(متن)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين اللهم اغفر لنا ولشيخنا والسامعين.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:
وَأَجْمَعَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عَلَى أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى بَائِنٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ يُوصَفُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ ﷺ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ يُوصَفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ دُونَ صِفَاتِ النَّقْصِ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الصَّمَدُ الْعَلِيمُ الَّذِي كَمُلَ فِي عِلْمِهِ الْعَظِيمُ الَّذِي كَمُلَ فِي عَظَمَتِهِ الْقَدِيرُ الْكَامِلُ فِي قُدْرَتِهِ الْحَكِيمُ الْكَامِلُ فِي حِكْمَتِهِ السَّيِّدُ الْكَامِلُ فِي سُؤْدُدِهِ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ: هُوَ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ. وَالْأَحَدُ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ. فَاسْمُهُ الصَّمَدُ يَتَضَمَّنُ اتِّصَافَهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَنَفْيِ النَّقَائِصِ عَنْهُ وَاسْمُهُ الْأَحَدُ يَتَضَمَّنُ اتِّصَافَهُ أَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ.
وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي كَوْنِهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ.
(شرح)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
هذه أقوال السلف رحمهم الله في إثبات الصفات أجمع سلف الأمة وهم الصحابة والتابعون ومن بعدهم من الأئمة والعلماء على أن الله تعالى بائن من مخلوقاته يعني منفصل عن مخلوقاته ليس في ذاته شيء من مخلوقاته ولا في مخلوقاته شيء من ذاته بل هو سبحانه بائن من مخلوقاته، المخلوقات وهي العالم سقفها عرش الرحمن انتهت المخلوقات والله تعالى فوق العرش بعد أن تنتهي المخلوقات، العرش هو سقف المخلوقات والله تعالى فوق العرش والله تعالى بائن من خلقه منفصل ليس في ذاته شيء من مخلوقاته ولا في مخلوقاته شيء من ذاته وهو عالم بكل شيء وعلمه في كل مكان هو ذاته فوق العرش وعلمه في كل مكان لا يخلو من علمه مكان وقدرته وهو قدير على كل شيء ينفذ تصرفه ومشيئته في خلقه وإذا أراد شيئاً قال له كن فيكون في الحال هذا هو الذي يجتمع عليه سلف الأمة وأئمتها على أن الرب سبحانه بائن من مخلوقاته وأن الله يوصف بصفات الكمال.
صفات الكمال هي الصفات الواردة في الكتاب والسنة هذه هي صفات الكمال وليس للناس ولا للمخلوقين أن يخترعوا لله صفات من عند أنفسهم ولا أن يخترعوا لله أسماء من عند أنفسهم بل الأسماء والصفات توقيفية ما ورد في النصوص من الكتاب والسنة من أسماء الله سميناه بها وما ورد في الكتاب والسنة من صفات الله وصّفناه بها لا يتجاوز القرآن والحديث.
هذا هو مذهب السلف والأئمة مذهب الرسل وأتباعهم والصحابة والتابعين والأئمة والعلماء أجمعوا على هذا على أن الله تعالى بائن من مخلوقاته فوق عرشه بائن من مخلوقاته ليس في ذاته شيء من مخلوقاته ولا في مخلوقاته شيء من ذاته يوصف بصفات الكمال التي وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله ﷺ من غير تحريف ولا تعطيل تحريف لفظي ولا تحريف معنوي التحريف اللفظي كتحريف بعض الجهمية قرأ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا هي وكلّم اللهُ حرّفها قال وكلّم اللهَ موسى تكليماً كأن الله هو المكلَّم.
والتحريف في الكلام عن الله التحريف بالقول وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قال وجرّحه بأظافير الحكمة فأهل السنة لا يُحرّفون لا لفظاً ولا معنىً ولا يعطّلون الصفات ولا يكيفون على كيفية كذا الصفات ولا يمثّلون فيقولون هي مثل صفات مخلوقاته وقال وبما وصفه به رسوله ﷺ من غير تحريف ولا تعطيل والله من غير تكليف ولا تمثيل والله ليس كمثله شيء كما وصف نفسه وقال قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. هذه صفة الرحمن ولهذا هذه السورة تعدل ثلث القرآن.
والمؤلف رحمه الله شيخ الإسلام ألّف مؤلّفا خاصا في هذه السورة جاء فيها أن قل هو الله أحد تعدل نصف القرآن مجلّد رحمه الله.
والصمد قال ابن عباس هو العليم الذي كمل في علمه العظيم الذي كمل في عظمته القدير الكامل في قدرته الحكيم الكامل في حكمته السيد الكامل في سؤدده كل هذا داخل في اسم اللَّهُ الصَّمَدُ قال ابن عباس وغيره هو الذي لا جوف له يعني لا يأكل ولا يشرب.
وهذا صحيح فالأحد هو الذي لا يأكل ولا يشرب وهو الصمد السيد الذي كمل في سؤدده والذي تصبو إليه الخلائق في حوائجها والذي كمل في علمه وكمل في عظمته وكمل في قدرته وكمل في حكمته وكمل في سؤدده كل هذا في اسم الصمد.
والأحد الذي لا نظير له ولا مثيل له فاسمه الصمد يتضمن اتصافه بصفات الكمال ونفي النقائص عنه واسمه الأحد يتضمن أنه لا مثيل له.
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، هذه الآية نزلت لما قال المشركون انسب لنا ربك فأنزل الله هذه السورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، أحد يعني لا مثيل له الله الصمد السيد الكامل في سؤدده في علمه وحكمته والذي لا نظير له.
الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ لم يتفرع من شيء ولم يتفرع منه شيء ليس له ولد ولا والد بل هو واجب الوجود لذاته واجب وجوده من نفسه لا من شيء آخر بخلاف المخلوقين فإن وجودهم بوجود الله لهم أما الله فوجوده من ذاته ليس له أصل ولا فرع.
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. المخلوق له فرع وله أصل، أصله آباؤه وأجداده وفرعه أبناؤه وأولاده.
(متن)
قال رحمه الله تعالى:
فَصْلٌ:
وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ تُشْتَبَهُ عَلَيْهِمْ الْحَقَائِقُ الْأَمْرِيَّةُ الدِّينِيَّةُ الْإِيمَانِيَّةُ بِالْحَقَائِقِ الْخِلْقِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ الْكَوْنِيَّةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
فَهُوَ سُبْحَانَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ لَا خَالِقَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ فَكَلُّ مَا فِي الْوُجُودِ مِنْ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ فَبِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ وَنَهَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ وَمَعْصِيَةِ رُسُلِهِ أَمَرَ بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ وَنَهَى عَنْ الْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ.
فَأَعْظَمُ الْحَسَنَاتِ التَّوْحِيدُ وَأَعْظَمُ السَّيِّئَاتِ الشِّرْكُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَقَالَ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا.
وَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَنَهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَيُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَيُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ؛ وَيُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ وَيُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ.
وَهُوَ يَكْرَهُ مَا نَهَى عَنْهُ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا.
وَقَدْ نَهَى عَنْ الشِّرْكِ وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ؛ وَأَمَرَ بِإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى الْحُقُوقَ وَنَهَى عَنْ التَّبْذِيرِ؛ وَعَنْ التَّقْتِيرِ؛ وَأَنْ يَجْعَلَ يَدَهُ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِهِ؛ وَأَنْ يَبْسُطَهَا كُلَّ الْبَسْطِ وَنَهَى عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَعَنْ الزِّنَا وَعَنْ قُرْبَانِ مَالِ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلَى أَنْ قَالَ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا.
وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ.
(شرح)
هذا الفصل بين المؤلف رحمه الله أن الفرق بين الحقائق الخلقية القدرية والحقائق الأمرية الدينية الشرعية، الحقائق الخلقية القدرية التي تتعلق بتوحيد الربوبية الخلق وما قدّره هذا يتعلق بالخَلق والقدَر فالإيمان بذلك الإيمان بتوحيد الربوبية والحقائق الأمرية الدينية الشرعية التي تتعلق بتوحيد العبادة والألوهية فالمؤمن يوحد الله في ربوبيته ويوحد الله في ألوهيته.
وكثير من الناس تشتبه عليهم الحقائق الأمرية الدينية الإيمانية بالحقائق الخلقية القدرية الكونية هذا يشتبه على كثير من الكلام فلا يفرّق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية ويشتبه على الصوفية ويظنون أن الإنسان إذا وحد الله في ربوبيته كفر صار موحداً وهذا غلط كبير وإن كان توحيد الربوبية لابد منه لكن لا بد من توحيد العبادة والألوهية وهو الذي بعث فيه الرسول ﷺ في كتبه أما توحيد الربوبية فهو توحيد فطري فطر الله عليه الخلائق ما أنكره إلا الشواذ من المجموعة البشرية وهناك فرق بين هذا وهذا.
