المتن :
يقول الإمام رحمه الله.
بَابُ النَّذْرِ
371 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً - وَفِي رِوَايَةٍ: يَوْماً - فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؟ قَالَ: فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ.
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم و الحمد الله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
قال المؤلف رحمه الله تعالى ، باب النذر.
النذر في اللغة بمعنى الإيجاب ، و في الشرع هو أن يلزم المكلف نفسه طاعة لله تعالى ، هو أن يلزم العبد المكلف نفسه طاعة لم يوجبها الله عليه كأن يوجب على نفسه صوما أو صلاة أو حجا أو صدقة أو غير ذلك هذا هو النذر .
و النذر أصله مكروه نهى عنه النبي ﷺ لأن الإنسان يوجب على نفسه طاعة قد تشق عليه فيما بعد فالأولى للإنسان ألا ينذر ولهذا قال النبي ﷺ إِيَّاكَ وَالنَّذرَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ ولكن الوفاء بالنذر إذا كان النذر طاعة فهو من صفات المؤمنين ، من صفات الأبرار قال الله تعالى في وصف عباده الأبرار إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا يُوفُونَ بِالنَّذْرِ فمدحهم و أثنى عليهم بالوفاء بالنذر فالنذر ابتداؤه مكروه.
وقال بعض العلماء محرم لأن النبي ﷺ نهى عنه فقال إِيَّاكَ وَالنَّذرَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ ولكن إذا نذر وكان نذر طاعة فيجب عليه أن يفي بنذره و إذا وفا بنذره فهو ممدوح و مثاب على ذلك .
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً - وَفِي رِوَايَةٍ: يَوْماً - فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؟ قَالَ: فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ. رواه البخاري
هذا الحديث استدل به العلماء على وجوب الوفاء بالنذر.
وفيه من الفوائد أن الكافر إذا نذر في حال كفره ثم أسلم فإنه يفي بنذره الذي نذره في حال كفره فهذا عمر نذر في الجاهلية قبل أن يسلم أن يعتكف ليلة وفي رواية يوما في المسجد الحرام فأمره النبي ﷺ أن يفي بنذره ففيه دليل على أن الكافر يفي بنذره بعد الإسلام.
وفيه دليل على مشروعية الاعتكاف وأن الاعتكاف قربة وطاعة و الاعتكاف : هو لزوم مسجد لطاعة الله .
و فيه دليل على أن الاعتكاف لا يشترط فيه الصوم لقوله : (نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة ) و الليل ليس فيه صوم و هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم ، جمهور العلماء على أن الاعتكاف لابد فيه من صوم ولهذا قالوا : أقل الاعتكاف يوم .
يصوم فيه من طلوع الشمس إلى غروبها ولا بد أن يكون الاعتكاف في المسجد و أشترط بعضهم أن يكون في الجامع حتى لا يحتاج إلى الخروج إلى الجمعة إذا جاء وقت الجمعة.
و الصواب الذي عليه المحققون أن الاعتكاف لا يشترط فيه الصوم لهذا الحديث؛ لا يشترط فيه الصوم لأن عمر نذر أن يعتكف ليلة و لليل ليس فيه صوم وكذلك ليس له حد محدد يجوز أن يعتكف يوما أو ساعة أو ساعتين أو ثلاث عند جمع من أهل العلم فإذا دخل المسجد و نوى على الاعتكاف ساعة أو ساعتين فله ذلك.
أما الجمهور فيرون أن الاعتكاف أقله يوم لأنه لابد له من الصوم.
و الاعتكاف سنة في حق الرجال والنساء والمرأة لها أن تعتكف في المسجد إذالم تخش الفتنة و المعتكف لا يخرج إلا لما لابد منه بل يلزم معتكفه فإن خرج لشيء له منه بد بطل اعتكافه وكذلك إذا جامع زوجته فإنه يبطل اعتكافه، قال الله تعالى وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ.
فالاعتكاف يبطله أمران:
الأمر الأول : الجماع.
و الأمر الثاني : الخروج لما لابد منه لشيء له منه بد ، أما الشيء الذي لابد منه له أن يخرج ، لقضاء الحاجة بول أو غائط وله أن يخرج للأكل إذا لم يكن هناك من يأتي له بأكله وله أن يأتي للشرب وله أن يخرج للوضوء وللاغتسال.
