المتن:
بَابُ التَّحْذِيرِ مِنْ مَذَاهِبِ الْحُلُولِيَّةِ وَالْمُشَبِّهَةِ وَالْمُجَسِّمَةِ
50- قَالَ أبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الحُسَيْنِ الآجُرِّيُّ -رحمه الله-: «إني أُحَذِّرُ إِخْوَانِي الْمُؤْمِنِينَ مَذَاهِبَ الْحُلُولِيَّةِ الَّذِينَ لَعِبَ بِهِمُ الشَّيْطانُ فَخَرَجُوا بِسُوءِ مَذْهَبِهِمْ عَنْ طَرِيقِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مَذَاهِبُهُمْ قَبِيحَةٌ، لَا تَكُونُ إِلَّا فِي كُلِّ مَفْتُونٍ هَالِكٍ.
زَعَمُوا أَنَّ الله حَالٌّ فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى أَخْرَجَهُمْ سُوءُ مَذْهَبِهِمْ إِلَى أَنْ تَكَلَّمُوا فِي الله بِمَا تُنْكِرُهُ الْعُلَمَاءُ الْعُقَلَاءُ، لَا يُوَافِقُ قَوْلَهُمْ كِتَابٌ، وَلَا سُنَّةٌ، وَلَا قَوْلُ الصَّحَابَةِ، وَلَا قَوْلُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَإِنِّي لَأَسْتَوْحِشُ أَنْ أَذْكُرَ قَبِيحَ أَفْعَالِهِمْ تَنْزِيهًا لِجَلَالِ الله الْكَرِيمِ وَعَظَمَتِهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: «إِنَّا لَنَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْجَهْمِيَّةِ».([1])
ثُمَّ إِنَّهُمْ إِذَا أُنْكِرَ عَلَيْهِمْ سُوءُ مَذْهَبِهِمْ قَالُوا: لَنَا حُجَّةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ -تَعَالَى-: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد:4]، فَلَبَّسُوا عَلَى السَّامِعِ مِنْهُمْ بِمَا تَأَوَّلُوا، وَفَسَّرُوا الْقُرْآنَ عَلَى أَهْوَاءِ أَنْفُسِهِمْ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا.
فَمَنْ سَمِعَهُمْ مِمَّنْ جَهِلَ الْعِلْمَ ظَنَّ أَنَّ الْقَوْلَ كَمَا قَالُوا، وَلَيْسَ هُوَ كَمَا تَأَوَّلُوهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَالَّذِي يَذْهَبُ إِلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ الله عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَلَمَّا أَحَاطَ عِلْمُهُ بِجَمِيعِ مَا خَلَقَ فِي السَّمَوَاتِ الْعُلَى، وَبِجَمِيعِ مَا فِي سَبْعِ أَرَضِينَ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19]. يَعْلَمُ الْخَطْرَةَ وَالْهَمَّةَ، يَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ النُّفُوسُ، يَسْمَعُ وَيَرَى وَلَا يَعْزُبُ عَنِ الله مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ وَمَا بَيْنَهُنَّ إِلَّا وَقَدْ عَلِمَ بِهِ، وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ -سُبْحَانَهُ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى-، تُرْفَعُ إِلَيْهِ أَعْمَالُ الْعِبَادِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَرْفَعُونَهَا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.([2])
الشرح:
هَذَا البابُ فيه التَّحْذِيرُ مِنْ مَذَاهِبِ الحُلُولِيَّةِ والمُشَبِّهَةِ والمُجَسِّمَةِ، الحُلُولِيَّةُ وهم جهمية أيضا: الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ الله حَالٌّ في كُلِّ مكانٍ كَمَا يحُلُّ المَاءُ في الإناء. ويقولون: إنَّ الله مُخْتَلِطٌ بالمَخْلُوقَاتِ. تَعَالى الله عمَّا يقولونَ عُلُوًّا كَبِيرًا؛ وهَذَا كُفْرٌ وضَلَالٌ.
أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اللهُ فَوْقَ العَرْشِ، وقَالُوا: إنَّهُ في كُلِّ مكانٍ، يحل في كُلِّ مَكَانٍ ولهَذَا سُمُّوا بالحُلُولِيَّةِ.
والمُشَبِّهَةُ: الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ الله بالخَلْقِ ويقول أَحَدُهُمْ: للَّهِ يَدٌ كَيَدِي، وسَمْعٌ كَسَمْعِي، وبَصَرٌ كَبَصَرِي، واسْتِوَاءٌ كاسْتِوَائِي. وغَالِبُ المُشَبِّهَةِ مِنْ غُلَاةِ الشِّيعَةِ؛ مثل البَيَانِيَّةِ نسبة لبَيَانَ بْنِ سَمْعَانَ التَّمِيمِيِّ. والسَّالِمِيَّة نسبةً لهِشَامِ بْنِ سَالمٍ الجَوَالِيقِي، ودَاودَ الجَوَارِبِيُّ، الَّذِينَ يقولونَ: إنَّ الله يُشْبِهُ الإنْسِانَ، حَتَّى قالَ بعضُ المُشَبِّهَةِ -والعياذُ بالله-: أَعْفُونِي من اللِّحْيَةِ والفَرْجِ، والبَاقِي فإنَّ الله مِثْلُ الإنسانِ. تَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
والمُجَسِّمَةُ: الذينَ يَقُولُونَ إنَّ الله جِسْمٌ. قد يكونُ هُمُ المُشَبِّهَةُ، فالجِسْمُ لا يُطْلَقُ عَلَى الله لا نَفْيًا ولَا إِثْبَاتًا عِنْدَ أهلِ الحَقِّ، فلا يقال: إنَّ الله جِسْمٌ. ولَا يُقَالُ: إنَّ الله ليسَ بِجِسْمٍ.
فالَّذِي يَقُولُ: إنَّ الله جِسْمٌ. مُبْتَدِعٌ، والَّذِي يَقُولُ ليسَ بِجِسْمٍ. مُبْتَدِعٌ، لَا يُطْلَقُ عَلَى الله جِسْمٌ نَفْيًا ولا إِثْبَاتًا، والَّذِي يُطْلِقُهُ يُسْتَفْسَرُ؛ فإنْ أَرَادَ المَعْنَى الحَقَّ رَدَّ اللَّفْظَ، وإن أَرَادَ مَعْنَى البَاطِلِ رَدَّ اللَّفْظَ والمَعْنَى.
المُشَبِّهَةُ يَقُولُونَ: إنَّ الله جِسْمٌ يُشْبِهُ الأَجْسَامِ، والمُشَبِّهَةُ والحُلُولِيَّةُ كُفَّارٌ؛ مَنْ شَبَّهَ الله بِخَلْقِهِ كَفَرَ.
كَمَا أَنَّ المُعَطِّلَةَ الَّذِينَ عَطَّلُوا الرَّبَّ من أَسْمَائِهِ وصِفَاتِهِ كُفَّارٌ ولهَذَا قَالَ: «والْعُلَمَاءُ كَفَّرُوا الحُلُولِيَّةَ وكَفَّرُوا المُعَطِّلَةَ وَكَفَّرُوا المُشَبِّهَةَ».
المُعَطِّلَةُ سُمُّوا مُعَطِّلَةً؛ لأَنَّهُمْ عَطَّلُوا الرَّبَّ من الأسْمَاءِ والصِّفَاتِ، والتَّعْطِيلُ هُوَ: الخُلُّو والفَرَاغُ، ومِنْهُ امْرَأَةٌ عَاطِلٌ إذَا كَانَتْ من غَيْرِ زَوْجٍ، وكَذَلِكَ الدَّارُ عَاطِلٌ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا سَاكِنٌ، عَطَلَتِ الدَّارُ عَنْ سَاكِنِهَا، والإِبِلُ عن رَاعِيهَا، ويقال لمن يزعم أن خُلُوَّ العالمِ عن صَانِعٍ أَتْقَنَهُ: مُعَطِّلٌ.
ولهذا قالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ الخزاعي الإمامُ المعروف([3]): «مَنْ شَبَّهَ اللهَ بخلْقِه فقد كَفَرَ، وَمْن جَحَدَ ما وَصَفَ اللهُ به نفسَه فقد كَفَرَ، وليس فيما وَصَفَ اللهُ به نَفْسَه، أو رسولُه تشبيهٌ»([4]). فالمُشَبِّهُ كَافِرٌ، والمُعَطِّلُ كَافِرٌ، الَّذِي عَطَّلَ اللهُ نَفَى الأَسْمَاءَ والصِّفَاتِ، فشَيْءٌ ليس له اسْمٌ، ولَا صِفَةٌ، لا وُجُودَ لَهُ إِلَّا في الذِّهْنِ.
ولهذَا قَالَ نُعَيْمُ بنُ حَمَّادٍ: مَنْ نَفَى مَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ كَفَرَ. والمُشَبِّهُ كَافِرٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ شَبَّهَ الخَالِقِ بالمَخْلُوقِ.
والمُشَبِّهُ في الحَقِيقَةِ لَا يَعْبُدُ الله وإِنَّمَا يَعْبُدُ وَثَنًا صَوَّرَهُ لَهُ خَيَالُهُ ونَحَتَهُ لَهُ فِكْرُهُ فَهُوَ مِنْ عُبَّادِ الْأَوْثَانِ لا مِنْ عُبَّادِ الرَّحْمَنِ؛ ولهَذَا قَالَ ابنُ القَيِّمِ -رحمه الله- في الكافية الشافية:
لَسْـنَا نُشَـبِّهُ وَصْـفَهُ بِصِفَـاتِنَا | إِنَّ المُشَـبِّهَ عَــابِدُ الْأَوْثَـانِ |
والمُشَبِّهُ أيضًا شَبِيهٌ بالنَّصَارَى، فالنَّصَارَى قَالُوا: إِنَّ المَسِيحَ ابْنُ الله -والعياذ بالله- رَفَعُوا المَسِيحَ مِنْ مَقَامِ العُبُودِيَّةِ والنُّبُوَّةِ إلى مَقَامِ الأُلُوهِيَّةِ، فَشَبَّهُوا المَخْلُوقَ بالخَالِقِ، والمُشَبِّهَةُ بالعَكْسِ يَنْسِبُونَهُ عَكْسِيًّا شَبَّهُوا الخالقَ بالمخلوقِ، جَعَلُوا الخالقَ مِثْلَ المخلوقِ؛ ولهذا قال العلامة ابن القيم:
مَـنْ شَـبَّهَ الله الْعَظِيـمَ بِخَلْقِـهِ | فَهُـوَ النَّسِيبُ لِمُشْـرِكِ النَّصْـرَانِي |
فالنِّسْبَةُ بينَ المُشَبِّهِةِ وبَيْنَ النَّصَارَى عَكْسِيَّةٌ، النَّصَارَى شَبَّهُوا المَخْلُوقَ بالخَالِقِ، والمُشَبِّهَةُ شَبَّهُوا الخَالِقَ بالمَخْلُوقِ.
والحُلُولِيَّةُ يَقُولُونَ: إنَّ الله حَالٌّ في كُلِّ مكانٍ. فَهُمْ كُفَّاٌر بإِجْمَاعِ المسلمين، نسأل الله السلامة والعافية.
قَالَ أبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الحُسَيْنِ الآجُرِّيُّ -رحمه الله- «إِنِّي أُحَذِّرُ إِخْوَانِي الْمُؤْمِنِينَ مَذَاهِبَ الْحُلُولِيَّةِ». هذه نَصِيحَة مِنْهُ -رحمه الله-.
«الَّذِينَ لَعِبَ بِهِمُ الشَّيْطانُ فَخَرَجُوا بِسُوءِ مَذْهَبِهِمْ عَنْ طَرِيقِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مَذَاهِبُهُمْ قَبِيحَةٌ، لَا تَكُونُ إِلَا فِي كُلِّ مَفْتُونٍ هَالِكٍ».
زَعَمُوا أنَّ الله حَالٌّ في كُلِّ شيءٍ حَتَّى قَالُوا: إنَّ الله حَالٌّ في كُلِّ مكانٍ. نَعُوذُ بالله، حتى قالوا: إنَّ اللهَ حَالٌّ في أجوافِ الطُّيور، وفي بُطُونِ السِّبَاعِ، وفي كُلِّ شيءٍ. تَعَالى اللهُ عمَّا يقولون.
«زَعَمُوا أنَّ الله حالٌّ في كُلِّ شيءٍ حتَّى أخْرَجَهُمْ سُوءُ مَذْهَبِهِمْ إلى أن تَكَلَّمُوا في الله -تَعَالَى- بما يُنْكِرُهُ العُلَمَاءُ العُقَلاءُ، لَا يُوَافِقُ قَوْلَهُمْ كِتَابٌ، وَلَا سُنَّةٌ، وَلَا قَوْلُ الصَّحَابَةِ، وَلَا قَوْلُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ».
بل إن قَوْلَهُمْ هذا كُفْرٌ صَرِيحٌ كما يقولُ شَيْخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَةَ -رحمه الله- يقول([5]): «أَمَّا كَوْنُ وُجُودِ الْخَالِقِ هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ؛ فَهَذَا كُفْرٌ صَرِيحٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْإِيمَانِ؛ وَهُوَ مِنْ أَبْطَلْ الْبَاطِلِ فِي بَدِيهَةِ عَقْلِ كُلِّ إنْسَانٍ وَإِنْ كَانَ مُنْتَحِلُوهُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ غَايَةُ التَّحْقِيقِ وَالْعِرْفَانِ».
قال المؤلف -رحمه الله-: «وَإِنِّي لَأَسْتَوْحِشُ أَنْ أَذْكُرَ قَبِيحَ أَفْعَالِهِمْ تَنْزِيهًا لِجَلَالِ الله الْكَرِيمِ وَعَظَمَتِهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: «إِنَّا لَنَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْجَهْمِيَّةِ». صدق -رحمه الله-.
