| المتن |
تَكْفيرُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لِلْجَهْمِيَّةِ:
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الله، وَقَدْ سَأَلَهُ عَمَّنْ يَقُولَ: لَمَّا كَلَّمَ اللهُ مُوسَى لَمْ يَتَكَلَّمْ بِصَوْتٍ، قَالَ أَحْمَدُ: تَكَلَّمَ بِصَوْتٍ، وَهَذِهِ أَحَادِيثُ نَرْوِيهَا كَمَا جَاءَتْ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِذَا تَكَلَّمَ اللهُ يُسْمَعُ لَهُ صَوْتٌ كَمَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفْوَانِ.
قَالَ أَحْمَدُ: وَهَذِهِ الْجَهْمِيَّةُ تُنْكِرُهُ، وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ يُرِيدُونَ أَنْ يُمَوِّهُوا عَلَى النَّاسِ، مَنْ زَعَمَ أَنَّ الله لَمْ يَتَكَلَّمْ فَهُوَ كَافِرٌ؛ إِلَّا أَنَّنَا نَرْوِي هَذِهِ الْأَحَادِيثَ كَمَا جَاءَتْ».
69- أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ هِلَالُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا النَّجَّادُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي.
| الشرح |
قال -عليه الصلاة والسلام-: مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ. ([1]). هذا حديث رواه الشيخان البخاري ومسلم وغيرهما.
ويقول المؤلف: «وَالْوَيْلُ لَهُمْ» الويلُ لهؤلاء الزنادقة من هذا الحديث. ثم إِن هؤلاء الزنادقة أَتَوْا إلى الأحاديث الصحيحة فردُّوها وتأوَّلوها، وأئمةُ أهلِ العلم أوجبوا الأَخْذ بها، والقبول لها، وألا تُرَدَّ ولا تُتَأوَّل.
ثم رَوَى المؤلفُ عن الإمام أحمد بن حنبل - إمام أهل السُّنة - في رواية ابنه عبد الله أنه سَأله عَمَّنْ يقول: «لَمَّا كَلَّمَ اللهُ مُوسَى لَمْ يَتَكَلَّمْ بِصَوْتٍ، قَالَ أَحْمَدُ: «تَكَلَّمَ بِصَوْتٍ؟!» اللهُ -تعالى- تكلَّم كلامًا بحَرْفٍ وصوتٍ يُسْمَع، ثبت في الصحيحين: أَنَّ الله –تَعَالَى- يُنَادِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ آدَمَ ([2])، فأهلُ السُّنة يُثْبِتُون كلامَ الله، وأنه بِحَرْف وصَوْت يُسمَع؛ خِلافًا للْكُلَّابية والأشاعرة الذين يقولون: لا ليس فيه حَرْف ولا صَوْت. كَلامُ الله لا يُسْمَع، وليس حَرفًا ولا صَوتًا ولا لفظًا! بل هو معنى قائمٌ بنَفْسه لا يُسْمَع، مثل العلم، والله -تعالى- اضطر جبريلَ ففهم المعنى القائم بنفسه فَعَبَّرَ، فهذا باطل.
والإمام أحمد يقول: بَلى! «تَكَلَّمَ بِصَوْتٍ»، وهذا قولُ أهل السُّنة قاطبةً؛ يقولون: «وَهَذِهِ أَحَادِيثُ نَرْوِيهَا كَمَا جَاءَتْ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِذَا تَكَلَّمَ اللهُ يُسْمَعُ لَهُ صَوْتٌ كَمَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفْوَانِ. قَالَ أَحْمَدُ: وَهَذِهِ الْجَهْمِيَّةُ تُنْكِرُهُ» وفي هذا إثبات الصوت لله تعالى.
وفي هذا تكفير الإمام أحمد للجهمية فهو يقول: «وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ يُرِيدُونَ أَنْ يُمَوِّهُوا عَلَى النَّاسِ»، يعني: يُلَبِّسوا عليهم.
إذن مَنْ زَعَم أن الله لم يتكلَّم فهو كافرٌ، هكذا كلامُ الإمام أحمد، يعني: مَنْ أنكر الكلامَ فهو كافر؛ إلا أننا نروي هذه الأحاديث كما جاءت.
وذكر المؤلفُ -رحمه الله - سَندًا آخر في رواية عبد الله عن أبيه، قال: «أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي».
| المتن |
بِابُ فِي الإِيمانِ بِصِفاتِ الله تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ
70- وَأَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ الْأَزْهَرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الدَّارَقُطْنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ، وَذَكَرَ الْبَابَ الَّذِي يُرْوَى فِي الرُّؤْيَا، وَالْكُرْسِيِّ، وَمْوَضِعِ الْقَدَمَيْنِ، وَضَحِكِ رَبِّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ، وَقُرْبِهِ مِنْ عَبْدِهِ، وَأَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاءَ؟ وَأَنَّ جَهَنَّمَ لَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رَبُّكَ قَدَمَهُ فِيهَا، فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ، وَأَشْبَاهِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، فقَالَ: «هَذِهِ الْأَحَادِيثُ صِحَاحٌ حَمَلَهَا أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَهِيَ عِنْدَنَا حَقٌّ لَا نَشُكُّ فِيهَا، وَلَكِنْ إِذَا قِيلَ: كَيْفَ وَضَعَ قَدَمَهُ؟ وَكَيْفَ ضَحِكَ؟ قُلْنَا: لَا نُفَسِّرُ هَذَا، وَلَا سَمِعْنَا أَحَدًا يُفَسِّرُهُ».
| الشرح |
هذا الأثر رواه الْآجُرِّيّ في (الشريعة)، واللَّالَكَـائِيّ في (شرح الاعتقاد) عن أبي عُبَيْدٍ القاسمِ بن سَلَّامٍ؛ الإمام المعروف صاحب (كتاب الإيمان)، و(كتاب الأموال).