وإذا أشترط المعتكف شيئا فله فله شرطه ، فإن اشترط أن يزور مريضا فله شرطه ، إذا اشترط أن يتبع جنازة فله شرطه . قالت عائشة رضي الله عنها ( السنة المعتكف ألا يزور مريضا ولا يشهد جنازة إلا أن يشترطه ) وإذا اشترط فله شرطه و إلا فليس له خروج .
وفي هذا الحديث دليل على لزوم الوفاء بالنذر وأنه يلزم الوفاء بالنذر.
و فيه دليل على أن الاعتكاف ليس له حد محدد.
و فيه دليل على أن الاعتكاف لا يتشرط فيه الصوم.
وفيه دليل على أن الاعتكاف قربة تلزم بالنذر قربة وطاعة تلزم بالنذر .
المتن :
الشرح :
هذا الحديث عن عبد الله بن عمر فيه أن النبي ﷺ نهى عن النذر وقال إنَّ النَّذْرَ لا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ.
النذر نوعان: مطلق و معلق.
فالنذر المطلق كأن ينذر نذرا مطلقا كأن ينذر أن يصوم لله عشرين يوما أو أن يصلي عشرين ركعة أو أن يتصدق بكذا و كذا بدون تقييد فهذا لا بأس به و الأولى تركه الأولى للمسلم أن يفعل الطاعة من دون أن ينذر لأنه إذا نذر أوجب على نفسه وقد يشق عليه .
والنوع الثاني النذر المعلق كأن يقول إن شفى الله مريضي لأتصدقن بألف ريال أو لأتصدقن بمائة جنيه ، إن شفى الله مريضي لأصلين كذا وكذا ، إن شفى الله مريضي لأصومن عشرة أيام ، إن نجح ولدي في الامتحان لأفعلن كذا و كذا ، هذا نذر مجازاة.
فهذا هو المنهي عنه والنبي ﷺ يقول : إِيَّاكَ وَالنَّذرَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ البخيل هو الذي لا يتصدق ولا يعمل الطاعة إلا إذا ألزم نفسه ، البخيل هو الذي لا يتصدق ، يقول لئن شفى الله مريضي لأتصدق بألف ريال هذا البخيل ، ولكن غير البخيل يتصدق بدون نذر يتصدق من نفسه ، أما البخيل هو الذي لا يتصدق إلا إذا ألزم نفسه .
ولهذا قال النبي ﷺ إِيَّاكُم وَالنَّذرَوهنا في هذا الحديث أنه نهى عن النذر وقال إنَّ النَّذْرَ لا يَأْتِي بِخَيْرٍ لأنه يشق على الإنسان ويوجب الإنسان على نفسه طاعة تشق عليه وقد يشق عليه في المستقبل ثم يذهب إلى عتبات أهل العلم يسألهم يريد أن يجدوا له مخرجا ، كأن ينذر مثلا أن يصوم الاثنين و الخميس مدة حياته أو ينذر أن يصوم مثلا من كل شهر عشرة أيام مدة حياته أو ينذر أن يصوم نصف الدهر ، فيشق عليه في المستقبل؛ فلهذا لا ينبغي للإنسان أن ينذر بل ليفعل الإنسان الطاعة من دون أن ينذر.
وفي الحديث دليل عن النهي عن النذر ، نذر المجازاة و يقال هذا نذر اللجاج و الغضب فالنذر قد يكون نذر تبرر.
النذر أنواع:
النوع الأول : نذر التبرر و الطاعة كأن يقول لله علي أن أتصدق ، لله علي أن أصلي ، لله علي أن أصوم فهذا إذا كان نذر طاعة يجب عليه الوفاء به.
الثاني : نذر المعصية كأن ينذر أن يشرب الدخان ، أو ينذر أن يعق والديه ، هذا حرام عليه و لا يجوز الوفاء به وعليه التوبة وعليه كفارة يمين.
الثالث : نذر مباح كأن ينذر أن يركب السيارة الفلانية فهذا يخير بين فعله و كفارة يمين.