عبدُ الله بنُ المُبَارَكِ، الإمامُ الزَاهِدُ المعروفُ يقولُ: «نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ اليَهُودِ والنَّصَارَى، ولا نَسْتَطِيعُ أن نَحْكِيَ قَوْلَ الْجَهْمِيَّةِ». لخُبْثِهِ وشَرِّهِ، وهَذَا الأثرُ رَوَاهُ البُخَارِيُّ في (خلقِ أفعالِ العِبَادِ)، والدَّارِمِيُّ في (الرَّدِّ عَلَى الجَهْمِيَّةِ)، وغيرهما.
وقال الدَّارِمِيُّ لمَّا نَقَلَ الكَلامَ عَنِ ابْنِ المُبَارَكِ: «وَصَدَقَ ابْنُ المُبَارَكِ، إِنَّ مِنْ كَلَامِهِمْ مَا هُوَ أَوْحَشُ مِنْ كَلَامِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى».
قال المؤلف -رحمه الله- «ثُمَّ إِنَّهُمْ إِذَا أُنْكِرَ عَلَيْهِمْ سُوءُ مَذْهَبِهِمْ قَالُوا: لَنَا حُجَّةٌ مِنْ كِتَابِ الله -تَعَالَى-». يستَدِلُّونَ على باطِلِهِمْ بكتاب اللهِ بَزَعْمِهِمْ.
قال: من أَدِلَّتِهِمْ الَّتِي اسْتَدَلُّوا بها على الحُلُولِ قول الله -تعالى- في سورة المجادلة: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7]، قالوا: هَذَا دَلِيلٌ على أن الله حَالٌّ في كُلِّ مكانٍ، الثَّلَاثَةُ حَالٌّ مَعَهُمْ، والأربعةُ مَعَهُمْ، الثَّلَاثَةُ هُوَ رَابِعُهُمْ، والخَمْسَةُ هُوَ سَادِسُهُمْ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7]، إذًا هو حَالٌّ مَعَهُمْ.
واستدلوا أيضا بقول الله -تعالى-: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]. قالوا: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللهَ مُخْتَلِطٌ بالمخلوقاتِ.
قال المؤلف -رحمه الله-: «فَمَنْ سَمِعَهُمْ مِمَّنْ جَهِلَ الْعِلْمَ ظَنَّ أَنَّ الْقَوْلَ كَمَا قَالُوا، وَلَيْسَ هُوَ كَمَا تَأَوَّلُوهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالَّذِي يَذْهَبُ إِلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ الله عَلَى عَرْشِهِ، فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ».
والله -تعالى- جَمَعَ بَيْنَ هَذَيْنِ الأصْلَيْنِ: العلوِّ والمَعِيَّةِ، جمعَ هاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ في سورةِ الحديدِ قال الله -تعالى-: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد:4]، قال: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، وقال: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ، فاللهُ -تَعَالى- فوقَ العَرْشِ بذاتِهِ وفوق السمواتِ بِذَاتِهِ، وهو مع الخَلْقِ بعِلْمِهِ، واطِّلَاعِهِ، وإحاطَتِهِ، ونُفُوذِ قُدْرَتِهِ ومَشِيئَتِهِ، يراهم من فوقِ عَرْشِه.
المَعِيَّةُ ليس معناها الاخْتِلَاط؛ المَعِيَّةُ في لُغَةِ العَرَبِ معناها: المُصَاحَبَةُ، مُطْلَقُ المُصَاحَبَةِ، تقول العربُ: مَا زِلنَا نَسِيرُ والقَمَرُ مَعَنَا، والقَمَرُ فَوْقَنَا، ما زِلْنَا نَسِيرُ والنَّجْمُ مَعَنَا. وتقول: المَتَاعُ مَعِي. وإن كانَ فوقَ رأسِكَ. وتقول: فُلَانٌ مَعِي. وهو فَوْقَ السطح. ويقال: فلانٌ زَوْجَتُهُ معه. وهُوَ في المشرق وهي في المَغْرِبِ، يعني أنها في عِصمَتِهِ.
ويقول: الرئيسُ أو المَلِكُ: أنَا مَعَكَ. لمَنْ يُؤَيِّدُهُ ويَنْصُرُه، والمرادُ: مَعَكَ جَيْشِي، يُرْسِلُ جَيْشَهُ ويقولُ: أنَا مَعَكَ.
إذن المَعِيَّةُ ليسَ معْنَاهَا الاخْتِلَاط، لا تُفِيدُ الاخْتِلَاطَ، ولا الامْتِزَاجَ، ولا المُحَاذَاةَ عن يمين ولا عن شمال، وإِنَّمَا تُفِيدُ مُطْلَقَ المصَاحَبَةِ.
فَهَؤلَاءِ الحُلُولِيَّةُ ضَرَبُوا النُّصُوصَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، ضَرَبُوا نُصُوصَ المَعِيَّةِ بنُصُوصِ الفَوْقِيَّةِ والعُلُوِّ، أبْطَلُوا نُصُوصَ الفَوْقِيَّةِ والعُلُوِّ بنُصُوصِ المَعِيَّةِ وقالوا: إنَّ الله مُخْتَلِطٌ بالمَخْلُوقَاتِ. تَعَالى اللهُ عَمَّا يَقُولُونَ.
وأَهْلُ الحَقِّ أَهْلُ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ وَفَّقَهُمُ اللهُ فعَمِلُوا بالنُّصوصِ من الجَانِبَيْنِ، وقالوا: إنَّ اللهَ فوقَ العَرْشِ وفَوْقَ المخْلُوقَاتِ بِذَاتِهِ، وهُوَ مَعَهُمْ بعِلْمِهِ وإِحَاطَتِهِ واطِّلَاعِهِ.
فآيةُ المُجَادَلَةِ تُرِيدُ مَعِيَّةَ العِلْمِ، لأنَّ الله افتتحَ الآية بالعِلْمِ وخَتَمَهَا بالعِلْمِ؛ فدَلَّ على أنَّهَا مَعِيَّةُ عِلْمٍ وإحَاطَةٍ واطِّلَاعِ، انْظُرْ أَوَّلَ الآية: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7].
فافْتَتَحَ الآيةَ بالعِلْمِ وخَتَمَهَا بالعِلْمِ فدَلَّ على أنها مَعِيَّةُ عِلْمٍ، ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: «وَالَّذِي يَذْهَبُ إِلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ الله عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَلَمَّا أَحَاطَ عِلْمُهُ بِجَمِيعِ مَا خَلَقَ فِي السَّمَوَاتِ الْعُلَى، وَبِجَمِيعِ مَا فِي سَبْعِ أَرَضِينَ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19]. يَعْلَمُ الْخَطْرَةَ وَالْهَمَّةَ، يَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ النُّفُوسِ، يَسْمَعُ وَيَرَى، وَلَا يَعْزُبُ عَنِ الله مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ وَمَا بَيْنَهُنَّ إِلَّا وَقَدْ عَلِمَ بِهِ، وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ -سُبْحَانَهُ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى-، تُرْفَعُ إِلَيْهِ أَعْمَالُ الْعِبَادِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَرْفَعُونَهَا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ».
هَذَا الكلام نَقَلَهُ مِنْ كِتَابِ (الشَّرِيعَةِ) للآجُرِّيِّ.
والنُّقُولُ عن السَّلَفِ في ذلك كَثِيرَةٌ جِدًّا، أَفْرَدَ فِيهَا أَهْلُ العِلْمِ كُتُبًا مُسْتَقِلَّةً، بل قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَةَ -رحمه الله-: «ثُمَّ عَنِ السَّلَفِ في ذلكَ منَ الأَقْوَالِ مَا لَوْ جُمِعَ لَبَلَغَ مِئَات أوْ أُلُوفًا»([6]).
المتن:
51- قَالَ أَبُو بَكْرٍ الآجُرِّيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَأَيشْ مَعْنَى مَا ذَكَرُوهُ؟ قِيلَ لَهُ: اللهُ -تَعَالى- عَلَى عَرْشِهِ، وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِهِمْ، وَبِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، كَذَا فَسَّرَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ.
وَالْآيَةُ يَدُلُّ أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا عَلَى أَنَّهُ الْعِلْمُ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، إِلَى آخِرِ الآيَةِ، قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7].
فَابْتَدَأَ اللهُ الْآيَةَ بِالْعِلْمِ، وَخَتَمَهَا بِالْعِلْمِ، فَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ خَلْقِهِ، وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ».
الشرح:
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الآجُرِّيُّ -رحمه الله- فإن قال قائل: «فَأَيشْ مَعْنَى مَا ذَكَرُوهُ؟». أيش: نَحْتٌ أَصْلُهَا: أَيُّ شَيْءٍ، فنُقِلَتْ مِنْهَا. ومعناها هنا: أَيُّ شَيْءٍ مَعْنَى مَا ذَكَرُوهُ.
وقد جَاءَتَ كَلِمَةُ أَيْشِ في كَلَامِ الإمام أحمد -رحمه الله-، وجاء بها الشيخ مُحَمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّابِ -رحمه الله- أيضًا فِي تَقييمِ أُصُولِ العَقِيدَةِ العامة إذ يقول: أَيش مَعْنَى المُحْكَمِ؟ أَيش الدِّلِيلُ على المخلوقات؟ أيش الدَّلِيل على كذا وكذا؟
«فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَأَيشْ مَعْنَى مَا ذَكَرُوهُ؟». يعني: أَيُّ شيءٍ مَعْنى ما ذَكَرُوهُ؟
«قيل له: اللهُ عَلَى عَرْشِهِ، وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِهِمْ، وَبِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، كَذَا فَسَّرَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ». إذًا لا مُنَافَاةَ بَيْنَ نُصُوصِ الفَوْقِيَّةِ والعُلُوِّ ونُصُوصِ المَعِيَّةِ.
نُصُوصُ الفَوْقِيَّةِ والعُلُوِّ تَدُلُّ على أن اللهَ فَوْقَ العَرْشِ وفَوْقَ السموات، نُصُوصُ المَعِيَّةِ تَدُلُّ على مَعِيَّةِ العِلْمِ، يعْنِي: اللهُ مَعَهُمْ بِعِلْمِهِ، وإِحَاطَتِهِ، واطِّلَاعِهِ، ونُفُوذِ قُدْرَتِهِ، ومَشِيئَتِهِ، وتَدْبِيرِهِمْ، والإحَاطَةِ بهم وهُوَ فَوْقَ العَرْشِ .
قوله: «وَالْآيَةُ يَدُلُّ أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا عَلَى أَنَّهُ الْعِلْمُ». يعْنِي: آية المجادلة، فإنَّ الله افْتَتَحَهَا بالعِلم وخَتَمَها بالعِلْمِ؛ قال -تعالى-: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ قَالَ: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا، ثم قال في آخِرِ الآيَةِ: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7]. «فَابْتَدَأَ اللهُ الْآيَةَ بِالْعِلْمِ، وَخَتَمَهَا بِالْعِلْمِ، فَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ خَلْقِهِ، وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ».
فَقَوْلُ المسلِمِينَ يَجْمَعُونَ بينَ نُصُوصِ العُلُوِّ والمَعِيَّةِ، يقولون: إنَّ الله فوقَ العَرْشِ بذاته ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، مَعَ النَّاسِ، وهُو معَ الخلْقِ بعِلْمِهِ، وإِحَاطَتِهِ، واطِّلَاعِهِ. ذَاتُه فَوْقَ العَرْشِ، وهو معهم بعِلْمِهِ، واطِّلَاعِهِ، وإِحَاطَتِهِ، وتَدْبِيرِهِ، ونُفُوذِ قُدْرَتِهِ، ومَشِيئَتِهِ.
المتن:
52- أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْحِمَامِيُّ ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ الخُطَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قال: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ: قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: «اللهُ فِي السَّمَاءِ، وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ».
وَرَوَاهُ الآجُرِّيُّ وَزَادَ فِيهِ: «لَا يَخْلُو مِنْ عِلْمِهِ مَكَانٌ».([7])
وَعَنْ سُفْيانَ الثَّوْرِيِّ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ[الحديد:4]، قَالَ: «عِلْمُهُ»([8]).
وَعَنِ الضَّحَّاكِ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا[المجادلة:7]، قَالَ: «هُوَ عَلَى الْعَرْشِ، وَعِلْمُهُ مَعَهُمْ»([9]).
وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ وَغَيْرُهُ عَنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي الآيَةِ: «المُرَادُ بِهِ العِلْمُ لِأَنَّهُ بَدَأَهَا بِالْعِلْمِ وَخَتَمَهَا بِهِ»([10]).
الشرح:
ذَكَرَ المُؤَلِّفُ -رحمه الله- هَذَا الأَثَرَ عن مالكِ بنِ أَنَسٍ، قال: عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ «اللهُ فِي السَّمَاءِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ». هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ النُّصُوصِ، اللهُ في السَّمَاءِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ العُلُوِّ، والفَوْقِيَّةِ، والاسْتِوَاءِ، وعِلْمُهُ في كلِّ مكان كما دَلَّتْ عَلَيْهِ نصوصُ المَعِيَّةِ.
ورَوَاهُ الآجُرِّيُّ وزَادَ فَيهِ: «لَا يَخْلُو مِنْ عِلْمِهِ مَكَانٌ». هَذَا رَوَاهُ الآجُرِّيُّ مِنْ طَرِيقِ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ.
وَعَنْ سُفْيانَ الثَّوْرِيِّ: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ[الحديد:4]، قَالَ: «عِلْمُهُ».
وَعَنِ الضَّحَّاكِ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا[المجادلة:7]، قَالَ: «هُوَ عَلَى الْعَرْشِ، وَعِلْمُهُ مَعَهُمْ».
يعني: هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ النُّصُوصِ، هُوَ عَلى العَرْشِ بِذَاتِهِ، وعِلْمُهُ مَعَ الخَلْقِ.
وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ وَغَيْرُهُ عَنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي الآيَةِ: «المُرَادُ بِهِ العِلْمُ، لِأَنَّهُ بَدَأَهَا بِالْعِلْمِ وَخَتَمَهَا بِهِ». يعني: آيةَ المُجَادَلَةِ. ذكره الإمامُ أحمدُ في كِتَابِ (الرَّدِّ عَلَى الجَهْمِيَّةِ).
اللهُ - تَعَالَى- فِي السَّمَاءِ عَلَى عَرْشِهِ وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ خَلْقِهِ.
المتن:
ذِكْرُ السُّنَنِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الله عَلَى عَرْشِهِ وَفَوْقَ سَمَوَاتِهِ
53- قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيّ: فِي كِتَاب الله -تَعَالَى- آيَاتٌ تَدَلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- فِي السَّمَاءِ عَلَى عَـرْشِهِ، وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ خَلْقِهِ.
قَالَ اللهُ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [الملك: 16-17]، وَقَالَ: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10]، وَقَالَ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: 1] وَقَالَ لِعِيسَى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران: 55]، وَقَالَ: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء: 158]، وَقَالَ: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق: 12].
| الشرح |
«قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ: فِي كِتَابِ الله -تَعَالَى- آيَاتٌ تَدَلُّ عَلَى أَنَّ الله - تَعَالَى- فِي السَّمَاءِ عَلَى عَـرْشِهِ وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ خَلْقِهِ».
ثم استدلَّ بالآيات، قال الله أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [الملك: 16-17].
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِالمرادُ بالسماء: العلو، وكلُّ شيء فوق رأسك فهو سماءٌ، و أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ يعني: مَن في العُلو، والله - تعالى - له أعلى العلو، وهو ما فوق العرش.
والمرادُ بالسَّماء الطِّبَاق المبنيَّة، وتكون (في) بمعنى (على): أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِيعني: مَنْ عَلَى السماءِ؛ لكن الأصل أن (في) للظرفية، وكَون المرادِ بالسماء العلوَّ هذا هو الأصل.
و إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10] ،الصعودُ إنما يكون من أَسْفل إلى أَعْلى؛ فدلَّ على أن الله في العلو.
وكذلك الرفعُ يكون من أَسْفل إلى أعلى؛ فدلَّ على أن الله في العلو: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران: 55] الرفعُ يكون من أسفل إلى أعلى، سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: 1] فالله -تعالى- وصف نفسَه بأنه الأعلى، وله أعلى العلو وهو ما فوق العرش، وقال: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق: 12] عِلمُه محيطٌ بكل شيء، فهو فوق العرش.
| المتن |
فصل
54- قَالَ: وَالسُّنَنُ وَالْآثَارُ قَدْ وَرَدَتْ بِذَلِكَ مُتَوَاتِرَةً مِنَ الطُّرُقِ الصِّحَاحِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَزَّازُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ عِيسَى بْنُ مُوسَى بْنِ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللهِ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ الْجَصَّاصُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ التُّسْتَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ لَمَّا خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ كَتَبَ بِيَدِهِ عَلَى نَفْسِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي.
وَرَوَاهُ الْآجُرِّيُّ: فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ.
| الشرح |
أَخذ المؤلفُ في هذا الفَصل في بيان أدلة السُّنَّة، فأدلة السُّنَّة دلَّت على ما دلت عليه نصوصُ الكِتَاب؛ من إثباتِ أن اللهَ في العلو، وأنه فوق العَرش؛ فوقَ المخلوقات بذاته، وعِلمُه محيطٌ بكل شيء.
فذَكَر حديثَ محمد بن عَجْلان عن أبيه عن أبي هُرَيرة قال: قال رسول الله ﷺ لَمَّا خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ كَتَبَ بِيَدِهِ عَلَى نَفْسِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي ففيه إثباتُ صفةِ الخَلْق لله، وفيه إثباتُ الكِتابة لله، وفيه إثباتُ الرحمة، وفيه إثبات الغضب؛ أربع صفات لله: صِفةُ الخلق، وصِفة الكتابة، وصِفة الرحمة، وصفة الغضب، وفيه أن الرحمةَ تَغْلِب الغضبَ.
وروى هذا الحديثَ من هذا الطريق أحمدُ والتِّرمِذيُّ، وابنُ ماجَه وابنُ حِبَّان، وقال الترمذي: حديثٌ حسنٌ غريبٌ، وهو في هذا الحديث حسنٌ؛ لأنه من رواية محمد بن عَجْلان؛ ومحمد بن عجلان حَسنُ الحديث، ولكن الحديث رواه الشيخان؛ البخاري ومسلم من طريق الأَعْمَش عن ذَكْوَان عن أبي هريرة بلفظ: لَمَّا خَلَقَ اللهُ الخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ وَهُوَ يَكْتُبُ عَلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ وَضْعٌ عِنْدَهُ عَلَى العَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي. ([11]).
والدليلُ على العُلوِّ قولُه: كَتَبَ فِي كِتَابِهِ وَهُوَ وَضْعٌ عِنْدَهُ فالعِنْديَّةُ تُفيد العُلوَّ عِنده. فالله - تعالى- فوقَ العرشِ كَتَب في كتابه، وهو عِندَه وهو وَضْعٌ عنده على العَرش. والعرش سَقْفُ المخلوقات، والله -تعالى- فوق العرش، وكَتَب كِتَابه عِندَه فوق العرش، فدلَّ على أن الله في العلو.
| المتن |
| الشرح |
هذا الحديثُ رواه المؤلفُ عن سَهْل بن سعد الساعدي قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا [القصص: 46] قَالَ: كَتَبَ اللهُ كِتَابًا فِي وَرَقَةِ أسر، وَوَضَعَهُ مَعَهُ عَلَى الْعَرْشِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الدُّنْيَا بِأَلْفَيْ عَامٍ، وَأَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْتَغْفِرُونِي، وَأَعْطَيْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُونِي، فَمَنْ لَقِيَنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَلَمْ يُشْرِكْ بِي؛ أَوْجَبْتُ لَهُ الْجَنَّةَ.
وفي عموم هذا الحديث غَرَابة، وهي قوله: قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الدُّنْيَا بِأَلْفَيْ عَامٍ. وقد رواه ابن مَرْدَوَيْه وأَبُو نُعَيم في دلائل النبوة، والدَّيْلَمي عن عمرو بن عبسة قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ قَوْلِهِ -تَعَالَى-: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا [القصص: 46] مَا كَانَ النِّدَاءُ؟ وَمَا كَانَ الرَّحْمَةُ؟ قَالَ: كِتَابٌ كَتَبَهُ اللهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ بِأَلْفَيْ عَامٍ وَذَكَر نَحْوَهُ.
ولا شكَّ أن في مَتْن هذا الحديث غرابةً، والأقرب أنه لا يصح؛ لقوله: كَتَبَ فِي كِتَابٍ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الدُّنْيَا بِأَلْفَيْ عَامٍ، والآياتُ والأحاديثُ الصحيحة كافيةٌ في هذا.
والشاهدُ قوله وَوَضَعَهُ مَعَهُ عَلَى الْعَرْشِ لإثبات أن الله فوق العرش؛ لكن لا حاجة إلى مثل هذا الحديث الذي في متنه غرابة؛ لأن الآيات والأحاديث الصحيحة والنصوص كافية.
| المتن |
| الشرح |
ذَكَر الْآجُرِّيُّ هذا في الشريعة، وقوله: «حَدَّثَنَا بِكِتَابِ الَعَرْشِ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ» وكتاب العرش لابن أبي شيبة معروف، وهو يشتمل على أحاديث العرش، وفيه الرد على الجهمية، وهو مطبوع بتحقيق محمد بن محمود، من رواية أبي الفتح، وهو من شيوخ المؤلف، فقول المؤلف: «قَدْ حَدَّثَنَا» يعني: ابنَ أبي الفَوَارس.
| المتن |
فَصْلٌ
تَكْفِيرُ الْمُشَبِّهَةِ وَالْمُجَسِّمَةِ
57- وَأَمَّا الْمُشَبِّهَةُ وَالْمُجَسِّمَةُ فَهُمُ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ صِفَاتِ اللهِ مِثْلَ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، وَهُمْ كُفَّارٌ.
| الشرح |
المُشبِّهَةُ الذين يُشبِّهونَ الخالقَ بالمخلوقِ؛ يقولون: إنَّ لله يَدًا كيَدِي، واستواءً كاستوائي، والمُجَسِّمَة الذين يقولون إن الله جِسم مثل الأجسام المخلوقة، فسَّر ثم قال: «الَّذِينَ يَجْعَلُونَ صِفَاتِ الله مِثْلَ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، وَهُمْ كُفَّارٌ».
وهؤلاء كفارٌ كفَّرهم الأئمةُ؛ فيقول نُعَيم بن حَمَّاد وابن خزيمة: «مَنْ شَبَّهَ الله بِخَلْقِهِ فَقَدْ كَفَرَ». نسألُ الله السلامةَ والعافية، والله -تعالى- يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] وهذا مُكذِّبٌ لله، وقال الله -تعالى-: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم: 65]، وقال: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 22]، قال: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [النحل: 74] وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [النحل: 60]. فالمُشبِّهةُ مُكذِّبون لله -تعالى- في هذه الآيات فهم كفار.
| المتن |
المُشَبِّهَةُ يُشَبِّهُونَ صِفَاتِ الْخَالِقِ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِ:
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ : المُشَبِّهَةُ تَقُولُ: بَصَرٌ كَبَصَرِي، وَيَدٌ كَيَدِي. وَمَنْ قَالَ هَذَا فَقَدْ شَبَّهَ الله -تَعَالَى- بِخَلْقِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11].
| الشرح |
نعم هذا كلامُ الإمامِ أحمد بن حنبل: «المُشَبِّهَةُ تَقُولُ: بَصَرٌ كَبَصَرِي، وَيَدٌ كَيَدِي. وَمَنْ قَالَ هَذَا فَقَدْ شَبَّهَ الله -تَعَالَى- بِخَلْقِهِ»، والله -تعالى- يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11]. وتُعَدُّ هذه الآية الكريمة أصلًا عظيمًا في تقرير مُعتقَد أهل السُّنة، وإبطال ما سواه؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: طَريقةُ أهلِ السُّنة إثبات الأسماء والصفات، مع نفي مماثلة المخلوقات، إثباتا بلا تشبيه، وتنزيها بلا تعطيل، كما قال –تعال-: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] ففي قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ردٌّ للتشبيه والتمثيل، وفي قوله وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ردٌّ للحَجْر والتعطيل، وكذلك في إثبات السمع والبصر بعد نفي المثلية أَبينُ دلالةٍ على أن إثباتَ الصفات على الوجه اللائق بالله لا يقبل تشبيه الله بالمخلوقات.
| المتن |
إِضافةُ التشبيهِ والتجسيم إلى أهل السُّنة كَذبٌ وبُهتَان:
وَبِهِمْ وَجَدَ المُبْتَدِعُ المُلْحِدُ طَرِيقًا عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ فَأَضَافَ إِلَيْهِمُ التَّشْبِيهَ وَالتَّجْسِيمَ، وَهَذَا كَذِبٌ وَبُهْتَانٌ وَإِفْكٌ وَطُغْيَانٌ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهِ مِنْ سُلْطَانٍ.
قَدْ نَزَّهَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- حَمَلَةَ الْقُرْآنِ وَآثَارِ الرَّسُولِ ﷺ الَّذِينَ هُمْ سُرُجُ الْعِبَادِ وَنُورُ الْبِلَادِ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ الْعَوْرَاءِ وَالْجَهَالَةِ الْعَمْيَاءِ، بَلْ يَصِحُّ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ، وَيَصِحُّ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهَا مِنْ أَبَاطِيلِ الْمُلْحِدَةِ، حِينَ ضَاقَ بِهِمُ الْمَخْرَجُ؛ وَلَمْ يَصِحَّ لَهُمُ الْمَنْهَجُ، وَرَأَوْا مَا أَبْدَى اللهُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ مِنْ عَوْرَاتِهِمُ الشَّنِيعَةِ وَجَهَالَاتِهِمُ الْفَظِيعَةِ مَا خَالَفُوا فِيهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الْأُمَّةِ أَرَادُوا أَنْ يُمَوِّهُوا عَلَى الْعَوَامِّ، وَيُوهِمُوا بِزُخْرُفِ الْكَلَامِ مَا نَزَّهَ اللهُ عَنْهُ كُلَّ إِمَامٍ يُقْتَدَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَيُهْتَدَى بِقَوْلِهِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ.
أَتُرَى يَظُنُّ مُسْلِمٌ أَنَّ مَا تَخَرَّصُوهُ يُدَنِّسُ مِثْلَ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ السَّادَاتِ أُولِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُجَاهَدَاتِ؟ هَيْهَاتَ! خَابَ وَالله مَا رَجَوْهُ، وَبَطَلَ مَا أَمَّلُوهُ؛ بَلْ مَا ذَكَرَهُ الْأَئِمَّةُ فِي غُلَاتِهِمْ وَغُوَاتِهِمْ أَلْيَقُ وَإِلَيْهِمْ أَسْبَقُ؛ مِثْلِ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ الَّذِي قَالَ فِيهِ ابْنُ شَوْذَبٍ: تَرَكَ الصَّلَاةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَى وَجْهِ الشَّكِّ، وَقِيلَ لَهُ بِالشَّامِ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ فَقَالَ: أَطْلُبُ رَبًّا أَعْبُدُهُ، وَمِثْلِ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ الَّذِي قَالَ فِيهِ الْحَسَنُ: لَا تُجَالِسُوهُ فَإِنَّهُ ضَالٌّ مُضِلٌّ.
وَمِثْلِ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ الَّذِي قَالَ أَبُو النَّضْرِ: سَمِعْتُهُ يَطْعَنُ عَلَى الصَّحَابَةِ وَيَقُولُ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ حَشْوِيًّا.
