| المتن |
138- حَدِيثٌ آخَرُ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ فِي حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ، مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، أَنَّهُ قَالَ: أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ فَقَالَ: كَانَ فِي عَمَاءٍ، فَوْقَهُ هَوَاءٌ. ([1]). قَالُوا: وَهَذَا تَحْدِيدٌ وَتَشْبِيهٌ.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ، فَقَالَ: "الْعَمَاءُ" السَّحَابُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ؛ إِنْ كَانَ الْحَرْفُ مَمْدُودًا. وَإِنْ كَانَ مَقْصُورًا كَأَنَّهُ كَانَ فِي عَمَى؛ كَانَ كَمَا شَاءَ([2]).
| الشرح |
هَذِهِ هِيَ الشُّبْهَةُ الثَّامِنَةُ من الشُّبَهِ التي أَوْرَدَهَا أهلُ البِدَعِ على بعضِ النُّصُوصِ من الكِتَابِ والسُّنَّةِ، أَوْرَدَهَا ابنُ قُتَيْبَةَ -رحمه الله- في كتابه (تأويل مختلف الحديث)، وأجابَ عَنْهَا.
هَذِهِ الشُّبْهَةُ على حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ، مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، أَنَّهُ كَانَ يسألُ النَّبِيَّ ﷺ «أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ فَقَالَ: كَانَ فِي عَمَاءٍ، فَوْقَهُ هَوَاءٌ. وفي لفظ آخر: كَانَ فِي عَمَاءٍ، ما فَوْقَهُ هَوَاءٌ، وَمَا وَتَحْتَهُ هَوَاءٌ.
«قَالُوا: وَهَذَا تَحْدِيدٌ وَتَشْبِيهٌ». يَعْنِي: تَحْدِيدَ مَكَان الرَّبِّ، وأنه في عَمَاءِ، وهذا تَشْبِيهٌ لَهُ بالمَخْلُوقَاتِ، فكيف الجواب عن هذه الشُّبْهَةِ؟
قال ابنُ قُتَيْبَةَ في جوابه: «وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ». هو الإمام المعروف، لعل كلامه في كتابه (الإيمان)، وله كتاب (الأموات).
«فَقَالَ: "الْعَمَاءُ" السَّحَابُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ؛ إِنْ كَانَ الْحَرْفُ مَمْدُودًا. وَإِنْ كَانَ مَقْصُورًا كَأَنَّهُ كَانَ فِي عَمَى؛ كَانَ كَمَا شَاءَ».
هذا جواب واضِحٌ عن الشُّبْهَةِ.
والجوابُ الصَّحِيحُ عنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ:
أولا: الحَدِيثُ ضَعِيفٌ؛ ففي إِسْنَادِهِ وَكِيعُ بنُ عُدُسٍ ويقال: وَكِيعُ بنُ حُدُسٍ، وهو ضَعِيفٌ، كما هو معروف، والحَدِيثُ رَوَاهُ الإمامُ أحمدُ، والتِّرْمِذِيُّ، ابن مَاجَه، وابنُ أبي عَاصِمٍ في السُّنَّةِ، وقال الأَلْبَانِيُّ: ضَعِيفٌ([3])، وهو كما قَالَ.
ثانيا: لَوْ صَحَّ فمعناه صَحِيحٌ، والمرادُ بالعَمَاءِ السَّحَابُ: «كَانَ فِي عَمَاءٍ، فَوْقَهُ هَوَاءٌ». فالسَّحَابُ فَوْقَهُ هواء وتحته هواء.
والمعنى: أن الله فوق السحاب مثل قوله: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ. في السماء يراد بها العُلُوَّ. أأمنتم من في العلو، ويراد بالسَّمَاءِ الطِّبَاقِ المَبْنِيَّةِ التِي تُفِيدُ معنى على؛ أي: كان على السماء.
وقوله: كَانَ فِي عَمَاءٍ، ما فَوْقَهُ هَوَاءٌ، وما وَتَحْتَهُ هَوَاءٌ. مَا مَوْصُولَةٌ بمَعْنَى الَّذِي؛ كان في السَّحَابِ الَّذِي فَوْقَهُ هَواء.
| المتن |
139- حَدِيثٌ آخَرُ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عنَّ النَّبِيِّ ﷺ: لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ، فَإِنَّ الله هُوَ الدَّهْرُ. ([4]). فَوَافَقْتُمْ فِي ذَلِكَ الدَّهْرِيَّةَ.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ تَقُولُ: "أَصَابَنِي الدَّهْرُ فِي مَالِي بِكَذَا". أَوْ: "نَالَتْنِي قَوَارِعُ الدَّهْرِ وَمَصَائِبُهُ". قَالَ اللهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَمَّا قَالُوا: وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ.. فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ إِذَا أَصَابَتْكُمْ المُصَائِبُ؛ فإنَّ الله هُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ.
| الشرح |
هَذَا الحَدِيثُ وهُوَ قَوْلُهُ: لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ، فَإِنَّ الله هُوَ الدَّهْرُ. حديث صحيح رواه الإمامُ مسلمٌ والإمامُ أحمد عن أبي هريرة .
فالشبهة قولهم: «فَوَافَقْتُمْ فِي ذَلِكَ الدَّهْرِيَّةَ». إذَا قُلْتُمْ: إن الله هُوَ الدَّهْرُ وَافَقْتُمُ الدَّهْرِيَّةَ، فالدَّهْرِيَّةُ يقولون: إن الدهرَ -وهو: الزمان- هو الذي يُفْنِينَا. قال اللهُ -تَعَالى- عَنْهُمْ إنهم قالوا: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ..
فمعنى الآية: أن الدهر هُوَ الَّذِي يُهْلِكُنَا ويُفْنِينَا، وليس هُنَاكَ رَبٌّ، ولا بَعْثٌ ولا مِعَادٌ؛ بل بُطُونٌ تَدْفَعُ بالوِلَادَةِ، وأرضٌ تَبْلَعُ بالمَوْتِ.
والجَوَابُ الصَّحِيحُ أن يقالَ: إنَّ الحَدِيثَ معناه: لَا تَسُبُّوا اللَّيْلَ والنَّهَارَ والزَّمَانَ، فَإِنَّ الله هُوَ الدَّهْرُ أي: مُصَرِّفُ الدَّهْرِ ومُقَلِّبُ الدَّهْرِ؛ مقلب الليل والنهار، وهذا المعنى جاء في الحديث الآخر: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَقُولُ: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَإِنِّي أَنَا الدَّهْرُ، أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، فَإِذَا شِئْتُ قَبَضْتُهُمَا ([5]).
وقد غلِطَ ابنُ حَزْمٍ حِينَمَا جعل الدهرَ من أسماء الله بهذا الحديث.
«قال ابنُ قُتَيْبَةَ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ تَقُولُ: "أَصَابَنِي الدَّهْرُ فِي مَالِي بِكَذَا". أَوْ: "نَالَتْنِي قَوَارِعُ الدَّهْرِ وَمَصَائِبُهُ". قَالَ اللهُ –تَعَالَى- حِكَايَةً عَمَّا قَالُوا: وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ.. فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: لا تَسُبُّوا الدَّهْرَ إِذَا أَصَابَتْكُمُ المُصَائِبُ؛ فإنَّ الله هُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ.
وَسَبُّ الدَّهْرِ مُحَرَّمٌ؛ فلا يَجُوزُ للإنْسَانِ أن يَسُبَّ الدَّهْرَ مِثلَ مَا يَفْعَلُ بعضُ النَّاسِ من ذَمِّ السَّاعِة أو اليَوْمِ، أو شَتْمِ اللَّيْلِ أو النَّهَار، ومن ذلك قول الحريري في مقاماته([6]):
ولا تأمَنِ الدهْرَ الخؤونَ ومَكرَهُ | فكمْ خامِلٍ أخْنى عليهِ ونابِهِ |
فقد وصف الدهر بأنه الخؤون.
ومِنْ ذَلِكَ قول الشاعر([7]):
عَضَّنا الدَّهْرُ بِنَابِهْ | لَيْتَ مَا حَلَّ بِنَا بِهْ |
يعني: جَعَلَ الدَّهْرَ لَهُ نَابٌ، ثم قال: ليت الَّذِي حَلَّ بِنَا حَلَّ بِهِ. وهذا مِنْ سَبِّ الدَّهْرِ.
ومن أقوال بعض الناس: لَعَنَ اللهُ الساعَةَ التِي عَرَّفَتْنِي بِفُلَانٍ، لعَنَ اللهُ اليَوْمَ. وهذا من سب الدهر، ومَنْ سَبَّ الدَّهْرَ فَقَدْ سَبَّ الله؛ لأن الله -تعالى- هو الذي يُصَرِّفُهُ.
| المتن |
140- حَدِيثٌ آخَرُ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: يَقُولُ اللهُ : مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي، أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً. ([8]).
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَمَعْنَاهُ عِنْدَنَا: مَنْ تَقَرَّبَ بِالطَّاعَةِ، وَأَتَانِي بِهَا أَتَيْتُهُ بِالثَّوَابِ أَسْرَعَ مِنْ إِتْيَانِهِ، فَكَنَّى عَنْ ذَلِكَ بِالْمَشْي وَبِالْهَرْوَلَةِ؛ كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ. وَالسَّعْيُ: الْإِسْرَاعُ فِي الْمَشْيِ، وَلَيْسَ يُرَادُ أَنَّهُمْ مَشَوْا دَائِمًا، وَإِنَّمَا يُرَادُ: أَنَّهُمْ أَسْرَعُوا بِنِيَّاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ.
| الشرح|
هَذِهِ الشُّبْهَةُ العَاشِرَةُ عَلَى هَذَا الحَدِيثِ، وهو حَدِيثُ: مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي، أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً. وقد رَوَاهُ الشَّيْخَانِ البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عن أبي هريرة .