الرابع نذر اللجاج ويقال له نذر المجازاة و هذا أيضا يخير بين فعله و كفارة يمين
و الحديث فيه دليل على الحث على الإخلاص في العمل.
وفيه دليل على ذم البخيل و البخيل هو الذي يمسك عن الواجبات ، البخيل هو الذي لا يؤدي الواجبات ، والشحيح أشد من البخيل فالبخيل هو الذي يبخل بالواجبات ، والشحيح هو الذي يجمع المال من حلال و حرام ثم يبخل ، ولا يؤدي الواجب فالبخيل هو الذي يبخل بالواجب و الشحيح أشد منه ولهذا قال الله تعالى : وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
الشح بخل مع حرص كأن يحرص على جمع المال من حلال و حرام ثم يبخل بالواجب و أما البخيل فإنه هو الذي يبخل بالواجبات و أما من أدى الواجبات و أدى الزكاة و أدى الواجبات و قرى الضيف فإنه يبرأ من الشح و البخل ، وفي الحديث بَرِئَ مِنَ الشُّحِّ مَن أَدَّى الزَّكَاةَ وَقَرَى الضَّيفَ.
المتن :
الشرح :
هذا الحديث حديث عقبة بن عامر فيه أن أخته نذرت أن تمشي إلى بيت الله حافية يعني غير منتعلة فأمرها النبي ﷺ أن تفي بنذرها و أن تحج ولكن لها أن تركب ولا يلزمها أن تمشي حافية ، ولا يلزمها أن تمشي بل تمشي وتركب ، تمشي إذا كان عندها قدرة واستطاعة و تركب إذا كان عليها مشقة.
فيه دليل على أن لإنسان إذا نذر على نفسه في مشقة فإنه لا يلزمه الوفاء بذلك .
ثبت في الحديث أن النبي ﷺ رأى رجلا واقفا في الشمس فسأل عن ذلك فقالوا : هذا فلان نذر أن يصوم وألا يتكلم و أن يقف في الشمس فقال النبي ﷺ مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ، وَلْيَسْتَظِلَّ، وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ
فلا يجب للإنسان أن يكلف نفسه و أن يشق على نفسه و أن يمنع نفسه مما أباح الله له و أن يشق على نفسه ، فهذه المرأة نذرت أن تمشي إلى بيت الله حافية غير منتعلة فأمرها النبي ﷺ أن تركب ، أن تمشي وأن تركب يعني تمشي بعض الأحيان وتركب بعض الأحيان على حسب حاجتها فتمشي وإن احتاجت إلى الركوب ركبت و انتعلت .
و قول أخيها عقبة أن يستفتي النبي ﷺ يعني اسأله عن الحكم الشرعي ، والاستفتاء طلب الحكم الشرعي من المفتي أو الإمام .
و الحديث فيه دليل على صحة النذر بالإتيان إلى بيت الله الحرام.
و فيه دليل علو وجوب الوفاء بالمنذور بما يقدر عليه أما الذي لا يقدر عليه فلا يفي به و كذلك إذا نذر مالا يملكه ، إذا نذر شيئا لا يملكه أو لا يقدر عليه فإنه يكفر كفارة يمين ، جاء في الحديث لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ
فنذر المعصية لا يجوز الوفاء به وكذلك مالا يملكه يعني أن ينذر أن يتصدق بشئ لا يملكه تصدق بدابة فلان أو بسيارة فلان أو بغير ذلك فهذا ليس له أن يفي به و عليه أن يكفر كفارة يمين لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ
فعلى هذا يكون النذر أنواع: يكون نذر التبرر هذا واجب الوفاء به إذا كان طاعة ، نذر المعصية ، نذر مالا يملك ، نذر المجازاة و الغضب ، ونذر التبرر هو الذي يجب الوفاء به مطلقا ، نذر المعصية ومالا يملكه ابن آدم لا يجوز الوفاء به وعليه كفارة يمين ، النذر المباح و نذر اللجاج الغضب يخير بين فعله و كفارة يمين ، نذر أن يركب السيارة له أن يركب السيارة وله ألا يركبها و يكفر كفارة يمين .
