المتن:
حديث لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته:
14- وَرَوَى حَدِيثَ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا فِي أَرِيكَتِهِ يَبْلُغُهُ الْأَمْرُ عَنِّي، فَيَقُولُ: لَمْ أَجِدْ هَذَا فِي كِتَابِ اللهِ تعالى ([1]).
الشرح:
في هذا الحديث يحذر النبي ﷺ مِن ترك العمل بالسنة، يقول: لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ لا أجدن أحدكم، مُتَّكِئًا فِي أَرِيكَتِهِ يعني على كرسيه أو على سريره، يَبْلُغُهُ الأَمْرُ عَنِّي، يعني عن النبي ﷺ، فَيَقُولُ: لَمْ أَجِدْ هَذَا فِي كِتَابِ الله، فلا يعمل به، وفي اللفظ الآخر: أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ([2]).
قالوا: وفي الحديث ردٌّ على مَن شَغَّب مِن أهل الأهواء، ممن جادل في السُّنة النبوية وادعى الاستغناء بالقرآن عنها، مثل الطائفة الذين يتسمَّون بالقرآنيين، وغيرهم ممن سار على نهجهم، وهم كاذبون في قولهم، فهم لا يعملون بالقرآن، ولو كانوا صادقين في عملهم بالقرآن لعملوا بالسُّنة، لأن الله أمر في القرآن بالعمل بالسُّنة، قال الله : وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [المائدة: ٩٢]، وقال : وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: ٧]، وقال قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: ٣١]، وقد مر بنا الأساليب التي اتبعها القرآن للتنبيه على أهمية السنة.
وهناك رسالة للشيخ الألباني رحمه الله تسمى «منزلة السنة في الإسلام»، وبيان أنه لا يستغنى عنها بالقرآن.
وحقيقة أمر هؤلاء عندي ليست هي الدعوة إلى القرآن والتمسك به، وإنما هي الدعوة إلى البدع والأهواء؛ ولهذا جاء عن ابن مسعود أنه قال: «عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ، وَقَبْضُهُ أَنْ يُذْهَبَ بِأَصْحَابِهِ، عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَتَى يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ أَوْ يُفْتَقَرُ إِلَى مَا عِنْدَهُ، إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أَقْوَامًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَقَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ فَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّبَدُّعَ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّعَمُّقَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ» ([3]).
فهذا الحديث فيه ردٌّ على هؤلاء الطائفة الذين يزعمون أنهم لا يعملون إلا بالقرآن، ويسمون أنفسهم بالقرآنيين، فالرسول ﷺ يقول: لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ. لا أجدن أحدكم مُتَّكِئًا فِي أَرِيكَتِهِ على سريره أو على كرسيه يَبْلُغُهُ الأَمْرُ عَنِّي فَلَا يَعْمَلُ بِهِ؛ فَيَقُولُ: لَمْ أَجِدْ هَذَا فِي كِتَابِ اللهِ، وَأَنَا لَا أَعْمَلُ إِلَّا بِكِتَابِ اللهِ. هذا رد عليه، وتحذير منه.
المتن:
علاقة السنة بالقرآن:
15- وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْـحَافِظُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ بُهْلُولٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ الْـمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَذَاكَرُونَ الْـحَدِيثَ، فَقَالَ رَجُلٌ: دَعُونَا مِنْ هَذَا، وَجِيئُونَا بِكِتَابِ الله، فَقَالَ لَهُ عِمْرَانُ: «إِنَّكَ أَحْمَقُ، أَتَجِدُ فِي كِتَابِ اللهِ الصَّلَاةَ مُفَسَّرَةً، أَتَجِدُ فِي كِتَابِ اللهِ الصِّيَامَ مُفَسَّرًا، الْقُرْآنُ أَحْكَمَ ذَلِكَ وَالسُّنَّةُ تُفَسِّرُهُ» ([4]).
وَرَوَاهُ الآجُرِّيُّ عَنِ الْأُشْنَانِيِّ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ؛ وَذَكَرَهُ وَقَرَّرَ بِهِ نَظَائِرَهُ فِي ذَلِكَ.
الشرح:
هذا الأثر عن عمران بن الحصين وإن كان فيه من كلا الطريقين: علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، إلا أنه له شواهد .
قول عمران الصحابي الجليل : «إنك أحمق». يعني: كيف تقول: دعونا من السنة وأتونا بالقرآن؟ لا يمكن فصل السنة عن القرآن؟!!
السُّنة وحيٌ ثانٍ، السُّنة تبين القرآن وتوضحه وتُفصِّله وتبيِّن مجملَه، وتقيد المطلق، وتخصص العام .
قوله : « أتجد في كتاب الله الصلاة مفسرة؟!!» يعني: أتجد تحديد صلاة الفجر ركعتين، والظهر والعصر والعشاء أربع ركعات، والمغرب ثلاث ركعات؟!
أتجد بيان الأركان الواجبة، والشروط في القرآن؟!
أتجد في كتاب الله الصيام مفسرًا؟!!
جاء وجوب الصيام في القرآن، لكن ما جاء بيان كيفية الصيام، وبيان المفطرات؛ وإن كانت أصول الفطر قد ذكرها الله فيه، في آيات الصيام في قوله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة: ١٨٧] هذه تسمى المفطرات: الجماع والأكل والشرب؛ لكن التفاصيل في السنة.
وهذا فيه دليل على بطلان مذهب هؤلاء الذين يزعمون أنهم يعملون بالقرآن، نعم، مذهبهم باطل؛ لا يمكن العمل بالقرآن إلا بالعمل بالسنة.
المتن:
حديث ما ضل قوم بعد هدى:
16- أَخْبَرَنَا هِلَالُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَفَّارُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو بْنُ الْبَخْتَرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُلَاعِبَ بْنِ حَيَّانَ الْمَخْرَمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ خَلَفُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا شِهَابُ بْنُ خِرَاشٍ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي غَالِبٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ ثُمَّ تَلَا مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا [الزخرف: ٥٨] ([5]).
وَرَوَاهُ الآجُرِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْوَاسِطِيِّ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ عَنْ يَعْلَى بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ دِينَارٍ.
الشرح
هذا الحديثُ رواهُ الإمامُ أحمدُ، والتِّرْمِذِيُّ، وابنُ مَاجَه، وقال التِّرْمِذِيُّ: حسنٌ صحيحٌ. وقال الحاكم: صحيحُ الإسنادِ. وقال الألبانِيُّ في تخريج المِشْكَاةِ: سندُهُ صَحِيحٌ.
وفيه: أنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ بَعْدَ الهُدَى يُعَاقَبُونَ بَأَنْ يُؤْتُوا الجَدَلَ.
يقولُ النَّبِيُّﷺ في الحديث الذي مَضَى: مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ. ولا حَوْلَ ولا قوَّةَ إلا بالله!! عُقُوبَةٌ كما قالَ اللهُ -تعالى-: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: ٥]. وقال: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام: ١١٠].
إذا تَرَكَ الحقَّ عن بَصِيرَةٍ عَاقَبَهُ اللهُ بالزَّيْغِ؛ إذا تَرَكُوا الهُدَى وضَلُّوا عَاقَبَهُمُ اللهُ بإِيتَاءِ الجَدَلِ؛ ولهذا قالَ النَّبِيُّﷺ: مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ. ثُمَّ تَلَا قَوْلَ الله -تَعَالى-: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف: ٥٨]. ومن أُتِيَ الجَدَلَ فإنه يكون مبْخُوسَ الحقِّ لم يُؤْتَ ما أُوتِيَ الصحابةُ والتابعونَ، والأئمةُ من الهُدَى والعِلْمِ، الجدلُ ليس فيه عِلْمٌ، وإنما يكون الجدلُ بالآراء الفَاسِدَةِ بالتَّخَرُّصَاتِ.
المتن:
الشرح:
يبين الآجُرِّيُّ -رحمه الله-: لمَّا سَمِعَ أهلُ العِلْمِ من التابِعِينَ ومَنْ بَعْدَهُم التحذِيرَ من الجِدَالِ والمِرَاءِ؛ حَذِرُوا من ذَلِك، وصارُوا لا يُمَارُونَ في الدِّينِ، ولا يُجَادِلُونَ، وحَذَّرُوا المسلمين المِراءَ والجِدَالَ، وأَمَرُوهم بالأخْذِ بالسُّنَنِ، وبما كان عليه الصَّحَابَةُ؛ لأنَّ المِرَاءَ والجَدَلَ مقابلُ السُّنَنِ.
فَمَنْ أخَذَ بالسُّنَنِ والآثَارِ تَرَك الجَدَلَ، ومَنْ جَادَلَ ومَارَى تَرك السُّنَنَ وأقوالَ الصحابةِ والتَّابِعينَ.
ثم بين المؤلفُ رحمه الله أن هَذَا طَرِيقُ أَهْلِ الْحَقِّ مِمَّنْ وَفَّقَهُ اللهُ .
المتن:
17- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُعَدِّلُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حَمْزَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدِّهْقَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، قَالَ: كَانَ أَبُو قِلَابَةَ يَقُولُ: «لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْأَهْوَاءِ، وَلَا تُجَادِلُوهُمْ، فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَغْمِسُوكُمْ فِي ضَلَالَتِهِمْ، أَوْ يَلْبِسُوا عَلَيْكُمْ مَا تَعْرِفُونَ»([6]).
وَرَوَاهُ الآجُرِّيُّ عَنِ الْفِرْيَابِيِّ، عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَذَكَرَهُ([7]).
الشرح:
هذا الأَثَرُ عن أبي قِلَابَةَ وهو التَّابِعِيُّ، رواهُ الدَّارِمِيُّ، ورواه ابنُ وَضَّاحٍ في (البِدَعِ) في النهي عنها، واللالَكَائِيُّ في (شَرْحِ الاعتقادِ)، وابنُ بَطَّةَ في (الإبَانَةِ).
يقولُ أبو قِلَابَةَ -رحمه الله-: «لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْأَهْوَاءِ». أهلُ الأهْوَاءِ: أهْلُ البِدَعِ، يُحَذِّرُ من مجالَسَةِ أهلِ الأهواءِ؛ قال: «لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْأَهْوَاءِ وَلَا تُجَادِلُوهُمْ».
حَذَّرَ من شَيْئَيْنِ:
الأَوَّلِ: مُجَالَسَة أهلِ البِدَعِ.