وليسَ مَعْنَاهُ كَمَا قال ابنُ قُتَيْبَةَ فإنَّهُ أَوَّلَهُ فقال: مَنْ تَقَرَّبَ بِالطَّاعَةِ، وَأَتَانِي بِهَا أَتَيْتُهُ بِالثَّوَابِ أَسْرَعَ مِنْ إِتْيَانِهِ.
والنووي -رحمه الله- مِمَّنْ أَوَّلَهُ فقال([9]): «ومعناه من تقرب إلي بطاعتي تقربت إليه برحمتي والتوفيق والإعانة، وإن زاد زدت، فإن أتاني يمشي وأسرع في طاعتي، أتيته هرولة، أي صببت عليه الرحمة، وسبقته بها، ولم أحوجه إلى المشي الكثير في الوصول إلى المقصود».
هَذَا ليس مَعْنَى الحَدِيثِ، وإنَّمَا هُوَ أَثَرٌ له مثل: صِفَةِ الغَضَبِ، فهي صفة لله، والانْتِقَامُ أَثَرٌ لها.
والرِّضَا صِفَةٌ لِلَّهِ، ومن آثَارِهَا الثَّوَابُ، إذا رَضِيَ اللهُ أثَابَ، وإذا غَضِبَ انْتَقَمَ.
كَذَلِكَ من فَسَّرَ التَّقَرُّبَ من الله بالثَّوَابِ؛ فَقَدْ فَسَّرَه بالأَثَرِ، ولكن هَذَا تقربٌ حَقِيقِيٌّ؛ من تَقَرَّبَ إلى الله –تعالى-، تَقَرَّبَ اللهُ إليه؛ وكذلك النُّزُولُ، والعُلُوُّ والاسْتِوَاءُ كلها صفات تليق بجلاله، معناها مَعْرُوفٌ في اللُّغَةِ؛ فمعنى المشي والهرولة معروف في اللغة، أما الكيفية -كيفية اتصاف الله -تعالى- بها- فلا يعلمها إلا هو .
والقُرْبُ من صِفَاتِ الله، ومِنْ صِفَاتِهِ المَعِيَّةُ.
والقرب إلى الله يأتي خَاصًّا، وهُوَ نَوْعَان: قُرْبٌ من الدَّاعِينَ بالإجَابَةِ، وقُرْبٌ من العَابِدِين بالإثَابَةِ.
مثال الأول وهو القُرْبُ من الدَّاعِينَ بالإجَابَةِ: قوله -تعالى-: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ، يَعْنِي: قَرِيبٌ من السَّائِلِينَ بالإِجَابَةِ، ولم يقل: إنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ.
ومِثْلُهُ حَدِيثُ أبي موسى الأشعَرِيِّ قال: كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله ﷺ فِي غَزَاةٍ، فَجَعَلْنَا لَا نَصْعَدُ شَرَفًا، وَلا نَعْلُو شَرَفًا، وَلا نَهْبِطُ فِي وَادٍ إِلَّا رَفَعْنَا أَصْوَاتَنَا بِالتَّكْبِيرِ، قَالَ: فَدَنَا مِنَّا رَسُولُ الله ﷺ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا. ([10]) .
ومِثْلُهُ قَوْلُهُ –تَعَالَى- عن صالحٍ : فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ. قَرِيبٌ مُجِيبٌ لِلْمُسْتَغْفِرِينَ التَّائِبِينَ، وليس مِنْ كُلِّ أَحَدٍ.
والثاني: قرب من العابدين بالإِثَابَةِ كَقَوْلِهِ -تَعَالى-: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ. وكَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ. فالسَّاجِدُ قَرِيبٌ مِنَ الله كما في الحديث: أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ. ([11]) .
ويَأْتِي القُرْبُ عَامًّا أيضا كقوله -تعالى-: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. قال بعضُ العلماءِ: هذا الضَّمِيرُ يعودُ إلى الله، والمعْنَى: أَقْرَبُ بالعِلْمِ.
قالَ بعضُهُمْ: بالقُدْرَةِ، وقالوا: بالقُدْرَةِ والرُّؤْيَةِ.
وذهبَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ كشيخِ الإسلامِ ابنِ تَيْمِيَةَ وغيرِهِ إلى أن هَذَا قُرْبُ المَلَائِكَةِ؛ قال: ونَحْنُ أَقْرَبُ بمَلَائِكَتِنَا إليه من حَبْلِ الوَرِيدِ بدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ. وَلَوْ كانَ المُرَادُ قُرْبَ الرَّبِّ لمَا قَيَّدَهُ بِتَلَقِّي المُتَلَقِّيَانِ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ. وَقتَ تَلَقِّي المُتَلَقِّيَانِ؛ يعني: نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ بمَلَائِكَتِنَا.
ومثل قوله -تعالى-: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ. قَالَ: المَلَائِكَةُ أَقْرَبُ إلى العَبْدِ مِمَّنْ حَوْلَهُ عِنْدَ المَوتِ، ولكن لا تُبْصِرُونَ المَلَائِكَةَ.
| المتن |
141- حَدِيثٌ آخَرُ قَالُوا: رَوَيْتُمْ: آخَرُ وَطْأَةٍ وَطِئَهَا اللهُ بِوَجَّ. ([12]).
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: ولِهَذَا الْحَدِيثِ مَخْرَجًا حَسَنًا قَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ النَّظَرِ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ. قَالُوا: إِنَّ آخَرَ مَا أَوْقَعَ اللهُ -تَعَالَى- بِالْمُشْرِكِينَ بِالطَّائِفِ، وَكَانَتْ آخِرَ غَزَاةٍ غَزَاهَا رَسُولُ الله ﷺ، وَحُنَيْنٌ وَادٍ قِبَلَ الطَّائِفِ. وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يَذْهَبُ إِلَى هَذَا.
وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي دُعَائِهِ: اللهُمَّ اشْدُدْ وَطَأَتَكَ عَلَى مُضَرَ. ([13]).
| الشرح |
هَذِهِ الشُّبْهَةُ الحادية عَشرة على حَدِيثِ: آخَرُ وَطْأَةٍ وَطِئَهَا اللهُ بِوَجَّ. وَجُّ وَادٍ بالطَّائِفِ، وذَهَبَ بَعْضُ العُلَمَاءِ إلى أنَّهُ حَرَّمَ صَيْدَ وَجَّ، ولكن هذا قولٌ مَرْجُوحٌ.
والصَّوَابُ أنَّهُ ليس في الدنيا إلا حَرَامَان؛ الحرمُ المَكِيُّ والحَرَمُ المَدَنِيُّ.
وأما بيتُ المَقْدِسِ فليسَ حَرمًا، ومِنَ الأَخْطَاءِ الشَّائِعَةِ قَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ: ثَالِثُ الحَرَمَيْنِ. فيجعلون المسجدَ الأقْصَى ثالثَ الحَرَمَينِ، ما هو بثالث الحرمين. ولكن يقال: ثَالِثُ المسْجِدَيْنِ هذا الصحيح. لكن الَّذِي يَقُولُ هَذَا في الغَالِبِ لَا يَعْلَمُونَ الحُكْمَ الشَّرْعِيَّ؛ كالصحفيين والمذيعين وغيرهم من عامة الناس.
وهَذَا الحَدِيثُ رَوَاهُ الإمامُ أحمدُ، وقال الهَيْثَمِيُّ في (مجمع الزوائد): رَوَاهُ أحمدُ، والطَّبَرَانِيُّ ورجالُهُ من الثِّقَاتِ.
فَسَّرَ ابنُ قُتَيْبَةُ -رحمه الله- معْنَى الحَدِيثِ فقَالَ: «ولِهَذَا الْحَدِيثِ مَخْرَجًا حَسَنًا قَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ النَّظَرِ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ. قَالُوا: إِنَّ آخَرَ مَا أَوْقَعَ اللهُ –تَعَالَى- بِالْمُشْرِكِينَ بِالطَّائِفِ، وَكَانَتْ آخِرَ غَزَاةٍ غَزَاهَا رَسُولُ الله ﷺ، وَحُنَيْنٌ وَادٍ قِبَلَ الطَّائِفِ. وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يَذْهَبُ إِلَى هَذَا. وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي دُعَائِهِ: اللهُمَّ اشْدُدْ وَطَأَتَكَ عَلَى مُضَرَ. وحديث اللهُمَّ اشْدُدْ وَطَأَتَكَ عَلَى مُضَرَ. رواهُ البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ.
وهذا الجواب كما قال ابنُ قُتَيْبَةَ -رحمه الله-: إن المعنى أن الله -تعالى- أَوْقَعَ بالمُشْرِكِينَ في حُنَيْنٍ، ونَصَرَ اللهُ عَبْدَهُ ورَسُولَهُ وحِزْبَهُ المُؤْمِنِينَ.
| المتن |
142- حَدِيثٌ آخَرُ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ الله فِي الْأَرْضِ، يُصَافِحُ بِهَا مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ. ([14]).
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْمَلِكَ إِذَا صَافَحَ رَجُلًا، قَبَّلَ الرَّجُلُ يَدَهُ، فَهَذَا مِثْلُ أَنَّ الحَجَرَ بِمَنْزِلَةِ الْيَمِينِ لِلْمَلِكِ تُسْتَلَمُ وَتُلْثَمُ.
| الشرح |
هَذِهِ الشُّبْهَةُ الثانية عشرة على حديث ابن عباس قال: الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ الله فِي الْأَرْضِ، يُصَافِحُ بِهَا مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ. فَهَذَا رُوِيَ مَوْقُوفًا على ابنِ عَبَّاسٍ.