المؤمن يؤمن بأن الله الخالق الرازق المدبّر المحيي المميت المتصرف في هذا الكون الذي له المشيئة تنفذ مشيئته وإرادته في هذا الكون هذا يجب على المسلم أن يؤمن به وهو يتعلق بتوحيد الربوبية كذلك يجب عليه أن يؤمن بأن الله أمر بعبادته و طاعته وأنه أرسل الرسل وأنزل الكتب وأنه يجب عليه أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدَر خيره وشره وأنه يجب عليه أن يؤدي الواجبات وينتهي عن المحرّمات يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان ويحج بيت الله الحرام وأنه مكلّف ومأمور بذلك أمره الله بذلك قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ من أجل ذلك أنزل الله الرسل وأنزل الكتب وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ.
فلا بد من التفريق بين هذه الحقائق، الحقائق الخلقية القدرية التي تتعلق بتوحيد الربوبية بخلق الله وقدره وفعله ، فتوحيد الربوبية أن توحد الله بأفعاله هو أفعال الله الخلق والرزق والإماتة والإحياء تضيفها إليه وتنسب أن الله هو الخالق هو الرازق هو المدبّر هو الخالق وغيره مخلوق هو الرب وغيره مربوب تعتقد بأن الله هو الرب وغيره مربوب تعتقد بأن الله هو الخالق وغيره مخلوق وتعتقد بأن الله هو المالك وغيره مملوك وتعتقد بأن الله مدبِر وغيره مدبَّر هذا توحيد الربوبية كذلك أيضاً يجب عليك أن توحد الله في عبادته وألوهيته بأن توحد الله بأفعالك أنت التي تتقرب بها توحد الله بصلاتك وصومك وزكاتك وحجك وجهادك وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر وبرك الوالدين وصلتك لرحمك وإحسانك للناس وكف أذاك في العدوان على الناس في دمائهم أو أموالهم أو أعراضهم فلا بد من التفريق بين الأمرين.
ولهذا قال المؤلف كثير من الناس من تشتبه عليهم الحقائق الأمرية الدينية الإيمانية هذا ما شرعه الله في كتابه وعلى لسان رسوله هذا هو توحيد الله في عبادته بالحقائق الخلقية القدرية الكونية هذا ما يتعلق بفعل الله وخلقه وهو توحيد الربوبية فلا بد من الإيمان بالأمرين ولا بد من التفريق بينهما.
الحقائق جمع حقيقة وهي الأمر الثابت، الأمرية ما أمر الله به وأمر به رسوله،الدينية يتعلق بالدين، الإيمانية يتعلق بالإيمان،الحقائق الخلقية يتعلق بخلق الله، قدرية ما يتعلق بتقديره، الكونية بما كوّنه سبحانه، فإن الله له الخلق والأمر وقد فرّق الله بينهما وعطف أحدهما على الآخر فقال أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ودل على أنه شيئان الخلق لله فله الخلق وله الأمر الخلق هو الخالق ليس معه شريك وهو الآمر الناهي المشرّع ليس معه مشرّع أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ.
ثم استدل المؤلف بالآية إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ فرّق بينهما تبارك الله ربّ العالمين قال فهو سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه لا خالق غيره ولا رب سواه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فكل ما في الوجود من حركة وسكون فبقضائه وقدره ومشيئته وقدرته وخلقه هذا ما يتعلق بتوحيد الربوبية هذه الحقائق الخلقية القدرية.
ثم قال وهو سبحانه أمر بطاعته وطاعة رسوله هذه الحقائق الدينية الأمرية الشرعية وهو سبحانه أمر بطاعته وطاعة رسوله ونهى عن معصيته ومعصية رسوله وأمر بالتوحيد والإخلاص ونهى عن الإشراك بالله.
فأعظم الحسنات التوحيد وأعظم السيئات الشرك هذا يتعلق بالحقائق الأمرية الدينية الشرعية لابد من التفريق بينهما فالحقائق الأمرية الدينية الشرعية الإيمانية يفعلها العبد باختياره والحقائق الخلقية القدرية يؤمن بها ويضيفها إلى الله قال الله تعالى إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ و ينهى عن الشرك وقال وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا.
وأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى كله داخل بالحقائق الأمرية الدينية الشرعية ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي وأخبر أنه يحب المتقين ويحب المحسنين ويحب المقسطين ويحب التوابين ويحب المتطهّرين ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص، فيه المحبة لله هذا كله يتعلق بالحقائق الأمرية الدينية الشرعية.
وهو سبحانه يكره ما نهى عنه يعني يكرهه ديناً وشرعاً وإن كان يخلق ما يكرهه يعني يخلق ما يكرهه ديناً وشرعاً وهو يريده كوناً وقدراً ولا يريده ديناً وشرعاً لا بد من التفريق بين الحقيقتين قال سبحانه في سورة الإسراء: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا. يعني شرعاً وديناً.
وقد نهى عن الشرك وعقوق الوالدين وأمر بإيتاء الحقوق ونهى عن التبذير ونهى عن التقتير (التبذير الإسراف الزيادة، التقتير البخل) وأن يجعل يده مغلولة إلى عنقه وألا يبسطها كل البسط وأن يجعل يده مغلولة هذا البخل وألا يبسطها كل البسط هذا التبذير ونهى عن قتل النفس بغير الحق ونهى عن الزنا وعن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن إلى أن قال: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا، وهو سبحانه لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر كل هذا يتعلق بالحقائق الأمرية الدينية الشرعية ثم قال والعبد مأمور.
(متن)
قال رحمه الله تعالى:
وَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ أَنْ يَتُوبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى دَائِمًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إلَى رَبِّكُمْ، فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبَ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: إنَّهُ ليغان عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ.
وَفِي السُّنَنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ، يَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إنَّك أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ مِائَةَ مَرَّةٍ أَوْ قَالَ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ.
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ أَنْ يَخْتِمُوا الْأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ بِالِاسْتِغْفَارِ فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ إذَا سَلَّمَ مِنْ الصَّلَاةِ يَسْتَغْفِرُ ثَلَاثًا وَيَقُولُ اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْك السَّلَامُ، تَبَارَكْت يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ. كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْهُ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَالْمُسْتَغْفِرِين بِالْأَسْحَارِ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقُومُوا بِاللَّيْلِ وَيَسْتَغْفِرُوا بِالْأَسْحَارِ.
وَكَذَلِكَ خَتَمَ سُورَةَ الْمُزَّمِّلِ وَهِيَ سُورَةُ قِيَامِ اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْحَجِّ: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
بَلْ أَنْزَلَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ لَمَّا غَزَا النَّبِيُّ ﷺ غَزْوَةَ تَبُوكَ وَهِيَ آخِرُ غَزَوَاتِهِ: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إلَّا إلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ وَهِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ.
وَقَدْ قِيلَ: إنَّ آخِرَ سُورَةٍ نَزَلَتْ قَوْله تَعَالَى إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا فَأَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَخْتِمَ عَمَلَهُ بِالتَّسْبِيحِ وَالِاسْتِغْفَارِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ ﷺ كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي. يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي هَزْلِي وَجِدِّي وَخَطَئِي وَعَمْدِي وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْت وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي، قَالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِك، وَارْحَمْنِي إنَّك أَنْتِ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
وَفِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ إذَا أَصْبَحْت وَإِذَا أَمْسَيْت، فَقَالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضُ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ أَجُرَّهُ إلَى مُسْلِمٍ. قُلْهُ إذَا أَصْبَحْت وَإِذَا أَمْسَيْت وَإِذَا أَخَذْت مَضْجَعَك.
(شرح)
كل هذه النصوص فيها بيان ما شرعه الله تعالى لعباده من الدعاء والعبادة وختم العبادات بالاستغفار هذا كله يتعلق بالحقائق الأمرية الدينية الشرعية.
قال المؤلف والعبد مأمور أن يتوب إلى الله دائماً لأن العبد مأمور لله هذا يتعلق بالحقائق الأمرية الدينية الشرعية أما الحقائق الخلقية القدَرية هذه يؤمن بها الإنسان ويضيفها إلى الله ويؤمن بأن الله الخالق الرازق المدبّر المتصرّف له المشيئة وله الخلق أما الحقائق الأمرية الدينية الشرعية يفعلها هو مأمور بالصلاة بالزكاة بالصيام بالحج بالتوبة بالاستغفار.
فلا بد من التفريق بين الحقائق الخلقية القدرية الكونية والحقائق الأمرية الدينية الشرعية والعبد مأمور أن يتوب إلى الله دائماً قال: وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
وفي صحيح البخاري أن النبي ﷺ أنه قال: أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إلَى رَبِّكُمْ، فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبَ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً.
وفي صحيح مسلم أنه قال إنَّهُ ليغان عَلَى قَلْبِي الغان الغين ستر الرقيق يكون على القلب بسبب الغفلة أو الإعراض وباسم الغيم غيم، وغين بالميم وبالنون: ستر الرقيق يحصل بسبب الغفلة فالنبي ﷺ يقول إنَّهُ ليغان عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ. هذا وهو مغفور له ما تقدم من ذنبه.