المتن :
الشرح :
هذا حديث أبن عباس رضي الله عنهما أنه قال اسْتَفْتَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ ، تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: فَاقْضِهِ عَنْهَا.
الحديث فيه دليل على وجوب الوفاء بنذر الميت ، قضاء النذر عن الميت و أن الميت يقضى عنه نذره و لهذا لما استفتى سعد بن عبادة عن النذر الذي كان على أمه ماتت قبل أن تقضيه قال : اقضه عنها ، فيدل على مشروعية قضاء النذر عن الميت لأنه دين في ذمته و الديون تقضى عن الميت سواء كان لله أو لآدمي فالديون التي على الميت للآدميين تقضى وكذلك الديون التي لله ، فلو نذر أن يحج ثم مات فإنه يخرج من ماله ما يحج عنه و لو نذر أن يتصدق بمبلغ من المال ثم مات فإنه يخرج من ماله أداء هذا الواجب ، يعني تخرج من رأس المال ، الديون التي على الميت يبدأ بها قبل قسمة التركة لأن هناك حقوق تتعلق بالتركة قسمتها منها أجرة حفر القبر وأجرة غسل الميت و أجرة شراء الكفن هذه لابد منها يبدأ بها أولا ، أجرة حفر القبر و أجرة الكفن و أجرة غسل الميت تؤخذ من رأس المال ثم تقضى الديون.
والديون نوعان: ديون بها رهن يبدأ بها أولا ثم يبدأ بالديون المطلقة التي غير مقيدة سواء كانت لله أو لآدمي لو مات و عليه زكاة ، تخرج الزكاة ، لو مات وعليه دين لآدمي تخرج ، يقضى عنه من رأس المال وكذلك ديون الله ثم تنفذ الوصايا ثم بعد ذلك يأتي الإرث.
و هذا الحديث فيه دليل على أن الميت يقضى عنه نذره بعد موته؛ ولهذا قال النبي ﷺ لسعد فَاقْضِهِ عَنْهَا.
و فيه أن من بر الوالدين بعد وفاتهم قضاء ديونهم التي عليهم سواء كانت لله أو لآدمي.
و فيه أيضا مشروعية الصدقة عن الميت و أن ذلك ينفعه بوصول الثواب إليه .
المتن :
الشرح :
هذا الحديث حديث كعب بن مالك قطعة من حديث طويل في تخلفه عن غزوة تبوك فإن كعب بن مالك وصاحباه هلال أبن أمية ومرارة بن ربيع تخلفوا عن غزوة تبوك وليس لهم عذر فهجرهم النبي ﷺ والمسلمون خمسين ليلة و أما المنافقون الذين تخلفوا فإنهم جاءوا و حلفوا لرسول الله ﷺ و جاءوا و اعتذروا فقبل النبي ﷺ علانيتهم و وكل سرائرهم إلى الله .
و أما هؤلاء الثلاثة فلم يحلفوا ولم يكذبوا كالمنافقين و إنما صدقوا ، صدقوا الله ورسوله فهجرهم النبي ﷺ و المسلمون خمسين ليلة .
احتج به العلماء على مشروعية هجر العاصي و أن العاصي يهجر حتى يتوب من معصيته و أن ليس للهجر حد محدد حتى يتوب بخلاف الهجر إذا كان من أجل الدنيا فإنه لا يزيد على ثلاثة أيام إذا كان من أجل والدنيا وهو مشاحنة دنيوية لا يزيد الهجر عن ثلاثة أيام؛ لقول النبي ﷺ في الحديث الصحيح لاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ؛ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ
و الحكمة من ذلك أن النفوس يحصل فيها بعض التأثر فشرع توضيح المسلم أن يهجر ليوم أو يومين أو ثلاثة ولا يزيد أما إذا كان الهجر لأجل الدين فإنه يهجر حتى يتوب ولكن هذا إذا كان الهجر يفيده يفيده و يردعه عن المعصية.
أما إذا كان الهجر يزيد شرا و وبالا فلا يهجر و يستمر في نصيحته لأن بعض الناس إذا هجرته صار لا يبالي إذا لم تهجره يراعي بعض الشئ و يخفف من الشر، و إذا هجرته صار لا يبالي بك و ازداد شره ففي هذه الحالة لا تهجره لأن الهجر كالدواء يستعمل فهذا هو الصواب الذي عليه المحققون و أن الهجر كالدواء إذا كان يفيد يستعمل وإن كان لا يفيد فيستمر في نصيحته.