والرد على هذه الشبهة من وجوه:
أولا: هَذَا لَيْسَ بِحَدِيثٍ؛ وليسَ مرفوعًا إلى النَّبِيِّ ﷺ، بَلْ هو موقوف عَلى ابنِ عَبَّاسٍ.
ثانيا: أنَّهُ ضَعِيفٌ.
ثالثا: هذا الحديث لو صَحَّ؛ فليس مَعْنَاهُ أنَّ الحَجَرَ صِفَةٌ لِلَّهِ، بل الحَدِيثُ فيهِ دَلِيلٌ على أنه ليس صِفَةً لِلَّهِ؛ إنما قال: يَمِينُ الله فِي الْأَرْضِ. فهَذَا التَقْيِيدُ بقوله: فِي الْأَرْضِ. يوضح أنه ليس صِفَةً من صِفَاتِ الله.
ثم أيضا قال: يُصَافِحُ بِهَا مَنْ شَاءَ مِنْ خَلِقِهِ. تَشْبِيهٌ، والمُشَبَّهُ غَيْرُ المُشَبَّهِ بِهِ، وعلى هذا لا يكونُ فيه إشكال.
وقد بَيَّنَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَةَ هَذَا في (درء تعارض العقل) ([15])، وفي (التدمرية) ([16])، يقول شيخ الإسلامِ: «هذا الخبر لو صح عن النبي ﷺ لم يكن ظاهرة أن الحجر صفة لله، بل صريح في أنه ليس صفة لله لقوله: يَمِينُ الله فِي الْأَرْضِ. فقيده في الأرض ولقوله: فمن صافحه فكأنما صافح الله والمشبه ليس هو المشبه به وإذا كان صريحًا في أنه ليس صفة لله لم يحتج إلى تأويل يخالف ظاهرة».
ابن قتيبة جوابه فيه قصور وهو قوله: «وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْمَلِكَ إِذَا صَافَحَ رَجُلًا، قَبَّلَ الرَّجُلُ يَدَهُ، فَهَذَا مِثْلُ أَنَّ الحَجَرَ بِمَنْزِلَةِ الْيَمِينِ لِلْمَلِكِ تُسْتَلَمُ وَتُلْثَمُ».
| المتن |
143- حَدِيثٌ آخَرُ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ. ([17]). وَاللهُ يَقُولُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ. وَيَقُولُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. وَقَالَ لِمُوسَى: لَنْ تَرَانِي.
قَالُوا: وَإِنَّ صَحَّ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْعِلْمِ، كما قال: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ يعني: ألم تعلم.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ تَتَابَعَتْ عَلَى نَقْلِهِ الرِّوَايَاتُ عَنِ الثِّقَاتِ الَّذِينَ رَوَوْا لَنَا الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَمَعْنَاهُ: يَرَوْنَهُ مِثْلَ الْقَمْرِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَلَمْ يَقَعِ التَّشْبِيهُ بِهِ عَلَى جَمِيعِ حَالَاتِ الْقَمَرِ فِي التَّدْوِيرِ وَالْمَسِيرِ وَالْحُدُودِ وَغَيْرِهِ.
وَقَوْلُهُ: لَنْ تَرَانِي. يَعْنِي: فِي دَارِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ لَوِ اسْتَحَالَتْ لَمْ يَسْأَلْهَا نَبِيٌّ، وَكَذَلِكَ: لَا تُدْرِكُهُ. يَعْنِي: فِي الدُّنْيَا. أَوْ: لَا تُحِيطُ بِهِ.
| الشرح |
هَذِهِ الشُّبْهَةُ أَثَارَهَا المُؤَلِّفُ على حَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ قال: تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ. وقد رَوَاهُ الشَّيْخَان البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ من حديثِ جَرِيرِ بنِ عَبْدِ اللهِ البَجَلِيِّ أنهم سَأَلُوا النَّبِيَّ ﷺ: «يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: نَعَمْ. قَالَ: هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بِالظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ مَعَهَا سَحَابٌ؟ وَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْوًا لَيْسَ فِيهَا سَحَابٌ؟. قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: مَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا. ([18]).
والمَعْنَى: أَنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ رُؤْيَةً وَاضِحَةً من غَيْرِ تَعَبٍ، كَمَّا أنَّكُمْ تَرَوْنَ القمرَ ليلةَ البَدْرِ وَاضِحًا، وتَرَوْنَ الشمسَ صَحْوًا واضحة.
وهَذِهِ الشُّبْهَةُ عَلَى لِسَانِ المُعْتَزِلَةِ فقالت: أَنْتُمْ تَرْوُونَ هَذَا الحَدِيثَ، وهو يعارضُ الآياتِ، فاللهُ يقولُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ. وَيَقُولُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. وأَنْتُمْ شَبَّهْتُمُ الله بِالْقَمَرِ، وهُوَ يَقُولُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ. وقال لموسى: لَنْ تَرَانِي. وَأَنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنَّ النَّاسَ يَرَوْنَهُ بالأبْصَارِ.
«قَالُوا: وَإِنَّ صَحَّ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْعِلْمِ». والمعنى -عندهم-: أنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ؛ أي: تَعْلَمُونَ. أي: تَعْلَمُونَ أنَّ لَكُمْ رَبًّا كَمَا تَعْلَمُونَ القَمَرَ قَمَرًا، كَقَوْلِهِ -تَعَالى-: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ. أي: ألَمْ تَعْلَمْ.
نرد على شبهة المعتزلة الذين أنكروا هذه الرؤية بعدة أمور:
أولًا: نَقُولُ: أحَادِيثُ الرُّؤْيَةِ مُتَواتِرَةٌ؛ بَلَغَتْ حَدَّ التَّوَاتُرِ، وهَذَا الحديثُ لا إِشْكَالَ فِيهِ، فقد رواهُ الشَّيْخَانِ وغَيْرُهُمَا، وهو من أَصَحِّ الأحَادِيثِ.
ثانيا: تَفْسِيرُ الرُّؤْيَةِ بالعِلْمِ تَفْسِيرٌ بَاطِلٌ يُفْسِدُ المَعْنَى، فكَيَف تُفَسَّرُ الرُّؤْيَةُ بالعِلْمِ مَع أنَّ الحَدِيثَ صَرِيحٌ؟! «هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بِالظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ مَعَهَا سَحَابٌ؟ وَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْوًا لَيْسَ فِيهَا سَحَابٌ؟». هَل الرُّؤْيَةُ مَعْنَاهَا العِلْمُ أم مَعْنَاهَا الرُّؤْيَةِ بالبَصَرِ؟! الرؤية بالبَصَرِ صَرِيحٌ وَاضِحٌ.
وأمَّا قَوْلُ الله -تعالى-: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ. أجابَ ابنُ قُتَيْبَةَ فقال: «يَعْنِي: فِي الدُّنْيَا». ولَكِنْ تُدْرِكُهُ في الآخرة.
وَهُناك جَوَابٌ آخَرُ عَنِ الآيَةِ؛ وهُوَ أَنَّ المَعْنَى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ. لَا تُحِيطُ بِهِ رُؤْيَةً وإنْ كَانَتْ تَرَاهُ، والمعنى: تَرَاهُ الأَبْصَارُ في الآخِرَةِ؛ لكنْ لَا تُحِيطُ بِهِ رُؤْيَةً لِكَمَالِ عَظَمَتِهِ.
وقوله لموسى: لَنْ تَرَانِي. لنْ تَرَانِي في الدُّنْيَا. أمَّا فِي الآخِرَةِ، فإنَّ الله -تعالى- أخبرَ أنَّ المُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ في كِتَابِهِ، وعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ.
ومما أجاب به ابنُ قُتَيْبَةَ أنَّهُ قَالَ: «هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ تَتَابَعَتْ عَلَى نَقْلِهِ الرِّوَايَاتُ عَنِ الثِّقَاتِ الَّذِينَ رَوَوْا لَنَا الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَمَعْنَاهُ: يَرَوْنَهُ مِثْلَ الْقَمْرِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَلَمْ يَقَعِ التَّشْبِيهُ بِهِ عَلَى جَمِيعِ حَالَاتِ الْقَمَرِ فِي التَّدْوِيرِ وَالْمَسِيرِ وَالْحُدُودِ وَغَيْرِهِ».
فالمُرَادُ تَشْبِيهُ الرُّؤْيَةِ بالرُّؤْيَةِ ليسَ المرادُ تَشْبِيهَ الله بالقَمَرِ، فاللهُ يَقُولُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.
والمعنى: أنَّكُمْ تَرَوْنَ الله رُؤْيَةً واضِحَةً كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ رُؤْيَةً واضِحَةً.
قال المؤلف: «وقَوْلُهُ: لَنْ تَرَانِي. يَعْنِي: فِي دَارِ الدُّنْيَا؛ -هذا قول-؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ لَوِ اسْتَحَالَتْ لَمْ يَسْأَلْهَا نَبِيٌّ».
| المتن |
144- حَدِيثٌ آخَرُ: قَالُوا: رُوِّيتُمْ: إِنَّ الصَّدَقَةَ تَدْفَعُ الْقَضَاءَ الْمُبْرَمَ. ([19]). وَاللهُ يَقُولُ: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ لَا رَادَّ لِقَضَائِهِ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَمَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ أَذْنَبَ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ، فَإِذَا هُوَ تَصَدَّقَ دَفَعَ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ، كَمَا رُوِيَ: صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَتَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ.
| الشرح |
هَذِهِ الشُّبْهَةُ الرابعةَ عَشَرَةَ، وهِي الشُّبْهَةُ الأَخِيرَةُ على حَدِيثِ: إِنَّ الصَّدَقَةَ تَدْفَعُ الْقَضَاءَ الْمُبْرَمَ. وهَذَا الحَدِيثُ رَوَاهُ ابنُ عَسَاكِرَ بِلَفْظٍ: الصَّدَقَةُ تَدْفَعُ الْقَضَاءَ السُّوءَ. والحديث أيضا رواه الترمذي بلفظ آخر بلفظ: إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَتَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ. ([20]). وهَذَا الحَدِيثُ رَوَاهُ أنسٌ مَرْفُوعًا، وقال التِّرْمِذِيُّ: هذا حديثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَقَدْ رُوِيَ أَوَّلُهُ من حديثِ عبدِ الله بنِ جَعْفَرٍ، وأَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، وعبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ وغَيْرِهِمْ.
