| المتن |
بَابُ ذِكْرِ الله بِالْأَمْرِ وَذِكْرِ الْعِبَادِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالرِّسَالَةِ وَالْبَلَاغِ
76- بَابُ ذِكْرِ الله بِالْأَمْرِ وَذِكْرِ الْعِبَادِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالرَّسَالَةِ والْبَلَاغِ؛ لِقَوْلِهِ -تَعَالَى-: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 152] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ... [يونس: 71] الْآَيَةَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ... [التوبة: 6] إِنْسَانٌ يَأْتِيهِ فَيَسْتَمِعُ مَا يَقُولُ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَهُوَ آمِنٌ حَتَّى يَأْتِيَهُ فَيَسْمَعَ كَلَامَ الله، وَحَتَّى يَبْلُغَ مَأْمَنَهُ، حَيْثُ جَاءَ، وَالنَّبَأُ الْعَظِيمُ الْقُرْآنُ، فَعَمِلَ بِهِ. ([1])
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف: 106] قَالَ: تَسْأَلُهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ ومَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ فَيَقُولُونَ: اللهُ؛ فَذَلِكَ إِيمَانُهُمْ، وَهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ، وَمَا ذُكِرَ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَاكْتِسَابِهِمْ؛ لِقَوْلِهِ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان: 2].
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ [الحجر: 8] بِالرَّسَالَةِ وَالْعَذَابِ. لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [الأحزاب: 8] فَهُمُ: الْمُبَلِّغِينَ الْمُؤَدِّينَ مِنَ الرُّسَلِ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ عِنْدَنَا... ([2])
| الشرح |
ينقل المؤلفُ -رحمه الله- من كتاب التَّوحيد للإمام البخاري في الجامع الصحيح، فبعض الأحيان ينقل الأبواب نصًّا دون أدنى تَصرُّف، وأحيانًا يتصرَّف بحذف بعض الكلمات، وأحيانًا يُجْمِلُ المفصَّل...
يقول المؤلفُ قال البخاري: «بَابُ ذِكْرِ الله بِالْأَمْرِ، وَذِكْرِ الْعِبَادِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالرَّسَالَةِ وَالْبَلَاغِ»، وفي صحيح البخاري: «وَذِكْرِ الْعِبَادِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالرَّسَالَةِ وَالْإِبْلَاغِ»، ومقصودُ البخاري -رحمه الله- من هذه الترجمة: إثباتُ الكلام لله وأَنَّه صِفةٌ من صِفاته وأنه ليس بمخلوق كما تقوله المعتزلة وغيرهم.
وقال البخاري: «بَابُ ذِكْرِ الله بِالْأَمْرِ» الأمرُ نوعٌ من الكَلام، فالكلام يكون أمرًا ويكون خبرًا، «وَذِكْرِ الْعِبَادِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالرِّسَالَةِ وَالْبَلَاغِ».
ثم قال: «لِقَوْلِهِ -تَعَالَى-: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ [البقرة: 152].
فـ اذْكُرُونِي أمرٌ والأمر كلام، والكلام صِفةٌ الله، كلامُ الله صِفتُه، وليس بمَخلُوق، ومن قال: مَخلوقٌ فقد كَفَر.
وَقَالَ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ [المائدة: 27] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ [يونس: 71] وَاتْلُ هذا أمرٌ والأمرُ كَلامٌ، والكَلامُ صِفَةٌ من صفاتِ الله.
«وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [التوبة: 6]. قَولُه: فَأَجِرْهُ أمرٌ من الله وهُو كَلامُه، وهُو مُنزَّل غيرُ مخلوق، وفسَّرَه فقال: إنسانٌ يَأتِيه فيَستمعُ ما يقول، وما أُنزِل عليه فهو آمنٌ حتَّى يأتيَه فيسمع كَلامَ الله، وحتى يبلغَ مَأمنه حيث شاء، أيْ إنَّ الكافرَ إذا طلب الاستجارةَ يُجارُ، ويُؤمَّن حتى يسمعَ كلامَ الله ويَبْلُغ مَأمَنه، ولا يُؤذَى؛ ولهذا قال: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ أي أَمِّنه حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [التوبة: 6] فالشَّرطُ حتَّى يَسمعَ كلامَ الله، هذا أمرٌ والأمرُ كلامُ الله.
وقال -تعالى-: حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ولم يقل: حتَّى يسمع ما خلَق اللهُ، وهذا يدل على أن كلام الله صِفةٌ من صِفاتِه.
قوله: «وَالنَّبَأُ الْعَظِيمُ الْقُرْآنُ، فَعَمِلَ بِهِ»، وفي البخاري: «وَالنَّبَأُ الْعَظِيمُ الْقُرْآنُ، وَصَوَابًا حَقًّا فِي الدُّنْيَا وَعَمِلَ بِهِ» وهذا يَدلُّ على أن القرآنَ هو كلام الله مُنزَّلٌ غيرُ مخلوق. وقَصَد المؤلف -رحمه الله- من نَصِّ البخاري إثباتَ الكلام لله ، وأنَّ الأمرَ نوعٌ من الكلام، وإثباتَ أن القرآنَ كلامُ الله، وأنه صفةٌ من صِفاته ليس بمخلوق كما يقول أهل البدع من المعتزلة وغيرهم.
ويَقول المؤلفُ: وَقَالَ عِكْرِمَةٌ: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف: 106]، هَذا من الدُّعاء والبلاغِ فالله -تعالى- يدعو عِبادَه إلى أن يُؤمنوا بالله .
وفسَّر عِكرمةُ الإيمانَ بإثباتِ توحيدِ الرُّبوبية والشِّرك شِركَ العِبادَة قال: «قَالَ: تَسْأَلُهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ ومَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ فَيَقُولُونَ: اللهُ؛ فَذَلِكَ إِيمَانُهُمْ» إيمان بتوحيد الربوبية والشرك «وَهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ»، فلا ينفع الإيمانُ بتوحيد الربوبية مع الشرك في العبادة.
سمَّاه إيمانًا لأنه نَوعٌ من التوحيد لكنَّه لا يكفي، فلا يكفي الإنسان حتى يُوحِّد الله في العِبادة.
ثم قال: «وَمَا ذُكِرَ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَاكْتِسَابِهِمْ» وفي بعض نُسَخِ الصحيحِ «وإكْسَابِهِمْ» لَقَوْلِهِ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان: 2] فاللهُ الخالقُ، خالقُ كل شيء.
ويَشمل ذلك أفعالَ العِباد، وفيه الردُّ على القَدَرية الذين يقولون: العِبادُ خالقون لأَفعالِهم، وخَلَق كلَّ شيء من الذوات والصِّفات والأفعال قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد: 16].
وفيه الرَّدُّ على القَدَرية الذين يقولون إن العبادَ هُم الخالقون لأفعالهم.
وقال: قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وكُلُّ: من صِيَغ العُمُوم تَشمل الذواتِ والصفاتِ.
وقال المؤلفُ: «وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ [الحجر: 8] قال: بِالرِّسَالَةِ وَالْعَذَابِ».
قال: لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [الأحزاب: 8] أي يسأل: «المُبلِّغِين المْؤُدِّينَ» للرسالةَ «مِنَ الرُّسُلِ».
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] الآية هَذا هُو البَلاغ، فأَوجَبه، وترجمة البخاري: «بَابُ ذِكْرِ الله بِالْأَمْرِ، وَذِكْرِ الْعِبَادِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالرَّسَالَةِ وَالْبَلَاغِ» فهذا مِن البلاغ، العِباد يبلِّغون كلامَ الله، الرسلُ يبلِّغون كلامَ الله لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [الأحزاب: 8] المُبلِّغين المؤدِّين، والمبلِّغُ إنما يؤدي كلامَ غيرِه، فهُم يبلِّغون كلامَ الله، والكلامُ كلامُ الله والمبلِّغُ إنمَّا يبلِّغه بصَوْت نفسِه.
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الحجر: 9] الذِّكْرُ: كلام الله، وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ أي عِندَنا.
| المتن |
بَابُ قَوْلِهِ: وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الخَاسِرِينَ
77- وَقَالَ: بَابُ قَوْلِهِ: وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الخَاسِرِينَ [فصلت: 23] الآيَةَ.
وَرَوَى عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: اجْتَمَعَ عِنْدَ الْبَيْتِ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِيٌّ أَوْ قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِيٌّ كَثِيرَةٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ قَلِيلَةٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَوْنَ أَنَّ الله يَسْمَعُ مَا نَقُولُ؟ وَقَالَ الْآخَرُ: يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا وَلَا يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا، وَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا فَإِنَّهُ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا؛ فَأَنْزَلَ اللهُ -تَعَالَى-: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ الْآيَةَ([3]).
| الشرح |
بَابُ قَوْلِهِ -تَعَالَى-: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [فصلت: 22-23].
المقَصودُ من هذه التَّرجَمة إثباتُ أَفعالِ العِبادِ، وأنَّ أفعالَ العبادِ تُنسَب إليهم؛ لأنَّهم هُم الذين اكتسبوها وباشروها وإن كان الله -تعالى- خَلَقهم وخَلَق أعمالَهم كما قال الله -تعالى- في الآية الأخرى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 96].
وقوله: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ [فصلت: 22]، فأضاف العملَ إليهم؛ فدلَّ على أن الأعمال تُضافُ إلى العِباد؛ لأنَّهم كَسبُوها وباشروها؛ فهي من الله خَلقًا وإيجادًا وتقديرًا، ومِن العِباد فِعْلًا وكَسْبًا ومُباشَرة.
وفيه الردُّ على الجَبْرية الذين يقولون: العِباد غيرُ فاعلين، والأفعال أفعالُ الله، فالله هُو المصلي وهو الصَائم، وليس للعباد فِعلٌ، ولَيس لهم مُباشَرة وليس لهم اختيار بل أفعالهم اضطرارية؛ كحَركة المُرتَعِش وحركة الريشة في الهواء، وهذا مذهب باطل.
وهذا باطل؛ لأن الله -تعالى- أضاف الأفعالَ إليهم: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ[فصلت: 22].
ثم ذكر البخاري حديثَ عبدِ الله بن مسعود قال: «اجْتَمَعَ عِنْدَ الْبَيْتِ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِيٌّ أَوْ قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِيٌّ كَثِيرَةٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ قَلِيلَةٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ» أي أحد الثلاثة: «أَتَرَوْنَ أَنَّ الله يَسْمَعُ مَا نَقُولُ؟» الشاهد فيه قوله: «يَسْمَعُ مَا نَقُولُ»، فأضافَ القولَ إليهم، وفيه ردٌّ على الجبرية الذين يقولون: إن الأفعال أفعال الله.
«وَقَالَ الْآخَرُ: يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا وَلَا يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا»، الشَّاهدُ: «يَسْمَعُ إنْ جَهَرْنَا» أضاف الجهرَ والإخفاءَ إليهم. «وَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا فَإِنَّهُ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا»؛ فأنزل اللهُ هذه الآية: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ[فصلت: 22].
والشاهدُ: إِضافةُ الأفعال إلى العباد، وأن للعبادِ أفعالًا؛ لهم أفعال اختيارية يُثابُون عليها ويُعاقَبُون عليها، وإن كان اللهُ خلقها وأوجدها خلافًا للقَدَرية القائلين بأن أفعالَ العبادِ مَخلوقةٌ لهم، وخلافًا للجبرية الذين يقولون: إن العباد لا أفعال لهم وأنهم مجبورون.
| المتن |
78- وَقَالَ: بَابُ قَوْلِ الله: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: 29] مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ [الأنبياء: 2] وَقَوْلِهِ: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق: 1].
وَأَنَّ حَدَثَهُ لَا يُشْبِهُ حَدَثَ الْمَخْلُوقِينَ لِقَوْلِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11].
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ إِنَّ الله يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ. ([4]).