بعض الناس أراد أن يتأوَّل الحديث قال هذا لا يمكن أن يكون على قلب الرسول ستر رقيق فهذا خلاف الأولى وهذا لا وجه له فالقلب قد يكون عليه غيم قد يكون عليه غين ثم إذا كثرت الذنوب صار الران ران على قلبه ثم يكون قفل ويكون ختم ،ختم الله على قلوبهم من ترك ثلاث جمع طبع الله على قلبه ثم يكون طبع ثم يكون أكنة فالغيم والغين ستر رقيق.
ولهذا كان النبي ﷺ إذا دخل الخلاء وخرج قال غُفرَانَكَ الوقت الذي لا يستغفر الله فيه حين دخوله الخلاء.
قال إنَّهُ ليغان عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ، فإذا كان الرسول ﷺ يستغفر في اليوم مائة مرة وفي المجلس يُحسب له نسأل الله المغفرة وأتوب إليه، مجلسنا الآن كم نستغفر الآن؟ نجلس في المجالس الآن ونقوم وليس هناك استغفار إلا القليل، والنبي ﷺ مغفور له ما تقدّم من ذنبه في المجلس الواحد يحسب له أستغفر الله وأتوب إليه سبعين مرة أكثر من سبعين مرة وكذلك في اليوم مائة مرة أو أكثر.
في السنن عن ابن عمر قال: كنا نعد لرسول الله ﷺ في المجلس الواحد يقول رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إنَّك أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ مائة مرة أو أكثر من مائة مرة وهو مغفور له ما تقدّم من ذنبه لكن لماذا يفعل هذا تعبداً لله وشكراً له وتعليماً للأمة.
وكان عليه الصلاة والسلام يقوم الليل ويصلي حتى تتفطّر قدماه تتشقّق من طول القيام فتقول عائشة لم تفعل هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك؟ فقال أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا يفعل هذا شكراً لله وتعبّداً لله وتعليماً للأمة عليه الصلاة والسلام ففي المجلس الواحد يحسب للنبي ﷺ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إنَّك أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ أكثر من مائة مرة عليه الصلاة والسلام لأنه عبد لله العبد مأمور بأن يعبد الله ويوحّده في ألوهيته والرسول ﷺ أعبد الناس وأزهد الناس وأتقى الناس قال في الحديث الصحيح إِن أَخشَاكُم وَأَتقَاكُم للَّهِ لَأَنَا فهو أخشى الناس وأتقى الناس وأعبد الناس وأشجع الناس.
من شجاعته عليه الصلاة والسلام أنه حصل فزع في المدينة فركب فرساً عُرياً ليس عليه شيء متقلداً سيفه فلما استبرأ الخبر والناس جاؤوا ينظرون الصوت والنبي ﷺ رجع يقول لن تراعوا لن تراعوا استبرأ الخبر وقال ما في شيء سبقهم إلى ذلك من شجاعته عليه الصلاة والسلام ركب في الحال ركب فرساً عُرياً ليس عليه شيء واستبرأ الخبر والناس يأتون يريدون أن يعرفوا الصوت وقد رجع واستبرأ الخبر عليه الصلاة والسلام.
وقد أمر الله سبحانه عباده أن يختموا الأعمال الصالحات بالاستغفار ليكون ذلك مكمّلاً لها ويسد الخلل والنقص.
فالصلاة تُختم بالاستغفار يشرع المسلم إذا سلّم للصلاة أن يقول أستغفر الله ثلاثاً أستغفر الله أستغفر الله أستغفر الله اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْك السَّلَامُ، تَبَارَكْت يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ. وفي لفظ تَبَارَكْت ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ. هذا ثبت في الحديث الصحيح.
والله تعالى مدح المستغفرين قال: وَالْمُسْتَغْفِرِين بِالْأَسْحَارِ فهم يقومون الليل ثم يجلسون آخر الليل يستغفرون كأنهم مذنبون هكذا حال الأتقياء.
وكذلك ختم سورة المزّمل وهي سورة قيام الليل بالاستغفار وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
الحج يُختم بالاستغفار فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
بل أنزل الله سبحانه في آخر الأمر لما غزا النبي غزوة تبوك وهي آخر غزوة غزاها أنزل الله: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ثم قال وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا قال في المهاجرين والأنصار ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ وفي الثلاثة قال ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ يعني وفّقهم للتوبة، ليتوبوا ليقبل التوبة منهم.
وكذلك أيضاً أمر الله نبيه أن يختم عمره وحياته بالاستغفار أنزل عليه هذه السورة وهي آخر سورة نزلت إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا أمر الله النبي أن يختم حياته بالاستغفار فكان النبي قبل نزول هذه السورة يقول في ركوعه وسجوده سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي. قالت عائشة يتأول القرآن يعني يفعل ما أُمر به بالقرآن ولهذا يستحب الإنسان عند تقدّم السن والعمر أن يُكثر من الاستغفار.
وهذه السورة علامة على أجل النبي ﷺ لما جمع عمر الصحابة ومعهم ابن عباس وكان بعض الصحابة قال هذا صغير كيف يأتي معنا ولنا أبناء مثله بين لهم ابن عباس علّمه الله التأويل وسألهم عن هذه السورة ما معناها فقالوا أُمرنا بالاستغفار بعد الفتح فقال ما تقول يا ابن عباس قال لا أقول كما يقول الناس فيه أجل رسول الله أخبر الله نبيه بقرب أجله والمعنى إذا جاء نصر الله والفتح ودخل الناس في مكة ودخل الناس في دين الله أفواجاً فقد أديتَ ما عليك وانتهت مهمتك وقد أديت الرسالة وبّلغت الأمانة فاستعد للقائنا فيه أجل رسول الله إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا تختم حياتك بالاستغفار والتوبة فإن الأجل قريب فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا
كذلك أيضاً في الصحيحين عن عائشة أنه كان يقول في ركوعه وسجوده سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي. هذا بعد نزول هذه السورة.
كذلك في الصحيحين أنه كان يقول: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي هَزْلِي وَجِدِّي وَخَطَئِي وَعَمْدِي
عن أبي بكر أنه قال يا رسول الله علّمني دعاءً أدعو به إذا أصبحت وإذا أمسيت، قال: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضُ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ أَجُرَّهُ إلَى مُسْلِمٍ. قُلْهُ إذَا أَصْبَحْت وَإِذَا أَمْسَيْت وَإِذَا أَخَذْت مَضْجَعَك. هذا الدعاء يُقال في الصباح بعد الفجر وفي المساء بعد العصر وعند النوم اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضُ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ أَجُرَّهُ إلَى مُسْلِمٍ كل هذا يتعلق بالحقائق الدينية الأمرية.
(متن)
قال رحمه الله تعالى:
فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَظُنَّ اسْتِغْنَاءَهُ عَنْ التَّوْبَةِ إلَى اللَّهِ وَالِاسْتِغْفَارِ مِنْ الذُّنُوبِ؛ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ دَائِمًا. قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا.
فَالْإِنْسَانُ ظَالِمٌ جَاهِلٌ وَغَايَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ التَّوْبَةُ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِتَوْبَةِ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ وَمَغْفِرَتِهِ لَهُمْ.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ وَلَا أَنَا، إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةِ مِنْهُ وَفَضْلٍ.
وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ فَإِنَّ الرَّسُولَ نَفَى بَاءَ الْمُقَابَلَةِ وَالْمُعَادَلَةِ وَالْقُرْآنُ أَثْبَتَ بَاءَ السَّبَبِ.
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا لَمْ تَضُرَّهُ الذُّنُوبُ. مَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا أَحَبَّ عَبْدًا أَلْهَمَهُ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ فَلَمْ يُصِرَّ عَلَى الذُّنُوبِ وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الذُّنُوبَ لَا تَضُرُّ مَنْ أَصَرَّ عَلَيْهَا فَهُوَ ضَالٌّ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ؛ بَلْ مَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
وَإِنَّمَا عِبَادُهُ الْمَمْدُوحُونَ هُمْ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْله تَعَالَى وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ.
(شرح)
هذا البحث في حاجة العبد إلى التوبة والاستغفار و أن العبد في أشد الحاجة إلى ربّه لتوبة الله عليه ومغفرته لذنوبه ولا أحد يستغني عن الله طرفة عين فلا يظن أحد أنه يستغني عن التوبة إلى الله، ليس لأحد أن يستغني عن التوبة إلى الله والاستغفار من الذنوب كل أحد محتاج إلى ذلك وفي الحديث كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ، قال الله تعالى: وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا يعني الأمانة لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا.
فالإنسان ظالم جاهل هذا هو الأصل وقد يرتفع عنه الظلم والجهل، يرتفع الجهل بالتعلم،يرتفع عنه الظلم بالتوبة والاستغفار والعمل بالكتاب والسنة وإلا فلا أصل له، الأصل في الإنسان أنه ظالم جاهل يرتفع عنه الجهل بالتعلم العلم بالتعلم والحلم بالتحلم فيزول عنه الجهل ويزول عنه الظلم بتقوى الله وجهاد نفسه على امتثال أمر الله واجتناب نهيه فالإنسان ظالم جاهل وغاية المؤمنين والمؤمنات التوبة وقد أخبر الله تعالى في كتابه بتوبة عباده الصالحين ومغفرته لهم وأن الصالحين يتوبون إلى الله وأن الله تعالى يتوب عليهم قال وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ.
وثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ وَلَا أَنَا، إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةِ مِنْهُ وَفَضْلٍ.
فدخول الجنة برحمة الله لا يمكن أن يدخل أحد الجنة بعمله لكن يدخل الجنة برحمة الله والعمل سبب للرحمة العمل الصالح والتوحيد سبب، فمن جاء بهذا السبب رحمه الله ودخل الجنة ومن لم يأت بهذا السبب لا تناله الرحمة قال تعالى وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ.
فدخول الجنة بأي شيء ؟ برحمة الله، والسبب سبب الرحمة هو العمل، الأعمال يقتسم بها المؤمن درجات الجنة، الدرجات تقتسم بالأعمال، والدخول برحمة الله ثم يتقاسمون المنازل بالأعمال فالباء هنا في قوله لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ الباء باء العوض الباء التي تكون بعد النفي لن يدخل أحدكم الجنة بعمله يعني عوضاً عن عمله، العمل لا يعوض عن دخول الجنة، دخول الجنة بالرحمة ليس بالعمل لكن العمل سبب كما قال تعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ الباء التي في الإثبات باء السببية والباء التي في النفي باء العوض، هذا هو الصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة.
خلاف المعتزلة، المعتزلة عكسوا قالوا الباء في ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، يعني عوضاً عن عملكم المعتزلة يرون أن العبد يخلق فعل نفسه يخلق الطاعات والمعاصي فقالوا يدخل الجنة المؤمن بعمله عوضاً عن عمله وقالوا أن العبد هو الذي يخلق فعل نفسه بعرق جبينه فيجب على الله أن يُثيب المطيع ويجب عليه أن يعاقب العاصي هكذا يقول المعتزلة يوجبون على الله أن يُثيب المطيع وأن يُعاقب العاصي أما المطيع يقولون هذا عرق جبينه ما لله فضل هو الذي خلق الحسنات هو الذي خلق العمل الصالح والسيئ كما أنه يجب على الله أن يعذّبه على شركه ومعاصيه لأن الله توعّده والله لا يخلف الميعاد فأوجبوا على الله أن يُثيب المطيع وأن يعاقب العاصي وقالوا أن الباء في قولهادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، هذه باء العوض (يعكسون هم) هذا غلط، الباء التي في الإثبات ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، يعني بسبب فالعمل سبب، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فالعمل سبب وليس العمل عوض عن الجنة بدليل الحديث لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ يعني عوضاً عن عمله الباء في الحديث باء العوض والمقابلة والباء التي في الآية باء السببية هذا هو الصواب خلاف المعتزلة الذين عكسوا الأمر لأنهم قوم ضلال
وقول من قال: إذا أحب الله عبداً لن تضره الذنوب معناها أن الله تعالى يوفقه للتوبة ويلهمه التوبة والاستغفار فإذا تاب فلا تضره الذنوب أما إذا أصر على الذنوب فإنها تضره، ومن ظن أن الذنوب لا تضره فهو ضال مخالفاً للكتاب والسنة لأن الذنوب هي سبب المصائب والنكبات في الدنيا والآخرة كل ما أصاب الناس من الأمراض والنكبات والفيضانات والأعاصير وغيرها من المصائب بسبب أعمالهم وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا.
وما الذي أخرج آدم من الجنة إلا بذنب! ما الذي أهلك قوم نوح إلا بالذنوب والمعاصي والكفر!، ما الذي كان سبباً في هلاك قوم هود؟! الذنوب والمعاصي أُهلكوا بالريح التي تخلعهم وتنكّسهم على أم رؤوسهم فيبين الرأس من الجسد فإذا سقطوا كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ لأنهم طوال، ما الذي أهلك قوم صالح وثمود في الصيحة التي قطّعت أمعاءهم في أجوافهم إلا الذنوب والمعاصي؟!، ما لذي أهلك قرى اللّوطية؟!اعترضها جبريل بجناحه ثم نكّسها قلبها عليهم إلا الذنوب والمعاصي؟!ما الذي أغرق فرعون وقومه إلا الذنوب والمعاصي؟!الذي يقول أن الذنوب لا تضر ضال مخالف للكتاب والسنة الذنوب تضر لكن الله إذا وفق الإنسان للتوبة والاستغفار فإنها لا تضره فإن التوبة تمحو الذنب.
والتوبة لا بد لها من شروط لا بد أن تكون التوبة لله لأن التوبة عبادة ولا بد أن يقلع عن المعصية والمعاصي فيندم ويندم على ما مضى ولا بد من العزم الصادق بأن يعزم على عدم العودة إليه ولا بد من رد المظلمة إلى أهلها إذا كانت بينه وبين الناس مال ترد المال إليهم عرض تستحلّه ما يتعلق بالبدن تسلّم نفسك لمن اعتديت عليه ولا بد أن تكون قبل الموت وقبل طلوع الشمس من مغربها آخر الزمان وقبل نزول العذاب هذه الشروط لا بد منها للتوبة، أما أن يتوب الإنسان بلسانه وقلبه معقود على معصية فهذه ليست توبة ولهذا قال المؤلف بل مَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ. كما قال الله في كتابه.
وعباد الله الممدوحون هم الذين يتوبون ويستغفرون كما في سورة آل عمران قال تعالى : وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ. ينفقون في السراء والضراء يعني في الشدة والرخاء، والكاظمين الغيظ يعني لا ينفّذون غيظهم إذا أغاظهم أحد بل يكتمون ويصبرون ثم يعفون ويحسنون.
بعض السلف قال طبّقها العلي بن الحسين طبّق هذه الصفات كان له جارية أو عبد فجاء ليصب عليه الماء فأصاب سنّه فنذر السن فغضب علي بن الحسين وكان هذا العبد فقيه فقال وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ فقال كتمت غيظي ثم قال وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ قال عفوت عنك ثم قال وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قال أحسنت اذهب فأنت حر لوجه الله فعمل بالثلاث صفات كتم غيظه و عفا عنه وأحسن إليه فأعتقه.
صفاتهم آخر صفاتهم وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ليس من شأن للمؤمن أنه لا يقع لا يخطئ ولا يزل لا، يخطئ ويزل ويقع في الخطأ المؤمنون المتقون يخطئون لكن لا يصرّون على المعاصي لا يصرّون يبادرون بالتوبة ولم يصرّوا على ما فعلوا، ليس من شأن المؤمن أنه لا يخطئ بل يخطئ لكن ليس من شأنه أنه يصر بل يبادر بالتوبة والندم والاستغفار.
(متن)
قال رحمه الله تعالى:
وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ " الْقَدَرَ " حُجَّةٌ لِأَهْلِ الذُّنُوبِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَادًّا عَلَيْهِمْ: كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إنْ تَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إلَّا تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ.
وَلَوْ كَانَ " الْقَدَرُ " حُجَّةً لِأَحَدِ لَمْ يُعَذِّبْ اللَّهُ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ كَقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ وَقَوْمَ فِرْعَوْنَ وَلَمْ يَأْمُرْ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الْمُعْتَدِينَ وَلَا يَحْتَجُّ أَحَدٌ بِالْقَدَرِ إلَّا إذَا كَانَ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ وَمَنْ رَأَى الْقَدَرَ حُجَّةً لِأَهْلِ الذُّنُوبِ يَرْفَعُ عَنْهُمْ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ فَعَلَيْهِ أَنْ لَا يَذُمَّ أَحَدًا وَلَا يُعَاقِبَهُ إذَا اعْتَدَى عَلَيْهِ؛ بَلْ يَسْتَوِي عِنْدَهُ مَا يُوجِبُ اللَّذَّةَ وَمَا يُوجِبُ الْأَلَمَ فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَنْ يَفْعَلُ مَعَهُ خَيْرًا وَبَيْنَ مَنْ يَفْعَلُ مَعَهُ شَرًّا وَهَذَا مُمْتَنِعٌ طَبْعًا وَعَقْلًا وَشَرْعًا.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ وَقَالَ تَعَالَى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ وَقَالَ تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ وَقَالَ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ وَقَالَ تَعَالَى أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَيْ مُهْمَلًا لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: احْتَجَّ آدَمَ وَمُوسَى، قَالَ مُوسَى: يَا آدَمَ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيك مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَك مَلَائِكَتَهُ؛ لِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ لَهُ آدَمَ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاك اللَّهُ بِكَلَامِهِ، وَكَتَبَ لَك التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، فَبِكَمْ وَجَدْت مَكْتُوبًا عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى؟ قَالَ: بِأَرْبَعِينَ سَنَةٍ، قَالَ: فَلِمَ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةٍ؟ قَالَ: فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى. أَيْ: غَلَبَهُ بِالْحُجَّةِ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ ضَلَّتْ فِيهِ طَائِفَتَانِ:
" طَائِفَةٌ " كَذَّبَتْ بِهِ لَمَّا ظَنُّوا أَنَّهُ يَقْتَضِي رَفْعَ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ عَمَّنْ عَصَى اللَّهَ لِأَجْلِ الْقَدَرِ.