وهَذَا الحَدِيثُ فيهِ أنَّ الصَّدَقَةَ تَدْفَعُ القضاءَ.
صاحِبُ الشُّبْهَةِ يقولُ: الحَدِيثُ فِيهِ أنَّ الصَّدَقَةَ تَدْفَعُ القضاءَ، ولكنْ دَلَّتِ النُّصُوصُ الأُخْرَى عَلَى أنَّ القضاءَ لا يُرَدُّ، ولا يُدْفَعُ كقَوْلِه –تَعَالى-: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
«قَالُوا: وَأَجْمَعَ النَّاسُ أَنَّهُ لَا رَادَّ لِقَضَاءِ الله، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ». فَكَيْفَ تَرْوُونَ هذا الحَدِيثَ، والنُّصُوصُ الأُخْرَى دَلَّتْ عَلَى أنَّ القَدَرَ نَافِذٌ، وأنَّهُ لا يَرُدُّهُ شيء؟!
أجاب ابن قتيبة -رحمه الله-بقوله: «وَمَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ أَذْنَبَ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ، فَإِذَا هُوَ تَصَدَّقَ دَفَعَ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ، كَمَا رُوِيَ: صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَتَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ.
الجواب عن هذا الحديث: القَضَاءُ نَوعَان:
النوع الأول: قَضَاءٌ مُبْرَمٌ، وهو الذي لم يُعَلَّقْ بسببٍ. وهَذَا لَا يُرَدُّ؛ كما جاءَ في الحَدِيثِ عن النبي ﷺ أنه قال: إِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ. ([21]).
النوع الثاني: قَضَاءٌ أَوْ قَدَرٌ مُعَلَّقٌ بِسَبَبٍ؛ كأنْ يَكُونَ مَعَلَّقًا بالدُّعَاءِ؛ أو بِصِلَةِ الرَّحِمِ؛ فإنها تَزِيدُ في العُمُرِ؛ أو بالصدقة، وكَتَبَ الله أنَّ هَذَا البَلاءَ يُدْفَعُ عن المريضِ بالصَّدَقَةِ؛ أي: إن الله قَدَّرَ السَّبَبَ والمُسَبِّبَ؛ وهو مَكْتُوبٌ في الأَزَلِ أنه يُدفَعُ بفعله هذا السبب؛ وهو الدعاء أو الصَّدَقَةُ؛ أو صِلَةُ الرحم.
قد يقول قائل: هل يستدل بقوله -تعالى-: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ. على أن القضاءَ والقَدَرَ يُرَدُّ؟
فنقول: لا، مَا كُتِبَ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ لا يُغَيَّرُ ولا يُبَدَّلُ؛ لكن هذه الآية قال العلماء فيها: يَمْحُو اللهُ ما في صُحُفِ الحَفَظَةِ؛ ليُوَافِقَ ما في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، فقد يكتُبُ الحَفَظَةُ شيئا ثم يُمْحَى؛ حتى يوافِقَ ما كَتَبَهُ اللهُ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ؛ ولهذا قال -تعالى-: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ. وأمُّ الكتاب: أَصْلُ الْكِتَابِ، وهُوَ اللَّوْحُ المَحْفُوظُ.
وفي الآيَةِ الأُخْرَى يَقُولُ –تعالى-: وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ. هو: اللَّوْحُ المَحْفُوظُ، وهو المقصود في قوله الله -تعالى-: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ. وقوله -تعالى-: أَلَمْ تَعْلَمْ أَن اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ. مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا وفي الحديث وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ. ([22]).
| المتن |
فَصْلٌ
145- وَهَذَا وَأَشْبَاهُهُ إِنَّمَا تَكَلَّمَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ دَفْعًا لِمَا ذَكَرَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ، وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْمُخَالِفُونَ، وَعَلَى نَحْوِ هَذَا سَلَكَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِهِ الَّذِي وَسَمَهُ بـ«إِبْطَالِ التَّأْوِيلَاتِ لِأَخْبَارِ الصِّفَاتِ»، فَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّه تَفَرَّدَ بِالْجَمْعِ، أَوْ بِالْجَوَابِ عَمَّا اعْتُرِضَ بِهِ عَلَيْهَا، فَإِنَّمَا يَقُولُ ذَلِكَ بَغْيرِ عِلْمٍ. سَلَّمَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنَ الشُّبُهَاتِ، وَأَعَاذَنَا مِنَ التَّشْبِيهَاتِ، وَغَفَرَ لَنَا الذُّنُوبَ وَالتَّبِعَاتِ بِجُودِهِ وَكَرَمِهِ إِنْ شَاءَ اللهُ.
| الشرح |
هَذَا الفَصْلُ يُعَقِّبُ فِيهِ المؤلِّفُ -رحمه الله- عَلَى مَا نَقَلَ عَنِ ابْنِ قُتَيْبَةَ من الشُّبُهَاتِ الَّتِي حَوْلَ النُّصُوصِ.
قال: «وَهَذَا وَأَشْبَاهُهُ إِنَّمَا تَكَلَّمَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ دَفْعًا لِمَا ذَكَرَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ، وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْمُخَالِفُونَ». فالعُلَمَاءُ ذَكَرُوا الرَّدَّ عَلَى هؤلاءِ المُتَكَلِّمِينَ الذِينَ جَاءوا بِهَذِهِ الشُّبَهِ، دَفْعًا لهَذِهِ الشُّبَهِ وإِبْطَالًا لهَا.
قال: «وَعَلَى نَحْوِ هَذَا سَلَكَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِهِ الَّذِي وَسَمَهُ بـ«إِبْطَالِ التَّأْوِيلَاتِ لِأَخْبَارِ الصِّفَاتِ»». فالقَاضِي أبُو يَعْلَى الحَنْبَلِيُّ المَعْرُوفُ، لَهُ كِتُابُ «إِبْطَالِ التَّأْوِيلَاتِ لِأَخْبَارِ الصِّفَاتِ» فِي الرَّدِّ على ابْنِ فَوْرَكَ، وهُوَ شَيْخٌ لِلْمُؤَلِّفِ.
فكتاب القاضي أبي يعلى فِيهِ الرَّدُّ على الشُّبَهِ.
ومما يؤخذ على كتاب القاضي أبي يعلى:
قَدْ يُوافِقُ الأَشْعَرِيَّةَ، في بعض المسائل.
ذِكْرُهُ أَحْادِيثَ مَوْضُوعَةً، كَحَدِيثِ الرُّؤْيَةِ عَيَانًا لَيْلَةَ المِعْرَاجِ.
ذَكَرَ أَشْيَاءَ لَمْ تَثْبُتْ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ.
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «وقد صنف القاضي أبو يعلى كتابه في إبطال التأويل ردًّا لكتاب ابن فُورَك، وهو وإن كان أسند الأحاديث التي ذكرها وذكر مَن رواها، ففيها عدة أحاديث موضوعة كحديث الرؤية عيانًا ليلة المعراج ونحوه، وفيها أشياء عن بعض السلف رواها بعض الناس مرفوعة، كحديث قعود الرسول ﷺ على العرش، رواه بعض الناس من طرق كثيرة مرفوعة، وهي كلها موضوعة، وإنما الثابت أنه عن مجاهد وغيره من السلف، وكان السلف والأئمة يروونه ولا ينكرونه، ويتلقونه بالقبول. وقد يقال: إن مثل هذا لا يقال إلا توقيفًا، لكن لا بد من الفرق بين ما ثبت من ألفاظ الرسول، وما ثبت من كلام غيره، سواء كان من المقبول أو المردود، ولهذا وغيره تكلم رزق الله التميمي وغيره من أصحاب أحمد في تصنيف القاضي أبي يعلى لها الكتاب بكلام غليظ، وشنع عليه أعداؤه بأشياء هو منها بريء، كما ذكر هو ذلك في آخر الكتاب، وما نقله عنه أبو بكر بن العربي في (العواصم) كذبٌ عليه عن مجهول لم يذكره أبو بكر، وهو من الكذب عليه، مع أن هؤلاء -وإن كانوا نقلوا عنه ما هو كذب عليه-، ففي كلامه ما هو مردود نقلًا وتوجيهًا، وفي كلامه من التناقض من جنس ما يوجد في كلام الأشعري، والقاضي أبي بكر الباقلاني، وأبي المعالي»([23]).
قلت: الذِي نَقَلُه القاضي أبو بكرِ بنُ العَرِبِّي عن القاضي أبي يعلى أنَّهُ قال: «وأخبرني من أثِقُ بِهِ بِدُونِ سَنَدٍ. وأخبرني من أثق بِه من مَشْيَخَتِي أنَّ أبَا يَعْلَى مُحَمَّدَ بنَ الحُسينِ الفَرَّاء رَئِيسَ الحَنَابِلَةِ في بَغْدَادَ كان يقولُ: إذا ذَكَرَ الله -تَعَالى- وَمَا وَرَدَ مِنْ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ في صِفَاتِهِ يقولُ: أَلْزِمُونِي مَا شِئْتُمْ فإنِّي ألتزمه إلَّا اللِّحْيَةَ والعَوْرَةَ؛ ألْزِمُونِي أُثْبِتْ لَكُمْ كُلَّ شَيءٍ لِلَّهِ إلا اللَّحْيَةَ والعَوْرَةَ»([24]).