وَقَالَ قَيْسٌ الْعَبَّاسِيُّ: سَأَلْتُهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَلَمْ يُجِبْنِي فَقُلْتُ: لَا بُدَّ لِي، فَقَالَ: قَدْ كَانَ مِنْ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ بُدٌّ؟! فَكَيْفَ مِنْ مَسْأَلَتِكَ؟! وَكَانَ يُظْهِرُ الزَّهَادَةَ عَلَى وَجْهِ التَّلْبِيسِ، وَهُوَ فِي اعْتِقَادِهِ شَرٌّ مِنْ إِبْلِيسَ، وَقَدْ أُنْشِدْتُ لِلطَّوْلَقِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-:
دَعْ عَنْـكَ هَــزْلَ الْهَـزَلَةِ وَاعْتَزِلِ الْمُعْتَـزِلَهْ
فَـــإِنَّهَــا شِـــرْذِمَةٌ عَـنِ الْهُــدَى مُنْخَـذِلَـهْ
أَخَسُّ كَلْبٍ فِـي الْوَرَى أَجَلُّ مِنْهُمْ مَنْزِلَهْ
وَأَنْشَدَ آخَرُ:
خُذْهَــا أَتَـــتْ مُنْطَبِعَةً مَقَـالَةً مُرْتَفِـعَهْ
ثُمَامَــةُ وَمَعْبَــدٌ وَجَــهْمُهُمْ مُبْتَــــدِعَـــهْ
ثَـلَاثَةٌ شَـرُّ الْوَرَى إِبْلِيـسُ خَيْرُ الْأَرْبَـعَهْ
| الشرح |
يقول: إن هؤلاء المُشبِّهةَ الذين شَبَّهوا الله بخَلْقه، وقالوا: إن الله يُشبِه المخلوقاتِ هم الَهزَلةُ المبتدعةُ، لم يجدوا طريقًا على أهل السُّنة، وأصحاب الحديث، فأضافوا إليهم التشبيه والتجسيد، أي فتحوا الباب أمام المبتدعة الذين شبَّهوا الله بخَلْقه، وقالوا: إن الله مثل المخلوقات، وأنه من الأجسام، فتحوا بابًا لطريق المبتدع الملحد فقال: إن أهل السُّنة الذين يُثبتون هذه الأسماء والصفات مشبهة، وقال: كل من أثبت الصفاتِ فهو مُشبِّه.
فمن الذي فتح الباب له؟ إنهم المشبهة لمَّا قالوا: إن الله يُشبه المخلوقات، ففتحوا بابًا لهؤلاء المبتدعة فقالوا: كلُّ مَن يُثبت الصفاتِ فهو مُشبِّه؛ ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: «وَبِهِمْ وَجَدَ المُبْتَدِعُ المُلْحِدُ طَرِيقًا عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ فَأَضَافَ إِلَيْهِمُ التَّشْبِيهَ وَالتَّجْسِيمَ»، ثم قال: «وَهَذَا كَذِبٌ وَبُهْتَانٌ وَإِفْكٌ وَطُغْيَانٌ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهِ مِنْ سُلْطَانٍ» أي إن إضافة التشبيه والتجسيم إلى أهل السُّنة كَذِب وبُهتان، فقد نزَّه الله -سبحانه- حملةَ القُرآن وآثار الرسول ﷺ عنهما.
ثم قال: «الَّذِينَ هُمْ سُرُجُ الْعِبَادِ وَنُورُ الْبِلَادِ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ الْعَوْرَاءِ وَالْجَهَالَةِ الْعَمْيَاءِ» وهي القول بأن الله يُشبه المخلوقات؛ ويقول: «بَلْ يَصِحُّ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ، وَيَصِحُّ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهَا مِنْ أَبَاطِيلِ الْمُلْحِدَةِ، حِينَ ضَاقَ بِهِمُ الْمَخْرَجُ؛ وَلَمْ يَصِحَّ لَهُمُ الْمَنْهَجُ، وَرَأَوْا مَا أَبْدَى اللهُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ مِنْ عَوْرَاتِهِمُ الشَّنِيعَةِ وَجَهَالَاتِهِمُ الْفَظِيعَةِ مَا خَالَفُوا فِيهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الْأُمَّةِ».
«أَرَادُوا أَنْ يُمَوِّهُوا عَلَى الْعَوَامِّ» أي: يُلبِّسوا، فالتمويهُ يعني: تمويه الباطل وتزيينه. «وَيُوهِمُوا بِزُخْرُفِ الْكَلَامِ» أي: أرادوا أن يُموِّهوا على الناس بأن أهل السُّنة مُشبِّهة، أي الذين يثبتون الصفات؛ حتى يضطروهم إلى أن ينفوا الصفات؛ حتى لا يكونوا مشبهة.
ثم يقول -رحمه الله-: «هَذَا مَا نَزَّهَ اللهُ عَنْهُ كُلَّ إِمَامٍ يُقْتَدَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَيُهْتَدَى بِقَوْلِهِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. أَتُرَى يَظُنُّ مُسْلِمٌ أَنَّ مَا تَخَرَّصُوهُ يُدَنِّسُ مِثْلَ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ السَّادَاتِ أُولِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُجَاهَدَاتِ؟ هَيْهَاتَ!» أي هل يُمكن لكلامهم وكَذِبهم أن يدنس الأئمةَ الكبار مثل مالك بن أنس وسفيان الثوري والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من السادات؟ هيهات هيهات! فهذا كَذِب بعيدٌ.
«خَابَ وَالله مَا رَجَوْهُ، وَبَطَلَ مَا أَمَّلُوهُ» لا يمكن لهم أن يُدنِّسوا مثل هؤلاء الأئمة، «بَلْ مَا ذَكَرَهُ الْأَئِمَّةُ فِي غُلَاتِهِمْ وَغُوَاتِهِمْ أَلْيَقُ وَإِلَيْهِمْ أَسْبَقُ» أي إن هذه العيوب إنما هي في أئمة المبتدعة، مثل الجهم بن صفوان الذي تُنسب إليه الجَهْمِيَّة؛ لأنه يُنكِر الأسماء والصفات، بل هو الذي نَشَر عقيدةَ نفي الصفات ونُسِبَت إليه؛ وهو «الَّذِي قَالَ فِيهِ ابْنُ شَوْذَبٍ: تَرَكَ الصَّلَاةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَى وَجْهِ الشَّكِّ»، أي إنه ترك الصلاةَ أربعين يومًا - والعياذ بالله - شاكًّا في ربه، «وَقِيلَ لَهُ بِالشَّامِ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ فَقَالَ: أَطْلُبُ رَبًّا أَعْبُدُهُ» أي إنه -والعياذ بالله- لا يعرف ربَّه، لم يكن له رَبٌّ، التبس عليه الأمر.
وروى قولَ ابنِ شَوْذبٍ البُخارِيُّ في (خلق أفعال العباد) واللَّالكائي في (شرح الاعتقاد)، وروى المقالة الثانية ابنُ بَطَّة في (الشرح والإبانة)، وسبب هذا فَسَاد المعتقَد؛ ولهذا قال ابن المبارك: «كُلُّ قَوم يَعرفُون ما يعبدون إلا الجَهمية ما يعرفون ما يعبدون» نعوذ بالله من ذلك.
ومثل مَعْبَد الجُهَني([13]) أول من تَكلَّم في القَدَر بالبصرة، معبد الجهني الذي يقول: إن الله لا يعلم الأشياء حتى تقع، وقد «قَالَ فِيهِ الْحَسَنُ: لَا تُجَالِسُوهُ فَإِنَّهُ ضَالٌّ مُضِلٌّ»([14]) رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق.
ومثل عمرو بن عُبَيْد رئيس المعتزلة والاعتزال؛ وقد قال عنه أبو النضر: «سَمِعْتُهُ يَطْعَنُ عَلَى الصَّحَابَةِ وَيَقُولُ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ حَشْوِيًّا» يقول عن عبد الله بن عمر بن الخطاب الصحابي حَشْوي؛ وحَشْوي هذه نَبْذَةٌ يَنبذون بها أهلَ السنة يسمونهم حشوية؛ فعند هؤلاء كلُّ مَن يثبت الأسماء والصفات يُسمونه حَشويًّا، ويسمونهم نوابتَ، كالشيء الذي يَنبت في الزرع ولا فائدة فيه. ويُسمي القَدَريَّة أهل السُّنة مُجبِّرةً تنفيرًا منهم ونَبْذًا بالألقاب السيئة.
وقال قيسٌ العَبَّاسي عن عَمْرو بن عُبَيد هذا: «سَأَلْتُهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَلَمْ يُجِبْنِي فَقُلْتُ: لَا بُدَّ لِي، فَقَالَ: قَدْ كَانَ مِنْ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ بُدٌّ؟! فَكَيْفَ مِنْ مَسْأَلَتِكَ؟! وَكَانَ يُظْهِرُ الزَّهَادَةَ عَلَى وَجْهِ التَّلْبِيسِ، وَهُوَ فِي اعْتِقَادِهِ شَرٌّ مِنْ إِبْلِيسَ»؛ ولهذا اغتر به أقوام بسبب تظاهره بالزهد والعبادة، وممن اغتر بعمرو بن عبيد لإظهاره الزهد في الدنيا مع كونه معتزليًّا يُنكِر الأسماءَ والصفات كل الصفات أبو جعفر المنصور الخليفة، فقد كان يعظم ابنَ عبيد هذا، ويقول: «كلُّكم يمشي رويد، كُلكم يطلب الصيدَ غيرَ عمرو بن عبيد» يعني أنه زاهد في الدنيا؛ فكلكم يريد مالي إلا عمرو بن عبيد.
فقد اغتر بزُهدِه وادعائه الإخلاص وأغفل بدعته؛ بل ذكر ابن قتيبة في كتابه (المعارف) أن المنصور رثى عمرو بن عبيد لما مات فقال:
صَلَّـى الإِلَـهُ عَلَيْـكَ مِـنْ مُتَوَسِّدٍ | قـَـبْرًا مَـرَرْتُ بِـهِ عَلَـى مِـرَّانِ |
قَــبْرًا تَضَمَّـنَ مُؤْمِنـًـا مُتَحَنِّثًـا | صَــدَقَ الإِلــهَ وَدَانَ بِالْقُــرْآنِ |
فَلَوَ انَّ هَـذَا الدَّهْـرَ أَبْقَـى صَـالِحًا | أَبْقَـى لَنَــا حَقًّـا أَبَــا عُثْمَـانِ |
ذكر ذلك الذَّهَبي في تاريخ الإسلام في ترجمة عمرو بن عبيد، ثم قال: «لَمْ يُسْمَعْ بِخَلِيفَةٍ رثى من دونه سواه»([15])، فلا يُعرَف أن خليفةً رفع من دونه سِوى المنصور رفع عمرو بن عبيد.
وكل هذا بسبب الاغترار به؛ ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: «وَكَانَ يُظْهِرُ الزَّهَادَةَ عَلَى وَجْهِ التَّلْبِيسِ، وَهُوَ فِي اعْتِقَادِهِ شَرٌّ مِنْ إِبْلِيسَ».
قال: وقد أنشدت للطولقي:
دَعْ عَنْـكَ هَــزْلَ الْهَـزَلَةِ وَاعْتَزِلِ الْمُعْتَـزِلَهْ
فَـــإِنَّهَــا شِـــرْذِمَةٌ عَـنِ الْهُــدَى مُنْخَـذِلَـهْ
أَخَسُّ كَلْبٍ فِـي الْوَرَى أَجَلُّ مِنْهُمْ مَنْزِلَهْ
وَأَنْشد آخرُ:
خُذْهَــا أَتَـــتْ مُنْطَبِعَةً مَقَـالَةً مُرْتَفِـعَهْ
ثُمَامَــةُ وَمَعْبَــدٌ وَجَــهْمُهُمْ مُبْتَــــدِعَـــهْ
ثَـلَاثَةٌ شَـرُّ الْوَرَى إِبْلِيـسُ خَيْرُ الْأَرْبَـعَهْ
ثمامة بن أشرس المعتزلي([16]) ومعبد الجهني([17]) القَدَري الذي قال بالقدر وجَهْم بن صفوان([18]) رأس الجهمية شر الورى أي شر الناس، ورابعهم إبليس، وإبليس خير الأربعة. نسأل الله السلامة والعافية.
| المتن |
ذِكْرُ الْمُؤَلِّفِ لِبَعْضِ أَسْمَاءِ الْمُبْتَدِعَةِ:
وَمِنْهُمْ غَيْلَانُ الْقَدَرِيُّ الَّذِي ضُرِبَتْ عُنُقُهُ بَعْدَ قَطْعِ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَسَمْلِ عَيْنَيْهِ، وَأَبُو الْهُذَيْلُ الْعَلَّافُ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّظَّامُ وَالْجُبَّائِيُّ وَابْنُ أَبِي دُؤَادٍ الَّذِي أَبَانَ اللهُ فَضَائِحَهُ، وَأَظْهَرَ قَبَائِحَهُ عَلَى لِسَانِ الْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللهِ أَحْمَدِ بْنِ حَنْبَلٍ .
وَمِنْهُمْ ثُمَامَةُ بْنُ أَشْرَسَ وَبَرْغُوثٌ وَرَبَالُوَيْهِ وَأَبُو سَعِيدٍ([19]) الْحَجَّامُ، وَسَهْلٌ الْجَزَّارُ وَأَبُو لُقْمَانَ الْكَافِرُ، وَحَفْصٌ الْفَرْدُ الَّذِي كَفَّرَهُ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- وَسَمَّاهُ: حَفْصٌ الْمُنْفَرِدُ([20]).
وَلَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْمَأْمُونِ أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا لِحَاجِبِهِ: انْظُرْ مَنْ بِالْبَابِ مِنْ أَصْحَابِ الْكَلَامِ، فَخَرَجَ وَعَادَ إِلَيْهِ فَقَالَ: بِالْبَابِ أَبُو الْهُذَيْلِ الْعَلَّافُ وَهُوَ مُعْتَزِلِيٌّ وَعَبْدُ الله بْنُ إِبَاضٍ الْإِبَاضِيُّ، وَهِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ الرَّافِضِيُّ. فَقَالَ الْمَأْمُونُ: مَا بَقِيَ مِنْ أَعْلَامِ جَهَنَّمَ أَحَدٌ إِلَّا وَقَدْ حَضَرَ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّاسٍ الْمِصْرِيُّ: سَمِعْتُ هَارُونَ الرَّشِيدَ يَقُولُ: طَلَبْتُ أَرْبَعَةً فَوَجَدْتُهَا فِي أَرْبَعَةٍ؛ طَلَبْتُ الْكُفْرَ فَوَجَدْتُهُ فِي الْجَهْمِيَّةِ، وَطَلَبْتُ الْكَلَامَ وَالشَّغَبَ فَوَجَدْتُهُ مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَطَلَبْتُ الْكَذِبَ فَوَجَدْتُهُ مَعَ الرَّافِضَةِ، وَطَلَبْتُ الْحَقَّ فَوَجَدْتُهُ مَعَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ.
| الشرح |
ذَكر المؤلف -رحمه الله- من المُبتدعة عددًا، منهم غَيلانُ القَدَري الذي ضُرِبت عنقُه، ومنهم مَعْبَد الجهني الذي يُنكرِ القَدَر، وينكر عِلمَ الله بالأشياء قبل كَوْنها، وقد ضُرِبت عنقُه بعد قَطْع يديه ورجليه وسَمْل عينيه، أي أُحمِي بالحديد ثم قُتِل، وأبو هذيل العَلَّاف شيخ المعتزلة، وإبراهيمُ النَّظَّام معتزلي، والجُبَّائي المعتزلي.
ومنهم أيضًا ابن أبي دؤاد المعتزلي رئيس القضاة عند الخليفة المأمون، وهو الذي امتحن الأئمة، فامتحن الإمام أحمد، وأمر بسجنه لأنه لم يقل بأن القرآن مخلوق؛ لذلك قال عنه المؤلف -رحمه الله-: «وَابْنُ أَبِي دُؤَادٍ الَّذِي أَبَانَ اللهُ فَضَائِحَهُ، وَأَظْهَرَ قَبَائِحَهُ عَلَى لِسَانِ الْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللهِ أَحْمَدِ بْنِ حَنْبَلٍ ».
وقد حاول ابن أبي دؤاد هذا بكل ما أوتي من قوة أن يجعل الإمام أحمد يقول إن القرآن مخلوق، فرفضَ الإمام أحمد -رحمه الله-؛ فسُحِب وضُرِب وأُوذِي وسُجِن وأُغْمِي عليه، وهو ثابت لا يتتعتع حتى فرَّج الله عنه، وخرج من المحنة صَفِيًّا تَقِيًّا، رحمه الله.
ومنهم ثُمَامَة بن الأَشْرَس([21]) وبُرْغُوث([22])؛ وكلُّ هؤلاء المبتدعة من المعتزلة وغيرهم ورَبَالُوَيه، وأبو شُعَيب الحَجَّام([23]) وسَهْل الجَزَّار وأبو لقمان الكافر، وحَفْص الفَرْد([24]) الذي كفَّره الشافِعي، وسمَّاه حَفْصا المُنفرد.
وذَكر المؤلفُ قِصةً عن المأمون أنه قال يومًا لحاجبه: «انْظُرْ مَنْ بِالْبَابِ مِنْ أَصْحَابِ الْكَلَامِ»، فخرج وعاد إليه فقال: بالباب أربعةٌ أو ثلاثةٌ، قال: بالباب أبو هُذَيلٍ العَلَّاف([25])؛ وهو شيخ المعتزلة في القرن الثاني، وعبد الله بن إِباض الإِباضي([26]) مِن الخوارج من الإِباضية، وهِشام بن كَلْبٍ الرافض رافضي ثلاثة، بالباب ثلاثة معتزلي وخارجي إباضي ورافضي؛ كُلُّهم من أئمة البدع، فقال المأمون: «مَا بَقِيَ مِنْ أَعْلَامِ جَهَنَّمَ أَحَدٌ إِلَّا وَقَدْ حَضَرَ».
وقد روى هذا اللَّالَكَـائِيّ في (شرح الاعتقاد) من طرق، ورواه عن الشافعي: في حَفْص الفرد وتكفيره له، وتَسميته له حفص المنفرد.
وذكر المؤلفُ كلامَ أبي عبد الله المصري قال: «سَمِعْتُ هَارُونَ الرَّشِيدَ يَقُولُ: طَلَبْتُ أَرْبَعَةً فَوَجَدْتُهَا فِي أَرْبَعَةٍ؛ طَلَبْتُ الْكُفْرَ فَوَجَدْتُهُ فِي الْجَهْمِيَّةِ»؛ فالجهميةُ ينكرون أسماءَ الله وصفاتِه؛ يقولون: ليس له اسمٌ ولا صفةٌ، ومعنى ذلك أنه لا وجود له، فما لا اسم له ولا صفة لا وجود له؛ وهذا كفر وضلال.
ثم قال: «وَطَلَبْتُ الْكَلَامَ وَالشَّغَبَ فَوَجَدْتُهُ مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ»؛ فهم أهل الكلام والشَّغَب. «وَطَلَبْتُ الْكَذِبَ فَوَجَدْتُهُ مَعَ الرَّافِضَةِ»، فالرافضة يتدينون بالكذب حتى قال عنهم الشَّعْبي: «لَوْ شِئْتُ أَنْ يَمْلَئُوا هَذَا الْبَيْتَ ذَهَبًا وَفِضَّةً عَلَى أَنْ أَكْذِبَ لَهُمْ عَلَى عَلِيٍّ لَفَعَلُوا، وَكَانَ يَقُولُ: لَوْ كَانَتِ الشِّيعَةُ مِنَ الطَّيْرِ لَكَانُوا رَخَمًا([27])، وَلَوْ كَانُوا مِنَ الدَّوَابِّ لَكَانُوا حُمُرًا»([28])، فدِينهم الكذب يتدينون به؛ حتى قال أبو العباس ابن تيمية: «هُمْ أَكْذَبُ الطَّوَائِفِ»([29])؛ تدينوا بالكذب، ودينهم مبني على الكذب، والقول المُعتمَد عندهم هو القول المُبهَم الذي لا أصل له، فإذا اختلفت الإماميةُ الرافضة في قولين أحدهما لا يُعرَف قائلُه، فالحق في القول الذي لا يُعرَف قائلُه عندهم. نسأل الله السلامة والعافية.
ثم يختم الرشيد بقوله: «وَطَلَبْتُ الْحَقَّ فَوَجَدْتُهُ مَعَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ» وهذا الخبر رواه الخطيب في شرف أصحاب الحديث، وهذا قريب من معنًى روي عن هارون الرشيد أيضًا أنه قال: «الْمُرُوءَةُ فِي أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَالْكَلَامُ فِي الْمُعْتَزِلَةِ، وَالْكَذِبُ فِي الرَّوَافِضِ»([30]).
| المتن |
فَصْلٌ
عُقُوبَةُ الْإِمَامِ وَالْأَمِيرِ لِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ:
58- أَما الْجَهْمِيَّة فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: «مَا كُنْتُ لِأَعْرِضَ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ عَلَى السَّيْفِ إِلَّا الْجَهْمِيَّةَ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ قَوْلًا مُنْكَرًا»([31]).
| الشرح |
هذا القول شهادةٌ من هذا الإمام؛ وهو عبد الرحمن بن مَهدي؛ إمام من أئمة أهل الحديث ومن أئمته النُّقَّاد من أهل الجَرْح والتَّعْديل يقول: «مَا كُنْتُ لِأَعْرِضَ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ عَلَى السَّيْفِ إِلَّا الْجَهْمِيَّةَ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ قَوْلًا مُنْكَرًا».
ويعني بـ «أَهْل الْأَهْوَاءِ»: أهل البدع، ومعنى: يعرضهم على السيف: أيْ ليس لهم إلا القتل لأنهم يقولون قولا منكرًا.
| المتن |
قَولُ يزيدَ بن هارون في الْجَهْمِية:
وقال يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: «الجَهْمِيَّةُ هُمْ وَاللهِ زَنَادِقَةٌ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ»([32]).
وقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: «مَنْ صَلَّى خَلْفَ جَهْمِيٍّ سَنَةً يُعِيدُ وَسَنَتَيْنِ».
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ: «افْتَرَقَتِ الْجَهْمِيَّةُ عَلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ قَالُوا: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، وَفِرْقَةٌ قَالُوا: كَلَامُ اللهِ وَسَكَتُوا، وَفِرْقَةٌ قَالُوا: لَفْظُنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ»([33]).
وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْعِبَادَاتِ كُلَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْإِيمَانِ، وَهُوَ عِنْدَهُمُ التَّصْدِيقُ فَقَطْ؛ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ.
وَعِنْدَهُمْ أَنَّ إِيمَانَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَالْأَوْلِيَاءِ الْمُتَّقِينَ مُسَاوٍ لِإِيمَانِ الْعُصَاةِ الْفَاسِقِينَ.
وَعِنْدَهَمْ أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- كَانَ فِي الْقِدَمِ بِلَا اسْمٍ وَلَا صِفَةٍ، وَأَنَّ تَسْمِيَةَ الْعِبَادِ اللهَ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ أَحَدٌ مَخْلُوقٌ مُحْدَثٌ، كَمَا قَالُوا: إِنَّ تِلَاوَةَ الْعِبَادِ لِلْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ مُحْدَثَةٌ.
وَعِنْدَهُمْ أَنَّ نُبُوَّةَ نَبِيِّنَا ﷺ قَدِ انْقَطَعَتْ بِمَوْتِهِ، وَأَنَّ قَوْلَنَا فِي الْأَذَانِ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، أَوْ فِي التَّشَهُّدِ قَوْلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ الْآنَ، وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَا قَدِيمَ الْإِحْسَانِ .
| الشرح |
هَذِه هي أقوالُ الجَهْمِية؛ ولهذا قال عنهم يزيدُ بن هارون: «هُمْ وَاللهِ زَنَادِقَةٌ، عَلَيْهُمْ لَعْنَةُ الله ». وعلى العموم الفُسَّاق يُلعَنُون.
وقال الإمام أحمد بن حنبل: «مَنْ صَلَّى خَلْفَ جَهْمِيٍّ سَنَةً يُعِيدُ وَسَنَتَيْنِ». وهذا يدل على أنَّه كافرٌ؛ لأن الصوابَ في الصلاة خَلْف المبتدع أنها صحيحة، وهذا يدلُّ على أن الإمام يُكفِّرهم؛ لأن الكافر لا تصح الصلاة خلفه؛ لذلك يقول الإمام: إذا صلَّيتَ خلف جَهْمي سنة أو سنتين تُعيد الصلاة.
وقال في رواية صالح: «افْتَرَقَتِ الْجَهْمِيَّةُ عَلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ قَالُوا: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ» وهم كُفَّار، «وَفِرْقَةٌ قَالُوا: كَلَامُ الله وَسَكَتُوا» وحُكمُهم أيضًا الكفرُ لأنه لا يَجب أن يَسْكت الإنسان، بل يجب أن يقول كلام الله المُنزَّل، «وَفِرْقَةٌ قَالُوا: لَفْظُنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ». وهذا هو السبب في التكفير.
«وعِنْدَهُمْ» يعني الجهمية «أَنَّ الْعِبَادَاتِ كُلَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْإِيمَانِ، وَهُوَ عِنْدَهُمُ التَّصْدِيقُ فَقَطْ؛ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ»؛ وذلك لأن الجَهْميةَ مُرجِئَة.
وقد تَزعَّم الجَهْمُ بن صفوان -قبَّحه الله- عقائدَ خبيثة، تزعَّم أربعَ عقائد؛ تزعَّم عقيدةَ نفي الصفات، فأنكر الأسماءَ والصفات، وتزعَّم عقيدة الإِرْجاء فقال: «الإيمانُ مُجرد معرفةِ الرب بالقَلْب»، وتزَعَّم عقيدة الجَبْر فقال: «إِنَّ الْعَبْدَ مَجْبُورٌ»، وقال في عقيدته الرابعة: بفَناء الجنة والنار؛ هذه أربع عقائد خبيثة تزعمها الجَهمُ:
العقيدة الأولى: نفي الصفات والأسماء.
العقيدة الثانية: عقيدة الإِرجَاء، فقال: «الإيمانُ مُجرَّدُ مَعرفةِ الرَّبِّ بِالقَلْبِ، والكُفْرُ هو جَهْلُ الرَّبِّ بِالْقَلْبِ». ومن ثَمَّ قال: «إذا عَرف الإنسانُ ربَّه بقَلبه فهو مُؤمنٌ، ولو فَعَل جميعَ أنواع الرِّدَّة والكُفْر، ولا يَضُره شَيْءٌ حتَّى يجهل ربَّه بقلبه».
ومِن هنا أَلزمَه العُلماءُ بأن إبليس على ذلك يكون مؤمنًا؛ لأنه يعرف ربَه بقَلْبِه فقد قال: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الحجر: 36]. وكذلك فرعون مؤمنٌ؛ لأنه يعرفُ ربَّه بقلبه، واليهودُ يعرفون ربهم: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة: 146] وأبو طالب يَعرف ربَّه.
وهَؤلاء كلُّهم كانوا مُؤمنين عِند الجَهم، بل إن العُلماءَ كفَّروا الجَهميةَ؛ وكَفَّروا الجهم فقالوا: إنه كافر بشهادته على نفسه؛ لأنه لم يعرف ربَّه؛ فلو عرَف ربَّه لما قال هذا الكلام، فدل على أنه كافر بتعريفه هو.