وَ " طَائِفَةٌ " شَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ جَعَلُوهُ حُجَّةً وَقَدْ يَقُولُونَ: الْقَدَرُ حُجَّةٌ لِأَهْلِ الْحَقِيقَةِ الَّذِينَ شَهِدُوهُ أَوْ الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ أَنَّ لَهُمْ فِعْلًا. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إنَّمَا حَجَّ آدَمَ مُوسَى لِأَنَّهُ أَبُوهُ أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ تَابَ أَوْ لِأَنَّ الذَّنْبَ كَانَ فِي شَرِيعَةٍ وَاللَّوْمَ فِي أُخْرَى أَوْ لِأَنَّ هَذَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا دُونَ الْأُخْرَى. وَكُلُّ هَذَا بَاطِلٌ.
وَلَكِنَّ وَجْهَ الْحَدِيثِ أَنَّ مُوسَى لَمْ يَلُمْ أَبَاهُ إلَّا لِأَجْلِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي لَحِقَتْهُمْ مِنْ أَجْلِ أَكْلِهِ مِنْ الشَّجَرَةِ فَقَالَ لَهُ: لِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ؟ لَمْ يَلُمْهُ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ أَذْنَبَ ذَنْبًا وَتَابَ مِنْهُ؛ فَإِنَّ مُوسَى يَعْلَمُ أَنَّ التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ لَا يُلَامُ وَهُوَ قَدْ تَابَ مِنْهُ أَيْضًا وَلَوْ كَانَ آدَمَ يَعْتَقِدُ رَفْعَ الْمَلَامِ عَنْهُ لِأَجْلِ الْقَدَرِ لَمْ يَقُلْ: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
(شرح)
هذا البحث في القدَر وأنه ليس حجة لأهل المعاصي وهذا يقوله الصوفية والجبرية يحتجون بالقدَر فإذا أمرتهم بالصلاة أو نهيتهم عن المعاصي قال هذا مقدّر هذا مكتوب عليك يحتج بالقدر فصارت قدوتهم المشركون، المشركون يحتجوا على شركهم بالمشيئة سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ المشركون يحتجّوا على شركهم بالمشيئة والصوفية والجبرية يحتجّون بالقدَر على المعاصي فشابهوا المشركين في هذا ولهذا يسمى الجبرية مشركية.
قال المؤلف ومن ظن أن القدَر حجة لأهل الذنوب فهو من جنس المشركين ليس القدَر حجّة لو كان القدَر حجّة لأحد من الذنوب ما عذّب الله الكفار قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب كلّهم قدّر الله عليهم المعاصي والكفر ولكن ما أعطاهم من الأسماع والأبصار والأفئدة والقدرة على الفعل والترك فليس القدَر حجة لهم لو كان القدَر حجة لما عذّب الله أحد ومن ظن بأن القدَر حجة فإنه مشابه للمشركين الذين يحتجون على شركهم بالمشيئة والله تعالى ردّ عليهم قال: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ قال الله رداً عليهم: كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إنْ تَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إلَّا تَخْرُصُونَ فليس القدَر حجة لأهل الذنوب قال الله تعالى: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إنْ تَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إلَّا تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ.
وقال المؤلف ولا يحتج أحد بالقدَر إلا إذا كان متّبعاً لهواه بغير هدىً من الله ومن زعم أن القدَر حجة لأهل الذنوب وأن القدَر يرفع بها عنهم الذّم والعقاب فعليه ألا يذم أحداّ ولا يعاقبه إذا اعتدي عليه يعني الذي يحتج بالقدَر تجده الآن لا يطرد احتجاجه فتجده في حقوق ربه يحتج بالقدَر إذا قلت له لم لا تصلي قال مُقدَّر إذا أراد الله لم لا تزكي قال إذا أراد الله، لكن في أمور دنياه وفي نفسه ما يحتج بالقدر، لو جاء أحدهم اعتدى عليه وأخذ ماله وضربه وقطع يده هل يسكت أم يطالب بحقه؟ ما يسكت بل يطالب بحقه وهو مقدّر عليه فالذي اعتدى عليه يقول أنا مقدّر عليّ أن أقطع يدك مقدّر عليّ أن آخذ مالك ليس لك أن تطالب، لكن هل يسكت أم يطالب بحقه؟ يطالب بحقه، إذاً لماذا في حقوق نفسك وما يتعلق بنفسك ومالك وبدنياك ما تحتج بالقدَر وتحتج بالقدَر في حقوق ربّك وفي أداء ما أوجب الله عليك إما أن تحتج بالقدَر في الأمرين أو لا تحتج به في الأمرين أما أن تتناقض فيما يتعلق بحقوق ربك تحتج بالقدَر وما يتعلق في حقوق نفسك لا تحتج بالقدَر فأنت تكون هنا متناقض وهذا واضح.
لما أُتي بسارق إلى عمر بن الخطاب احتج بالقدَر قال يا أمير المؤمنين قدّر الله علي أن أسرق فقال أمير المؤمنين قدّر الله أن نقطع يدك نحن نقطع يدك بالقدَر أيضاً سرقت بالقدَر ونحن نقطع يدك بالقدَر أيضاً لأننا ننفذ شرع الله فليس القدَر حجة.
ولا يمكن أن يكون الإنسان يستوي عنده ما يوجب اللذّة وما يوجب الإثم فلا يفرّق بين من يفعل معه خيراً ومن يفعل معه شراً لا يمكن هذا، هذا ممتنع طبعاً وعقلاً وشرعاً تفرّق بين الذي يحسن إليك وبين الذي يؤذيك فرّق بين هذا وهذا طبعاً وعقلاً وشرعاً.
وقد قال الله تعالى وقد نفى مساواتهم: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ لا يمكن أن يستويان هل يستوي المؤمن الذي يعمل الصالحات والمفسد في الأرض؟ لا يستويان هل يستوي المتقي والفاجر؟ لا يستويان أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ، أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى
وفي قصة احتجاج آدم وموسى في الصحيحين : احْتَجَّ آدَمَ وَمُوسَى، قَالَ مُوسَى: يَا آدَمَ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيك مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَك مَلَائِكَتَهُ؛ لِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ لَهُ آدَمَ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاك اللَّهُ بِكَلَامِهِ، وَكَتَبَ لَك التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، فَبِكَمْ وَجَدْت مَكْتُوبًا عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى؟ قَالَ: بِأَرْبَعِينَ سَنَةٍ وهذا مأخوذ من القدَر السابق أربعين سنة مأخوذ مما في أم الكتاب من اللوح المحفوظ المخفي كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة لكن هذا تفصيل من القدَر كما أن الإنسان تقديره العمري مأخوذ من القدَر السابق إذا خلق الله الإنسان في بطن أمه ونفخ فيه الروح يُرسل إليه الملك ويؤمر بكسب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد وهذا مأخوذ من القدَر السابق ما كتبه الله في اللوح المحفوظ وكذلك هنا في الأربعين سنة مأخوذ من القدَر السابق.
قَالَ: فَلِمَ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةٍ؟ قَالَ: فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى. يعني غلبه بالحجة وفي الوقت كررها فقال فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى حجه يعني غلبه بالحجة لماذا لأن موسى، ما الذي لام موسى على هذا؟ موسى لام آدم على مصيبته التي لحقتهم خروج آدم من الجنة مصيبة فاحتج آدم لأنها مصيبة مكتوبة عليه والاحتجاج بالقدَر على المصائب لا مانع منه لكن يحتج بالقدَر على المعاصي هذا ممنوع فإذا وقع الإنسان في الذنب والمعصية يحتج بالقدَر؟ لا، ادفع القدَر بالقدَر ادفع قدَر الذنب والمعصية بالتوبة بالحسنة لا تحتج بالقدَر تب إلى الله ادفع قدَر بقدَر ادفع قدَر المعصية بقدَر التوبة.
المؤلف يقول هذا الحديث ضلّت فيه طائفتان: طائفة كذّبت به لما ظنوا أنه يقتضي رفع الذنب والعقاب عمن عصى الله لأجل القدر وهؤلاء ضلوا هم ما يقتضون رفع الذنب والعقاب وإنما موسى لامه على المصيبة فاحتج آدم لأن المصيبة مكتوبة عليه ولا بأس أن تحتج بالقدَر على المصائب لأن الممنوع أن تحتج بالقدر على الذنوب والمعاصي.
وطائفة شر من هؤلاء جعلوه حجة جعلوا القدَر حجة من هم هؤلاء؟ الصوفية والجبرية جعلوا القدَر حجةً لهم في فعل الذنوب والمعاصي إذا فعل زنا أو سرقة يقول بأنها مكتوبة عليه مقدرة عليه، ليس بحجة القدَر ليس حجة لأهل الذنوب والمعاصي، وقد يقولون القدَر حجة لأهل الحقيقة الذين شهدوه أو الذين لا يرون أن لهم فعلاً هؤلاء الصوفية.