يَقُولُ المُؤَلِّفُ: «فَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّه تَفَرَّدَ بِالْجَمْعِ، أَوْ بِالْجَوَابِ عَمَّا اعْتُرِضَ بِه عَلَيْهَا، فَإِنَّمَا يَقُولُ ذَلِكَ بَغْيرِ عِلْمٍ». يَعْنِي: مَنِ اعْتَقَدَ أنَّهُ يأتي بِجَمِيعِ أخبارِ الصِّفَاتِ، أو بَجِمِيعِ الرُّدُودِ، فإنَّهُ يقول ذَلِكَ من غَيْرِ عِلْمٍ.
ثم دعا فقال: «سَلَّمَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنَ الشُّبُهَاتِ، وَأَعَاذَنَا مِنَ التَّشْبِيهَاتِ، وَغَفَرَ لَنَا الذُّنُوبَ وَالتَّبِعَاتِ بِجُودِهِ وَكَرَمِهِ إِنْ شَاءَ اللهُ».
قوله: «إِنْ شَاءَ اللهُ». غلط لا يُقَيَّدُ الدُّعَاءَ بـ«إنْ شَاءَ اللهُ»، فالإِنْسَانُ يَجْزِمُ لقوله ﷺ: لا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، اللهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، لِيَعْزِمِ المَسْأَلَةَ، فَإِنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ. ([25]).
| المتن |
فَصْلٌ
146- وَأَمَّا كِتَابُ (الشَّرِيعَةِ) الَّذِي جَمَعَهُ الْآجُرِيُّ -رحمه الله-، وَنَصَحَ فِيهِ، فَجِمِيعُ أَخْبَارِ الصِّفَاتِ سَاقَهَا فِيهِ، وَأَمَرَّهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، وَمَنَعَ مِنَ الْكَلَامِ، وَحَدِيثُ الرُّؤْيَةِ ذَكَرَهُ، وَسَاقَ طُرُقَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ، وَقَدْ أَفْرَدْتُ بِذَلِكَ كِتَابًا، وَبَقِيَتْ الْأَبْوَابُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالسُّنَّةِ فَقَدْ ذَكَرَهَا أَيْضًا، وَسُقْتُهَا فِي كِتَابِي فِي السُّنَّةِ وَهُوَ جُزْءَانِ يَشْتَمِلُ عَلَى نَحْو خَمْسِينَ بَابًا، وَقَدْ أَتَى فِي هَذَا الْكِتَابِ جِمْلَةٌ كَافِيَةٌ مِنْهَا، نَفَعَنَا اللهُ بِهَا وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ.
| الشرح |
فِي هَذَا الفَصْلِ بَيَّنَ فِيهِ المُؤَلِّفُ أن كتابَ (الشريعة) لِلآجُرِّيِّ كِتَابٌ جَيِّدٌ، وأنَّه نَصَحَ فِيهِ، «جِمِيعُ أَخْبَارِ الصِّفَاتِ سَاقَهَا فِيهِ، وَأَمَرَّهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، وَمَنَعَ -أي: من التأويل- مِنَ الْكَلَامِ، وَحَدِيثُ الرُّؤْيَةِ ذَكَرَهُ، وَسَاقَ طُرُقَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ».
يقول المؤلف ابن البَنَّاءِ: «وَقَدْ أَفْرَدْتُ بِذَلِكَ كِتَابًا». يَعْنِي: فِي الصِّفَاتِ، وبَقِيَّةِ الأَبْوَابِ المُتَعَلِّقَةِ بالسُّنَّةِ كأنَّهُ أَفْرَدَ في حَدِيثِ الرُّؤْيَةِ وبَقِيَّةِ الأبواب.
ثم قال: «وَسُقْتُهَا فِي كِتَابِي فِي السُّنَّةِ وَهُوَ جُزْءَانِ يَشْتَمِلُ عَلَى نَحْو خَمْسِينَ بَابًا». هذا الكتاب لا أَدْرِي هَلْ هُوَ مَطْبُوعٌ أم لا؟ وهذا الْكِتَابُ الذي يُشِيرُ إِلَيْهِ أنَّهُ جَمَعَ فِيهِ مَا يَتَعَلَّقُ بالرُّؤْيَةِ، وجميع أبوابِ السُّنَّةِ، وأنَّهُ أَتَى فِي هَذَا الْكِتَابِ بِجُمْلَةٍ كَافِيَةٍ.
| المتن |
بَابٌ فِي ذِكْرِ الصَّحَابَةِ
147- أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْحَمَّامِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ الْخُطَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: السُّنَّةُ فِي التَّفْضِيلِ الَّذِي نَذْهَبُ إِلَيْهِ إِلَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، نَقُولُ: أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ.
فَأَمَّا الْخِلَافَةُ: فَنَذْهَبُ إِلَى حَدِيثِ سَفِينَةَ؛ يَعْنِي عَنِ النَّبِيِّ -عليه الصلاة والسلام-: الخِلَافَةُ فِي أُمَّتِي ثَلَاثُونَ سَنَةً. ([26]). فَنَقُولُ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ.
فِي الْخُلَفَاءِ نَسْتَعْمِلُ الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا.
قَالَ سَفِينَةُ: «فَخُذْ سَنَتَيْنِ أَبُو بَكْرٍ، وَعَشْرٍ عُمَرُ، وَثِنْتَيْ عَشْرَةَ عُثْمَانُ، وَسِتٍّ عَلِيٌّ -رضي الله عنهم أجمعين-»([27]).
| الشرح |
خَتَمَ المُؤَلِّفُ -رحمه الله- كِتَابَهُ بِبَابٍ فِي ذِكْرِ الصَّحَابَةِ ، وأَحْسَنَ المُؤَلِّفُ -رحمه الله- إذ خَتَمَ كِتَابَهُ بِهَذَا البابِ العَظِيمِ الَّذِي أَوْرَدَ فِيهِ طَائِفَةً من النُّصُوصِ الدَّالَةِ على فَضْلِ الصَّحَابَةِ -رضي الله عنهم وأرضاهم- ولا سِيَّمَا الخلفاءُ الرَّاشِدُونَ الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعَلي، ثم بقية العشرة -رضي الله عنهم أجمعين-، ولا شَكَّ أَنَّ الكلامَ في الصحابة كلامٌ عَظِيمٌ، وأنَّ أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ يَعْتَقِدُونَ فَضْلَ الصَّحَابَةِ، كما دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ من كتابِ الله وسُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ في فضل الصحابة.
الصحابةُ أفْضَلُ النَّاسِ بعدَ الأنْبِيَاءِ، اخْتارَهُمُ اللهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ، هُمُ الذِينَ نَقَلُوا إِلَيْنَا الشَّرِيعَةَ، وحَمَلُوهَا، وجَاهَدُوا في الله؛ جَاهَدُوا مع رَسُولِ الله ﷺ ونَشَرُوا دِينَ الله، وصَحِبُوا رَسُولَ الله، والقُرْآنُ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ، ويَسْمَعُونَ كَلَامَ النَّبِيِّ ﷺ ويَسْأَلُونَ عَمَّا أَشْكَلَ عليهم؛ فلَهُمْ مَزِيَّةٌ وفَضْلٌ عَلَى الأُمَّةِ؛ ولهَذَا فإنَّ كلَّ من أَلَّفَ في كُتُبِ العَقَائدِ يَذْكُرُ الصَّحَابَةَ، ويجعل لهُمْ فَصْلًا يُبَيِّنُ فَضْلَهُمْ ومَزِيَّتَهُمْ وبَيانَ مَرَاتِبِهِمْ، وأنَّ أفْضَلَهُمُ الخلفاءُ الرَّاشِدُونَ، ثُمَّ بَقِيَّةُ العَشَرَةِ، ثُمَّ أَهْلُ بَدْرٍ، أو أَهْلُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ.
وقَدْ رُوِي عن مَالكِ بنِ أَنَسٍ أنه قال: «كَانَ السَّلَفُ يُعَلِّمُونَ أَوْلَادَهُمْ حُبَّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ كَمَا يُعَلِّمُونَ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ»([28]). رَوَاهُ اللالَكَائِيُّ في (شرح أصول اعتقاد أهلِ السُّنَّةِ).
ولا يخلو كِتَابٌ من كُتُبِ العَقَائِدِ إِلَّا وفِيهِ ذِكْرُ الصَّحَابَةِ.
نقل المؤلف عن عبد الله أنه قَالَ: «سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: السُّنَّةُ فِي التَّفْضِيلِ الَّذِي نَذْهَبُ إِلَيْهِ إِلَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، نَقُولُ: أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ». هَذَا هُوَ الصَّوَابُ؛ فأَفْضَلُ الصَّحَابَةِ الخلفاءُ الرَّاشِدُونَ الأَرْبَعَةُ، وأنَّ تَرْتِيبَهُمْ في الفَضِيلَةِ كَتَرْتِيبِهِمْ في الخِلَافَةِ؛ أفْضَلُهُمْ أبو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ.
ورُوِيَ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ أنَّه قَدَّمَ في إحدى الروايتين عليًّا عَلَى عُثْمَانَ، وفي الخِلَافَةِ قَدَّمَ عثمانَ على عَلِيٍّ. ورُوِيَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ، ووافق جَمِاهِيرَ أهْلِ السُّنَّةِ؛ فيكون إجماعا من أهلِ السُّنَّةِ أنَّ أفضلَ الناسِ بعدَ الأنبياءِ أبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ، وأنَّ تَرْتِيبَهُمْ في الفَضِيلَةِ كتَرْتِيبِهِمْ في الخِلَافَةِ.
