بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(المتن)
قال الإمام أبو داود رحمه الله تعالى:
باب ما جاء في وقت النفساء: حدثنا أحمد بن يونس أخبرنا زهير أخبرنا علي بن عبد الأعلى عن أبي سهل عن مسة عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كانت النفساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تقعد بعد نفاسها أربعين يومًا أو أربعين ليلة، وكنا نطلي على وجوهنا الورس، تعني من الكلف.
(الشرح)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد على آله وصحبه أجمعين أما بعد.
هذا الحديث وهو حديث أم سلمة رضي الله عنها في وقت النفساء, وفي سنده مسة وهي أم بسة، قال فيها في التقريب: مقبولة الأزدية الثالثة، قال الحافظ في البلوغ: الحديث رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الحاكم، وقال الخطابي حديث مسة أثنى عليه البخاري، وقال النووي في المجموع: إنه حديث حسن، ثم قال بعد ذلك: الحديث جيد، وقال ابن القيم رحمه الله: روى عنها، أي مسة: أبو سهل كثير بن زيد والحكم بن عتيبة ومحمد بن عبد الله العرزمي وزيد بن علي بن الحسين.
وقال الحاكم عن هذا الحديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، فالحديث حسن، وهو دليل على أن النفساء تجلس أربعين يومًا، فإن استمر الدم بعدها فهو دم فساد، فتغتسل بعد الأربعين وتصلي وتصوم، إلا إذا وافق عادتها قبل النفاس فإنها تجلس عادتها.
والنفاس: جمع نفس، بفتح الفاء المعجمة، ودم النفاس دم حيض، احتبس في وقت الحمل، لكن لو انقطع الدم لعشرة أيام أو خمسة أيام أو أقل أو أكثر فإنها تغتسل وتصلي، وذكر الفقهاء شيئًا نادرًا فقالوا: لو ولدت بدون دم فما الحكم؟ فالمقصود أن دم النفاس نهايته أربعين يومًا كما دل عليه هذا الحديث وهو حديث حسن، ولو انقطع قبل ذلك فإنها تغتسل وتصوم وتصلي، فإن عاد الدم في الأربعين فإنها تجلس.
قال بعض العلماء: أكثر مدة النفاس خمسين يومًا، وقال بعضهم: ستين يومًا، والصواب ما دل عليه الحديث أن أكثر مدة النفاس أربعين يومًا.
وقولها: (كنا نطلي على وجوهنا الورس) الورس: نبت أصفر يكون في اليمن، وورس الثوب، أو التوريس يعني: صبغه، (بالكلف) يعني: من أجل الكلف، وهو لون يعلو الوجه من السواد إلى الحمرة، أو تكون حمرة وكدرة تعلو الوجه, والحديث أخرجه الترمذي وابن ماجة.
الطالب: ما حكم دم المرأة النفاس بعد الأربعين يومًا؟.
الشيخ: دم النفاس إن وافق عادتها بعد الأربعين اليوم فهو حيض، وإلا فهو دم استحاضة فتتلجم وتتحفظ وتصوم وتصلي.
(المتن)
حدثنا الحسن بن يحيى أخبرنا محمد بن حاتم يعني حبي أخبرنا عبد الله بن المبارك عن يونس بن نافع عن كثير بن زياد قال: حدثتني الأزدية يعني مسة قالت: حججت فدخلت على أم سلمة رضي الله عنها فقلت: يا أم المؤمنين! إن سمرة بن جندب رضي الله عنه يأمر النساء يقضين صلاة المحيض، فقالت: لا يقضين، كانت المرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم تقعد في النفاس أربعين ليلة لا يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بقضاء صلاة النفاس.
قال محمد يعني ابن حاتم: واسمها مسة تكنى أم بسة.
قال أبو داود: كثير بن زياد كنيته أبو سهل.
(الشرح)
وهذا هو الصواب أن النفساء والحائض لا يقضيان الصلاة، وهذا بإجماع أهل العلم خالف في ذلك الخوارج، وقالوا: إنها تقضي الصلاة وهذا باطل, واشتهر هذا عن الخوارج
ولهذا لما جاءت امرأة تستفتي عائشة رضي الله عنها ولم تحسن السؤال، فقالت: «ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: كنا على عهد رسول الله نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة»، والخوارج يرون أنه لا فرق بين الصلاة وبين الصوم؛ لأنهم لا يعملون بالسنة.
(المتن)
باب الاغتسال من الحيض.
حدثنا محمد بن عمرو الرازي حدثنا سلمة يعني ابن الفضل أخبرنا محمد يعني ابن إسحاق عن سليمان بن سحيم عن أمية بنت أبي الصلت عن امرأة من بني غفار قد سماها لي قالت: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم على حقيبة رحله، قالت: فوالله لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبح فأناخ ونزلت عن حقيبة رحله فإذا بها دم مني، وكانت أول حيضة حضتها، قالت: فتقبضت إلى الناقة واستحييت، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بي ورأى الدم قال: «ما لك لعلك نفست؟ قلت: نعم، قال: فأصلحي من نفسك ثم خذي إناء من ماء فاطرحي فيه ملحًا، ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم، ثم عودي لمركبك» قالت: فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر رضخ لنا من الفيء، قالت: وكانت لا تطهر من حيضة إلا جعلت في طهورها ملحًا، وأوصت به أن يجعل في غسلها حين ماتت.
(الشرح)
وهذا الحديث ضعيف، في سنده محمد بن إسحاق وهو مدلس وقد عنعن، وفي سنده أيضًا أمية بنت أبي الصلت وهي مجهولة لا تُعرف.
وأما قوله: (عن امرأة من بني غفار) فلا تضر جهالتها؛ لأنها صحابية، قيل: إنها امرأة أبي ذر واسمها ليلى، لكن هذا الحديث لا يصح، وقد يقال: إن في متنه نكارة، وهو أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أردفها خلفه، لكن لو صح فهو دليل على جواز إركاب المرأة وإردافها خلف الرجل على الدابة مع الركب المسافرين، وهذا لا يعتبر خلوة، لكنه لا يصح، وهذا بخلاف إركاب المرأة وحدها في السيارة، فإن فيه خلوة؛ لأن سائق السيارة يذهب بها إلى حيث شاء، لكن إن كان معهما رجل أو امرأة تؤمن فتنتهما؛ فإنها تزول بذلك الخلوة، أما سفر المرأة وهي على البعير مع المسافرين، وهم عن يمينها وعن شمالها وعن خلفها فلا يكون ذلك خلوة.
لكن الحديث لا يصح, ولو صح لكان فيه أن الملح إذا وضع مع الماء فإنه يزيل الدم، وقد يزيله، وكذلك إذا وضع في البالوعة، فإنه يشقق الصفا والحجر حتى يبتلع الماء ويدخل فيه، والملح ليس طعامًا.
(المتن)
حدثنا عثمان بن أبي شيبة أخبرنا سلام بن سليم عن إبراهيم بن مهاجر عن صفية بنت شيبة عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت أسماء رضي الله عنها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «يا رسول الله! كيف تغتسل إحدانا إذا طهرت من المحيض؟ قال: تأخذ سدرها وماءها فتوضأ ثم تغسل رأسها وتدلكه حتى يبلغ الماء أصول شعرها، ثم تفيض على جسدها ثم تأخذ فرصتها فتطهر بها، قالت: يا رسول الله! كيف أتطهر بها؟ قالت عائشة رضي الله عنها: فعرفت الذي يكني عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لها: تتبعين آثار الدم».
(الشرح)
هذا الحديث سبق, أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة وفيه بيان كيفية اغتسال المرأة من الحيض, وقوله صلى الله عليه وسلم: («تأخذ سدرها وماءها فتوضأ ثم تغسل رأسها»)، استعمال السدر من باب النظافة، وإلا فالماء كاف؛ فالسدر وسيلة تنظيف، ومثله استعمال والأشنان الصابون.
وقوله: («حتى يبلغ الماء أصول شعرها»)، يعني: حتى يبلغ الماء البشرة.
وقوله: («ثم تفيض على جسدها، ثم تأخذ فرصة تتطهر بها») يعني: قطعة من القطن مطلية بالمسك، وتتبع بها أثر الدم لإزالة ما يكون من الروائح، وهذا من باب النظافة وإلا فالواجب هو الغسل.
قوله: («تغسل رأسها وتدلكه حتى يبلغ الماء أصول شعرها») المهم أنَّ الماء يبلغ أصول الشعر، وسبق أن نقض شعر المرأة لغسل الجنابة والحيض هو من باب الاستحباب، ولا يلزم نقض الشعر.
والفرصة: قطعة من القماش أو من القطن مطلية بالمسك، ولما لم تعرف أسماء كيف تطهر بالفرصة، وتتبع بها أثر الدم، قالت لها عائشة: تتبعي أثر الدم في الفرصة المطلية بالمسك.
(المتن)
حدثنا مسدد بن مسرهد أخبرنا أبو عوانة عن إبراهيم بن مهاجر.
(الشرح)
إبراهيم بن مهاجر هو ابن جابر البجلي، صدوق لين الحفظ، قال فيه ابن القطان: ليس بالقوي، وقال أحمد: لا بأس به.
