بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(المتن)
قال الإمام أبو داود رحمه الله تعالى:
باب بول الصبي يصيب الثوب.
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أم قيس بنت محصن رضي الله عنها: «أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه ولم يغسله».
(الشرح)
بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
هذه الترجمة معقودة لحكم بول الصبي إذا أصاب الثوب وهو لم يأكل الطعام فهذا يكفي فيه الرش والنضح، وهذا الحديث أخرجه مالك والشيخان والترمذي وابن ماجة والطحاوي.
وفي هذا القصة، وهي أن أم قيس بنت محصن وهي أخت عكاشة بن محصن أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبال في حجره، والحجر مثلث الحاء، فيجوز فيه الفتح والضم والكسر، فيقال: حَجر وحِجر وحُجر، فلما بال على ثوبه دعا بماء فنضحه ولم يغسله، يعني: رشه، فدل هذا على أن الصبي الذكر إذا لم يأكل الطعام وبال على ثوب فإنه يكفي فيه النضح والرش من غير غسل.
(المتن)
حدثنا مسدد بن مسرهد والربيع بن نافع أبو توبة المعنى قالا: أخبرنا أبو الأحوص عن سماك عن قابوس عن لبابة بنت الحارث قالت: كان الحسين بن علي رضي الله عنه في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبال عليه، فقلت: البس ثوبًا وأعطني إزارك حتى أغسله، قال: إنما يغسل من بول الأنثى وينضح من بول الذكر.
(الشرح)
هذا الحديث صحيح أخرجه ابن ماجة وأحمد وابن خزيمة والحاكم والبيهقي بوجوه كثيرة، والحديث صريح في الفرق بين بول الغلام والجارية، يعني: الأنثى، ففيه أن بول الغلام إذا لم يأكل الطعام يكفي فيه الرش، وأما الجارية وهي الأنثى فلا يكفي في بولها النضح، بل لابد من الغسل، وهذا إذا لم يأكل الصبي الطعام، أما إذا أكلا الطعام فالحكم واحد، فإذا أكلا الطعام واستغنى به فإنه يغسل من بوله ولا يكفي فيه النضح, لكن هذا الحكم إذا كانا لا يأكلان الطعام وإنما يشربان الحليب فقط ففي هذه الحالة يفرق بين بول الغلام وبين بول الجارية، والحديث صريح في هذا، وهذا هو قول الجماهير، وهو الصواب.
وقال بعض العلماء: يغسل بول الغلام والجارية، وإلى هذا ذهب الإمام أبو حنيفة والنخعي وسفيان الثوري وجماعة, والصواب الأول: أنه يفرق بين بول الغلام وبول الجارية كما دل عليه الحديث.
وقد اختلف العلماء في حكمة الفرق بين بول الأنثى وبول الذكر، فقال بعض العلماء: لأن حواء خلقت من ضلع آدم، والذكر خلق من طين، وقال بعض العلماء: الحكمة في ذلك أن بول الأنثى يجتمع في مكان واحد، وبول الذكر ينتشر، وقال آخرون: لأن الذكر يكثر حمله من أبويه وأقاربه لمحبته والأنثى يقل حملها، والله أعلم بالحكمة، والأقرب أن الحكمة قد تكون هذه الأشياء كلها مجتمعة، ويحتمل أن تكون الحكمة غير ذلك، والله تعالى حكيمٌ عليم، وقد شرع لنا النبي r أن نفرق بين بول الغلام وبول الأنثى، فإن عرفنا الحكمة فبها ونعمت، وإن لم نعرف الحكمة فنحن عبيد لله مأمورون بالامتثال لأوامر الله وأوامر رسوله، واجتناب ما نهى الله عنه وما نهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، مع قطعنا بأن الشارع حكيم، وأنه لا يجمع بين مختلفين، ولا يفرق بين متماثلين.