إنَّ أهلَ السُّنَّة يَعْتَرِفُونَ لهم بالخِلَافَةِ، وأنَّ خِلَافَتَهُمْ حَقٌّ، والسُّنَّةُ دَلَّتْ على هَذَا، كما قال النَّبِيُّ ﷺ: الخِلَافَةُ فِي أُمَّتِي ثَلَاثُونَ سَنَةً.
يقول الإمام أحمد: «فَنَقُولُ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، فِي الْخُلَفَاءِ نَسْتَعْمِلُ الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا. قَالَ سَفِينَةُ: فَخُذْ سَنَتَيْنِ-يُرِيدُ أَنْ يَعُدَّ ثَلَاثِينَ- أَبُو بَكْرٍ، وَعَشْرٍ عُمَرُ، -هَذِهِ اثْنَا عَشَر- وَثِنْتَيْ عَشْرَةَ عُثْمَانُ، -هَذِهِ تَكُونُ أربعًا وعِشْرِين-، وَسِتٍّ عَلِيٌّ -هَذِه ثَلَاثُونَ-». وهَذَا العَدُّ مَبْنِيٌّ على حَذْفِ الكَسْرِ، وإلا فَخِلَافَةُ أبي بكر سَنَتَانِ وأربعةُ أَشْهُرٍ، وخِلَافَةُ عُمَر عَشْرُ سِنِينَ ونِصْفُ، وخِلَافَةُ عثمانَ اثْنَتَا عَشَرَةَ، وخِلَافَةُ عَلِيٍّ أرْبَعُ سِنِينَ، وبعده السِّتَّةُ أَشْهُرٍ التِي تولى فيها الحسنُ بنُ عَلِيٍّ؛ بعدها تَنَازَلَ بالخِلَافَةِ لمعَاوِيَةَ بِشَرْطِ حَقْنِ دِمَاءِ المسلمين؛ فهذا يُوافِقُ حديثَ النَّبِيِّ ﷺ الخِلَافَةُ فِي أُمَّتِي ثَلَاثُونَ سَنَةً.
وحَدِيثُ سَفِينَةَ هَذَا رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ، وعبدُ الله بن أَحْمَدَ في (السُّنَّةِ).
| المتن |
148- وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الله، قَالَ: سَأَلْتُ أَبِي عَنِ الشَّهَادَةِ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ هُمَا فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأَذْهَبُ إِلَى حَدِيثِ سَعِيدِ بنِ زَيْدٍ قَالَ: «أَشْهَدُ أنَّ النَّبِيَّ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ التِّسْعَةُ، وَالنَّبِيُّ عَاشِرُهُمْ»([29]). وَقَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: «لَوْ كُنْتُ شَاهِدًا لِأَحَدٍ حَيٍّ أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ لَشَهِدْتُ لِعَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ»([30]). قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ. الْآيَةَ، وَقَالَ: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ الْآيَةَ.
قُلْتُ لِأَبِي: فَإِنْ قَالَ: أَنَا أَقُولُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي الْجَنَّةِ، وَلَا أَشْهَدُ. قَالَ: يُقَالُ لَهُ: هَذَا الَّذِي تَقُولُ حَقٌّ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، يُقُالُ لَهُ: أَلَا تَشْهَدُ عَلَى الْحَقِّ؟ وَالشَّهَادَةُ هِيَ الْقَوْلُ، وَلَا تَشْهَدُ حَتَّى تَقُولَ، فَإِذَا قَالَ شَهِدَ([31]).
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: الْجَنَّةُ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ، ثَمَانُونَ مِنْهَا مِنْ أُمَّتِي. ([32]). إذَا لَمْ يَكُنْ أَصْحَابُ رَسُولِ الله ﷺ مِنْهُمْ فَمَنْ يَكُونُ؟!»([33]).
| الشرح |
هَذَا الحَدِيثُ رَوَاهُ عبدُ الله عنِ الإِمَامِ أحمدَ أَنَّهُ قَالَ: «سَأَلْتُ أَبِي عَنِ الشَّهَادَةِ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ هُمَا فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأَذْهَبُ إِلَى حَدِيثِ سَعِيدِ بنِ زيدٍ قَالَ: «أَشْهَدُ أنَّ النَّبِيَّ فِي الْجَنَّةِ».
وكَذَلِكَ بَقِيَّةُ العَشَرَةِ في الحَدِيثِ الآخَرِ الَّذِي قَالَ: عَشَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ: النَّبِيُّ فِي الْجَنَّةِ، وَأَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَطَلْحَةُ فِي الْجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي الْجَنَّةِ، وَلَوْ شِئْتُ لَسَمَّيْتُ الْعَاشِرَ، قَالَ: فَقَالُوا: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ. ([34]). فَعَدَّ العَشَرَةَ.
وَقَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: «لَوْ كُنْتُ شَاهِدًا لِأَحَدٍ حَيٍّ أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ لَشَهِدْتُ لِعَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ». وقد جاءت الرواية، تَدُلُّ على هذا، وهو حديث: «كَانَ الرَّجُلُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، إِذَا رَأَى رُؤْيَا، قَصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَرَى رُؤْيَا أَقُصُّهَا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: وَكُنْتُ غُلَامًا شَابًّا عَزَبًا، وَكُنْتُ أَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِي فَذَهَبَا بِي إِلَى النَّارِ، فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ الْبِئْرِ، وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ كَقَرْنَيِ الْبِئْرِ، وَإِذَا فِيهَا نَاسٌ قَدْ عَرَفْتُهُمْ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ النَّارِ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ النَّارِ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ النَّارِ، قَالَ فَلَقِيَهُمَا مَلَكٌ فَقَالَ لِي: لَمْ تُرَعْ، فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ، عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ. قَالَ سَالِمٌ ابنه: فَكَانَ عَبْدُ اللهِ، بَعْدَ ذَلِكَ، لَا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا([35]). فَظَاهِرُهُ أنَّ النَّبِيَّ شَهِدَ لَهُ بالجَنَّةِ.
«قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ. هَذِهِ تَزكِيَةٌ وشَهَادَةٌ لجَمِيعِ الصَّحَابَةِ السابقينَ مِنَ المُهَاجِرينَ والأنصارِ.
«وقال: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ الآية.» هَذِه الآية فِي أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، وكَانُوا أَلْفًا وأَرْبَعَمِائَةٍ.
قالَ عَبْدُ الله: «قُلْتُ لِأَبِي: فَإِنْ قَالَ: أَنَا أَقُولُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي الْجَنَّةِ، وَلَا أَشْهَدُ. قَالَ: يُقَالُ لَهُ: هَذَا الَّذِي تَقُولُ حَقٌّ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، يُقُالُ لَهُ: أَلَا تَشْهَدُ عَلَى الْحَقِّ؟ وَالشَّهَادَةُ هِيَ الْقَوْلُ، وَلَا تَشْهَدُ حَتَّى تَقُولَ، فَإِذَا قَالَ شَهِدَ».
فهَذَا كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ، إذا كُنْتَ تَقُولُ: إنَّهُ فِي الجَنَّةِ؛ فهَذِهِ هِيَ الشَّهَادَةُ، ولهذا جاء في رد الإمام إن هذا جاهل.
وفي الحديث الآخر: الْجَنَّةُ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ، ثَمَانُونَ مِنْهَا مِنْ أُمَّتِي. ([36]). وهَذَا الحَديثُ رَوَاه ابنُ الخَلَّالِ في السُّنَّةِ([37])، أي إن الأمة ثُلُثَا أَهْلِ الجَنَّةِ.
وقد جاءَ في الصَّحِيحَيْنِ أن النَّبِيَّ ﷺ قال: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الجَنَّةِ فَكَبَّرْنَا، فَقَالَ: أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الجَنَّةِ فَكَبَّرْنَا، فَقَالَ: أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الجَنَّةِ فَكَبَّرْنَا(1) . لَكِنْ جاء فِي غَيْرِ الصَّحِيحَيْنِ أن هذه الأمة ثُلُثَا أهلِ الجَنَّةِ([38]).
| المتن |
149- وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الله، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو، وَابْنِ الْمُنْكَدِرِ، سَمِعَا جَابِرًا، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَرَأَيْتُ قَصْرًا، فَقُلْتُ لِمَنْ هَذَا؟ قَالُوا: لِعُمَرَ. ([39]).
وَرَوَى حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ نَحْوَهُ([40]).
وَالزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ. رَوَاهُ صَالِحُ بنُ كَيْسَانَ أَوْ غَيْرُهُ.
وَمَا يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَأْذَنَ، فَقَالَ: ائِذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ. ([41]). لِأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، فَتَكُونُ بُشْراهُ إِلَّا حَقًّا.
وَرَوَى أَنَسٌ وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي أُحُدٍ: اسُكْنُ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ، وَصِدِّيقٌ، وَشَهِيدَانِ. ([42]).
| الشرح |
هذه الأَحَادِيثُ في فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ.
الحديث الأول: هو حديث جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَرَأَيْتُ قَصْرًا، فَقُلْتُ لِمَنْ هَذَا؟ قَالُوا: لِعُمَرَ. هَذَا الحَدِيثُ رَوَاهُ الشيخان البخاري ومسلم، وفِيهِ:
أولا: الشَّهَادَةُ لِعُمَرَ بالجَنَّةِ.
ثانيا: الرَّدُّ عَلَى الرَّافِضَةِ الذين يُكَفِّرُونَ الصَّحَابَةَ، ويُكَفِّرُونَ عُمَرَ وأبَا بَكْرٍ، ويَسُبُّونَهُمْ، قَبَّحَهُمُ اللهُ.
«وَرَوَى حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ نَحْوَهُ». رَوَاهُ أحمدُ والتِّرْمِذِيُّ وقالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
«وَالزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ.