ولهذا هجر النبي ﷺ هؤلاء الثلاثة خمسين ليلة ولم يهجر المنافقين فكعب بن مالك لما تاب الله عليه بعد خمسين ليلة و أنزل الله توبتهم من فوق سبع سماوات قرآن يتلى إلى يوم القيامة، يقول الله وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
وجاء الناس يهنئون هؤلاء الثلاثة و صار الناس يأتون كعبا إرسالا يتبع بعضهم بعضا يهنئونه يقولون (....) توبة الله عليك فلما جاء كعب إلى النبي ﷺ و سلم عليه فرح بتوبة الله عليه ، قال يا رسول الله إن توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله و إلى رسوله ، قال من توبتي يا رسول الله أن أنخلع ، أنخلع يعني أن أتعرى من مالي أن يتصدق بجميع ماله ، جميع ما أملك أتصدق به صدقة إلى الله وألى رسوله ، صدقة إلى الله و إلى رسوله لأن الرسول هو الذي يتصرف بذلك ، يعني يدفع ماله إلى الرسول والرسول ﷺ ينفذه و إلا فالمعروف أن الصدقة تكون لله فقال رسول الله ﷺ أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ.
هذا الحديث فيه دليل على أنه لا ينبغي للإنسان أن يتصدق بجميع ماله و أن يبقى عالة على الناس لأنه إذا تصدق بماله صار يتكفف الناس و يسألهم ويشحذ و إذا كان له أولا كذلك ، أولاده يتكففون الناس و يسألون الناس بأكفهم فلهذا قال له النبي ﷺ أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ. فقال كعب : أمسك بسهم الذي بخيبر يا رسول الله و ثبت في الحديث الآخر أن النبي ﷺ حث على الصدقة و تسابق الخيران أبو بكر و عمر ، جاء عمر بنصف ماله فقال ما أبقيت لأهلك ، قال النبي ﷺ مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ يَا عُمَرُ؟ قال أبقيت لهم مثل ذلك يعني النصف ، ثم جاء أبو بكر بجميع ماله فوضعه عند النبي ﷺ فقال له النبي ﷺ يَا أَبَا بَكرٍ، مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ قال أبقيت لهم الله ورسوله ما أبقى شئ فقال عمر لا أسابقك بعد اليوم أبدا .
لكن كيف الجمع بين حديث أبي بكر أن النبي ﷺ أقره على أن يتصدق بجميع ماله وبقوله لكعب أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ. قال العلماء الجمع بينهما أنه لا يجوز للإنسان أن يتصدق بجميع ماله إذا كان يتكفف الناس و أهله يتكففون الناس ، لكن إذا كان له مكسب يومي ، كسب يومي يستطيع كل يوم أن يكسب ما يكفيه و يكفي لأهله وكان عنده صبر و تحمل و كذلك أهله يصبرون فلا بأس كما فعل الصديق ، فإن الصديق له مكسب يومي ، يعني يكسب يوميا ما يكفيه ويكفي أهله فلهذا أقره النبي ﷺ على الصدقة بجميع ماله ، ما إذا كان ليس له كسب يومي ولا يستطيع الصبر أو يكون عالة ويتكفف الناس فهذا لا يجوز له أن يتصدق بجميع ماله بل أهله ونفسه أولى من أن يتكفف الناس .
وكعب أراد أن يتصدق بماله شكرا لله ، شكرا لله على توبة الله له .
المتن :
بَابُ الْقَضَاءِ
376 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ.
وَفِي لَفْظٍ: مَنْ عَمِلَ عَمَلاٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ.
الشرح :
هذا الحديث هو حديث عائشة رضي الله عنها و هو قول النبي ﷺ
مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ .هذا دليل على وجوب متابعة النبي ﷺ و تحريم البدع والمحدثات في الدين و أنه يحرم على الإنسان أن يحدث حدثا في دين الله وأن يبتدع في دين الله ما ليس منه بل يجب عليه اتباع النبي ﷺ وهو دليل لأحد الأصلين الذين لا تصلح العبادة إلا بهما.