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ كُتُبِهِمْ وَعِنْدَكُمْ كِتَابُ الله أَقْرَبُ الْكُتُبِ عَهْدًا بِالله تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ؟!»([5]).
| الشرح |
هذه ترجمةٌ للبخاري يُبيِّن فيها إثباتَ الكلام لله وأنَّ الله يتكلَّم وأن أفرادَ الكلام حادثةٌ وإن كان نوع الكلام قديمًا، أي صفة الكلام قديمة، ولَكنَّ أفرادَه حادثةٌ، ولهذا قال: «يقول أهلُ السُّنة والجماعةِ: إن كلامَ الله وهُو صفةٌ مِن صفاته قَديمُ النوعِ حادِثُ الآحادِ».
نوعُ الكلام قديمٌ، فلم يَزل اللهُ متكلمًا في الأَزَل ويَتكلَّمُ متى شاء، إذا شاء، كيف شاء كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: 29] فيُعِزُّ ويُذِلُّ، ويُشقِي ويُسعِد، ويَأمُر ويَنْهَي، ويُغنِي ويُفقِر.
قال: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ [الأنبياء: 2]هذا هو كلامُ الله من ربِّهم مُحدَث، فوَصَفه بأنه مُحدَث؛ لأن الله تكلَّم به.
وقوله: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق: 1].
قال المؤلفُ -رحمه الله-: قال البخاري: «وَأَنَّ حَدَثَهُ لَا يُشْبِهُ حَدَثَ الْمَخْلُوقِينَ»، كلام الله أَفرادُه حادِثةٌ، ولكن لا يُشبِه حدثَ المخلوقين، ليس مثل كلام المخلوقين، كلام المخلوقين مُحدَث مخلوقٌ.
وأمَّا كَوْنُ كلامِ الله محدثًا فيعني أنه تكلَّم بِه، وإن كان نوعُه قديمًا، لكن الله يتكلَّم متَّى شاء يُكلِّم جبريلَ متى شَاء، ويُكلِّم المؤمنين يومَ القيامة، ويُكلِّم الأنبياءَ، ويُكلِّم موسى، ويَتكلَّم متى شاء إذا شاء كيف يشاء، وهذا الكلام الذي يتكلَّم به حادثٌ، لكن حدَثَه لا يُشبِه حَدثَ المخلوقين.
واستدل البخاري بقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11]، فصِفاتُه لا تُشبِه صِفات المخلوقين، يُوصف بالسمع والبصر والكلام والقُدرَة والعِلم والعُلو والاستواء والغَضَب والرِّضا والسُّخط والعَظَمة والكِبريَاء، وصِفاته لا تُشبِه صِفات المخلوقين .
كذلك كلامُ الله مُحدثٌ لكنه لا يُشبه حدَث المخلوقين لقول الله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11].
واستدل أيضا بحديث ابن مسعود قال ابنُ مسعود عن النبي ﷺ إِنَّ الله يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ. وهذا ذَكَره البخاري مُعلَّقًا ووَصَلَه أحمدُ وأبو داود والنَّسَائي. والحديثُ يُثبِت أن حدَثَ الله لا يُشبِه حدَث المخلوقين.
وعن ابنِ عَبَّاس: «كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ كُتُبِهِمْ وَعِنْدَكُمْ كِتَابُ الله أَقْرَبُ الْكُتُبِ عَهْدًا بِالله تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ؟!» محضًا: خالصًا، فالمَحضُ هو الخالِصُ.
والشاهدُ قوله: «وَعِنْدَكُمْ كِتَابُ الله أَقْرَبُ الْكُتُبِ عَهْدًا بِالله» لأنه آخرُ الكُتب تكلَّم اللهُ بِه وسمعه منه جِبرائيل فهو أقرب الكتب عهدًا بالله.
وهذا حَدَث ولكنَّه حَدثٌ لا يُشبِه حدَث المخلوقين، والله هو الذي يتكلَّم في الأَزَل متَّى يَشاءُ وكيفَ يشاء، فَأفرادُ الكلام حَادِثة ونوعُ الكلام قديمٌ، وحَدَثُ الله لا يُشبه حدثَ المخلوقين ولهذا قال: «أَقْرَبُ الْكُتُبِ عَهْدًا بِالله» القرآن لأنه آخر الكتب نزولاً. قوله: «تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ؟!» يعني: خالصًا صافيًا لم يُشَب، ليس فيه تحريفٌ ولا تبديلٌ.
| المتن |
بَابُ قَوْلِ الله -تَعَالَى-: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ وَفِعْلِ النَّبِيِّ ﷺ حَيْثُ يَنْـزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ
79- وَقَالَ: بَابُ قَوْلِ الله لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة: 16] وَفِعْلِ النَّبِيِّ ﷺ حَيْثُ يَنْـزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ اللهُ: أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي، وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ. ([6]).
قَالَ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة: 16] قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُعَالِجُ مِنَ التَّنْـزِيلِ شِدَّةً كَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَقَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكَ كَمَا كَانَ رَسُولُ الله ﷺ يُحَرِّكُهُمَا، فَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ -تَعَالَى-: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [القيامة: 16-17].
قَالَ: جَمْعَهُ فِي صَدْرِكَ ثُمَّ تَقْرَأُهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة: 18] قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ، قَالَ فَكَانَ رَسُولُ الله ﷺ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا أَقْرَأَهُ»([7]).
| الشرح |
هذه ترجمةُ البخاري قال: بَابُ قَوْلِهِ -تَعَالَى-: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة: 16] يُبيِّن أن للعبدِ أَفعالًا، وأنَّ العَبدَ حينما يَقرأ القرآنَ يقرأه بِفِعْله؛ بصوته وحَركةِ لِسانه، وهذا فِعلُ العبد، والمقروءُ هو كلام الله، وكما قال بعضُ السَّلَف: «القَولُ قَولُ البَاري، والقراءةُ قراءةُ القارئ» التِّلاوة تلاوة القارئ والقول قول الباري، الكلام كلام الله والعبد يقرأه بفعله.
ولهذا أراد المؤلفُ - رحمه الله - أن يُثبت وأن يضيف أفعالَ العباد إليهم، فأورد قولَه –تعالى-: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة: 16] هذا فِعلُ العَبدِ، ثم قال: «وَفِعْلِ النَّبِيِّ ﷺ حَيْثُ يَنْـزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ» فِعلُه يُعالِج شِدَّة، يُحرِّك شفتيه، لأنه يخاف أن يَنساهُ في الأول.
وقال أبو هريرة عن النبي ﷺ: قَالَ اللهُ: أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي، وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ. هذا حديثٌ قُدْسي أَنَا مَعَ عَبْدِي هذه مَعِيةٌ خاصةٌ مع عَبدي بالعَوْن والنَّصر والتأييد. مَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ.
والشاهدُ قولُه: تَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ فأضاف الفعل إلى العبد.
والمَعيَّةُ مَعيَّتان:
مَعِيَّةٌ عَامَّة مع الخَلْق كُلِّهم باطلاعه وإحاطته وعِلمه ونُفوذِ قُدرَتِه ومَشيئتِه.
ومعية خاصة ومع المؤمنين بعَونِه ونَصرِه وتأييدِه.
أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي أضاف الذِّكرَ إليه وَتَحرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ فأضاف الفعلَ إليه فدلَّ على أن العبادَ يفعلون أفعالهم باختيارهم.
ثُمَّ ذَكَر حديثَ مُوسى بن أبي عائشة عن سعيد بن جُبَير عنِ ابن عباس في قول الله -تعالى-: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة: 16] «قَالَ كَانَ النَّبِيُّ يُعَالِجُ مِنَ التَّنْـزِيلِ شِدَّةً وَكَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ» خوفًا مِن النسيان، أي إذا قَرأ جبريلُ كان النبي ﷺ يُعالِج شدةً، يُحرِّك شفتيه خَشْيَة أن يَنْساه، فالله -تعالى- حَفِظه له قال: «فَقَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكَ كَمَا كَانَ رَسُولُ الله ﷺ يُحَرِّكُهُمَا» يقول لسعيد بن جُبَير، «فَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ».
فالشاهدُ تحريكُ النَّبي ﷺ وتَحريكُ ابن عباسٍ فهذه أفعالهم، والمقروءُ كلامُ الله، فأَفعالُهم مُضافةٌ إليهم فأَنزلَ اللهُ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [القيامة: 16-17]. «قَالَ: جَمْعَهُ فِي صَدْرِكَ ثُمَّ تَقْرَأُهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة: 18] يعني: قَرأَه جِبريلُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة: 18] «قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ» فالله -تعالى- ضَمِن له ألَّا ينساه، فكان النبيُّ ﷺ إذا أَتاه جبريلُ بعد ذلك لا يُحرِّك لسانَه، فإذا انطلق جبريلُ قَرأ النبيُّ ﷺ كما أقرأَه؛ لأن الله ضَمِن له أن يَجمَعه في صدره.
| المتن |
بَابُ قَوْلِ الله -تَعَالَى-: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ [الملك: 13] إِلَى قَوْلِهِ: وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14].
80- وَقَالَ بَابُ قَوْلِهِ: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ [الملك: 13] إِلَى قَوْلِهِ: وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14].
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا [الإسراء: 110] قَالَ: نَزَلَتْ وَرَسُولُ الله ﷺ مُخْتَفٍ بِمَكَّةَ، فَكَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ، فَإِذَا سَمِعَهُ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ اللهُ لِنَبِيِّهِ: وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ أَيْ بِقَرَاءَتِكَ، فَيَسْمَعُ الْمُشْرِكُونَ فَيَسُبُّوا الْقُرْآنَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا عَنْ أَصْحَابِكَ فَلَا تُسْمِعُهُمْ وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا [الإسراء: 110] ([8]).
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا [الإسراء: 110] فِي الدُّعَاءِ([9]).
وَرَوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ قَالَ: وَزَادَ غَيْرُهُ: يَجْهَرُ بِهِ. ([10]).
| الشرح |
قَال البخاري: بَابُ قَوْلِهِ -تَعَالَى-: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 13-14].
قَصد البخاري -رحمه الله- بهذه الترجمة إضافة أفعالِ العباد إليهم في الإِسرار والجَهْر، هذه أفعال العبد؛ فعلُ العبد أنه يُسِرُّ بالقراءة، ويَجهَر بها، هذا فِعلُه. وفيه رَدٌّ على الجَبْرية القائلين بأن الأفعالَ أفعالُ الله وأن العبد لا فِعل له، فرد الله -تعالى- عليهم بأن أضاف الأفعال إليهم، فقال: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أنتم قولكم فأضاف إليهم الإسرار، أَوِ اجْهَرُوا بِهِ.
ثم ذَكَر حديثَ ابنِ عباسٍ في قوله -تعالى-: وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا [الإسراء: 110] هذه الآيةُ نزلت في الصلاة، وقيل: نزلت في الدعاء.
قال ابنُ عباسٍ: «نَزَلَتْ وَرَسُولُ الله ﷺ مُخْتَفٍ بِمَكَّةَ، فَكَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ» هذا قَبل الهِجرةِ وهو مختف «رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ، فَإِذَا سَمِعَهُ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ اللهُ لِنَبِيِّهِ: وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَأَيْ بِقَرَاءَتِكَ، فَيَسْمَعُ الْمُشْرِكُونَ فَيَسُبُّوا الْقُرْآنَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا عَنْ أَصْحَابِكَ فَلَا تُسْمِعُهُمْ وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أي أمرًا وسطًا.
والشَّاهدُ في إِضافَة الأفعال إلى العِباد وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ يعني بقِراءتِك، فأضافَ الصلاةَ إليه وَلَا تُخَافِتْ بِهَا فالجَهرُ والإخفاتُ من فِعلِ العبد.
وعن عَائشةَ أن هذه الآية: وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا [الإسراء: 110] نَزلتْ في الدعاء.