(المتن)
حدثنا مجاهد بن موسى وعباس بن عبد العظيم العنبري المعنى قالا: أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي حدثني يحيى بن الوليد حدثني محل بن خليفة حدثني أبو السمح رضي الله عنه قال: كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أراد أن يغتسل قال: ولني قفاك، فأوليه قفاي فأستره به، فأتي بـحسن أو حسين رضي الله عنهما فبال على صدره، فجئت أغسله فقال: يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام.
(الشرح)
هذا الحديث أخرجه النسائي والبزار وابن ماجة وابن خزيمة والحاكم، ولا بأس بسند الحديث، وقال البخاري: إنه حديث حسن.
وفيه أن أبا السمح كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أراد أن يغتسل قال: «ولني قفاك» فيوليه قفاه فيستره، ولعل هذا كان في السفر في الغسل الذي يعرض له، وإلا فستر النبي عليه الصلاة والسلام كان في المدينة عند أهله، والحديث صريح في الفرق بين بول الصبي والصبية، وأنه يكفي في بول الصبي الرش وأما بول الجارية فلابد من أن يغسل، وهذا محمول على أنه لم يأكل الطعام، كما سبق في حديث أم قيس بنت محصن.
(المتن)
قال العباس: حدثنا يحيى بن الوليد قال أبو داود: وهو أبو الزعراء, قال هارون بن تميم عن الحسن قال: الأبوال كلها سواء.
(الشرح)
قوله: (قال عباس) يعني: في روايته, هو عباس بن عبد العظيم العنبري، قال: (حدثنا يحيى بن الوليد قال أبو داود: هو أبو الزعراء) يعني أن كنية يحيى بن الوليد هي: أبو الزعراء (عن هارون بن تميم عن الحسن البصري أنه قال: الأبوال كلها سواء).
يعني: الأبوال كلها سواء في النجاسة، فلا فرق بين الصبي والصبية والصغير والكبير، أو أن الأبوال كلها حكمها واحد سواء ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل لحمه في النجاسة، وهذا ليس بصحيح، وهو قول باطل لا وجه له، وهذا من أوهامه، وإن كان الحسن البصري رحمه الله من العلماء ومن الأتقياء، لكن هذا القول ترده الآثار والأحاديث الصحيحة؛ فقد فرق الشارع بين الأبوال، وأمر صلى الله عليه وسلم العرانيين لما اجتووا المدينة أن يلحقوا بإبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها، ولم يأمرهم بالغسل، فدل على طهارتها.
وإن كان المراد أنه لا فرق بين بول الصبي والصبية فقد فرق الشارع بينهما, ولعل المؤلف أورد ذلك عن الحسن ليدل على بطلانه لوضوح مخالفته للحديث.
(المتن)
حدثنا مسدد أخبرنا يحيى عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن أبي حرب بن أبي الأسود عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال: «يغسل من بول الجارية وينضح من بول الغلام ما لم يطعم».
(الشرح)
هذا الحديث موقوف على علي رضي الله عنه، وهو موافق للأحاديث السابقة، لكن هناك فرق بين بول الجارية وبول الغلام، وفيه التقييد بأنه (ما لم يطعم) يعني: ما لم يستقل بأكل الطعام، فإذا أعطي بالطعام القليل ما يعتبر أنه يطعم، فإذا استقل بالطعام واكتفى به عن الحليب يستغنى به عنه فإنه يصدق عليه أنه يطعم, يستغني به عن الحليب.
(المتن)
حدثنا ابن المثنى أخبرنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن أبي حرب بن أبي الأسود عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال، فذكر معناه ولم يذكر: ما لم يطعم.
زاد: قال قتادة: هذا ما لم يطعما الطعام، فإذا طعما غسلا جميعًا.
(الشرح)
هذه الرواية مرفوعة عن علي بن أبي طالب، بخلاف الرواية الأخرى فهي موقوفة عليه، ولهذا قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم قال، فذكر معناه) يعني: معنى الحديث الموقوف السابق في التفرقة بين بول الجارية وبول الغلام، وقوله: (ولم يذكر: ما لم يطعم) يعني: لم يذكر هشام ما ذكره سعيد بن أبي عروبة من قوله: (ما لم يطعما).