الثَّانِي: مُجَادَلَتهمْ.
وبَيَّنَ ما يترتبُ على تِلْكَ المسألَةِ؛ أن مُجَالَسَةُ أهلِ البِدَعِ ومُجَادَلَتُهُمْ تُخْشَى فيهَا منْ أَن يَغْمِسُوا الإنسانَ في ضَلَالَتِهم؛ فيحمِلُوهُ على بِدْعَتِهِمْ، أو يَلْبِسُوا عليه الحقَّ بالباطلِ؛ فيكونَ الإنسانُ في حَيْرَةٍ، لا بُدَّ أن تَبْتَعِدَ عن أهلِ البِدَعِ، فلا تُجَالِسْهُمْ ولا تجادِلْهُمْ.
المتن:
الشرح:
هَذِهِ القِصَّةُ ذَكَرَهَا أبو بكرٍ الآجُرِّيُّ بَلاغًا، عن الخليفةَ العباسيَّ المهتَدِي، أنه قال: «ما قَطَعَ أبِي إلا شَيْخٌ». يعني: ما قَطَعَ حُجَّةَ أبي – وهو الخليفة الواثقَ- إلا هذا الشَّيْخُ – الذي تقدم خبره-؛ لأنَّ الواثِقَ امْتَحَنَ النَّاسَ، وحَمَلُهم على القول بخَلْقِ القُرْآنِ، وذلك لمَّا أثَّرَ عَلَيْهِ المُعْتَزِلَةُ وذلك أنه لما صار رئيس القُضَاةِ عِنْدَهُ أَحْمَدُ بنُ أبي دُؤَادَ، وهُو مُعْتَزِلِيٌّ، أَثَّرُوا على الخُلَفَاءِ من قَبْلِ الوَاثِقِ؛ المأمونِ ومَنْ بَعْدَهُ إلى الوَاثِقِ، حتى جَاءَ المتَوَكِّلُ بعدَ الوَاثِقِ وحَلَّ الفِتْنَةَ.
فحَمَلَ الخليفةُ الناسَ على القَوْلِ بخلقِ القرآنِ، من زَمن المأمون إلى زمَنِ الواثِقِ، وصَارُوا يَفْتِنُونَ العلماءَ ويَمْتَحِنُونَهُمْ؛ فالذي يقول: القرآنُ مخلوقٌ. يتركُونَهُ، والذي يقول: غيرُ مَخْلُوقٍ. يَحْبِسُونَهُ.
ومن ذلكَ فِتْنَةُ الإمام أحمدَ -رحمه الله-، إذ حُبِسَ وضُرِبَ وأُوذِيَ، ولَمْ يتأوَّلْ؛ لأنَّه خَشِيَ أن يُضِلَّ النَّاسَ، حتى إنَّه ضُرِبَ وسُجِنَ، وأُغْشِي عَلَيه وأُوذِيَ.
وبعضُ العلماءِ من أَقْرَانِ الإمامِ قَدْ تَأَوَّلُوا لأنَّه رُخْصَةٌ ما دَامَت المسألةُ وصلت لحَدِّ الإكْرَاهِ؛ فجاءَ رَجُلٌ إلى الإمام أحمدَ وقال له: يا إمامُ أنت أُوذِيتَ، وضُرِبْتَ، وسُجِنْتَ حتى كنتَ في غَيْبُوبَةٍ، تَأَوَّلْ، فأنتَ في مَنْدُوحَةٍ. فقال له: انظر إلى رَحَبَةِ دَارِ الخليفة، رَحَبَةٍ واسِعَةٍ، فإذا هي ملآنَةٌ ناسًا كُتَّابًا؛ كُلُّ واحد معه آلَةُ الكِتَابَةِ يريدُ أن يَكْتُبَ مَقَالةَ الإمام أحمدَ، تُرِيد أن أُضِلَّ هؤلاء؟ كلا، بل أَمُوتُ ولا أُضِلُّهُمْ. وصَبَرَ -رحمه الله-؛ صَبَرَ حَتَّى نَصَرَهُ اللهُ، وصَارَ بذلك إمامَ أهلِ السُّنَّةِ.
ومن ذلك هذه القصة – التي أوردها المؤلف – من أنه أُتِيَ بِشَيْخٍ من المَصِّيصَةِ فمَكَثَ في السِّجْنِ؛ لأنَّهُ لم يقلْ: القْرَآنُ مَخْلُوقٌ. ثم أمر الواثق أن يخرج الشَّيْخَ مِنَ السِّجْنِ، فَأُتِيَ بِهِ عَلَيْهِ القُيُودُ في يَدَيْهِ وفي رِجْلَيْهِ، فَلَمَّا أُوقِفَ بينَ يَدَي الوَاثِقِ، سَلَّمَ الشيخ فَلَمْ يَرُدَّ الخَلِيفَةُ عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ فقال لَهُ: يا أَمِيرَ المؤْمِنِينَ ما اسْتَعْمَلْتَ مَعِي أَدَبَ الله وَلَا أَدَبَ رَسُولِهِ عليه الصلاة والسلام، حيث لم يرد السَّلَامَ عَلَيه؛ فاللهُ -تَعَالَى- يقول: وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا. [النساء: ٨٦] والنبي عليه الصلاة والسلام بِرَدِّ السَّلَامِ؛ فأذعن الخَلِيفَةُ ورَدَّ السَّلَامَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ لابْنِ أَبي دُؤَادَ رَئِيسِ القُضَاةِ المُعْتَزِلِيِّ -يُريدُ أَنْ يَمْتَحِنَ هَذَا الشَّيْخَ-: سَلْهُ، فادعى الشيخ أنه مَحْبُوسٌ مُقَيَّدٌ، ولا تَوَضَّأْ، ولا صَلى؛ فأَمَرَ الخليفة بِحلِّ قُيُودِهِ فَحُلَّت، وأن يعْطَى المَاءَ فتَوَضَّأَ وَصَلَّى. ثم قال لرَئيسِ القُضَاةِ المُعْتَزِلِيِّ: سَلْهُ؛ امْتَحِنْهُ هل يقول: القرآن مخلوق أَمْ لَا؟
فإن قال: مَخْلُوقٌ، أَطْلَقَهُ.
وإنْ قَالَ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ، رَدَّه في السِّجْنِ.
فقال الشيخ: أنَا الَّذِي أَسْأَلُهُ وهو الذِي يُجِيبُ، فَمُرْهُ أن يُجِيبَنِي فقال: سَلْ.
فقال الشيخ: أخْبِرْنِي عن هَذَا الذي تَدْعُو الناسَ إليه؛ وهو القَوْلُ بخَلْقِ القُرْآن، هل هو شَيْءٌ دَعَا إِلَيْهِ رَسُولُ الله؟ قَالَ: لَا.
قَالَ الشيخ: فَشَيْءٌ دَعَا إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ بَعْدَهُ؟ قَالَ: لَا.
قَالَ الشَّيْخُ: فَشَيْءٌ دَعَا إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَعْدَهُمَا؟ قَالَ: لَا.
قَالَ الشَّيْخُ: فَشَيْءٌ دَعَا إِلَيْهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بَعْدَهُمْ؟ قَالَ: لَا.
قَالَ الشَّيْخُ: فَشَيْءٌ دَعَا إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَعْدَهُمْ؟ قَالَ: لَا.
قَالَ الشَّيْخُ: فَشَيْءٌ لَمْ يَدْعُ إِلَيْهِ رَسُولُ الله، وَلَا أَبُو بَكْرٍ، وَلَا عُمَرُ، وَلَا عُثْمَانُ، وَلَا عَلِيٌّ، تَدْعُو أَنْتَ النَّاسَ إِلَيْهِ؟ لَيْسَ يَخْلُو أَنْ تَقُولَ: عَلِمُوهُ أَوْ جَهِلُوه، أي: هَلِ الرَّسُولُ ﷺ والصَّحَابَةُ عَلِمُوا هذَا الأمرَ أو جَهِلُوهُ؟
فَإِنْ قُلْتَ: عَلِمُوهُ وَسَكَتُوا عَنْهُ. وَسِعَنَا وَإِيَّاكَ مِنَ السُّكُوتِ مَا وَسِعَ الْقَوْمَ .
وإن قلت: جَهِلُوهُ وعلمته أنت، فيا لُكَع ابن لُكَعٍ. يعني: سَبا لَهُ؛ إذ كيف يَجْهَلُ النَّبِيُّ ﷺ وأَصْحَابُهُ شَيْئًا وتَعْلَمُهُ أنت وأصحابك .
قال المهْتَدِي: فرَأيتُ أبي -الواثِقُ الخليفةُ- وَثَبَ قَائِمًا، ودَخَلَ جَدْيَ -وجاء: ودَخَلَ الْخُلْوَةَ. وجاء: ودَخَلَ المَجْلِسَ- ، وجَعَلَ ثَوْبَهُ في فِيهِ فَضَحِكَ، وجَعَلَ يُرَدِّدُ مقالةَ الشَّيْخِ، ثم يقول: صَدَقَ الشيخُ، ليسَ يَخْلُو من أن يقولَ: عَلِمُوهُ أو جَهِلُوهُ.
ثم قال الشيخ: يا محمدُ، -يُخَاطِبُ ابنُ أبي دُؤَادَ- فقال الشيخ: لَبَّيْكَ. فقال الخليفة: لستُ أَعْنِيكَ إنَّمَا أَعْنِي: ابنَ أبي دُؤَادَ، فَوَثَبَ إليه قال: أعطِ هذَا الشيخَ نَفَقَةً، وأَخْرِجْهُ من بلدنا.
وسَلِمَ الشيخ منَ الحَبْسِ .