والدعاءُ فِعلُ العَبد، فَدلَّ على أن الأفعالَ مُضافةٌ إلى العِباد، ودَلَّ على بُطلان قول الجَبْرية الذين يقولون: إن الأفعال أفعال الله، وإن العبد لا فعل له.
ورُوِي عن أبي هُرَيْرة قال: قال رسولُ الله ﷺ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ يَتغنَّى أي يُحسِّن صَوتَه به. ثُم قَال: «وَزَادَ غَيْرُهُ: يَجْهَرُ بِهِ.
والشاهدُ: أنه أضاف أفعالَ العباد إليهم: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ فهذا فِعْل العبد، وقال: يَجْهَرُ بِهِ أضاف الجهر إلى العَبد، فَدلَّ على أن الأفعالَ أفعال العِباد؛ وذلك لأن الجَبْرية يَرون أن العبادَ لا فِعلَ لهم؛ كما أن القَدَريةَ يرون أن العباد خالقون لأفعالهم استقلالًا من دون الله وكلا المذهبين باطل.
والصوابُ ما عليه أهلُ السُّنة والجماعة وهو العمل بالنصوص من الجانبين؛ وهو أن العِباد لهم أفعال يُباشرونها ويَكسبُونها، وإن كان الله خَلَقَهم وخَلَق أفعالهم، كما قال اللهُ –تعالى-: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 96] فهي من الله خَلقًا وإيجادًا وتقديرًا ومِن العَبد فِعْلًا وكَسْبًا وتَسَبُّبًا ومُباشَرةً.
| المتن |
بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْقُرْآنَ.
81- وَقَالَ: بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْقُرْآنَ.
رَوَىَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: لَا تَحَاسُدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ مِنْ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَمَا أُوتِيَ هَذَا لَفَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ؛ فَيَقُولُ لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَمَا أُوتِيَ عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَمَا يَعْمَلُ. ([11]).
قَالَ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرُ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَذَكَرَهُ، وَقَالَ فِي هَذَا الْبَابِ الْبُخَارِيُّ: فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ قِيَامَهُ بِالْكِتَابِ هُوَ فِعْلُهُ.
وَقَالَ: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ [الروم: 22] وَقَالَ: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج: 77].
وَرُوِيَ أَيْضًا قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قَالَ: لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ. سَمِعْتُ سُفْيَانَ مِرَارًا لَمْ أَسْمَعْهُ يَذْكُرُ الْخَبَرَ وَهُوَ مِنْ صَحِيحِ حَدِيثِهِ؟([12])
| الشرح |
أراد البخاريُّ -رحمه الله- من هذه الترجمة أن يُبيِّن الأدلةَ التي تدلُّ على إضافة الأفعالِ إلى العِباد، وأن العبادَ لهم أفعال اختيارية يفعلونها تُضاف إليهم باختيارهم ويَكسبونها فيُثابُون على الطاعات ويُعاقَبون على المعاصي.
قال البخاري: بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْقُرْآنَ.
ثُم رَوَى حديثَ أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ لَا تَحَاسُدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ سبق أن ذكرنا أن معنى التحاسد هنا الغِبْطَة.
والحَسَد نوعان:
الأول: حَسدٌ مَذمومٌ، وهو أن يَتمنَّى الشخصُ أن تزولَ النِّعمة عن أخيه المسلم، وهذا حرامٌ، وهذا يَأكلُ الحسناتِ كما تأكلُ النَّارُ الحَطَبَ.
والثاني: حَسدُ غِبطةٍ وهو أن تتمنى أن يكون لكَ من النِّعمَة مِثلما لأخيك من غَير أن تنتقل عنه هذه النِّعمة، وهذا جائزٌ، وهو المقصود هنا.
لَا تَحَاسُدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ يعني في خَصلتَين: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ مِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَمَا أُوتِيَ هَذَا لَفَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ. والشاهدُ من الحديث أنه أضاف الأفعال إلى العبد في فَهُوَ يَتْلُوهُ هذا فِعلُ العبدِ.
والثاني: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ؛ فَيَقُولُ لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَمَا أُوتِيَ عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَمَا يَعْمَلُ فأضاف الفِعلَ إليه في فَهُوَ يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ هذا فِعل العبد فَيَقُولُ: لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَمَا أُوتِيَ عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَمَا يَعْمَلُ فأضافَ الأَعمالَ إلى العبد، فَدلَّ على أن العِبادَ لهم أفعال اختيارية يُثابُون عليها ويُعاقَبون.
وفي حديث أبي هريرة الذي بعده: قَالَ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَذَكَرَهُ. وَقَالَ فِي هَذَا الْبَابِ الْبُخَارِيُّ: فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ قِيَامَهُ بِالْكِتَابِ هُوَ فِعْلُهُ». رَجلٌ يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ما هو قيامه؟ قيامه فِعلُه.
ووَجْهُ الدلالة: أن البخاري قال إن النبي ﷺ بيَّن أن قيامَه بالكتاب هو فِعله، وفِعلُه يُضافُ إليه، يُثابُ عليه، فهو يَقوم بالكتاب أي يعمل به، يتلوه آناءَ الليل والنهار ويعمل به، هذا فِعلُه.
ثم استدل بالآية: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ [الروم: 22] أضاف القولَ اخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ فاختلاف الألسنةِ هو الكلام، أَلْسِنَتكم: لُغاتُكم، أضاف الألسنةَ إليهم، فدلَّ على أنَّ لهم أفعالًا مختلفة.
وقال: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج: 77] أضاف الفعلَ إليهم، قال: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ هذا الثواب يُثابُون به على أفعالهم. وفي هذا الردُّ على الجبرية الذين يقولون: العبد لا فعلَ له، وأنه مَجبورٌ.
كذلك حديث عدي بن عبد الله وابن المدِينِي قالا: أنبأنا سفيان هو الثَّوْري، قال الزُّهْرِي عن سَالمٍ عن أبيه عن النبيِّ ﷺ قال: لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ.
والشاهدُ يَقُومُ بِهِ فأضاف القيام إلى العبد، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ الشاهد أنه أضاف الإنفاق إليه.
ويقول عَليُّ بن المَدِيني: «سَمِعْتُ سُفْيَانَ مِرَارًا لَمْ أَسْمَعْهُ يَذْكُرُ الْخَبَرَ وَهُوَ مِنْ صَحِيحِ حَدِيثِهِ؟ يعني سفيان بن عيينة- فلم يره ولم يسمعه يذكر هذا الخبرَ، ومع ذلك فهذا الخبر من صحيح حديثه.
| المتن |
فَصْلٌ
مَسْأَلَةُ اللَّفْظِ وَيُقَرِّرُهُ الْقَائِلُ بِهَا بِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ فِعْلًا لَنَا وَكَسْبًا فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً بَعْدَ مُوجِدِهَا
82- وَهَذَا الْقَوْلُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَسْأَلَةِ الْكَدِرَةِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ اللَّفْظِ وَيُقَرِّرُهُ الْقَائِلُ بِهَا بِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ فِعْلًا لَنَا وَكَسْبًا فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً بَعْدَ مُوجِدِهَا؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْإِنْسَانِ لَا يَتَقَدَّمُهُ.
وَنَحْنُ نُجِيبُ عَلَى هَذَا بِأَنَّ كَسْبَنَا فِي ذَلِكَ قَصْدُنَا إِلَى تِلَاوَتِهِ، وَذَلِكَ لَا يَتَقَدَّمُنَا كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يُثَابُ بِقَصْدِهِ صَلَاةَ النَّافِلَةِ بِالطَّهَارَةِ وَيَأْثَمُ بِاعْتِقَادِهِ أَدَاءَهَا بِالْحَدَثِ مِنْ غَيْرِ طَهَارَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَذَلِكَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ: لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ فِيمَنْ نَوَى وَقَصَدَ أَنْ يَفْعَلَ مَا فَعَلَ غَيْرُهُ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْقِيَامِ بِهِ فِي آنَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
وَأَمَّا الْآيَةُ: فَيُقَدِّرُهَا الْقَائِلُ بِمَسْأَلَةِ اللَّفْظِ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ أَيْ: أَصْوَاتُكُمْ فَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ.
وَنُجِيبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ اللُّغَاتُ، وَالْقُرْآنُ لَيْسَ بِلُغَاتٍ بَلْ يَقْرَأُهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ بِلُغَةٍ وَاحِدَةٍ.
يَدَلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَلْوَانِكُمْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ اللُّغَاتُ.
| الشرح |
يقول المؤلفُ -رحمه الله- في هذا الفصل أن الكلامَ الذي سبق «رَاجِعٌ إِلَى الْمَسْأَلَةِ الْكَدِرَةِ»، ثُمَّ فَسَّرها فقال: «وَهِيَ مَسْأَلَةُ اللَّفْظِ» اللفظ بالقُرآن، هل لَفظُ القُرْآن مخلوقٌ أو غيرُ مخلوق؟
ثم يَقولُ: «وَيُقَرِّرُهُ الْقَائِلُ بِهَا» يعني بأن اللفظَ مخلوقٌ «بِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ فِعْلًا لَنَا وَكَسْبًا، فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً بَعْدَ مُوجِدِهَا، لِأَنَّ كَسْبَ الْإِنْسَانِ لَا يَتَقَدَّمُهُ».
وسبقت تراجمُ البخاري -رحمه الله- في تراجم مُتعدِّدة أنه يُبيِّن أن الفعلَ فِعلُ العبد، وأن القراءة حين يقرأ الإنسان القرآن، فإنما يقرأه بصوت نفسه وهذا فِعلُه وكَسْبه يُثابُ عليه، وأن المقروء هو كلام الله لا إشكال فيه. فقد مَيَّز البخاري وفَصَّل بين ما يقوم به العبدُ، وما يقوم به اللهُ، فالكلامُ كلام الله والقارئ قرأه بصوته بألفاظه.
يقول المؤلفُ ابنُ البنا في هذا الفصل هذا القول الذي سَبق مع أن التراجم واضحة كما رأيتم- يقول إنه «رِاجِعٌ إِلَى الْمَسْأَلَةِ الْكَدِرَةِ» وسمَّاها المسألةَ الكدرةَ للكلام الطويل فيها، «وَهِيَ مَسْأَلَةُ اللَّفْظِ، وَيُقَرِّرُهُ الْقَائِلُ بِهَا» أن أفعال العباد وقراءتهم تُنسب إليهم.
ثم يقول: «بِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ فِعْلًا لَنَا وَكَسْبًا فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً بَعْدَ مُوجِدِهَا» وهو الله –تعالى-؛ «لِأَنَّ كَسْبَ الْإِنْسَانِ لَا يَتَقَدَّمُهُ» يعني إذا قرأ الإنسانُ كلامَ الله فيكون حِينئذ أوجدَ الفِعلَ والكَسْبَ، لأنها لا بد أن تكون موجودةً بعد مُوجِدِها، اللهُ –تعالى- أوجدها بعد أن قَرَأها فتكون كَسْبًا للإنسان، قراءتُك كَسْبٌ لك، عَملٌ لك، فِعلٌ لك.
متى يُوجد كسبُ الإنسان، وكسب الإنسان لا يتقدمه؟ أجاب ابن البنا بجواب غريب فقال: «وَنَحْنُ نُجِيبُ عَلَى هَذَا بِأَنَّ كَسْبَنَا فِي ذَلِكَ قَصْدُنَا إِلَى تِلَاوَتِهِ، وَذَلِكَ لَا يَتَقَدَّمُنَا كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يُثَابُ بِقَصْدِهِ صَلَاةَ النَّافِلَةِ بِالطَّهَارَةِ وَيَأْثَمُ بِاعْتِقَادِهِ أَدَاءَهَا بِالْحَدَثِ مِنْ غَيْرِ طَهَارَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَذَلِكَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ: لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ فِيمَنْ نَوَى وَقَصَدَ أَنْ يَفْعَلَ مَا فَعَلَ غَيْرُهُ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْقِيَامِ بِهِ فِي آنَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ».