وزاد هشام في روايته: (قال قتادة: هذا ما لم يطعما الطعام، فإذا طعما غسلا جميعًا) وهذا هو الصواب، وهذا الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي: حديث حسن.
(المتن)
حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج أبو معمر أخبرنا عبد الوارث عن يونس عن الحسن عن أمه: أنها أبصرت أم سلمة رضي الله عنها تصب الماء على بول الغلام ما لم يطعم، فإذا طعم غسلته، وكانت تغسل بول الجارية.
(الشرح)
هذه الرواية موقوفة على أم سلمة، وقال الحافظ في التفسير: سنده صحيح، وأم الحسن اسمها خيرة، وهي مولاة لـأم سلمة، فـالحسن يروي عن أمه خيرة أنها أبصرت أم سلمة تصب الماء على بول الغلام ما لم يطعم، فإذا طعم غسلته، وكانت تغسل بول الجارية، أي: تفرق بين بول الصبي والصبية، فالصبي يكتفى فيه بالرش والنضح والصبية يغسل من بولها، وهذا موافق للأحاديث الصحيحة.
(المتن)
باب الأرض يصيبها البول: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح وابن عبدة في آخرين وهذا لفظ ابن عبدة قال: أخبرنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة: أن أعرابيًا دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فصلى قال ابن عبدة: ركعتين ثم قال: اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد تحجرت واسعًا، ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد، فأسرع الناس إليه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين، صبوا عليه سجلًا من ماء, أو قال: ذنوبًا من ماء.
(الشرح)
وهذا الحديث أخرجه الترمذي والنسائي، وأخرجه ابن ماجة من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، وأخرجه الشيخان من حديث أنس بن مالك، وهو معروف عند أهل العلم بحديث الأعرابي، والأعرابي: نسبة من الأعراب وهم سكان البادية.
وفيه أن هذا الأعرابي قال: (اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا) ثم بال، وجاء في الأحاديث الأخرى أن بوله سابق على قوله أولًا، ثم بعد ذلك لما زجره الصحابة، وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم، ورفق به قال: (اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا)؛ لأنه لما رأى خلق النبي صلى الله عليه وسلم ومعاملته، ورأى شدة بعض الصحابة عليه فقال: (اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا).
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: («لقد تحجرت واسعًا») ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد، وقوله: يلبث هو من لبث يلبث، من باب فرح يفرح، فالأقرب أنه بال أولًا، ثم لما رأى معاملة النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا), فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: («لقد تحجرت واسعًا») فرحمة الله واسعة.
وفي هذا الحديث من الفوائد:
رفق النبي صلى الله عليه وسلم بالأمة، وأنه ينبغي الرفق بالجاهل وتعليمه، ولهذا قال النبي: («إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين») يعني: إنما بعث الله نبيكم صلى الله عليه وسلم الذي تأتمون به وتتأسون به إنما بعث بالتيسير لا بالتعسير، وجاء في رواية أخرى أن النبي قال: («دعوه») وفي لفظ قال: («لا تزرموه حتى قضى بوله ثم أمر بسجل من ماء فصب عليه») وهذه هي الحكمة؛ لأنه لما زجره الصحابة لو تركهم النبي صلى الله عليه وسلم يزجرونه لحصل مضار على المسجد وعلى البائل: أولًا: يقطع عليه بوله، وهذا يؤثر عليه صحيًا.