وهذه القصة – كما تقدم- رَواهَا أبو بكر الآجُرِّيُّ بَلاغًا؛ والمعْرُوفُ أن ما يُرْوَى بَلَاغًا يكونُ مُنْقَطِعًا وهو من أقسام الضَعِيف، ليس فِيهِ سَنَدٌ بينَ الآجُرِّيِّ والمُهْتَدِي، لا يُعْرَفُ المُبَلِّغُ؟ فَتُكُونُ ضَعِيفَةً؛ لكنْ أَسْنَدَهَا الآجُرِّيُّ في مَكَانٍ آخَرَ، وعن الآجُرِّيِّ رواها ابنُ بَطَّةَ في (الإبِانَة في الرَّدِّ على الجَهْمِيَّةِ)، ولها طُرُقٌ أُخْرَى عندَ ابنِ بَطَّةَ، والخَطِيبِ في (تاريخ بغداد)، وابنِ الجَوْزِيِّ في (مناقبِ الإمامِ أحمدَ)، وعبدِ الغَنِيِّ المَقْدِسِيِّ في (المِحْنَة)، وابنِ قُدَامَةَ في (التَّوَّابِين)، وأوردها الذَّهَبِيُّ في (سير أعلامِ النُّبَلَاءِ) بسياقٍ آخَر، ثم لما أَوْرَدَهَا الذَّهَبِيُّ عَقَّبَ على القصة بقوله: «وفي إسنادها مجاهيلٌ، فالله أعلمُ بِصِحَّتِهَا». وقال أيضا في موطن آخر: «وهذه قِصَّةٌ مَلِيحَةٌ، وإن كان في طَرِيقِهَا من يُجْهَلُ، ولها شَاهِدٌ».
والمؤلف أَتَى بِهذه القصة من بابِ الاسْتِئْنَاسِ، فليستَ حَدِيثًا، ولَا كَلَامًا للنَّبِيِّﷺ، ولا كَلَامًا للصحَابَةِ، وإنما هي قِصة يُسْتَأْنَسُ بها، وتَدُلُّ على أنَّ أهلَ البِدَعِ مَغْلُوبُونَ، وأنَّ حُجَّتَهُمْ دَاحِضَةٌ، وأنَّهُمْ يَمْتَحِنُونَ النَّاسَ بشيءٍ هم في عَافِيَةٍ منه، وليس عليه دليل. نسألُ اللهَ السَّلَامَةَ والعَافِيَةَ.
المتن:
فَصْلٌ
19- قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الآجُرِّيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَبَعْدَ هَذَا فَنَأْمُرُ بِحِفْظِ السُّنَنِ عَنْ رَسُولِ الله، وَسُنَنِ أَصْحَابِهِ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَقَوْلِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِثْلِ: مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَأَمْثَالِهِمْ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَالْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ، وَمَنْ كَانَ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَنَنْبِذُ مَا سِوَاهُمْ، وَلَا نُنَاظِرُ، وَلَا نُجَادِلُ، وَلَا نُخَاصِمُ، وَإِذَا لَقِيَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ فِي طَرِيقٍ أَخَذَ فِي غَيْرِهِ، وَإِنْ حَضَرَ مَجْلِسًا هُوَ فِيهِ قَامَ عَنْهُ، هَكَذَا أَدَّبَنَا مَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِنَا.
قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: «إِذَا لَقِيتَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ فِي طَرِيقٍ فَخُذْ فِي غَيْرِهِ»([9]).
وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ: «مَا ابْتَدَعَ رَجُلٌ بِدْعَةً إِلَّا اسْتَحَلَّ السَّيْفَ»([10]).
الشرح:
هذا الفَصْلُ نَصِيحَةٌ من الآجُرِّيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-، ينصحُ الآجُرِّيُّ طَلَبَةَ العِلْمِ بحِفْظِ السُّنَنِ عن رسولِ الله، أن يَعْتَنِيَ الإنسانُ بالسُّنَنِ والأحَادِيثِ يَحْفَظُهَا، ويَحْفَظُ سُنَنَ الصحابةِ، وسُنَنَ التَّابِعينَ لهم بإحسانٍ، ويَحْفَظُ أقوالَ المسلمين، وأقوالَ الأئمةِ كمالكِ بنِ أنسٍ، والأَوْزَاعِيِّ، وسُفيانَ الثوريِّ، وابنِ المباركِ وأمثالهم، والشَّافعيِّ وأحمدَ بنِ حنبلٍ، والقَاسِمِ بْنِ سلَّامٍ، ومن كان على طريقَتِهِمْ من العلماء.
ويَنْصَحُ بِهَجْرِ من سِوَاهُمْ؛ ونَبْذِ أقوالِ المبْتَدِعَةِ والبُعْدِ عن الجِدَالِ والمنَاظَرَةِ والخِصَامِ مع أهلِ الْبِدَعِ.
وإذا لَقي المسلم صَاحِبَ بِدْعَةٍ في طَرِيقٍ أن يأخُذَ طَرِيقًا آخَرَ؛ لئلا يكونَ بَيْنَهمَا كَلَامٌ وأَخْذٌ ورَد، فيكونُ سَبَبًا في ضَلَالِه، فيبتعد تماما، فلا يُقَابِلْ، فربما تَأْمُرُ المسلم نَفْسُه بأن يكَلِّمَهُ ثم يأتي بِشُبْهَةٍ، وهكذا فيضِلُّ.
وإذا حَضَرْ المسلم مجلسًا فيه مُبْتَدِعٌ فيقُومْ عَنْ هَذَا المجْلِسِ، ولا يجْلِسْ فيه خَشْيَةَ أن يَتَكَلَّمَ هذا المبتدعُ بباطلٍ، أو يَأْتِيَ بشُبْهَةٍ.
قال المؤلف رحمه الله: «هَكَذَا أَدَّبَنَا مَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِنَا»، وذكر قول يحيى بن أبي كثير وأبي قلابة .
ومنْ ذَلك بِدْعَةُ الخَوَارِجِ الذِّينَ كَفَّرُوا المسْلِمَ بالمعَاصِي اسْتَحَلُّوا السيفَ، كَفَّرُوا العُلَمَاءَ وكَفَّرُوا المسلمينَ، وصَارُوا يقتلونَ النَّاسَ - كما هو واقعٌ الآن - يُكَفِّرُونَ ويُفَجِّرُونَ؛ اسْتَحَلُّوا دماءَ المسلمين وأموالَهُم، سَلِمَ منهم اليهودُ والنَّصَارى ولم يَسْلَمْ منهم المسلمون؛ مِثْل ما قال النَّبِيُّ ﷺ: يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ. ([11])، ما ابْتَدَعَ رَجُلٌ بدعةً إلا اسْتَحَلَّ السيفَ .
فإن قال قائل: مَنْ هُوَ المُبْتَدِعُ الذِي حَذَّرَ السَّلَفُ مِنْ مُجَالَسَتِهِ ومُنَاظَرَتِهِ؟ وما هو حَدُّ البِدْعَةِ الَّتِي يُهْجَرُ صَاحِبُهَا؟ لأنَّ البِدَعَ تتفاوت، وبَعْضُهُمْ يرى من يخالِفُهُ في بعضِ المسَائلِ التي اخْتَلَفَ فيها العلماءُ أنَّه مُبْتَدِعٌ، ويُطَبِّقُ هذه الأقوال عليه.
فنقول: البِدْعَةُ هي: الحَدَثُ في دِينِ اللهِ؛ فمَنْ أَحْدَثَ في دِينِ اللهِ ما ليسَ مِنْهُ فهَذِه هِي البِدْعَةُ، كما قال النبيﷺ: مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ، فَهُوَ رَدٌّ. ([12]). رواه الشيخان، وفي لفظ مسلم: مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ. ([13]).
مثل: بِدْعَةِ الجَهْمِيَّةِ الذين يُنْكِرُون الأسماءَ والصفاتِ فَهُو مُبْتَدِعٌ .
أو يكونُ مُعْتَزِلِيًّا ينْكِرُ الأسماءَ ويُنْكِرُ الصِّفَاتِ .
أو يكون أَشْعَرِيًّا يُثْبِتُ سَبْعَ صِفَاتٍ .
أو يَكُونُ قَدَرِيًّا يقول: إنَّ أَفْعَالَ العِبَادِ مَخْلَوقَةٌ لهُمْ، وليْسَتْ مخلوقةً للهِ.
أو يَكُونُ من الخوارجِ يكفِّرُ المسلمينَ بالمعَاصِي .
أو يكونُ من الرَّافِضَةِ الذين يُكَفِّرُونَ الصحابةَ ويَعْبُدُونَ آلَ البيتِ .
أو يكونُ صُوفِيًّا يقول بقول الصوفِيَّةِ .
أو أن يكون ممن أَلْغَى صِفَاتِهِ وجَعَلَهَا صفةً لله، وعلم أن ما قُدِّرَ سَيَكُونُ، وأنَّه تَسْقُطُ عَنْهُ التَّكَالِيفُ.
أو يكونُ من الحُلُولِيَّةِ الذين يقولون: إن الله حَالٌّ في كل مكانٍ .
أو يكونُ من البَاطِنِيَّةِ الذين يَقُولُونَ: إن للشريعة ظاهرًا وبَاطِنًا؛ هؤلاء المبتدعة.
أمَّا مَنْ يُخَالِفُكَ في مسألة من المسائل - كما هُوَ مَوْجُودٌ من بعضِ الشَّبَابِ الآن - يَتَحَزَّبُونَ أحْزَابًا وفِرَقًا، ويقولون: هؤلاء مبتدعة. فيقولون: هذا إخواني، وهذا سَلَفِي، وهذا سُرُورِيٌّ، وهَذا تَكْفِيرِيٌّ، وهذا جَامِيٌّ. فيَتَحَزَّبُونَ ويُعَادِي بعضهم بعضا، ويُبَدِّعُ بعضهُمْ بَعْضًا، ويَهْجُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ويَغْتَابُ بعضهم بعضا.
فَصَارَ هَمَّهُمْ الشَّاغِل، وصَرَفَهُمْ عن طَلَبِ العِلْمِ، وصارت بينهم العَدَاوَاتُ والحَزَازَاتُ، وكل واحد يرمي الثاني بالبِدَعِ؛ هذا غلط كبير.
فالواجب على الشاب أن يُقْبِلَ على طَلَبِ العلم، ويتْرُكَ هذه التَّحَزُّبَاتِ، فيكتفي بقول: أنَا منْ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ، أعملُ بكتاب الله وسُنَّةِ رسوله، ولا أَنْتَسِبُ لشيء إلا أهلَ السُّنَّةِ والجماعة.
وإذا سئل عن فلان؛ فليقلْ: لا أعلمُ، أنَا أَطْلُبُ العِلْمِ، ولا أَحْكُمُ على الناس بشيء؛ وليرجعْ إلى العلماء ويسأَلْهُمْ.
هذا هو الواجب، فالتَّحَزُّبَاتُ، فَرَّقَتِ الشبابَ وأَضَاعَتْ أَوْقَاتَهُمْ، وضَيَّعَتْ علِيهِم العِلمَ، وأضَعْفَتْ دِينَهُمْ.