ابن البنا يُجيب على هذا الحديث: لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ ومعنى يَقومُ به آناءَ الليل: يَقرأُ ويَعملُ به، فإذا قَرأه وعَمِل به صار كَسْبَه، فمتى يكون كسبًا له وعملًا؟ إذا قرأه وعَمِل به، أليس هذا ظاهرَ اللفظ؟
ابنُ البنا يقول: لا، ليس هذا هو المعنى المُراد، ويقولُ المعنى المراد أنه قَصَد إلى تِلاوَته يعني يَتلُوه آناءَ الليل والنهار... قصد إلى تلاوته، وذلك لا يتقدم ما يتقدم له، قَصَد القَصْد يعني النِّيَّة قَصَد إلى تِلاوته، وذلك لا يتقدمنا كما أن الإنسان يُثابُ بِقَصْده صلاةَ النافلةِ بالطهارة ويأثم باعتقادِه أداءَها بالحَدَث مِن غير طهارة.
الإنسانُ يُثاب إذا قَصَد أن يُصلي النافلةَ بالطَّهارة، يُثابُ بِهذا القصدِ، ويأثم إذا اعتقد أنه يُؤدِّي الصلاةَ من غير حَدَثٍ وإن لم يفعل ذلك؛ فكذلك المرادُ بالحديث: لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ يقول: المرادُ فيمن نَوى أن يفعل فِعل الغَيْر، فيمن نوى أن يفعل ولم يفعل، فيمن نوى وقَصَد أن يفعل ما فعلَه غيرُه في القرآن من القيام به في آناء الليل وآناء النهار، وهذا الجواب بعيدٌ.
والأمر كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حيث قال: «وَمَا يَخْفَى عَلَى لَبِيبٍ الْفَرْقُ بَيْنَ التِّلَاوَةِ فِي نَفْسِهَا؛ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا الْخَلْقُ وَبَعْدَ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِهَا وَبَيْنَ مَا لِلْعَبْدِ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ مِنْ عَمَلٍ وَكَسْبٍ، وَإِنَّمَا غَلِطَ بَعْضُ الْمُوَافِقِينَ وَالْمُخَالِفِينَ فَجَعَلُوا الْبَابَيْنِ بَابًا وَاحِدًا وَأَرَادُوا أَنْ يَسْتَدِلُّوا عَلَى نَفْسِ حُدُوثِ حُرُوفِ الْقُرْآنِ بِمَا دَلَّ عَلَى حُدُوثِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَمَا تَوَلَّدَ عَنْهَا وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ الْغَلَطِ وَلَيْسَ فِي الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَلَا السَّمْعِيَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ نَفْسِ حُرُوفِ الْقُرْآنِ إلَّا مِنْ جِنْسِ مَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى حُدُوثِ مَعَانِيهِ»([13]).
إذن المَقصودُ أنَّ الله -تعالى- حينما تَكلَّم بالقُرآن، فهذا كلامه، لفظه ومعناه؛ فإذا قرأه القارئُ، فَيكون القَارئُ قَرأَ كلامَ الله؛ فقِراءتُه لكلام الله والعمل به هو فِعلُه.
ويقول ابن البنا: لا، المرادُ أن يُثاب على القَصْد، لا يثاب على الفِعل؛ لأنه حينما يقرأ كلامَ الله يقول: الآن هذا كلام الله لفظه ومعناه، لكن متى يُثاب عليه؟ يُثاب عليه بالقَصْد بالنِّيَّة، وهذا بَعيدٌ كما سَمعتم، حينما يَقرأ، هذا عَملُه.
ويُجيبُ ابنُ البنا عن قَولِه: وَأَمَّا الْآيَةُ: وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ فيَقُولُ: فَيُقرُّه القَائلُ وهي بصِيغَة اللَّفظ، والمُرادُ بقَولِه: وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ أي أَصواتُكم فهي مُختلِفَة.
ويَقولُ: إن الذي يَقول إن أَصواتَكم وألسنتكم مُختلفةٌ ليس بصحيح، بل الجوابُ أن المرادَ بِه اللغات، والقرآن ليس بلغات بل يَقرأُه الناس كلُّهم بلُغةٍ واحدةٍ، ويدل عليه قولُه –تعالى-: وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ فَدلَّ على أن المرادَ به اللغات، وهذا قولٌ غريبٌ.
وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ معروفٌ أن الألسنة تَختلف بالصوت، صَوتِ القارئ، أنت تقرأُ بصَوتٍ يختلف عن صوت غَيرِك، وصوت أئمة الحرم يختلف بعضهم عن بعض، فتقول: هذه قراءة فلان، هذه قراءة إمام الحرم، هذه قراءة الإمام الثاني فتختلف أصلًا، هذا الصوت رخيمٌ، وهذا الصوت غليظٌ وهذا الصوت حَسنٌ، وهذا الصوت أقل منه، إذن تضاف الأصوات إليهم.
فالقول بأن المرادَ باختلاف ألسنتكم وألوانكم اللغات، قَصَد ابنُ البنا من هذا ألَّا يُقال إن أفعالَ العِباد مُضافةٌ إليهم، وسينقل قولَ ابن أبي يعلى في ذلك.
| المتن |
وَلِشَيْخِنَا الْإِمَامِ أَبِي يَعْلَى جَوَابٌ آخَرُ قَالَ: لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْأَصْوَاتِ لَمْ يَضُرَّ؛ لِأَنَّنَا نَحْمِلُ الِاخْتِلَافَ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يُوجَدُ مِنَّا مَعَ الْقِرَاءَةِ، وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يَقَعُ بِهِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ قِرَاءَةِ الْقُرَّاءِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مِنْ صَفَاءِ الْحَنْجَرَةِ وَدِقَّةِ الصَّوْتِ وَغِلَظِهِ، وَهَذَا مَعْنًى زَائِدٌ عَنِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ وُجُودُ ذَلِكَ عِنْدَ قِرَاءَتِنَا، وَإِنْ كَانَ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ كَالْكَسْبِ، يُوجَدُ عِنْدَ خَلْقِ الله -تَعَالَى- لِأَفْعَالِنَا وَإِنْ كَانَ الْكَسْبُ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ.
وَلَا يَمْتَنِعُ أَيْضًا وُجُودُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَمَيَّزُ مِنَ الْقَدِيمِ كَمَا أَنَّ الْمَتْلُوَّ لَا يَتَمَيَّزُ مِنَ التِّلَاوَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَتْلُوُّ قَدِيمًا وَالتِّلَاوَةُ عِنْدَهُمْ مُحَدْثَةً، وَكَذَلِكَ يَحْصُلُ سَمَاعُ الْقَدِيمِ عِنْدَ وُجُودِ التِّلَاوَةِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَتَمَيَّزُ.
قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدَلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا؛ فقَالَ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللهِ وَيُوسُفُ بْنُ مُوسَى: «أَكْرَهُ قِرَاءَةَ الْأَلْحَانِ، وَلَا يُعْجِبُنِي قِرَاءَةُ الْأَلْحَانِ»([14]).
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكْرَهْ نَفْسَ الْقِرَاءَةِ وَإِنَّمَا كَرِهَ مَا يَحْصُلُ مِنَ الْقَارِئِ مِنَ الْأَصْوَاتِ الَّتِي هِيَ الْأَلْحَانُ، وَكَذَلِكَ كَرِهَ قِرَاءَةَ حَمْزَةَ ([15])، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكْرَهِ الْقُرْآنَ، وَإِنَّمَا كَرِهَ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ مِنَ الْإِمَالَاتِ وَغَيْرِهَا.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: أَكْرَهُ مِنْهَا الْإِدْغَامَ وَالْإِرْجَاعَ، مِثْلَ، خَابَ وَطَابَ وَحَاقَ.
ثُمَّ قَالَ شَيْخُنَا وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا تَأْبَى هَذِهِ الطَّرِيقَةَ وَتَقُولُ: جَمِيعُ الْأَصْوَاتِ مَعَ اخْتِلَافِهَا قَدِيمَةٌ، وَتُجِيبُ عَنِ السُّؤَالِ بِأَنَّهُ لَا تَمْتَنِعُ أَوْ تَخْتَلِفُ الْأَصْوَاتُ وَاللُّغَاتُ وَيَكُونُ قَدِيمًا؛ كَمَا أَنَّ الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِذَاتِ الْقَدِيمِ هُوَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَخَبَرٌ وَمَعَانِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ، وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ كَوْنِهِ قَدِيمًا.
| الشرح |
نقل المؤلفُ -رحمه الله- عن شيخه الإمام أبي يَعْلى في كتابه (إِبْطَال التأويلات)، وهو القاضي والشيخ والمؤلف أبو يعلى من عُلماء الحنابلة، وله كلام جَيد في مُوافَقَة أهلِ السُّنَّة، وله كلامٌ يُوافِق الأشاعرةَ، وهذا الذي أقرَّه يُوافق مذهب الأشاعرة أقرَّه ابنُ البَنَّا قال: «وَلِشَيْخِنَا الْإِمَامِ أَبِي يَعْلَى جَوَابٌ آخَرُ» يعني: في قَوله: وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وهل الأصواتُ تضاف إلى العبد وهي فِعْلُه؟
ابنُ البنا قرَّر غيرَ هذا، قرر أن المرادَ باختلاف أَلسنَتِكم أي أصواتكم، فهي مختلفة قال: «وَلِشَيْخِنَا الْإِمَامِ أَبِي يَعْلَى جَوَابٌ آخَرُ قَالَ: لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْأَصْوَاتِ لَمْ يَضُرَّ؛ لِأَنَّنَا نَحْمِلُ الِاخْتِلَافَ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يُوجَدُ مِنَّا مَعَ الْقِرَاءَةِ، وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يَقَعُ بِهِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ قِرَاءَةِ الْقُرَّاءِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مِنْ صَفَاءِ الْحَنْجَرَةِ وَدِقَّةِ الصَّوْتِ وَغِلَظِهِ، وَهَذَا مَعْنًى زَائِدٌ عَنِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ وُجُودُ ذَلِكَ عِنْدَ قِرَاءَتِنَا، وَإِنْ كَانَ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ كَالْكَسْبِ، يُوجَدُ عِنْدَ خَلْقِ الله -تَعَالَى- لِأَفْعَالِنَا، وَإِنْ كَانَ الْكَسْبُ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ» هذا مَذهبُ الأشاعرة.
قرَّر المؤلفُ مَذهبَ الأشاعرة، فهذا كَسْبُ الأشاعرة الذي لا يُعقَل.
ومن هنا يَقول العُلماءُ من المحالاتِ الثلاثِ كَسْبُ الأشعري. والأشاعرة جَبْرية فهم يَقولون: العبد لا فِعل له، الأفعالُ هي أفعالُ الله، ومع ذلك يكون للعبد كَسْبٌ، فكيف يقولون لا فِعلَ له وفي نَفس الوقت له كَسْب؟ فالكَسْب غيرُ معقول. قالوا كَسْبٌ يُوجَد بين قُدْرَتَين. والكسبُ يُوجَد عِند خَلْق الله -تعالى- الفِعلَ، وإن كان الكَسبُ لا يقوم بنفسه.
يقول: العَبدُ لا فِعلَ له، اللهُ هو الفاعل، والعَبدُ لا يَفعلُ، لكن له كَسبٌ، فكيف يكون له كَسبٌ وهو لا يَفعلُ؟ هذا غيرُ معقول. قالوا: يُوجد كسبٌ عِند خَلْق الله -تعالى- الفِعل، وإن كان الكسب لا يقوم بنفسه.
وهذا من أغلاطِ القاضي أبي يعلى، وتَبِعه ابنُ البنا -رحمه الله-، فظَنَّ أن هذا هو الحق.
يقول: «لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْأَصْوَاتِ لَمْ يَضُرَّ؛ لِأَنَّنَا نَحْمِلُ الِاخْتِلَافَ عَلَى الْمَعْنَى»؛ وذلك لأن الأشاعرةَ تقول: الكلامُ معنى قائم بالنفس، والمعاني هي التي تختلف، والمعاني أنواع: أَمْرٌ ونَهْي وخَبَر واستفهامٌ.