فإن العبادة لا تصح إلا بشرطين :
الشرط الأول : أن تكون خالصة لله ودليل هذا الشرط نصوص منها قول النبي ﷺ إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى
و الشرط الثاني : أن يكون العمل موافقا للشريعة و دليله هذا الحديث مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ.
و الأصل الأول : وهو الإخلاص هو مقتضى تحقيق شهادة لا إله إلا الله و الأصل والثاني وهو: مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ. هو مقتضى تحقيق شهادة أن محمدا رسول الله وهاتان الشهادتان هما أصل الدين و أساس الملة، و بهما يدخل الإنسان للإسلام ، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمد رسول الله ، و في لفظ مسلم مَنْ عَمِلَ عَمَلاٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ.
وهذان الأصلان دلت عليهما النصوص كقوله تعالى فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا و قوله تعالى وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ.
و القضاء في اللغة : إحكام الشيء و الفراغ منه ، قضيت يعني أحكمت الشئ وفرغت منه ، ويكون القضاء بمعنى إمضاء الحكم و أما في اصطلاح العلماء فالقضاء : تبيين الحكم الشرعي و الإلزام به وفصل الخصومات ، هذا هو القضاء .
و الحديث فيه تحريم البدع و الإحداث في دين الله ما ليس منه و أن من أحدث في دين الله ما ليس منه فهو مردود على صاحبه و الحديث فيه من الفوائد إبطال المنكرات و إبطال البدع و فيه أن المنهي عنه ليس من أمر الدين فالمنهيات كلها ليست من أمر الدين و هذا الحديث الذي جاء به المؤلف رحمه الله في باب القضاء
و مناسبة هذا الحديث في باب القضاء أن القاضي يحكم بشرع الله فلا يجوز له أن يغير أحكام الله فإذا غير أحكام الله متعمدا فعليه الوعيد الشديد فإنه أحدث في دين الله ما ليس منه فهو مردود عليه ولكن إذا اجتهد و أخطأ فلا لوم عليه فالحاكم قد يجتهد بأمر ليس فيه نص فيصيب وقد يخطئ فإذا أصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر، يقول النبي ﷺ في الحديث الصحيح إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ.
فإذا اجتهد و أخطأ فخطأه مغفور و له أجر ، أما إذا تعمد الخطأ فهو ظالم لنفسه و عمله مردود وعليه الوعيد الشديد .
المتن :
الشرح :
هذا الحديث وهو حديث عائشة في قصة هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان قائد الجيوش ، أبو سفيان قائد الجيوش مدة سنوات للمشركين ثم أسلم من الله عليه بالإسلام عام فتح مكة .
و هذه هند بنت عتبة كذلك أيضا أسلمت رضي الله عنها و جاءت تستفتي النبي ﷺ فقالت ( يا رسول الله إن أبا سفيان )، وهو قائد الجيوش ،. الحديث فيه فوائد ، من فوائد الحديث جواز استفتاء المرأة من الرجال و أن صوت المرأة ليس بعورة إذا لم يكن فيه خضوع بالقول ، قال الله تعالى فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ. هذا الصحيح.
وقيل أنه عورة و الصواب أنه ليس بعورة لكن قد يكون فيه فتنة لبعض الناس فلهذا نهيت المرأة أن ترفع صوتها في التلبية ولا تسبح في الصلاة وإنما تصفق خشية أن يفتتن بها بعض الناس فالحديث دل على جواز استفتاء المرأة لأهل العلم فيما يشكل عليها .