ثانيًا: يقوم ثم يلطخ بوله ثيابه، وتكون بقع البول في نواح متعددة من المسجد، وكل هذه مفاسد، أما إذا ترك يبول في مكان واحد سلم من الضرر الصحي، وسلم جسمه من البول، وسلمت ثيابه من البول، وسلمت الأماكن الأخرى من البول، ثم يؤتى ويصب عليه الماء وتنتهي المسألة؛ ولهذا ينبغي للإنسان المسلم أنه إذا أراد أن ينكر منكرًا أن يتأمل بالعواقب والآثام قبل أن ينهى، وينظر ما يترتب على هذا المنكر، ولهذا ما سلكه النبي صلى الله عليه وسلم هو عين الحكمة والمصلحة، قال: («دعوه لا تزرموه، حتى قضى بوله، ثم أمر بسجل من ماء وصب عليه، ثم أتى الأعرابي وقال له: يا فلان! إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من القذر والبول، إنما هي لذكر الله والصلاة») أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وفيه دليل على أنه ينبغي الرفق بالجاهل وعدم العنف، وكذا المتعمد، إذا كان يترتب على التغليظ عليه مفسدة، فلا يغلظ عليه؛ لأنه يترتب على زجره وقيامه من البول مفاسد كما سمعنا.
وفيه دليل على أن البول إذا كان في الأرض، يكاثر بالماء ولا يحجر بالتراب ولا ينقل ترابه، فالبول إذا كان في الأرض يصب عليها الماء ويكاثر، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصب عليه سجل من ماء، ولم ينقل ترابه، أما ما جاء أنه نقل ترابه كما سيأتي فلا يصح، فلم يأمر بنقل ترابه ولا بتحديد التراب، فإذا كان البول في غير الأرض فإنه يغسل، وإذا كان في بسط أو فرش كبيرة فإنه يقلب أو يثقل كما قال أهل العلم.
(المتن)
حدثنا موسى بن إسماعيل أخبرنا جرير يعني: ابن حازم قال: سمعت عبد الملك يعني ابن عمير يحدث عن عبد الله بن معقل بن مقرن قال: صلى أعرابي مع النبي صلى الله عليه وسلم بهذه القصة قال فيه وقال يعني: النبي صلى الله عليه وسلم: «خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه وأهريقوا على مكانه ماءً» قال أبو داود: هو مرسل؛ ابن معقل لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم.
(الشرح)
هذا الحديث كما قال أبو داود رحمه الله: مرسل، ابن معقل بن مقرن لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم والمرسل ضعيف، فلا حجة فيما دل عليه من أخذ التراب وإلقائه، والصواب: ما دل عليه الحديث المرفوع من صب الماء على التراب من دون أخذ التراب وإلقائه.
(المتن)
باب في طهور الأرض إذا يبست.
حدثنا أحمد بن صالح, قال: أخبرنا عبد الله بن وهب, قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب, قال: حدثني حمزة بن عبد الله بن عمر قال ابن عمر رضي الله عنهما: كنت أبيت في المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت فتى شابًا عزبًا، وكانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد، فلم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك.
(الشرح)
وهذه الترجمة في حكم طهور الأرض إذا يبست، يعني: إذا أصاب الأرض بول مثلًا أو نجاسة ثم يبست بالشمس أو بالهواء، فهل تطهر أو لا تطهر؟ إذا كانت النجاسة لها جرم فلا بد أن ينقل الجرم، فإذا كانت عذرة أو قطع فنقله لابد منه، لكن إذا كان بولًا ثم يبست الأرض بالشمس أو بالريح، فظاهر ترجمة المؤلف رحمه الله واختياره أنها تطهر إن جفت بالشمس أو بالريح، وهذا اختيار الأحناف، وما وروي عن أبي قلابة، واختيار الشارح عون المعبود: أبي الطيب محمد شمس الدين، يقول: إذا أصابت الأرض نجاسة فلها وجهان في التطهير:
الوجه الأول: صب الماء عليها.
والثاني: جفافها ويبسها بالشمس أو بالهواء.
