المتن:
الشرح:
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: «سَمِعْتُ أَحْمَدَ، وَذَكَرَ رَجُلَيْنِ كَانَا وَقَفَا فِي الْقُرْآنِ ودَعَيَا إِلَيْهِ». معنَى وَقَفَا: تَوَقَّفَا؛ فَلَمْ يَقُولَا: إنَّهُ مَخْلُوقٌ ولا غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ سَكَتَا، «فجَعَلَ يَدْعُو علَيْهِمَا». الإمامُ أحمدُ -رحمه الله- جَعَلَ يَدْعُو عَلَيْهِمَا، وقال: «هَؤُلَاءِ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ». وَجَعَلَ يَذْكُرُهُمَا بِالْمَكْرُوهِ.
المتن:
الشرح:
قَالَ أَبُو دَاوُدَ: «وَرَأَيْتُ أَحْمَدَ سَلَّمَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ، مِمَّنْ وَقَّفَ فِيمَا بَلَغَنِي».
«مِمَّنْ وَقَّفَ». يعْنِي: مِمَّنْ تَوَقَّفَ في القرآنِ، تَوَقَّفَ فلا يَقُولُ: مخلوقٌ ولا غَيْرُ مَخْلُوقٍ.
«فَقَالَ: اغْرُبْ، لَا أَرَاكَ». يعنِي: ابتعد عَنِّي. «اغْرُبْ»: اذْهَبْ بَعِيدًا؛ كما أن المُغْتَرِبَ يَبْتَعِدُ عن أهْلِهِ.
«لَا أَرَاكَ تَجِيءُ إِلَى بَابِي، فِي كَلَامٍ غَلِيظٍ». أَغْلَظَ عَلَيْهِ لأنَّهُ مُبْتَدِعٌ، ولم يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ، يَدُلُّ على أنَّ أهلَ البِدَعِ لا يُرَدُّ عَلَيْهِم السَّلَامُ، ويُغْلَظُ عَلَيْهِمْ، ويُهْجَرُونَ.
ثُمَّ قَالَ لَهُ: «مَا أَحْوَجَكَ أَنْ يُصْنَعَ بِكَ مَا صَنَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِصُبَيْغٍ وَدَخَلَ بَيْتَهُ وَرَدَّ الْبَابَ». يَعْنِي: تُضْرَبُ بالدِّرَر([3]) والنِّعَالِ حَتَّى يَخْرُجَ الدَّمُّ من رَأْسِكَ؛ حتَّى تَزُولَ الشُّبْهَةُ من رَأْسِكَ.
صُبَيْغٌ([4]) كانَ في زَمَنِ عمرَ بنِ الخَطَّابِ يُثِيرُ الأشياءَ المتَشَابِهَةَ من القرآنِ ومنْ غَيْرِهِ، سَمِعَ به عُمر فَأَعَدَّ لَهُ عَرَاجِينَ النَّخْلِ فلما جَاءَ قال: مَا أَنْتَ؟ قالَ: أَنَا عَبْدُ اللهِ صُبَيْغٌ؛ فجَعَلَ يَضْرِبُهُ بالعَرَاجِينِ حتَّى فَارَ الدَّمُ من رَأْسِهِ. فقال: يا أَمِيرَ المؤمِنِينَ، والله ذَهَبَ مَا في رَأْسِي من الشُّبْهَةِ، ثُمَّ غَرَّبَهُ إلى الكُوفَةِ أَوْ إلى البَصْرَةِ. وقال لِلْوَالِي: لا يُكَلَّمْ أَحَدًا؛ فَلَمْ يُكَلِّمْهُ أَحَدٌ، هُجِرَ حَتَّى تَابَ.
المتن:
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: سَمِعْتُ إِسْحَاقَ بْنَ رَاهَوَيْهِ يَقُولُ: «مَنْ قَالَ: لَا أَقُولُ الْقُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَهُوَ جَهْمِيٌّ».
وَسَمِعْتُ قُتَيْبَةَ بْنَ سَعِيدٍ قَالَ: «هَؤُلَاءِ الْوَاقِفَةُ شَرٌّ مِمَّنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ»([5]).
الشرح:
هَذَا الأَثَرُ رَوَاهُ الآجُرِّيُّ في (الشَّرِيعَةِ)، وهذا الأَثَرُ- عنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ.
إسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ إمامٌ من أهلِ الحَدِيثِ مِثْلُ الإمامِ أحمدَ يقول: «مَنْ قَالَ: لَا أَقُولُ الْقُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَهُوَ جَهْمِيٌّ». مِنَ الجَهْمِيَّةِ، والجَهْمِيَّةُ كَفَّرَهُمُ السَّلَفُ، كَفَّرَهُمْ خَمْسُمِائَةِ عالم، فالذي لا يقولُ: القرآنُ غيرُ مخلوقٍ، جَهْمِيٌّ يَجِبُ عَلَيْهِ أن يقولَ: القُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٌ، بل هُوَ كلامُ الله مُنَزَّلٌ غيرُ مَخْلُوقٍ.
قَالَ: «وَسَمِعْتُ قُتَيْبَةَ بْنَ سَعِيدٍ قَالَ: «هَؤُلَاءِ الْوَاقِفَةُ شَرٌّ مِمَّنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ».
والوَاقِفَةُ الذينَ يَتَوَقَّفُونَ ويَشُكُّونَ فلا يقولون: مَخْلُوقٌ ولا غَيْرُ مَخْلُوقٍ. «شَرٌّ مِمَّنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ». لأَنَّهُمْ يَشُكُّونَ في دِينِهِمْ، أولئك تَكَلَّمُوا بالبِدْعَةِ، وهؤلاء شَكُّوا، والشَّاكُّ في دِينِهِ كَافِرٌ، فَمَنْ شَكَّ في القِيامَةِ، أو شَكَّ في البَعْثِ، أو شَكَّ في الجَزَاءِ، أو في الجَنَّةِ، أو في النار كافر، وكذلك الشَّاكُّ والجَهْمِيُّ كُلٌّ مِنْهُمَا كَافِرٌ.
المتن:
الشرح:
هَذَا تَصْرِيحٌ مِنْ أَحْمَدَ بنِ صَالحٍ: «الْوَاقِفُ شَاكٌّ». الوَاقِفُ الذِي يَتَوَقَّفُ لَا يَقُولُ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ ولَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ شَاكٌّ، «والشَّاكُّ كَافِرٌ».
وهَذَا رَوَاهُ الآجُرِّيُّ في (الشَّرِيعَةِ)، ولَفْظُهُ فيه: قَالَ أَبُو دَاوُدَ: «وَسَأَلْتُ أَحْمَدَ بْنَ صَالِحٍ: عَمَّنْ قَالَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ الله، وَلَا يَقُولُ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَلَا مَخْلُوقٍ؟ فَقَالَ: هَذَا شَاكٌّ، وَالشَّاكُّ كَافِرٌ». وهُوَ في مَسَائلِ أبي دَاودَ، وليس فيه قوله: «والشَّاكُّ كَافِرٌ».
المتن:
الشرح:
هذا رواه الآجُرِّيُّ في (الشَّرِيعَةِ)، وتَتِمَّتُهُ كما في (الشَّرِيعَةِ): «وَكَيْفَ يَعْرِفُ هُوَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ عَلَيْهِ؟ فَإِذَا لَمْ تُسَلِّمْ عَلَيْهِ عَرَفَ الذُّلَّ، وَعَرَفَ أَنَّكَ أَنْكَرْتَ عَلَيْهِ، وَعَرَفَهُ النَّاسُ»([8]).
هذا الأَثَرُ عن الإمامِ أحمدَ: «سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله». -هُوَ الإِمَامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ -رحمه الله- «عَمَّنْ أَمْسَكَ فَقَالَ: لَا أَقُولُ: لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ». يَتَوَقَّفُ: «إِذَا لَقِيَنِي فِي الطَّرِيقِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، أُسَلِّمُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: لَا تُسَلِّمْ عَلَيْهِ؟ وَلَا تُكَلِّمْهُ». يُرِيدُ هَجْرَهُ؛ يُرِيدُ هَجْرَهُمْ؛ فَلَا يُسَلَّمُ عَلَيْهِمْ، ولَا يُكَلَّمُونَ، ولا تُجَابُ دَعْوَتُهُمْ؛ حَتَّى يَتُوبُوا.
قال: «لَا تُسَلِّمْ عَلَيْهِ؟ وَلَا تُكَلِّمْهُ، كَيْفَ يَعْرِفُهُ النَّاسُ إِذَا سَلَّمْتَ عَلَيْهِ؟!». إذا سَلَّمْتَ عَلَيْهِ لا يَعْرِفُ النَّاسُ أنَّهُ مُبْتَدِعٌ، لكن إذَا هَجَرْتَهُ عُرِفَ أَنَّهُ مُبْتَدِعٌ فاجْتَنِبُوهُ. ولَا سِيَّمَا أهل العلم وأهل البصيرة.
المتن:
الشرح:
هَذَا نَقْلٌ عن محمدِ بنِ الحُسَيْنِ الآجُرِّيِّ؛ نَصِيحَةٌ لِلنَّاسِ، يقول: «احْذَرُوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ لَفْظَهُمْ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ». يَعْنِي: هُمْ مُبْتَدِعَةٌ؛ احَذَرُوهُمْ، وابْتَعِدُوا عَنْهُمْ وعَنْ مَقَالَتِهِمْ.
«وَهَذَا عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ مُنْكَرٌ عَظِيمٌ». وهُوَ إِمَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ. أي: الذِي يقول: لَفْظِي بالقُرْآنِ مَخْلُوقٌ.
«وَقَائِلُهُ مُبْتَدِعٌ، يُجْتَنَبُ، وَلَا يُكَلَّمُ، وَلَا يُجَالَسُ». لأَنَّ أَهْلَ البِدَعِ يُهْجَرُونَ، وهذا مُبْتَدِعٌ. يقول: لَفْظِي بالقُرآنِ مَخْلُوقٌ.
القُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، التَّخْصِيصُ بِدْعَةٌ فيه مَوَافَقَةٌ لِقَوْلِ الجَهْمِ، مَعْلُومٌ أنَّ الإنسانَ مَخْلُوقٌ صِفَاتُهُ وأَفْعَالُهُ، ومن ذَلِكَ كَلَامُهُ، لكن لا تُخَصِّصْ، لا تَقُلْ: لَفْظِي بالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ. ولأنَّ اللَّفْظَ قَدْ يُرَادُ بِهِ المَلْفُوظُ، فالمَلْفُوظُ هُوَ القُرْآنُ.
ولهذا قال مُحَمَّدُ بْنُ الحُسَيْنِ الآجُرِّيُّ: «وَهَذَا عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ مُنْكَرٌ عَظِيمٌ، وَقَائِلُهُ مُبْتَدِعٌ، يُجْتَنَبُ، وَلَا يُكَلَّمُ، وَلَا يُجَالَسُ، وَيُحَذَّرُ مِنْهُ النَّاسُ. لَا يَعْرِفُ الْعُلَمَاءُ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ، وَهُوَ: أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ الله غَيْرُ مَخْلُوقٍ». هَذَا قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ، وكلامُ الله مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، مِنْهُ بِدَأَ وإِلَيْهِ يَعُودُ.
ثُمَّ قَالَ: «وَمَنْ قَالَ: مَخْلُوقٌ، فَقَدْ كَفَرَ». هَذِهِ مَقَالَةُ الأَئِمَّةِ، مَنْ قَالَ: إنَّ القُرْآنَ مَخْلُوقٌ، فَقَدْ كَفَرَ.
«ومَنْ وَقَفَ». تَوَقَّفَ يَعْنِي: لا يقولُ: مخلوق ولا غير مخلوق.
«فهو جهمي». والجَهْمِيُّ كَافِرٌ، الجَهْمِيَّةُ هُمْ الذِينَ أَنْكَرُوا أسماءَ الله وَصِفَاتِهِ؛ ومَعْلُومٌ أن إِنْكَارَ الأسماءِ والصفاتِ يُنْتِجُ العَدَمَ.