(المتن)
حدثنا مسدد بن مسرهد أخبرنا أبو عوانة عن إبراهيم بن مهاجر عن صفية بنت شيبة عن عائشة رضي الله عنها: أنها ذكرت نساء الأنصار فأثنت عليهن وقالت لهن معروفًا.
وقالت: دخلت امرأة منهن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر معناه، إلا أنه قال: فرصة ممسكة.
قال مسدد: كان أبو عوانة يقول: فرصة، وكان أبو الأحوص يقول: قِرصة.
(الشرح)
(قِرصة أو فِرصة) أيْ: قطعة من القماش، والقرصة هي التي تؤخذ بطرف الأصبعين، يقال: قرصة ويقال فرصة، أي: قطعة من الصوف، أو من القطن، أو من القماش، يكون فيها شيء من الطيب يتتبع بها أثر الدم.
(المتن)
حدثنا عبيد الله بن معاذ أخبرنا أبي أخبرنا شعبة عن إبراهيم يعني ابن مهاجر عن صفية بنت شيبة عن عائشة رضي الله عنها، أن أسماء رضي الله عنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه قال: فِرصة ممسكة، فقالت كيف أتطهر بها؟ قال: سبحان الله! تطهري بها، واستتَرَ بثوب، وزاد: وسألته عن الغسل من الجنابة، قال: تأخذين ماءك فتطهرين أحسن الطهور وأبلغه، ثم تصبين على رأسك الماء، ثم تدلكينه حتى يبلغ شئون رأسك، ثم تفيضين عليك الماء.
وقالت عائشة رضي الله عنها: نعم النساء نساء الأنصار، لم يكن يمنعهن الحياء أن يسألن عن الدين وأن يتفقهن فيه.
(الشرح)
وكذلك ينبغي ألا يمنع الإنسانَ من التفقه في دينه والسؤال عما أشكل عليه، ولذلك بوب البخاري رحمه الله وقال: "باب لا ينال العلم مستح ولا مستكبر"، فالمستحي لا ينال العلم بل يبقى على جهله، وكذلك الذي يتكبر ولا يجلس مع الطلبة، أو يشمخ بأنفه ولا يسأل أهل العلم، ومن لم يذل لطلب العلم، تجرع مرارة الجهل طول الحياة، ولا ينال العلم مستح ولا مستكبر.
ولهذا أثنت عائشة رضي الله عنها على نساء الأنصار، فقالت: «نعم النساء نساء الأنصار، لم يكن يمنعهن الحياء أن يسألن عن الدين وأن يتفقهن فيه».
وهذا حديث صفية بنت شيبة قيل: إن لها رؤية، وقيل: إنها صحابية، وقيل: ليست صحابية، وفيه: أن هذا من باب الكمال، وهو أن تأخذ فرصة ممسكة وتتطهر بها، وفيه: أنها تصب على رأسها الماء، وتدلكه حتى تبلغ شئون رأسها حتى تبلل، أما نقض الشعر فلا يجوز، لكن يستحب لها أن تنقض شعرها في النفاس لأن مدة النفاس تطول بخلاف الجنابة, والحديث كما سبق أخرجه الشيخان.
(المتن)
باب التيمم.
حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي أخبرنا أبو معاوية ح وحدثنا عثمان بن أبي شيبة أخبرنا عبدة المعنى واحد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أسيد بن حضير رضي الله عنه وأناسًا معه في طلب قلادة أضلتها عائشة رضي الله عنها، فحضرت الصلاة فصلوا بغير وضوء، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فأُنزلت آية التيمم.
زاد ابن نفيل فقال لها أسيد رضي الله عنه: يرحمك الله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله للمسلمين ولك فيه فرجًا.
(الشرح)
التيمم في اللغة: هو القصد, وفي الشرع: القصد إلى الصعيد لمسح الوجه واليدين بينة استباحة الصلاة وغيرها مما يُشرع له الوضوء.
والتيمم ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، وهو خصيصة هذه الأمة خص الله تعالى به هذه الأمة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي، وذكر منها: وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل»، وهذا الحديث أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يرتحل، ولكنه أقام لأجل التماس القلادة عائشة فبعث رجالًا يطلبونه ويبحثون عنه, وفيه: دليل على أن الإمام يراعي الرعية ويلاحظ حوائجهم، وفيه: أن المال لا يُضاع؛ لأن المال عصب الحياة، وتقوم به مصالح الدنيا والآخرة، ولهذا قال الله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا}[النساء/5].
ولهذا فقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم لالتماس عقد عائشة، وأرسل رجالًا يطلبونه فلم يجدوه، وحضرت الصلاة فصلوا بغير وضوء، وذلك قبل أن يُشرع التيمم، وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم، فدل هذا على أن من فقد الماء والتراب فإنه يصلي وصلاته صحيحه في أصح أقوال أهل العلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بإعادة الصلاة وقد صلوا بغير ماء ولا تيمم.
فمن لم يجد الماء ولا التراب، فإنه يصلي وصلاته صحيحه، كالمحبوس في مكان ليس فيه تراب ولا ماء، والمصلوب على الخشبة، والمريض في المستشفى ليس عنده أحد ويخشى خروج الوقت فإنه يصلي على حسب حاله؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التغابن/16].
فلم يجدوه، ثم بعد ذلك لما أقاموا البعير وجدوا العقد تحته، فدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، ولو كان يعلم الغيب ما أرسل جماعة يبحثون عنه وهو تحت البعير.
وفيه أن أسيد قال: (يرحمك الله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله للمسلين ولك فيه فرجًا) وفي لفظ البخاري: «ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر»، ففيه دليل على جواز القول لشخص: هذا من بركتك، أي: من البركة التي جعلها الله فيك، خاصة إذا كان شخص مبارك، مثل آل أبي بكر فإنهم مباركون، أو مثلما يقول بعضهم: كلك بركة، أي: إذا كان الشخص معروف، وكان فيه خير ينفع الناس بشفاعته أو بماله أو ببدنه أو بتوجيهه.
وأحاديث التيمم كلها تدور على حديث عمار وأنه ضربة واحدة للوجه والكفين, أما ما ورد في التيمم من أنه ضربتان كما سيأتي، وأنه تمسح بإحداهما اليدان إلى الآباط أو المرافق فهذا محمول على أنه اجتهاد من الصحابة، أو أن ذلك كان في أول الأمر، ثم نسخ بحديث عمار وأمثاله الدال على أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين.
(المتن)
حدثنا أحمد بن صالح أخبرنا عبد الله بن وهب حدثني يونس عن ابن شهاب قال: إن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة حدثه عن عمار بن ياسر رضي الله عنه: أنه كان يحدث أنهم تمسحوا وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصعيد لصلاة الفجر، فضربوا بأكفهم الصعيد ثم مسحوا بوجوههم مسحة واحدة، ثم عادوا فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى، فمسحوا بأيديهم كلها إلى المناكب والآباط، من بطون أيديهم.
(الشرح)
الحديث أصله في الصحيحين كما سبق في حديث عمار، أما كونهم مسحوا أيديهم إلى المناكب والآباط، وكونهم أيضًا ضربوا ضربتين ضربة للوجه وضربة للكفين، فهذا محمول على أنه من اجتهادهم، وقياسهم في أول الأمر، فلما بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم علموا كيفية التيمم.
أو أنه مسوخ بحديث عمار في الصحيحين أن التيمم ضربة واحدة تمسح بها الوجه والكفين فقط، أما الصحابة الذين صلوا بغير وضوء، فالصواب أنه لا يجب عليهم إعادة الصلاة، وقال بعض أهل العلم: عليهم إعادة الصلاة مرة أخرى, وقال آخرون: تجب الإعادة, وقال آخرون: تستحب الإعادة, والصواب: أنه لا يجب الإعادة.
(المتن)
حدثنا سليمان بن داود المهري وعبد الملك بن شعيب عن ابن وهب نحو هذا الحديث قال: قام المسلمون فضربوا بأكفهم التراب، ولم يقبضوا من التراب شيئًا، فذكر نحوه ولم يذكر المناكب والآباط, قال ابن الليث: إلى ما فوق المرفقين.
(الشرح)
هذا حديث منقطع؛ لأن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة لم يدرك عمار بن ياسر، لكن أخرجه النسائي وابن ماجة مختصرًا من حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبيه عن عمار، لكن هذا فيه انقطاع لكن روي موصولًا عن عبد الله بن عتبة عن أبيه عن عمار, وعلى هذا فيكون لو صح حديث الضربتين فإنه من فعلهم, وكذلك أيضًا قول ابن الليث: إلى ما فوق المرفقين.
(المتن)
حدثنا محمد بن أحمد بن أبي خلف ومحمد بن يحيى النيسابوري في آخرين قالوا: أخبرنا يعقوب أخبرنا أبي عن صالح عن ابن شهاب حدثني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن عمار بن ياسر رضي الله عنهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرس بأولات الجيش ومعه عائشة رضي الله عنها، فانقطع عقد لها من جزع ظفار: فحبس الناس ابتغاء عقدها ذلك حتى أضاء الفجر وليس مع الناس ماء، فتغيظ عليها أبو بكر رضي الله عنه وقال: حبستِ الناس وليس معهم ماء، فأنزل الله تعالى ذكره على رسوله صلى الله عليه وسلم رخصة التطهر بالصعيد الطيب، فقام المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضربوا بأيديهم إلى الأرض، ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئًا، فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب ومن بطون أيديهم إلى الآباط.