وكأن ظاهر اختيار أبي داود في الترجمة هو هذا، وذهب جمهور العلماء إلى أنه لابد من الماء وأنها لا تطهر، وأجابوا عن هذا الحديث أولًا: بأن النجاسة محتملة وليست ظاهرة، والأصل الطهارة، وكون الكلاب تقبل وتدبر في المسجد فهذا محتمل أن يكون فيه نجاسة وليست ظاهرة، ولو رأوها لما تركوها هذا محتمل، وفي رواية أبي داود هنا: كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد؛ لأن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عليه أبواب، لكن حديثًا رواه البخاري لفظة: كانت الكلاب تقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لفظة: تبول في رواية البخاري، فلم يكونوا يرشون شيئًا، فالأصل الطهارة، وهم لم يروا شيئًا، ولو رأوا شيئًا لغسلوه، وكونها تمر لا يدل على أنها تنجس المسجد ولاسيما إذا كانت يابسة، وهذا لا يوجب غسله والأصل الطهارة، ولم يكونوا يروا شيئًا، ولو رأوا شيئًا لغسلوه، فليس فيه حجة في أن النجاسة إذا يبست بالشمس أو بالهواء يكفي بدون الماء، وليس في رواية البخاري: تبول، إنما في روايته تقبل وتدبر؛ لأن المساجد ليس فيها أبواب، والصواب: ما علمته من العلماء أن النجاسة لا يكفي في تطهيرها الجفاف بالشمس أو بالهواء، بل لابد من غسلها بالماء، والغسل لا يحتاج إلى نية، فلو جاء المطر وصب عليها لكفى وطهرت؛ لأنها ليست كالعبادة التي تحتاج إلى نية.
الطالب: (....).
الشيخ: إذا اندثر على النجاسة التي في الأرض من الثرى طبقة كبيرة فهي طاهرة، لكن إذا علم النجاسة فلابد من صب الماء عليها كما في حديث الأعرابي وهذا هو الأصل، فلو كانت الشمس والريح تكفي لقالوا: اتركوه حتى تيبس الأرض وتجف، فلما لم يشهد النبي صلى الله عليه وسلم للجفاف، وأمر بأن يصب سجلًا من ماء على بول الأعرابي، فدل على أنه لابد من الماء، ولو كان يكفي لقال: اتركوه يجف وييبس ويطهر.
الطالب: (....).
الشيخ: والنجاسة إذا مسستها بيدك وهي يابسة لا يضر، لكن إذا كانت يدك رطبة أو النجاسة رطبة فلابد حينئذ من الغسل.
الطالب: (....).
الشيخ: وما ورد في رواية أبي داود لم يرد في لفظ البخاري يعني قوله تبول، وقوله: (تقبل وتدبر) هذا يحتمل أنها قد تبول، لكن هذا شيء غير محقق، والصحابة لم يروا شيئًا، ولو رأوا النجاسة لغسلوها كما في حديث الأعرابي.
(المتن)
باب في الأذى يصيب الذيل.
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن محمد بن عمارة بن عمرو بن حزم عن محمد بن إبراهيم عن أم ولد لـ إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنها سألت أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني امرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر فقالت أم سلمة رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يطهره ما بعده.
(الشرح)
وهذه الترجمة معقودة لبيان حكم النجاسة تصيب الذيل، والذيل: طرف الثوب الذي إلى الأرض، فقد كانت المرأة سابقًا تطيل الثوب حتى يغطي ظهور قدميها؛ ولهذا لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إرخاء الثوب، قيل: ما تفعل النساء تنكشف أقدامهن؟ قال: «يرخينه شبرًا فقالت أم سلمة: إذًا تنكشف أقدامهن قال: فيرخينه ذراعًا» فكان النساء يطلن الثياب، والآن انعكست القضية، فقد صار النساء الآن يرفعن الثياب، وصار الرجل هو الذي يرخي الثياب فيتجاوز القدمين، وهذا من الانتكاسة، حيث أن الرجل يتستر والمرأة تتكشف.
وفي هذا الحديث: أن أم ولد لإبراهيم سألت أم سلمة رضي الله عنها قالت: (إني امرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر) يعني: النجس، فقالت أم سلمة: (يطهره ما بعده) وهذا الحديث أخرجه مالك والترمذي وابن ماجة والدارمي لكن الحديث في سنده أم ولد إبراهيم وهي مقبولة، لكن الحديث الذي بعده أصح.