الصوفية يقسّمون ثلاثة أقسام أهل الشريعة وأهل الحقيقة وأهل التحقيق.
أهل الشريعة الرسل وأتباعهم هؤلاء ليس القدر حجة لهم.
أما أهل الحقيقة الذين تجاوزوا العامة وألغوا صفاتهم وجعلوها صفات الله هؤلاء ولا يرون الفعل من أفعالهم وأن الله هو الفاعل هؤلاء يكون القدر حجة لهم وكل ما يفعلونه كله طاعات.
قال ومن الناس من قال: إنما حجه لأنه أبوه إنما حج آدم موسى لأنه أبوه أو لأنه قد تاب أو لأن الذنب كان في شريعة واللوم في أخرى أو لأن هذا يكون في الدنيا دون الآخرة وكل هذا باطل.
والصواب أن موسى لم يلمه إلا لأجل المصيبة التي لحقتهم من أجل أكله من الشجرة فقال له: لِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ؟ ولم يلمه لمجرد الذنب فإنّ موسى يعلم أن التائب من الذنب لا يُلام وهو قد تاب أيضاً ولو كان آدم يعتقد رفع الملام عنه لأجل القدر ما قال: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
(متن)
قال رحمه الله:
وَالْمُؤْمِنُ مَأْمُورٌ عِنْدَ الْمَصَائِبِ أَنْ يَصْبِرَ وَيُسَلِّمَ وَعِنْدَ الذُّنُوبِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ وَيَتُوبَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ فَأَمَرَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى الْمَصَائِبِ وَالِاسْتِغْفَارِ مِنْ المعائب.
وَقَالَ تَعَالَى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ فَالْمُؤْمِنُونَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ مِثْلُ الْمَرَضِ وَالْفَقْرِ وَالذُّلِّ صَبَرُوا لِحُكْمِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ ذَنْبِ غَيْرِهِمْ كَمَنْ أَنْفَقَ أَبُوهُ مَالَهُ فِي الْمَعَاصِي فَافْتَقَرَ أَوْلَادُهُ لِذَلِكَ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَصْبِرُوا لِمَا أَصَابَهُمْ وَإِذَا لَامُوا الْأَبَ لِحُظُوظِهِمْ ذَكَرَ لَهُمْ الْقَدَرَ.
وَ " الصَّبْرُ " وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ الرِّضَا بِحُكْمِ اللَّهِ وَ " الرِّضَا " قَدْ قِيلَ: إنَّهُ وَاجِبٌ وَقِيلَ: هُوَ مُسْتَحَبٌّ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ عَلَى الْمُصِيبَةِ لِمَا يَرَى مِنْ إنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِهَا حَيْثُ جَعَلَهَا سَبَبًا لِتَكْفِيرِ خَطَايَاهُ وَرَفْعِ دَرَجَاتِهِ وَإِنَابَتِهِ وَتَضَرُّعِهِ إلَيْهِ وَإِخْلَاصِهِ لَهُ فِي التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَرَجَائِهِ دُونَ الْمَخْلُوقِينَ.
وَأَمَّا أَهْلُ الْبَغْيِ وَالضَّلَالِ فَتَجِدُهُمْ يَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ إذَا أَذْنَبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَيُضِيفُونَ الْحَسَنَاتِ إلَى أَنْفُسِهِمْ إذَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِهَا كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِيٌّ وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِيٌّ؛ أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاك تَمَذْهَبْت بِهِ.
وَأَهْلُ الْهُدَى وَالرَّشَادِ إذَا فَعَلُوا حَسَنَةً شَهِدُوا إنْعَامَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِهَا وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ وَجَعَلَهُمْ مُسْلِمِينَ وَجَعَلَهُمْ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَأَلْهَمَهُمْ التَّقْوَى وَأَنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِ فَزَالَ عَنْهُمْ بِشُهُودِ الْقَدَرِ الْعَجَبُ وَالْمَنُّ وَالْأَذَى وَإِذَا فَعَلُوا سَيِّئَةً اسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَتَابُوا إلَيْهِ مِنْهَا.
فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي، وَأَنَا عَبْدُك، وَأَنَا عَلَى عَهْدِك وَوَعْدِك مَا اسْتَطَعْت، أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْت، أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ. مَنْ قَالَهَا إذَا أَصْبَحَ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَلَا أُبَالِي فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْته فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَنْ كَسَوْته فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَنْ هَدَيْته فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي؛ فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي؛ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي؛ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ اجْتَمَعُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْت كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْبَحْرُ إذَا غُمِسَ فِيهِ الْمِخْيَطُ غمسة وَاحِدَةً، يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَن إلَّا نَفْسَهُ.
فَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِحَمْدِ اللَّهِ عَلَى مَا يَجِدُهُ الْعَبْدُ مِنْ خَيْرٍ وَأَنَّهُ إذَا وَجَدَ شَرًّا فَلَا يَلُومَن إلَّا نَفْسَهُ.
(شرح)
كل هذا داخل في الحقيقة الأمرية الدينية الشرعية المؤمن مأمور عند المصائب بالصبر والتسليم بقضاء الله وقدَره إذا أصابته مصيبة مأمور شرعاً بأن يصبر ويسلّم والصبر واجب والصبر هوحبس النفس عن الجزع وحفظ اللسان عن التشكي وحفظ الجوانح عما يُغضب الله فلا يلطم خداً ولا ينتف شعراً ولا يشق ثوباً والنبي ﷺ قال: أَنَا بَرِيءٌ مِنَ الصَّالِقَةِ وَالحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ هذا الصبر واجب.
أما الرضا بالمصيبة فهذا مختلف فيه قيل مستحب وقيل واجب كما ذكر المؤلف فالرضا مرتبة عالية مستحب وأعلى منه الشكر وأقل من الصبر التسخّط.
فالناس لهم أحوال، أحوال الناس إذا وقعت مصيبة كم حالة ؟
الحالة الأولى حال الساخطين الذين يجزعون ويتسخّطون تجده إذا أصابته مصيبة لطم خده أو شق ثوبه أو نتف شعره أو تكلم بكلام يُغضب الله بعض الناس يشكو ربه يقول أنا مصلي وصائم ولا قصّرت والناس ما أصابهم إلا أنا، تشكو ربك؟ الله تعالى حكيم عليم ابتلاك، أَشَدُّ النَّاسِ بَلاَءً الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ الأنبياء أشد منك.
أيوب سُلّط الشيطان عليه كان له مال ومزارع وأولاد وحسن الصورة والهيئة فسُلّط عليه الشيطان سأل الشيطان ربه أن يُسلّط على ماله فسُلّط على ماله فأهلك مزارعه وما له من الأموال ثم سأل ربه أن يُسلّط على ولده فأهلكهم أسقط عليهم الذر فهلكوا ثم سأل ربه أن يسلّطه على نفسه فنفخ فيه حتى أُصيب بالجذام وأُلقي في مكان فصار لا يأتيه أحد وجلس ما يقارب مدة حتى دعا ربّه وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ هذا نبي، تقول لم أصبت أنا أصلي وأنا صائم والناس ما أصابهم انظر الأنبياء أَشَدُّ النَّاسِ بَلاَءً الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ الله يبتليك لرفع شأنك ورفع درجاتك هذه حكمة الله واصبر الصبر واجب.
فالقسم الأول من الناس الساخطون لقضاء الله تعالى هؤلاء فاتهم الأجر وحصل لهم سوء، عند المصائب القسم الأول الساخطون الجازعون يجزع (نفسه جزعة)ولسانه يتشكى وجوارحه تفعل ما يغضب الله هؤلاء آثمون.
القسم الثاني الصابرون يصبر فيحبس نفسه عن الجزع ولسانه عن التشكي وجوانحه عما يُغضب الله.
القسم الثالث الراضون يصبر ويرضى، راض لما يعلم من الخيرة في ذلك، وأن الله تعالى الخيرة فيما اختاره الله له وما في ذلك من الأجر.
القسم الرابع الشاكرون له يشكرون الله يعتبر المصيبة نعمة يشكرون الله عليها لأن هذه المصيبة كانت سبباً في تكفير سيئاته ورفع درجاته هؤلاء عباد الله المخلصون هذه أحسن الناس.
الأولى الجازعون الساخطون، الثانية الصابرون، الثالثة الراضون، الرابعة الشاكرون.
والصبر واجب وأما الرضا مستحب قيل مستحب وقيل واجب وأعلى من ذلك الشكر شكر الله على المصيبة.
يقول المؤلف وأما أهل الغيّ والضلال فتجدهم يحتجّون بالقدَر إذا أذنبوا إذا أذنب يحتج بالقدر ويتّبعون أهواءهم ويضيفون الحسنات إلى أنفسهم إذا أنعم الله عليهم بها.
كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدَري وعند المعصية جبري أيّ مذهب وافق هواك تمذهبت به، عند الطاعة قدَري تنظر إلى القدَر وعند المعصية جبري تقول مجبور وأهل الهدى والرشاد إذا فعلوا حسنة شهدوا إنعام الله عليهم بها وأن الله هو الذي جعلهم مسلمين وهو الذي هداهم ووفّقهم وجعلهم يقيمون الصلاة وألهمهم التقوى فزال عنهم العُجب والمنّ والأذى وإذا فعلوا سيئة استغفروا الله وتابوا إليه.
في الحديث صحيح البخاري عن شدّاد بن أوس قال: قال رسول الله ﷺ: سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي، وَأَنَا عَبْدُك، وَأَنَا عَلَى عَهْدِك وَوَعْدِك مَا اسْتَطَعْت، أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْت، أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ. مَنْ قَالَهَا إذَا أَصْبَحَ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ.
كذلك عن أبي ذر الطويل وهو من كلام الله لفظاً ومعنىً الحديث القدسي هو من كلام الله لفظاً ومعنىً لكن له أحكام تختلف عن القرآن فالقرآن يُتعبد بتلاوته والحديث القدسي لا يُتعبد بتلاوته، القرآن معجز والحديث القدسي غير معجز فالقرآن لا يمسه إلا متوضئ والحديث القدسي يمسه غير المتوضئ، الحديث الطويل عن أبي ذر يقول حدّثني الله عن نفسه يقول: يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَلَا أُبَالِي فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْته فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، وفي آخره قال: يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَن إلَّا نَفْسَهُ. يحمد الله لأن الله هو الذي وفقه ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه لأنه هو مجترح السيئات.
قال فأمر الله سبحانه بحمد الله على ما يجده من خير وإنه إذا وجد الشر لا يلومن إلا نفسه، فأمر الله سبحانه لأن هذا من كلام الله لفظاً ومعنىً.
(متن)
قال رحمه الله تعالى:
وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِ " الْحَقِيقَةِ " وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِخَلْقِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَبَيْنَ الْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ الْأَمْرِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِرِضَاهُ وَمَحَبَّتِهِ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَنْ يَقُومُ بِالْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ مُوَافِقًا لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ وَبَيْنَ مَنْ يَقُومُ بِوَجْدِهِ وَذَوْقِهِ غَيْرَ مُعْتَبِرٍ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
كَمَا أَنَّ لَفْظَ " الشَّرِيعَةِ " يَتَكَلَّمُ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الشَّرْعِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ؛ فَإِنَّ هَذَا الشَّرْعَ لَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْخَلْقِ الْخُرُوجُ عَنْهُ وَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا كَافِرٌ وَبَيْنَ الشَّرْعِ الَّذِي هُوَ حُكْمُ الْحَاكِمِ فَالْحَاكِمُ تَارَةً يُصِيبُ وَتَارَةً يُخْطِئُ. هَذَا إذَا كَانَ عَالِمًا عَادِلًا وَإِلَّا فَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ؛ رَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ فَقَضَى بِغَيْرِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ.
وَأَفْضَلُ الْقُضَاةِ الْعَالِمِينَ الْعَادِلِينَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ مُحَمَّدٌ ﷺ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ يَكُونُ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مِمَّا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذُهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ.
فَقَدْ أَخْبَرَ سَيِّدُ الْخَلْقِ أَنَّهُ إذَا قَضَى بِشَيْءِ مِمَّا سَمِعَهُ وَكَانَ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِلْمَقْضِيِّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا قَضَى بِهِ لَهُ وَأَنَّهُ إنَّمَا يَقْطَعُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ.
وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُطْلَقَةِ إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِمَا ظَنَّهُ حُجَّةً شَرْعِيَّةً كَالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ وَكَانَ الْبَاطِنُ بِخِلَافِ الظَّاهِرِ لَمْ يَجُزْ لِلْمَقْضِيِّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا قُضِيَ بِهِ لَهُ بِالِاتِّفَاقِ. وَإِنْ حَكَمَ فِي الْعُقُودِ والفسوخ بِمِثْلِ ذَلِكَ؛ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ إنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ.
فَلَفْظُ " الشَّرْعِ وَالشَّرِيعَةِ " إذَا أُرِيدَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَلَا لِغَيْرِهِمْ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ لِأَحَدِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ غَيْرَ مُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَلَمْ يُتَابِعْهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَهُوَ كَافِرٌ.
(شرح)
المؤلف رحمه الله يبين أن بعض الناس يتكلم بلسان الحقيقة ولا يفرّق بين الحقيقة الكونية القدَرية وبين الحقيقة الدينية الأمرية هذا من باب الاشتباه بعض القدَرية لا يفرق بين الحقيقة الكونية القدرية المتعلقة بالخلق ومشيئته كما سبق يعني يتعلق بالتوحيد والربوبية وبين الحقيقة الدينية الأمرية التي تتعلق برضاه ومحبته،فما يتعلق بالحقيقة الخلقية يؤمن بها وينسبها إلى الله ويضيفها إلى الله بأن الله الخالق المدبر المتصرف.
وأما الحقيقة الدينية الأمرية الشرعية التي تتعلق برضاه ومحبته ما يحبه الله ما أمر به من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هذا ما يحبه الله ويرضاه بعض الناس لا يفرّق بين من يقوم بالحقيقة الدينية وبين من يقوم بوجده وذوقه الذي يقوم بالحقيقة الدينية موافقاً لما أمر الله به على ألسن رسله هذا هو المؤمن يحبه الممتثل لأمر الله وبين من يقوم بوجده وذوقه هذا الصوفي يعمل بما يجده بما في وجده وفي نفسه وما يستحسنه هذا باطل لا تعمل بما في ذوقك ووجدك إنما تعمل بالكتاب والسنة، ولفظ الشريعة يتكلم به كثير من الناس ولا يفرّق بين الشرع المنزَّل والشرع المبدَّل فالشرع المنزَّل هو كتاب الله وسنة رسوله ﷺ هذا الذي بعث الله به رسوله ليس لأحد أن يخرج عنه
الشرع هو الشرع المنزَّل والشرع لمؤَوَّل والشرع المبدَّل.
فالشرع المنزَّل هذا الذي بعث الله به رسوله ليس لنا أن نخرج عنه.
وأما الشرع المؤوَّل هو من ألفه على خلاف مراد الله هذا ليس لأحد أن يعمل به، والشرع المبدَّل ما بُدّل ما أُضيف إلى الشريعة ما ليس منها والواجب اتّباع الشرع المنزَّل لا الشرع المؤوَّل ولا الشرع المبدَّل.
فالشرع المنزَّل هو كتاب الله وسنة رسوله هذا الذي بعث الله به رسوله ليس لنا أن نخرج عنه.
أما الحاكم الذي يحكم تارة يصيب وتارة يخطئ، ولهذا إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ.
والقضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاضٍ في الجنة يعني ثلثي القضاة في النار والثلث في الجنة، كم ثلث من القضاة في النار؟ ثلثان، ثلثا القضاة في النار.
الثلث الأول الذي علم الحق وعدل عنه هذا في النار والثلث الثاني الذي يقضي بجهل وضلال هذا في النار والثلث في الجنة من علم الحق ويقضي به هذا في الجنة، كما بين الحديثان.
وأفضل القضاة العادلين رسول الله هو يقضي بالناس هو قاضي هو الحاكم هو العادل أفضل القضاة هو الرسول ومع ذلك أخبر الناس أنه يقضي على حسب الحجج ما يقضي بالوحي إنما يقضي على حسب الحجج فإذا جاء هذا بحجة قضى به وقد يكون من يأتي بالحجة مبطل.
ولهذا قال رسول الله ﷺ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ وهو يعلم أنه مبطل فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار القاضي معذور لكن أنت غير معذور المغيّر والمبدّل والمزوّر غير معذور القاضي يتحرى لكن إذا زوّر عليه وأتى شهود زور وقضى له يكون معذور القاضي هذا متّفق عليه بين العلماء أنه لا يجوز للمقضي أن يأخذ ما قضى له إذا كان يعلم هذا متّفق عليه في الأملاك المطلقة إذا حكم الحاكم بما ظنه حجة شرعية كالبينة والإقرار وكان في الباطن بخلاف الظاهر لا يجوز للمقضي أن يأخذه بالاتفاق.
وكذلك في العقود والفسوخ عند جمهور العلماء مالك والشافعي وأحمد أما أبو حنيفة فقال لو حكم الحاكم بشهادة، شهدوا على أن هذه المرأة طلقها زوجها وهو لم يطلقها بانت منه وتحل لغيره وهذا ليس بصحيح، الصواب ما دام الشهود زور هذا الذي عليه الجمهور.
ولهذا قال المؤلف خلافاً لغيره فرَّق أبو حنيفة بين النوعين.
فلفظ الشرع والشريعة إذا أُريد به الكتاب والسنة لم يكن لأحد من أولياء الله ولا لغيرهم أن يخرج عنه لا يجوز لأحد أن يخرج عن الكتاب والسنة.
(متن)
قال رحمه الله تعالى:
فَلَفْظُ " الشَّرْعِ وَالشَّرِيعَةِ " إذَا أُرِيدَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَلَا لِغَيْرِهِمْ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ لِأَحَدِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ غَيْرَ مُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَلَمْ يُتَابِعْهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَهُوَ كَافِرٌ.