وفيه دليل على جواز الغيبة عند الحاجة ، عند الحاجة إلى الاستفتاء فقولها رجل شحيح هذه غيبة في لفظ آخر رجل مسيك ، (قالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مسيك ) ، يعني يمسك لا يعطيني ما يكفيني وبنيّ إلا ما أخذت من غير علمه ، فهي مضطرة إلى السؤال فلذلك أستثني من هذا ، وهذه أمور معروفة مستثناة من الغيبة عند الإستفتاء و عند إنكار المنكر و عند التعريف كأن يقال فلان أعمى أو أعرج إذا قصد التعريف و عند التظلم إذا كان يتظلم عند القاضي يشكي فلان أخذ مالي أخذ حقي هذه أمور مستثناة و عند الاستشارة كأن يستشير إنسان يقول ماذا تقول في فلان خطب مني سأزوجه ، أنت تخبر بما فيه و هذا مستثنى ، هذه الأمور مستثناة من الغيبة و ماعدا ذلك فإن الغيبة محرمة، وهذا منها ، عند الاستفتاء فهذه مضطرة إلى الاستفتاء فاغتابت و قالت رجل شحيح و استدل به بعض العلماء على الحكم على الغائب فإن النبي ﷺ حكم على أبي سفيان لها بأن تأخذ من ماله ما يكفيها.
الحديث فيه دليل على جواز أخذ المرأة من مال زوجها بغير علمه ما يكفيها للنفقة لها ولبنيها بالمعروف، بالمعروف يعني بالمتعارف به شرعا ، يعني بالمعروف عند الناس و هذا يختلف بإختلاف الأزمنة و الأمكنة و لي لها أن تزيد تأخذ ما يكفيها نفقة و كسوة لها ولبنيها على عادة أمثالها من الناس .
و استدل به العلماء على الحكم على الغائب فإن النبي ﷺ حكم على سفيان و هو غائب ، حكم لزوجته أن تأخذ من ماله وهو غائب.
و استدل به بعض العلماء على مسألة الظفر ، ومسألة الظفر هي أن يكون الإنسان له مال عند شخص له مال عند إنسان ولا يستطيع أخذ ماله قد أنكره و جحده ثم استطاع أن يأخذ منه ماله فهل له أن يأخذ من غير علمه مقدار دينه ، شخص يطلب من شخص عشرة آلاف و أنكره وجحده ثم استطاع أن يأخذ من ماله عشرة آلاف من دون علمه هل له أن يأخذ أو ليس له أن يأخذ، هذه يقال لها عند العلماء مسألة الظفر.
إذا ظفر الإنسان بحقه، فيها ثلاث أقوال لأهل العلم :
قال بعض العلماء : له أن يأخذ و قال بعض العلماء ليس له أن يأخذ و قال بعض العلماء بالتفصيل و أنه إن كان سبب الحق ظاهرا فله أن يأخذ و إن لم يكن سبب الحق ظاهرا فلا يأخذ ، إذا كان سبب الحق ظاهرا من الزوجة معروف أن الزوج ينفق عليها ، ومثل الضيف إذا نزل بقوم ولم يقروه فإنه يأخذ حقه.
و يدل على ذلك الحديث الآخر وهو أن النبي ﷺ قيل له يا رسول الله إنا ننزل بقوم ، يعني ضيوف ، ولا يقروننا فقال إِذَا نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَلَم يَقرُوكُم فَخُذُوا حَقَّ الضَّيْفِ فإذا كان ضيف ولم يعطه حقه و استطاع أن يأخذ يأخذ، لأنه معروف أنه ضيف أما إذا كان سبب الحق غير ظاهر فلا يأخذ لأن قد يتهم و قد يسجن و قد يعتبر سارق لو أطلع عليه فيما بعد فهذه مسألة الظفر أعدلها القول بأنه إذا كان سبب الحق ظاهرا له أن يأخذ و إن كان سبب الحق ليس ظاهرا فلا يأخذ.
و قولها ( رجل شحيح ) يعني مبالغ في الشح وهو أشد البخل.
و فيه من الفوائد كما سبق جواز سماع كلام الأجنبية عند الحكم و الإفتاء و جواز استماع كلام أحد الخصمين في غيبة الآخر.
وفيه دليل على أن النفقة واجبة على الأب و فيه أن الشرع يعتمد العرف في قوله خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ.
و فيه أن المرأة تقوم بكفالة أولادها و الإنفاق عليهم عند غيبة أبيهم.
المتن :
الشرح :
هذا الحديث حديث أم سلمة فيه أن النبي ﷺ كان هو القاضي بين الناس ، كان يقضي بين الناس وأنه سمع جلبة خصم بباب حجرته ، يعني أصوات فخرج إليهم فقال : أَلا إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّمَا يَأْتِينِي الْخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ؛ فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ
فيه دليل على أن النبي ﷺ بشر و أنه لا يعلم الغيب و أنه كسائر البشر ، وفيه رد على الغلاة الذين غلو بالنبي ﷺ و قالوا إنه نور و ليس بشر ، بعض الغلاة قالوا إن الرسول نور .