ذَاتٌ ليسَ لهَا اسْمٌ، ولا صِفَةٌ لا وُجُودَ لهَا؛ فالجَهْمِيَّةُ يُنْكِرُونَ أسماءَ الله وصِفَاتِهِ يقولون: لا يكونُ سَمِيعًا، ولا بَصِيرًا، ولا عَلِيمًا، ولا قَدِيرًا، ولا فَوْقَ، ولا تَحْتَ، ولا يَمِينَ، ولا شِمَالَ، وليس له كَلَامٌ، ولا سَمْعٌ، ولا بَصَرٌ، ولا فَوْقَ العَالَمِ، ولا تَحْتَ العَالمِ، ولا مُبَايِنٌ للعَالَمِ، ولا مُحِيطٌ لَهُ؟ هذا العَدَمُ والعِيَاذُ بالله، لا نقول به.
ولهَذَا كَفَّرَ العلماءُ الجَهْمِيَّةَ، وأَلَّفَ الإمامُ أحمد -رحمه الله- رِسَالَتَهُ المعروفة في (الرَّدِّ على الزَّنَادِقَةِ)، ولهذا قال: من قال: مَخْلُوقٌ فَهُو كَافِرٌ، ومَنْ تَوَقَّفَ فَهُو جَهْمِيٌّ، ومن قال: «لَفْظِي بالقُرْآنِ مخلوقٌ فَهُو جَهْمِيٌّ».
ثم قال: «وَمَنْ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَأهُ النَّاسُ، وَهُوَ فِي الْمَصَاحِفِ حِكَايَةٌ لِمَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. فَهَذَا قَوْلٌ مُنْكَرٌ، يُنْكِرُهُ الْعُلَمَاءُ». هَذَا قَوْلُ الكُلَّابِيَّةِ، أن القرآن حِكَايَةٌ عَنْ كَلَامِ الله.
والأشاعرةُ يقولونَ: عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ الله لأنَّهُمْ يقولون: كلامُ الله المَعْنَى القَائِمُ بِنَفْسِهِ لا يُسْمَعُ، وليس بَحَرْفٍ، ولا صَوْتٍ.
والكُلَّابِيَّةُ يقولون: حِكَايَةٌ عَنْ كَلَامِ الله.
واتَّفَقُوا -الأشاعرة والكلابية- على أنَّ مَا في المُصْحَفِ ليسَ كَلَامَ الله، وإنما كَلَامُ اللهُ هو المَعْنَى القَائِمُ بِنَفْسِهِ لا يُسْمَعُ مِثْلُ العِلْمِ، كما أنَّ العِلْمَ لا يُسْمَعُ فالقُرْآنُ لا يُسْمَعُ، فالكَلَامُ لا يُسْمَعُ.
لهذا قال: «وَمَنْ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَأُهُ النَّاسُ، وَهُوَ فِي الْمَصَاحِفِ حِكَايَةٌ لِمَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. فَهَذَا قَوْلٌ مُنْكَرٌ، يُنْكِرُهُ الْعُلَمَاءُ». ثم أرادَ المُؤَلِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- أن يناقِشَ قَائِلَ هَذِهِ المقَالَةِ الَّذِي يقول: «إنَّ مَا فِي الْمَصَاحِفِ حِكَايَةٌ لِمَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ».
المتن:
«يُقَالُ لِقَائِلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ: الْقُرْآنُ يُكَذِّبُكَ، وَيَرُدُّ قَوْلَكَ، وَالسُّنَّةُ تُكَذِّبُكَ، وَتَرُدُّ قَوْلَكَ، قَالَ اللهُ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [التوبة :6]. فَأَخْبَرَنَا أَنَّهُ إِنَّمَا سَمِعَ النَّاسُ كَلَامَ الله، وَلَمْ يَقُلْ: حِكَايَةَ كَلَامِ الله، وَقَالَ -تَعَالَى-: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف :204]. فَأَخْبَرَ أَنَّ السَّامِعَ إِنَّمَا يَسْمَعُ الْقُرْآنَ، وَلَمْ يَقُلْ: حِكَايَةَ الْقُرْآنِ. وَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]. وَقَالَ: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الأحقاف:29]. وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ.
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي لَيْسَ فِي جَوْفِهِ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ، كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ. ([9]).
وَقَالَ: خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ. ([10]).
الشرح:
هَذِهِ مُنَاقَشَةُ المُؤَلِّفِ -رحمه الله- لمَنْ يقولُ: إنَّ القرآنَ حكايةٌ عن كلام الله، المنَاقِشُ رَدَّ عَلَيْهِ بالأَدِلَّةِ من الكِتَابِ والسُّنَّةِ، وبَيَّنَ وَجْهَ الدِّلَالَةِ، فقال: «يُقَالُ لِقَائِلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ». الذي يقولُ: إنَّ القُرْآنَ حِكَايةٌ عن كلام الله. «الْقُرْآنُ يُكَذِّبُكَ، وَيَرُدُّ قَوْلَكَ، وَالسُّنَّةُ تُكَذِّبُكَ، وَتَرُدُّ قَوْلَكَ».
ثُمَّ ذَكَرَ الأَدِلَّةَ:
الدَّلِيلُ الأَوَّلُ: قَالَ: «قَالَ اللهُ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [التوبة :6].
وَجْهُ الدَّلَالَةِ: قال: «فَأَخْبَرَنَا أَنَّهُ إِنَّمَا سَمِعَ النَّاسُ كَلَامَ الله، وَلَمْ يَقُلْ: حِكَايَةَ كَلَامِ الله». ما قال: فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ حِكَايَةَ كَلَامِ الله، فقال: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [التوبة :6]، وَدَلَّ على أنَّ المَسْمُوعَ كَلَامُ اللهِ ليسَ الحِكَايَةَ.
والدَّلِيلُ الثَّانِي: قَالَ: «وَقَالَ -تَعَالى-: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف :204]».
وَجْهُ الدَّلَالَةِ: قال: «فَأَخْبَرَ أَنَّ السَّامِعَ إِنَّمَا يَسْمَعُ الْقُرْآنَ، وَلَمْ يَقُلْ: حِكَايَةَ الْقُرْآنِ». قَالَ: فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا. يَعْنِي: لِلْقُرْآنِ، ولَمْ يَقُلْ: فَاسْتَمِعُوا لحِكَايَتِهِ.
الدَّلِيلُ الثَّالِثُ: وَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]». ولم يَقُلْ: إنَّ حِكَايَةَ الْقُرْآنِ يَهْدِي للَّتِي هي أَقْوَمُ.
والدَّلِيلُ الرابعُ: قال: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الأحقاف:29]». وَلم يَقُلْ: يَسْتَمِعُونَ حِكَايَةَ القُرْآنِ.
قال: «وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ».
ثُمَّ أَتَى بِالْأَدِلَّةِ من السُّنَّةِ:
الدَّلِيلُ الأَوَّلُ: وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي لَيْسَ فِي جَوْفِهِ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ، كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ. ([11]). وهَذَا رَواهُ الإمامُ أحمدُ، والتِّرْمِذِيُّ، والدَّارِمِيُّ، والحَاكِمُ، والبَغَوِيُّ في (شَرْحِ السُّنَّةِ) مِنْ طَرِيقِ أبِي يُوسُفَ بْنِ أبي رَبِيعَة، وفِيهِ لِينٌ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ. قال التَّرْمِذِيُّ: حسن صحيحٌ. وقال الحافظُ: صَحِيحُ الإِسْنَادِ وتعقبه... بقوله: قَابُوسُ لَيِّنُ الحَدِيثِ فيه ضَعْفٌ، ولكنْ لَهُ شَوَاهِدُ.
ووجه الدلالة: إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي لَيْسَ فِي جَوْفِهِ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ، كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ. وَلَمْ يَقُلْ: الَّذِي فِي جَوْفِهِ حِكَايَةُ القُرْآنِ.
والدَّلِيلُ الثَّانِي: وَقَالَ: خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ. ([12]). هَذَا الحَدِيثُ رَواهُ الإمامُ البُخَارِيُّ في (صَحِيحِهِ) من حَدِيثِ عُثمانَ بنِ عفَّان ، وهو حديث عَظِيمٌ، وفِيهِ بَيانُ فَضْلِ تَعَلُّمِ القُرْآنِ وتَعْلِيمِهِ، ولمَّا سَمِعَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ التَّابِعِيُّ([13]) هَذَا الحَدِيثَ جَعَلَ يُقْرِئُ النَّاسَ القُرآنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
وجه الدَّلَالَةِ أنه قالَ: خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ. ولم يَقُلْ: مَنْ تَعَلَّمَ حِكَايَةَ القُرْآنِ؛ فَدَلَّ على بُطْلَانِ قَوْلِ الكُلَّابِيَّةِ الذِينَ يقولون: إنَّ القُرْآنَ حِكَايَةٌ. وكَذَلِكَ بُطْلَانُ قولِ الأَشَاعِرَةِ الذِينَ يَقُولُونَ: عِبَارَةٌ.
المتن:
الشرح:
وَهَذَا الحَدِيثُ فِيهِ إِرْشَادٌ من النَّبِيِّ ﷺ لحُفَّاظِ القُرْآنِ أَنْ يُرَاجِعُوا حِفْظَهُ ولا يَتْرُكُوه، حَافِظُ القرآنِ يَجِبُ عَلَيْهِ أنْ يُرَاجِعَ ويُكَرِّرَ حَتَّى لا يَنْسَى.
مَثَلُ الْقُرْآنِ مَثَلُ الْإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ، إِنْ تَعَاهَدَهَا صَاحِبُهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا ذَهَبَتْ. الإبلُ معلومٌ أنَّهَا إذَا بَرَكَتْ تُرْبَطُ يَدُهَا بحَبْلٍ، فإذَا لم يَكُنْ عِنْدَهُ حَبْلٌ تَتَحَرَّكُ، ثم تَرْفَعُ رِجْلَهَا فيَنْفَلِتُ العِقَالُ، ثم تَتَفَلَّتْ، ثُمَّ تَمْشِي وتَتْبَعُهَا الأُخْرَى تَقْتَدِي بِهَا، وهكذا حتى تَتَفَلَّتْ كلُّ الإبلِ، أما إذَا كَانَ عِنْدَ صَاحِبَهَا عِقَالٌ ورَبَطَهَا بَقِيَتْ، كَذَلِكَ صَاحِبُ القُرْآنِ إن تَعَاهَدَهُ وصَارَ يُرَاجِعُ بَقِيَ القرآنُ، وإنْ أُهْمِلَ ضَاعَ، هذه نَصِيحَةٌ من النَّبِيِّ ﷺ.
والشَّاهِدُ قوله: مَثَلُ الْقُرْآنِ. ولم يَقُلْ: مِثْلُ حِكَايَةِ القُرْآنِ، أو عِبَارَةِ القُرْآنِ؛ فَدَلَّ على بطلانِ مَذْهَبِ الكُلَّابِيَّةِ والأشَاعِرَةِ.
المتن:
وَقَالَ ﷺ: لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ. ([15]).
وَقَالَ: فِي حَدِيثٍ آخَرَ: لَا تُسَافِرُوا بِالْمَصَاحِفِ إِلَى الْعَدُوِّ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَنَالُوهَا. ([16]).
الشرح:
هَذَا الحديثُ رَوَاهُ البُخَارِيُّ ومسلمٌ من حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ بلفظ: «نَهَى رَسُولُ الله ﷺ أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ»([17]). وفي حديث آخر: لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ ([18]). ورَوَاهُ بهذا اللفظ أحمدُ .
وهذا فِيه النَّهْيُّ عن السَّفَرِ بالمصَاحِفِ إلى العَدُوِّ، بيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ العِلَّةَ وهي: خَشْيَةَ أَنْ يَنَالُوهَا فَيُهِينُوا القرآنَ أو يُغَيِّرُوهُ.
لكنْ هَذَا المَحْظُورُ زالَ الآن، فالقُرْآنُ في بلادِ الكفَّارِ، بل إِنَّهُمْ يَفْتَتِحُونُ إذَاعَتَهُمْ بالقُرْآنِ، الآنَ لا مَحْظُورَ في هَذَا، ولكنَّهُ في السَابِقِ كَانَ الكُفَّارُ إذا وَصَلَ القرآنُ أو المصَاحِفُ إلى أيْدِيهِمْ حَرَّفُوهَا وأهَانُوهَا.
والشاهد: لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ. ولم يقل: لا تُسَافِرُوا بِحِكَايَةِ القُرآنِ، أو بعبارةِ القُرْآنِ.