زاد ابن يحيى في حديثه: قال ابن شهاب في حديثه: ولا يعتبر بهذا الناس.
(الشرح)
وهذا الحديث ثابت أصله في الصحيحين بدون زيادة مسح إلى المناكب والآباط.
والتعريس هو: نزول المسافر آخر الليل للاستراحة، والعقد الذي لـعائشة من جزع ظفار، وهو خرز فيه سواد وبياض، وظفار بلدة في سواحل اليمن تأتي منها هذه الخرزات.
وفي هذا الحديث أن الله تعالى أنزل آية التيمم في هذه القصة، والتيمم التطهر بالصعيد، فقام المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربوا بأيديهم إلى الأرض ثم رفعوا أيديهم ولم يأخذوا من التراب شيئًا؛ المقصود ما يعلق باليدين من التراب، أما كونهم مسحوا وجوههم وأيديهم إلى المناكب ومن بطون الأيدي إلى الآباط، فهذا كما سبق إما من اجتهادهم، ثم بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم، أو أنه منسوخ، ولهذا قال ابن يحيى قال ابن شهاب في حديثه: لا يعتبر بهذا الناس، أيْ: (لا يعتبرون بهذا الحديث ولا يأخذون به، ولم يذهب أحد إلى أنَّ التيمم إلى الآباط والمناكب) فلا يعمل بالتيمم إلى الآباط والمناكب.
(المتن)
قال أبو داود: وكذلك رواه ابن إسحاق، قال فيه عن ابن عباس رضي الله عنهما: وذكر ضربتين كما ذكر يونس، ورواه معمر عن الزهري ضربتين.
وقال مالك عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبيه عن عمار.
وكذلك قال أبو أويس عن الزهري.
وشك فيه ابن عيينة قال مرة: عن عبيد الله عن أبيه، أو عن عبيد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما، مرة قال: عن أبيه، ومرة قال: عن ابن عباس، اضطرب ابن عيينة فيه وفي سماعه من الزهري ولم يذكر أحد منهم في هذا الحديث الضربتين إلا من سميت.
(الشرح)
والاضطراب في اصطلاح المحدثين: هو الذي يروى على أوجه مختلفة متقاربة من راو واحد مرتين أو أكثر، أو من راويين أو من رواة، قد يقع الاضطراب تارة في الإسناد وتارة في المتن، ويقع في الإسناد والمتن معًا من راو واحد أو من راويين أو جماعة.
والاضطراب موجب لضعف الحديث، لإشعاره بعدم الضبط، ولهذا اضطرب ابن عيينة فمرة قال: عن عبيد الله بن عبد الله عن أبيه عن عمار، ومرة قال: عن عبيد الله عن ابن عباس.
قال أبو داود: (اضطرب ابن عيينة فيه وفي سماعه من الزهري) فدل على أن حديث الضربتين لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك المسح إلى المناكب والآباط، ولو صح فهو محمول على أن هذا من فعلهم، ولم يأمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم.
(المتن)
حدثنا محمد بن سليمان الأنباري أخبرنا أبو معاوية الضرير عن الأعمش عن شقيق قال: كنت جالسًا بين عبد الله وأبي موسى رضي الله عنهما، فقال أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن! أرأيت لو أن رجلًا أجنب فلم يجد الماء شهرًا أما كان يتيمم؟ قال: لا، وإن لم يجد الماء شهرًا.
فقال أبو موسى رضي الله عنه: فكيف تصنعون بهذه الآية التي في سورة المائدة: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}[النساء/43]؟ فقال عبد الله: لو رخص لهم في هذا لأوشكوا إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا بالصعيد.
فقال له أبو موسى: وإنما كرهتم هذا لهذا؟ قال: نعم، فقال له أبو موسى: ألم تسمع قول عمار لـعمر رضي الله عنهما: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت، فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تتمرغ الدابة، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا، فضرب بيده على الأرض فنفضها، ثم ضرب بشماله على يمينه وبيمينه على شماله على الكفين ثم مسح وجهه، فقال له عبد الله: أفلم تر عمر لم يقنع بقول عمار.
(الشرح)
وهذا الحديث أخرجه الشيخان والنسائي، وهذه القصة التي حصلت بين عبد الله بن مسعود وأبي موسى الأشعري هي في الصحيحين، وفيها أن أبا موسى رضي الله عنه يرى أن الإنسان إذا لم يجد الماء فإنه يتيمم، وأن عبد الله بن مسعود يرى أنه لا يتيمم حَتَّى يجد الماء وإن لم يجد الماء شهرًا، وهذا من العجائب فـعبد الله بن مسعود من كبار الصحابة وفضلائهم وخفيت عليه هذه الآية ولم يتذكرها، وهي قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}[النساء/43].
مع أن أبا موسى ذكره بها فقال: فكيف تصنعون بهذه الآية؟ التي في سورة المائدة: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}[النساء/43]، فقال عبد الله: (لو رخص لهم في هذا لأوشكوا إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا بالصعيد) يعني: لو رخص للناس حصل تساهل، فلو برد الماء تيمموا، ولهذا قال أبو موسى: (إنما كرهتم هذا لهذا، قال: نعم) ثم ذكره بحديث عمار أيضًا، فقال له أبو موسى: ألم تسمع قول عمار لـعمر: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة فأجنبت فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تتمرغ الدابة) وهذا قياس من عمار للتيمم على غسل الجنابة أي: كما أن الجنب يعمم جسده بالماء، ظن عمار رضي الله عنه أنه يجب تعميم البدن أيضًا بالتراب، فلهذا نزع ثيابه وتمرغ كما تتمرغ الدابة.
أما عمر فإنه جلس ولم يتيمم ولم يصلي، ثم قال عمار: (ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: إنما يكفيك أن تصنع هكذا، فضرب بيديه الأرض ثم مسح وجهه وكفيه) وهذا هو الأصل في التيمم، لكن مع ذلك قال عبد الله بن مسعود: (ألم تر عمر لم يقنع بقول عمار؟!) ولا زال الأمر مشكلًا على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وهذا يدل على أن العالم الكبير قد يشكل عليه بعض المسائل، وقد يخفى عليه بعض العلم، وهو دليل على أن العالم ليس بمعصوم، فقد يخطئ وقد يغلط، وإذا أخطأ العالم أو غيره فلا حجة في قوله، فالحجة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذه الرواية فيها: أنه ضرب بشماله على يمينه وبيمينه على شماله ثم مسح وجهه، وفيها: أنه أخر مسح الوجه، لكن كلمة (ثم) فيها نظر، والمعروف في حديث عمار وفي الأحاديث الأخرى تقديم مسح الوجه على الكفين، والترتيب في بعض الروايات: «فمسح وجهه ثم مسح يديه» فيحتمل أن هذه اللفظة وهم من بعض الرواة؛ لأن ثم تفيد الترتيب، والمعروف في الأحاديث الصحيحة تقديم مسح الوجه على الكفين.
وهذا الحديث فيه دليل على أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين، وفيه أنه يقتصر على الكفين، والكفان إلى الرسغ وهو مفصل ما بين الكف والساعد، وهذه هي اليد إذا أطلقت فهي التي تقطع في السرقة، أما مسح المرفقين إلى الآباط أو إلى المنكبين فهذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما فعله بعض الصحابة اجتهادًا منهم، وفي بعضه كما سبق اضطراب، وكذلك ما جاء في الضربتين فإنَّ فيه اضطراب، فلا يصح ومن فعل ذلك فهو اجتهاد.
الطالب: (....).
الشيخ: وباطن الكف وظاهره يطلق عليهما كف.
(المتن)
حدثنا محمد بن كثير العبدي أخبرنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن أبي مالك عن عبد الرحمن بن أبزى قال: كنت عند عمر رضي الله عنه، فجاءه رجل فقال: إنا نكون بالمكان الشهر أو الشهرين، فقال عمر رضي الله عنه: أما أنا فلم أكن أصلي حتى أجد الماء.
قال: فقال عمار رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين! أما تذكر إذ كنت أنا وأنت في الإبل فأصابتنا جنابة، فأما أنا فتمعكت، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال: إنما كان يكفيك أن تقول هكذا، وضرب بيديه إلى الأرض، ثم نفخهما ثم مسح بهما وجهه ويديه إلى نصف الذراع.
قال عمر رضي الله عنه: يا عمار! اتق الله، فقال: يا أمير المؤمنين! إن شئت والله لم أذكره أبدًا، فقال عمر رضي الله عنه: كلا والله لنولينك من ذلك ما توليت.