صار بعضهم يَحْذَرُ بعْضًا، حَتَّى من حلقاتِ دُرُوسِ بعض أهلِ العلمِ، وهذه من المصائب، لا تَسْمَعْ لِفُلَان، ولا تَتَعَلَّمْ عَلى فُلَان، وفلانٌ مُبْتَدِعٌ، ولو كان من أهل العلم، ولو كان من الدعاة، هذا غلط، هذا من المصائب.
بعضهم يُحَذِّرُ قال: لا تَدْرُسُوا العلمَ، بعضُهُمْ يقول: لا تَدْرُسْ في البخاري. فأنت لم تصَلْ للبِخَارِيِّ، لا تَجْلِسْ معهم، حتى يَأْخُذَهُ من الحلقَةِ ويَأْخُذَهُ مِنَ الدَّرْسِ، ويقول: هذا يدرس البخاري.
هذا يُدَرِّسُ كتاب التوحيد، أنت لم تصل لهذا، هو يأخذه ويقول: عليك أوَّلًا أن تقرأ في الرَّسَائِلِ الصَّغِيرَةِ، ويأخذه من حلقات الدروسِ؛ من حلقات العلم، ويَحْرِمُهُ بحجة أنه لم يصل إلى هذا؛ هذا من المصائب والبلايا.
الحمد لله تَجْلِسُ في أَي حَلَقَةٍ فَتَسْتَفِيدُ وتَفْهَمُ؛ حتَّى العوامُّ يَجْلِسُونَ ويستفيدون من العلم، فصارت لهم أَفْهَامٌ، وصار عندهم شيءٌ من العلم، كُلُّ حلقة اجلسْ فِيهَا، كُلُّ دَرْسٍ اجلس فيه، مهما كان مستواك، اترك هذه التحزبات وإطلاق البدع على أهل العلم؛ هذا غلط كبير.
بعض الناس يطلق على الدعاة يقولون: إنهم مُبْتَدِعَةٌ، هم دُعَاةٌ مَعْرُوفُونَ لا نَعْلَمُ عَنْهُمْ إلا الخيرَ، دَرَسُوا في الجامعات الإسلامية، ودَرَسُوا العَقِيدَةَ الواسِطِيَّةَ، ودَرَسُوا الحَمَوِيَّةَ، والتَّدْمُرِيَّةَ، والطَّحَاوِيَةَ، ومع ذلك بعضُ الناس يُحَذِّرُونَ ويقولون: هؤلاء مبتدعة. هل هم جَهْمِيَّةٌ؟! هل هم أشاعرة؟! هل هم قَدَرِيَّةٌ؟! هل هُمْ رَافِضَةٌ؟ هل هُمْ خَوَارِجُ؟!
ما عَلِمْنَا هذا عنهم، وإذا غَلِطَ في بعضِ المسائلِ، فالحمدُ لله ليس هناكَ أَحَدٌ مَعْصُومًا؛ الغَلَطُ مَرْدُودٌ على صَاحِبِهِ، كُلٌّ يُؤْخَذُ من قوله ويُرَدُّ إلا قولَ الرسول ﷺ.
أمَّا أنْ يُرْمَى بالبِدْعَةِ وهُو دَاعِيَةٌ معروف من أهلِ العِلم، نَشَأَ في هَذِهِ البِلَادِ ودَرَسَ في الجامعات، ودَرَسَ كُتبَ العَقِيدَةِ وكُتبَ التوحيد، وهو يُعَلِّمُهَا للنَّاسِ ويَتَبَرَّأُ إلى الله من مَذَاهِبِ الخَوَارِجِ، والمُعْتَزِلَةِ، والجَهْمِيَّةِ، والرَّافِضَةِ، ثُمَّ يُرْمَى بالبِدْعَةِ، نسألُ اللهَ السلامة والعافية.
قد يقول قائل: هل من ابْتَدَعَ بِدْعَةً يَكُونُ مُبْتَدِعًا؟ ومَا حُكْمُ منْ لَمْ يُبَدِّعِ المُبْتَدِعَ؟
فنقول: من ابْتَدَعَ بِدْعَةً وكَانَتْ بِدْعَةً ظَاهِرَةً، وهُوَ يَعْلَمُ أنَّها بِدْعَةٌ فهو مُبْتَدِعٌ .
وقد يكونُ الإنسانُ قد فَعَلَهَا عن اجْتِهَادٍ وهو لا يعلمُ أنَّها بِدْعَةٌ؛ فيكونُ مَعْذُورًا .
أما مَنْ لمْ يُبَدِّعْ بِدَعَ المبتدع ففيه تَفْصِيلٌ:
إن كانَ هو يَرَى بِدْعَتَهُ فَهُو مُبْتَدِعٌ مِثْلُهُ .
وإن كان لم يُبَدِّعْهُ لأنه ما ظَهَرَ لهُ أنَّهَا بِدْعَةٌ، فهذا قد لا يكونُ مُبْتَدِعًا.
وقد يقول قائل: ما حُكْمُ المنَاظرات الَّتِي تكونُ بَيْن بعضِ أَهْلِ السُّنَّةِ وبعض المُبْتَدِعَةِ في القَنَواتِ الفَضَائِيَّةِ؟
فنقول: هذا فيه تفصيل :
إن كانَ المُنَاظِرُ من أهل السُّنَّةِ مُتَمَكِّنًا عِنْدَهُ قُدْرَةٌ، وعِلْمٌ وبَصِيرَةٌ، ومَعْرِفةٌ بالأَدِلَّةِ والاسْتِدْلَالِ والجِدَالِ، وقُدْرَةٌ على كَشْفِ الشُّبَهِ، ويكونُ بينَ المُنَاظِرِينَ مَرْجِعٌ إذَا اخْتَلَفُوا؛ فلا بَأْسَ.
أمَّا إذا كانَ المُنَاظِرُ ليسَ عِنْدَهُ عِلْمٌ ولا بَصِيرَةٌ، ولا قُدْرَةٌ على رَدِّ الشُّبَهِ، ويكون خَصْمُهُ المبتدع أقوى مِنْه، فيُورِدُ الشُّبَهَ، ويُضِلُّ الناسَ، أو لا يكون هناك مَرْجِعٌ يَرْجِعُ إليه المُتَنَاظِرُونَ، والمَرْجِعُ هو الكِتَابُ والسُّنَّةُ، فهذا لا يجوز.
يُرْوَى أنه جاءَ جَمَاعَةٌ يريدون أن يُنَاظِرُوا الشيخ محمدَ بنَ إبراهيمَ -رحمه الله- في حياتِهِ من أهلِ البِدَعِ؛ فقال لهم: نُرِيدُ أن يكون هناكَ شيءٌ نَرْجِعُ إليه، يعنِي: الكِتَابَ والسُّنَّةِ. فقالوا: لا. فقال: إذن لَيْسَ هُنَاك مُنَاظَرَة، إلا أن يكون مَرْجِعَنَا الكِتَابُ والسُّنَّةُ.
وقد يقول قائل: ما نَصِيحَتُكُمْ لمن يَدْخُلُ في المُنْتَدَيَاتِ، وفي السَّاحَاتِ والإنترنت، فيطالع المناظرات، فربما تأثر بذلك؟
فنقول: نصِيحَتِي لمَنْ يَدْخُلُ في المُنْتَدَيَاتِ أن يكونَ على حَذَرٍ، والمسألة فيها تفصيل:
فإذا كان الداخل لهذه المنتديات والمطالع للمناظرات من أهلِ العِلْمِ وأهلِ البَصِيرَةِ يُرِيدُ أن يَرُدَّ عليهم؛ فلا بأس.
أمَّا إذَا لم يكن من أهلِ العِلْمِ ولَا أهلِ البَصِيرَةِ، فنصيحتي ألَّا يَدْخُلَ في المنَاظَرَاتِ، وألَّا يَقْرأَ كلَّ مَا يُكْتَبُ؛ لئلا تَزِلَّ بِهِ القَدَمُ، فقد عَلِمْنَا من العلماءِ والأئمةِ التَحْذِيرَ منْ أهلِ البِدَعِ ومِنْ مُجَالَسَتِهِمْ، وقراءة كلامهم وشُبَهِهِمْ.
بل إذا وَجَدْتَ المُبْتَدِعَ في طَرِيقٍ فاذهبْ إلى طريقٍ آخرَ، وإذا كان في مجلسٍ فلا تَجْلِسْ في المجلسِ الذي يجلس فيه، فكيفَ تَقْرَأُ في المنتديات كلامَ المبتدعةِ وكِتَابَاتِهِمْ وشُبَهَهُمْ؟! أين تحذيرُ العلماء؟! هل عَمِلْتَ بالتَّحْذِيرِ؟! العلماءُ وأهلُ السُّنَّةِ يُحَذِّرُونَكَ؛ يقولون: لا تجالسْ أهلَ البِدَعِ، ولا تَلْتَقِ معهم في الطريق .
فالواجب الحذر؛ فلا تقرأْ ما كَتَبُوهُ، ولا تدخل في هذه المنتديات.
عليك أن تكون على حَذَرٍ، واقرأ الشيْءَ الذي يَنْفَعُكَ، ادْخُلْ في مواقع أهل السُّنَّةِ وأهلِ الحقِّ وأهل البَصِيرَةِ حتى تستفيد مما تسمع ومما تقرأ.
وقد يقولُ قائلٌ: إنَّنِي أَعِيشُ في مُجْتَمَع كُلِّهِ مُبْتَدِعَةٌ، فكيف يُمْكِنُنِي التَّعَامُلُ معهم بهذا المَنْهَجِ المذْكُورِ آنفا؟
فنقول: العُلْمَاءُ يَرَوْنَ أنه يُسْتَحَبُّ للإنسانِ أن يُهَاجِرَ من المكانِ الذي فيه مُبْتَدَعَةٌ أو عُصَاةٌ .
فإذا بَلَدُ الكُفَّارِ فيجبُ الهِجْرَة منها إذا كان لا يَسْتَطِيعُ إظهارَ دِينِهِ.
وإذا كان بلدُ مُبْتَدِعَةٍ أو عُصَاةٍ فيُسْتَحَبُّ الهِجْرَةُ مِنْهُ إن استطعتَ، وإن لم تَسْتَطِعْ فافعَلْ مَا تَسْتِطَيعُ، من قراءة كُتُبَ أهلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ، وسماعِ الدُّرُوسَ العِلْمِيَّةَ عبر الشَّبَكَةِ المعلوماتية والأَشْرِطَةَ، والسؤال عما يُشْكَلَ عَلَيْكَ، والابتعاد عن أهل البدع والمعاصي قَدْرِ الإمكانِ .