المتن:
الشرح:
هَذَا الحَدِيثُ رواهُ البُخَارِيُّ -رحمه الله- من حديث أبي هُرَيْرَةَ ، قالَ الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ: هو مِنْ أَفْرَادِ البُخَارِيِّ، وهو مُسْلِمٍ، فالحديث مما اتفق عليه الشيخان .
وقوله: لَا حَسَدَ. يَعْنِي: لا غِبْطَةَ.
والحَسَدُ حَسَدَانِ:
الأَوَّلُ: حَسَدٌ مَذْمُومٌ: وهو أن تَتَمَنَّى أن تَزُولَ النِّعْمَةُ عن أَخِيكَ، ويَبْقَى فَاقِدًا لهَا، وهذا الحسدُ يَأْكُلُ الحَسَناتِ كما تأكل النَّارُ الحَطَبَ.
الثَّانِي: حَسَدُ الغِبْطَةِ: وهُوَ أنْ تَتَمَنَّى أن يكونَ لَكَ من النِّعْمَةِ مثل ما لأَخِيكِ من غَيْرِ زَوالِهَا.
إنْ تَمَنَّيْتَ زَوَالهَا عَنْهُ، فهذا حَسَدٌ مَذْمُومٌ يأكلُ الحسناتِ كما تَأْكُلُ النارُ الحطبَ قَالَ اللهُ: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق :5].
إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْقُرْآنَ، فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ. يَعْنِي: يَعْمَلُ بِهِ ويَقْرَأُهُ.
وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا، فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَآنَاءَ النَّهَارِ. هَذَانَ الصِّنْفَانِ مَحْسُودَانِ حَسَدَ غِبْطَةٍ.
والشَّاهِدُ قَوْلُهُ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْقُرْآنَ. ولمْ يَقُلْ آتَاهُ اللهُ عِبَارَةَ القُرْآنِ، أو حِكَايَةَ القرآنِ، دَلَّ على بُطْلَانِ مَذْهَبِ الأَشَاعِرَةِ والكُلَّابِيَّةِ.
المتن:
الشرح:
هَذَا الحَدِيثُ رَواهُ الدَّارِمِيُّ، وابنُ أبِي عَاصِمٍ في (السُّنَّةِ)، وابْنُ خُزَيْمَةَ في (كتاب التوحيد)، والبَيْهَقِيُّ في (الأَسْمَاءِ والصِّفَاتِ)، ورواهُ ابنُ الجَوْزِيِّ، وقال: إنه حديثٌ موضوعٌ مَكْذُوبٌ من طُرُقٍ عن إبراهيمَ بنِ مُنْذِرٍ، وعن طَريقِ حفصِ بن ذَكْوانَ.
وقال الحافظ ابن كثير في (تفسيره): هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَفِيهِ نَكَارَةٌ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُهَاجِرٍ وَشَيْخُهُ تُكلِّم فِيهِمَا ([21]).
قال الألْبَانِيُّ -رحمه الله- في (السلسلة الضعيفة): منكر.([22])
فالحَدِيثُ حَكَمَ عَلَيْه بَعْضُ العُلماءِ بأنَّهُ مَوْضُوعٌ منهم: ابْنُ الجَوْزِيِّ في كتابه (المَوْضُوعَاتِ)، فقَدْ قال بعد سِيَاقِهِ لَهُ: هَذَا حديثٌ مَوْضُوعٌ ([23]). فهو إما ضَعِيفٌ جِدًّا أو مَوْضُوعٌ.
وكان على المؤلف أنْ يُنَزِّهَ كِتَابَهُ عن مثلِ هَذَا الحَدِيثِ، وهو لم يَذْكُرِ الْسَّنَدَ لكنَّ المُحَدِّثِينَ الذِينَ خَرَّجُوهُ الدَّارِمِيَّ، وابْنَ أبيِ عَاصِمٍ، وابنَ خُزَيْمَةَ، واللَّالَكَائِيَّ كُلَّهُمْ ذَكَرُوهُ بالسَّنَدِ، ومن ذَكَرَ السَّنَدَ بَرِئَ من العُهْدَةِ؛ لأنَّ العُلَماءَ كَانُوا في مؤلَّفَاتِهِمْ يَذْكُرُونَ كُلَّ ما وَرَدَ في البابِ، ويذكُرونَ الأَسَانِيدَ وكانَ العُلَماءُ يَعْرِفُونَ الأَسَانِيدَ، ومن أسندَ فَقَدْ بَرِئَ من العُهْدَةِ.
لكن مع ذلك كَانَ الأَوْلَى أَلَّا يَذْكُرَ مِثْلَ هَذَا الحَدِيثِ المَوْضُوعِ أو الضَّعِيفِ جِدًّا، فلا حاجة إليه.
قال: إِنَّ الله -تَعَالَى- قَرَأَ طه، ويس قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ بِأَلْفِ عَامٍ، فَلَمَّا سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ الْقُرْآنَ. هذا الشاهِدُ في القرآنِ فَلَمْ يَقُلْ: لمَّا سَمِعَتِ المَلَائِكَةُ حكايةَ القرآن، أو عِبَارَةَ القرآن.
قَالُوا: طُوبَى لِأُمَّةٍ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ هَذَا، وَطُوبَى لِأَلْسُنٍ تَتَكَلَّمُ بِهَذَا، وَطُوبَى لِأَجْوَافٍ تَحْمِلُ هَذَا. على كُلِّ حَالٍ هَذَا الحَدِيثُ لا يُعْتَمَدُ عليه، ولا حَاجَةَ إليه.
المتن:
الشرح:
هذا الحديث في فضائلِ القُرْآنِ مَوْقُوفٌ على عبدِ الله بنِ مَسْعُودٍ، ولِلْحَدِيثِ طُرُقٌ أُخْرَى عن عبدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ جاءَ في حَدِيثٍ آخَرَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عن عبدِ الله بنِ مَسْعُودٍ أن النبي ﷺ قال: مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ الله فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ ﴿الم﴾ حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ ([25]). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ لا بَأْسَ بِهِ، فلَوْ أَتَى المُؤَلِّفُ بهذا كان أَوْلَى، وهو الشَّاهِدُ.
والشَّاهِدُ: «تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ». ولَمْ يَقُلْ: تَعَلَّمُوا حِكَايَةَ القُرْآنِ، وفي الحَدِيثِ الآخَرِ: مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ الله. ولم يقل: عِبَارَةً مِنْ كَلَامِ الله.
المتن:
الشرح:
هَذِهِ نَصِيحَةٌ للإمَامِ مُحَمَّدِ بنِ الحُسين الآجُرِّيِّ -رحمه الله- قال: «فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَّقُوا الله». تَقْوَى الله: هِي تَوْحِيدُهُ، وإِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ، وأدَاءُ الوَاجِبَاتِ، وتَرْكُ المُحَرَّمَاتِ، ينبغي للمُسْلِمِينَ أنْ يُوَحِّدُوا الله ويُخْلِصُوا لَهُ العِبَادَةَ، ويَقُومُوا بحقه وأَمْرِهِ، ويمْتَثِلُوا أَمْرَهُ، ويَجْتَنِبُوا نَهْيَهُ، ويَقِفُوا عِنْدَ حُدُودِهِ، ويَسْتَقِيمُوا على دِينِهِ حتى يَنْصُرَهُمُ اللهُ، ويُؤَيِّدَهُمْ ويُثِيبَهُمْ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ، ينبغي للمسلمين أن يَتَّقُوا الله ويَتَعَلَّمُوا القرآنَ أي: يَدْرُسُوهُ ويَحْفَظُوهُ.
«وَيَتَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ، وَيَتَعَلَّمُوا أَحْكَامَهُ». أَيْضًا ينبغي أن يَتَعَلَّمُوا القُرْآنَ، فيَتَعَلَّمُوا اللَّفْظَ، ويَدْرُسُوه ويَتَعَبَّدُوا لَهُ بِتَلَاوَتِهِ، ثُمَّ يَتَعَلَّمُوا أَحْكَامَهُ الحَلَّالَ والحَرَامَ؛ فيُحِلُّوا حَلَالَهُ ويُحَرِّمُوا حَرَامَهُ، ويَعْمَلُوا بمُحْكَمِهِ -المُحْكَمُ: الوَاضِحُ المَعْنَى- ويُؤْمِنُوا بمُتَشَابِهِهِ، ولا يُمَارُوا فِيهِ يَعْنِي: لا يُجَادِلُوا فِي القُرْآنِ، ويَعْلَمُوا أَنَّ كَلَامَ الله غَيْرُ مَخْلُوقٍ.
هَذَا وَاجِبٌ على المُسْلِمِينَ، فقَدْ صَدَقَ -رحمه الله- ونَصَحَ.
قال: «فَإِنْ عَارَضَكُمْ إِنْسَانٌ جَهْمِيٌّ فَقَالَ: مَخْلُوقٌ، أَوْ قَالَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ الله، وَوَقَفَ». تَوَقَّفَ لمْ يَقُلْ: مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرُ مَخْلُوقٌ.
«أَوْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ، أَوْ قَالَ: هَذَا الْقُرْآنُ حِكَايَةٌ لِمَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ». فَهَذَا مُبْتَدِعٌ.
أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مُبْتَدِعُونَ:
الذِي يقولُ: القرآنُ مَخْلُوقٌ، فَهَذَا مُبْتَدِعٌ.
والذي يقول: كلامُ الله، ويتَوَقَّفُ مُبْتَدِعٌ.
والذِي يَقُولُ: لَفْظِي بالقُرآنِ مخلوقٌ، مُبْتَدِعٌ.
والذي يقولُ: القرآنُ حِكَايَةٌ لِمَا في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، مُبْتَدِعٌ.
كُلُّ هَؤلاءِ الأَرْبَعَةِ الحُكْمُ أنْ يُهْجَرَوا ولَا يُكَلَّمَوا، ولَا يُصَلَّى خَلْفَهم، ويُحَذَّرَ مِنْهُم، يعني: يَجِبُ هَجْرُ أهْلِ البِدَعِ، وعَدَمُ الكَلَامِ مَعَهُمْ، وعَدَمُ الصَّلَاةِ خَلْفَهُمْ، والتَّحْذِيرُ مِنْهُمْ؛ فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ رَجَوْتُ لَهُ من الله كُلَّ خَيْرٍ.
المتن:
الشرح:
هَذِهِ الْقِصَّةُ رَوَاهَا اللَّالَكَائِيُّ في (شَرْحِ اعْتَقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ)، وهَذِهِ رُؤْيَا مَنَامٍ.
عَلِيُّ بْنُ المُوَفَّقِ كَانَ لَهُ جَارٌ مَجُوسِيٌّ، وكَانَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الإسلَامَ فيَأْبَى، فَلَمَّا ماتَ رَآهُ في النَّوْمِ، فَسَأَلَهُ عن حَالِهِ، وقال: إنَّهُ في قَعْرِ جَهَنَّمَ. نَعُوذُ بالله فَسَأَلَهُ: «هَلْ تَحْتَكُمْ أَحَدٌ». تَحْتَ القَعْرِ لأنَّ النَّارَ دَرَكَاتٌ، كُلُّ دَرَكَةٍ سُفْلَى أَشَدُّ عَذَابًا مِنَ الَّتِي فَوْقَهَا، والجَنَّةُ دَرَجَاتٌ كُلُّ دَرَجَةٍ عُلْيَا أَعْلَى نَعِيمًا مِنَ التي تَحْتَهَا.
قال: هل تَحْتَكُمْ أَشَدُّ مِنْكُمْ عَذَابًا أيُّهَا المَجُوسُ. قال: «نَعَمْ، قَوْمٌ منكم». يعني: يا أَهْلَ الإِسْلَامِ. قال: «قلت: مِنْ أَيِّ الطَّوَائِفِ؟». قَالَ الَّذِي يَقُولُ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ.
عَلَى كُلِّ حَالٍ هَذِهِ قِصَّةٌ والله أعلم بِصِحَّتِهَا، ولَا حَاجَةَ إِلَيْهَا؛ الأَدِلَّةُ والآثَارُ عنِ السَّلَفِ كَافِيَةٌ في هَذَا، ولكن هذا من باب الاسْتِئْنَاسِ بها.