أما الكلامُ فهو واحدٌ؛ ولهذا يقول: «وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يَقَعُ بِهِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ قِرَاءَةِ الْقُرَّاءِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مِنْ صَفَاءِ الْحَنْجَرَةِ وَدِقَّةِ الصَّوْتِ وَغِلَظِهِ. وَهَذَا مَعْنًى زَائِدٌ عَنِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ وُجُودُ ذَلِكَ عِنْدَ قِرَاءَتِنَا، وَإِنْ كَانَ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ كَالْكَسْبِ». ويُوجَد هذا الكَسبُ عند الأشاعرة عند خَلْق الله أفعالَ العِباد، «وَإِنْ كَانَ الْكَسْبُ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ».
ثم يقول: العَبدُ لا فِعلَ له، والفَاعلُ هو الله لكن يكون الكَسبُ عند خَلقِ الله فِعلَ العبد. ولكن كيف يوجد الكسب؟ هكذا هو كَسبُ الأشعري غيرُ معقول، فثلاثةٌ من المحالات: طَفرةُ النَّظَّامِ وأحوالُ أبي هاشمٍ وكَسْبُ الأشعري.
طَفرةُ النَّظَّام: كأن يقال إن النَّمْلة انتقلت من مَكانٍ إلى مكان من غير أن تتحرك. وكسبُ الأشعري أن يقول: العبدُ مجبورٌ لا فِعلَ له، ومع ذلك يُوجد له كَسْبٌ عند خَلْق الله الأفعال، فكيف يُوجد ولا فعلَ له؟ هذا من الأشياء الغيرِ معقولة.
وقال: «وَلَا يَمْتَنِعُ أَيْضًا وُجُودُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَمَيَّزُ مِنَ الْقَدِيمِ»، القديمُ كلامُ الله. «كَمَا أَنَّ الْمَتْلُوَّ لَا يَتَمَيَّزُ مِنَ التِّلَاوَةِ»، المتلوُّ كلامُ الله والتِّلاوةُ فِعلُ العَبْد. يقول: ما يَتميزُ المتلوُّ مِن التِّلاوَة وإن كان المتلوُّ قديمًا كلام الله، والتلاوةُ عِندَهم محدثةٌ، وكذلك يَحصلُ سَمَاعُ القَديمِ عِندَ وُجود التِّلاوة؛ سماع القديم كلامُ الله عند وجود التلاوة من القارئ، وإن كان لا يتميز ذلك.
هذا قولُ الأشاعرة، ثم ذَكَر المؤلفُ أن الإمام أحمد قال: «أَكْرَهُ قِرَاءَةَ الْأَلْحَانِ، وَلَا يُعْجِبُنِي قِرَاءَةُ الْأَلْحَانِ».
قال ابنُ قُدامَة في المُغني بعد أن ذَكَر كَرَاهَة الإمام أحمد القِراءةَ بالأَلحان وأنها بِدعَة، قال: «وكلامُ أحمد في هذا مَحمُولٌ على الإِفراطِ في ذَلِك بحَيْث يَجعلُ الحركات حُرُوفًا ويَمُدُّ في غَيْر مَوْضِعه»([16]). وذلك مثل: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة: 7] يَمُدُّ الميمَ حتى تَصيرَ واوًا فهذا يكرهُه الإمامُ أحمد، وأمَّا تحسينُ القراءةِ والترجيعِ فغَير مَكروهٍ.
قال: «وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكْرَهْ نَفْسَ الْقِرَاءَةِ وَإِنَّمَا كَرِهَ مَا يَحْصُلُ مِنَ الْقَارِئِ مِنَ الْأَصْوَاتِ الَّتِي هِيَ الْأَلْحَانُ، وَكَذَلِكَ كَرِهَ قِرَاءَةَ حَمْزَةَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكْرَهِ الْقُرْآنَ، وَإِنَّمَا كَرِهَ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ مِنَ الْإِمَالَاتِ وَغَيْرِهَا» حمزة معروف بين القُرَّاء، وكان الإمام أحمد يكره قراءة حمزة والإدغامَ الكبير لأبي عمر، ومعلوم أنه لا يَكرهُ القرآنَ، وإنما كَرِه ما يَحصلُ من الإمالاتِ.
«وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: أَكْرَهُ مِنْهَا الْإِدْغَامَ وَالْإِرْجَاعَ، مِثْلَ، خَابَ وَطَابَ وَحَاقَ، ثُمَّ قَالَ شَيْخُنَا وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا تَأْبَى هَذِهِ الطَّرِيقَةَ وَتَقُولُ: جَمِيعُ الْأَصْوَاتِ مَعَ اخْتِلَافِهَا قَدِيمَةٌ» هذا أيضًا مذهب الأشاعرة، يقول الأصوات بعضُها قديمة.
والآن حينما تقرأ كلام الله فصوتك هذا قديم، لم يُميِّزوا بين كلام الله المتلوِّ وصَوتِ العبد، يقولون: الأصواتُ قديمةٌ، جميع الأصوات مع اختلافها قديمة.
ثم يقول «وَتُجِيبُ عَنِ السُّؤَالِ بِأَنَّهُ لَا تَمْتَنِعُ أَوْ تَخْتَلِفُ الْأَصْوَاتُ وَاللُّغَاتُ وَيَكُونُ قَدِيمًا؛ كَمَا أَنَّ الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِذَاتِ الْقَدِيمِ هُوَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَخَبَرٌ وَمَعَانِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ، وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ كَوْنِهِ قَدِيمًا».
هذا تقريرٌ لمذهب الأشاعرة، فالأشاعرة يقولون: مَعنًى ما هو حرفٌ ولا صوتٌ، ولكنَّه معنًى قديمٌ بنَفْس الربِّ، وهو أنواع: أمرٌ ونَهيٌ وخَبرٌ واستفهامٌ والمعاني مختلفةٌ ولم يمنع ذلك من كونه قديمًا. هذا تَقريرٌ لمذَهْب الأشاعرةِ.
والصوابُ أن المتلوَّ هو كلام الله، والتلاوةَ هي فِعلُ العَبد صوتُه، والتلاوة هي فعله، فالمتلو هو كلام الباري، والتلاوة فعل العبد.
| المتن |
بَابُ قَوْلِ الله -تَعَالَى-: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
83- ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: بَابُ قَوْلِ الله –تَعَالَى-: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة: 67] الْآيَةَ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: مِنَ الله الرِّسَالَةُ، وَعَلَى رَسُولِهِ الْبَلَاغُ، وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ.
وَقَالَ: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ [الجن: 28] لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي [الأعراف: 93].
وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ حِينَ تَخَلَّفَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ [التوبة: 94].
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: «إِذَا أَعْجَبَكَ حُسْنُ عَمَلِ امْرِئٍ فَقُلْ: فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة: 105] وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ أَحَدٌ».
قَالَ مَعْمَرٌ: ذَلِكَ الْكِتَابُ [البقرة: 2] هَذَا الْقُرْآنُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] بَيَانٌ وَدَلَالَةٌ، كَقَوْلِهِ: ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ [الممتحنة: 10] هَذَا حُكْمُ الله، لَا رَيْبَ فِيهِ لَا شَكَّ فِيهِ. تِلْكَ آيَاتُ يَعْنِي: هَذِهِ أَعْلَامُ الْقُرْآنِ.
وَمِثْلُهُ: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يونس: 22] يَعْنِي: بِكُمْ([17]).
وَرَوَى عَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ قَالَ الْمُغِيرَةُ: «أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا ﷺ عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ»([18]).
وَرَوَى عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَتَمَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ فَلَا تُصَدِّقْهُ، إِنَّ اللهَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة: 67] الْآيَةَ([19]).
| الشرح |
يُبيِّن البخاريُّ في هذه الترجمة الفرقَ بين كلامِ الله، وأنَّه كلامُ الله المتلوُّ، والفرقَ بَين أفعالِ العبادِ وكَلامِهم، قال: «ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: بَابُ قَوْلِهِ -تَعَالَى-: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة: 67] الشَّاهدُ قوله بَلِّغْ والتبليغُ هو تبليغُه بِفِعل نَفْسِه بقوله، فهو يُبلِّغ كلامَ الله، كلامُ الله هو المقروء يَقرأُه الرسولُ ويُبلِّغه بكلام نَفْسِه.
فالمُبلِّغُ غيرُ المُبلَّغ، فالمُبلَّغ كلامُ الله والمُبلِّغ هو الرسولُ بَلَّغه بفِعْل نَفْسه؛ فدَلَّ عَلَى أن الأَفْعالَ تُضافُ إلى العِباد، فالْعِبادُ حِينما يَقرءُون القُرآنَ، فهذه أصواتُهم، وهذه قَراءتُهم، وهذه أفعالُهم وأكسابُهم، والمقصودُ كلامُ الله.
ولذا قال الزُّهرِي: «مِنَ الله الرِّسَالَةِ وَعَلَى رَسُولِهِ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ» الشاهدُ «وَعَلَى الرَّسُولِ الْبَلَاغُ» بأَيِّ شَيءٍ يُبلِّغ الرسولُ؟ يُبلِّغ بصَوتِ نَفْسِه بكلام نَفْسِه، يُبلِّغ بكلام الله.
وقال: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ [الجن: 28] الرُّسلُ أبلغوا رسالاتِ ربِّهم بكلام أنفسهم وقال: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي [الأعراف: 93] وقال وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ [التوبة: 94].
وقال: كَعبُ بْنُ مالكٍ حِينَ تَخلَّف عَن النبيِّ ﷺ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ الشاهدُ: أنه أضاف العملَ إليهم، ومِن العملِ القِراءةُ والتعبُّدُ.
ذَلِكَ الْكِتَابُ [البقرة:1] هذا القرآن، هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] حينما يقرؤونه ويعملون به ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ [الممتحنة: 10] لَا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 2] تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ [البقرة: 252] رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ [الكهف: 21] حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يونس: 22] يعني بكم وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة: 23] كلُّ هذا أضاف الأفعال إليهم.
ورَوَى عن جُبَيْر بْن حَيَّة قَال المغيرةُ: أخبرنا نَبيُّنا عن رسالةِ ربنا، الكلامُ كلامُ الله أنَّه مَن قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ.
ورُوِيَ عَن عَائشةَ قالت: مَن حدَّثَك أن النبيَّ ﷺ كَتَمَ مِنَ الوَحْيِ شيئًا فَلَا تُصَدِّقْهُ إِنَّ الله يقول: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة: 67] الشاهدُ بَلِّغ، والبَلاغُ فِعلُ النَّبيِّ ﷺ.
| المتن |
بَابُ: قَوْلِ الله –تَعَالَى- قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
84- وَقَالَ: بَابُ: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران: 93] وَقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: أُعْطِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا بِهَا، وَأُعْطِيَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ الْإِنْجِيلَ فَعَمِلُوا بِهَا، وَأُعْطِيتُمُ الْقُرْآنَ فَعَمِلْتُمْ بِهِ.
وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ: يَتْلُونَهُ: يَتَّبِعُونَهُ وَيَعْمَلُونَ بِهِ حَقَّ عَمَلِهِ. يُقَالَ: يُتْلَى يُقْرَأُ، حُسْنُ التِّلَاوَةِ: حُسْنُ الْقِرَاءَةِ لِلْقُرْآنِ، لَا يَمَسُّهُ لَا يَجِدُ طَعْمَهُ وَنَفْعَهُ إِلَّا مَنْ آمَنَ بِالْقُرْآنِ، وَلَا يَحْمِلُهُ بِحَقِّهِ إِلَّا الْمُؤْمِنُ؛ لِقَوْلِهِ: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة: 5] الْآيَةَ.