(الشرح)
هذا الحديث أصله في الصحيحين أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة مختصرًا ومطولًا، لكن بدون إلى نصف الذراع، وإنما فيه مسح وجهه وكفيه، وهذه القصة التي حصلت مع عمار وعمر كالقصة التي حصلت مع عبد الله بن مسعود وأبي موسى الأشعري، وأشكل الأمر على عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع جلالة قدره وفضله وطول باعه في العلم والفضل ولكن الكمال لله عز وجل.
(فجاءه رجل فقال: إنا نكون بالمكان الشهر أو الشهرين، فقال عمر رضي الله عنه: أما أنا فلم أكن أصلي حتى أجد الماء.
قال: فقال عمار رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين! أما تذكر إذ كنت أنا وأنت في الإبل فأصابتنا جنابة، فأما أنا فتمعكت، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال: إنما كان يكفيك أن تقول هكذا، وضرب بيديه إلى الأرض، ثم نفخهما) نفخهما لتخفيف الغبار, ليس المقصود تلطيخ الإنسان بالغبار, إنما المقصود الامتثال، ولا بد أن يمسح بيديه وجهه وكفيه، لقوله صلى الله عليه وسلم: (ثم مسح بهما وجهه ويديه).
وقوله: (إلى نصف الذراع) هذه الزيادة ليست في الصحيحين، ولكن عمر نسي وذكره عمار ولم يتذكر واستمر على نسيانه؛ ولهذا قال له: يا عمار اتق الله، فقال: يا أمير المؤمنين إن شئت والله لا أذكره أبدًا.
وفي الصحيح: (إن شئت تركته ولا أحدث به الناس) وفيه دليل على طاعة ولي الأمر؛ لأن عمر هو ولي الأمر وهو أمير المؤمنين، وفيه دليل على طاعة ولي الأمر في غير معصية الله وليس في هذا كتمان للعلم؛ لأن هذه السنة قد حدث بها عمار وحدث بها غيره فهي ثابتة.
فقال: يا أمير المؤمنين إن شئت والله لم أذكره، أي: أتركه ولم أحدث به؛ لأن طاعتك واجبه، وأصل تبليغ هذه السنة قد حصل، ولكن عمر لم يوافقه على الكتمان، فقال عمر: كلا والله، وفي الصحيحين قال: (نوليك من ذلك ما توليت) يعني: نرد إليك وننسب إليك ما رضيت به لنفسك ما دام وأنت متثبت من هذا الشيء، فهذا موكول إليك، وأنت مسئول عنه.
وعمر استمر في نسيانه مع أن القصة والحادثة وقعت لهما جميعًا لكن عمر نسي، ففيه دليل على أن من حفظ حجة على من لم يحفظ، وأن من تذكر مقدم على من نسي، ومن جهل شيئًا من العلم، فإنه يقدم عليه من بلغه هذا العلم.
وفيه دليل على أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين عن الجنابة، وأن التيمم للحدث الأكبر وللحدث الأصغر واحد وهو ضربة واحدة يمسح بها وجهه وكفيه، لقوله: (ثم مسح بهما وجهه ويديه) والواو قد تكون للترتيب، لكن الوجه مقدم، وجاء في بعض الروايات أنه مسح وجهه ثم يديه، والله تعالى يقول: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ}[النساء/43] وقدم الوجه على اليدين.
الطالب: (....).
الشيخ: (....) الله تعالى يقول: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}[البقرة/282].
(المتن)
حدثنا محمد بن العلاء أخبرنا حفص أخبرنا الأعمش عن سلمة بن كهيل عن ابن أبزى عن عمار بن ياسر رضي الله عنه في هذا الحديث فقال: يا عمار! إنما كان يكفيك هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض، ثم ضرب إحداهما على الأخرى ثم مسح وجهه والذراعين إلى نصف الساعدين ولم يبلغ المرفقين ضربة واحدة.
(الشرح)
قوله: (ثم مسح وجهه والذراعين إلى نصف الساعدين ولم يبلغ المرفقين) هذا ليس من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو من فعل بعض الصحابة، أو أنه وهم، والثابت في الصحيحين وغيرهما أنها ضربة واحدة يمسح بها الوجه والكفين.
(المتن)
قال أبو داود: ورواه وكيع عن الأعمش عن سلمة بن كهيل عن عبد الرحمن بن أبزى.
ورواه جرير عن الأعمش عن سلمة عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى يعني عن أبيه.
(الشرح)
يعني: رواية وكيع عن سلمة بن كهيل عن عبد الرحمن بن أبزى فقط، ورواية جرير عن الأعمش عن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه، ولعل عبد الرحمن بن أبزى سمع من أبيه وسمع القصة من عمار.
الطالب: (....).
الشيخ: وهذه الرواية فيها اضطراب كما قال المؤلف: اضطرب ابن عيينة فيه، وفيه سماعه من الزهري: ولم يذكر أحد منهم في هذا الحديث الضربتين، وكذلك أيضًا قال المؤلف: ذكر الضربتين كما ذكر يونس، ورواه معمر عن الزهري ضربتين، وقال مالك عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبيه عن عمار، وكذلك قال أبو أويس: عن الزهري: وشك فيه ابن عيينة قال مرة: عن عبيد الله عن أبيه، ومرة عن عبيد الله عن ابن عباس، ومرة عن أبيه، ومرة قال ابن عباس فهذا اضطراب.
الطالب: (....).
الشيخ: ما صح فهو محمول على أن هذا من فعل الصحابة فعلوا ذلك من أنفسهم اجتهادًا منهم، ثم بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك.
(المتن)
حدثنا محمد بن بشار أخبرنا محمد يعني: ابن جعفر أخبرنا شعبة عن سلمة عن ذر عن ابن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن عمار رضي الله عنه بهذه القصة، فقال: «إنما كان يكفيك، وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى الأرض، ثم نفخ فيها ومسح بها وجهه وكفيه»، شك سلمة قال: لا أدري فيه إلى المرفقين يعني أو إلى الكفين.
(الشرح)
والصواب: إلى الكفين، كما بينت الأحاديث أنه إلى الكفين.
وفيه هنا: ابن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه، فمرة يروي عن عمار ومرة يروي عن أبيه، فيروي عن عمار في الحديث الأول، وهنا يروي عن أبيه، ولا محظور في ذلك، فله شيخان: أبوه، وعمار.
(المتن)
حدثنا علي بن سهل الرملي أخبرنا حجاج يعني: الأعور حدثني شعبة بإسناده بهذا الحديث قال: (ثم نفخ فيها ومسح بها وجهه وكفيه إلى المرفقين أو الذراعين) قال شعبة: كان سلمة يقول: الكفين والوجه والذراعين، وقال له منصور ذات يوم: انظر ما تقول؛ فإنه لا يذكر الذراعين غيرك.
(الشرح)
يعني: أنت منفرد من بين أصحاب ذر بن عبد الله في ذكر الذراعين، وهذا يدل على أنها وهم منه، فـشعبة يقول: كان سلمة يقول: (الكفين والوجه والذراعين، فقال له منصور ذات يوم: انظر ما تقول؛ لأنه لا يذكر الذراعين غيرك) يعني: أنت منفرد بذكرها من بين أصحاب ذر بن عبد الله فدل على أنه وهم؛ لأن أصحاب ذر لم يذكروا الذراعين فدل على أنه وهم منه.
(المتن)
حدثنا مسدد أخبرنا يحيى عن شعبة حدثني الحكم عن ذر عن ابن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن عمار في هذا الحديث قال: فقال: يعني: النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك إلى الأرض وتمسح بها وجهك وكفيك» وساق الحديث.
(الشرح)
«تمسح بوجهك وكفيك» هذا هو الثابت في الصحيحين.
(المتن)
قال أبو داود: ورواه شعبة عن حصين عن أبي مالك قال: سمعت عمارًا يخطب بمثله إلا أنه قال: لم ينفخ، وذكر حسين بن محمد عن شعبة عن الحكم في هذا الحديث قال: فضرب بكفيه إلى الأرض ونفخ.
(الشرح)
والنفخ إذا كان التراب كثير فلا بأس.
(المتن)
حدثنا محمد بن المنهال أخبرنا يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة عن عزرة عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن التيمم، فأمرني ضربة واحدة للوجه والكفين.
(الشرح)
وفيه دليل صريح على الاقتصار في التيمم على الوجه والكفين، وأنه ضربة واحدة، وأن ما زاد على الكعبين ليس مشروعًا، ولهذا ذهب المحققون من أهل العلم إلى الاكتفاء بضربة واحدة للوجه والكفين، وذهب بعض العلماء إلى أن التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين.
قد ورد في بعض الأحاديث ذكر الضربتين، وأخذ بهذا بعض أهل العلم، إلا أن المعتمد هو حديث عمار؛ لأنه في الصحيحين، وهو أقوى سندًا من غيره.
الطالب: (....).
الشيخ: معروف حد الوجه طولًا من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من الذقن واللحية، يعني: كل ما يظهر أمام الإنسان وعرضًا من الأذن إلى الأذن, ما أقبل من الوجه وما ظهر مثل في الوضوء.
الطالب: (....).
الشيخ: والصعيد هو: وجه الأرض، وقوله تعالى: {تَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}[النساء/43]، اختلف العلماء في المراد بالصعيد: فمن العلماء من قال: إنه خاص بالتراب.