المتن:
الشرح:
هَذِهِ القِصَّةُ رَوَاهَا ابنُ بَطَّةَ في (الإبانة)، وفِيهَا أنَّ أَبَا العَوَّامِ قال: «كانَ لَهُ جَارٌ فافْتَقَرَ». وَاحْتَاجَ إلَى أنْ يَبِيعَ مَنْزِلَهُ ونزلَ في أَسْفَلَ، وقال: «أَنَا مُتَحَوِّلٌ». فَوَجَدَهُمْ أَيْضًا يَقُولُونَ: نَحْنُ أَيْضًا نُرِيدُ أنْ نَتَحَوَّلَ نَنْتَقِلَ، فَقَالَ: أنَا عُذْرِي أَنِّي فَقِيرٌ، فأَنْتَمُ مَا لَكُمْ؟ قالوا: اشْتَرَى الدَّارَ الَّتِي بِعْتَهَا رَجُلٌ يَقُولُ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ. وَنَحْنُ لَا نُسَاكِنُهُ، فَلِذَلِكَ انْتَقَلْنَا عَنْهَا.
هَذَا فِيهِ بَيَانُ أَنَّ أَهْلَ الحَقِّ يَبْتَعِدُونَ عَنْ أَهْلِ البِدَعِ، ولا يُسَاكِنُونَهُمْ.
وعَلَى كُلِّ حَالٍ هَذِهِ قِصَّةٌ من بابِ الاسْتِئْنَاسِ، ولَيْسَتْ حَدِيثًا ولا أَثَرًا.
المتن:
الشرح:
هَذِهِ الْقِصَّةُ فِيهَا أنَّ مُحَمَّدَ بْنَ المُثَنَّى أَخْبَرَ: أنَّ لَهُ صَدِيقًا منْ أَهْلِ القُرْآنِ نَاظَرَهُ رَجُلٌ في خَلْقِ القُرْآنِ، فَقَالَ لَهُ صَدِيقُهُ: إنْ لَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ مَخْلُوقًا فَمَحَاهُ اللهُ مِنْ صَدْرِي. فَعُوقِبَ ومَحَا اللهُ القُرْآنَ مِنْ صَدْرِهِ. فَبَلَغَه الخبر فَلَمْ يُصَدِّقْ حَتَّى مَضَى إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ، فَقَالَ: أَمَا تَقْرَأُ القُرْآنَ؟ قَالَ: لَا، قد مَحَاهُ اللهُ مِنْ صَدْرِي إلَّا فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وأَيْضًا لَا يَحْفَظِهُا إِلَّا إِذَا تُلَيَتْ فِي حَضْرَتِهِ - نَسْأَلُ الله السَّلَامَةَ والعَافِيَةَ - .
والقِصَّةُ رواهَا الآجُرِّيُّ في (الشريعة) فقال:
حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْعَبَّاسِ الطَّيَالِسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا بُنْدَارٌ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: «كُنَّا نَقْرَأُ عَلَى شَيْخٍ ضَرِيرٍ بِالْبَصْرَةِ، فَلَمَّا أَحْدَثُوا بِبَغْدَادَ الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ قَالَ الشَّيْخُ: إِنْ لَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ مَخْلُوقًا، فَمَحَا اللهُ الْقُرْآنَ مِنْ صَدْرِي. قَالَ: فَلَمَّا سَمِعْنَا هَذَا مِنْ قَوْلِهِ تَرَكْنَاهُ وَانْصَرَفْنَا عَنْهُ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ مُدَّةٍ لَقِينَاهُ، فَقُلْنَا: يَا فُلَانُ مَا فَعَلَ الْقُرْآنُ؟ قَالَ: مَا بَقِيَ فِي صَدْرِي مِنْهُ شَيْءٌ، قُلْنَا: وَلَا قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص :1]، قَالَ: وَلَا وَلَا قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص :1]. إِلَّا أَنْ أَسْمَعَهَا مِنْ غَيْرِي يَقْرَأُهَا».
وعلى كُلِّ حَال، فاللهُ أَعْلَمُ بِصِحَّة هذه القصة، ولكنْ تورد من بابِ الاسْتِئْنَاسِ.
المتن:
42- أَخْبَرَنِي هِلَالُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَفَّارُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْقَاضِي، قال: حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ رَشِيقٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَبَّانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي بَعْضُ إِخْوَانِنَا، قَالَ: كُنْتُ فِي مَسْجَدِ الْأَقْدَامِ وَإِلَى جَانِبِي إِنْسَانٌ، فَأَنِسْتُ بِهِ وَأَنِسَ بِي فَتَحَدَّثْنَا فَقَالَ لِي: أَلَّا أُحَدِّثُكَ بِعَجَبٍ، قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: كُنْتُ بِالْمَوْصِلِ وإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ شَابٍّ قَاعِدٍ لَيْسَ فِي فَمِهِ سِنٌّ ولا ضِرْسٌ، فَعَجِبْتُ مِنْ ذَلِكَ، فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ: لَمْ يَأْتِ عَلَيْكَ مِنَ السِّنِّ مَا يُذْهِبُ أَسْنَانَكَ وَأَضْرَاسَكَ فَحَدِّثْنِي بِشَأْنِكَ.
فَقَالَ: كَانَتْ لِي قِصَّةٌ عَجِيبَةٌ، كُنْتُ أَنَا وَأَبِي مِمَّنْ يَقُولُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَنَاظَرْتُ أَبِي لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي، فَلَمْ نَزَلْ نَتَنَاظَرُ وَنَتَجَادَلُ حَتَّى اتَّفَقْنَا جَمِيعًا عَلَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ، ثُمَّ قَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا إِلَى فِرَاشِهِ فَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذ رَأَيْتُ كَأَنَّهُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَأَنَا رَائِحٌ إِلَى الْجُمْعَةِ حَتَّى أَتَيْتُ بَابَ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، فَإِذَا عَلَيْهِ رَجُلٌ فَطَرَدَنِي عَنِ الدُّخُولِ وَطَرَدَ غَيْرِي، وَلَمْ يَتْرُكْنَا نَدْخُلُ فَقُلْتُ لِرَجُلٍ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَلَمْ أَزَلْ أَتَحَيَّنُ غَفْلَتَهُ حَتَّى وَجَدْتُهَا فَظَفَرْتُ فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَقَامَ إِلَيَّ رَجُلَانِ فَأَخَذَا بِضَبْعَيَّ ثُمّ سَاقَانِي إِلَى الْمَقْصُورَةِ فَأَدْخَلَانِي عَلَى رَجُلٍ قَاعِدٍ فِيهَا كَأَنَّهُ الْبَدْرُ حُسْنًا وَجَمَالًا، وَعَنْ يَمِينِهِ شَيْخٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ شَيْخٌ، فَإِذَا هُوَ النَّبِيُّ ﷺ وَالشَّيْخَانِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ.
فَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ ﷺ: أَنْتَ –وَيْلَكَ- الَّذِي تَقُولُ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ. فَرُعْتُ فَلَمْ أَجِدْ جَوَابًا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: قُمْ يَا عُمَرُ فَجُأَّ فَكَّهُ، فَقَامَ إِلَيَّ عُمَرُ فَضَرَبَ فِي فَمِي بِيَدِهِ، فَمَا بَقِيَ فِي فَمِي سِنٌّ وَلَا ضَرْسٌ إِلَّا سَقَطَ فِي فِرَاشِي، فَانْتَبَهْتُ وَأَنَا غَرِيقٌ بِالدِّمَاءِ فَصِحْتُ صَيْحَةً هَائِلَةً، فَقَامَ أَبِي وَأَهْلُ بَيْتِي فَزِعِينَ مِنْ صَيْحَتِي مُبَادِرِينَ إِلَيَّ، فَقُلْتُ لِأَبِي: بَقِيَ شَيْءٌ؟ هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَفَعَلَهُ بِي، فَأَنَا تَائِبٌ إِلَى الله وَإِلَى رَسُولِهِ مِمَّا كُنْتُ قُلْتُهُ، فَقَالَ أَبِي مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَتُبْ مِنْ أَهْلِ الْمَوْصِلِ مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرَ أَبِي، فَهَذَا مَا كَانَ مِنْ خَبَرِ سُقُوطِ أَسْنَانِي وَأَضْرَاسِي.
الشرح:
هَذِهِ القِصَّةُ رُؤْيَا مَنَامِيَّة، فيها أنَّ هَذَا الرَّجُلَ وَأَباهُ كَانَا يَقُولَانِ بِخَلْقِ القُرْآنِ ويَتَجَادَلَانِ، ثُمَّ حَصَلَتْ لهُمْ هَذِهِ الرُّؤْيَا، وأنَّهُ رَأَى أنَّهُ أُدْخِلَ على النَّبِيِّ ﷺ، وأنَّهُ أَمَرَ عُمَرَ بأنْ يَضْرِبَهُ فَضَرَبَ فَكَّهُ فَتَسَاقَطَتْ أَضْرَاسُهُ، وانْتَبَهَ وهُوَ غَرِيقٌ بالدِّمَاءِ.
وعَلَى كُلِّ حَالٍ فهَذِهِ رُؤْيَا مَنَامِيَّةٌ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا.
وَلَوْ أن المؤلفُ تَرَكَ هَذِهِ القِصَصَ كَانَ أَوْلَى، فالرُّؤْيَا المَنَامِيَّةُ وَهَذِهِ القِصَّةُ في سَنَدِهَا من هُوَ مُبْهَمٌ، والحديث الذي في سنده مُبْهَمُ ضَعِيفٌ، فهَذِهِ القِصَّةُ فيها ضَعْفٌ، ولكن أتى بها المؤلِّفُ من باب الاسْتِئْنَاسِ.
وفيها أيضا نَكَارَةٌ من جِهَةِ قوله: «تَائِبٌ إلى الله وإِلَى رَسُولِهِ»؛ فإن الرَّسُولُﷺ يُتَابُ إِلَيْهِ في حَيَاتِه، مِثْلُ ما قَالَتْ عائشةُ -رضي الله عنها- كما في الصحيح، لما دخل عليها رسول الله ﷺ وعَلَى البَابِ سِتْرٌ فِيهِ صُورَةٌ فامْتَنَعَ من الدُّخُولِ فقالت عائشة: «أَتُوبُ إِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِهِ» ([30]).فالتوبة إلى الله من مَعْصِيته، والتوبة إلى الرسولِ ﷺ مِمَّا أَخْطَأْت في حَقِّه .
أما بعدَ وفاتِهِ فلا يقالُ: أَتُوبُ إلى رسولِ الله. بل يقال: أتُوبُ إلى الله.
المتن:
الشرح:
قوله: «سُوسَنْجِرْدُ» نوعٌ من الفُرُشِ يُصْنَعُ في الأهْوَازِ.
وهذه صورة مَانِي بْن فَاتِكٍ الحَكِيم الذِي ظَهَرَ فِي زَمَانِ سَابُورَ بْنِ الْأَرْدَشِير، وقَتَلَهُ البَهْرَامُ بْنُ هُرمز بن سَابُور، وذلكَ بعدَ عِيسى أَحْدَثَ دِينًا بَيْنَ المَجُوسِيَّةِ والنَّصْرَانِيَّةِ، جُعِلَتْ صُورَةُ مَانِي بنِ فَاتكَ الحَكِيمِ على ظهر هذا الرجل، وهَذَا نَوْع من الفُرُشِ وجُعِلَتْ في قَفَاهُ، وجَعَلَ يضربُ الصُّورَةَ وهِي على قَفَاه.
وهَذِهِ القِصَّةُ رَوَاهَا اللَّالَكَائِيُّ في (شَرْحِ الاعْتِقَادِ)، وهَذِه القِصَّةُ قِصَّةٌ مَنَامِيَّةٌ أيضا، وكَانَ الأَوْلَى بالمؤلِّفِ -رحمه الله- أن يُنَزِّهَ كِتَابَهُ عن مِثْلِ هَذِهِ القِصَصِ، ولكن كما سَبَقَ عُذْرُهُ أَنَّهُ يَنْقُلُهَا عن غَيْرِهِ ويُذَكِّرُهَا بالسَّنَدِ.