وَسَمَّى النَّبِيُّ ﷺ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ عَمَلًا، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِبِلَالٍ: أَخْبِرْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الْإِسْلَامِ، قَالَ: «مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ إِلَّا صَلَّيْتُ».
وَسُئِلَ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِيمَانٌ بِالله وَرَسُولِهِ، ثُمَّ الْجِهَادُ، ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ. ([20]).
وَرَوَى حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ قَالَ: إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَنْ سَلَفَ مِنَ الْأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، أُوتِيَ أَهْلُ الْكِتَابِ التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا بِهَا... إِلَى آخِرِهِ([21]).
| الشرح |
يريدُ المؤلفُ في هذا الباب أيضًا أن يُبيِّن أن أفعالَ العِباد مضافةٌ إليهم، قِراءتُهم وتِلاوتُهم وأعمالُهم وصلاتُهم وصيامُهم مضافة إليهم؛ أفعالهم فعلوها مختارين وكَسَبوها مختارين؛ فيُثابون عليها ويعاقَبون عليها ومن ذلك القراءة؛ قراءة القرآن والعمل به.
قال البخاري: بَابُ: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران: 93] الشاهدُ: قَولُه فَاتْلُوهَا التِّلاوةُ مضافةٌ إليهم.
وقال النبيُّ ﷺ أُعْطِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا بِهَا الشاهدُ: أنه أضافَ العَملَ إليهم وَأُعْطِيَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ الْإِنْجِيلَ فَعَمِلُوا بِهَا، وَأُعْطِيتُمُ الْقُرْآنَ فَعَمِلْتُمْ بِهِ أيضًا أضاف العمل إليهم.
وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ: يَتْلُونَهُ: يَتَّبِعُونَهُ وَيَعْمَلُونَ بِهِ حَقَّ عَمَلِهِ، الشاهد: أضافَ العَمَل إليهم يَتلونَه، يَتَّبعونَه، ويَعملون به"؛ هذه أعمالهم مضافةٌ إليهم يُثابُون عليها ويعاقبون عليها.
واستوحش ابن البنا -رحمه الله- إضافة العمل إلى العبد، فهو يَميل إلى مذهب الأشاعرة، فقال: «يُقَالَ: يُتْلَى يُقْرَأُ، حُسْنُ التِّلَاوَةِ: حُسْنُ الْقِرَاءَةِ لِلْقُرْآنِ، لَا يَمَسُّهُ لَا يَجِدُ طَعْمَهُ وَنَفْعَهُ إِلَّا مَنْ آمَنَ بِالْقُرْآنِ، وَلَا يَحْمِلُهُ بِحَقِّهِ إِلَّا الْمُؤْمِنُ؛ لِقَوْلِهِ: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة: 5] الْآيَةَ. فعملًا هؤلاء لم يحملوها.
وَسَمَّى النَّبِيُّ ﷺ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ عَمَلًا، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِبِلَالٍ: أَخْبِرْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الْإِسْلَامِ أضاف العمل إلى بلال، قَالَ: «مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ إِلَّا صَلَّيْتُ» «عِنْدِي» فأضاف العمل إلى نفسه.
سُئِل أيُّ العمل أفضل؟ فقال: الإِيمانُ بالله أضافَ العملَ إليه إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَنْ سَلَفَ مِنَ الْأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، أُوتِيَ أَهْلُ الْكِتَابِ التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا بِهَا... الشاهد: أنه أضافَ العملَ إليهم.
كلُّ هذه الأدلة يُبين فيها أن العبادَ لهم أفعالٌ، قراءتهم وتلاوتهم وصلاتهم وصيامهم، كلُّ هذه أفعالهم يعاقبون عليها ويثابون عليها خلافًا للجبرية كالأشاعرة وغيرهم الذين يقولون: إن الأفعالَ أفعالُ الله، وأن العبد لا فعل له. هذا باطل.
والجَبريةُ الجَهمِية والأشاعرة، كلُّهم جبرية، لكنَّ الجبريةَ الجهميةَ أشدُّ جَبْرية خالصة بَحتة، والأشاعرةُ جَبريةٌ، لكن يُثبتون كَسْبًا، فصاروا أخف، والكسبُ غيرُ معقولٍ كما سمعتم.
| المتن |
بَابٌ وَسَمَّى النَّبِيُّ ﷺ الصَّلَاةَ عَمَلًا
85- وَقَالَ: بَابٌ وَسَمَّى النَّبِيُّ ﷺ الصَّلَاةَ عَمَلًا، وَقَالَ: لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ.
وَرَوَى حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ، ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله. ([22]).
| الشرح |
ترجمة البخاريُ: «بَابٌ وَسَمَّى النَّبِيُّ ﷺ الصَّلَاةَ عَمَلًا»، والعَملُ مضافٌ إلى العبد وَقَالَ: لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. قراءتُه عَمَلُه، وحديث «أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ، ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله. في كلِّ ذلك أضاف الأفعالَ إليه، فدَلَّ على أنَّ للعبدِ فعلًا، خِلافًا للجَبْرية من الأشاعرة والجهمية الذين يقولون: العبدُ لا فعل له.
| المتن |
بَابُ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا... الْآيَةَ
86- وَقَالَ: بَابُ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا... [المعارج: 19] الْآيَةَ.
وَرَوَى عَنْ عَمْرِو بْنِ تَغْلِبَ، قَالَ أَتَى النَّبِيَّ ﷺ مَالٌ فَأَعْطَى قَوْمًا وَمَنَعَ آخَرِينَ، فَبَلَغَنِي أَنَّهُمْ عَتَبُوا، فَقَالَ: إِنِّي أُعْطِي الرَّجُلَ وَأَدَعُ الرَّجُلَ، وَالَّذِي أَدَعُ أَحَبُّ إِليَّ مِنَ الَّذِي أُعْطِي، أُعْطِي أَقْوَامًا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْجَذَعِ وَالْهَلَعِ، وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْغِنَى وَالْخَيْرِ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ، فَقَالَ عَمْرٌو: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُولِ الله ﷺ حُمُرَ النَّعَمِ»([23]).
| الشرح |
ترجمة البخاري: بِابُ: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [المعارج: 19-21] هذه أفعاله؛ هَلوعًا جَزُوعًا مَنُوعًا، كلُّها أفعاله.
كذلك حديثُ عَمْرِو بْنِ تَغْلِب «أَتَى النَّبِيَّ ﷺ مَالٌ فَأَعْطَى قَوْمًا وَمَنَعَ آخَرِينَ» هذا فِعلُ النبيِّ ﷺ أنه أَعطَى ومَنَع «فَبَلَغَنِي أَنَّهُمْ عَتَبُوا» هذا فِعلُهم، فَقَالَ ﷺ: إِنِّي أُعْطِي الرَّجُلَ وَأَدَعُ الرَّجُلَ، وَالَّذِي أَدَعُ أَحَبُّ إِليَّ مِنَ الَّذِي أُعْطِي، أُعْطِي أَقْوَامًا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْجَذَعِ وَالْهَلَعِ، وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْغِنَى وَالْخَيْرِ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ، هذه أفعال النبي ﷺ.
«فَقَالَ عَمْرٌو: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُولِ الله ﷺ حُمُرَ النَّعَمِ» أي بَدَلًا من كَلمةِ الرسولِ حُمَر النِّعَم، يعني الإبل الحُمْر، وهي من أَنْفس أموالِ العَرَب، والمعنى ما أُحبُّ لي أن بَدَلها الدُّنْيا كلُّها لكن هذا مثال.
| المتن |
بَابُ ذِكْرِ النَّبِيِّ ﷺ وَرِوَايَتِهِ عَنْ رَبِّهِ
87- وَقَالَ: بَابُ ذِكْرِ النَّبِيِّ ﷺ وَرِوَايَتِهِ عَنْ رَبِّهِ.
رَوَى عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ قَالَ: إَذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِذَا أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً. ([24]).
| الشرح |
هذا البابُ في ذكر النبيِّ ﷺ ورِوَايتِه عن ربِّه حينما يروي عن ربِّه، وهو يُسمَّى الحديثَ القُدْسِي، والحديثُ عن ربِّه هذا يكون من كلام الله لفظًا ومَعنًى، مثل القرآن إلا أن له أحكامًا مختلفةً؛ فالحديثُ القُدسِي لا يُتعبَد بتِلاوَته، أما القرآنُ فيُتعبَّد بِتلاوته، الحَديثُ القُدْسِي ليس بمُعجزٍ والقرآنُ مُعجزٌ، ولكنَّه مِثلُ القرآنِ لفظًا ومعنًى؛ لأن النبيَّ ﷺ أضافَه إلى الله، فيما رواه.
قال: إَذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِذَا أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً. هذه الأفعالُ تَليقُ بالله، وهذا الصفاتُ أيضًا تَليق بالله، فمِن ثَمراتِ هذه الصفاتِ أن الله أسرعُ بالخَيْر من العَبد، وأن الله لا يَقطع الثَّوابَ من العَبْد حتى يقطع العَبدُ العَملَ.
وقد فَسَّر النووي والجماعة هذا بأن قالوا معنى الصفة في: إِذَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي أن اللهُ أسرعُ بالخَير من العَبْد، وإنما هذه من ثَمراتِ الصِّفاتِ .
والشَّاهدُ قولُه: إِذَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي أضافَ الفِعل إِلى العبد، تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا، أَتَانِي يَمْشِي؛ هذه أفعالُ العبد مضافةٌ إليه.
| المتن |
بَابُ مَا يَجُوزُ مِنْ تَفْسِيرِ التَّوْرَاةِ وَكُتُبِ الله بِالْعَرَبِيَّةِ وَغَيْرِهَا([25])
88- وَقَالَ: بَابُ مَا يَجُوزُ مِنْ تَفْسِيرِ التَّوْرَاةِ وَكُتُبِ الله بِالْعَرَبِيَّةِ وَغَيْرِهَا؛ لِقَوْلِ الله قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل: عمران: 93].
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ دَعَا تَرْجُمَانَهُ ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ النَّبِيِّ ﷺ فَقَرَأَهُ: بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران: 64] ([26]).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ ...الْآيَةَ([27]).
| الشرح |
هذه الترجمة أيضا للبُخاري قال: «بَابُ مَا يَجُوزُ مِنْ تَفْسِيرِ التَّوْرَاةِ وَكُتُبِ الله بِالْعَرَبِيَّةِ وَغَيْرِهَا»، فتفسيرُ التَّوراةِ عَملٌ، هذه أفعال الناس يفسرونها ويكتبونها فهي مُضافَة إليهم، فلهم أفعالٌ، يقول –تعالى-: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فأضاف التلاوةَ إليهم.
وحديثُ ابنِ عباس في قِصَّة هِرَقل أنه دَعَا بكِتَابِ رسول الله فقرأه، وقوله: «بِكِتَابِ النَّبِيِّ» أضاف الكتابَ إلى النبي ﷺ، فقرأ: بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ كلُّ هذهِ كتابةُ الرَّسولِ ﷺ وأفعاله: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ.
ثم ذَكَر حديثَ أبي هريرة: «كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ» هذا عملهم، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ فالشَّاهدُ أنَّه أضافَ الأفعالَ إليهمُ، فدلَّ على أن للعِباد أفعالًا، وليسوا مجبورين كما تقول الجبرية من الأشاعرة والجهمية.
| المتن |
بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ
89- وَقَالَ: بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَزَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ.
وَرَوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: مَا أَذِنَ اللهُ بِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ. ([28]).