(المتن)
حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي وأحمد بن يونس قالا: أخبرنا زهير حدثنا عبد الله بن عيسى عن موسى بن عبد الله بن يزيد عن امرأة من بني عبد الأشهل قالت: «قلت: يا رسول الله، إن لنا طريقًا إلى المسجد منتنة فكيف نفعل إذا مطرنا؟ قال: أليس بعدها طريق هي أطيب منها؟ قالت: قلت: بلى، قال: فهذه بهذه».
(الشرح)
يعني: هذه تطهر هذه، فهذان الحديثان في طهارة ذيل المرأة، ولا بأس بسند الحديثين، فالحديث الأول فيه مقبول، ويشبهه الحديث الثاني، والثاني أصح من الأول؛ لأن الأول فيه أم ولد إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف وهي مقبولة كما في التقريب، وفي هذا يكون درجة الحديث في القوة والصحة أقل من الثاني، وهما دليل على طهارة ذيل المرأة إذا مرت بطريق فيها نجاسة، ثم مرت بأخرى طيبة، وزالت عين النجاسة عند اختلاطها بالطين والتراب ويبست وتناثرت أو كانت يابسة فلا يضر، أما إذا بقيت فلابد من تطهير النجاسة في الثوب بغسله، ويكون الحكم من باب التخفيف دفعًا للمشقة، كالنعلان كما سيأتي فإنهما يطهران بالدلك والحك.
(المتن)
باب في الأذى يصيب النعل.
حدثنا أحمد بن حنبل أخبرنا أبو المغيرة ح وحدثنا عباس بن الوليد بن مزيد أخبرني أبي، ح وحدثنا محمود بن خالد، قال: أخبرنا عمر يعني ابن عبد الواحد عن الأوزاعي المعنى: قال أنبئت أن سعيد بن أبي سعيد المقبري حدث عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وطىء أحدكم بنعله الأذى، فإن التراب له طهور».
(الشرح)
وهذا الحديث فيه حكم الأذى والنجاسة تصيب النعل، وهذا الحديث فيه أن التراب له طهور ويكفي، لكن الحديث هذا ضعيف؛ لأن فيه مجهول وهو من أخبر الأوزاعي بهذا الحديث، لكن الحديث الذي بعده يشهد له.
(المتن)
حدثنا أحمد بن إبراهيم, قال: حدثني محمد بن كثير يعني الصنعاني عن الأوزاعي، عن ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه، قال: «إذا وطىء الأذى بخفيه فطهورهما التراب».
(الشرح)
وهذا رواه ابن حبان والحاكم، قال النووي: رواه أبو داود بسند صحيح، والحديث وإن كان في سنده محمد بن كثير وهو ضعيف، لكن تابعه أبو المغيرة والوليد بن مزيد وعمر بن عبد الواحد عن الأوزاعي فيكون الحديث دليلًا على طهارة النعل بالدلك والتراب، دفعًا للمشقة, ويؤيد هذا الحديث ما أخرجه المؤلف أبو داود في باب الصلاة في النعال من حديث أبي سعيد مرفوعًا: «وفيه إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرًا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما» وهذا إسناد صحيح ويكون هذا من باب دفع المشقة، فالنعل والخفين إذا دلكهما كفى، كما أن ذيل المرأة إذا مر في أرض نجسة ثم مر بأرض أخرى طيبة، ودُلك عند المشي بالتراب وأزيلت عين النجاسة صار طاهرًا دفعًا للمشقة.
الطالب: (....).
الشيخ: هذا خاص بالنعل وذيل المرأة لدفع المشقة.
(المتن)
حدثنا محمود بن خالد, قال: أخبرنا محمد يعني ابن عائذ, قال: حدثني يحيى يعني ابن حمزة عن الأوزاعي عن محمد بن الوليد, قال: أخبرني أيضًا سعيد بن أبي سعيد، عن القعقاع بن حكيم عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعناه.