وقد رَوَى عَنْه بالسند لما ذَكَر الباب الذي يُرْوَى في الرؤيا والكُرسي، ومَوْضِع القدمين، وضَحِك ربي من قُنُوط عِبَاده، وقُرْبِه من عَبدِه، وأين كان ربنا قبل أن يخلق السماء؟ وأن جَهنَّم لا تمتلئ حتى يَضع ربُّك قَدمَه فيها، وهي تقول: قطْ قطْ، وأشباه هذه الأحاديث، فقال: «هَذِهِ الْأَحَادِيثُ صِحَاحٌ»؛ إثباتُ الكُرسي، وهو مَوضِع قَدَم الله، موضع القدمين، وضحكُ ربِّنا صِفةٌ من صفاته، يَضحكُ كما يَليق بجَلاله، وأن جَهنَّم لا تمتلئ حتى يَضعَ ربُّك قَدمَه.
هذا حديثٌ صحيحٌ مِن أن جَهنَّم لا تزال يُلقَى فيها حتَّى يضع ربُّ العزة قدمَه فتمتلئ وتقول: قَطْ قَطْ. وإثباتُ الْقَدَم لله، والله أعلم بكيفية الوضع، والله لا يضره أَحدٌ من خَلقِه .
وقوله: ضَحِك رَبِّكَ في لفظ آخر عَجَبُ رَبِّكَ. «وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ» يقول الإمام أبو عُبَيدٍ القاسمُ بنُ سَلَّام: «صِحَاحٌ حَمَلَهَا أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَهِيَ عِنْدَنَا حَقٌّ لَا نَشُكُّ فِيهَا، وَلَكِنْ إِذَا قِيلَ: كَيْفَ وَضَعَ قَدَمَهُ؟ وَكَيْفَ ضَحِكَ؟ قُلْنَا: لَا نُفَسِّرُ هَذَا، وَلَا سَمِعْنَا أَحَدًا يُفَسِّرُهُ». مُرادُ أبي عبيد: لا نُفَسِّرُ هذا تفسيرَ الجَهْمية، وإلا: المعنى معلومٌ، كما قال الإمام مالكٌ لما سُئِلَ عن الاستواء، قال: «الاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ -في اللغة العربية- والْكَيْفُ مَجْهُولٌ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ»([3]).
فمُرادُ أبي عبيدٍ إذنْ: لا نُفسر تفسيرَ الجهمية.
ولهذا قال شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بعد أن أورد هذا الأثر: «فالاستواء معلوم يعلم معناه وتفسيره ويترجم بلغة أخرى، وأما كيفية ذلك الاستواء، فهو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تعالى» كما ذكر -رحمه الله- هذا في (الحَمَوِيَّة)([4]).
| المتن |
بَابُ مَا تَرْجَمَهُ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الصَّحِيحِ، فقَالَ: التَّوْحِيدُ وَعَظَمَةُ الرَّبِ، وَصِفَاتُهُ وَالرَّدُّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا صِفَاتِ الرَّبِّ -تَعَالَى-، وَجَعَلُوهَا مَخْلُوقَةً.
هَذَا تَرْجَمَةُ الْجُزْءِ الَّذِي فِيهِ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ فِيهِ:
71- بَابُ قَوْلِ الله وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ: 23] وَلَمْ يَقُلْ: مَاذَا خَلَقَ رَبُّكُمْ؟
وَقَالَ مَسْرُوقٌ: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «إِذَا تَكَلَّمَ اللهُ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ شَيْئًا، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، وَسَكَنَ الصَّوْتُ عَرَفُوا أَنَّهُ الْحَقُّ، وَنَادَوْا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: الْحَقَّ([5]).
وقَالَ اللهُ -تَعَالَى-: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255].
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ [عَنْ عَبْدِ الله] بْنِ أُنَيْسٍ؛ سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: يَحْشُرُ اللهُ الْعِبَادَ فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ. ([6]).
| الشرح |
هذا النقلُ نقَلَه المؤلفُ -رحمه الله- من كِتاب التوحيد الذي في كتاب (الجامع الصحيح) للإمام البخاري، وهو يَقرُبُ من خِمسين صَفحَة. وهو آخِرُ كِتابٍ من كُتُبِ (الجامع الصحيح) للإمام البخاري.
فقد افتتح الإمامُ البخاري كِتابَه الصحيحِ بكتاب بَدْءِ الوَحْي، ثم كِتاب الإيمان، وختمه بكتاب التوحيد.