المتن:
الشرح:
هَذَا الحَدِيثُ رواهُ الطَّبَرَانِيُّ في (الكَبِيرِ)، والآجُرِّيُ في (الشَّرِيعَةِ)، وقالَ الحافظُ ابنُ كَثِيرٍ في (تفسيره) بعد أن ذكر الحديث: وَهَذَا أَيْضًا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ جُوَيْبِرًا ضَعِيفٌ، والضَّحاك لَمْ يُدْرِكِ ابنَ عَبَّاسٍ ([33]). فالحديث فيه علتان:
الأولى: فِيهِ جُوَيْبِرٌ، وَجُوَيْبِرٌ هَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا.
الثانية: الانْقِطَاعٌ بينَ الضَّحَّاكِ وابنِ عَبَّاسٍ، فإنَّ الضَّحَّاكَ لم يُدْرِكِ ابنَ عَبَّاسٍ.
وفيه: أَنَّ الله نَاجَى مُوسَى بِمِائَةِ ألْفِ كَلِمَةٍ وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ كَلِمَةٍ الله أعلم.
قوله: فَلَمَّا سَمِعَ مُوسَى كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ مَقَتَهُمْ. يَعْنِي: أَبْغَضَ كَلَامَ الآدَمِيِّينَ بعدَ أَنْ سَمِعَ كَلَامَ الله، مما وَقَعَ في مَسَامِعِهِ من كَلَامِ الله، وسَمِعَ شيئًا من كَلَامِ الله.
على كُلِّ حَالٍ هَذَا الحَدِيثُ ضَعِيفٌ لا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ.
المتن:
الشرح:
هَذَا الأَثَرُ رَوَاهُ اللَّالَكَائِيُّ في (شَرْحِ الاعْتِقَادِ)، وهذا المَقَالُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، الإمَامِ المَعْرُوفِ المُحَدِّثِ النَّقَّادِ، لما ذُكِرَ عِنْدَهُ بِشْرٌ المِرِّيسِيُّ، وبِشْرٌ المِرِّيسِيُّ جَهْمِيٌّ يقولُ: القرآنُ مَخْلُوقٌ. فَقَالَ الإمامُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: «مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى فَهُوَ كَافِرٌ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ». لِكُفْرِهِ وَضَلَالِهِ، والَّذِي يَسْتَتِيبُهُ هُوَ الحَاكمُ الشَّرْعِيُّ، هَذَا يُحَالُ إلى مَحْكَمَةٍ، ويُسْتَتَابُ فإنْ تَابَ وإلَّا قُتِلَ.
وليسَ مَعْنَى ذَلِكَ أنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَقْتُلُهُ، لَا، وإِلَّا تَكُونُ المسألةُ فَوْضَى؛ كُلُّ من أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ شَخْصًا قَتَلَهُ، لا بَلْ هَذَا يكونُ من اخْتِصَاصِ الحَاكِمِ الشَّرْعِيِّ.
المتن:
فَصْلٌ
46- قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ: مَنْ قَالَ التِّلَاوَةُ مَخْلُوقَةٌ، وَأَلْفَاظُنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ، وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ؟ قَالَ: «هَذَا كَافِرٌ، وَهُوَ فَوْقَ الْمُبْتَدِعِ، وَهَذَا كَلَامُ الْجَهْمِيَّةِ»([35]).
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: «يُجَانَبُ، وَهُوَ فَوْقَ الْمُبْتَدِعِ، وَمَا أُرَاهُ إِلَّا جَهْمِيًّا»([36]).
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيِّ: «فِيمَنْ زَعَمَ أَنَّ لَفْظَهُ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ عِنْدِي أَشَرُّ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ، مَنْ زَعَمَ هَذَا فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ جِبْرِيلَ جَاءَ بِمَخْلُوقٍ، وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ تَكَلَّمَ بِمَخْلُوقٍ، الْقُرْآنُ كَلَامُ اللهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ عَلَى كُلِّ جِهَةٍ، وَكُلِّ وَجْهٍ تَصَرَّفَ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [التوبة :6]، وَلَمْ يَقُلْ: حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَكَ يَا مُحَمَّدُ، وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: صَلَاتُنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ. ([37]). وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: حَتَّى أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي. ([38]). هَذَا قَوْلُ جَهْمٍ، عَلَى مَنْ جَاءَ بِهَذَا غَضَبُ اللهِ».
الشرح:
هَذَا الفَصْلُ نَقَلَ فِيهِ عَنِ الإمامِ أَحْمَدَ -رَحِمَهُ اللهُ- في رِوَايَةِ عبدِ الله قَوله فيمن قال مَنْ قَالَ التِّلَاوَةُ مَخْلُوقَةٌ، وَأَلْفَاظُنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ، وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، فقال رحمه الله: «هَذَا كَافِرٌ، وَهُوَ فَوْقَ الْمُبْتَدِعِ، وَهَذَا كَلَامُ الْجَهْمِيَّةِ».
إذَا قَالَ: التِّلَاوَةُ مَخْلُوقَةٌ وَأَلْفَاظُنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ، وَالْقُرْآنُ كَلَامُ الله لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ فَهَذَا كَافِرٌ؛ لأَنَّ التِّلَاوَةَ يُرَادُ بِهَا المَتْلُوُّ.
وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: أَلْفَاظُنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ. لأَنَّ اللَّفْظَ يُرَادُ بِهِ المَلْفُوظُ، والمَلْفُوظُ هُوَ القُرْآنُ، فلذلك يكون هذا من أقوالِ أَهْلِ البِدَعِ.
وكذلك مَنْ قَالَ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ أيضًا مُبْتَدِعٌ؛ لأنَّ الملفُوظَ يُرَادُ به اللَّفْظُ أيضا، والمَتْلُوُّ يُرَادُ بِهِ التِّلَاوَةُ، فالواجِبُ على الإنسانِ أن يقولَ: القُرْآنُ كلامُ الله مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. ولَا يُفَسِّرُ ولَا يَقُولُ التِّلَاوَةُ مَخْلُوقَةٌ والألفاظُ مَخْلُوقَةٌ.
قوله: « وهَذَا كَلَامُ الجَهْمِيَّةِ » الَّذِينَ يَقُولُونَ: أَلْفَاظُنَا بالقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ.
قال عبد الله في (السُّنَّة): سَأَلْتُ أَبِي -رَحِمَهُ اللهُ- قُلْتُ: مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ قَالَ: التِّلَاوَةُ مَخْلُوقَةٌ، وَأَلْفَاظُنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ، وَالْقُرْآنُ كَلَامُ الله وَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ؟ وَمَا تَرَى فِي مُجَانَبَتِهِ؟ وَهَلْ يُسَمَّى مُبْتَدِعًا؟ فَقَالَ: «هَذَا يُجَانَبُ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُبْتَدِعِ، وَهَذَا كَلَامُ الْجَهْمِيَّةِ لَيْسَ الْقُرْآنُ بِمَخْلُوقٍ».
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيِّ: «فِيمَنْ زَعَمَ أَنَّ لَفْظَهُ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ عِنْدِي أَشَرُّ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ»؛ لأَنَّ الجَهْمِيَّةَ قَالُوا: القُرْآنُ مَخْلُوقٌ، وَسَكَتُوا، وهَذَا يُفَصِّلُ ويُشَكِّكُ.
قوله: «مَنْ زَعَمَ هَذَا فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ جِبْرِيلَ جَاءَ بِمَخْلُوقٍ، وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ تَكَلَّمَ بِمَخْلُوقٍ، القرآنُ كَلَامُ الله غيرُ مَخْلُوقٍ عَلى كُلِّ جِهَةٍ وكُلِّ وَجْهٍ تَصَرَّفَ» يعني: إِنْ قَرَأَهُ القَارِئُ فَهُوَ كَلَامُ الله، وإنْ كَتَبَهُ الكَاتِبُ فالمكتُوبُ كَلَامُ الله، وإن سَمِعَهُ السَّامِعُ فالمسموعُ كَلَامُ الله، وإن حَفِظَهُ الحَافِظُ فالمَحْفُوظُ كَلَامُ اللهِ، عَلَى أَيِّ جِهَةٍ صُرِفَ فَهُو كَلَامُ الله.
ثُمَّ اسْتَدَلَّ بالآثَارِ، قالَ اللهُ -تعالى-: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [التوبة :6]، وَجْهُ الدَّلَالَةِ قَالَ: قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [التوبة :6]، وَلَمْ يَقُلْ: حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَكَ يَا مُحَمَّدُ.
قوله: وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: صَلَاتُنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ. هَذَا جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَواهُ الإمامُ مسلمٌ وغَيْرُهُ من حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بنِ الحَكَمِ السُّلَمِيِّ لمَّا جَاءَ، وكانوا في أَوَّلِ الإِسْلَامِ يَتَكَلَّمُونَ في الصَّلَاةِ، ثُمَّ نُسِخَ هَذَا، لكن مُعَاوِيَةُ لم يكن قد عَلِمَ بالنَّسْخِ، فبينما هو في الصلاة إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقال له: يَرْحَمُكَ اللهُ، فَرَمَاه الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ فقال: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ، مَا شَأْنُكُمْ؟ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، الصَّحَابَةُ يُسَكِّتُونَهُ ثُمَّ بَعْدَ ذلِكَ أَخْبَرَهُ النَّبِيُّ قال: إِنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالذِّكْرُ.
وَوجْهُ الدَّلَالَةِ: أَنَّ القرآنَ ليسَ من كَلامِ النَّاسِ، بل هُوَ كلامُ الله.
قوله: وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: حَتَّى أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي هذا رواهُ أبُو دَاوُدَ في (المسائل) عَنْ يعقوبَ أن أحمدَ بْنَ حَنْبَلٍ قال له ذلك.
قوله: «هَذَا قَوْلُ جَهْمٍ، عَلَى مَنْ جَاءَ بِهَذَا غَضَبُ الله» يعني: مَنْ قالَ: القرآنُ كَلامٌ مَخْلُوقٌ، أو أنه مِنْ كَلَامِ النَّاسِ فَهَذَا قولُ جَهْمٍ، وعَلَى مَنْ قَالَ هَذَا الكلامَ غَضَبُ الله.
المتن:
47- فَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَغَيْرِهَا عَلَى أَنَّ التِّلَاوَةَ هِيَ الْقُرْآنُ، وَأَنَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ خِلَافًا لِلْأَشْعَرِيَّةِ فِي قَوْلِهِمُ: التِّلَاوَةُ غَيْرُ الْمَتْلُوِّ وَالْقِرَاءَةُ غَيْرُ الْمَقْرُوءِ، وَأَنَّ التِّلَاوَةَ وَالْقِرَاءَةَ مَخْلُوقَةٌ، وَالْمَقْرُوءُ وَالْمَتْلُوُّ غَيْرُ مَخْلُوقٍ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ الله إِخْبَارًا عَنْ قُرَيْشٍ: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [المدثر :25-26]، فَوَعَدَهُمْ بِالنَّارِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا إِشَارَاتٌ بِهَذَا الْقَوْلِ إِلَى التِّلَاوَاتِ الَّتِي سَمِعُوهَا مِنَ النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِقَوْلِ الْبَشَرِ.
وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ بِالْمَوْقِفِ فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ رَجُلٍ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ، فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي. ([39]). وَعِنْدَ مُخَالِفِنَا إِنْ كَانَ يُبَلِّغُ قِرَاءَةَ كَلَامِ اللهِ، وَتِلَاوَتَهُ، فَأَمَّا أَنْ يُبَلِّغَ كَلَامَهُ فَلَا.
وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: إِنَّ أَفْوَاهَكُمْ طُرُقٌ لِلْقُرْآنِ فَطَهِّرُوهَا بِالسِّوَاكِ. ([40]). وَعِنْدَ مُخَالِفِنَا هِي طُرُقٌ لِلْقِرَاءَاتِ وَالتِّلَاوَاتِ وَلَيْسَتْ بِطُرُقٍ لِلْقُرْآنِ.
وَأَيْضًا لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ -تَعَالى-: الم غُلِبَتِ الرُّومُ [الروم :1-2]، إِلَى آخِرِ الآيَتَيْنِ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضوانُ الله عَلَيْهِ- فَقَرَأَهَا رَافِعًا بِهَا صَوْتَهُ فَقَالَ لَهُ مُشْرِكُو مَكَّةَ: مَا هَذَا يَا ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ لَعَلَّهُ مِمَّا يَأْتِي بِهِ صَاحِبُكَ، فَقَالَ: «لَا وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللهُ وَقَوْلُهُ»([41]).
وَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ وَمِنَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَيَجِبُ أَلَّا يُلْتَفَتَ إِلَي خِلَافٍ حَدَثَ بَعْدَهُ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ كُلَّ مَنْ سَمِعَ قِرَاءَةَ الْقَارِئِ، قَالَ: هَذَا كَلَامُ اللهِ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ سَامِعَ الْقِرَاءَةِ هُوَ سَامِعُ الْقُرْآنِ؛ قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [التوبة : 6]، وَلِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْقِرَاءَةَ قُرْآنًا، قَالَ الشَّاعِرُ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ:
ضَحَّوْا بِأَشْمَطَ عُنْوَانُ السُّجُودِ بِه | يَقْطَعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحًا وَقُرْآنَا |
أَيْ: تَسْبِيحًا وقِرَاءَةً.
وقال أبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ: قَرَأْتُ قِرَاءَةً وقُرْآنًا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَجَعَلَهُمَا مَصْدَرَيْنِ لِقَرَأتُ.
وَقَالَ اللهُ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [الإسراء :2]، أَيْ: قِرَاءَةَ الْفَجْرِ، وَإِلَّا فَلَيْسَ لَهُ قُرْآنٌ مُعَيَّنٌ، وإِذَا كَانَتِ القِرَاءَةُ هِيَ الْقُرْآنَ فَمَنْ قَالَ: الْقِرَاءَةُ مَخْلُوقَةٌ. فَقَدْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ مَعْنَى الْقَدِيمِ ثَابِتٌ فِي التِّلَاوَةِ بِدَلِيلِ قِيَامِ الْمُعْجِزِ، وَثُبُوتِ الْحُرْمَةِ، وَالْعَجْزِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ.
وَلَوْ حَلَفَ: لَا تَكَلَّمْتُ، فَقَرَأَ، لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ كَانَتْ تِلَاوَتُهُ وَقِرَاءَتُهُ كَلَامَهُ لَحَنِثَ كَمَا يَحْنَثُ بِغَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ.
الشرح:
هَذَا الفَصْلُ بَيَّنَ فِيهِ المؤلفُ -رحمه الله- أنَّهُ لا يجوزُ للإنْسَانِ أَنْ يُفَصِّلَ ويقولُ: التِّلَاوَةُ مَخْلُوقَةٌ، وَأَلْفَاظُنَا بالقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ؛ لأَنَّ هَذَا مُبْتَدَعٌ لِأَمْرَيْنِ:
الأَمْرُ الأَوَّلِ: أَنَّ هَذَا بِدْعَةٌ.
الأمرُ الثَّانِي: أنَّ التِّلَاوَةَ قَدْ يُرَادُ بِهَا المَتْلُوُّ، والمَتْلُوُّ هُوَ كَلَامُ الله، والألفاظ يُرَادُ بِهَا الملفوظُ، والملفوظُ هُوَ كلام الله؛ ولهذا قال الإمام أحمد -رحمه الله- في رواية عبد الله «من قال: التِّلَاوَةُ مَخْلُوقَةٌ، وأَلْفَاظُنَا بالقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ، والقُرْآنُ كلامُ الله ليس بمَخْلُوقٍ؛ فَهُوَ كَافِرٌ، وهُوَ فَوْقَ المُبْتَدِعِ».
فَقَدْ نَصَّ أحمدُ -رحمه الله- في هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وغَيْرِهَا لمَّا ذَكَرَ الأدلةَ على أن التِّلَاوَةَ هي القرآنُ، وأَنَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ، خِلَافًا للأشْعَرِيَّةِ في قَوْلِهِمْ: التِّلَاوَةُ غَيْرُ المَتْلُوِّ، والقراءةُ غيرُ المقروء، وأن التِّلَاوَةَ والقراءةَ مخلوقةٌ والمقروءَ والمتلوَّ غَيْرُ المَخْلُوقِ، هذا معروف من كلام الأشاعرة.
الأَشَاعِرَةُ يقولونَ: كَلَامُ الله المعْنَى القَائِمُ بالنَّفْسِ، أمَّا تِلَاوَةُ الحُرُوفِ والألفاظِ فهي مَخْلُوقَةٌ، وأمَّا القُرْآنُ فَهُو المعْنَى.
ولهذا قال: «فَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَغَيْرِهَا عَلَى أَنَّ التِّلَاوَةَ هِيَ الْقُرْآنُ، وَأَنَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ خِلَافًا لِلْأَشْعَرِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ: التِّلَاوَةُ غَيْرُ الْمَتْلُوِّ وَالْقِرَاءَةُ غَيْرُ الْمَقْرُوءِ، وَأَنَّ التِّلَاوَةَ وَالْقِرَاءَةَ مَخْلُوقَةٌ».
والصواب أن القرآن كلامُ الله لَفْظُهُ ومَعْنَاهُ، حُرُوفُهُ ومَعَانِيهِ قال: «وَالْمَقْرُوءُ وَالْمَتْلُوُّ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُ الله إِخْبَارًا عَنْ قُرَيْشٍ: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [المدثر :25-26]. فَوَعَدَهُمْ بِالنَّارِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا إِشَارَاتٌ بِهَذَا الْقَوْلِ إِلَى التِّلَاوَاتِ الَّتِي سَمِعُوهَا مِنَ النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِقَوْلِ الْبَشَرِ».
وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ بِالْمَوْقِفِ». الأقْرَبُ: أَنَّه كَانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ بالمَوْسِمِ، يعْنِي: مَوْسِمَ الحَجِّ.
هَذَا مَعْرُوفٌ فِي الحَدِيثِ أنَّهُ يعرِضُ نَفْسَهُ على النَّاسِ في الموقف، يعني: يُحْتَمَلُ مَوْقف عرفة، ولكنَّ المعروفَ في الحديث أنه في موسم الحج: فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ رَجُلٍ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ، فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أَبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي.
الشاهد: كَلَامُ رَبِّي. ولمْ يَقُلْ: لَفْظِي بالقرآنِ مَخْلُوقٌ. وهَذَا رواهُ البُخَارِيُّ في (خلق أفعال العباد)، وأبُو داود، والتِّرْمِذِيُّ، وابن ماجه، وصحَّحَه الألباني.
قال المؤلف: «وَعِنْدَ مُخَالِفِنَا إِنْ كَانَ يُبَلِّغُ قِرَاءَةَ كَلَامِ الله، وَتِلَاوَتَهُ فَأَمَّا أَنْ يُبَلِّغَ كَلَامَهُ فَلَا». وعِنْدَ المخَالِفِينَ الرَّسُولُ لا يُبَلِّغُ كَلَامَ الله، إِنَّمَا يبلغُ قراءةَ كَلامِ الله وهذا باطل، واستدل بحديثِ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ قال: قالَ رَسُولُ الله ﷺ: إِنَّ أَفْوَاهَكُمْ طُرُقٌ لِلْقُرْآنِ فَطَهِّرُوهَا بِالسِّوَاكِ. وَهَذَا رَوَاهُ أَبو نُعَيْمٍ فِي (الحلية)، وابن بطة في (الإبانة)، وبين الألباني أن الحديث ضَعِيفٌ لَكِن له طُرق([42]).
يَقُولُ المؤلِّفُ: «وعِنْدَ مُخَالِفِنَا هِي طُرُقٌ للْقِرَاءَاتِ والتِّلَاوَة، ولَيْسَتْ بطُرُقٍ لِلْقُرْآنِ».
واسْتَدَلَّ أيضًا بِقِصَّةِ أبي بَكْرٍ لمَّا أَنْزَلَ اللهُ -تعالى-: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم :1-3]، خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَقَرَأَهَا على النَّاسِ رَافِعًا بِهَا صَوْتَهُ فَقَالَ لَهُ مُشْرِكُو مَكَّةَ: مَا هَذَا يا ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ الَّذِي تَقْرَأُ لَعَلَّهُ مِمَّا يَأْتِي بِهِ صَاحِبُكَ؟ قَالَ: «لا، ولَكِنَّهُ كَلَامُ الله».
والشَّاهِدُ قَوْلُهُ: «كَلَام الله». وهَذَا أَخْرَجَهُ ابنُ خُزَيْمَةَ في (التوحيد)، وعَبْدُ الله بنُ أحمدَ في (السُّنَّةِ)، والبَيْهَقِيُّ في (الأسماء والصفات)، وفي (الاعتقاد) من طَرِيقِ نِيَارِ بْنِ نُطْفَةَ، قَالَ: لمَّا نَزَلَتْ الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم :1-3]، إلى آخِرِ الآيَتَيْنِ خَرَجَ رَسُولُ الله ﷺ فَجَعَلَ يَقْرَأُ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ الروم :1-3]، فَقَالَ رُؤَسَاءُ وَمُشْرِكُو مَكَّةَ: يَا ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ هَذَا مِمَّا أَتَى بِهِ صَاحِبُكَ؟ قال: «لَا والله وَلَكِنَّهُ كَلَامُ الله». رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
قوله : «وَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ وَمِنَّا فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ». عَلَى أَنَّهُ كَلَامُ الله، وأَنَّ مَا بَلَّغَهُ النَّبِيُّ ﷺ هُوَ كَلَامُ الله.
قوله: «فَيَجِبُ أَلَّا يُلْتَفَتَ إِلَى خِلَافٍ حَدَثَ بَعْدَهُ». إلى خِلَافِ أَهْلِ الْبِدَعِ الذِينَ يَقُولُونَ: اللَّفْظُ مَخْلُوقٌ.
قال: «وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أنَّ كُلَّ مَنْ سَمِعَ قِرَاءَةَ الْقَارِئ قَالَ هَذَا كَلَامُ الله، وَأَيْضًا فَإِنَّ سَامِعَ الْقِرَاءَةِ هُوَ سَامِعُ الْقُرْآنِ». ليَسْمَعَ الْقِرَاءَةَ من القارئ أي: يَسْمَعُ القُرْآن، يَسْمَعُ كَلَامَ الله.
قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا. [الأعراف :204]. الذي يُسْتَمَعُ لَهُ كَلَامُ الله.
«وَقَالَ: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [التوبة :6]، قَالَ: وَلأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْقِرَاءَةَ قُرْآنًا ودَلِيلُهُ، قَالَ الشَّاعِرُ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ:
ضَحَّوْا بِأَشْمَطَ عُنْوَانُ السُّجُودِ بِه | يَقْطَعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحًا وَقُرْآنَا |
الشاهد قوله: «تَسْبِيحًا وَقُرْآنًا». يعني: حِينَمَا قَتَلُوا عُثْمَانَ أَشْمَطَ شَيْخًا.
قوله: «يَقْطَعُ الليلَ تَسْبِيحًا وَقُرْآنًا» يعني: تَسْبِيحًا وقِرَاءَةً.
قوله: «وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ». مَعْمَرُ بْنُ المُثَنَّى، مُؤَلِّفُ كِتَابِ (مجاز القرآن) «يُقَالُ: قَرَأْتُ قِرَاءَةً وقُرْآنًا، بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَجَعَلَهُمَا مَصْدَرَيْنِ لِلْقُرْآنِ، وَقَالَ اللهُ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء :78]، أَيْ: قِرَاءَةَ الْفَجْرِ، وَإِلَّا فَلَيْسَ لَهُ قُرْآنٌ مُعَيَّنٌ، وإِذَا كَانَتِ القِرَاءَةُ هِيَ الْقُرْآنَ، فَمَنْ قَالَ: الْقِرَاءَةُ مَخْلُوقَةٌ. فَقَدْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ».
يُبَيِّنُ المؤلِّفُ -رحمه الله- أَنَّ الْقِرَاءَةَ يُرَادُ بِهَا المَقْرُوءُ، فَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْقِرَاءَةَ مَخْلُوقَةٌ. بل يُقالُ: القُرْآنُ كَلَامُ الله، ومَا نَسْمَعُهُ كَلَامُ الله.
قوله: «وَأَيْضًا فَإِنَّ مَعْنَى الْقَدِيمِ ثَابِتٌ فِي التِّلَاوَةِ بِدَلِيلِ قِيَامِ الْمُعْجِزِ، وَثُبُوتِ الْحُرْمَةِ، وَالْعَجْزِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ» يعني: الْقَارِئُ حِينَمَا يَقْرَأُ، فإن كَلامَ الله مُعْجِزٌ، فلا يَسْتَطِيعُ أن يأتِيَ بمِثْلِ ما يسمع القارئُ، وكذلك أيضا حُرْمَةُ القرآنِ حينما تَسْمَعُ القرآنَ، فدَلَّ على أنه لا يقال: التلاوةُ مَخْلُوقَةٌ.