وَرَوَى حَدِيثَ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ الله ﷺ يَوْمَ الْفَتْحِ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ، يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ أَوْ مِنْ سُورَةِ الْفَتْحِ قَالَ: فَرَجَّعَ فِيهَا قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ يَحْكِي قِرَاءَةَ ابْنِ الْمُغَفَّلِ، وَقَالَ: لَوْلَا أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيْكُمْ لَرَجَّعْتُ كَمَا رَجَّعَ ابْنُ مُغَفَّلٍ يَحْكِي النَّبِيَّ ﷺ فَقُلْتُ لِمُعَاوِيَةَ: كَيْفَ كَانَ تَرْجِيعُهُ؟ قَالَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ آآآ»([29]).
| الشرح |
هذا الباب كالأبواب السابقة في إضافة أفعالِ العبادِ إليهم قال النبيُّ ﷺ: الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، الماهرُ بالقُرآن: الذي يَقرأُه ويُحسِن قراءَته، إذن هذا عَملُه.
وقال ﷺ: وَزَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ أضاف الأصوات إليهم وهو عَملُهم؛ فدلَّ على أن العبادَ لهم أفعالٌ.
وذَكَر حديثَ أبي هريرة: مَا أَذِنَ اللهُ بِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ ما أَذِن: يعني ما استمَع، وهذه من الصفات التي تَليق بالله، مَا أَذِنَ اللهُ بِشَيْءٍ أي مَا استمعَ لنَبيٍّ حَسَن الصوتِ بالقُرآن يَجهَر به، وهذا عَملُه، فدلَّ على أن للعبدِ فِعلًا.
ثم ذَكَر حديثَ عبد الله بن المُغفَّل في تَرجِيع النبيِّ ﷺ قال: «قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ الله ﷺ يَوْمَ الْفَتْحِ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ، يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ أَوْ مِنْ سُورَةِ الْفَتْحِ قَالَ: فَرَجَّعَ فِيهَا» الترجيع هذا عَملُه، «ثُمَّ قَرَأَ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ يَحْكِي قِرَاءَةَ ابْنِ الْمُغَفَّلِ، وَقَالَ: لَوْلَا أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيْكُمْ لَرَجَّعْتُ كَمَا رَجَّعَ ابْنُ مُغَفَّلٍ يَحْكِي النَّبِيَّ ﷺ»، هذا في تَرجيع النبي ﷺ، وترجيع ابن المُغفَّل، وترجيع مُعاوية، هذه أفعالهم مضافة إليهم.
ومعنى الترجيعِ تَرْدادُ الحَرف، ترداد الحرف للتَّخشُّع فيقول مثل: وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء: 17] آآآ. هذا التَّرجيعُ كما قال: ثَلاثَ مرَّاتٍ آآآ، وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء: 17]
| المتن |
بَابُ قَوْلِهِ: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ
90- وَقَالَ: بَابُ قَوْلِهِ: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل: 20] وَرَوَى حَدِيثَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ... الْخَبَر. ([30])
| الشرح |
قوله -تعالى-: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ هذا عملٌ مضاف إلى العِباد. رَوَى حَديثَ عمر بنِ الخَطَّاب أنه سَمِع هشامَ بنَ حكيم يقرأُ سُورة الفُرقانِ، فهذا عَملُه، فدلَّ على أن العِبادَ لهم أفعالٌ.
| المتن |
بَابُ قَوْلِ الله –تَعَالَى-: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ
91- وَقَالَ: بَابُ قَوْلِ الله –تَعَالَى-: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [القمر: 17] وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ قَالَ: مُيَسَّرٌ: مُهَيَّأٌ([31]).
وَرَوَى حَدِيثَ عِمْرَانَ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ الله: فَفِيمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ قَالَ: كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ.([32])
وَحَدِيثَ عَلِيٍّ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فِي جَنَازَةٍ... الْخَبَرَ([33]).
| الشرح |
هذا البابُ أيضًا كسابقه في إضافة أفعالِ العِبادِ إليهم، قال: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [القمر: 17] يعني: للقِراءة وهي أفعال العباد.
وقال النبي ﷺ كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ يعني من العَمَل «مُيسَّرٌ مُهَيَّأٌ» العَملُ مضاف إلى العَبد ويعمل باختياره.
في حديث عِمران: «فَفِيمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ قَالَ: كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ فيما يعمل العاملون أضاف العمل إليهم.
وحَديثُ عَلِيٍّ في بَقِيع الغَرْقَد في الجَنَازة أنَّه قال: اسْتَعِيذُوا بِالله مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وقال: إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ ثُم ذَكَر قِصةَ قَبْض روح المؤمن وقبض روح الفاجر، وأضافَ الأفعالَ إليهم، وأنهم يُثابُون على أَعمالهم، وأنَّ المؤمنَ يُجيب: اللهُ رَبِّي، وَالْإِسْلَامُ دِينِي، وَمُحَمَّدٌ نَبِيِّي، بينما لا يستطيع الفاجرُ أن يجيب، والمؤمنُ يُثابُ، يُرفَع عَملُه ويَصعَد إلى السماء، والفَاجرُ تُغلَق أبوابُ السماء دُونَه، ثم يُفتَح للمُؤمِن باب إلى الجنة، ويأتي من رُوحِها وطيفها. والفاجرُ يُفتح له بابٌ إلى النَّار فيأتي من حَرِّها وسَمُومِها، فكُلُّهم أثابَهم اللهُ على أعمالهم التي عَمِلوها مُختارِين.
| المتن |
بَابُ قَوْلِ الله بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ
92- وَقَالَ: بَابُ قَوْلِ الله بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج -21-22] وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:1-2] قَالَ قَتَادَةُ: مَكْتُوبٌ، يَسْطُرُونَ [القلم: 1] يَخُطُّونَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ[الزخرف: 4] جُمْلَةُ الْكِتَابِ وَأَصْلُهُ، مَا يَلْفِظُ [ق: 18] مَا يَتَكَلَّمُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا كُتِبَ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَكْتُبُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ.
يُحَرِّفُونَ [النساء: 46] يُزِيلُونَ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُزِيلُ لَفْظَ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ الله، وَلَكِنَّهُمْ يُحَرِّفُونَهُ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ دِرَاسَتِهِمْ [الأنعام: 156]، تِلَاوَتُهُمْ وَاعِيَةٌ [الحاقة: 12] حَافِظَةٌ، وَتَعِيَهَا[الحاقة: 12] تَحْفَظُهَا وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ[الأنعام: 19] يَعْنِي: أَهْلَ مَكَّةَ، وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19] هَذَا الْقِرْآنَ فَهُوَ لَهُ نَذِيرٌ. ([34])
وَرَوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: لَمَّا قَضَى اللهُ الْخَلْقَ كَتَبَ كِتَابًا عِنْدَهُ: غَلَبَتْ أَوْ قَالَ: سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ. ([35]).
| الشرح |
هذا البابُ أيضًا كالأبواب السابقة يُبيِّن فيه المؤلفُ -رحمه الله- الفرقَ بين كلام الله الذي هو صِفةٌ من صِفاتِه وفِعْل العبد وتِلاوتِه وقِراءته، فهو عَملُه مضافٌ إليه.
قال: بَابُ قَوْلِ الله بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج21-22]، قال وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور: 1-2] يعني: مَكتوبٌ قال قَتادةُ: مكتوبٌ، والكِتابةُ فِعل العَبد قال: يَسْطُرُونَ يَخطُّون هذا فِعلُ العَبد، فِي أُمِّ الْكِتَابِ [الزخرف: 4] مَا يَلْفِظُ [ق: 18] «ما يَتَكَلَّمُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا كُتِبَ عَلَيْهِ»، هذا فِعل العبد.
قَالَ ابْنُ عَبَّاس: «يَكْتُبُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ» وهذا فِعلُ العَبد يُحَرِّفُونَ [النساء: 46] قَالوا: يُزيلُون، فالتَّحرِيفُ هُو الإِزالةُ، وهو عَملُهم.
أما كِتاب الله فلا يستطيعُ أحدٌ أن يُحرِّفه. وبأعمالهم السيئةِ يُزيلُون ويَلبِسون الحقَّ بالباطل؛ ولهذا قالوا: يُحرِّفون ويُزيلُون «وَلَيْسَ أَحَدٌ يُزِيلُ لَفْظَ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ الله، وَلَكِنَّهُمْ يُحَرِّفُونَهُ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ»؛ فأضافَ الأفعالَ إليهم.
وقال: دِرَاسَتِهِمْ[الأنعام: 156] تِلاوتهم، هذا عملهم وَاعِيَةٌ [الحاقة: 12] حافظةٌ وَتَعِيَهَا [الحاقة: 12] تَحفَظُهَا، وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ[الأنعام: 19] الإنذارُ: فِعلُ النبيِّ ﷺ يَعْنِي أهْلَ مَكَّةَ. وَمَنْ بَلَغَ التبليغُ كذلك فِعلُ النبي ﷺ.
ورَوَى عَن أَبي هُريرة أنَّه قال: لَمَّا قَضَى اللهُ الْخَلْقَ كَتَبَ كِتَابًا عِنْدَهُ: غَلَبَتْ أَوْ قَالَ: سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ. هذا كتابُ الله، ولكنَّ العبادَ لهم العَملُ.
قوله: لمَا قَضَى اللهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فيه: إثباتُ الكِتابَة، وفيه: إثباتُ الرَّحمة، وفيه: إثباتُ الغَضَب، وفيه: إثباتُ الفَوْقِية، أربعُ صِفات في هذا الحديث.
| المتن |
بَابُ قَوْلِ الله –تَعَالَى-: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ، إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ
93- وَقَالَ: بَابُ قَوْلِ الله –تَعَالَى-: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 96] إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49] وَيُقَالُ لِلْمُصَوِّرِينَ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ وَجَعَلَهُ غُفْلًا.
94- وَقَالَ بَعْدَهُ بَابُ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ [الأعراف: 54] إِلَى قَوْلِهِ: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: بَيَّنَ اللهُ الْخَلْقَ مِنَ الْأَمْرِ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ.
وَسَمَّى النَّبِيُّ الْإِيمَانَ عَمَلًا فَقَالَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ حِينَ قَالُوا يَا رَسُولَ الله: مُرْنَا بِجُمَلٍ([36]) مِنَ الْأَمْرِ إِنْ عَمِلْنَاهَا دَخَلْنَا الْجَنَّةَ، فَأَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالشَّهَادَةِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّه عَمَلًا. ([37])
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ قَالَ: إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ. ([38]).
وَحَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا فِي ذَلِكَ.
95- وَقَالَ: بَابٌ قِرَاءَةُ الْفَاجِرِ وَالْمُنَافِقِ وَأَصْوَاتُهُمْ وَتِلَاوَتُهُمْ لَا تُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ.
وَرَوَى حَدِيثَ أَبِى مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالْأُتْرُجَّةِ... الْحَدِيثَ. ([39])
وَحَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: يَخْرُجُ أُنَاسٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ... الْخَبَرَ([40]).
96- وَقَالَ بَابُ قَوْلِ الله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء: 47] وَأَنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ وَقَوْلَهُمْ يُوزَنُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْقِسْطَاسُ: الْعَدْلُ بِالرُّومِيَّةِ، وَيُقَالَ: الْقِسْطُ مَصْدَرُ الْمُقْسِطِ، وَهُوَ الْعَادِلُ، وَأَمَّا الْقَاسِطُ فَهُوَ: الْجَائِرُ ([41]).
وَرَوَى حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ: سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ الله الْعَظِيمِ. ([42]).
هَذا آخِرُ الصَّحِيحِ.
| الشرح |
هذه التراجِمُ كالتراجم السابقة يُبيِّن فيها المؤلفُ -رحمه الله- الفَرقَ بين أفعال العَبد وصفات الله، وأن كلام الله صِفةٌ من صِفاته، وأفعالُ العباد مضافة إليهم، ومِن ذلك قراءتُهم وتلاوتُهم وعَملُهم؛ ولهذا قال: «وَقَالَ: بَابُ قَوْلِ الله -تَعَالَى-: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ، [الصافات: 96].
اللهُ خلَق العِبادَ وخلَق أعمالَهم؛ ففي الآيةِ إثباتُ أن أفعالَ العِباد مَخلوقةٌ، وفيها إثباتُ إضافةِ الأعمال إلى العباد، وأنَّ لهم قُدرةً واختيارًا: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ، يعني: خَلَقكم وخَلَق أعمالَكم. وقَال: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ، أضافَ العملَ إليهم، دلَّ على أنه اختيارهم.