وقد يقول قائل: هَلْ لنَا أنَّ نَتْرُكَ صَاحِبَ البِدْعَةِ على بِدْعَتِهِ ولا نَنْصَحَهُ؟ وكيف يهتدي إلى الصواب إن تركناه؟!
فنقول: إذا كُنْتَ تَسْتِطَيعُ النَّصِيحَةَ، وكُنْتَ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ والبَصِيرَةِ فعَلَيْكَ أنْ تَنْصَحَهُ ويَقْبَلَ مِنْكَ.
أمَّا إذا لم تَكُنْ من أهلِ العِلْمِ؛ فعَلَيْكَ بالابْتِعَادِ، لأنه ليس عِنْدَكَ أَهْلِيَّةٌ للنُّصْحِ؛ لأنَّه قَدْ يُضِلُّكَ، قَدْ يَكُونُ عِنْدَهُ حُجُجٌ وشُبَهٌ تُضِلُّكَ.
المتن:
فَصْلٌ
20- قَالَ: فَإِنْ كَانَتْ مَسْأَلَةً مِنَ الْفِقْهِ وَأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ فَمُبَاحٌ لَهُ النَّظَرُ فِيهَا، طَلَبَ السَّلَامَةِ لَا يُرِيدُ الْمُغَالَبَةَ، فَيَحْمَرُّ وَجْهُهُ، وَتَنْتَفِخُ أَوْدَاجُهُ، وَيَعْلُو صَوْتُهُ، وَيُحِبُّ أَنْ يُخْطِئَ صَاحِبُهُ، فَهَذَا لَا تُحْمَدُ عَاقِبَتُهُ، فَإِنْ أَرَدْتَ السَّلَامَةَ فِي النَّظَرِ، فَإِذَا كُنْتَ أَنْتَ حِجَازِيٌّ وَالَّذِي يُنَاظِرُك عِرَاقِيٌّ وَبَيْنَكُمَا مَسْأَلَةٌ، تَقُولُ أَنْتَ: حَلَالٌ. وَيَقُولُ هُوَ: حَرَامٌ. نَاظَرْتَهُ عَلَى إِنْ كَانَ الْحَقُّ مَعَهُ تَبِعْتَهُ، وَإِنْ كَانَ مَعَكَ تَبِعَكَ. فَهَذَا حَسَنٌ، وَمَا أَعَزَّهُ فِي النَّاسِ! وَإِلَّا فَقُلْ: قَدْ عَرَفْتُ قَوْلَكَ وَعَرَفْتَ قَوْلِي، فَلَا أَنْتَ تَتَّبِعُنِي إِذَا ظَهَرَ الْحَقُّ عَلَى لِسَانِي وَلَا أَنَا أَتَّبِعُكَ، فَسُكُوتُنَا عَنِ النَّظَرِ أَسْلَمُ.
وَلَا تَأْمَنْ أَنْ يَقُولَ لَكَ فِي مُنَاظَرَتِهِ: قَالَ رَسُولُ الله. فَتَقُولَ لَهُ: هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ. وَهُوَ بِخِلَافِهِ لِتَرُدَّ قَوْلَهُ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ لَكَ، فَمَا أَعْظَمَ هَذَا فِي الدِّينِ! وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ زَمَانِنَا إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللهُ .
الشرح:
هَذِهِ أيضا نَصِيحَةٌ من أبي بَكر الآجُرِّيِّ، وذلك بأن تتعلق بالعَقِيدَةِ، والدِّينِ، والسُّنَنِ، والبِدَعِ، فلا تُكَلِّمْ أهلَ البِدَعِ ولا تُجَادِلْهُمْ ولا تُخَاصِمْهُمْ، ولا تَجْلِسْ في المكانِ الذي هُمْ فِيهِ، ولا تُقَابِلْهُمْ في الطَّرِيقِ خشيةَ أن يُضِلُّوكَ.
أما المسَائِلُ الفِقْهِيَّةُ وأحكامُ الشَّرِيعَةِ؛ فيجوزُ لكَ أن تُنَاظِرَ وتُجَادِلَ بِشُرُوطٍ يكون حينها مُبَاحٌ للإنسانِ أن يَنْظُرَ فيها ويطلبَ السَّلَامَةَ:
أنْ تَطْلُبَ الحقَّ ويَطْلُبَ الحقَّ، أنْ يَكُونَ مَقْصُودَكَ الحقُّ، ويكونَ مَقْصُودَهُ الحقُّ، تَتَنَاظَرانِ وكُلٌّ يُدْلِي بِحُجَّتِهِ ودَلِيلِهِ؛ فإن كان الحقُّ معه تَبِعْتَهُ وإن كان الحقُّ معكَ تَبِعَكَ.
ألَّا تُرِيدَ المُغَالَبَةَ والانْتِصَارَ لنَفْسِكَ، فيَحَمَّرَّ وَجْهُ المُنَاظِرِ، وتَنْتَفِخَ أوْدَاجُهُ، ويَعْلُوَ صَوْتُهُ، ويُحِبُّ أن يُخْطِئَ صَاحِبُهُ.
فإِذَا وَصَلَتِ الحالةُ إلى هذا فاتْرُكِ المجادَلَةَ والمنَاظَرَةَ؛ فَهَذَا لَا تُحْمَدُ عَاقِبَتُهُ .
وضرب المؤلف رحمه الله مثالا: بحِجَازِيٌّ وعِرَاقِيٌّ يتَنَاظَرَانِ في مسألة؛ فيقول الحجازيُّ: هذه المسْأَلَةُ حَلَالٌ. ويقولُ العِرَاقِيُّ: هذِه حَرَامٌ.
ونَاظَرْتَهُ مُنَاظَرَةً هَادِئَةً تأتي بالدَّلِيلِ الَّذِي عِنْدَكَ، ويأتي بالدَّليل الذي عنده؛ إنْ كَانَ الحقُّ معه تَبِعْتَهُ، وإن كان الحقُّ معك تَبِعَكَ، فهذا حسن إذا كان مَقْصُودًا.
ولكن وقوع مثل هذا قليل عزيز، فنادر أن يكونَ هَذَا هو الهَدَف، فالغالبُ أن يكون هدفَ المتَنَاظِرَيْنِ الانْتِصَارُ للنفس؛ وأن يُخْطِئَ صَاحِبُهُ، ويغلِبَ هو .
وإلا إذَا كَانَ لا يُرِيدُ أن يَتَّبِعَكَ إذا كان الحقُّ معك، أو تَتَّبِعَهُ إذا كانَ الحقُّ معه «فَقُلْ: قَدْ عَرَفْتُ قَوْلَكَ وَعَرَفْتَ قَوْلِي، فَلَا أَنْتَ تَتَّبِعُنِي إِذَا ظَهَرَ الْحَقُّ عَلَى لِسَانِي وَلَا أَنَا أَتَّبِعُكَ، فَسُكُوتُنَا عَنِ النَّظَرِ أَسْلَمُ».
قوله: «وَلَا تَأْمَنْ أَنْ يَقُولَ لَكَ فِي مُنَاظَرَتِهِ: قَالَ رَسُولُ الله. فَتَقُولُ لَهُ: هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ. وَهُوَ بِخِلَافِهِ لِتَرُدَّ قَوْلَهُ» يعني: إذا كَانَت المنَاظَرَةُ فيها انْتِصَارٌ للنَّفْسِ يأتي لكَ بحديثٍ، ثم تُرِيدُ الانْتِصَارَ لنفسك وتقول: هذا الحديثُ ضَعِيفٌ، وهو غيرُ ضَعِيفٍ، ولكن تُرِيدُ أن تُبْطِلَ حُجَّتَهُ؛ «فمَا أَعْظَمَ هَذَا في الدِّينِ!» فهذه مُصِيبَةٌ، ثم حكى المؤلف وقوع هذا في زمانه، فقال: «وعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ زَمَانِنَا إلَّا مَنْ عَصَمَ الله ».
هذه نَصِيحَةٌ من المؤلِّفِ في المناظرة في المسائل الفِقْهِيَّةِ الفَرْعِيَّةِ.
المتن:
فَصْلٌ
21- وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: الْمِرَاءُ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ. ([14]).
قَالَ الآجُرِّيُّ: «وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، وَمَعْنَاهَا: عَلَى سَبْعِ لُغَاتٍ، فَكَانَ يُلَقِّنُ كُلَّ قَبِيلَةٍ مِنَ الْعَرَبِ الْقُرْآنَ حَسَبَ مَا يَحْتَمِلُ مِنْ لُغَتِهِمْ تَخْفِيفًا مِنَ الله -تَعَالَى-، وَكَانُوا رُبَّمَا إِذَا الْتَقَوْا يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَيْسَ هَكَذَا الْقُرْآنُ، وَلَا هَكَذَا عَلِمْتُهُ، وَيَعِيبُ بَعْضُهُمْ قِرَاءَةَ بَعْضٍ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَقِيلَ لَهُمُ: اقْرَءُوا كَمَا عَلِمْتُمْ وَلَا يَجْحَدْ بَعْضُكُمْ قِرَاءَةَ بَعْضٍ، وَاحْذَرُوا الْجَدَلَ وَالْمِرَاءَ فِيمَا قَدْ تَعَلَّمْتُمْ»([15]).
الشرح:
ذَكَرَ حديثَ أبي هُرَيْرَةَ عن النَّبِيِّ ﷺ قال: الْمِرَاءُ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ. وهذا الحديثُ صَحِيحٌ باعتبار أنَّ لَهُ شواهدَ صَحِيحَةً.
وذَكَرَ ابنُ عَبْدِ الْبَرِّ في كتابه (جامع بيانِ العِلْمِ وفَضْلِهِ) إيضَاحًا مُفِيدًا لقَوْلِ الرَّسُولِ ﷺ: المِرَاءُ في الْقُرْآنِ كُفْرٌ. ([16]). فقال: «والمَعْنَى إذَا تَمَارَى اثنان في آية يَجْحَدُهَا أَحَدُهُمَا، ويَدْفَعُهَا أو يَسُوقُهَا إلى الشَّكِّ، ذَلَكَ هو المِرَاءُ الذي هو الكُفْرُ، وأما التَّنَازُعُ في أحكامِ القُرْآنِ ومَعَانِيهِ؛ فقد تَنَازَعَ أصحابُ رَسُولِ الله ﷺ في كَثِيرٍ من ذَلِكَ»([17]).