قوله: «وَلَوْ حَلَفَ». لو حَلَفَ إنسانٌ أَلَّا يَتَكَلَّمَ، فَقَرَأَ هَلْ يَحْنَثُ أم لا يَحْنَثُ؟ الجواب: لا يَحْنَثُ لأنَّه لم يَتَكَلَّمْ، القرآنُ ليسَ مِنْ كَلَامِ الآدَمِيِّينَ، بل هو كلامُ الله، ولو كانت تلاوته وقراءته كلامًا لحَنِثَ؛ كَمَا يَحْنَثُ بِغَيْرِهِ من الكلام، وقد حَكَى التَّيْمِيُّ في (الحُجَّةِ) ([43]) إجماعَ الأُمَّةِ على أنَّ مَن حَلَفَ بالطَّلَاقِ ألَّا يَتَكَلَّمَ، فَقَرَأَ القُرْآنَ أنَّه لا يَحْنَثُ. ثم قال: ولَوْ كَانَتِ القِرَاءَةُ كَلَامَ الآدِمِيِّ لحَنِثَ.
المتن:
فَصْلٌ
48- «وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ غَامِضَةُ الْمَعْنَى دَقِيقَةُ الشَّبَهِ، قَدْ كَدَّرَتْ مَذَاهِبَ جَمَاعَةٍ؛ رُوِيَ عَنْ أَبِي أَحْمَدَ الْأَسَدِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ وَسَأَلْتُهُ فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَمَا أَجَابَنِي بِشَيْءٍ، ثُمَّ أَعَدْتُ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ، فَمَا أَجَابَنِي فِيهَا بِشَيْءٍ. قَالَ: ثُمَّ خَرَجْتُ فِي سَفَرِي إِلَى مَكَّةَ فَصَارَتِ الْبَادِيَةُ فِي طَرِيقِي عَلَى شِبْهِ الْحَبْسِ مِنْ شِدَّةِ الْفِكْرَةِ فِي أَمْرِهِ. قَالَ: فَدَخَلْتُ إِلَى مَكَّةَ فَقَطَعَ بِيَ الطَّوَافُ، فَخَرَجَتُ إِلَى بِئْرِ زَمْزَمٍ وَقُبَّةِ الشَّرَابِ فَصَلَيْتُ بِهَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَعَسْتُ فَرَأَيْتُ رَبَّ الْعِزَّةِ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ فِي مَنَامِي فَكَانَ آخِرُ مَا قُلْتُ لَهُ:
إِلَهِي قِرَاءَتِي بِكَلَامِكَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَوِىَ عَزْمِي»([44]).
وَهَذِهِ نَحْوُ حِكَايَةِ أَبِي حَمْدُونَ الْمُقْرِئ الْمُتَقَدِّمَةِ.
49- وَأَصَابَنِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ شَيْءٌ يُشْبِهُ نَحْوَ هَذَا، رَأَيْتُ لِبَعْضِ مَنْ أَسْكُنُ إِلَى عِلْمِهِ قَوْلًا شَغَلَ قَلْبِي، وَأَحْوَجَنِي إِلَى النَّظَرِ فِيمَا أَسْتَدِلُّ بِهِ، وَكُنْتُ قَدْ بَلَغَتُ إِلَيْهَا فَنَهَضْتُ وَنِمْتُ وَتَرَكْتُهَا، فَرَأَيْتُ فِي مَنَامِي كَأَنِّي فِي جَامِعِ المَهْدِيِّ، وَفِي الصَّحْنِ الَّذِي فِيهِ الْمَنَارَةُ خَلْقٌ عَظِيمٌ، وَرَأَيْتُ ثَلَاثَ حِلَقٍ مُسْتَدِيرَةً، وَفِيهَا خَلْقٌ قِيَامٌ وَقُعُودٌ، فِي كُلِّ حَلْقَةٍ شِبْهُ الدَّقْلِ الطَّوِيلِ بَحَبْلَيْنِ مُتَّصِلَيْنِ كَأَنَّهُمَا قَدْ جُعِلَا لِمَنْ يَعْتَصِمُ بِهِمَا وَيَرْقَى فِيهِ.
فَدَخَلْتُ إِلَى أَحَدِ الْحِلَقِ وَأَخَذْتُ بِالْحَبْلَيْنِ أَحَدِهِمَا بِيَمِينِي والآخَرُ بِشِمَالِي، وَلَمْ أَزَلْ أَرْتَقِي إِلَى أَنْ صِرْتُ عَلَى سَطْحِ الْجَامِعِ، وَلَا أَدْرِي هَلْ صَعِدَ غَيْرِي أَمْ لَا؟ وَاْسْتَيْقَظْتُ فَقُلْتُ: الْحَبْلُ: الْقُرْآنُ قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران :103].
الْوَاجِبُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْأَخْذُ بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ كَتَبْتُ فِي اللَّيْلِ هَذَا الْفَصْلَ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَى صِحَّتِهِ المُتَقَدِّمُونَ وَالْمُتَأَخِّرُونَ إِلَّا الطَّائِفَةَ الَّتِي ذَكَرْتُهَا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
الشرح:
هَذَا فَصْلٌ كَمَا قَالَ المؤلِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-: «هَذِهِ المسأَلَةُ غَامِضَةُ المَعْنَى دَقِيقَةُ الشَّبَهِ، قَدْ كَدَّرَتْ مَذَاهِبَ جَمَاعَةٍ». يَعْنِي: مَسْأَلَةَ القُرآنِ ولَفْظِي بالقُرْآنِ مَخْلُوقٍ، وأَلَّفَ فيها الإمامُ البُّخَارِي -رحمه الله- رسالَةً خَاصَّةً سَمَّاهَا (خَلْقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ)، وكذلك ذَكَرَ في صَحِيحِهِ وأطَالَ وذَكَرَ الأحادِيثَ فيها.
قال: المسأَلَةُ غَامِضَةٌ تشْتَبِهُ، أي صَارَ فِيهَا اشْتِبَاهٌ كَثِيرٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، والإمامُ أحمدُ -رحمه الله- ثَبَتَ عَنْهُ في عِبَارَتِهِ المشهورة أنه قال: «مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جَهْمِيٌّ، وَمَنْ قَالَ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ». يَعْنِي: سَدَّ الْبَابَ.
وَالإِمَامُ البُخَارِيُّ -رحمه الله- فَصَّلَ في كِتَابِهِ (الجامعِ الصحيحِ)، وبَيَّنَ أَنَّ ما يَقُومُ بِهِ العِبَادُ من أَلْفَاظِهِمْ، وحَرَكَاتِهِمْ، وأَصْوَاتِهِمْ هَذَا مخلوقٌ، الإنسانُ مَخْلُوقٌ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وبهَذَا بَوَّبَ قال: «بَابٌ قِرَاءَةُ الفَاجِرِ وَالمُنَافِقِ، وَأَصْوَاتُهُمْ وَتِلاوَتُهُمْ لَا تُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ»، لِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ، قَرَاءَتُهُمْ يعنِي: أَفْعَالَهُمْ وَبَيَّنَ أنّ ألْفَاظَ العِبَادِ وَصِفَاتِهِمْ وحَرَكَاتِهِمْ كُلَّهَا مَخْلُوقَةٌ، والقُرْآنُ كَلَامُ الله مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، يَشْتَبِهُ هَذَا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَظَنُّوا أَنَّ هُنَاكَ خِلَافًا بينَ الإمامِ البُخَارِيِّ والإمامِ أَحْمَدَ -رحمه الله-، وقد بحث هذه المسألةَ ابنُ القَيِّمِ -رحمه الله- في (الصَّوَاعِقِ المُرْسَلَةِ) وجَمَعَ بَيْنَهُمَا([45]).
والحَقُّ أنَّهُ لَا خِلافَ بيَن الإِمَامَيْنِ، أَئِمَّةُ أهلِ السُّنَّةِ كُلُّهُمْ على الحَقِّ، ولكنَّ الإمامَ أحمدَ -رحمه الله- أَجْمَلَ وَسَدَّ البَابَ فَقَالَ: مَنْ قَالَ: لَفْظِي بالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جَهْمِيٌّ، ومَنْ قَالَ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مَبْتَدِعٌ. والإمامُ البُخَارِيُّ فَصَّلَ وَمَيَّزَ بَيْنَ مَا يَقُومُ به الإنسانُ مِنْ ألْفَاظِهِ، وأَصْوَاتِهِ، وحَرَكَاتِهِ، فَهُوَ مَخْلُوقٌ، وما يقومُ بِالله فليسَ بمَخْلُوقٍ.
فلَمَّا أَجْمَلَ الإمامُ أحمدُ وَفَصَّلَ البُخَارِيُّ نشأتْ فِتْنَةٌ بينَ أهلِ الحَدِيثِ، ونشأتْ من الشُّبْهَةِ الَّتِي حَصَلَتْ من القَوْلِ المُجْمَلِ للإمامِ أحمدَ، وحَسَدِ بَعْضِ النَّاسِ، حَتَّى هُجِرَ الإمَامُ البُخَارِيُّ -رحمه الله- هَجَرَهُ بعضُ النَّاسِ، وقَالُوا: إنَّ البُخَارِيَّ مُبْتَدِعٌ، إمامُ أهلِ الحدِيثِ، وأنَّهُ يقولُ: لَفْظِي بالقُرْآنِ مَخْلُوقٌ، ومَنْ جَالَسَ البُخَارِيَّ بَعْدَ مَجْلِسِنَا فَهُو مُبْتَدِعٌ.
والحَقُّ أن كلَّ أئمةِ أَهْلِ السُّنَّةِ كُلَّهُمْ على الحَقِّ، والإمامُ أحمدُ يوافِقُ الإمامَ البُخَارِيَّ، والبُخَارِيُّ يوافِقُ الإمامَ أحمدَ، ولَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ.
لكِنْ لا يَجُوزُ للإنْسَانِ أَنْ يَقُولَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ. لَا تُخَصِّصْ، أَنْتَ مَخْلُوقٌ، لَفْظُكَ بالقُرْآنِ وغَيْرُ لَفْظِكَ بالقُرْآنِ، لماذا تخصص؟ فالتَّخْصِيصُ هَذَا بِدَعَةٌ.
كَمَا لَوْ قَالَ شَخْصٌ: الْفَاتِحَةُ لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً. أو قَالَ: السَّبْعُ الطِّوَلُ ليستْ مَخْلُوقَةً. نَقُولُ: هَذَا بِدْعَةٌ، القُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٌ، لمَاذَا تُخَصِّصُ الفَاتِحَةَ؟ لمَاذَا تُخَصِّصُ البَقَرَةَ؟ كَذَلِكَ لا تُخَصِّصْ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ. لَا تَبْتَدِعْ، وإِلَّا فالصَّوَابُ: أنَّ القُرْآنَ كَلَامُ الله مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، لكن ما يَقْرَأُهُ القَارِئُ بألْفَاظِهِ وحُرُوفِهِ؛ ولهَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ: التِّلَاوَةُ تَلَاوَةُ القَارِئِ، والقَوْلُ قَوْلُ البَارِي، والكَلَامُ كَلَامُ البَارِي. هَذَا هُوَ الحَقُّ، وهَذَا هُوَ الصَّوَابُ في هَذِهِ المسألَةِ.
ولهَذَا قَالَ المؤلِّفُ -رحمه الله-: «هَذِهِ مَسْأَلَةٌ غَامِضَةٌ». صَدَقَ «دَقِيقَةُ الشَّبَهِ قَدْ كَدَّرَتْ مَذَاهِبَ جَمَاعَةٍ».
ولهَذَا نُقِل عن الإمام أحمدَ أنَّهُ قَالَ لمَّا سُئِلَ: «هَلْ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ، أو غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ قَالَ: فَمَا أَجَابَنِي بِشَيْءٍ». ثُمَّ ذَكَرَ الرُّؤْيَةَ ولَا حَاجَة إلى هذه القِصَّةِ أنَّهُ ذَهَبَ إلى البادية، وأنَّهُ جاءَ إلى زمزمَ، وأنَّهُ نَعَسَ، وأنَّهُ رَأَى رَبَّ العِزَّةِ والجَلَالِ وسأله فقال: «قُلْتُ: إِلَهِي قَرَاءَتِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَوِيَ عَزْمِي». هَذَا رَوَاهُ ابْنُ بَطَّةَ ولا حاجة له، وفي هذه القصة إثبات رؤية الله في المنام.