قال المؤلفُ -رحمه الله-: «بَابُ مَا تَرْجَمَهُ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الصَّحِيحِ، فقَالَ: التَّوْحِيدُ وَعَظَمَةُ الرَّبِّ، وَصِفَاتُهُ وَالرَّدُّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا صِفَاتِ الرَّبِّ –تَعَالَى-، وَجَعَلُوهَا مَخْلُوقَةً»؛ إذن هذه تَرجمةُ الإمامِ البخاري بالتوحيد.
قوله: «وَعَظَمَةُ الرَّبِّ»، اللهُ -تعالى- عظيم بذاته وأسمائه وصفاته. «وَصِفَاتُهُ وَالرَّدُّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا صِفَاتِ الرَّبِّ –تَعَالَى-، وَجَعَلُوهَا مَخْلُوقَةً»؛ إذن الجهميةُ يُنكرِون الصفاتِ ويجعلونها مخلوقةً، وكذلك المُعتزلةُ.
ثم ذَكَر المُؤلفُ -رحمه الله- تراجِمَ الإمام البخاري في هذا الجزء، قال أي: البخاري: «بَابُ قَوْلِ الله وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ: 23]، وَلَمْ يُقَلْ: مَاذَا خَلَقَ رَبُّكُمْ؟». ودَلالةُ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ إثبات الكلام لله، وأن الله يقول، وأن الله يتكلم، وأن كلام الله صِفةٌ من صفاته؛ لأن الملائكة إذا سَمِعُوا كلامَ الله صَعِقُوا، فإذا أفاقوا وزالت الغَشْيةُ والصعقُ قال بعضُهم: ماذا قَال ربُّكم؟ ولم يقولوا على حد قَول البخاري: «مَاذَا خَلَقَ رَبُّكُمْ؟» فَدلَّ على أن كلامَ الله غيرُ مخلوقٍ، فلو كان مخلوقًا لقالت الملائكةُ: ماذا خَلقَ ربُّكم؟ فدلَّ على أن كلامَ الله صِفةٌ مِن صِفاتِه، وليس مخلوقًا.
ثم ذكر البخاريُّ أَثرَ ابْنِ مَسعُود، فقال: «وَقَالَ مَسْرُوقٌ: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «إِذَا تَكَلَّمَ اللهُ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ شَيْئًا، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، وَسَكَنَ الصَّوْتُ عَرَفُوا أَنَّهُ الْحَقُّ، وَنَادَوْا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: الْحَقَّ».
وقد ذَكَر البخاري هذا الأثرَ في صحيحه مُعَلَّقًا موقوفًا على ابن مسعود. وفيه: «أنَّ ابْنَ مَسْعودٍ» ومِثلُ هذا لا يُقال بالرَأْي «قال: إذا تَكلَّم اللهُ بالوَحْي سَمِعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ شَيْئًا»، إِذن أهلُ السمواتِ يَسمعون كلامَ الله، «فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، وَسَكَنَ الصَّوْتُ عَرَفُوا أنَّهُ الْحَقُّ، وَنَادَوْا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: الْحَقَّ».
إذن في هذا إثبات أن كلامَ الله يُسْمَعُ؛ ردًّا على الأشاعرة الذين يقولون: إِن كَلامَ الله لا يُسْمَعُ، وفيه: أن كلامَ الله بِصوتٍ، وفيه أنَّ الملائكةَ يقولون: مَاذا قال رَبُّكُم؟ ولم يقولوا: ماذا خَلَق رَبُّكم؟ وفي كل هذا رَدٌّ على الجهمية والمعتزلة والأشاعرة الذين يُنْكِرُون كلامَ الله، وأنَّ كلام الله ألفاظٌ وحروفٌ ومعانٍ.
ثم قال: «وَقَالَ اللهُ -تَعَالَى-: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255] وفيها تَعظيمُ الربِّ وعَظمتُه، وأنه لا يَشفع أَحدٌ عِندَه إلا بإذنه، حتى ولو كان وَجِيهًا، ولو كان أعظم الناس وجاهةً.
بل إن نبينا ﷺ؛ إذا كان يوم القيامة لا يبدأ بالشفاعة، بل يَسجُد تحتَ العَرْش، حتى يأتي الإذنُ، ويَحمد الله؛ فيَفتَح اللهُ عليه في ذلك الموقفِ بمَحامِدَ لم يفتحها عليه من قَبْل، فيَدَعُه اللهُ ما شاء، ثم يأتيه الإذنُ من رَبِّه، فيقول الله: يَا مُحَمَّدُ! ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ. ([7])، هذا هو الإِذنُ.
ولا يشفع إلا لمن رَضِي اللهُ قولَه وعَمَلَه، إذا كان يشفع لأحدٍ من أهل النارِ يَحُدُّه اللهُ له حَدًّا وَعلامةً، وإذا كانت الشَّفاعةُ العُظْمَى يُشَفِّعُهُ اللهُ. إذن يدل هذا على عَظمة الله.