وَقَالَ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49]. وَيُقَالُ لِلْمُصَوِّرِينَ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ وَجَعَلَهُ غُفْلًا، أي أَحيُوا ما خَلَقتُم يعني: ما صَوَّرتم، فأضافَ الفِعلَ إليهم؛ فدلَّ على أنَّ لهم فِعلًا، واختيارًا، يُعاقَبون عليه، ولذلك لو لم يكن لهم أفعال ما عُوقبوا عليها. قوله: «أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ» تَعجيزٌ لهم.
وَقَالَ بَعْدَهُ بَابُ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ [الأعراف: 54] إِلَى قَوْلِهِ: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: بَيَّنَ اللهُ الْخَلْقَ مِنَ الْأَمْرِ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ.
أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ أي: فَصَل بين الخَلْق والأَمرِ، فالخلقُ شَيءٌ، والأمرُ شيءٌ، الأمرُ كلام الله والخلقُ المخلوقات؛ فدَلَّ على أن كلامَ الله غيرُ مخلوقٍ.
وَسَمَّى النَّبِيُّ الْإِيمَانَ عَمَلًا فَقَالَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ حِينَ قَالُوا يَا رَسُولَ الله: مُرْنَا بِجُمَلٍ([43]) مِنَ الْأَمْرِ إِنْ عَمِلْنَاهَا دَخَلْنَا الْجَنَّةَ، فَأَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالشَّهَادَةِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّه عَمَلًا. أي: هذه أعمالهم تُضافُ إليهم.
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ قَالَ: إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ. والشاهد: أنه أضاف التصويرَ إليهم في القول: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ فهذا عَملُهم يُعاقَبون عليه. وحديث ابن عمر أيضًا في ذلك.
قوله: «وَقَالَ: بَابٌ قِرَاءَةُ الْفَاجِرِ وَالْمُنَافِقِ وَأَصْوَاتُهُمْ وَتِلَاوَتُهُمْ لَا تُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ»، أي إنها غيرُ مقبولة. وأصواتهم وقراءتهم عَملٌ لهم يقرءون كلام الله، المقروء كلامُ الله، ولكنَّ عملَهم لا يُرفَع ولا يُقبَل، وأصواتُهم وقراءتهم وتلاوتهم لا تُجاوز حناجرهم؛ فأضاف الفعل إليهم.
وفي حديث أبي مُوسى: مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالْأُتْرُجَّةِ... عمل المؤمن أنه يقرأ القرآن، وقد مَثَّلَ له النبي ﷺ بالأُتْرُجَّة وله ثوابٌ على ذلك.
وحديث أبي سعيد: يَخْرُجُ أُنَاسٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ عَملُهم أنَّهم يقرءون القرآن، فأضاف القِراءةَ إليهم.
قوله: «وَقَالَ بَابُ قَوْلِ الله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء: 47] وَأَنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ وَقَوْلِهِمْ يُوزَنُ» إذن أعمالُهم وقَولُهم، ومن ذلك تلاوةُ القرآنِ والعملِ به توزن أيضًا.
«وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْقِسْطَاسُ: الْعَدْلُ بِالرُّومِيَّةِ، وَيُقَالَ: الْقِسْطُ مَصْدَرُ الْمُقْسِطِ، وَهُوَ الْعَادِلُ، وَأَمَّا الْقَاسِطُ فَهُوَ: الْجَائِرُ»، المُقسطُ العَادلُ مِن أَقْسَط الرُّبَاعي، وأما القَاسِطُ من قَسَطَ، فهو الجائر. والفَرْق بينهما أنك إذا جِئتَ بالهمزة فصار أقسط فهو بمعنى عَدَل، وإذا حَذفتَ الهمزةَ صار قَسَط وهو بمعنى جَار وظلم، أقسط: عدل.
ومن الأول: إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُور ([44])، أي العادلون.
ومن الثاني: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [الجن: 15] يَعنِي الجائرون الظالمون.
وحديث أبي هريرة عن النَّبِيِّ ﷺ قال: كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ الله الْعَظِيمِ هذا آخر حديث في صحيح البخاري، وفيه: صِفةُ المَحَّبة لله، فمعنى حَبِيبَتَانِ أي يُحبُّهم اللهُ، سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ الله الْعَظِيمِ وتأتي المحبَّة لما فيهما من تعظيم الله وتنزيهه، خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ لأنهما لا يُكلِّفان الإنسانَ شيئًا، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ أي في الثواب والأجر.
والشاهد: ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ أي إنَّ عَملَ العبدِ يُوزن عليه؛ فَدلَّ على أن كلامَ الإنسانِ وأقواله تُوزَن عليه.
هذا آخرُ حديث في صحيح البخاري، وأولُ حديث فيه: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ([45]).
وهذه التراجِم كلُّها تُقرِّر مَذهب أهل السُّنة والجماعة الذي دلَّت عليه نصوصُ الكِتاب والسُّنَّة من أن أفعال العباد وأقوالهم تُنسَب إليهم، وأنهم قد فَعلوها مختارين، وليسوا مجبورين، فعليها يثابون ويعاقبون، وهذه الأفعال ليست مخلوقةً كما يقول الجبرية، وليست مخلوقةً لهم؛ كما يقول القَدَرية، ومن ذلك قراءةُ القرآن وتلاوته والعمل به.
| الحواشي |
([1]) أخرجه البخاري معلقا (9/151) .
([2])أخرجه البخاري معلقا (9/152) .
([3])أخرجه البخاري : كِتَابُ تَفْسِيرِ القُرْآنِ ،بَابُ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الخَاسِرِينَ [فصلت: 23]، رقم (4817) ، ومسلم : كِتَابُ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ وَأَحْكَامِهِمْ ، رقم (2775) .
([4])أخرجه البخاري معلقا (9/152) .
([5])أخرجه البخاري : كِتَابُ التَّوْحِيدِ ،بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: 29]، رقم (7522) .
([6])أخرجه البخاري معلقا (9/153) .
([7])أخرجه البخاري :كتاب التوحيد ، بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ [القيامة: 16]، رقم (7524) .
([8])أخرجه البخاري :كتاب التوحيد ، بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ [الملك: 14]، رقم (7525) .
([9])أخرجه البخاري :كتاب التوحيد ، بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ [الملك: 14]، رقم (7526) .
([10])أخرجه البخاري :كتاب التوحيد ، بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ [الملك: 14]، رقم (7527) .
([11])أخرجه البخاري :كتاب التوحيد ، بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ القُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ يَقُولُ: لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ هَذَا فَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ، رقم (7528) ، وزيادة مِن في قوله: يتلوه من آناء غير موجودة في روايات الحديث.
([12])أخرجه البخاري :كتاب التوحيد ، بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ القُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ يَقُولُ: لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ هَذَا فَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ، رقم (7529) .
([13]) انظر: مجموع الفتاوى (12/574).
([14]) انظر: المغني لابن قدامة (2/128) .
([15]) هو حمزة بن حبيب ابن عمارة بن إسماعيل، الإمام، القوة شَيْخُ القِرَاءةِ، أَبُو عُمَارَةَ التَّيْمِيُّ مَوْلاَهُم، الكُوْفِيُّ، الزَّيَّاتُ ، كَرِهَ طَائِفَةٌ مِنَ العُلَمَاءِ قِرَاءةَ حَمْزَةَ لِمَا فِيْهَا مِنَ السَّكْتِ، وَفَرطِ المَدِّ، وَاتِّبَاعِ الرَّسمِ، وَالإِضْجَاعِ2، وَأَشْيَاءَ ثُمَّ اسْتَقَرَّ اليَوْمَ الاتِّفَاقُ عَلَى قَبُولِهَا . انظر: سير أعلام النبلاء (7/90) .
([16]) انظر: المغني لابن قدامة (2/128).
([17])أخرجه البخاري معلقاً (9/154) .
([18])أخرجه البخاري :كتاب التوحيد ، بابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالاَتِهِ، رقم (7530) .
([19])أخرجه البخاري :كتاب التوحيد ، بابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالاَتِهِ، رقم (7531) .
([20])أخرجه البخاري معلقاً (9/155) .
([21])أخرجه البخاري :كتاب التوحيد ، بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا [آل عمران: 93] ، رقم (7533) .
([22])أخرجه البخاري :كتاب التوحيد ، بَابُ وَسَمَّى النَّبِيُّ ﷺ الصَّلاَةَ عَمَلًا، وَقَالَ: لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ، رقم (7534) .
([23])أخرجه البخاري :كتاب التوحيد ، بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعًا [المعارج: 20] " ، رقم (7535) .
([24])أخرجه البخاري :كتاب التوحيد ، بَابُ ذِكْرِ النَّبِيِّ ﷺ وَرِوَايَتِهِ عَنْ رَبِّهِ، رقم (7536) .
([25]) كذا التَّرجَمة في النُّسختين، وأما في صحيح البخاري: بَابُ مَا يَجُوزُ مِنْ تَفْسِيرِ التَّوْرَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ، بِالعَرَبِيَّةِ وَغَيْرِهَا.
([26])أخرجه البخاري :كتاب التوحيد ، بَابُ مَا يَجُوزُ مِنْ تَفْسِيرِ التَّوْرَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ، بِالعَرَبِيَّةِ وَغَيْرِهَا، رقم (7541) .
([27])أخرجه البخاري :كتاب التوحيد ، بَابُ مَا يَجُوزُ مِنْ تَفْسِيرِ التَّوْرَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ، بِالعَرَبِيَّةِ وَغَيْرِهَا، رقم (7542) .
([28])أخرجه البخاري :كتاب التوحيد ،بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: المَاهِرُ بِالقُرْآنِ مَعَ الكِرَامِ البَرَرَةِ، رقم (7544) .
([29])أخرجه البخاري :كتاب التوحيد ،بَابُ ذِكْرِ النَّبِيِّ ﷺ وَرِوَايَتِهِ عَنْ رَبِّهِ، رقم (7540) .
([30])أخرجه البخاري :كتاب التوحيد ،بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ، رقم (7550) .
([31])أخرجه البخاري معلقاً (9/159) .
([32])أخرجه البخاري :كتاب التوحيد ،بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: 17]، رقم (7552) .
([33])أخرجه البخاري :كتاب التوحيد ،بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: 17]، رقم (7551) .
([34])أخرجه البخاري معلقاً (9/160) .
([35])أخرجه البخاري :كتاب التوحيد ،بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج: 22]، رقم (7553) .
([36]) أي عدة أوامر يعني: أعطنا عددًا من الأوامر نعمل بها وندخل الجنة.
([37])أخرجه البخاري معلقاً (9/160) .
([38])أخرجه البخاري :كتاب التوحيد ،بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 96]، رقم (7557) .
([39])أخرجه البخاري :كتاب التوحيد ،بَابُ قِرَاءَةِ الفَاجِرِ وَالمُنَافِقِ، وَأَصْوَاتُهُمْ وَتِلاَوَتُهُمْ لاَ تُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، رقم (7560) .
([40])أخرجه البخاري :كتاب التوحيد ،بَابُ قِرَاءَةِ الفَاجِرِ وَالمُنَافِقِ، وَأَصْوَاتُهُمْ وَتِلاَوَتُهُمْ لاَ تُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، رقم (7562) .
([41])أخرجه البخاري معلقاً (9/162) .
([42])أخرجه البخاري :كتاب التوحيد ،بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ [الأنبياء: 47]، رقم (7563) .
([43]) أي عدة أوامر يعني: أعطنا عددًا من الأوامر نعمل بها وندخل الجنة.
([44]) أخرجه مسلم: كتاب الإمارة، رقم (1827).
([45]) أخرجه البخاري: كتاب بدء الوحي، كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ، رقم (1)، ومسلم: كتاب الإمارة، رقم (1907).