وَمَنْ احْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِقِصَّةِ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ كَانَ غالطا مِنْ وَجْهَيْنِ:
" أَحَدُهُمَا " أَنَّ مُوسَى لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إلَى الْخَضِرِ وَلَا كَانَ عَلَى الْخَضِرِ اتِّبَاعُهُ؛ فَإِنَّ مُوسَى كَانَ مَبْعُوثًا إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ وَأَمَّا مُحَمَّدٌ ﷺ فَرِسَالَتُهُ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَلَوْ أَدْرَكَهُ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْخَضِرِ: كَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَجَبَ عَلَيْهِمْ؛ اتِّبَاعُهُ فَكَيْفَ بِالْخَضِرِ سَوَاءٌ كَانَ نَبِيًّا أَوْ وَلِيًّا؛ وَلِهَذَا قَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى: إنَّا عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ؛ وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ. وَلَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الثَّقَلَيْنِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ ﷺ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ هَذَا.
" الثَّانِي " أَنَّ مَا فَعَلَهُ الْخَضِرُ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِشَرِيعَةِ مُوسَى وَمُوسَى لَمْ يَكُنْ عَلِمَ الْأَسْبَابَ الَّتِي تُبِيحُ ذَلِكَ فَلَمَّا بَيَّنَهَا لَهُ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ خَرْقَ السَّفِينَةِ ثُمَّ تَرْقِيعُهَا لِمَصْلَحَةِ أَهْلِهَا خَوْفًا مِنْ الظَّالِمِ أَنْ يَأْخُذَهَا إحْسَانٌ إلَيْهِمْ وَذَلِكَ جَائِزٌ وَقَتْلُ الصَّائِلِ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا وَمَنْ كَانَ تَكْفِيرُهُ لِأَبَوَيْهِ لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِقَتْلِهِ جَازَ قَتْلُهُ.
قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لنجدة الحروري لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ قَتْلِ الْغِلْمَانِ - قَالَ لَهُ - إنْ كُنْت عَلِمْت مِنْهُمْ مَا عَلِمَهُ الْخَضِرُ مِنْ ذَلِكَ الْغُلَامِ فَاقْتُلْهُمْ وَإِلَّا فَلَا تَقْتُلْهُمْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَأَمَّا الْإِحْسَانُ إلَى الْيَتِيمِ بِلَا عِوَضٍ وَالصَّبْرُ عَلَى الْجُوعِ فَهَذَا مِنْ صَالِحِ الْأَعْمَالِ فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مُخَالِفًا شَرْعَ اللَّهِ.
وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِالشَّرْعِ حُكْمُ الْحَاكِمِ فَقَدْ يَكُونُ ظَالِمًا وَقَدْ يَكُونُ عَادِلًا وَقَدْ يَكُونُ صَوَابًا وَقَدْ يَكُونُ خَطَأً.
وَقَدْ يُرَادُ بِالشَّرْعِ قَوْلُ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ: كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالْأَوْزَاعِي وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ ودَاوُد وَغَيْرِهِمْ فَهَؤُلَاءِ أَقْوَالُهُمْ يُحْتَجُّ لَهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِذَا قَلَّدَ غَيْرَهُ حَيْثُ يَجُوزُ ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا أَيْ لَيْسَ اتِّبَاعُ أَحَدِهِمْ وَاجِبًا عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ كَاتِّبَاعِ الرَّسُولِ ﷺ وَلَا يَحْرُمُ تَقْلِيدُ أَحَدِهِمْ كَمَا يَحْرُمُ اتِّبَاعُ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
وَأَمَّا إنْ أَضَافَ أَحَدٌ إلَى الشَّرِيعَةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا مِنْ أَحَادِيثَ مُفْتَرَاةٍ أَوْ تَأَوَّلَ النُّصُوصَ بِخِلَافِ مُرَادِ اللَّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَهَذَا مِنْ نَوْعِ التَّبْدِيلِ فَيَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّرْعِ الْمُنَزَّلِ وَالشَّرْعِ الْمُؤَوَّلِ وَالشَّرْعِ الْمُبَدَّلِ كَمَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ الْأَمْرِيَّةِ وَبَيْنَ مَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبَيْنَ مَا يُكْتَفَى فِيهَا بِذَوْقِ صَاحِبِهَا وَوَجْدِهِ.
(شرح)
والله أعلم بحقائق الأحوال في هذا البحث يبين المؤلف رحمه الله أن لفظ الشرع والشريعة إذا أُريد به الكتاب والسنة فلا يجوز لأحد أن يخرج عن الكتاب والسنة ومن ظن أن لأحد من أولياء الله طريقاً إلى الله غير متابعة الرسول ﷺ باطناً وظاهراً فهذا كافر بإجماع المسلمين.
وليس له أن يحتج بقصة الخضر، من ظن أنه يجوز للإنسان أن يخرج عن شريعة محمد كما خرج الخضر عن شريعة موسى هذا كافر، لماذا؟ لأن موسى ليست شريعته عامة موسى شريعته خاصة ببني إسرائيل .
ولهذا قال الخضر لما جاء أنت مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ وأما شريعة محمد ﷺ فهي عامة للثقلين: الجن والإنس للعرب والعجم فليس لأحد أن يخرج منها.
والمؤلف يقول من احتج في ذلك بقصة موسى مع الخضر كان غالطاً من وجهين:
أحدهما أن موسى لم يكن مبعوثاً إلى الخضر ولا كان يجب على الخضر اتّباع موسى وليس موسى مبعوثاً إلى الخضر بل موسى مبعوث لبني إسرائيل أما محمد فرسالته عامة إلى جميع الثقلين الجن والإنس ولو أدرك محمداً من هو أفضل من الخضر كإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم اتّباعه وقد أخذ الله ميثاق الأنبياء كل نبي أخذ على أمة بثقلهم بُعث محمد وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ.
وليس لأحد من الثقلين بعد محمد أن يخرج عن شريعته وأن يقول إنّ له الخروج.
الأمر الثاني: أن ما فعله الخضر لم يكن مخالفاً للشريعة لكن أسبابه غير ظاهرة لموسى فلما علم بالأسباب وافقه، السفينة لماذا خرقها ؟ لأنها لمساكين و وراءهم ملك ظالم يأخذ السفينة الصالحة جعل فيها عيب حتى تبقى للمساكين وسدَّها سدَّ الخرق ورُّفع الخرق بعد ذلك وانتهى الأمر والغلام كافر مثل الصائل إذا هو صائل على أبويه يريد أن يلحقهما زوراً وكفراً لو عاش والصائل يُقتل إذا اقترب الإنسان عليه سبع أو غيره يدافع أو الشخص يدافع عن نفسه وهذا الصائل وإن كان صغير مثل الصبي من جنس الصائل، إذاً تكفيراً لأبويه لا يندفع إلا بقتله فلهذا قتله الخضر.
ولهذا قال ابن عباس لنجدة الحروري الخارجي لما سأله عن قتل الغلمان قال: إن كنت تعلم منهم مثل ما يعلم الخضر فاقتلهم وإلا فلا.
وأما الإحسان إلى اليتيم الجدار الذي بناه الخضر هذا إحسان إلى اليتيم وهم لؤما أهل البلدة ما أضافوهم وما أعطوهم حق الضيافة يصبر يقول الإنسان يصبر على الجوع ويُحسن إلى اليتيم هذا من باب الإحسان إلى اليتيم فليس فيه شيء يخالف شرع الله.
أما إذا أُريد بالشرع حكم الحاكم، الحاكم قد يكون ظالم وقد يكون مصيب وقد يكون مخطئا.
وأقوال الفقهاء يُحتجّ لها ولا يُحتجّ بها نقول هات الدليل ليس كأقوال الفقهاء ولكن يُحتج لها الحجة في كلام الله وكلام رسوله.
وأما الشرع ينقسم إلى ثلاث أقسام الشرع المنزَّل والشرع المؤوَّل والشرع المبدَّل الشرع المنزَّل هو كتاب الله وسنة رسوله الشرع المؤوَّل ما يتأوله بعض الناس على خلاف مراد الله والشرع المبدَّل ما يضاف إلى شرع الله مما ليس منه والواجب اتّباع الشرع المنزَّل لا الشرع المؤوَّل ولا الشرع المبدَّل.
المؤلف رحمه الله يقول يجب على الإنسان أن يفرّق بين الحقيقة الكونية والحقيقة الدينية الأمرية وبين ما يُستدل عليها بالكتاب والسنة وبين ما يُكتفى فيها بذوق صاحبها يستدل عليها بالكتاب والسنة هذه من أقوال العلماء وأما ما يُكتفى فيها بذوق صاحبها ووجده هذا من الصوفية ما يجده في نفسه وما يتذوقه يعمل به يعمل بهواه الواجب العمل بالكتاب والسنة. والله أعلم بالحقائق و الأحوال...
ووفق الله الجميع