والحديث الثاني: «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَأْذَنَ، فَقَالَ: ائِذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ. لِأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ». رَوَاهُ الشيخان البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ من حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ: «كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ المَدِينَةِ فَجَاءَ رَجُلٌ فَاسْتَفْتَحَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ فَفَتَحْتُ لَهُ، فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ، فَبَشَّرْتُهُ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ، فَحَمِدَ الله، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ فَاسْتَفْتَحَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ، فَفَتَحْتُ لَهُ فَإِذَا هُوَ عُمَرُ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ، فَحَمِدَ الله، ثُمَّ اسْتَفْتَحَ رَجُلٌ، فَقَالَ لِي: افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ، عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ، فَإِذَا عُثْمَانُ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ رَسُولُ الله ﷺ فَحَمِدَ الله، ثُمَّ قَالَ: اللهُ المُسْتَعَانُ»([43]).
هذا الحديث صحيح رواه الشيخان.
وفيه من الفوائد:
الأولى: الشَّهَادَةُ لِلثَّلَاثَةِ بالجَنَّةِ.
الثانية: الرَّدُّ عَلَى الرَّافِضَةِ الذِينَ يَسُبُّونَ الثلاثةَ، ويَبْغَضُونَهُمْ ويَذُمُّونَهُمْ، ويَتَكَلَّمُونَ فيهم بِكَلَامٍ شَدِيدٍ، ويحْكُونَ القِصَصَ المَكْذُوبَةَ؛ قبَّحَهُمُ اللهُ وأَخْزَاهُمْ.
الحديث الثالث: حديث أَنَس وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي أُحُدٍ: اسُكْنُ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ، وَصِدِّيقٌ، وَشَهِيدَانِ. ([44]). والحديثُ رَوَاهُ البخاري من حَدِيثِ أَنَسٍ، ورَوَاهُ ابنُ أبي عَاصِمٍ في (السُّنَّةِ)([45]).
| المتن |
| الشرح |
هَذَا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَوَاهُ الإمامُ أحمدُ، والتِّرْمِذِيُّ، وابنُ حِبَّان، والبَغَوِيُّ في (شَرْح السُّنَّةِ) ، وإسنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، فَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وهو حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وفيه:
الشَّهَادَةُ لِلْعَشَرَةِ المُبَشَّرِينَ بالجَنَّةِ.
الرَّدُّ على الرَّافِضَةِ الَّذِينَ يَتَنَقَّصُونَهُمْ، ويَبْخَسُونَهُمْ حَقَّهُمْ، بَلْ يَسُبُّونَهُمْ ويُكَفِّرُونَهُمْ، وهذا يدل على شِدَّةِ بُغْضِهِمْ لهُمْ.
| المتن |
| الشرح |
، وهَؤلاءِ العَشَرَةُ المُبَشَّرُونَ بالجَنَّةِ نَظَمَ الحَافِظُ ابن حَجَرٍ أسماءَهُمْ؛ في بَيْتَيْنِ فَقَالَ([48]):
لَقَدْ بَشَّـرَ الهَادِي مِنَ الصَّحْبِ عَشْرَةً | بِجَنَّــاتِ عَـْدنٍ كُـلُّهُمْ قَـدْرُهُ عَلِـيّ |
عَتِيـقٌ سَعِيدٌ سَـعْدُ عُثْمَـانُ طَلْحَةُ | زُبَيْرُ ابْنُ عَـوْفٍ عَـامِرٌ عُمَـُر وَعَلِيّ |
عَتِيقٌ هو: أبُو بَكْرٍ.
وهَذَا الحَدِيثُ فِيهِ بعضُ الضَّعْفِ؛ رَوَاهُ العُقَيْلِيُّ في (الضُّعَفَاءِ)، وابنُ عَسَاكِرَ في (تَارِيخِهِ)، وفي سَنَدِهِ البَشِيرُ بنُ زَاذَانَ ضَعَّفَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وغَيْرُهُ، واتَّهَمَهُ ابنُ الجَوْزِيِّ وقال: إنَّهُ ليسَ بِشَيْءٍ.
وفي سَنَدِهِ أَيْضًا عُمَرُ بنُ الصُّبح؛ قال فيه الذهبي: هَالِكٌ.
ولكنَّ الحَدِيثَ لَهُ شَوَاهِد؛ وفِيهِ ضَعْفٌ مِنْ جِهَةِ هَذِهِ الأَوْصَافِ؛ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ أَرْأَفُ أُمَّتِي وَأَرْحَمُهَا، وَعُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ خَيْرُ أُمَّتِي وَأَعْدَلُهَا، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَحْيَا أُمَّتِي وَأَكْرَمُهَا، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَلَبُّ أُمَّتِي وَأَسْمَحُهَا، وَعَبْدُ الله بْنُ مَسْعُودٍ أَبَرُّ أُمَّتِي وَآمَنُهَا، وَأَبُو ذَرٍّ أَزْهَدُ أُمَّتِي وَأَصْدَقُهَا، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ أَعْبَدُ أُمَّتِي وَأَبْقَاهَا، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ أَحْلَمُ أُمَّتِي وَأَجْوَدُهَا.
فَضَائِلُ الصَّحَابَةِ مَعْرُوفَةٌ؛ ولَوْ لَمْ يَكُنْ في ذَلِكَ إِلَّا النُّصُوصُ والآيات القرآنية التي فِيهَا: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. ثُمَّ قَالَ: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى. والحُسْنَى في الآية: الجَنَةُّ، فكُلُّ الصَّحَابَةِ وَعَدَهُمُ اللهُ بالجَنَّةِ.
| المتن |
| الشرح |
هَذَا الحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ من طَرِيقِ عبدِ الوَهَّابِ بن عطاء، وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. والحديثُ حسَّنَهُ الألباني في صحيح سنن الترمذي. ([50])
وهذا الحديث فيه فَضْلُ العَبَّاسِ وولده؛ وهُوَ مِنْ آلِ البَيْتِ ، وهو عَمُّ النَّبِيِّ ﷺ.
| المتن |
153- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ خَلَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَمِلَ بِكُلِّ كَبِيرَةٍ، ثُمَّ مَاتَ وَسَلِمَ مِنْهُ أَصْحَابُ رَسُولِ الله وَمَاتَ عَلَى السُّنَّةِ؛ حُشِرَ مَعَ النَّبِيِيِّنَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ.
تَمَّ الْكِتَابُ بِحَمْدِ الله وَمَنِّهِ فِي مُسَتَهَلِّ جُمَادَى الآخِرَةِ مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ، وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ، وَنَفَعَنَا بِهِ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ إِنْ شَاءَ اللهُ.
| الشرح |
هَذَا الحَدِيثُ مَوْقُوفٌ على مَالكِ بنِ أَنَسٍ -رحمه الله- إمامِ دَارِ الهِجْرَةِ قَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَمِلَ بِكُلِّ كَبِيرَةٍ، ثُمَّ مَاتَ وَسَلِمَ مِنْهُ أَصْحَابُ رَسُولِ الله وَمَاتَ عَلَى السُّنَّةِ؛ حُشِرَ مَعَ النَّبِيِيِّنَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ.
المَعْنَى أَنَّ حُبَّ الصَّحَابَةِ هَذَا لَا شَكَّ أنَّهُ أَمْرٌ صَالِحٌ، فمَحَبَّةُ النَّبِيِّ ﷺ ومَحَبَّةُ أصْحَابِهِ من الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ الرَّافِضَةِ، الذِينَ في قُلُوبِهِمْ غِلٌّ لأصْحَابِ رَسُولِ الله ﷺ، يَسُبُّونَهُمْ ويُكَفِّرُونَهُمْ ويُفَسِّقُونَهُمْ، ويَذْكُرُونَ القِصَصَ الشَّنِيعَةَ في أبي بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمَانَ؛ قَبَّحَ اللهُ الرَّافِضَةُ.
مَحَبَّةُ الصَّحَابَةِ دِينٌ يَدِينُ الله بِهِ؛ يكون المسلمُ مُوَحِّدًا، لا يُشْرِكُ بالله شَيْئًا، ويُحِبُّ الرَّسُولَ ﷺ، والصَّحَابَةَ والتابعين، ولَوْ صَدَرَتْ مِنْه بَعْضُ المَعَاصِي.
المَعَاصِي تَحْتَ مَشِيئَةِ الله، وقَدْ تَكُونُ هَذِهِ السِّيِّئَاتُ قَدْ تَغْفِرُ مِنَ الحَسَنَاتِ العَظِيمَةِ، كَمَا جاءَ في قِصَّةِ البَغِيِّ التي سَقَتْ كَلْبًا؛ فغَفَرَ اللهُ لهَا(1)؛ فَكَذَلِكَ الإنسانُ إذا كان مُحِبًّا لِلصَّحَابَةِ، ويُقَدِّرُهُمْ، ويَرَى لهُمْ فَضْلًا، فإنَّ هَذِهِ الحَسَنَةَ عَظِيمَةٌ يُرْجَى لَهُ بِهَا المَغْفِرَةُ.
ثم قال المؤلف -رحمه الله-: «تَمَّ الْكِتَابُ بِحَمْدِ الله وَمَنِّهِ فِي مُسَتَهَلِّ جُمَادَى الآخِرَةِ مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ».
هَذَا تَحْدِيدٌ لسنة تَأْلِيفِ الْكِتَابِ.
«وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ». خَتَمَ المُؤَلِّفُ-رحمه الله- الكِتَابَ بِمَا ابْتَدَأَ بِهِ؛ فإنه ابْتَدَأَ بـ«الحَمْدُ للَّهِ رَبِّ العَالمِينَ». وختم بـ«الحَمْدُ للَّهِ رَبِّ العَالمِينَ».