وهذا التعريف الذي عَرَّفه يشمله هو، فقوله: «الإيمانُ معرفةُ الربِّ بالقلب، والكُفرُ جَهلُ الرَّبِّ بالقلب»، فلا أحدَ أجهل برَبِّه من الجهم؛ فما عَرف ربَّه حينما قال هذا القول؛ فدَلَّ على أنه كافر بشهادته على نفسه، نسأل الله السلامة والعافية.
والعباداتُ كلُّها عند الجهمية ليست من الإيمان؛ لأنهم مُرجِئة، فهُم جَهْمِيةٌ في الصفات؛ مُرجِئةٌ في الإيمان، جَبْريةٌ في الأفعال.
وهم جَهميةٌ في الصفات لأنهم أنكروا الأسماءَ والصفات؛ مُرجئة في الإيمان؛ لأنهم لا يُدخِلون الأعمال في مُسمَّى الإيمان؛ وهم جَبريةٌ في الأفعال، فهم يَقولون: العبدُ مجبور على أفعاله، ويقولون أيضًا: الجنةُ والنار تفنيان يوم القيامة. نعوذ بالله من هذه المقالات الخبيثة.
«وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْعِبَادَاتِ كُلَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْإِيمَانِ»؛ لأن الإيمانَ «عِنْدَهُمُ التَّصْدِيقُ فَقَطْ؛ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ»، «وَعِنْدَهُمْ أَنَّ إِيمَانَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَالْأَوْلِيَاءِ الْمُتَّقِينَ مُسَاوٍ لِإِيمَانِ الْعُصَاةِ الْفَاسِقِينَ».
ويقولون: إن إيمانَ أَعْبَدِ الناسِ وأَفْسَق الناس سواءٌ؛ لأنَّ الإيمان هو التصديق. ومن هنا يكون المرجئةُ قد فَتحوا بابًا للعُصَاة، فعلى قولهم يأتي السِّكِّيرُ العِرْبِيدُ ويقول: أنا مُؤمنٌ كَاملُ الإيمانِ؛ إيماني كإيمان أبي بكر وعمر وجبريل وميكائيل، فإذا قيل له: أبو بكر وعمر لهم أعمال عظيمة، قال: لا شأنَ للأعمالِ في ذلك، ويقول: أبو بكر مُصدِّق وأنا مُصدِّق، والإيمانُ هو التصديقُ والتصديقُ واحدٌ، فإيمان الملائكة إيمان أهل السماء وإيمان أهل الأرض سواءٌ، وإيمان أفسقِ الناس وأعبد الناس شيء واحد، فهو التصديق فكُلُّنا مُصدِّقون. أما العمل فشيء آخر، فما هو من الإيمان.
فمَن الذي فَتَح هذا الباب؟ الجهمية هُم مَن فَتحوه لمَّا قالوا هذا. والصواب هو أن العمل داخل في مسمى الإيمان؛ فالبِرُّ والتقوى وسائرُ الأعمال كلُّها من الإيمان.
وعند الجَهمية أيضًا: «أَنَّ الله -تَعَالى- كَانَ فِي الْقِدَمِ بِلَا اسْمٍ وَلَا صِفَةٍ، وَأَنَّ تَسْمِيَةَ الْعِبَادِ اللهَ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ أَحَدٌ مَخْلُوقٌ مُحْدَثٌ. كَمَا قَالُوا: إِنَّ تِلَاوَةَ الْعِبَادِ لِلْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ مُحْدَثَةٌ». يقولون: إن الله كانَ وَليسَ له صِفةٌ حتى أَحدَث له العبادُ الأسماءَ والصفاتِ؛ فالعبادُ هُم الذين أحدثوا الأسماء والصفات لله، فالله -تعالى- لم يكن اسمه الخالقَ إلا بعد أن خلق الخَلْق، وأمَّا قبل ذلك فلا يُسمَّى خالقًا؛ هذا مِن كُفْرِهم وضَلالهم، فالله -تعالى- له الأسماء وله الصفات قبل خَلْق الخلق، والعبادُ لم يسموه باسمه ولكنه هو الذي سمَّى نفسه بأسمائه وصفاته، لا كما يفتري المفترون بقولهم: بأن الله -تعالى- لم يكن له اسم ولا صفة في القدم، بل العبادُ هم الذين سمَّوْه، وبذلك تكون أسماءُ الله وصفاتُه عندهم حادثةً مخلوقةً، كما أن تلاوة العباد للقرآن مَخلوقةٌ مُحدَثة.
«وَعِنْدَهَمْ أَنَّ نُبُوَّةَ نَبِيِّنَا ﷺ قَدِ انْقَطَعَتْ بِمَوْتِهِ»؛ فقد كان نبيًّا في حياته، فلما مات ﷺ انتهت النبوة، وهم يقولون ذلك؛ لأنَّ النبوة صفةٌ للحيِّ، والآن زالت عنه الحياة. فالبنوة صفة من صفات الحي مثل الكلام والسمع والبصر والنبوة؛ فإذا مات انتهت هذه الصفات وانتهت معها صفة النبوة؛ لأن صفة الحي تزول بموته كالسمع والكلام.
وهذا باطلٌ بل إنه أبطل الباطل، فرسول الله ﷺ له صفة الرسالة، وهو نبي الله، ورسوله، وخاتم النبيين؛ نُصلي عليه ونسلم ونَدِين له بالنبوة، ولا يصح إيمان المؤمن حتى تقوم الساعة إلا بالإيمان بنبوته ﷺ.
«وَعِنْدَهُمْ أَنَّ قَوْلَنَا فِي الْأَذَانِ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، أَوْ فِي التَّشَهُّدِ قَوْلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ الْآنَ»؛ أي ليس لقول المؤذن «أَشهدُ أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسولٌ الله» الآن أيّ حقيقة، فقد انتهت نبوت النبي ﷺ.
«وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَا قَدِيمَ الْإِحْسَانِ» وقد عَقَد القاضي أبو يعلى في إبطال التأويلات فَصْلًا في جواز وصف الله بأنه قديم الإحسان؛ خِلافًا للأَشْعرية وغيرهم ممن قال بعدم جواز ذلك. وقد عبَّر شيخُ الإسلام بهذا الوصف كما في مقدمة شرح العمدة فقال: «وَوَسِعَ خَلِيقَتَه إِحسانُه القديمُ»([34]).
| المتن |
ذِكْرُ عَقِيدَةِ الْجَهْمِية:
وَعِنْدَهُمْ أَنَّ كَلَامَ الله قَائِمٌ بِذَاتِهِ؛ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا بِصَوْتٍ.
وَعِنْدَهُمُ التِّلَاوَةُ غَيْرُ الْمَتْلُوِّ وَالْقِرَاءَةُ غَيْرُ الْمَقْرُوءِ، وَهُمَا مَخْلُوقَتَانِ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ عِبَارَةٌ عَنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَالسُّوَرِ وَالْآيَاتِ، وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْقَدِيمَ عِنْدَهُمْ.
وَبِهَذِهِ الْمَقَالَةِ كَفَّرَهُمْ أَحْمَدُ حِينَ قَالَهَا ابْنُ كِلَابٍ، وَقَالَ اللهُ -تَعَالَى- إِخْبَارًا عَنْ قُرَيْشٍ: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [المدثر: 25-26] وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ أَشَارُوا إِلَى التِّلَاوَاتِ الَّتِي سَمِعُوهَا.
وَعِنْدَهُمُ الْكِتَابَةُ غَيْرُ الْمَكْتُوبِ، وَأَنَّ الْكِتَابَةَ مَخْلُوقَةٌ كَالتِّلَاوَةِ، فَعَلَى قَوْلِهِمُ: الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ مَخْلُوقٌ، وَلَيْسَ بِقَدِيمٍ، وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي الصَّدْرِ حِفْظُ التِّلَاوَاتِ الْمُحْدَثَةِ، وَكَذَا يَقُولُونَ: كَلَامُ الله غَيْرُ مُنَزَّلٍ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَلَا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّمَا مُنَزَّلٌ تَلَاوَتُهُ وَعِبَارَتُهُ، إِلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ فَظِيعَةٍ، قَدْ أَجَابَ شُيُوخُنَا وَأَئِمَّتُنَا عَنْ جَمِيعِهَا بِحَمْدِ الله وَمَنِّهِ.
وَخَالَفُوا الْأَخْبَارَ الْمُدَوَّنَةَ الصِّحَاحَ عَنْ رَسُولِ الله ﷺ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، وَقَالُوا: قَدْ سَقَطَتْ إِمَامَةُ مَنْ فَسَقَ فِي أَفْعَالِهِ وَخَرَجَ مِنَ الْإِمَامَةِ، وَخَالَفُوا إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَأَئِمَّةِ الدِّينِ فِي تَفْضِيلِ الْخُلَفَاءِ الْأَئِمَّةِ الرَّاشِدِينَ الْأَرْبَعَةِ الْمَهْدِيِيِنَ؛ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رُضْوَانُ الله عَلَيْهِمْ، وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: نَقِفُ فِي ذَلِكَ. وَكَذَاكَ قَالُوا فِي عَائِشَةَ، وَهِيَ عِنْدَنَا أَفْضَلُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ.
| الشرح |
يَذكرُ المؤلفُ -رحمه الله- عَقيدةَ الجَهمية، والجَهميةُ -كما ذكر شيخُ الإسلام- تنقسم إلى عدة أقسام:
جَهمِية المخبر: وهم الذين ينكرون الأسماءَ والصفاتِ.
جَهمِية المعتزلة: وهم الذين يُنكرُون الصفاتِ ويُثبتُون الأسماءَ.
جَهمِية الأشاعرة: وهم الذين يُثبتون الأسماءَ وسَبْعَ صِفات.
وكُلُّهم يُسمَّون جَهمِيةً بنَوع من التَّجَهُّم؛ لأنهم وافقوا الجهم في بعض عقائده؛ ولذلك تجد البعض ينسبون بعض عقائد الأشاعرة إلى الجهمية؛ لأنهم جهمية الأشاعرة؛ لأن عندهم نوعًا من التَّجهم؛ فعندهم أن كلامَ الله قائم بذاته معنى، وليس بحرف ولا بصوت؛ فهذا من مذهب الأشاعرة، فعندهم الحروف والأصوات ليست من الكلام؛ لأنَّها عندهم حادثة؛ الحروف والأصوات حادثة، فلو كان الكلام حرفًا وصوتًا لَلَزِم أن تكون الحوادث صفةَ الرب.
وبالرغم من ذلك قالوا الكلام في النَّفْس يُسمَّى كلامًا نَفسيًّا قائمًا بالنفس، ويَقولون: إن الله لم يتَكلَّم بحَرْف، فجعلوا الربَّ أبكمَ والعياذ بالله، فقالوا: ما تَكلَّم ولا بكلمة. فمَن الذي تَكلَّم عندهم؟ قالوا الذي تكلَّم جَبريلُ ومُحمَّد. ومن أيِّ شيءٍ تكلَّم؟ قالوا: فَهِم المعنى القائمَ بالرب، المعنى الذي في نَفْس الرب، ولكن مَن الذي يعلم ذلك؟ قالوا: اللهُ اضطره اضطرارًا ففَهِم المعنى القائمَ بالنفس وهو لم يتكلم؛ بل لا يستطيع، الربُّ لا يستطيع الكلام؛ لكن اضطره اضطرارًا ففهم المعنى القائمَ بنفسه فعبَّر بهذا القرآن؛ عبَّر عن المعنى القائم بالنَّفْس، قال: أنا فَهِمتُ المعنى القَائمَ بالنَّفْسِ، نَفْسِ الربِّ، وأنا أُعبِّر لكم عنه؛ فعبَّر بهذا القرآن الذي بين أيدينا. فهذه العِبارة عبَّر بها جبريلُ وبعضُها عبَّر بها محمدٌ.
إذن أين كلامُ الله؟ قالوا كلامُ الله في نفسه قائم بذاته، ما يُسمَع مثل العلم، وقالوا الذي يُسمَع إنما هي حروف وأصوات، وهي عبارة عن كلام الله وليست كلام الله؛ عِبارة تَأدَّى بها كلام الله، والقول الذي يقول حكاية.
وقال المؤلف: «وَعِنْدَهُمْ أَنَّ كَلَامَ الله قَائِمٌ بِذَاتِهِ؛ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا بِصَوْتٍ» هذا مذهب الأشعرية؛ لأنهم جهمية، ولديهم نَوعٌ من التَّجهُّم، وإلا فإنَّ الجهمية والمعتزلة ينكرون الكلامَ من أساسه، فيقولون: الكلامُ، صِفة الكلام، مَخلوقٌ، مُضافَة إلى الخالق التشبيه والتكذيب.
ويقول المؤلف: «وَعِنْدَهُمُ التِّلَاوَةُ غَيْرُ الْمَتْلُوِّ وَالْقِرَاءَةُ غَيْرُ الْمَقْرُوءِ، وَهُمَا مَخْلُوقَتَانِ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ عِبَارَةٌ عَنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَالسُّوَرِ وَالْآيَاتِ، وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْقَدِيمُ عِنْدَهُمْ» الحروفُ والأصواتُ والسورُ والآياتُ كلُّ هذه مخلوقة؛ هذه قرآن وهي عبارة عن هذه الحروف مخلوقة.
وأما القديمُ فهو المعنى القائم بنَفْس الربِّ، فالقديم هو الكلام.
ويقول المؤلفُ -رحمه الله-: «وَبِهَذِهِ الْمَقَالَةِ كَفَّرَهُمْ أَحْمَدُ حِينَ قَالَهَا ابْنُ كِلَابٍ» أي حِين قالَ ابنُ كِلَاب: إن الحروفَ والأصواتَ مَخلوقةٌ، والكلام هو المعنى القائم بالرب، فكفَّره الإمام أحمدُ بذلك.
ويقول المؤلفُ: «وَقَالَ اللهُ -تَعَالَى- إِخْبَارًا عَنْ قُرَيْشٍ: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [المدثر: 25-26] يعني: كُفَّار قريش قالوا عن القرآن: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ فبماذا توعَّدهم اللهُ قال: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [المدثر: 26] سَقَر: النار، «وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ أَشَارُوا إِلَى التِّلَاوَاتِ الَّتِي سَمِعُوهَا».