أما المخلوقُ فلا يحتاج إذنًا، فيمكن أن يدخلَ أحدُ الناس على الْمَلِك، أو الرئيس، أو الأمير أو رئيس الجُمهورية، ويشفع مُباشَرة دون إذن أو مُقدِّمات، ولا استئذان؛ لأن الملك أو الرئيس أو الأمير أو الوزير بَشَرٌ مخلوق ناقصٌ ضعيفٌ، فقد يُضطر لقبول شفاعة ابنِه أو امرأتِه أو أحد أقربائه وأصدقائه وإن لم تكن الشفاعة في محلها، وقد يُلْجَأُ إلى قَبول الشفاعة لما يُؤَمَّل في المستقبل؛ لما يُخشَى في المستقبل، فَيُشَفِّعُهُ وهو غير راضٍ.
أما اللهُ فلا يَشفَع عنده أحدٌ إلا بإذنه، ولا يشفعُ أحدٌ إلا لمن رَضِي الله قولَه وعَمَلَه؛ فهذا يدل على عظمة الله.
ثم ذكر البخاري حديثَ جَابِر بنِ عبد الله عن عَبْد الله بْنِ أُنَيْس قال: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: يَحْشُرُ اللهُ الْعِبَادَ فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ. وفي هذا الحديث إثبات الصوت في كلام الله؛ وإثبات الكلام وأنه بصوت، وأن الصوت مسموعٌ لكلام الله؛ يَسمعه مَنْ بَعُدَ كما يسمعه مَنْ قَرُبَ، فيقول الربُّ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ ، وهذا لا يَكون إلا كلامَ الله، الذي يكون بصَوْتٍ يَسمعُه القَريبُ مثل البَعِيد؛ على خِلاف صَوتِ المخلوق الذي يسمعه القريبُ أكثر من البَعِيد، أمَّا الصوتُ المسموع من كلام الله فيسمعه القريبُ والبعيدُ على حد سواء، ولهذا قال: يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ. وفي هذا رَدٌّ على الجَهمية والمعتزلة والأشاعرة الذين يُنْكِرُون الكلام، ويُنْكِرُون أن يكون بصوت.
وقد رحَلَ جابرُ بْنُ عبدِ الله لهذا الحديثِ مَسِيرَة شَهرٍ من أجلِ هذا الحديث إلى عبد الله بن أُنَيْس، ولهذا قال البخاريُّ في صحيحه: «وَرَحَلَ جَابِرٌ بْنُ عَبْدِ اللهِ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ مَسِيرَةَ شَهْرٍ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ». وهذه الرِّحلَة هي أولُ رِحلة في طلب العلم، رحلة جابر بن عبد الله من المدينة النبوية إلى الشام مسافةَ شَهْر، واشترى جملًا جَيِّدًا أَعَدَّه وخصَّصه لهذه المهمة؛ شهرًا كاملًا وليس كما هو الحال عندنا الآن بالطائرات تكون الرحلةُ ساعةً أو نصفَ ساعة، أو قُلْ رُبع ساعةٍ، وهذه ليست رحلات. لم يكن عند السلف طائرات ولا سيارات ولا قِطارات، بل الإبل والخيل.
وهذه أولُ رِحلَة للصحابة في طَلَب العلم، والرِّحلةُ في طلب العلم سُنَّةٌ، ويَحكي جابر بن عبد الله قِصَّة الرحلة فيقول: «بَلَغَنِي حَدِيثٌ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله ﷺ، سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ الله ﷺ لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْهُ، فَابْتَعْتُ بَعِيرًا، وَشَدَدْتُ عَلَيْهِ رَحْلِي، وَسِرْتُ إِلَيْهِ شَهْرًا، حَتَّى أَتَيْتُ الشَّامَ، فَإِذَا هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ الْأَنْصَارِيُّ، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ أَنَّ جَابِرًا عَلَى الْبَابِ، قَالَ: فَمَضَى إِلَيْهِ الرَّسُولُ فَخَرَجَ إِلَيَّ فَاعْتَنَقَنِي وَاعْتَنَقْتُهُ، فَقُلْتُ: حَدِيثٌ بَلَغَنِي أَنَّكَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ الله ﷺ، فِي الْمَظَالِمِ، لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْهُ، فَخَشِيتُ أَنْ أَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أَسْمَعَهُ. فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله ﷺ يَقُولُ: يَحْشُرُ اللهُ الْعِبَادَ، أَوْ قَالَ النَّاسَ، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الشَّامِ، عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا، قُلْتُ: مَا بُهْمًا؟ قَالَ: لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ. قَالَ: فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ، كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ، وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلِمَةٍ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلِمَةٍ، حَتَّى اللَّطْمَةِ. قُلْنَا: وَكَيْفَ، وَإِنَّمَا يَأْتُونَ عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا؟ قَالَ: بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ.
وهذا الحديث ذكره البخاري مرة بصيغة التمريض، فقال: «ويُذْكَرُ»، ومرَّةً قال: «وَرَحَلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ -بصيغة الجزم- إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ مَسِيرَةَ شَهْرٍ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ».
| المتن |
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: إِذَا قَضَى اللهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خَضَعَانًا لِقَوْلِهِ؛ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: الَّذِي قَالَ الْحَقُّ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. ([8]).
