعَ مثلاً : بيتاً على شخصٍ بمائةِ ألفٍ مؤجل إلى سنةٍ، فيقول : "لا بدَّ أن تُوَثِّقَ ديني، ارْهَنْ لي"، فيقول : "أرهَنُكَ سيَّارَتي" فتكون السيارة هذه رهناً توثِقَةً للدين، فإذا عجز المشتري عن دفع الثمن فإنه يرفع أمره إلى الحاكم وحينئذٍ يباع الرهن ويستوفي حقه، يبيع السيارة مثلاً: سيارته بمائة وعشرة، يبيعها بمائة ويأخذ حقه، ويرد عليه العشرة، لكن هذا يكون من قِبَلِ المحكمة، عند الحاكم الشرعي.
فالرهن : توثِقَةُ دَينٍ بِعَينٍ، تُوَثِّق دينك بالعين الحاضرة، توثقه مثلاً : بسيارة، تُوَثِّقُهُ بمزرعة، تُوَثِّقُهُ بدين، تُوَثِّقُهُ مثلاً: بإِبِلٍ أو بقرٍ أو غنمٍ، أو أرضٍ، تكون هذه عيناً تُوَثِّقُ بها الدين،
تَوْثِقَةُ دَيْنٍ بِعَيْنٍ، يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْهَا أَوْ مِنْ ثَمَنِهَا عِنْدَ الْعَجْز.
وهذا الحديث ذكر المؤلف حديث عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله ﷺ {اشترى من يهوديٍّ طعاماً ورهَنَهُ درعاً من حديدٍ} (مُتَّفَقٌ عليه)
(اشترى من يهودي طعاماً) هذا الطعام ثلاثون صاعاً من شعير، - عليه الصلاة والسلام - (ورَهَنه): قال اليهودي: "ارهن لي، أعطني رهناً، وثق ديني" فرهنه النبي ﷺ درعاً من حديد.
وهذا الدرع الذي رهنه النبي ﷺ له اسم، يقال اسمه : (ذات الفضول)، ثم فك الرهن علي بن أبي طالب بعد وفاة النبي ﷺ، مات النبي ﷺ ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير، وهو أفضل الخلق وأشرف الخلق عليه الصلاة والسلام .
ولكن لِمَ لَمْ يَسْتَدِنِ النبي ﷺ من غيره، من الصحابة؟! لِمَ لَمْ يَسْتَدِنْ من غير اليهود؟! لماذا ما استدان من أبي بكر، أو من عمر، أو من غيره؟!
هذا - والله أعلم - لحكمة، منها حتى يعلم الناس الحكم الشرعي، وقد يكون في ذلك الوقت النبي ﷺ ليس عند الصحابة شيء، أو أن النبي ﷺ أراد أن يعلم أمته الأحكام.
ولهذا هذا الحديث فيه أحكام:
من الأحكام التي تؤخذ من هذا الحديث : جواز معاملة الكفار وأن هذا ليس من الموالاة، وأن المعاملة شيء والعقيدة شيء آخر، فيجوز معاملة اليهود والنصارى وغيرهم بالبيع والشراء هذا تعامل، مع بُغضهم، تبغضهم ديناً ولا تواليهم ولا تحبهم ولكن تعاملهم، ثبت أن النبي اشترى غنماً من مشرك، فلا بأس في معاملة المشركين غير الحربيين والشراء.
الكفار قسمان :
- قسم محارب للمسلمين: هذا المحارب لا يجوز معاملته ولا يجوز إطعامه ولا إسقاؤه، بل يجب قتله، ماله حلال ودمه حلال، هؤلاء الكفار الذين يحاربون.
المحاربون للمسلمين هؤلاء لا يجوز المعاملة معهم ولا إطعامهم، ولا إسقاؤهم، ولا الإحسان إليهم، ما بيننا وبينهم إلا القتال، أموالهم حلال، ودماؤهم حلال، هؤلاء الذين يقاتلون المسلمين، كاليهود الذين يحاربون الفلسطينيين ما بيننا وبينهم عهد .
- القسم الثاني من الكفار : كفار ليسوا محاربين:
- إما ذِمِّيُّونَ : من أهل الذمة ،كانوا تحت الدولة الإسلامية ويدفعون الجزية، فهؤلاء أموالهم معصومة ودماؤهم معصومة؛ لأنه يدفع الجزية ويعيش تحت الدولة الإسلامية،كما كانوا في الأزمنة السابقة في زمن الدولة الأموية، والعباسية ،كان فيه يهود ونصارى تحت الدولة الإسلامية يدفعون الجزية خاضعين، هؤلاء دماؤهم معصومة، وأموالهم معصومة.
- وكذلك المُستأمَن: الذي دخل بأمان إلى البلد، أو دخل بعهد، أو بكفالة، أو بإجارة وأمان، هذا معصوم الدم والمال، وفي الحديث: مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ،، وعيدٌ شديدٌ.