«وَعِنْدَهُمْ» يعني: عند الجَهْمية؛ جهمية الأشاعرة «الْكِتَابَةُ غَيْرُ الْمَكْتُوبِ» فيقولون: الكتابة غير المكتوب، والكتابة مخلوقة، ومن ثَمَّ يَقولُون: القرآن هو هذه الكتابة؛ فهذه الكتابة مخلوقة، فـ«الْكِتَابَةُ مَخْلُوقَةٌ كَالتِّلَاوَةِ».
ويقول: «فَعَلَى قَوْلِهِمُ: الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ مَخْلُوقٌ، وَلَيْسَ بِقَدِيمٍ، وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي الصَّدْرِ حِفْظُ التِّلَاوَاتِ الْمُحْدَثَةِ، وَكَذَا يَقُولُونَ: كَلَامُ الله غَيْرُ مُنَزَّلٍ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَلَا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّمَا مُنَزَّلٌ تَلَاوَتُهُ وَعِبَارَتُهُ، إِلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ فَظِيعَةٍ، قَدْ أَجَابَ شُيُوخُنَا وَأَئِمَّتُنَا عَنْ جَمِيعِهَا بِحَمْدِ الله وَمَنِّهِ» أي إنهم يقولون: إن الكتابة مخلوقة، وليس الذي في المصحف كلام الله؛ ولكن ما في المصحف هو عِبارةٌ تَأدَّى بها كلام الله.
والصَّوابُ في هذه المسألة أن ما في المصحف هو كلام الله، وفيه الكتابة، وفيه خَطُّ القارئ، وفيه الوَرَق والمِدَاد والحِبْر.
في المصحف كلام الله، وفيه غيره، فالمكتوب كلام الله، والكتابة غيره. فيه خَطُّ القارئ، وفيه الوَرَق، وفيه المِدَاد، وفِيه الحِبْر، وفيه خَطُّ فُلان. فكونه فيه كلام الله؛ هذا هو الصوابُ كما بيَّن أهلُ العلم.
ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: «إِلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ فَظِيعَةٍ، قَدْ أَجَابَ شُيُوخُنَا وَأَئِمَّتُنَا عَنْ جَمِيعِهَا بِحَمْدِ الله وَمَنِّهِ».
ويقول المؤلف: «وَخَالَفُوا الْأَخْبَارَ الْمُدَوَّنَةَ الصِّحَاحَ عَنْ رَسُولِ الله ﷺ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ» أي خَالَف الجهميةُ والأشاعرةُ والمعتزلةُ الأخبارَ المدونةَ الصحاح عن رسولِ الله ﷺ في صلاة الجمعة خَلْف كلِّ بر وفاجر.
فقد جاءت الأحاديثُ بأنه يُصَلَّى الجمعة والعيد خلف كل بر وفاجر من المسلمين؛ ما دام أنه لم يفعل مُكفِّرات ولو كان عاصيًا؛ يُصَلَّى خلفه في الصلاة وفي الجُمُعة؛ ولا سيما الإمام والأمير وإمام الجمعة إذا لم يوجد غيره وإمام العيد. هم خالفوا أهلَ السُّنَّة والجماعة، فأهل السُّنة يرون الصلاة خلف كل بَرٍّ وفاجرٍ، ويُصلي الجمعة، ولا يَترك الصلاةَ ويصلي وحده إلا أهل البدع.
وإذا كان إمام الجُمعة فاسقًا، ولا يوجد في البلد إلا جُمعة واحدةٌ فهل نصلي خلفه أم نصلي في البيت؟ بل نُصلي خَلفه، ومَن صلَّى في البيت فهو مبتدع، وكذلك إمام العيد وإمام الجماعة إذا لم يوجد غيره.
أمَّا هؤلاء فلا يُصلُّون خَلفَه؛ المعتزلةُ والأشاعرة لا يُصلُّون خلفَ إمامٍ إذا كان عاصيًا أو فاجرًا أو جائرًا، ويقولون: قد سقطت إمامةُ مَن فَسَق في أفعاله وخرج عن الإمامة. بل ويكفرون وليَّ الأمر بالمعاصي، ويَخرجُون عليه ويَستحلُّون دَمه؛ كما فعل الخوارج والمعتزلة.
ويقول المؤلف: «وَخَالَفُوا إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَأَئِمَّةِ الدِّينِ فِي تَفْضِيلِ الْخُلَفَاءِ الْأَئِمَّةِ الرَّاشِدِينَ الْأَرْبَعَةِ الْمَهْدِيِيِنَ؛ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ -رُضْوَانُ الله عَلَيْهِمْ» أَهلُ الحقِّ يُفضِّلون الخلفاءَ الأربعة، فيقولون: أبو بكر ثم عُمَر ثم عثمان ثم عَلِيٌّ، فأولئك المعتزلة وغيرهم «قَالَ أَكْثَرُهُمْ: نَقِفُ فِي ذَلِكَ» أي نتوقف عن الحكم، فنحن لا ندري مَن هو الأَفضلُ فلا نُفضِّل أحدًا على أحد.
ويقول المؤلفُ أيضًا: «وَكَذَاكَ قَالُوا فِي عَائِشَةَ، وَهِيَ عِنْدَنَا أَفْضَلُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ» أي إنهم توقَّفوا في فَضْلها.
| المتن |
فَصْلٌ
عَقِيدَةُ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَأَنْوَاعِهِمْ:
59- وَأَمَّا الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَأَنْوَاعُهُمْ فَيُنْكِرُونَ الصِّرَاطَ، وَالْمِيزَانَ، وَالْكُرْسِيَّ، وَفَزَعَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَنَعِيمَ الْقَبْرِ وَعَذَابَهُ، وَسُؤَالَ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ، وَضَغْطَةَ الْقَبْرِ، وَخَلْقَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالْحُورَ الْعِينَ.
وَقَالُوا: لَيْسَ لِلنَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفَاعَةٌ وَلَا حَوْضٌ، وَكَذَّبُوا بِالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَرَى الله أَحَدٌ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ؛ لَا مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ، وَقَالُوا: كَلَامُ الله مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ، وَقَالُوا: أَسْمَاءُ الله مَخْلُوقَةٌ، وَمَا كَانَ لَهُ اسْمٌ حَتَّى خَلَقَ لَهُ الْخَلْقُ اسْمًا، وَيَبْقَى عِنْدَ عَدَمِ الْخَلْقِ بِلَا اسْمٍ وَلَا صِفَةٍ.
وَقَالُوا: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الله قَادِرٌ عَلَى الظُّلْمِ وَالْكَذِبِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْقَبَائِحِ. وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الله مُحَبِّلُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ. وَقَالُوا: يَجِبُ عَلَى الله أَنْ يُعَوِّضَ الثَّوَابَ وَالْجَزَاءَ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: ذَلِكَ تَفَضُّلٌ مِنْهُ غَيْرُ وَاجِبِ عَلَيْهِ.
وَعِنْدَنَا جَمِيعُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ خَلْقُ الله –تَعَالَى-، كَسَبَ لَهُمْ خَيْرَهَا وَشَرَّهَا، وَعِنْدَ الْقَدَرِيَّةِ هِيَ خَلْقٌ لَهُمْ لَا رَبَّ لَهَا وَلَا إِلَهَ.
وَعِنْدَنَا صَانِعُ الْعَالَمِ وَاحِدٌ، وَعِنْدَهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ يُشْرِكُونَهُ فِي الصَّنْعَةِ وَالْخَلْقِ، وَقَالُوا: الْمَقْتُولُ يَمُوتُ بِغَيْرِ أَجَلِهِ، وَاللهُ يَقُولُ: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف: 34].
وَأَنْكَرُوا كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، وَأَنْكَرُوا الْجِنَّ وَالسِّحْرَ، وَقَدْ كَذَّبَهُمُ اللهُ بِقَوْلِهِ: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [البقرة: 102] وَبِسُورَةِ الْجِنِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَأَنْكَرُوا الْمَنَامَاتِ، وَقَدْ كَذَّبَهُمُ اللهُ بِقِصَّةِ يُوسُفَ وَبِقَوْلِهِ: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [يونس: 64] قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ: هِيَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ، وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: هِيَ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ. ([35]) وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ الْقَبِيحَةِ.
| الشرح |
يذكر المؤلفُ -رحمه الله- هنا عقيدة القَدَرية والمعتزلة وأنواعهم فيقول: «وَأَمَّا الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَأَنْوَاعُهُمْ فَيُنْكِرُونَ الصِّرَاطَ، وَالْمِيزَانَ» يُنكرُون الصَّراط والميزان فيقولون: لا يوجد يوم القيامة مِيزانٌ تُوزَن به الأعمال والآثار، ولكنَّ المرادَ بالميزان العَدْلُ.
وقالوا ذلك بزعمهم أن الله -تعالى- لا يحتاج إلى ميزان، وإنما الذي يحتاج إلى الميزان البَقَّالُ والفَوَّالُ؛ أما الله فلا يحتاج إلى ميزان، فأنكروا الميزان الحِسِّي، وقالوا إنما هو ميزان معنوي. هذه معرفتهم به وهذا باطل.
والصواب أن الميزان ميزانٌ حِسِّي له كِفَّتان عظيمتان، الكِفةُ أعظم من أطباق السموات والأرض، وهو مِيزان حِسِّي تُوزن فيه الأشخاص والأعمال.
وكذلك الصِّراطُ، أنكروا الصِّراط الحِسِّيَّ، وقالوا: الصراطُ معنوي، وأنكروا الكُرسيَّ وفَزَع يومَ القيامة، وأنكروا نَعيمَ القَبر وعَذَابه، وقالوا: لا يُوجد نَعيم في القبر، النعيمُ والعذابُ للروح، وأمَّا البدنُ فليس له نعيم ولا عذاب في القبر.
وأنكروا سؤال مُنكَر ونَكِير؛ وأنكروا البعث؛ مع أن الأحاديثَ وَارِدةٌ في هذا؛ وذلك لأنَّهم يقولون عن هذه الأحاديث: إنها أخبار آحاد لا يُعمَل بها.
كما أنكروا ضَغْطةَ القبر؛ فقد ورد في السُّنَّة أن كلَّ إنسانٍ يموت يَضمُّه القبرُ ضَمَّةً، فقد قال ﷺ: إِنَّ لِلْقَبْرِ لَضَغْطَةٌ لَوْ نَجَا مِنْهَا أَحَدٌ لَنَجَا مِنْهَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ. ([36]) الذي اهتز له عَرْش الرحمن.
وكذلك أنكر المعتزلةُ خَلْق الجنة والنار، فقالوا: الجنةُ النار ليستا مخلوقتين الآن، وإنما يُخلقَان يَومَ القيامة، أمَّا وُجودُهم الآن فعَبَثٌ، لأنه لا جَزاء ولا حِسابَ الآن، والعَبثُ محالٌ على الله –تعالى-؛ وهذا من فَرْط جَهلهِم وضَلالِهم. كذلك أنكروا وُجود الحُور العين في الجنة.
والصوابُ أن أرواح المؤمنين في الجنَّة تُنعَّم، كما أن أرواح الكُفَّار في النار تُعذَّب، فالمؤمنُ إذا مات فُتِح له باب من الجنة يأتيه من نَعيمها ورُوحِها، والكافر يُفتَح له باب من النار فيأتيه من حَرِّها وسَمُومها.
والنصوص صريحةٌ في خَلْق الجنة والنار؛ قال الله -تعالى-: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133] أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة: 24] فمَعنى أُعِدَّتْ خُلِقت انتهى خَلقُها.
وأيضًا الوَعدُ والوعيد بالجنة والنار يؤكدان أنهما مخلوقتان بالفعل، وليس كما تقول المعتزلةُ: إنه لا يوجد الآن جَنَّة ولا نار، بل يخلقهما الله يومَ القيامة.
كذلك أنكروا الشفاعة؛ شفاعة النبي ﷺ للعصاة، فقالوا: العُصاة يدخلون النار يُخلَّدون فيها، وليس لهم شفاعة، فأنكروا نصوصَ الشفاعة مع أنها متواترة.
كذلك أنكروا الحَوْض، وكَذَّبوا بالأخبار الواردة في ذلك، وقالوا: «لَا يَجُوزُ أَنْ يَرَى الله أَحَدٌ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ؛ لَا مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ»، فأنكروا رؤية الله في الدنيا والآخرة -نعوذ بالله- من هذا الكفر والضلال.
وقالوا: «كَلَامُ الله مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ، وَقَالُوا: أَسْمَاءُ الله مَخْلُوقَةٌ، وَمَا كَانَ لَهُ اسْمٌ حَتَّى خَلَقَ لَهُ الْخَلْقُ اسْمًا، وَيَبْقَى عِنْدَ عَدَمِ الْخَلْقِ بِلَا اسْمٍ وَلَا صِفَةٍ» نعوذ بالله يقولون إن الله لم يكن له اسمٌ ولا صفةٌ قبل خَلْق الخَلْق، فالخَلْق هم الذين جَعَلوا له اسمًا، وإذا عَدِم هؤلاء الخَلْقُ وماتوا زالت أسماءُ الله وصفاتُه عندهم.