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ يَقُولُ اللهُ: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، فَيُنَادِي بِصَوْتٍ: إِنَّ الله يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ. ([9]).
| الشرح |
حديث أبي هُرَيرة، رواه البخاريُّ في الصحيح؛ لأن المؤلفَ ينقل عن البخاري، من كتاب التوحيد، آخر كتاب في الجامع الصحيح.
وقوله: بِأَجْنِحَتِهَا خَضَعَانًا لِقَوْلِهِ هكذا بفتحتين، والوجه الثاني فيها خُضْعَانًا، بضم الخاء وإسكان الضاد.
وفي هذا إثبات الكلام لله، أي الصوتُ المسموع لكلام الله الذي كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: الَّذِي قَالَ الْحَقُّ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، ففي هذا الحديثِ إثباتُ الكلام لله، وأن كلامَ الله بصوت يُسْمَعُ، وفيه أن الملائكةَ تقول بعد زَوَال الْغَشْيِ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ ولم يقولوا: ماذا خَلَق ربُّكم- كما تقول المعتزلة- أن القرآن مَخلُوقٌ.
وحديث أبي سعيدٍ عن النبي ﷺ يَقُولُ اللهُ: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، فَيُنَادِي بِصَوْتٍ: إِنَّ الله يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ. رواه الشيخان البخاري ومسلم.
وفيه إثباتُ الكلام لله، وأن الله يُنادِي، والنداءُ إنما يكون مِن بُعْدٍ.
وفي قوله -تعالى-: وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الشعراء: 10] إثباتُ النداء أيضًا.
وفي قوله -تعالى-: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [مريم: 52] والمُناجَاة: الكلامُ من قُرب، والنداء الكلام من بُعد، والكلام يشمل الأمرين.
وفي كُلِّ هذا إثبات الصوتِ لله.
وفيه الردُّ على هذه الطوائف التي تنكر الكلام والصوت.
| المتن |
بَابُ كَلَامِ الرَّبِّ -تَعَالَى- مَعَ جِبْرِيلَ :
72- وَقَالَ: بَابُ كَلَامِ الرَّبِّ -تَعَالَى- مَعَ جِبْرِيلَ .
وَرَوَى حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ إِنَّ الله إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ الله قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ فِي السَّمَاءِ: إِنَّ الله قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ. ([10]).
| الشرح |
وقال -يعني البخاري- في ترجمته في الصحيح: «بَابُ كَلَامِ الرَّبِّ -تَعَالَى- مَعَ جِبْرِيلَ » هذه ترجمة البخاري: قَولُه: «بَابُ كَلَامِ الرَّبِّ» أي إنَّه أَثبتَ كلامَ الربِّ مع جبريل. وذكر حديث أبي هريرة: إِنَّ الله إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ. والنداءُ يكون من بُعْدٍ، وفيه إثباتُ النداء لله، وإثبات الكلام له -تعالى-.
وفي قوله: إِنَّ الله قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ إثباتُ المحبة لله، والرَّدُّ على من أنكر المحبة من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ فِي السَّمَاءِ: إِنَّ الله قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ.
وتَكْمِلةُ الحديثِ: وَإِنَّ الله إِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ الله يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ، فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ: إِنَّ الله يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ، ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ.
وفيه أيضًا إثباتُ البُغض لله.
| المتن |
كَلامُ الرَّبِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ:
73- وَقَالَ: بَابُ كَلَامِ الرَّبِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ.
رَوَى حَدِيثَ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ شَفَعْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ أَدْخِلِ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ خَرْدَلَةٌ، فَيُدْخَلُونَ، ثُمَّ أَقُولُ: أَدْخِلِ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى شَيْءٍ، فَقَالَ أَنَسٌ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَصَابِعِ رَسُولِ الله ﷺ. وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: فَأَخِرُّ سَاجِدًا، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ! ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي. ([11])، وَسَاقَ الْحَدِيثَ الطَّوِيلَ.
وَحَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ... ([12]) الْخَبَرَ.
وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: سَمِعْتُ رَسُولِ الله ﷺ يَقُولُ فِي النَّجْوَى قَالَ: يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: أَعَمِلْتَ بِكَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، وَيَقُولَ: عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيُقَرِّرُهُ، ثُمَّ يَقُولُ: إِنِّي سَتَرْتُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ. ([13]).
| الشرح |
هذه ترجمةُ الإمام البخاري قال: «بَابُ كَلَامِ الرَّبِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ»، وفيها إثباتُ أن الله يَتكلَّم، ويَتكلَّم مع الملائكة؛ يَتكلَّم مع الناس يَوم القيامة، ويتكلم مع الأنبياء.
ثم ذَكَر حديث أَنسٍ ﷺ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يكون للنبي ﷺ شَفَاعَةٌ، فأقول: يَا رَبِّ أَدْخِلِ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ خَرْدَلَةٌ، ، فَيُدْخَلُونَ، ثُمَّ أَقُولُ: أَدْخِلِ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى شَيْءٍ، فَقَالَ أَنَسٌ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَصَابِعِ رَسُولِ الله ﷺ. وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: فَأَخِرُّ سَاجِدًا، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ! ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ
والشاهد فيه قوله: فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ وفيه إثباتُ الكلامِ لله، وأنَّ الله يتكلَّم يومَ القيامة مع الأنبياء؛ مع نَبِيِّنَا ﷺ.
