شعار الموقع

شرح كتاب المناسك من سنن أبي داود_4

00:00
00:00
تحميل
114

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم عَلَى نَبِيُّنَا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. 

(المتن) 

قَالَ الإمام أبو داود في سننه: 

باب في إفراد الحج. 

1777- حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي، قال: حدثنا مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج». 

(الشرح) 

بسم الله، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك عَلَى نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. 

 قَالَ المؤلف رحمه الله تعالى: (بابٌ في إفراد الحج). 

من المعلوم أن وجوه الإحرام ثلاثة: الإفراد، القران، التمتع. 

فالإفراد: هو أن يُحرم بالحج وحده، يلبي بالحج وحده ويبقى عَلَى إحرامه ولا يتحلل يوم العيد إذا أحرم في أشهر الحج، وأشهر الحج شوال أولها يوم العيد، يوم عيد الفطر، فلو أحرم يوم العيد بالحج صح إحرامه ويبقى عَلَى إحرامه إِلَى أن يتحلل من إحرامه يوم عيد الأضحى، يَعْنِي: يجلس شهرين وعشرة أيام. 

الوجه الثاني من وجوه الإحرام القران: وهو أن يلبي بالعمرة والحج معًا، يقول: لبيك عمرةً وحجًا، كذلك القارن يبقى عَلَى إحرامه فلا يتحلل إلا يوم العيد، ولو أحرم يوم واحد من شوال وهو يوم العيد. 

الوجه الثالث من وجوه الإحرام التمتع: وهو أن يُحرم بالعمرة وحدها، كذلك القران أن يُحرم بالعمرة ثم يدخل الحج عليها قبل البدء بالطواف يكون قارنا، المتمتع يُحرم بالعمرة وحدها ثم يطوف ويسعى ويقصر ويتحلل، ثم يبقى حلالًا حتى يأتي اليوم الثامن من ذي الحجة فيحرم بالحج ثم يتحلل يوم العيد، والقارن والمتمتع كلٌ منهما عليه هدي؛ ذبح يذبحه يوم العيد شكرًا لله حيث جمع بين نسكين في سفرة واحدة، وأما المفرد فليس عليه هدي. 

والنبي r خير الناس عند الميقات، خطب الناس r في المدينة وبين لهم أَنَّه سيحج فسمع الناس حج النَّبِيِّ r فأتى بشر كثير من جميع الجهات من القبائل ليأتموا بالنبي r ثم ارتحل r لما خطب الناس في اليوم الرابع والعشرين من ذي القعدة، أو الخامس والعشرين يوم السبت ثم تجهز ثم بدأ السفر من المدينة ونزل بذي الحليفة وأقام بها وصلى بها العصر، صلى بالمدينة أربعًا ثم لما فارق بيوت البلد صلى العصر بذي الحليفة ركعتين وأقام فيها، صلى فيها العصر والمغرب والعشاء والفجر والظهر من الغد، وجاء البشر الكثير من جميع القبائل ليأتموا بالنبي r، ثم أحرم بالحج بعد الظهر r وهو في وسط الناس، وكان الناس قال جابر -رضي الله عنه- مد البصر: الناس أمامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله، حتى تكاملوا في عرفة مائة ألف، خيرهم r عند الميقات بين الوجوه الثلاثة: التمتع، القران، الإفراد، كما سيأتي في الأحاديث: فمنهم من أهل بحج وحده، ومنهم من أهل بالعمرة، ومنهم من أهل بالعمرة والحج. 

ثم لما قرب من مكة قَالَ r: اجعلوها عمرة إِلَّا من ساق الهدي، ثم لما طافوا وسعوا ألزمهم وحتم عَلَيْهِمْ أن يتحللوا كلهم إِلَّا من ساق الهدي، واختلف العلماء في هذا؟ فجمهور العلماء عَلَى أن التخيير باقٍ بين الوجوه الثلاثة: الإفراد، القران، التمتع، وذهب بعض العلماء إِلَى أن التخيير منسوخ وأنه يَجِبُ التمتع؛ لِأَنّ النَّبِيِّ r حتم عَلَيْهِمْ وألزمهم حتى تحللوا كلهم إِلَّا من ساق الهدي، قالوا: هذا دليل عَلَى النسخ، وذهب إلى هذا ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: كل من طاف وسعى لزمه أن يتحلل شاء أم أبى؛ لِأَنّ الرسول r ألزم الناس بهذا، وتحللوا كلهم إلا من ساق الهدي فمن ساق الهدي يبقى عَلَى إحرامه ومن لم يسق الهدي يَجِبُ عليه أن يتحلل، ذهب إِلَى هذا اِبْن عباس وهو رواية عن الإمام أحمد واختارها اِبْن القيم رحمه الله في زاد المعاد فَقَالَ: وأنا إلى قول اِبْن عباس أنا أميل منه إِلَى قول شيخنا؛ شيخ الإسلام اِبْن تيمية، واختارها من المتأخرين الشيخ ناصر الدين الألباني قالوا: المتعة نُسخ التخيير ما في إِلَّا التمتع والقران، من ساق الهدي يكون قارن ومن لم يسق الهدي يَجِبُ عليه أن يتمتع؛ اختاره اِبْن عباس وابن القيم، وهو رواية عن الإمام أحمد، والشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله. 