وقالوا: «يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الله قَادِرٌ عَلَى الظُّلْمِ وَالْكَذِبِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْقَبَائِحِ» وفي هذه المسألة تفصيلٌ: فقد اختلف الناس في الظُّلْم، فالجبرية من الأشاعرة والجهمية يقولون: الظُّلم محالٌ على الله وغير مقدور له؛ ومُمتنع عليه، لأنه كالجمع بين النقيضين. وقالوا: إن الظُّلْم هو تَصرُّف المالك في غير ملكه، وكل ما في السموات والأرض مِلكٌ لله وخاضعٌ لتصرفه، فمتى يكون ظالمًا؟
إذن هم يقولون: ليس هناك حَسَنٌ ولا قَبِيحٌ، ويجوز على الله عَقلًا أن يُعاقِب الأنبياءَ والصالحين والمتقين ويُحمِّلَهم أوزارَ الفُجَّار، ويُدخلهم النَّارَ ويُبطِل حسناتِهم، ويجوز أن يُنعِّم الكفَّارَ والمشركين ويُدخلهم الجنَّة، ولا يُسمَّى هذا ظُلمًا؛ لأنه تَصرُّفٌ في مِلكه، فالظلمُ تَصرُّف المالك في غير مِلكه. فالظلم إذن غير مقدورٍ لله، ومستحيلٌ عليه.
أما المعتزلة: فالظُّلم بالنسبة لله عندهم مِثل ظُلْم المخلوق، فما كان ظُلمًا وقبيحًا من المخلوق فهو ظُلمٌ من الخالق –تعالى-. شبَّهوا الله بخَلْقه.
وأما أهل السُّنة والجماعة فقالوا: الظلم وَضْع الشيء في غير مَوضعه، كأن يُحَمِّل أحدًا أوزارَ غَيرِه، أو يَحرِمَه ثوابَ حسناته وهو مقدورٌ لله يَقدِر عليه، ولكن الله تنزَّه عنه، نزَّه نفسه؛ حرَّمه على نفسه، كما قال في الحديث القدسي: يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا. ([37])، فهل يُحرِّم على نفسه شيئًا لا يَقدر عليه؟
وقال -تعالى- في كتابه العزيز: لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غافر: 17]، وقال: فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا [طه: 112] فلو كان الظلم غيرَ مَقدور لله كما تقول الأشاعرة والجبرية، فهل يخاف الإنسانُ من شيء لا يقدر عليه اللهُ.
إذن يتبينُ بهذا أن الظلمَ عند المعتزلة يُشبِّهون فيه الخالقَ بالمخلوق، فما كان ظُلمًا وقبيحًا من المخلوق فهو ظلمٌ من الخالق –تعالى-.
أما الأشاعرةُ والجَبْرية فيقولون: الظلمُ مُستحيلٌ على الله، ولا يُفصِّلون في ذلك.
أما أَهل السُّنَّة: فالظلمُ عِندهم وَضْع الشيء في غير مَوضعه، وهو مقدور لله؛ لكن الله تَنزَّه عنه، وحَرَّمه على نفسه.
وقول المؤلف «وَقَالُوا: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الله قَادِرٌ عَلَى الظُّلْمِ وَالْكَذِبِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْقَبَائِحِ» لا يَتمشَّى مع مذهب الأشاعرة؛ لأن الأشاعرة يقولون: لا يجوز أن يُقالَ بأن الله غيرُ قادر على الظلم.
أما نحن فنقول: الله -تعالى - يَقدِر على الظُّلم؛ لكنَّه تنزَّه عنه وحرَّمه على نفسه ونفاه. وقد تَأثَّر المؤلفُ هنا بمَذهب الأشاعرة في قوله: «يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الله قَادِرٌ عَلَى الظُّلْمِ وَالْكَذِبِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْقَبَائِحِ».
ونقول: أهل السُّنَّة يقولون: إنه قادر ولكنَّه تنزَّه عنه، أما الأشاعرة فيقولون: غير قادر على الظلم، فهو محال بالنسبة له.
وقال الجُبَّائي ([38]) وهو من المعتزلة: «يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الله مُحَبِّلُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ» ويعني هذا القول أن الله هو الخالق، وإذا كان هو الخالق فهو مُحبِّل نساءِ العالمين.
وقالوا: «يَجِبُ عَلَى الله أَنْ يُعَوِّضَ الثَّوَابَ والْجَزَاءَ» وذلك لأن المعتزلة يرون أن العباد يخلقون أفعالَ أنفسهم من دون الله استقلالًا، فيخلقون الطاعات والمعاصي، وإذا كانوا يخلقون الطاعات، ويخلقون الحسنات فيجب على الله أن يُثيبَهم، ويعطيَهم أجرَهم كما يُعطي صاحبُ العمل الأجيرَ أجرتَه، كما يجب على الله أن يُعاقِبَ العاصي فيُخلِّدَه في النار، هذا قول المعتزلة، وهذا قولٌ باطل.
فالله -تعالى- تَفضَّل على العبد بالثواب؛ لأنه هو الذي وفَّقه وهَداه، ولا يجب عليه أن يُعذِّب العاصي فهو تحت مَشيئته؛ ولهذا قال المؤلف: «وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: ذَلِكَ تَفَضُّلٌ مِنْهُ غَيْرُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ».
ويقول المؤلف: «وَعِنْدَنَا جَمِيعُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ خَلْقُ الله –تَعَالَى- كَسْبٌ لَهُمْ خَيْرُهَا وَشَرُّهَا» فكما هو مشهور عند أهل السُّنة أن الله -تعالى- هو الذي خَلَق أفعالَ العباد، ولكنَّ العِبادَ هم الذين اكتسبوها مختارين.
أما عند القدرية فالأفعال «خَلْقٌ لَهُمْ لَا رَبَّ لَهَا وَلَا إِلَه» يعني: الأفعالُ عند القَدَرية والمعتزلة هي خَلْقٌ لفاعليها، ولا ربَّ لها ولا إلهَ؛ لأنهم هم الذين خلقوها.
وأما أهل السُّنة فيقولون: الله -تعالى- خالق العباد وخالق أفعالهم وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 96].
ويقول أهلُ السُّنة والجماعة: «وَعِنْدَنَا صَانِعُ الْعَالَمِ وَاحِدٌ» وهو الله الخالق، «وَعِنْدَهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ يُشْرِكُونَهُ فِي الصَّنْعَةِ وَالْخَلْقِ» أي عدد صُنَّاع العالم عند المعتزلة والقَدَرية كثيرون يشركونهم في الصَّنْعَة والخَلْق؛ وذلك لأن المعتزلة يقولون: العَبدُ يَخلق فِعْلَ نفسه؛ إذن عدد الخالقين عندهم لا حصرَ لهم، فكُل شَخص خالق؛ كل شخص يخلق فعل نفسه، فيكون الخالقون لا حصر لهم.
ويقول المَجُوس: الخالقان اثنان؛ خالقُ الخير وخالق الشر، أما المعتزلة والقدرية فيقولون: العبد يخلق فِعْل نَفسه؛ فصاروا أَشْنَع من المجوس؛ فعندَ المجوس خالقان فقط، أما المعتزلة فعندهم خالقون كثيرون، فكل شخص يخلق فعل نفسه؛ ولهذا قال أهل السُّنة: «وَعِنْدَنَا صَانِعُ الْعَالَمِ وَاحِدٌ، وَعِنْدَهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ يُشْرِكُونَهُ فِي الصَّنْعَةِ وَالْخَلْقِ».
وقالوا وهم المعتزلة: «الْمَقْتُولُ يَمُوتُ بِغَيْرِ أَجَلِهِ»؛ لأنه في زَعْمهم لو لم يُقتَل لعاش. أما أهل السُّنة فيقولون: إنه مات بأَجله، لأنه مكتوب عليه أنه سيموت بالقَتْل، والله يقول: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف: 34].
ويقول المؤلفُ: «وَأَنْكَرُوا كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ» فقالوا ليس للأولياء كرامات، «وَأَنْكَرُوا الْجِنَّ وَالسِّحْرَ» ويقولون ذلك لأنه لو كان للأولياء كرامات لاشتبهت بالمعجزات التي هي للأنبياء، ففِرارًا من ذلك أنكروا كرامات الأولياء والسِّحرَ والجِنَّ؛ حتَّى لا تَشتبه بالمعجزات، فليس في العالم خوارق إلا معجزات الأنبياء.
ولو كان للساحر خوارقُ عاداتٍ لصِرنَا لا نعرف الساحرَ من النبي، أو كان للولي كرامات فلن نعرف الولي من النبي، ففرارًا من هذا، فليس للأولياء كرامة، وليس للسَّحرة خوارقُ، كما أنكروا الجن لنفس السبب.
ويقول «وَقَدْ كَذَّبَهُمُ اللهُ بِقَوْلِهِ: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [البقرة: 102] وَبِسُورَةِ الْجِنِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ» ففي سُورة الجن أخبر الله -تعالى- عن الجن وعن حالهم.
ويقول: «وَأَنْكَرُوا الْمَنَامَاتِ، وَقَدْ كَذَّبَهُمُ اللهُ بِقِصَّةِ يُوسُفَ» حِينَما رأى الرُّؤيَا، فقال: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف: 4]، وَبِقَوْلِهِ: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [يونس: 64] قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ: هِيَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ، وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: هِيَ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ. ([39]) وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ الْقَبِيحَةِ.
.....................................
| الحواشي |
([1]) أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد (1/30) ، وابن بطة في الإبانة (2/557/693).
([2]) انظر: الشريعة للآجري (3/1076) .
([3]) هو نعيم بن حماد بن الحارث بن همام بن سلمة بن مالك، الإمام، العلامة، الحافظ، أبو عبد الله الخزاعي، المروزي، صاحب التصانيف. قال صالح بن مسمار: سمعت نعيم بن حماد يقول: أنا كنت جَهْمِيًّا، فلذلك عرفت كلامهم، فلما طلبت الحديث، عرفت أن أمرهم يرجع إلى التعطيل. قال محمد بن سعد: طلب نعيم الحديث كثيرا بالعراق والحجاز، ثم نزل مصر، فلم يزل بها حتى أشخص منها في خلافة أبي إسحاق -يعني: المعتصم- فسئل عن القرآن، فأبى أن يجيب فيه بشيء مما أرادوه عليه، فحبس بسامراء، فلم يزل محبوسا بها حتى مات في السجن، سنة ثمان وعشرين ومائتين. انظر: ترجمته في سير أعلام النبلاء (10/611).
([4]) انظر: شرح العقيدة الطحاوية (ص94).
([5]) انظر: مجموع الفتاوى (2/26).
([6]) انظر: الفتوى الحموية (ص 219).
([7]) أخرجه اللالكائي في شرح أصول السنة (3/349/505) ،والسنة لعبد الله بن أحمد (1/173/213) .
([8]) أخرجه الآجري في الشريعة (3/1077/654) .
([9]) أخرجه الآجري في الشريعة (3/1078/655) .
([10]) ذكر الإمام أحمد في الرد على الجهمية قريب من هذا (1/155-158) .
([11]) أخرجه البخاري: كِتَابُ التَّوْحِيدِ ، بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران: 28] ، رقم (7404)، ومسلم: كتاب التوبة، رقم (2751).
([12]) أخرجه الختلي في الديباج (1/23/6) ، والسيوطي في الدر المنثور (6/418) .
([13]) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (59/321) .
([14]) تقدمت ترجمته.
([15]) انظر: تاريخ الإسلام للذهبي (3/943).
([16]) هو ثمامة بن أشرس أبو معن النميري البصري المتكلم من رؤوس المعتزلة القائلين بخلق القرآن جل منزله. وكان نديما ظريفا صاحب ملح اتصل بالرشيد ثم بالمأمون. سير أعلام النبلاء (8/338).
([17]) تقدمت ترجمته.
([18]) تقدمت ترجمته.
([19]) في الشرح أبو شعيب فلتراجع
([20]) انظر: لسان الميزان (2/330) .
([21]) له ذكر في مرآة الجنان (2/30).
([22]) هو رأس البدعة، أبو عبد الله محمد بن عيسى الجهمي. ترجمته في سير أعلام النبلاء (10/554).
([23]) له ذكر في سير أعلام النبلاء (11/243).
([24]) ترجمته في لسان الميزان (3/240).
([25]) هو رأس المعتزلة؛ أبو الهذيل محمد بن الهذيل البصري، العلاف، صاحب التصانيف، الذي زعم أن نعيم الجنة وعذاب النار ينتهي، بحيث إن حركات أهل الجنة تسكن، حتى لا ينطقوا بكلمة، وأنكر الصفات المقدسة حتى العلم والقدرة. ترجمته في سير أعلام النبلاء (10/542).
([26]) هو عبد الله بن إباض التميمي الإباضي، رأس الإباضية، من الخوارج، وهم فرقة كبيرة، وكان هو فيما قيل رجع عن بدعته فتبرأ أصحابه منه، واستمرت نسبتهم إليه. ومن مقالتهم: إن من أتى كبيرة فقد جهل الله فهو كافر لجهله بالله لا لإتيانه الكبيرة. انظر: لسان الميزان (4/418).
([27]) الرَّخَم: طائِر أبقَعُ على شَكْل النِّسر خِلْقَة إِلا أنه مُبَقَّع بِسَوادٍ وبَياضٍ، وهو موصوف بالغَدْر والمُوقِ، وقيل: بالقذر. انظر: تاج العروس: رخم.(32/235) .
([28]) انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للالكائي (7/1343/2394).
([29]) انظر: مجموع الفتاوى (22/423).
([30]) انظر: شرف أصحاب الحديث (ص 78).
([31])أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2/348/502).
([32]) أخرجه ابن بطة في الإبانة (6/100/337) ، وعبد الله بن أحمد في السنة (1/121/49) .
([33]) انظر: الحجة في بيان المحجة (1/420) .
([34]) انظر: شرح عمدة الفقه لشيخ الإسلام (1/59).
([35]) أخرجه البخاري: كتاب التعبير ، بَابُ رُؤْيَا الصَّالِحِينَ ، رقم (6983) ، ومسلم :كتاب الرؤيا ، رقم (2264) .
([36]) أخرجه أحمد في مسنده (24283) .
([37]) أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، رقم (2577).
(([38] هو أبو علي محمد بن عبد الوهاب البصري، شيخ المعتزلة، مات بالبصرة، سنة ثلاث وثلاث مائة. ترجمته سير أعلام النبلاء (11/113).
([39]) تقدم تخريجه .