ومنهم من قال: إنه عام.
وسيأتي في الحديث الآتي والذي بعده، وقد تكلم الشارح على الصعيد.
(المتن)
حدثنا موسى بن إسماعيل أخبرنا أبان قال: سئل قتادة عن التيمم في السفر؟ فقال: حدثني محدث عن الشعبي عن عبد الرحمن بن أبزى عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إلى المرفقين.
(الشرح)
وهذا ضعيف؛ في إسناده رجل مجهول، فلا يثبت لفظ: إلى المرفقين، فرواية: إلى المرافقين غير ثابتة؛ لأن هذا الحديث فيه مجهول.
(المتن)
باب: التيمم في الحضر.
حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث حدثني أبي عن جدي عن جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز عن عمير مولى ابن عباس أنه سمعه يقول: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم، حتى دخلنا على أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري رضي الله عنه فقال أبو جهيم: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أتى على جدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام.
(الشرح)
وهذا الحديث أخرجه البخاري والنسائي، وأخرجه مسلم منقطعًا من الآثار المنقطعة، وحديث أبي جهيم هذا وحديث عمار هما أصح ما ورد في التيمم.
قوله: (بئر جمل) موضع الدخول بالمدينة.
قال أبو جهيم: (أقبل الرسول صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه السلام، حتى أتى على جدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام) وذلك لأن السلام اسم من أسماء الله، وهو ذكر، فالنبي صلى الله عليه وسلم كره أن يذكر الله إلا على طهر ولهذا تيمم؛ ولما كان الماء بعيدًا عنه تيمم؛ لأجل أن يذكر الله، وإلا فإنه يجوز أن يرد السلام وليس على وضوء ولا حرج؛ لحديث عائشة في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه) لكن هذا من باب الاستحباب والتيمم على الجدار جائز إذا كان فيه غبار.
قال النووي رحمه الله: إن حديث أبي جهيم هذا محمول على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عادمًا للماء حال التيمم، أي: ليس عنده ماء؛ فلهذا تيمم على الجدار، ووافقه الحافظ ابن حجر قال: إن هذا مقتضى صنيع البخاري.
والنووي استدل بهذا على جواز التيمم في الحضر إذا كان عادمًا للماء، لكن الحافظ ابن حجر تعقبه وقال: إنه ورد على سبب، وهو إرادة ذكر الله، ولم يجزه استباحة الصلاة، ما أراد استباحة الصلاة وإنما أراد به ذكر الله حتى يكون على طهر، وهذا من باب الاستحباب.
لكن بعضهم أجابوا وأخذوا من هذا أنه لما كان التيمم في الحضر لرد السلام مع جوازه، فإن من خشي فوات الصلاة في الحضر جاز له التيمم من طريق أولى، لكن هذا ليس بشيء، وفيه نظر، والذي يظهر أنه لابد من الوضوء في الحضر للصلاة، فإذا كان واجدًا للماء فلابد أن يتوضأ، ولابد أن يأتي بشرط الطهارة، ولو خشي فوات الوقت ما دام الماء موجود؛ لقول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}[النساء/43]، هذا هو الصواب.
والنبي صلى الله عليه وسلم إنما تيمم لا ليصلي وإنما ليذكر الله، فلا يقاس عليه التيمم للصلاة؛ لأن التيمم للأمر المستحب أقل من التيمم للأمر الواجب، فلا يقاس عليه التيمم لأجل الصلاة، لكن إذا قيل: إن الماء بعيد، وإنه عادمًا للماء في هذه الحالة فلا إشكال، فلو كان يريد الصلاة لتأخر حتى يصل إلى الماء ويتوضأ، لكنه عليه الصلاة والسلام تيمم لأجل رد السلام؛ لأن هذا يفوت، والتيمم في الحضر لو فقد الماء لا بأس؛ لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}[النساء/43].
والمؤلف رحمه الله استدل بهذه القصة على التيمم في الحضر، والتيمم في الحضر لا بأس به للصلاة، إذا عدم الماء، قال عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التغابن/16] فيتيمم ولو في الحضر، لكن الغالب أن فقد الماء يكون في غير الحضر.
أما الاستدلال بهذا الحديث على أنه يتيمم الإنسان لخوف فوات الفريضة، أو لخوف صلاة الجماعة، أو لخوف فوات الجمعة، كما استدل به بعضهم فليس بجيد، والصواب: أنه لا يتيمم في الحضر، إذا خشي فوات صلاة الجمعة أو الجماعة أو الجنازة أو خوف فوات الوقت ما دام الماء موجودًا، لكن لو فقد الماء بالمرة وليس في المكان ماء فالصواب أنه مشروع فيتيمم؛ لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}[النساء/43].
(المتن)
حدثنا أحمد بن إبراهيم الموصلي أبو علي أخبرنا محمد بن ثابت العبدي أخبرنا نافع قال: انطلقت مع ابن عمر رضي الله عنهما في حاجة إلى ابن عباس رضي الله عنهما ، فقضى ابن عمر حاجته، فكان من حديثه يومئذٍ أن قال: مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سكة من السكك وقد خرج من غائط أو بول، فسلم عليه فلم يرد عليه، حتى إذا كاد الرجل أن يتوارى في السكة فضرب بيديه على الحائط ومسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه، ثم رد على الرجل السلام وقال: إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أني لم أكن على طهر.
(الشرح)
السكة هي: الشارع الصغير، ويسمى زقاقًا.
وهذا الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سكة من السكك، وقد خرج لقضاء الحاجة في البلد في شارع من الشوارع، فسلم عليه هذا الرجل فلم يرد عليه حَتَّى كاد أن يتوارى تيمم النبي صلى الله عليه وسلم وضرب بيديه على الحائط ومسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى ومسح ذراعيه ورد عليه السلام, وفيه أنه ضرب ضربتان في هذا وأنه في البلد لكن هذا الحديث ضعيف جدًا لا يحتج به؛ فيه محمد بن ثابت العبدي ضعيف.
فلا يحتج بهذا الحديث على التيمم في الحضر مع وجود الماء، ولا يصح رفع الضربتين، بل الثقات الحفاظ رووه من فعل ابن عمر.
قال الذهبي: يُنكر عليه حديث ابن عمر في التيمم لا غير؛ لأنه عليه الصلاة والسلام تيمم لرد السلام، والصواب: أنه موقوف على ابن عمر.
وكذلك قوله: (ضرب ضربتان) فالتيمم في الحضر مع وجود الماء لا يجوز.
أما الحديث السابق فإنه عادم للماء؛ لأنه أقبل من نحو بئر جمل، وبئر جمل مكان ليس بقرب المدينة، وليس عنده ماء فتيمم لرد السلام، أما هذا فكان في وسط البلد في سكة من سكك المدينة، فلا يصح هذا الحديث، ولا يصح لفظ: الضربتين.
(المتن)
قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول: روى محمد بن ثابت حديثًا منكرًا في التيمم.
(الشرح)
أبو داود يقول: (سمعت أحمد بن حنبل رحمه الله يقول) روى محمد بن ثابت حديثًا منكرًا في التيمم، وهو هذا الحديث والنكارة فيه من جهتين: من جهة تيممه مع وجود الماء، ومن جهة كون التيمم ضربتين, لم يثبت عن النبي وإنما هذا من فعل ابن عمر.
(المتن)
قال ابن داسة قال أبو داود: لم يتابع محمد بن ثابت في هذه القصة على ضربتين عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورووه فعل ابن عمر.
(الشرح)
أبو داود يقول: لم يتابع محمد بن ثابت في هذه القصة على ضربتين، بل تفرد بذكر الضربتين مع كونه ضعيفًا لا يحتج بحديثه، ورووه يعني: الثقات من فعل ابن عمر لا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فالصواب أنه موقوف على فعل ابن عمر, ويكون هذا اجتهاد منه رضي الله عنه.
(المتن)
حدثنا جعفر بن مسافر أخبرنا عبد الله بن يحيى البرلُّسي أخبرنا حيوة بن شريح عن ابن الهادي أن نافعًا حدثه عن ابن عمر رضي الله عنه قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغائط، فلقيه رجل عند بئر جمل فسلم عليه، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أقبل على الحائط، فوضع يده على الحائط، ثم مسح وجهه ويديه، ثم رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرجل السلام.
(الشرح)
هذا الحديث حسن لا بأس بسنده، ومعناه معنى الحديث السابق رواه الشيخان، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه رجل عند بئر جمل، وهو مكان قرب المدينة ما عنده ماء، فسلم عليه الرجل فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم، عليه السلام حتى تيمم ثم رد عليه السلام, وفي لفظ قال: «كرهت أن أذكر الله إلا على طهر»، فهنا تيمم لرد السلام وليس عنده ماء، وليس فيه أنه تيمم للصلاة, فلا بأس بالتيمم في الحضر إذا فقد الماء.
(المتن)
باب: الجنب يتيمم.