أما شيخ الإسلام اِبْن تيمية فيرى أن الوجوب خاصٌ بالصحابة ليزول اعتقاد الجاهلية؛ لِأَنَّهُم في الجاهلية يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، يقول: ما في عمرة، أيام أشهر الحج خاصة بالحج، ويقولون قولتهم المشهورة: إذا عفا الأثر وبرأ الدبر وانسلخ شهر ضفر حلت العمرة لمن اعتمر، إذا عفا أثر الإبل، وبرأ الدبر: الإبل يكون فيها جروح، فإذا قدمت يعالجونها فإذا برأت من الجروح، وانسلخ شهر سفر بعد ذلك تبدأ العمرة، النَّبِيِّ r حتم عَلَيْهِمْ وألزمهم ليزول اعتقاد الجاهلية -هذا قول شيخ الإسلام- وأما ما عدا الصحابة فهو مستحب، وأما جمهور العلماء فيرون أن التخيير باقي ولكنهم اختلفوا في الأفضل فمنهم من قَالَ: الأفضل الإفراد، ومنهم من قَالَ: القران، والصواب في المسألة: التمتع؛ لِأَنَّهُ هو الذي أمر بِهِ النَّبِيِّ r أصحابه إِلَّا من ساق الهدي فالأفضل في حقه القران، وسيأتي هذا في الأحاديث. 

فهذا الحديث: حديث عائشة رضي الله عنها: «أن رسول الله r أفرد الحج» الحديث صحيح أخرجه مسلم، والترمذي والنسائي، من المعلوم أن النَّبِيِّ r -وجاء في الأحاديث الكثيرة- أن النَّبِيِّ r حج قارنًا، قَالَ الإمام أحمد في بضعة عشر حديثًا، وهذا محمول عَلَى أن عائشة رضي الله عنها سمعته يلبي بالحج ولم تسمعه يلبي العمرة فظنت أنه أراد الحج، الصواب الذي رواه جمع من الصحابة أن النَّبِيِّ r قرن بين الحج والعمرة فلبى بهما. 

قَالَ الإمام أحمد رحمه الله: لا أشك أن النَّبِيِّ r كان قارنًا، رواه بضعة عشر صحابيًا عن النَّبِيِّ r، قَالَ الخطابي: لم تختلف الأمة في أن الإفراد والقران والتمتع بالعمرة إِلَى الحج كلها جائزة هذا عَلَى قول الجمهور، غير أن طوائف من العلماء اختلفوا في الأفضل، قَالَ مالك والشافعي: الإفراد أفضل، قَالَ أبو حنيفة وأصحابه: القران أفضل، وقال أحمد بْنُ حنبل: التمتع بالعمرة إِلَى الحج هو الأفضل، لَكِنْ النَّبِيِّ r قَالَ لأصحابه لما أمرهم بالتحلل قَالَ: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولا حججت معكم» يَعْنِي قَالَ: لو كنت أظن أنكم تتأخرون ولا تبادرون بالفسخ لما سقت الهدي وأحللت معكم حتى تقتدوا بي، قالت عائشة وغيرها: لمَ يا رسول الله الناس حلوا ولم تحل؟ قَالَ: «إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر». 

من معه الهدي لا يتحلل حتى يذبح هديه، والنبي r ساق الهدي، وتلبيد الرأس يَعْنِي: يجعل شيئا عَلَى الرأس يُمسكه حتى لا يتشعث؛ لِأَنّ المدة طويلة ليس مثل الآن يأتي للحج قبل يوم أو يومين؛ لا، النَّبِيِّ r في الطريق من خمس وعشرين: تسعة أيام في الطريق إِلَى أربعة ذي الحجة، ثم من أربعة ذي الحجة إِلَى خمسة عشر؛ عشرة أيام فصارت مدة لا تقل عن نصف شهر، والمدينة قريبة، وكان الناس عَلَى الإبل سابقا يأتون مثلا    من القصيم والرياض مثلًا المدة شهر ذهاب والإياب شهر، الآن وسائل النقل الحديثة الناس تذهب بالطائرة يوم عرفة في الليل ويُدرك الحج. 