وفي حديث عَدِي بن حَاتِم: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ التَّرْجُمان: المُترجم الذي يَنقلُ الكلامَ من لُغَة إلى لُغَة، واخْتُلِفَ فيها: تَرْجَمان بفَتْح التاء والجيم، وتَرْجُمان بفتح التاء وضم الجيم، وقال بعضهم: فيها لغة ثالثة: تُرْجَمان بضم التاء وفتح الجيم، وتُرْجُمَان بضم التاء والجيم. وعلى ذلك فما يَغلط فيها أحد، فإذا قُلتَ تَرْجُمَان، تَرْجَمان، تُرْجَمان، تُرْجُمَان... فبأي وَجْه قرأتها صحَّت قِراءتُك. والمعنى المراد: أن الله سيُكلِّم كلَّ واحدٍ يومَ القيامة بدون واسطة. وهذا إثبات الكلام لله .
وفي حديث ابن عمر يقول في النَّجْوَى- يعني: السر: يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ.
وفيه إثباتُ الكَنَف لله -تعالى- على الوصف الذي يَليق بجلاله، والله -تعالى- يُقَرِّر العبدَ بذُنوبِه فَيَقُولُ: أَعَمِلْتَ بِكَذَا وَكَذَا؟ عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيُقَرِّرُهُ. أي إن الله يجعله يُقِرُّ بذنوبه ، «ثُمَّ يقولُ اللهُ -تَعَالَى-: إِنِّي سَتَرْتُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا أي سَترت عليك ذُنُوبَك في الدنيا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، هذا كلام الله مع كل أحد.
وفي هذا الرَّدُّ على الجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة الذين يُنكرون الكلام.
ولفظ الحديث: «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ الله فِي النَّجْوَى؟ قَالَ: يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ... إلى آخر الحديث.
| المتن |
بَابُ قَولِ الله -تَعَالَى-: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا
74- وَقَالَ: بَابُ:وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164].
رَوَى حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ قَالَ: احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى: أَنْتَ الَّذِي أَخْرَجْتَ ذُرِّيَّتَكَ مِنَ الْجَنَّةِ. قَالَ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللهُ بِرِسَالَاتِهِ وَكَلَامِهِ، ثُمَّ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟! فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى. ([14]).
وَسَاقَ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثَ الْمِعْرَاجِ الَّذِي رَوَاهُ أَنَسٌ بِطُولِهِ، وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ رَأَى مُوسَى فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ -بِتَفْضِيلِ كَلَامِ الله -تَعَالَى- فَقَالَ مُوسَى: رَبِّ: لَمْ أَظُنَّ أَنْ تَرْفَعَ عَلَيَّ أَحَدًا، ثُمَّ عَلَا بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، حَتَّى جَاءَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، وَدَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ؛ فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى فِيمَا أَوْحَى إِلَيْهِ خَمْسِينَ صَلَاةً عَلَى أُمَّتِكَ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. ثُمَّ هَبَطَ حَتَّى بَلَغَ مُوسَى، فَاحْتَبَسَهُ مُوسَى، فَقَالَ: «يَا مُحَمَّدُ: مَاذَا عَهِدَ إِلَيْكَ رَبُّكَ؟ قَالَ: عَهِدَ إِلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ وَعَنْهُمْ، فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ إِلَى جِبْرِيلَ؛ كَأَنَّهُ يَسْتَشِيرُهُ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ: أَنْ نَعَمْ، فَعَلَا بِهِ إِلَى الْجَبَّارِ، فَقَالَ وَهُوَ مَكَانَهُ: يَا رَبِّ: خَفِّفْ عَنَّا، فَإِنَّ أُمَّتِي لَا تَسْتَطِيعُ هَذَا؛ فَوَضَعَ عَنْهُ عَشْرَ صَلَوَاتٍ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مُوسَى، فَاحْتَبَسَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهُ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ، حَتَّى صَارَتْ إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ. ثُمَّ قَالَ الْجَبَّارُ: يَا مُحَمَّدُ: «قَالَ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: إِنَّهُ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ؛ كَمَا فَرَضْتُ عَلَيْكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، فَكُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، فَهِيَ خَمْسُونَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَهِيَ خَمْسٌ عَلَيْكَ. ([15]).... الْحَدِيثَ.
| الشرح |
يقول البخاري في هذه الترجمة: «بَابٌ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164] وفيه إثباتُ الكلامِ لله ، فالآيةُ صَريحَة في أن الله كَلَّمَ مُوسَى، وقوله: تَكْلِيمًا تَأكيدُ مَصدرٍ، قال العلماء: إذا جاء المصدرُ فلا يمكن أن يُأَوَّل إلى المجاز.
وأهل البدع يتأَوَّلون؛ ويُنكرون الكلامَ، فيقولون معنى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا أي: جَرَحَه، جَرَحَه بأظافِر الحِكمة!! كما تقول العربُ: فُلانٌ كَلْمُهُ يُدمِي، فالْكَلْمُ: الجُرْح!!