حدثنا عمرو بن عون أخبرنا خالد ح وحدثنا مسدد أخبرنا خالد يعني: ابن عبد الله الواسطي عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن عمرو بن بجدان عن أبي ذر رضي الله عنه قال: اجتمعت غنيمة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا ذر! ابد فيها، فبدوت إلى الربذة، فكانت تصيبني الجنابة فأمكث الخمس والست، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبو ذر؟ فسكت، فقال: ثكلتك أمك أبا ذر! لأمك الويل، فدعا لي بجارية سوداء، فجاءت بعس فيه ماء، فسترتني بثوب واستترت بالراحلة واغتسلت، فكأني ألقيت عني جبلًا، فقال: «الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك؛ فإن ذلك خير» وقال: مسدد: غنيمة من الصدقة.
قال أبو داود: حديث عمرو أتم.
(الشرح)
وهذا الحديث لا بأس بسنده أخرجه النسائي والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: صححه الدارقطني، وقال ابن القطان: في الباب أحاديث أسانيدها صحاح.
وقول أبي ذر: (اجتمعت غنيمة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا ذر! ابد فيها) يعني: اخرج إلى البادية, (فبدوت إلى الربذة) يعني: خرجت إلى الربذة، وهو حوالي ثلاثة أميال من المدينة قرية.
قال أبو ذر: (فكانت تصيبني الجنابة، فأمسكت الخمس والست، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبو ذر؟ فسكت، فقال: ثكلتك أمك يا أبا ذر! لأمك الويل)، هذه الكلمات تجري على اللسان عند العرب، ولا يقصد بها حقيقتها، وقوله: (ثكلتك أمك) يعني: فقدتك أمك، وقوله: (لأمك الويل) يعني: لفقدك، لكن المراد بها: الحث والعناية بطلب الماء.
قال: (فدعا لي بجارية سوداء فجاءت بعس) يعني: القدح, (فسترتني بثوب واستترت بالراحلة واغتسلت)، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك؛ فإن ذلك خير»، قال مسدد: (وغنيمة من الصدقة) أي: زاد (من الصدقة) وحديث عمرو أتم، يعني: أتم من حديث مسدد.
والصعيد اختلف العلماء فيه على أقوال كثيرة، وقد ذكر الشارح أقوال متعددة، منها: الصعيد: المرتفع من الأرض, وقيل: الأرض المرتفع, وقيل: الأرض المنخفضة, وقيل: ما لم يخالطه رمل ولا سبخة, وقيل: وجه الأرض, وقيل: الصعيد الأرض, وقيل: الأرض الطيبة, وقيل: هي كل تراب طيب, وقيل: الأرض المستوية, وقال الشافعي: الصعيد لا يقع إلا على التراب له غبار.
اختلف العلماء بسبب اختلافهم في معنى الصعيد، ما الذي يتيمم عليه؟ فذهب بعض العلماء إلى أنه لا يتمم إلا على التراب الذي له غبار.
وذهب آخرون من أهل العلم إلى أنه يجزئ التيمم إذا تيمم بما تصعد على وجه الأرض, والصواب: أنه يتيمم بالتراب، فإذا وجد التراب الذي له غبار فإنه يجب عليه أن يتيمم به؛ لقوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}[المائدة/6]، كلمة: (منه) يتيمم بالتراب الذي له غبار، مثل تراب الحرث والزرع، فإن لم يجد تيمم على ما تصعد على وجه الأرض، فإذا كانت الأرض ما فيها إلا رمل يتيمم على الرمل، أولم يجد إلا على أرض صخرية تيمم عليها؛ لقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}[النساء/43]، لكن إذا وجد ترابًا له غبار فإنه يتيمم على التراب الذي له غبار، فإن لم يجد تيمم على ما صعد على وجه الأرض.
(المتن)
قال الشارح: قلت: التحقيق في هذه المسألة: أن التراب هو المتعين لمن وجد التراب ولا يجوز بغيره؛ لأن الصعيد هو التراب فقط عند بعض أئمة اللغة، فالتيمم عليه جائز اتفاقًا، فكيف يترك المتيقن بالمحتمل؟ ومن لم يجد التراب فيتيمم على الرمال والأحجار ويصلي؛ لأنه مدلول الصعيد لغة عند بعض أئمة اللغة، ومن لم يجد الرمال والأحجار فيتيمم على كل ما ذكر آنفًا في تفسير الصعيد، ولا يصلي بغير التيمم، ومن لم يجد هذه كلها فيصلي بغير طهارة، والله أعلم.
(الشرح)
وهذا كلام جيد، وهو أنه يتيمم على التراب الذي له غبار إذا وجده، فإن لم يجد إلا أرضًا رملية تيمم عليها، فإذا وجد الأرض صخرية تيمم عليها؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التغابن/16]، فإن لم يجد ترابًا ولا ماءً صلى على حسب حاله كما حصل من الصحابة الذين صلوا بغير ماء ولا تراب قبل أن يشرع التيمم، فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: «ولو إلى عشر سنين» المراد: التكثير لا التحديد، والمعنى: أنه يتيمم حتى يجد الماء، وإن بلغت مدة عدم الماء عشر سنين، وليس معنى ذلك: أن التيمم يكفي لعشر سنين، بل المراد أنه يتيمم ويستمر حتى يجد الماء.
هل خروج الوقت يبطل به الوضوء أو لا يبطل؟ الجمهور من الفقهاء على أنه يبطل، وأنه لا يصلي بالتيمم إلا فرضًا واحدًا، فيصلي بالتيمم ما شاء من فروض ونوافل، فإذا خرج الوقت بطل التيمم.
وقال آخرون من أهل العلم: التيمم بالتراب قائم مقام الماء، واستدلوا بقوله في هذا الحديث: «الصعيد الطيب وضوء المسلم» فسماه وضوءًا.
وذهب المحققون من أهل العلم: إلى أنه له أن يصلي بالتيمم فرضين أو ثلاثة أو أربعة ما لم يحدث أو يجد الماء، فإذا وجد الماء بطل التيمم ولو في الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه وضوءًا، فقال: «الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين»، فقالوا: لا يبطل التيمم إلا إذا أحدث أو وجد الماء.
الطالب: (....).
الشيخ: والحائط إذا كان له غبار لا بأس بالتيمم به، وسبق أن الحائط إذا كان من الطين فله غبار.
الطالب: (....).
الشيخ: هذا صحيح, وإذا وجد بعض الماء ولا يكفي يتيمم؛ فإذا كان الماء قليلًا لا يكفي فغسل وجهه وكفيه ويديه وانتهى الماء ولم يبق شيء لرجليه فإنه يتيمم، وكذلك إذا كان عليه جنابة ووجد ماءً قليلًا ما يكفي، فيستنجي ويتوضأ وضوءه للصلاة وإن بقي شيء غسل رأسه، وإن بقي شيء غسل شقه الأيمن، وإن لم يبق شيء تيمم للباقي.
(المتن)
حدثنا موسى بن إسماعيل أخبرنا حماد عن أيوب عن أبي قلابة عن رجل من بني عامر قال: دخلت في الإسلام فأهمني ديني، فأتيت أبا ذر رضي الله عنه، فقال أبو ذر: إني اجتويت المدينة، فأمر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود وبغنم، فقال لي: اشرب من ألبانها قال: حماد: وأشك في أبوالها, فقال أبو ذر رضي الله عنه: فكنت أعزب عن الماء ومعي أهلي، فتصيبني الجنابة فأصلي بغير طهور، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصف النهار، وهو في رهط من أصحابه وهو في ظل المسجد، فقال صلى الله عليه وسلم: أبو ذر؟ فقلت: نعم، هلكت يا رسول الله! قال: وما أهلكك؟ قلت: إني كنت أعزب عن الماء ومعي أهلي فتصيبني الجنابة فأصلي بغير طهور، فأمر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء، فجاءت به جارية سوداء بعس يتخضخض؛ ما هو بملآن، فتسترت إلى بعيري فاغتسلت، ثم جئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر! إن الصعيد الطيب طهور وإن لم تجد الماء إلى عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك».
قال أبو داود: رواه حماد بن زيد عن أيوب لم يذكر: أبوالها.
قال أبو داود: هذا ليس بصحيح، وليس في "أبوالها" إلا حديث أنس تفرد به أهل البصرة.
(الشرح)
وهذا هو الصواب، بأن ذكر الأبوال لم يثبت، وإنما قال: «اشرب من ألبانها»؛ ولهذا قال: وأشك في (أبوالها)، قال أبو داود: رواه حماد بن زيد عن أيوب لم يذكر: (أبوالها)، أي: أنه ليس في الحديث ذكر (أبوالها) ولم تذكر إلا في حديث أنس، تفرد به أهل البصرة في قصة العرنيين، وفيه أنهم لما جاءوا النبي صلى الله عليه وسلم اجتووا المدينة فأمرهم أن يلحقوا بإبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها.
أما حديث أبي ذر فلا يثبت فيه أنه أمره بالشرب من أبوالها، وإنما قال: (اشرب من ألبانها).
وفيه دليل على أن أبا ذر كان يصلي بغير طهور، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة فدل على أن صلاته صحيحة وأنه معذور؛ لأنه لم يبلغه الحكم، فلما أبلغه الحكم وجب عليه أن يتيمم، فهو معذور لأنه لم يعلم الحكم الشرعي, فدل على أن الإنسان إذا لم يعلم وكان جاهلًا فهو معذور.