وهَذَا يُبَيِّنُ لكَ أنَّ المِرَاءَ الذي هو كُفْرٌ هو: الجُحُودُ والشَّكُّ.
بيانُ هذا الحديث كما قال المؤلف: «أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ». فقد جاء في الحديث: إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ. وهذا الحديثُ ثَابِتٌ، رواهُ البخاري ومُسْلِمٌ في صحيحيهما ([18]).
والآجُرِّيُّ -رحمه الله- فسَّرَ سَبْعَةَ الأَحْرُفِ: على سَبْعِ لُغَاتٍ – من لغات العرب -، فكَانَ الرسولﷺ : «يُلَقِّنُ كُلَّ قَبِيلَةٍ من العَرَبِ القرآنَ على حَسَبِ ما يَحْتَمِلُ مع لُغَتِهِمْ» وهذا من لطف الله كما قال المؤلف: «تَخْفِيفًا من الله -تعالى- ».
والآجُرِّيُّ -رحمه الله- جَزَمَ بأنَّ قولَ النَّبِيِّ ﷺ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ. سَبْعُ لُغَاتٍ، وهَذَا أَحَدُ الأقْوَالِ .
القول الثاني: أنَّ المراد به سَبْعَةُ أَوْجُهٍ من المَعَانِي، وليس هو سَبْعَ لُغَاتٍ .
وقيل غير ذلك([19]) .
لكنَّ الآجُرِّيَّ اختارَ أحدَ الأقوالِ وجَزَمَ بذلك، وقد ثبتَ أنَّ حُذَيْفَةَ حِينَمَا كانَ يُغَازِي أَرْمِينِيَّةَ وأَذْرَبِيجَانَ سَمِعَ اختلافَ النَّاسِ في القِرَاءَةِ، وبَعْضُهُمْ يقولُ: قِرَاءَتِي أحْسَنُ من قِرَاءَتِكَ؛ فجاءَ إلى أَمِيرِ المؤمنين عُثْمَانَ وقال: «يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ، قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الكِتَابِ اخْتِلَافَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى»([20]). فَأَمَر بِجَمْعِ القُرْآنِ، فَجُمِعَ القُرْآنُ.
أَمَرَ بالصُّحُفِ الَّتِي كانت عند حَفْصَةَ، وأَمَرَ بِجَمْعِ القُرْآنِ مرة أخرى، فَجَمَعَ القُرْآنَ مَرَّةً ثَانِيَةً، وجَمَعَهُ على حرف واحدٍ، وهو الحَرْفُ الذِي كان في العَرْضَةِ الأخِيرَة لجِبْرِيلَ على النَّبِيِّﷺ، وقال للشَّبَابِ الذِينَ يَكْتُبُونَ: «إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي عَرَبِيَّةٍ مِنْ عَرَبِيَّةِ القُرْآنِ فَاكْتُبُوهَا بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّ القُرْآنَ أُنْزِلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا»([21]). وجَمَعَه على حَرْفٍ واحِدٍ، وأَلْغَى بَقِيَّةَ الحُروفِ وأَحْرَقَ المصَاحِفَ، ونَسَخَ عِدَّةَ مَصَاحِفِ، وأبقى في المدينة مُصْحَفًا، وأرسل إلى مكة مُصْحَفًا، وإلى الكوفة مُصْحَفًا، وإلى مصر مُصْحَفًا، وإلى البصرة مُصْحَفًا وهكذا.
وهذا الحَرْفُ الواحِدُ يَدْخُلُ فيه القراءاتُ العَشْرُ .
فالواجبُ على المسلمِ أن يَحْذَرَ من الجِدَالِ، والمِرَاءِ، والشَّكِّ، والشُّكُوكِ فيما يَتَعَلَّقُ بكتاب الله، وسُنَّةِ رسولهﷺ.
المتن:
بابُ ذِكْرِ الإِيمَانِ بَأَنَّ القُرْآنَ كَلَامُ الله، وأنَّ كَلَامَ الله لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، ومَنْ زَعَمَ أنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ
22- قَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الحُسَيْنِ الآجُرِّيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «اعْلَمُوا -رَحِمَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ- أَنَّ قَوْلَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَم تَزِغْ قُلُوبُهُمْ عَنِ الْحَقِّ، وُوُفِّقُوا لِلرَّشَادِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ -جَلَّ ثَنَاؤهُ- لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِلْمِ الله، وَعِلْمُ اللهِ لَا يَكُونُ مَخْلُوقًا، تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، وَقَوْلُ الصَّحَابَةِ ، وَقَوْلُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، لَا يُنْكِرُ هَذَا إِلَّا جَهْمِيٌّ خَبِيثٌ، وَالْجَهْمِيُّ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ كَافِرٌ، قَالَ اللهُ: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ.
وقال: وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ.
وَقَالَ اللهُ لِنَبِيِّهِ ﷺ: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ. وَهُوَ الْقُرْآنُ.
وَقَالَ لِمُوسَى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي. وَقَالَ: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ. فَقَدْ فَصَلَ بَيْنَهُمَا.
وَقَالَ: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. فَلَوْ كَانَتْ: كُنْ مَخْلُوقَةً لَافْتَقَرَتْ إِلَى كُنْ أُخْرَى غَيْرِ مَخْلُوقَةٍ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ.
وَقَالَ: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا. وَلَوْ كَانَ مَخْلُوقًا لَنَفِدَ، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ.
وَقَالَ: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ . وقال: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ، وَعِلْمُ اللهِ القُرْآنُ.
قَالَ الآجُرِّيُّ: لَمْ يَزَلِ اللهُ -تعالى- عَالِمًا مُتَكَلِّمًا، سَمِيعًا بَصِيرًا بِصِفَاتِهِ قَبْلَ خَلْقِ الْأَشْيَاءِ، مَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا كَفَرَ، وَسَنَذْكُرُ مِنَ السُّنَنِ وَالْآثَارِ وَقَوْلِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَا يُسْتَوْحَشُ مِنْ ذِكْرِهِمْ مَا إِذَا سَمِعَهَا مَنْ لَهُ عِلْمٌ وَعَقْلٌ، زَادَهُ عِلْمًا وَفَهْمًا، وَإِذَا سَمِعَهَا مَنْ فِي قَلْبِهِ زَيْغٌ، فَإِنْ أَرَادَ اللهُ هِدَايَتَهُ إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ رَجَعَ عَنْ مَذْهَبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ فَالْبَلَاءُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ ([22]).
الشرح:
هَذَا الْبَابُ الثَّالِثُ من أبوابِ هذَا الكِتَابِ (المختار في أصول السنة).
وقد عَقَدَ المؤلِّفُ رحمه الله هذا الباب لِبَيَانِ وُجُوبِ الإيمانِ بِأَنَّ القُرْآنَ كلامُ الله، مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، صِفَةٌ من صِفَاتِهِ، لَفْظُهُ ومَعْنَاهُ؛ ليس كَلَامَ اللهِ الحُرُوفُ دونَ المَعَانِي ولا المَعَانِي دُونَ الحُرُوفِ.
خِلَافًا لأهلِ البِدَعِ كالأشَاعِرَةِ الَّذِينَ يَقُولون: الكَلَامُ هو المَعْنَى، وأمَّا الأَلْفَاظُ فهي مَخْلُوقَةٌ، والحُرُوفُ كذلك.
- قال الأَشَاعِرَةَ: كلامُ اللهِ مَعْنًى قَائِمٌ بِنَفْسِهِ ليسَ بِحَرْفٍ ولَا صَوْتٍ، لا يُسْمَعُ مثلَ العِلْمِ؛ كَمَا أن العِلْمَ لا يُسْمَعُ في الصَّدْرِ، فكَذَلِكَ الكَلَامُ. وقالوا: إنَّ هَذِهِ الحُرُوفَ والكَلِمَاتِ الموجودة في الكونِ لَيْسَتْ كَلَامَ اللهِ .
فجَعَلُوا الرَّبَّ أَبْكَمَ والعِيَاذُ باللهِ، فلَا يَتَكَلَّمُ؛ لأنَّه لو تَكَلَّمَ بِحُرُوفٍ وأَصْوَاتٍ لصارتِ الحُرُوفُ والأَصْوَاتُ حَادِثَةً، فتَحِلُّ الحَوَادِثُ في ذَاتِهِ وهُوَ مُنَزَّهٌ عن الحَوَادِثِ.
واختف الأشاعرة فيما بينهم فيمن عبر بالحروف:
فقالت طائفة منهم: عَبَّرَ بِها جِبْرِيلُ ، حيث أن الله اضْطرَّ جِبْرِيل حَتَّى يَفْهَمَ المَعْنَى القَائِمَ بِنَفْسِهِ فَفَهِمَ المَعْنَى فَعَبَّرَ عَنْهُ بهذَا القرآنِ.
وقالت طائفةٌ: إنَّ الذِي عَبَّرَ مُحَمَّدٌ ﷺ.
وقَالَتْ طَائِفَةٌ: إنَّ جِبْرِيلَ أَخَذَ القُرْآنَ من اللَّوْحِ المَحْفُوظِ واللهُ لم يَتَكَلَّمْ بِكَلِمَةٍ واحدة.
- وقَابَلَهُمْ بعضُ المعْتَزِلَةَ فقَالُوا: الكَلَامُ هُوَ الحُرُوفُ والألفاظُ، وأمَّا المَعْنَى فليسَ بِكَلَامٍ.
ويقولون: كَلامُ اللهِ اللَّفْظُ، والمعَنْى مَخْلُوقٌ من مَخْلُوقَاتِهِ خَلَقَه في الهَوَاءِ، أو خَلَقَهُ في اللَّوْح المحفوظِ؛ فَهُمْ يقولون: كَلَامُ اللهِ مَخْلُوقٌ.
وَكُلٌّ مِنَ المَذْهَبَيْنِ بَاطِلٌ.
فالأَشَاعِرَةُ وهُم أَقْرَبُ الطَّوَائِفِ إلى أهلِ السُّنَّةِ يقولون: المُصْحَفُ ليس فِيهِ كَلَامُ اللهِ؛ حَتَّى إنَّ بعضَ الغُلَاةِ منهم -والعِيَاذُ باللهِ- قَدْ يَدُوسُ المصحفَ بِقَدَمَيْهِ ويقول: مَا فِيهِ كَلَامُ اللهِ - نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ والعَافِيَةَ - .