وذَكَر حديثَ أبي هُريرة في احتجاج آدم وموسى، وأنَّه لمَّا التَقى موسى وآدم، قال مُوسَى: أَنْتَ الَّذِي أَخْرَجْتَ ذُرِّيَّتَكَ مِنَ الْجَنَّةِ. قَالَ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللهُ بِرِسَالَاتِهِ وَكَلَامِهِ، ثُمَّ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟! فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى. يعني: غَلَبه بالحُجَّة؛ لأنَّ مُوسى -عليه الصلاة والسلام- لَامَهُ على المُصِيبة التي لَحِقَتْهُ وذُرِّيَّتَه بالخروج مِن الجَنة، فاحتج آدمُ بأن المصيبةَ مُقدَّرَة.
وموسى لم يَلُم آدمَ على الذنب؛ لأنه تاب منه، وإنما لَامَه على المُصيبة التي لَحِقتُه وذُرِّيَّته بالخروج من الجَنة؛ فقال آدمُ: المصيبةُ مكتوبةٌ عَلَيَّ. والاحتجاج بالقدر عَلى المصائب لا مانع منه، ولكن الاحتجاج بالقدر على الذنوب والمعاصي مرفوض ممنوع. فموسى لامَهُ على المُصيبة، فاحتج آدمُ بأن المصيبةَ مكتوبةٌ عليه؛ ولذلك غَلَبه بالحُجَّة.
ثم ساق حَديثَ المعراج، وفيه قال: «أَنَّهُ رَأَى مُوسَى فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ» المعروف في الأحاديث الصحيحة: أنه رأى موسى في السماء السادسة، فموسى في السماء السادسة، وإبراهيم في السماء السابعة، هذا المعروف في الأحاديث.
وفي الحديث: أن موسى قال: رَبِّ: لَمْ أَظُنَّ أَنْ تَرْفَعَ عَلَيَّ أَحَدًا، وأنَّه علا بِه إلى الجَبَّار ، وفي هذا إثبات العلو لله .
وفيه قولُه: وَدَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ؛ فَتَدَلَّى. وفي أحاديث المعراج أن الذي دَنَا وتَدلَّى هو جبريل ؛ لكن جاء أيضًا في أحاديث المعراج دُنو الرب وتَدَلِّيه، فيكون فيه إثباتُ دُنو الربِّ، وإثبات التدلي، ودُنُوه وتَدلِّيه -سُبحانه- على ما يَلِيق بجلاله وعظمته.
وفيه أن الله -تعالى- فَرض الصلاة خمسين صلاة، ثم خفَّفها إلى خَمْسِ صلواتٍ قبل العمل، ففيه دليلٌ على جواز النَّسْخِ قبل الفِعل، وقبل العمل؛ فقد فرض اللهُ خمسين صلاة، ثم جعل نبيُّنا يتردد بين ربه وموسى.
وقَدَّرَ اللهُ -تعالى- في قَلبِ موسى أن يقول لنبيِّنا ﷺ: ارجع إلى ربِّك واسأله التخفيف، فاللهُ -تعالى- هو الذي حَرَّكَ قلبَ موسى، وحرَّكَ قلب نبيِّنا ﷺ للقبول؛ فالفضل كُلُّهُ يرجع إلى الله .
وفيه: الاستشارة، فإن نبيَّنا ﷺ استشار جبريل؛ فأشار إليه، فَعَلَا به إلى الجَبَّار حتى صارت إلى خمس صلوات، ثم قال الربُّ الجبَّارُ: إِنَّهُ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ؛ كَمَا فَرَضْتُ عَلَيْكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، فَكُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، فَهِيَ خَمْسُونَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَهِيَ خَمْسٌ عَلَيْكَ إن هذا مِن فَضْل الله -تعالى- وإحسانِه، هي خمسُ صلوات في العدد، وخمسون في الميزان والأجر.
وفيه إثباتُ الكلامِ لله ودَليلٌ على أن الله -تعالى- يتكلَّم، وفيه ردٌّ على الجَهْمية والمعتزلة والأشاعرة الذين يُنكرون كلامَ الله .
| المتن |
كَلَامُ الرَّبِّ تَعَالَى مَعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ
75- وَقَالَ: بَابُ كَلَامِ الرَّبِّ مَعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ إِنَّ الله يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَيَّكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ. فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ؟!! وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا. ([16]).
| الشرح |
هذا الباب في كلام الربِّ مع أهل الجنة، والبخاري -رحمه الله- يُنَوِّعُ التَّراجِمَ في إِثباتِ كلامِ الرَّب؛ ليَرُدَّ على الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، فقال: «بَابُ كَلَامِ الرَّبِ مَعَ جِبْرِيلَ»، «بَابُ كَلَامِ الرَّبِّ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ»، «بَابُ كَلَامِ الرَّبِّ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالنَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، «بَابُ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164]، «بَابُ كَلَامِ الرَّبِّ مَعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ».