وقد بين شَيْخُ الإسلامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ([46]) أن جَمِيعَ الطوائفِ أَثْبَتُوا رُؤْيَةَ الله في المَنَامِ إلَّا الجَهْمِيَّةَ، لِشِدَّةِ إِنْكِارِهِمْ لرُؤْيَةِ الله حتَّى أَنْكَرُوا رؤيةَ الله في المنام، لَكِنْ لا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ المُشَابَهَةُ، الإنسانُ يَرَى رَبَّهُ في النَّوْمِ على حَسَبِ اعْتِقَادِهِ، فإنْ كَانَ اعْتَقَادُهُ سَلِيمًا رَأَى رَبَّهُ بِصُورَةٍ حَسَنَةٍ، وإنْ كانَ اعْتِقَادُهُ غيرَ ذَلِكَ رَأَى رَبَّهُ على حَسْبِ اعْتِقَادِهِ، ولَا يَلْزَمُ من هَذَا التَّشْبِيهُ، ولما كانَ النَّبِيُّ ﷺ أَصَحَّ النَّاسِ اعْتِقَادًا قال في الحديث الصحيح: رَأَيْتُ رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ ([47]).
وذَكَرَ الحِكَايَةَ الثَّانِيَةَ أيضًا قال: «شَغَلَ قَلْبِي». وَبَدَأَ يَتَفَكَّرُ «رَأَيْتُ فِي مَنَامِي كَأَنِّي فِي جَامِعِ المَهْدِيِّ، وَفِي الصَّحْنِ الَّذِي فِيهِ الْمَنَارَةُ خَلْقٌ عَظِيمٌ، وَرَأَيْتُ ثَلَاثَ حِلَقٍ مُسْتَدِيرَةً». إلى آخِرِهْ ثُمَّ قَالَ: «فَاسْتَيْقَظْتُ فَقُلْتُ الْحَبْلُ: الْقُرْآنُ. قَالَ اللهُ: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران :103]».
كُلُّ هَذَا يُبَيِّنُ أنَّ المسألةَ غَامِضَةٌ [48].
بل ذَكَرَ شَيْخُ الإسلام -رحمه الله- الإمامُ ابنُ تَيْمِيَةَ أن الإمام أحمد أنْكَرَ على من قَالَ: إنَّ تِلَاوَةَ العِبَادِ، وقَرَاءَتَهُمْ، وألْفَاظَهُمْ، وأَصْوَاتَهُمْ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ. وَأَمَرَ بِهُجْرَانِ هؤلاءِ، كَمَا جَهَّمَ الأَوَّلِينَ وبَدَّعَهُمْ، يعني: قَالَ: إِنَّهُمْ جَهْمِيَّةٌ، والنَّقْلُ عَنْهُ بِذَلِكَ في روايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ الله، وصَالح المروزي، وأبي طالب، وأبي بكر بن صدقة وخلق كثير إلى أن قال -رحمه الله-:
«وَأَحْمَد وَالْأَئِمَّةُ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَجْعَلُ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ أَوْ أَصْوَاتِهِمْ غَيْرَ مَخْلُوقٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا وَكَلَامُ أَحْمَد فِي مَسْأَلَةِ التِّلَاوَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ مِنْ نَمَطٍ وَاحِدٍ مَنَعَ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْقَوْلَ بِأَنَّ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ مَا هُوَ مَخْلُوقٌ وَلِمَا فِيهِ مِنَ الذَّرِيعَةِ، وَمَنَعَ أَيْضًا إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالِ»([49]).
قال: «وتَحْرِيرُ القولِ في مسألةِ التِّلَاوَةِ والصَّوَابِ فِيهَا هُوَ مَا ذَكَرَهُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَةَ أنَّ التلاوةَ قَدْ يُرَادُ بِهَا نَفْسُ الْكَلَامِ الَّذِي يُتْلَى، وَقَدْ يُرَادُ بِهَا نَفْسُ حَرَكَةِ الْعَبْدِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهَا مَجْمُوعُهُمَا، فَإِذَا أُرِيدَ بِهَا الْكَلَامُ نَفْسُهُ الَّذِي يُتْلَى فَالتِّلَاوَةُ هِيَ الْمَتْلُوُّ، وَإِذَا أُرِيدَ بِهَا حَرَكَةُ الْعَبْدِ فَالتِّلَاوَةُ لَيْسَتْ هِيَ الْمَتْلُوَّ، وَإِذَا أُرِيدَ بِهَا الْمَجْمُوعُ فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِلْفِعْلِ وَالْكَلَامِ فَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا الْمَتْلُوُّ وَلَا أَنَّهَا غَيْرُهُ»([50]).
وبهَذَا التَّفْصِيلِ يَسْتَبِينُ السَّبِيلُ كَمَا سَبَقَ.
والصوابُ في هَذَا أنَّ القرآنَ كَلَامُ الله، وأمَّا أفعالُ العِبَادِ وأَصْوَاتُهُمْ وحَرَكَاتُهُمْ فهَذِهِ مَخْلُوقَةٌ، لكنْ لا ينبغي للإنسانِ أنْ يُخَصِّصَ ويقولَ: لفْظِي بالقُرْآنِ مَخْلُوقٌ أو غير مَخْلُوقٍ.
لأن هذا أولًا: قَوْلٌ مُبْتَدَعٌ.
ولأنه ثانيًا: ذَرِيعَةٌ لمنْ يَقُولُ: القرآنُ مَخْلُوقٌ.
ولأن اللفظ يُراد به الملفُوظُ، ولأن التلاوة يُراد بها المَتْلُوُّ.
وبهذَا نَكُونُ انْتَهَيْنَا من هذا البابِ الطَّوِيلِ إن شاء الله، ونَقِفُ عَلَى بَابٍ جَدِيدٍ، وهو «التَّحْذِيرُ مِنْ مَذَاهِبِ الحُلُولِيَّةِ والمُشَبِّهَةِ في الاعْتِقَادِ».
............................................
الحواشي:
([1]) أخرجه الآجُرِّيُّ في الشريعة ( 1/528/188) .
([2]) المرجع السابق .
([3]) جمع الدِّرَّة -بالكَسْرِ- دِرَّة السُّلطانِ، الَّتي يُضْرَب بهَا، عَرَبِيّةٌ مَعْرُوفَة.
([4]) هو صَبِيغ بن عِسل، بمهملتين الأولى مكسورة والثانية ساكنة، ويقال بالتصغير، ويقال ابن سهل الحنظليّ، له إدراك، وقصته مع عمر مشهورة. انظر: ترجمته في الإصابة (3/370).
([5]) أخرجه الآجُرِّيُّ في الشريعة ( 1/529) .
([6]) المرجع السابق .
([7])أخرجه الآجُرِّيُّ في الشريعة ( 1/530/191) .
([8])المرجع السابق .
([9])أخرجه الترمذي : أَبْوَابُ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ ، رقم (2913) ، وقال هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
([10]) أخرجه البخاري : كِتَابُ فَضَائِلِ القُرْآنِ ، خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ، رقم (5027) .
([11])تقدم تخريجه .
([12])تقدم تخريجه .
([13]) هو عبد اللَّهِ بن حبيب بن رُبَيْعة -بالتصغير- أَبُو عَبْد الرحمن السلمي الكوفي القارئ. ترجمته في تهذيب الكمال (14/408).
([14])أخرجه أحمد في مسنده رقم (4759) .
([15])أخرجه البخاري : كِتَابُ الجِهَادِ وَالسِّيَرِ ، بَابُ السَّفَرِ بِالْمَصَاحِفِ إِلَى أَرْضِ العَدُوِّ،رقم (2990) ، و مسلم : كتاب الإمارة ، رقم (1869) ، بلفظ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ العَدُوِّ"
([16])أخرجه مسلم : كتاب الإمارة ، رقم (1869) ، بلفظ " «أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ، مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ» .
([17])أخرجه البخاري :كتاب الجهاد والسير ،بَابُ السَّفَرِ بِالْمَصَاحِفِ إِلَى أَرْضِ العَدُوِّ ، رقم (2990) ،ومسلم : كتاب الإمارة ، رقم (1869) .
([18])أخرجه أحمد في المسند (4576) .
([19]) أخرجه البخاري : كِتَابُ العِلْمِ، بَابُ الِاغْتِبَاطِ فِي العِلْمِ وَالحِكْمَةِ،رقم (73) ، و مسلم : كتاب صلاة المسافرين، رقم (816) .
([20]) أخرجه الدارمي في سننه : كِتَابِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ ، بَابُ: فِي فَضْلِ سُورَةِ طه وَيس ، رقم (3457) ،وابن أبي عاصم في السنة (1/269/607) .
([21]) انظر: تفسير ابن كثير (5/240).
([22]) انظر: السلسلة الضعيفة (3/402/1248).
([23]) انظر: الموضوعات لابن الجوزي (1/110).
([24])أخرجه ابن الضريس في فضائل القرآن (1/46/58) .
( ([25]أخرجه الترمذي، كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن ما له من الأجر، برقم (2910).
([26]) انظر: الشريعة للآجري : (1/539) .
([27]) أخرجه اللالكائي في شرح أصول السنة (2/405/627) .
([28]) أخرجه ابن بطة في الإبانة (6/118/382) .
([29]) أخرج هذه القصة الآجري في الشريعة (1/549) ، وابن بطة في الإبانة (6/115/375) .
([30]) أخرجه البخاري: كتاب البيوع، باب التجارة فيما يكره لبسه للرجال والنساء، رقم (2105)، ومسلم: كتاب اللباس والزينة، رقم (2107).
([31]) أخرجه اللالكائي في شرح أصول السنة (2/398/614) .
([32]) أخرجه الطبراني في الكبير : (12/120/12650) ، وابن بطة في الإبانة (6/314/481) .
([33]) انظر: تفسير ابن كثير (2/474).
([34]) أخرجه اللالكائي في شرح أصول السنة (2/349/505) ، وابن بطة في الإبانة (6/318/488) .
([35]) أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (1/163/178) ، وابن بطة في الإبانة (5/342/149) .
([36]) أخرجه أبو داود في مسائله (1/356/1710) .
([37]) أخرجه مسلم : كِتَابُ الْمَسَاجِدِ وَمَوَاضِعِ الصَّلَاةَ ،رقم (537) .
([38])أخرجه أبو داود : كتاب السنة ، بَابٌ فِي الْقُرْآنِ ، رقم (4734) ، والترمذي : فضائل القرآن ، رقم (2925) وقال «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ» ، وابن ماجة :المقدمة ، بَابٌ فِيمَا أَنْكَرَتِ الْجَهْمِيَّةُ ، رقم (201) .
([39]) سبق تخريجه .
([40]) أخرجه ابن ماجة : كتاب الطهارة ، بَابُ السِّوَاكِ ، رقم (291) .
([41]) أخرجه ابن خزيمة في التوحيد : (1/404) .
([42]) انظر: صحيح سنن ابن ماجة (1/363) .
([43]) انظر: الحجة في بيان المحجة (1/434).
([44]) أخرجه ابن بطة : (5/339/145) .
([45]) انظر: مختصر الصواعق المرسلة (ص 503)
([46]) انظر: بيان تلبيس الجهمية (1/326).
([47]) أخرجه الترمذي: كتاب التفسير، باب ومن سورة ص، رقم (3234).
[48] - ذكر المحقق الشيخ عبد الرزاق البدر -حفظه الله- كَلَامًا جَيِّدًا على قَوْلِهِ، فَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ في هَذِهِ الرِّوَايَاتِ: قَالَ ليسَ في هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا المصَنِّفُ عن الإمامِ أحمدَ التَّنْصِيصُ على أن التلاوة هي القُرْآنُ وأَنَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ، وإِنَّمَا فِيهَا إِنْكَارُ قَوْلِ الجَهْمِيَّةِ القَائِلِينَ: إنَّ التِّلَاوَةَ مخلوقةٌ.
([49]) انظر: مجموع الفتاوى (12/363).
([50]) انظر: مجموع الفتاوى (12/307).