و قال بعضهم و العياذ بالله بعض الكفرة أنه جزء من الله ، تعالى الله عما يقولون ، هذا باطل ، قال الله تعالى قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ و هنا قال إنما أنا بشر و هو بشر مخلوق من ذكر و أنثى من لحم ودم كغيره من أبيه و أمه و ليس نورا ولكنه جاء بالنور بالنور المعنوي ، بإخراج الناس من الظلمات إلى النور ، أنزل الله عليه القران و الحكمة و لكنه من لحم ودم كسائر الناس .
و فيه دليل على أن النبي ﷺ لا يعلم الغيب فلهذا قال : وَإِنَّمَا يَأْتِينِي الْخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ؛ فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ؛ فَأَقْضِي لَهُ.
فيه دليل على أن النبي يقضي على حسب البينات ، والقاضي قد يصيب و قد لا يصيب فهو يسأل عن البينات ويقضي بالبينات فإن لم يكن للمدعي بينة وجه اليمين للمدعى عليه و هكذا .
وقد يقضي بالبينات و قد تكون البينات مزورة ، زور ، والقاضي لا إثم عليه ولا كن الإثم على المزور و تنتهي الخصومة في الدنيا ولكن هناك خصومة بين يدي الله
و فيه دليل على أن النبي ﷺ لا يحكم بالوحي و إنما يحكم على حسب البينات لأنه مشرع عليه الصلاة والسلام لأنه لو حكم بالوحي فمن بعده لا يستطيعون أن يحكموا بالوحي فلهذا كان النبي ﷺ يحكم بالبينات و لهذا قال : وَإِنَّمَا يَأْتِينِي الْخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ؛ فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ قد يكون أحد الخصمين بليغ فصيح عنده قدرة على البيان والإيضاح وقد يكون غير صاحب الحق فيؤثر على القاضي ، يتأثر لأنه بشر والإثم على هذا الخصم و القاضي ليس عليه إثم إذا اجتهد.
ففيه دليل على أن القاضي معذور إذا اجتهد و بلغ وسعه و جهده في الحكم و طلب الحق ثم أخطأ بسبب البينات فلا إثم عليه فلهذا قال النبي ﷺ: فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ نَارٍ ، فَلْيَحْمِلْهَا أَوْ يَذَرْهَا الرسول عليه الصلاة والسلام يقول قد أحكم بحسب البينات فأقطع لهذا قطعة من نار و أعطيها إياه فليأخذها أو يتركها يقول أعمل بالبينات.
هذا فيه دليل على أن القاضي لا يعلم الغيب و أنه يحكم بالبينات وقد يحكم بغير صاحب الحق بسبب البينات والحجج و الإثم على من زور.
و فيه دليل على قوله أَلا إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ فيه دليل على أنه بشر لا يعلمون بواطن الأمور إلا أن يطلعهم الله على شيء من ذلك و الرسول عليه الصلاة والسلام إنما يحكم بالبينات لأنه مشرع.
وفيه دليل على أن القاضي قد يخطئ و يصيب وأن المجتهد قد يخطئ و يصيب و أن المخطأ لا يلحقه إثم إذا لم يتعمد و الإثم على المزور.
و فيه دليل على أن ليس كل مجتهد مصيب.
و فيه دليل على أن المصيب له أجران و المخطئ له أجر كما في الحديث إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ.
و فيه مشروعية موعظة الخصوم ، موعظة القاضي للخصوم يعظهم ، ولهذا وعظ النبي ﷺ فقال فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ نَارٍ، فَلْيَحْمِلْهَا أَوْ يَذَرْهَا
و فيه ذم البلاغة والبيان إذا كان في الباطل ولهذا قال فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلحَنُ فِي حُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فيه ذم البلاغة إذا كان فيها تكلف و تعمق و إظهار للباطل في صورة الحق و إظهار الحق في صورة الباطل .
انتهى.