ويُحسن إليهم، ويُعامَلون معاملة حسنة، ويُطعَمون، ويُسقَون، وقد تكون المعاملة الحسنة سبباً في إسلامهم.
قال الله - تعالى - في كتابه العظيم : لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكِمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الممتحنة : 8-9]
قد ثبت في الحديث الصحيح أن أسماء بنت أبي بكر جاءتها أمها وهي مشركة في الهدنة التي بين النبي ﷺ وبين المشركين وقت الصلح وهي راغبة في أن تصلها، فاستفسرت النبي ﷺ قالت : "يا رسول الله إن أمي قدِمَتْ إلى هنا راغبةً" فقال لها النبي ﷺ : صِلِي أُمَّكِ، فلا بأس.
وكان الصحابة يصلون أقاربهم المشركين، منهم : عمر أرسل لأخٍ له مشركٍ من أُمِّهِ حلةً من حرير؛ لأنه لا يلبس فهو مسلم.
المقصود أن الكفار قسمان :
- قِسْمٌ مُحارِب : هذا يقاتل المسلمين، هذا دمه حلال، وماله حلال.
- القسم الثاني: غير محارب : مسالمٌ ، إما ذِمِّيٌّ يدفع الجزية، وإما مُعاهَد، وإما مُستَأمَن، فهذا لا يجوز قتله، ولا يجوز أخذ ماله، دمه حرام وماله حرام، وفي الحديث : مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، إذا أجاره ولو واحد من المسلمين، أدنى واحد من المسلمين، ولو امرأة أو عبد أمَّنَهُ فإنه لا يجوز لأحد أن يمسه بسوء.
قد ثبت أن أُمَّ هانئ أخت علي بن أبي طالب قالت للنبي ﷺ يوم الفتح : (يا رسول الله، إن ابن أمي) يعني : علي بن أبي طالب، (أراد أن يقتل رجلاً أجرته) يعني : أمَّنْتُهُ، فقال النبي ﷺ : قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ: أمَّنَّا من أمَّنتِ، امرأة كفلت واحداً أو أمَّنَتْ، أو عبدٌ ، فالمسلمون يدٌ واحدةٌ، ذِمَّةٌ واحدةٌ، يسعى بِذِمَّتِهِم أدناهم. واضحٌ هذا؟
ومن ذلك أن النبي ﷺ عَامَل اليهودي هذا واشترى منه طعاماً، واشترى من يهودي غنماً.
فالحديث فيه دليل جواز معاملة اليهود وغيرهم من الكفار مع بغضهم وعداوتهم، لا يحبهم الإنسان، يُبغِضُهم ديناً وشرعاً، من أحب الكفار لدينهم فهذا مرتد، هذه ردة عن الإسلام، قال الله - تعالى - : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنْكُمْ فِإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة : 51].
من تولَّ الكفار وأحبهم لدينهم فهذه ردة عن الإسلام، قال الله - تعالى - : لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ [آل عمران : 28].
وقال الله - تعالى - : لَا تَجِدُ قَوْمَاً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللهَ وَرَسُوْلَهُ... يعني : يحبونهم، وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيْرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيْمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر : 32]
ولا يصح للإنسان إسلام ولا دين حتى يبغض الكفار، ويعاديهم، ويتبرأ منهم ومن دينهم، لابد من هذا، من لم يتبرأ من الكفار معناه :لم يكفر بالطاغوت، ما في إيمان ولا توحيد إلا بشيئين :
- الشيء الأول: الكفر بالطاغوت، والكفر بالطاغوت معناه : أن تعتقد بطلان عبادة غير الله وتتركها وتنكرها، وتُكفِّرَ أهلها وتبغضهم وتعاديهم.
- والأمر الثاني: أن تخلص العبادة لله.
أمران لا بد منهما: التوحيد والإيمان.
الكفر بالطاغوت : وهو البراءة من كل معبود وعبادة سوى الله، والثاني : الإيمان بالله، قال الله - تعالى - : فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا [البقرة : 256]
فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ هذا واحد، وَيُؤْمِن بِاللهِ هذا الثاني.
"لا إله إلا الله" كلمة التوحيد فيه كفر وإيمان :
(لا إله) : هذا كفر بالطاغوت، (إلا الله) : هذا إيمان بالله.
(لا إله) : براءة من كل معبود سوى الله، (إلا الله) : إثبات العبادة لله وحده.
لا بد من هذا، وإلا فلا يصح للإنسان توحيد ولا إيمان.
لكن المعاملة شيء آخر: تبيع وتشتري معهم مع بغضهم وعداوتهم هذا شيء آخر.