والحَمْدُ: هُوَ الثَّنَاءُ عَلَى المَحْمُودِ للصِّفَاتِ الاخْتِيَارِيَّةِ، مع حُبِّه وإِجْلَالِهِ وتَعْظِيمِهِ، وهُوَ أَكْمَلُ مِنَ المَدْحِ، و"الـ" للاسْتِغْرَاقِ، والمعنى: جَمِيعُ أَنْوَاعِ المَحَامِدِ مُسْتَحَقَّةٌ كُلُّهَا لِلَّهِ.
«وَصَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ». ثُمَّ خَتَمَ بِالصَّلَاةِ والسلامِ على النَّبِيِّ.
الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ هي: ثَنَاءُ الله عَلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ؛ وهُوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ كما ثبت في الحديث الصحيح أنه قال: أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ. ([51]). ومُحَمَّدٌ اسمٌ من أسْمَائِهِ؛ أَلْهَمَ اللهُ أهْلَهُ بهذا الاسم لِكَثْرَةِ مُحَامِدِهِ، وله أسماءٌ كَثِيرةٌ: مُحَمَّدٌ، وأَحْمَدُ، والحَاشِرُ، والعاقب، واسْمُهُ في التَّوَرَاةِ أَحْمَدُ، قالَ اللهُ عن عيسى : وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ. العَاقِبُ؛ لأنَّهُ ليسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ، ويُسَمَّى الحَاشِرَ؛ لأنَّهُ يُحْشَرُ النَّاسُ على قَدَمِهِ، وهُوَ لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ.
«وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ». آلُهُ قِيلَ: المُرَادُ بِهِمْ أَهْلُ بَيْتِهِ المُؤْمِنُونَ، ويدخْلُ في ذَلِكَ زَوْجَاتُهُ، وأَقْارِبُهُ: الحَسَنُ، والحُسَيْنُ، وفَاطِمَةُ، وعَلِيٌّ، والعَبَّاسُ.
وقِيلَ: أَتْبَاعُهُ على دِينِهِ، وهَذَا هو الصَّوَابُ. فَدُخُولُ الأَوَّلِينَ الطَّاهِرِينَ الَّذِينَ طَهَّرَهُمْ من الرِّجْسِ في قول: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا.
وهَذِهِ إِرَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ، والمرادُ: أَهْلُ بَيْتِهِ المُؤْمِنونَ، ويخرج مِنْ أهلِ البَيْتِ مَنْ كَفَرَ مِثْل: أَبِي لَهَب.
ثُمَّ قَالَ: «وَنَفَعَنَا بِهِ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ».
مَا المُرَادُ بِقَوْلِهِ: نَفَعَنَا بِهِ؟ هَلِ الضَّمِيرُ يَعُودُ إلى النَّبِيِّ ﷺ؛ أي: نَفَعَنَا اللهُ بِمَحْبَّتِهِ؟
يُحْتَمَلُ أن يكون المقصود: نَفَعَنَا اللهُ بِمَحَبَّةِ النَّبِيِّ ﷺ والصَّحَابَةِ، ويحتمل أن يكونَ المقصودُ: نَفَعَنَا بِهَذَا الكِتَابِ وجَمِيعَ المُسْلِمِين.
ثُمَّ قَالَ: «إِنْ شَاءَ اللهُ». قُلْنَا: إنَّ تَرْكَ التَّقْيِيدِ بالمَشِيئَةِ هُوَ الصحيح، لا يَنْبَغِي أنْ نُقَيِّدَ، بل نقولُ: نَفَعَنَا اللهُ؛ يَجْزِمُ الإنسانُ فَلَا يَسْتَثْنِي؛ لقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ لا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، اللهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، لِيَعْزِمِ المَسْأَلَةَ، فَإِنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ. ([52]).
| الحواشي |
[1] - أخرجه الترمذي : أَبْوَابُ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ ، باب ومن سورة هود ، رقم (3109) ، وابن ماجة : المقدمة ، بَابٌ فِيمَا أَنْكَرَتِ الْجَهْمِيَّةُ ، رقم (182) .
[2]- انظر تأويل مختلف الحديث ( 1/323) .
([3]) انظر: السلسلة الضعيفة (11/500).
[4] - أخرجه مسلم : كتاب الْأَلْفَاظِ مِنَ الْأَدَبِ وَغَيْرِهَا ،رقم (2246).
([5]) أخرجه مسلم : كتاب الْأَلْفَاظِ مِنَ الْأَدَبِ وَغَيْرِهَا ،رقم ( 2246).
([6]) انظر: مقامات الحريري (ص 202).
([7]) انظر: البيت في علوم البلاغة (1/355).
[8] - سبق تخريجه .
([9]) انظر: شرح النووي على مسلم (17/3).
([10]) أخرجه البخاري: كِتَابُ القَدَرِ ، بَابُ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ، رقم (6610)، ومسلم: كتاب الذكر، رقم (2704).
([11]) أخرجه مسلم: كتاب الصلاة، رقم (482).
[12] - أخرجه أحمد في مسنده (27314) ، وقال الهيثمي في المجمع رجاله ثقات .
[13] - أخرجه البخاري : كِتَابُ الأَذَانِ ، بَابٌ: يَهْوِي بِالتَّكْبِيرِ حِينَ يَسْجُدُ ،رقم (804) ،ومسلم : كِتَابُ الْمَسَاجِدِ وَمَوَاضِعِ الصَّلَاةَ ، رقم (675).
[14] - أخرجه الديلمي في الفردوس (2/159/2806) .
([15]) انظر: درء تعارض العقل والنقل (3/384).
([16]) انظر: التدمرية (ص 71).
[17] - تقدم تخريجه .
([18]) تقدم تخريجه.
[19]- أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (16/455/1977) بلفظ الصَّدَقَةُ تَدْفَعُ الْقَضَاءَ السُّوءَ.
([20]) أخرجه الترمذي: كتاب الزكاة، باب ما جاء في فضل الصدقة، رقم (664).
([21]) أخرجه مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، رقم (2889).
([22]) أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قول الله –تعالى-: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27]، رقم (3191).
([23]) انظر: درء تعارض العقل والنقل (5/237).
([24]) انظر: النص الكامل للعواصم من القواصم (ص 210).
([25]) تقدم تخريجه.
[26] - أخرجه أبو داود : كتاب السنة ، بَابٌ فِي الْخُلَفَاءِ ، رقم (4646)،والترمذي :أبواب الفتن ، بَابُ مَا جَاءَ فِي الخِلَافَةِ ، رقم (2226) ، وقال هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
[27] - أخرجه أحمد في فضائل الصحابة : (1/488/790) ، وعبد الله بن أحمد في السنة (2/591/1402) .
([28]) أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (7/1313).
[29] - أخرجه أبو داود : كتاب السنة ، بَابٌ فِي الْخُلَفَاءِ ،رقم (4649) ، وابن ماجة :المقدمة ، فضائل العشرة ، رقم (133) .
[30] - أخرجه الحاكم في المستدرك (3/644/6366) ،والخلال في السنة :(2/363/492) .
[31] - أخرجه الخلال في السنة :(2/365/497) .
[32] - أخرجه الترمذي : أَبْوَابُ صِفَةِ الْجَنَّةِ ، بَابُ مَا جَاءَ فِي صَفِّ أَهْلِ الجَنَّةِ ، رقم (2546) ،وابن ماجة :كتاب الزهد ، بَابُ صِفَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ ، رقم (4289) .
[33] - أخرجه الخلال في السنة :(2/365/497) .
[34] - سبق تخريجه .
([35]) أخرجه البخاري: كتاب أصحاب النبي ﷺ، بَابُ مَنَاقِبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، رقم (3739)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة، رقم (2479).
([36]) أخرجه الترمذي: كتاب صفة الجنة، باب ما جاء في صف أهل الجنة، رقم (2546)، وابن ماجه: كتاب الزهد، باب صفة أمة محمد ﷺ، رقم (4289).
([37]) أخرجه أبو بكر بن الخلال في السنة (2/365).
(1) أخرجه البخاري: كِتَابُ أَحَادِيثِ الأَنْبِيَاءِ ، بَابُ قِصَّةِ يَأْجُوجَ، وَمَأْجُوجَ ، رقم (3348)، ومسلم: كتاب الإيمان، رقم (222).
([38]) أخرجه الحميدي (2/80/ 853).
[39] - أخرجه البخاري : كِتَابُ النِّكَاحِ ،بَابُ الغَيْرَةِ ،رقم (5226) ،ومسلم : كتاب فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ ،رقم (2394) .
[40] - أخرجه الترمذي: أبواب المناقب، رقم (3688) وقال «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ» .
[41] - أخرجه البخاري: كتاب أصحاب النبي –ﷺ-، باب قول النبي ﷺ: لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا، رقم (3674)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة، رقم (2403).
[42] - أخرجه البخاري: كِتَابُ أصحاب النبي ﷺ، بَابُ مَنَاقِبِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَبِي عَمْرٍو القُرَشِيِّ ، رقم (3699) .
([43]) سبق تخريجه مختصراً .
([44]) سبق تخريجه .
([45]) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (2/621/ 1437).
[46] - أخرجه الترمذي: أبواب المناقب، بَابُ مَنَاقِبِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ عَوْفٍ الزُّهْرِيِّ ، رقم (3747) .
[47] - أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (13/365/1437) .
([48]) انظر: اليواقيت والدرر شرح نخبة الفكر (1/169).
[49] - أخرجه الترمذي :أبواب المناقب ،رقم (3762) .
[50]- انظر صحيح سنن الترمذي للألباني (8/262) .
(1) أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه، فإن في إحدى جناحيه داء وفي الأخرى شفاء، رقم (3143)، ومسلم: كتاب السلام، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها، رقم (2245).
([51]) أخرجه مسلم: كتاب الفضائل، باب تفضيل نبينا على جميع الخلائق، رقم (2278).
([52]) تقدم تخريجه.