(الشرح)
بمعناه يعني: إذا وطئ الأذى بخفيه يدلكهما بالتراب ويطهرهما بالتراب.
(المتن)
باب الإعادة من النجاسة تكون في الثوب.
حدثنا محمد بن يحيى بن فارس أخبرنا أبو معمر أخبرنا عبد الوارث حدثتنا أم يونس بنت شداد قالت: حدثتني حماتي أم جحدر العامرية: «أنها سألت عائشة رضي الله عنها عن دم الحيض يصيب الثوب فقالت: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلينا شعارنا، وقد ألقينا فوقه كساء، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الكساء فلبسه، ثم خرج فصلى الغداة، ثم جلس فقال رجل: يا رسول الله! هذه لمعة من دم، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يليها، فبعث بها إلي مصرورة في يد الغلام، فقال: اغسلي هذه وأجفيها وأرسلي بها إلي، فدعوت بقصعتي فغسلتُها، ثم أجففتها، فأحرتها إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصف النهار وهي عليه».
(الشرح)
وهذه الترجمة يقول المؤلف رحمه الله: باب الإعادة من النجاسة تكون في الثوب.
فإذا قيل: هل تعاد الصلاة إذا كانت النجاسة في الثوب؟ فظاهر ترجمة المؤلف أنه إذا صلى في ثوب فيه نجاسة فإنه يعيد الصلاة، لكن الحديث الذي ذكره هنا ضعيف، أولًا: فيه مجهولان: أم يونس بنت شداد مجهولة، وأم جحدر العامرية مجهولة.
ثم أيضًا ليس في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أعاد الصلاة من النجاسة، فيه أن أم جحدر العامرية سألت عائشة عن دم الحيض يصيب الثوب، فقالت: («كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلينا شعارنا») الشعار: هو الثوب الذي يلي الجسد («وقد ألقينا فوقه كساء فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الكساء فلبسه، ثم خرج فصلى الغداة أي: الصبح ثم جلس فقال رجل: يا رسول الله! هذه لمعة من دم، فقبض رسول الله على ما يليها ما يلي اللمعة يعني: البقعة فبعث بها إلي مصرورة في يد الغلام فقال: اغسلي هذه وأجفيها وأرسلي بها إلي، فدعوت بقصعتي فغسلتها ثم أجففتها») يعني: أيبستها («فأحرتها إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصف النهار وهي عليه») فهل في هذا الحديث أنه أعاد الصلاة؟ لا ليس فيه أنه أعاد الصلاة، فترجمة أبي داود قال: باب الإعادة من النجاسة تكون في الثوب، فيه أن النبي صلى الغداة ووجد بقعة من دم على كسائه وغسلها، ولهذا قال المنذري وليس فيه أنه أعادها.
والحديث ليس فيه أن النبي أعاد الصلاة التي صلى في ذلك الثوب، فكيف يكون استدلال المؤلف من الحديث؟ وإذا صلى الإنسان في ثوب فيه نجاسة أو بدنه أو البقعة التي يصلي فيها ثم لم يعلم إلا بعد الصلاة، فالصواب: أنه لا يعيد، وصلاته صحيحة، ومن الأدلة على هذا: حديث أبي سعيد في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بنعاله وخلعها في أثناء الصلاة لما أخبره جبريل أن بها أذى ولم يعد ما مضى من الصلاة، فدل على أنه لا يعيد الصلاة إذا لم يعلم إلا بعد فراغه.
وقال بعض أهل العلم: يعيد الصلاة، كما قال أبو داود هنا، والصواب: أنه لا يعيد، أما إذا علم في أثناء الصلاة، فإن كان يستطيع أن يلقي ما فيه نجاسة فعل واستمر في صلاته، كأن تكون النجاسة في منديل أو غترة أو عمامة أو كوفية فإنه يلقيها ويستمر في صلاته، وإن لم يمكن فإنه يقطع صلاته ويزيل النجاسة ثم يستأنف الصلاة، كما لو كانت في ثوبه فتنكشف عورته، أو كانت على بدنه.