قال الله - تعالى - في كتابه العظيم :قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الممتحنة : 4] هذه الحنفية ملة إبراهيم: أن تعبد الله مخلصاً له الدين وتتبرأ من كل معبود سوى الله ومن كل عبادة سوى عبادة الله، قال الله - تعالى - : قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدَاً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ [الممتحنة : 4]
لابد من هذا، ينبغي للمسلم أن يفرق بين الأمرين:
- بين بغض الكافر وعداوته وبغض دينه، هذا لا بد منه.
- والثاني : المعاملة معه، المعاملة إذا كان غير مقاتل وغير حربي للمسلمين يُحسنُ إليه ويُطعَم ويُسقى مع بغضه وعداوته.
حتى الوالِدَين الكافِرَين قال الله - تعالى - في الوالِدَين الكافِرَين قال الله : وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا، ثم قال : وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفَاً [لقمان : 15]، فالوالد ولو كان كافراً يتلطف معه ويحسن إليه ويطعمه ويسقيه لكن لا يحبه محبة دينية ولا يطيعه فيما خالف أمر الله، وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا [لقمان : 15].
ومن هنا هذا الحديث دل على جواز معاملة اليهود؛ لأن اليهود ليسوا محاربين، بينه وبينهم عهد؛ ولهذا اشترى النبي ﷺ من يهودي طعاماً ورَهَنَهُ درعاً من حديد.
وفيه من الفوائد : مشروعية الرهن، وفيه - أيضاً - مشروعية الرهن في الحضَرِ، بعض العلماء يرى أن الرهن لا يكون إلا في السفر وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبَاً فَرِهَانٌ مَّقْبُوْضَةٌ [البقرة : 283]، هذا لبيان الأغلب، فالأغلب أن الرهن يكون في السفر؛ لأن الغالب أنه لا يجد الإنسان كاتباً يسجل الدين فيرهن، لكن يجوز الرهن في الحضر كما في الحديث رهن النبي ﷺ وهو في الحضر.
جواز الرهن في الحضر.
وفيه جواز الشراء بالثمن المؤجل.
وفيه جواز رهن الحديد.
وفيه جواز بيع الدروع وغيرها من آلات الحرب، كل هذا مأخوذ من هذا الحديث.
وفيه تواضع النبي ﷺ وزهده في الدنيا، وفيه صبر النبي ﷺ على ضيق العيش وقلة ذات اليد.
والنبي ﷺ كان - أحياناً - يدخر لأهله طعام سنة، كما يأتي لمَّا فتحت خيبر، ولكنه تأتي عليه النفقات، ويأتي عليه الضيوف وينتهي، فيحتاج إلى أن يستدين، وما شبع النبي ﷺ ثلاث ليال متوالية من خبز الشعير- عليه الصلاة والسلام - وهو أفضل الخلق وأشرف الخلق.
قد خرج مرةً لما خرج أبو بكر وعمر كلٌّ منهما خرج، أخرجهما الجوع، وخرج النبي ﷺ الثلاثة خرجوا، فقال النبي ﷺ : مَا الَّذِي أَخرَجَكُمَا؟ قالا: يا رسول الله، الجوع، فقال - عليه الصلاة والسلام - : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَخرَجَنِي إَلَّا الَّذِي أَخرَجَكُمَا، فكشف أبو بكر عن مؤتزره فإذا هو رابطٌ حجراً على بطنه من الطعام، وكشف عمر فإذا هو قد ربط حجراً على بطنه، وكشف النبي ﷺ عن مؤتزره فإذا هو ربط حجرين أحدهما فوق الآخر، ثم ذهب إلى أبي أيوب الأنصاري - في القصة المعروفة...- وكان صاحب بستان، فأخذ لهم عذقاً فيه بسر ورُطب، وذبح لهم، ثم قال النبي ﷺ : لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ والمراد : سؤال تعداد.
المقصود : أن الدنيا يعطيها الله من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب كما في الحديث : إِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا لِمَنْ أَحَبَّ، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، فالدنيا تُعطى الكفرة، وتعطى الفاسق، ابتلاء وامتحاناً وتُعطَى المؤمن والكافر، والبر والفاجر، أما الدين هذا لا يعطيه الله إلا من يحب.
من أعطاه الله الدين فقد أحبه، وهذا ابتلاء وامتحان، فالفقر ابتلاء، والغنى ابتلاء، والصحة ابتلاء، والمرض ابتلاء، ما منا إلا مبتلى، فالفقير مبتلى بفقره هل يصبر أو يجزع؟، والغني مبتلى بغناه، هل يشكر أو يكفر؟، والمريض مبتلى بمرضه، هل يصبر أو يجزع؟، والمتعافى مبتلى بعافيته، هل يشكر أو يكفر؟.
كما قال الله عن سليمان لما جاءه عرش بلقيس، قال : هذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل : 40]
وفق الله الجميع.....
نقف على هذا / وبقية الوقت للأسئلة.