وفي ذلك قصة الأعرابي الذي جاء وصلى عند النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتم الركوع ولا السجود، وفيها أنه قال: «والذي بعثك بالحق! لا أحسن غير هذا فعلمني»، فعلمه وأمره أن يعيد الصلاة الحاضرة، ولم يأمره بإعادة الصلوات الماضية؛ لجهله.
الطالب: (....).
الشيخ: يعيد الصلاة الحاضرة أو كانت صلاتين أو كذا.
فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالتيمم، فقال له: «يا أبا ذر! إن الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك»، وسماه طهورًا؛ فدل على أنه قائم مقام الماء، وقد احتج به المحققون على أنه لا يبطل التيمم بخروج الوقت؛ لأنه سماه طهورًا، وفي اللفظ الآخر سماه وضوءًا.
(المتن)
باب: إذا خاف الجنب البرد أيتيمم؟.
حدثنا ابن المثنى أخبرنا وهب بن جرير أخبرنا أبي قال: سمعت يحيى بن أيوب يحدث عن يزيد بن أبي حبيب عن عمران بن أبي أنس عن عبد الرحمن بن جبير عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت أن أغتسل فأهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا عمرو! صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}[النساء/29]، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئًا.
قال أبو داود: عبد الرحمن بن جبير مصري مولى خارجة بن حذافة وليس هو ابن جبير بن نفير.
(الشرح)
وهذا الحديث حديث عمرو بن العاص هذا لا بأس بسنده.
وفيه دليل على أن الجنب يتيمم ويصلي إذا خاف من البرد وخاف الهلاك أو خاف المرض فهو معذور في هذه الحالة، فإذا لم يكن عنده شيء يسخن به الماء ويتقي به البرد وخاف خروج الوقت فإنه يصلي وصلاته صحيحة, وهذا هو الذي ذهب إليه أكثر الصحابة, وخالف في ذلك عمر رضي الله عنه وابن مسعود وقال: يبقى الجنب حتى يجد الماء ولا يتيمم. لكن هذا فيه إذا فقد الماء.
لكن هنا إذا وجد الماء لكنه لا يستطيع استعماله في البرد، فيكون حكمه حكم فاقد الماء في هذه الحالة، والنبي صلى الله عليه وسلم أقره على جواز التيمم من جهتين: من جهة التبسم والضحك.
والثاني: عدم الإنكار، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقر على باطل؛ ولهذا قال الخطابي رحمه الله: في هذا الحديث من الفقه: أنه صلى الله عليه وسلم جعل عدم إمكان استعمال الماء كعدم عين الماء، يعني: جعل كونه لا يستطيع استعمال الماء لشدة البرد؛ لأنه يخشى الموت أو يخشى المرض، كأنه فاقد للماء، وجعله في منزلة من يخاف العطش ومعه الماء، فأبقاه ليشربه ويتيمم.
لكن من أمكنه أن يسخن الماء أو يستعمله على وجهه أو على درجة يأمن منها الضرر، كأن يغسل عضوًا ويستره، وكلما غسل عضوًا ستره ودفاه، فإنه في هذه الحالة عليه أن يستعمل الماء، كما قال بعض الشراح: إنه إذا أمكن أن يستعمل الماء كأن يغسل عضوًا ثم يدفئه ثم يغسل عضوًا ثم يدفئه، أو يجد ما يسخنه به ويتقي، فهذا يجب عليه الغسل، أما إذا ضاقت به الحيل ولم يجد شيئًا وخاف خروج الوقت فإنه يصلي وصلاته صحيحة، وهذا هو الذي عليه الجمهور، وخالف في هذا بعض العلماء وقالوا: إنه لا يتيمم في هذه الحالة، ومنه عمر وابن مسعود رضي الله عنهم وأشكل عليهم الحفظ, روي عن الحسن وعطاء قالا: يغتسل وإن مات، ولم يجعل له عذرًا، وهذا قول لا وجه له؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ}[النساء/29]، ولهذا استدل بهذه الآية عمرو بن العاص فقال: ذكرت قول الله عز وجل: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ}[النساء/29].
الطالب: (....).
الشيخ: لا يجوز له أن يقتل نفسه: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ}[النساء/29].
(المتن)
قال أبو داود: عبد الرحمن بن جبير مصري مولى خارجة بن حذافة، وليس هو ابن جبير بن نفير.
(الشرح)
وهو لا بأس به.
(المتن)
حدثنا محمد بن سلمة أخبرنا ابن وهب عن ابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب عن عمران بن أبي أنس عن عبد الرحمن بن جبير عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص: أن عمرو بن العاص رضي الله عنه كان على سرية وذكر الحديث نحوه قال: فغسل مغابنه وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم صلى بهم فذكر نحوه ولم يذكر التيمم.
قال أبو داود: وروى هذه القصة عن الأوزاعي عن حسان بن عطية قال فيه: فتيمم.
(الشرح)
وهذا الحديث كما قال المنذري: حسن.
وفيه: أن الجنب إذا خاف من البرد ولم يجد ما يسخن به الماء فإنه يستنجي ويغسل مغابنه وما استطاع من جسده، ويتوضأ تخفيفًا للجنابة، ثم يتيمم، كما في هذه القصة: أنه غسل مغابنه وتوضأ وضوءه للصلاة.
الطالب: (....).
الشيخ: هذه الرواية لكن رواية الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: (فتيمم) من حفظ حجة على من لم يحفظ، فبعض الرواة ما حفظ شيئًا، وبعضهم حفظ.
(المتن)
باب: المجروح يتيمم.
حدثنا موسى بن عبد الرحمن الأنطاكي حدثنا محمد بن سلمة عن الزبير بن خريق عن عطاء عن جابر رضي الله عنه قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلًا منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال: قتلوه! قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؛ فإنما شفاء العي السؤال؟ إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب شك موسى على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده.
(الشرح)
وهذا الحديث ضعيف في سنده الزبير بن خريق ضعيف، قال في التقريب: لين الحديث.
وهذا الحديث مشهور عند الفقهاء وهو ضعيف.
وفيه: أن هذا الرجل أصابته شجة ثم احتلم، فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصة؟ فقالوا: لا نجد لك رخصة، فاغتسل فمات، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتلوه! قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؛ فإنما شفاء العي السؤال؟ إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب شك موسى على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده.
وهذه اللفظة: (إنما كان يكفيه أن يتيمم) لم يثبتها الحفاظ؛ لأن هذا الحديث فيه: أنه يجمع بين التيمم وبين المسح، فلم يثبتها الحفاظ، فعلى هذا لا يجمع بين التيمم والمسح، بل يمسح على العصابة إن كانت بقدر الجرح وما يحتاج إليها في الشد، ولا يتيمم، فإن لم يقدر على وضع عصابة أو جبيرة فإنه يتيمم.
أما هذا الحديث لأنه يجمع بين التيمم وبين المسح فهو ضعيف؛ ولهذا كلمة: (إنما يكفيه أن يتيمم) لم يثبتها الحفاظ، بل إذا كان يستطيع المسح فيكفي، لكن تكون العصابة بقدر الجرح وما يحتاج إليه، أما ما زاد يُزيله، والمسح على الجبيرة سيأتي، والجبيرة يمسح عليها للضرورة، وهي أولى من الخف، فإذا كان الخف يُمسح عليه للترفه فالجبيرة أولى بالمسح؛ لأنها ضرورة.
هذا الحديث وإن كان ضعيفًا المسح على الجبيرة لكن الجبيرة يمسح عليها للضرورة؛ لأنها أولى من الخف، والمسح على الخفين ثابت متواتر، فإذا كان الخف يمسح عليه للترفه فالجبيرة أولى؛ لأنها ضرورة.
والجبيرة تخالف الخف: فالخف: وقت له للمقيم يوم وليلة، والمسافر ثلاثة أيام بلياليها، والجبيرة: غير مؤقتة، فيمسح عليها حتى يبرأ الجرح.
والخف: يشترط أن يلبسه على طهارة، والجبيرة: لا يشترط؛ لأن الإنسان قد يصيبه جرح أو كسر وهو على غير طهارة، فالإنسان جرحه ليس باختياره، فلا تشترط لها الطهارة.
وقوله: (إنما شفاء العي السؤال) المعنى: أن الجهل داء، والسؤال هو العلم.
واستنبط الخطابي من هذا الحديث: أن الذي أعابهم، الفتوى بغير علم، وألحق بهم الوعيد، لكن إنما هذا على فرض صحته، ولكن المعنى صحيح، فالفتوى بغير علم منهي عنها.
أما الأمر بالجمع بين التيمم والمسح فكما سبق لا يثبت، لكن فيه أنه أمر بالجمع بين التيمم وغسل سائر جسده بالماء، فيغسل سائر جسده ويتيمم ويمسح على الجرح، فإن لم يستطع تيمم.
وأحاديث المسح على الجبائر كلها أحاديث ضعيفة، كما قال ابن القيم رحمه الله، وفيه حديث علي أنه قال: «انكسرت إحدى زنديه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يمسح على الجبائر» لكن الحديث في سنده عمرو بن خالد وهو متروك، وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين رمياه بالكذب.