وهذا بخلاف الحدث، فإن النجاسة في الثوب تختلف عن الحدث، فإنه إذا صلى وهو محدث ثم علم بعد الصلاة فإنه يعيد الصلاة مطلقًا؛ لأن الوضوء شرط في صحة الصلاة وهو من باب الإيجاد فلابد من إيجاده، بخلاف النجاسة فإنها من باب الترك أما الوضوء فلابد منه، لكن إن كان إمامًا، فإنه يعيد وحده، وقد حصل لـعمر رضي الله عنه أنه صلى بالناس، ثم رأى أثر احتلامًا في صلاة الضحى فأعاد وحده الصلاة أما إذا كان الحدث في أثناء الصلاة فإنه يستأنف الصلاة مطلقًا، لكن إن كان إمامًا فإنه يستنيب من يُتم بهم الصلاة وقيل: إن نائبه يستأنف بهم الصلاة ويبتدئ الصلاة من جديد، والأول أصح.
وقول من فرق بين سبق الحدث في الإمام وعدم سبقه، فيستأنف بهم الصلاة إذا سبقه ويتم بهم إذا لم يسبقه كما هو مذهب الحنابلة فهو قول ضعيف، وقد سبق لنا في أبي داود أن الصواب أنه يستنيب من يتم بهم الصلاة ولو سبقه الحدث، أما الحنابلة فإنهم يفرقون بين ما إذا سبقه الحدث فإن النائب يستأنف بهم الصلاة، أما إذا لم يسبقه الحدث فإنه يتم بهم الصلاة، ولهذا يقول الحنابلة: وتبطل صلاة المأموم ببطلان صلاة إمامه، فلا استخلاف، يعني: فلا يستخلف، وعن الإمام أحمد لا تبطل وهذا الصواب والأئمة الثلاثة على أنها لا تبطل، فإن عمر استخلف بعد أن سبقه الحدث، وأما هذا الحديث فهو ضعيف، وثانيًا: ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعاد الصلاة، وقد يقال: إن أبا داود لم يجزم بالحكم، وإنما قال: باب الإعادة من النجاسة تكون في الثوب، يعني: هل تعاد أو لا تعاد؟ لكن ظاهره: أنه يعيد، والصواب: أنه لا يعيد كما سبق، وإن قال به بعض العلماء.
(المتن)
باب البصاق يصيب الثوب.
حدثنا موسى بن إسماعيل أخبرنا حماد أخبرنا ثابت البناني عن أبي نضرة رضي الله عنه قال: «بزق رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوبه وحك بعضه ببعض».
حدثنا موسى بن إسماعيل قال: أخبرنا حماد عن حميد عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.
(الشرح)
الحديث الأول مرسل عن أبي نضرة وهو ضعيف، لكن الحديث الثاني الذي بعده مسند وهو دليل على طهارة البزاق، وكذا النخامة والمخاط، وإذا بصق في الصلاة فلا تفسد صلاته، كذلك إذا بصق في منديل أو في ثوبه، ويرد بعضه على بعض، وإذا كان في الصحراء خارج المسجد وبصق عن يساره فلا بأس أن يبصق عن يساره في الأرض، أما إذا كان في الصلاة فإنه يبصق في ثوبه أو في منديل، وفي الصحراء يبصق عن يساره أو تحت قدمه، وإذا أصاب البصاق الثوب فإنه طاهر والبزاق هو البصاق، بضم الباء، أما البزاق ففيه ثلاث لغات: بُزاق، بَزاق، بِزاق، أو بصاق وبساق بالصاد وبالسين، وهذا الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بزق في ثوبه وحك بعضه على بعض، فدل على أن البزاق طاهر، والحديث الأول وإن كان مرسل إلا أن الحديث الثاني يسانده.