إذن هذه النصوص، وهذه التراجم المنوَّعة يُدْخِلُ تحتها البخاري -رحمه الله- عَددًا من النُّصوص، لِيُبَيِّنَ أن إثبات الكلام لله ثابتٌ في النصوص، في الكتاب، والسنة وأنه أنواع: الله -تعالى- يُكَلِّمُ الملائكةَ؛ يُكَلِّمُ الملائكةَ في الدنيا، ويكلم الملائكة يوم القيامة، ويُكلِّم الأنبياءَ يَومَ القيامةِ، ويُكلِّم آدمَ يَومَ القيامة، ويُكَلِّمُ الناسَ يَوم القيامة، ويكلِّم أهلَ الجنة.
هذه التراجمُ، وهذه النصوص، كيف تُأَوَّل؟! كيف يُأَوِّلُهَا أهلُ البدع؟ لولا أن الله أضلَّهم. ولهذا قال المؤلف: قال البخاري: «بَابُ كَلَامِ الرَّبِّ مَعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ» أهلِ الجنة خاصة. وسبق الكلام مع جبريل، ومع الملائكة.
وذَكر حديثَ أَبِي سَعيدٍ قال: قال رسول الله ﷺ إِنَّ الله يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ ففي يَقُولُ إثباتُ القَوْل لله يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ! فَيَقُولُونَ: لَبَيَّكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ. فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ؟!! وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ! وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا. يعني أنه -تعالى- تَكلَّم مرَّات مع أهل الجنة.
وفيه فَضلُ أهلِ الجنة، وأن الله تَفَضَّل عليهم بِنِعَم عظيمةٍ، وأن الله -تعالى- يكلمهم، وأنهم يقولون: يا ربنا أعطيتنا؛ رضينا. أعطيتنا شيئًا عظيمًا! فيقول: أُحِلَّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا. وهذا فضل عظيم. نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة!
وفيه: إثبات الرِّضا لله ، وإثبات السخطُ على ما يَلِيق بجلال الله وعظمته، خلافًا لأهل البدع؛ كالجهمية والمعتزلة الأشاعرة الذين يُنكرون صفة الرضا! وينكرون صفة السخط، يُأَوَّلونها؛ لأنهم لا يُثبتونها.
والأشاعرةُ لا يُثبتون الأسماءَ والصفاتِ إلا: الحياة، والكلام، والبصر، والسمع، والعلم، والقُدرة، والإرادة، وليس مما يُثبتون المحبَّةَ، ولا السخط، ولا الاستواء، ولا العلو، ينكرونها كُلَّها، والمعتزلة يُنكرون الصفات كلَّها، ولا يثبتون إلا الأسماء. والجهميةُ يُنكرونَ الأسماءَ والصفات.
وفي هذه النصوص ردٌّ على المعتزلة والأشاعرة. نسأل الله السلامة والعافية، ونسأله أن يرزقنا وإياكم العمل بكتابه وسُنَّة نبيه، وأن يثبتنا على دينه، وألا يزيغ قُلوبنا، وأن يهب لنا من رحمته، إنه هو الوهاب.
| الحواشي |
([1]) أخرجه البخاري: كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي ﷺ، رقم (110)، ومسلم في المقدمة، رقم (3).
([2]) أخرجه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب قصة يأجوج ومأجوج، رقم (3348)، ومسلم: كتاب الإيمان، رقم (222).
([3]) تقدم عزوه.
([4]) انظر: الفتوى الحموية الكبرى (ص 291).
([5]) أخْرَجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (2/369/549) .
([6]) أخرجه البخاري معلقاً في صحيحه (9/141)
([7]) أخرجه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله –تعالى-: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [نوح: 1]، رقم (3340)، ومسلم: كتاب الإيمان، رقم (194).
([8]) أخرجه البخاري: كِتَابُ تَفْسِيرِ القُرْآنِ ، بَابُ قَوْلِهِ: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ [الحجر: 18] ، رقم (4701).
([9]) أخرجه البخاري: كِتَابُ تَفْسِيرِ القُرْآنِ ، بَابُ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى [الحج: 2] ، رقم (4741)، ومسلم: كتاب الإيمان، رقم (222).
([10]) أخرجه البخاري: كِتَابُ الأدب ، بَابُ المِقَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، رقم (6040) ، ومسلم : كتاب الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالْآدَابِ ، رقم (2637) .
([11])سبق تخريجه .
([12]) سبق تخريجه .
([13]) أخرجه البخاري: كِتَابُ التَّوْحِيدِ ، بَابُ كَلاَمِ الرَّبِّ يَوْمَ القِيَامَةِ مَعَ الأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ ، رقم (7514) .
([14]) أخرجه البخاري: كِتَابُ التَّوْحِيدِ ، بَابُ كَلاَمِ الرَّبِّ يَوْمَ القِيَامَةِ مَعَ الأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ ، رقم (7515) .
([15]) أخرجه ابن منده في الإيمان (2/715/712) .
([16]) أخرجه البخاري: كِتَابُ التَّوْحِيدِ ، بَابُ كَلاَمِ الرَّبِّ مَعَ أَهْلِ الجَنَّةِ ، رقم (3340)، ومسلم: كتاب الْجَنَّةِ وَصِفَةِ نَعِيمِهَا وَأَهْلِهَا ، رقم (2829).