والحقُّ أنَّ كَلَامَ اللهِ الأَلْفَاظُ والمَعَانِي؛ فكَلَامُ اللهِ بَحَرْفٍ وصَوْتٍ يُسْمَعُ، وهو صِفَةٌ من صِفَاتِهِ .
قول المؤلفُ في الباب: «ومَنْ زَعَمَ أنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ»، كَفَّرَهُ الإمامُ أحمدُ وغيرُهُ، لأَنَّهُ أنْكَرَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ الله، القُرْآنُ صِفةُ الله، وهَذَا على العُمُومِ.
أمَّا الشَّخْصُ المُعَيَّنُ فلا بُدَّ من إقَامَةِ الحُجَّةِ عَلَيْهِ، فلا يُكَفَّرُ حَتَّى تُزَالَ الشُّبْهَةُ، وتُقَام عليه الحُجَّةُ؛ فإذا أُقِيمَتْ عَلَيْه الحُجَّةُ وأَصَرَّ؛ حُكِمَ بِكُفْرِهِ.
نَقَلَ المؤلِّفُ عن الآجُرِّيِّ في أنه قال: «اعْلَمُوا -رَحِمَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ-». يعني: تَيَقَّنُوا. فالعِلْمُ هُوَ: اليَقِينُ. وهو: حُكْمٌ جَازِمٌ؛ يعنِي: لا تَشُكُّوا، ولا تَظُنُّوا، ولا تَتَنَاحَرُوا.
والمعلوماتُ أربعةُ أشياء:
الأول: العلِمُ وهو: يَقِينُ القلب.
الثاني: الشَّكُّ: مَا تَرَدَّدَ بين الأمْرَيْنِ من دونِ تَرْجِيحٍ؛ يقال له: شَكٌّ.
الثالث: الظُّنُّ: التَرَدُّدُ بينَ أَمْرَيْنِ أحدهمَا أرجحُ من الآخر، فالراجِحُ يُسَمَّى ظَنًّا.
الرابع: هو الظن المرجُوحُ ويُسَمَّى: وَهَمًا.
ثم بين رحمه الله أن «قَوْلُ المُسْلِمينَ الذين لم تَزِغْ قُلُوبُهُمْ» بخلاف المعْتَزِلَةِ - وإن كانُوا دَاخِلِينَ في عِدَادِ المسلمين عِندَ بعضِ العُلَمَاءِ، على الخِلَافٌ في تَكْفِيرِهِمْ، والجمهورُ عَلَى أنَّهُمْ مُبْتَدِعَةٌ، لكنْ زَاغَتْ قُلُوبُهُمْ عن الحق - «وَوُفِّقُوا للرَّشَادِ» يعني: الأمرَ الرَّاشِدَ «قَدِيمًا وحَدِيثًا»، وهو: «أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ -جَلَّ ثَنَاؤهُ- لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِلْمِ الله، وَعِلْمُ اللهِ لَا يَكُونُ مَخْلُوقًا، تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ ».
وبين رحمه الله أن هذا هو ما دل عليه القُرْآنَ القرآنُ العظيمُ، والسُّنَّةُ المطهرَةُ، وقول الصحابة، وقولُ أئمةِ المسلِمِينَ.
وأن هذا لا ينكره إلا « إِلَّا جَهْمِيٌّ خَبِيثٌ» نسبة إلى الجَهْمِ بن صَفْوانَ؛ الذي أنكرَ أسماءَ اللهِ وصِفَاتِهِ حينَ ناظرَ قومًا يقالُ لهم: السّمنِيَّة - فلاسِفَةٌ في الهِنْدِ لا يُؤْمِنُونَ إلَّا بالمَحْسُوسَاتِ، يعني ما يُدْرِكُهُ الإنسانُ بحَوَاسِّهِ الخمسِ، الذَّوْقِ، والشَّمِّ، والسَّمْعِ، والنَّظَرِ، والجَسِّ - فقالوا: إلهك هَذا الذِي تَعْبُدُه هَلْ رَأَيْتَهُ بعَيْنَيْكَ؟ قال: لا.
قالوا: هل سَمِعْتَهُ بأُذُنِكَ؟ قال: لا.
قالوا: هل شَمَمْتَهُ بأنْفِكَ؟ قال: لا.
قالوا: هل ذُقْتَهُ بلسِانِكَ؟ قال: لا.
قالوا: هل جَسَسْتَهُ بِيَدِكَ؟ قال: لا.
قالوا: إذن مَعْدُومٌ.
فَشَكَّ الجهم في رِبِّهِ وتَرَكَ الصَّلَاةَ أربعينَ يومًا، ثُمَّ نَقَشَ الشَّيْطَانُ في ذِهْنِهِ أن اللهَ مَوْجُودٌ وُجُودًا مُطْلَقًا، والوجودُ المُطْلَقُ هو الذِي ليس له اسمٌ ولا صِفَةٌ؛ فأَثْبَتَ وُجُودَ اللهِ في الذِّهْنِ وسَلَبَهُ جميعَ الأسماءِ والصِّفَاتِ -والعياذ بالله-.
والحكم في الجهمي عن كما قال الآجُرِّيُّ أنه: «عندَ العلماءِ كَافِرٌ». وذَكَرَ ابنُ القَيَّمِ -رحمه الله- أنَّهُ كَفَّرَهُمْ خَمْسُمِائَةِ عَالِمٍ، فقال في النَّونِيَّةِ - الكَافِيَةِ الشَّافِيَةِ:
ولقـد تَقَلَّدَ كُفْـرَهُمْ خَمْسُونَ في | عَشْـرٍ مِـنَ الْعُلَمَاءِ في البُلْدَانِ |
واللَّالَكَائِيُّ الإمـامُ حَكَـاهُ عَنْـهُمْ | بَـلْ قـد حَكَـاهُ قَبْلَهُ الطَّبَـرَانِي |
ثُمَّ ذَكَرَ الأدِلَّةَ من كِتَابِ -الله تعالى-، كُلَّهَا تَدُلُّ على أنَّ القُرْآنَ كَلَامُ اللهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ.
الدَّلِيلُ الأَوَّلُ: قول اللهُ -تَعَالى-: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ. [التوبة :6] .
الشَّاهِدُ فِيهِ: حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ. ولم يَقُلْ: حتَّى يَسْمَعَ مَا هُو مَخْلُوقٌ، فَدَلَّ على أنَّ القُرْآنَ كَلَامُ الله .
الدليلُ الثَّانِي: قوله تعالى: وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ. [البقرة :75] . الشَّاهِد: يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ.
الدليلُ الثَّالِثُ: قول اللهُ لِنَبِيِّهِ:قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ. [الأعراف :158]. الشَّاهِدٌ قوله: لَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ.. فَأَضَافَ الْكَلَامَ إِلَيْهِ، وهُوَ الْقُرْآنُ.
الدَّلِيلُ الرَّابِعُ: قول الله لمُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي. [الأعراف :144] . الشَّاهِدُ: وَبِكَلَامِي، فَأَضَافَ الكَلَامَ إِلَيْهِ.
الدَّلِيلُ الخامسُ: قوله -تعالى-: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف :54] .
قال المؤلِّفُ في وجهِ الدَّلَالَةِ: «فَقَدْ فَصَلَ بَيْنَهُمَا»، فَصَلَ بَيْنَ الخَلْقِ والأَمْرِ، فَدَلَّ على أنَّ الخَلْقَ غَيْرُ الأَمْرِ: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، قالَ في القُرْآنِ: الأَمْرُ هُو كلامُ الله وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا، الأَمْرُ هو الكَلَامُ، والخَلْقُ غَيْرُ الأَمْرِ، ولو كانَ الكلامُ مَخْلُوقًا؛ لصَار دَاخِلًا في الخَلْقِ ولم يَفْصِلْ بينَهُمَا، فلما فَصَلَ بينَ الأمرِ والخَلْقِ؛ دَلَّ على أنَّ الكلامَ غَيْرُ مخلوقٍ: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا،.
الدليلُ السادس: قوله -تعالى-: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل :40]، إِذَا أَرَادَ اللهُ أن يَخْلُقَ شيئا يَخْلُقُه بِكَلِمَةِ (كُنْ)، وكَلِمَةُ (كُنْ) كَلَامٌ، ولو كَانَتْ (كن) مَخْلَوقَةً لافْتَقَرَتْ إلى (كن) أُخْرَى، و(كُنْ) تَفْتَقِرُ إلى أُخْرَى إلى مَا لَا نِهَايَةَ، وهَذَا يَدَلُّ على أنَّ الكَلامَ غَيْرُ مخلوقٍ، والخلقُ يَكُونُ بالْكَلَامِ، فالله -تعالى- يَخْلُقُ بالكَلَامِ: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فَيَخْلُقُهُ اللهُ.
الدليل السابع: قوله تعالى : قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف :109]، لو كَانَ الكلامُ مَخْلُوقًا لَنَفِدَ، فالمخلوقاتُ تَنْفَدُ، وكلامُ اللهِ لا يَنْفَدُ، يَنْفَدُ البَحْرُ، ولا تَنْفَدُ كلماتُ اللهِ، وفي الآية الأُخْرَى يقول الله -تعالى-: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان :27].
لو كانَ جَمِيعُ ما في الأرض من شَجَرٍ أَقْلَامٌ يُكْتَبُ بِهَا، والبحرُ يَمْدُّهُ سبعةُ أبْحُرٍ وصَارَ مِدَادًا يُكْتَبُ به لنَفِدَتِ البِحَارُ وتَكَسَّرَتِ الأقلامُ، ولم تَنْفَدْ كلماتُ اللهِ.
وقد يسألُ سائلٌ فيقولُ: هل يُفْهَمُ من قَوْلِهِ -تَعَالى-: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا. أنَّ كَلِمَاتِ اللهِ تَنْفَدُ؟
فنقول: نَفْهَمُ مِنْهَا أنَّ كلماتِ اللهِ لا تَنْفَدُ، وأنَّ البَحْرَ -وهو مَخْلُوقٌ- يَنْفَدُ: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ، اللهُ يَكْتُبُ بِهِ كَلِمَاتِ اللهِ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ، والبَحْرُ المُتَلَاطِمُ لو كانَ مِدَادَ حِبْرٍ يُكْتَبُ فِيهِ كَلِمَاتُ اللهِ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ، وانْتَهَى المِدَادُ، وتَكَسَّرَتِ الأَقْلَامُ، وكَلِمَاتُ اللهِ لم تَنْفَدْ.