وذكر ابن عدي عن وكيع قال: كان عمرو بن خالد في جوارنا يضع الحديث، فلما فطن له تحول إلى واسط، وقد سرقه عمر بن موسى بن وجيه، فرواه عن زينب بنت علي مثله, وعمر هذا متروك منسوب إلى الوضع.
والمقصود: أن أحاديث الجبائر كلها ضعيفة، وهذا الحديث وحديث علي كلها ضعيفة، لكن يجوز المسح على الجبيرة للضرورة، وهو أولى من المسح على الخف، فإذا جاز المسح على الخف وهو للترفه فالمسح على الجبيرة من باب أولى.
(المتن)
حدثنا نصر بن عاصم الأنطاكي حدثنا محمد بن شعيب أخبرني الأوزاعي أنه بلغه عن عطاء بن أبي رباح أنه سمع عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: أصاب رجلًا جرح في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم احتلم، فأمر بالاغتسال، فاغتسل فمات، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قتلوه! قتلهم الله، ألم يكن شفاء العي السؤال؟.
(الشرح)
وهذا ضعيف؛ لأنه رواه الأوزاعي بلاغًا، قال الأوزاعي: (أنه بلغه عن عطاء) فهذا الذي رواه عنه الأوزاعي مجهول، فيكون الحديث ضعيف.
الطالب: (....).
الشيخ: وإذا أمكن المسح لا يتيمم إلا إذا كان يضره المسح، فإذا كان لا يستطيع المسح ينتقل إلى التيمم، أما الجمع بين التيمم والمسح فالحديث ضعيف.
الطالب: (....).
الشيخ: إذا كان الجرح في الظهر ويمر عليه الماء يكفي، فإن لم يمر عليه الماء مسح، وإن كان لا يشق نزع الجبيرة ينزعها إذا أصابته الجنابة ثم يغتسل ثم يعيدها، وإذا مر عليه الماء كفى؛ لأن مرور الماء أبلغ من المسح، فإن لم يمر عليها مسح عليها، فإن شق عليه المسح يتيمم.
الطالب: (....).
الشيخ: إذا مر الماء على الجرح يكفي فلا مسح ولا تيمم، وهذا إذا لم يضره الماء، فإن كان يضره الماء مسح، فإن كان المسح على الجرح يضر فإنه يتيمم.
الطالب: (....).
الشيخ: يتيمم عن هذا الموضع الذي لم يصله الماء، ويغسل سائر جسده.
(المتن)
باب: المتيمم يجد الماء بعدما يصلي في الوقت.
حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي أخبرنا عبد الله بن نافع عن الليث بن سعد عن بكر بن سوادة عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيدًا طيبًا، فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء، ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال للذي لم يعد: أصبت السنة وأجزأتك صلاتك، وقال للذي توضأ وأعاد: لك الأجر مرتين.
قال أبو داود: وغير ابن نافع يرويه عن الليث عن عميرة بن أبي ناجية عن بكر بن سوادة عن عطاء بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو داود: ذكر أبي سعيد الخدري في هذا الحديث ليس بمحفوظ؛ هو مرسل.
(الشرح)
يعني: يكون الحديث مرسل عن عطاء بن يسار، وهذا الحديث أخرجه النسائي مسندًا ومرسلًا عن عميرة.
والحديث فيه دليل على أنه من صلى في الوقت بعد أن بحث عن الماء ولم يجد الماء فإن صلاته صحيحة، فإذا بحث عن الماء ولم يجد الماء ثم تيمم ووجد الماء في الوقت والوقت باقي فصلاته صحيحة.
وفي هذا الحديث أن هذين الرجلين أحدهما لم يُعد الصلاة لما وجد الماء، والآخر أعاد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للذي لم يُعد: «أصبت السنة وأجزأتك صلاتك»، وقال للذي أعاد وتوضأ: «لك الأجر مرتين»؛ لأنه اجتهد فله الأجر مرتان باجتهاده، لكن الذي أصاب السنة أفضل.
ففيه دليل على أن من صلى بالتيمم ثم وجد الماء في الوقت فلا يعيد، أما إذا وجد الماء وهو يصلي فإنه يعيد.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة: فذهب بعض العلماء كـأبي حنيفة ورواية عن الإمام أحمد: أنه إن كان في موضع لا يرجى فيه وجود الماء في أول وقت الصلاة فإنه يتيمم ويصلي ولو في أول وقت الصلاة.
وقال آخرون: يتيمم ويصلي، وينبغي له أن يؤخر التيمم إلى آخر الوقت؛ ولهذا قال الحنابلة: والتيمم آخر الوقت لراجي الماء أولى.
وبعض العلماء قال: يصلي في أول الوقت، وقال بعضهم: يصلي آخر الوقت، إذا كان يرجو الماء، فإذا كان يرجو الماء يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت، وإذا كان لا يرجو فإنه يصلي ولو في أول الوقت.
وهل يعيد إذا وجد الماء في الوقت؟ ذهب بعض العلماء إلى أنه يعيد.
وقال آخرون: لا يعيد.
والصواب: أنه لا يعيد كما دل عليه الحديث.
والحديث كما روي مسندًا ومرسلًا، وقد يقال: إن المرسل لا يعارض المسند، لكن أبو داود رحمه الله قال: إن ذكر أبي سعيد في هذا الحديث ليس بمحفوظ، وعلى هذا يكون الحديث مرسلًا، والمرسل ضعيف إلا إذا وجد له مرسل آخر يشده، ويحتاج إلى مراجعة كلام الحفاظ في هذا؛ فينظر هل الذين أرسلوه هم الحفاظ وهم الأكثر، وإلا على قاعدة المتأخرين كالحافظ ابن حجر والعراقي والخطيب البغدادي وغيرهم: أنه إذا كان الذي وصله ثقة فإنه يقبل قوله ويقدم؛ لأن معه زيادة علم، والنسائي وجماعة يقدمون قول الأحفظ أو الأكثر.
الطالب: (....).
الشيخ: إذا كان الإنسان يرجو حصول الماء فإنه يتأخر إلى آخر الوقت، كما قال الحنابلة وغيرهم؛ قالوا: التيمم آخر الوقت لراجي الماء أولى، أما إذا كان لا يرجوه فله أن يصلي في أول الوقت.
(المتن)
حدثنا عبد الله بن مسلمة قال: حدثنا ابن لهيعة عن بكر بن سوادة عن أبي عبد الله مولى إسماعيل بن عبيد عن عطاء بن يسار: أن رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعناه.
(الشرح)
هذا ضعيف من جهتين:
من جهة: أنه مرسل.
ومن جهة: أن في سنده ابن لهيعة وهو ضعيف.
ومداره على عطاء بن يسار عن أبي سعيد, ولكن في هذا أن بكر بن سوادة رواه عن أبي عبد الله مولى إسماعيل بن عبيد عن عطاء بن يسار، وفي الأول عن بكر بن سوادة عن عطاء بن يسار.
فيحتاج إلى تأمل ومراجعة؛ لأن الحديث الأول قال فيه أبو داود: المحفوظ أنه مرسل، وليس فيه ذكر أبي سعيد، يعني: ليس مرفوعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والسند الثاني مداره على بكر بن سوادة عن عطاء بن يسار أيضًا.
فيحتاج إلى تأمل ومراجعة في سنده وكلام العلماء عليه؛ لأن الحكم هذا مهم، وهو وجود التيمم بالماء بعدما يصلي في الوقت، وهذا ينبني على صحة الحديث، فإذا صح الحديث فإن المتيمم إذا وجد الماء في الوقت فلا يعيد.
والمسألة فيها خلاف بين أهل العلم، فمن العلماء من قال: إذا تيمم ووجد الماء في الوقت يعيد، ومنهم من قال: لا يعيد، وهذا مبني على صحة الحديث وعدم صحته، فلو صح الحديث فإنه لا يعيد، ويؤيد هذا أيضًا قول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التغابن/16].
ولأن هذا هو الواجب على الإنسان، لأن الله تعالى لم يوجب الصلاة مرتين، وهذا هو الذي يستطيعه فإنه بحث عن الماء ولم يجده، فكيف يقال له: أعد الصلاة؟! أما إذا وجد الماء وهو في الصلاة فهذا تبطل صلاته على الصحيح، فإذا جاء الماء وهو في أثناء الصلاة فالصواب أنها تبطل الصلاة في هذه الحالة، فيقطع الصلاة ثم يتوضأ ويستأنف الصلاة من جديد.
الطالب: (....).
الشيخ: وهكذا إذا لم يجد إلا ثوبًا نجسًا وليس عنده ماء يغسله فإنه يصلي فيه، إلا إذا كان يرجو وجود ثوب آخر, ولهذا يلغز بعض العلماء فيقولون: نهق حمار فبطل صلاة المصلي، كيف ذلك؟.
حمار ذهب للإتيان بالماء، فجاء الحمار وعلى ظهره قرب للماء، فنهق، فعلم المصلي أنه وجد الماء، فبطلت صلاته؛ لوجود الماء.