الدليل الثامن: قوله تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [آل عمران :61].
يقولُ المُؤَلِّفُ -رحمه الله-: «ومِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ»، وقالَ: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ [الرعد :37].
قوله-: «لَمْ يَزَلِ اللهُ -تعالى- عَالِمًا مُتَكَلِّمًا، سَمِيعًا بَصِيرًا بِصِفَاتِهِ قَبْلَ خَلْقِ الْأَشْيَاءِ، مَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا كَفَرَ». يعْنِي: أن الله -تعالى- لم يَزَلْ عَالمًا، مُتَكَلِّمًا، سَمِيعًا، بَصِيرًا، مُتَّصِفًا بالصِّفَاتِ قَبْلَ خَلْقِ الخلقِ، قبل أن يَخْلُقَ الخلقَ، ما اسْتَفَادَ -سُبْحَانَهُ- صِفَاتِهِ من الخَلْقِ.
ثم قال المؤلف «وَسَنَذْكُرُ مِنَ السُّنَنِ وَالْآثَارِ وَقَوْلِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَا يُسْتَوْحَشُ مِنْ ذِكْرِهِمْ مَا إِذَا سَمِعَهَا مَنْ لَهُ عِلْمٌ وَعَقْلٌ، زَادَهُ عِلْمًا وَفَهْمًا»، فالقرآنُ هُدًى وشِفَاءٌ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس :57] .
قوله: «وَإِذَا سَمِعَهَا مَنْ فِي قَلْبِهِ زَيْغٌ، فَإِنْ أَرَادَ اللهُ هِدَايَتَهُ إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ رَجَعَ عَنْ مَذْهَبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ فَالْبَلَاءُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ». أي: لا يَزْدَادُ إلا شَرًّا وبَلَاءً كما قال الله -تعالى-: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا [المائدة :64] والعِياذُ باللهِ.
والظَّالمونَ لا يَزِيدُهُمْ القرآن كما قال الله وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الأسراء :82].
والْيَهُودُ لا يَزْدَادُونَ بالقرآنِ إلَّا طُغْيَانًا وكُفْرًا قال -تعالى-: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ، هذا القرآنُ الذِي هُوَ هُدًى وشِفَاءٌ، هؤلاءِ الكُفَّارُ يَزْدَادُونَ به طُغْيانًا وكُفْرًا، نسألُ اللهَ السلَامَةَ والعَافِيَةَ؛ أعوذُ بالله من زَيْغِ القُلُوبِ.
وقد يقول قائل: ما هو الشيء الذِّي يَتَرَتَّبُ على من قال: إنه القرآن مخلوق؟
فنقول: الَّذِي يَتَرَتَّبُ عليه أنَّه أنْكَرَ صِفَةً من صفات الله، وقال: إنَّ صِفَةَ اللهِ مَخْلُوقَةٌ. وهذا أمر عظيم، الله -تعالى- بِذَاتِهِ وأَسْمَائِهِ وصِفَاتِهِ هُو الخالِقُ؛ كَيْفَ يَجْعَلُ صِفَةَ الرَّبِّ مَخْلُوقَةً؟! المخلوقُ فَانٍ، ولَهُ أَوَّلُ ولَهُ بِدَايَةٌ، والله -تعالى- هو الأَوَّلُ الذي ليسَ قَبْلَهُ شَيءٌ، وهو الآخِرُ الذِي ليسَ بَعْدَهُ شيءٌ في ذَاتِهِ ولا في صِفَاتِهِ، فكيفَ يقال: إنَّ كلَامَهُ مَخْلُوقٌ؟ يُجْعَلُ جُزْءًا من المَخْلُوقَاتِ؟ ولهَذَا كَفَّرَ العُلْمَاءُ من قال: إن كلامَ اللهِ مَخْلُوقٌ.
المتن:
الشرح:
هَذَا الحديثُ رَوَاهُ عَن ابنِ عَبَّاسٍ لِيَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى أنَّ كَلَامَ اللهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ: الْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ وَحَمَلَتُهُمَا وَمَا دُونَهُمَا مِنَ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ إِلَى تُخُومِ الْأَرْضِينَ السَّابِعَةِ. كُلُّ هَذَا مخلوقٌ، والقُرْآنُ كَلَامُهُ صِفَةٌ من صِفَاتِهِ.
هذَا الحَدِيثُ في صِحَّتِهِ نَظَرٌ، الحِديثُ رَوَاهُ السُّيُوطِيُّ في (اللآلِئ المَصْنُوعَة) مِنْ طَرِيق محمد بن عبد الصمد الخُزَالِي؛ قال: حَدَّثَنَا أبو دَاوُدَ عن سُفْيانَ الثَّوْرِيِّ، قال: أنبَأنِي مَعْمَرٌ، عن هِلَالٍ الوزَّان، عن يزيدَ بنِ حسَّان، عن مُعَاذِ بن جَبَلٍ قال: قال النَّبِيُّ ﷺ... ثم قال السُّيُوطِيُّ: أبو دَاودَ هو: النَّخَعِيُّ، أجمعوا على أنه كَذَّابٌ يَضَعُ الحَدِيثَ.
وقد نَقَلَ ابْنُ حَجَرٍ فِيهِ عَدَدًا كَبِيرًا مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ العِلْمِ في تَكْذِيبِهِ ثم قال: كَذَّاب مَعْرُوف بِالْوَضْعِ، كذبه وَنسبه إِلَى الْوَضع فَوق ثَلَاثِينَ نفسا ([24]).
لكنْ في إسنادِ المؤلِّفِ هُنَا نَصَّ على أنَّهُ أبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، وليسَ أبا دَاودَ الكَذَّاب هَذَا، وليس أبا دَاودَ النَّخَعِيَّ، وإنما قال: الطيالسي. قال: «حَدَّثَنِي أبو دَاودَ الطَّيَالِسِيُّ».
واخْتُلِفَ في الصحابي:
فعِنْدَ السُّيُوطِيِّ أنه: مُعَاذٌ .
وعند ابن البنَّا: ابن عباس، وذَكَرَ الإسنادَ عِنْدَ الدَيْلَمِيِّ، ويلتقي مع إسناد السيوطي في سفيان الثوري.
عَلَى كُلِّ حالٍ، المؤلف-رحمه الله- أَرَادَ أنْ يُبَيِّنَ أنَّ المخلوقاتِ كُلَّهَا أَعْلَاهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَأَسْفَلُهَا الأرضُ السَّابِعَةُ السُّفْلَى؛ كُلُّهَا مَخْلُوقَةٌ إلا القُرْآنَ، لكن هذا مَعْلُومٌ من النُّصُوصِ.
لَا حَاجَةَ إلى هذا الحدِيثِ الذي هُوَ مُتَكَلَّمٌ في سَنَدِهِ، وفي مَتْنِهِ هذه النَكَارَةُ، يكفِي الأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، والنُّصُوصُ الواضِحَةُ، والآياتُ القرآنِيَّةُ الكَرِيمَةُ؛ تكفي في الدَّلَالَةِ على أنَّ كلامَ اللهِ مُنَزَّلٌ وغيرُ مَخْلُوقٍ.
ولكِنْ عُذْرُ المؤلِّفُ -رحمه الله- في هَذَا أَنَّهُ يريدُ أن يَذْكُرَ كُلَّ ما وَرَدَ في البابِ، ويُبَيِّنَ أيضًا الآياتِ، والأَحَادِيثَ الصحيحةَ، وأَيْضًا كذلك الأَحَادِيثَ الَّتِي في سَنَدِهَا بعضُ الشيءِ، وكذلك الآثَارَ كلها من باب الاسْتِئْنَاسِ، ومن باب تَضَافُرِ الأَدِلَّةِ وتَنَاصُرِهَا.
............................................
الحواشي:
([1]) أخرجه أبو داود:كتاب السنة ،بَابٌ فِي لُزُومِ السُّنَّةِ ، رقم (4605)، والترمذي: أبواب العلم ، بَابُ مَا نُهِيَ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ عِنْدَ حَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ، رقم (2663) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه: المقدمة ، بَابُ تَعْظِيمِ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَالتَّغْلِيظِ عَلَى مَنْ عَارَضَهُ ، رقم (13)، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي .
([2]) تقدم تخريجه.
([3]) أخرجه الدارمي: كتاب المقدمة، باب من هاب الفتيا وكره التنطع والتبدع، رقم (145).
([4])أخرجه ابن عبد البر في التمهيد (1/151) .
([5]) أخرجه الترمذي: تفسير القرآن ، بَابٌ: وَمِنْ سُورَةِ الزُّخْرُفِ ، رقم (3253) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه : المقدمة ، بَابُ اجْتِنَابِ الْبِدَعِ وَالْجَدَلِ ، رقم (48)، وقال الحاكم: صحيح الإسناد.
([6]) أخرجه الدارمي في سننه: المقدمة ، بَابُ اجْتِنَابِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَالْبِدَعِ، وَالْخُصُومَةِ، رقم (405)
([7]) انظر: الشريعة للآجري (1/435/114) .
([8]) انظر: الشريعة للآجري :(1/453/143) .
([9]) أخرجه ابن بطة في الإبانة :(2/475/491) ، وابن وضاح في البدع (2/98/120) .
([10]) أخرجه الدارمي في سننه :المقدمة ، بَابُ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ ، رقم (100)
([11]) أخرجه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله : وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ [الحاقة: 6] ، رقم (3344)، ومسلم: كتاب الزكاة، رقم (1064).
([12]) تقدم تخريجه.
([13]) تقدم تخريجه.
([14]) أخرجه أبو داود: كتاب السنة ، بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْجِدَالِ فِي الْقُرْآنِ ، رقم (4603) ، وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ووَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ .
([15]) انظر: الشريعة للآجري :(1/470/145) .
([16]) تقدم تخريجه.
([17]) انظر: جامع بيانِ العِلْمِ وفَضْلِهِ (2/928) .
([18]) أخرجه البخاري: كتاب الخصومات، باب كلام الخصوم بعضهم في بعض، رقم (2287)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف، رقم (818).
([19]) انظر: تأويل مشكل القرآن (ص 30).
([20]) أخرجه البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن، رقم (4987).
([21]) أخرجه البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب نزل القرآن بلسان قريش والعرب، رقم (3506).
([22]) انظر: الشريعة للآجري :(1/490) .
([23])أخرجه السيوطي في اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة : كتاب التوحيد (1/15) .
([24]) انظر: لسان الميزان(3/99).