فإن قيل: خرج في الآونة الأخيرة بعض المواد تشبه التلبيد مثل الجيل وغيره، يضعونه بعض الناس عَلَى الشعر فيوقف (يثبت) الشعر؟ 

عَلَى كل حال سوق الهدي نادر الآن، من الذي يسوق الهدي ويجلس مدة طويلة يلبد شعره! 

(المتن) 

1778- حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن زيد، ح وحدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد يعني ابن سلمة، ح وحدثنا موسى، حدثنا وهيب، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم موافين هلال ذي الحجة فلما كان بذي الحليفة قال: «من شاء أن يهل بحج فليهل، ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل بعمرة». قال موسى: في حديث وهيب، فإني لولا أني أهديت لأهللت بعمرة، وقال في حديث حماد بن سلمة: وأما أنا فأهل بالحج فإن معي الهدي، ثم اتفقوا فكنت فيمن أهل بعمرة فلما كان في بعض الطريق حضت، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: «ما يبكيك؟»، قلت: وددت أني لم أكن خرجت العام، قال: «ارفضي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي». قال موسى: «وأهلي بالحج» وقال سليمان: «واصنعي ما يصنع المسلمون في حجهم» فلما كان ليلة الصدر أمر يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن فذهب بها إلى التنعيم زاد موسى: «فأهلت بعمرة مكان عمرتها وطافت بالبيت فقضى الله عمرتها وحجها»، قال هشام: ولم يكن في شيء من ذلك هدي. قال أبو داود: زاد موسى في حديث حماد بن سلمة: «فلما كانت ليلة البطحاء طهرت عائشة رضي الله عنها». 

(الشرح) 

هذا الحديث هو حديث عائشة أخرجه الشيخان البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة، وهو حديث صحيح، وفيه أن عائشة قالت: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم موافين هلال ذي الحجة» لِأَنّ أهل عَلَيْهِمْ ذي الحجة وهم في الطريق، في اليوم الرابع «فلما كان بذي الحليفة» هو ميقات أهل المدينة تسمى أبيار علي، الحليفة تصغير حلفة، وسميت بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ فيهِ شجرة الحلفة وكانت كثيرة في هذا المكان فسمي ذو الحليفة، فَلَمّا كَانُوا بذي الحليفة خيرهم r، قال: «من شاء أن يهل بحج فليهل، ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل بعمرة» ولم تذكر هنا النسك الثالث، في الحديث الآتي: عن عروة عن عائشة قالت: «ومن شاء أن يُهل بحج وعمرة فليفعل» فالصواب أن النَّبِيِّ r خيرهم بين الوجوه الثلاثة وهنا ذكر وجهين فقط. 

قَالَ: «من شاء أن يهل بحج فليهل» هذا الإفراد، «ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل بعمرة» هذا التمتع، والحديث الآتي حديث عروة عن عائشة: «ومن شاء أن يُهل بحج وعمرة فليفعل». 

(قال موسى) الراوي هنا لِأَنّ الحديث الآن من رواية سليمان بْنُ حرب ومن رواية موسى عن وهيب، قَالَ موسى في حديث وهيب (..): «فإني لولا أني أهديت لأهللت بعمرة» الرسول يقول: لولا أني سقت الهدي معي لأهللت بعمرة، يَعْنِي: عمرة مستقلة عن الحج. 

(وقال: في حديث حماد بن سلمة) حماد بْنُ سلمة، لِأَنَّهُ قَالَ: أخبرنا موسى بْنُ إسماعيل قَالَ أخبرنا حماد يَعْنِي: اِبْن سلمة: «وأما أنا فأهل بالحج فإن معي الهدي». 

(ثم اتفقوا) يَعْنِي: الرواة: سليمان بْنُ حرب، وموسى بْنُ إسماعيل، قالت عائشة: «فكنت فيمن أهل بعمرة"  إذن عائشة أهلت بعمرة، قالت عائشة:  "فلما كان في بعض الطريق، حضت" جاء الحيض "فدخل عليَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك؟ قلت: وددت أني لم أكن خرجت العام» يَعْنِي: تمنت أنها ما خرجت العام لِأَنَّهَا أصابها الحيض ما تستطيع تكمل، قال: «ارفضي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي» قال موسى: «وأهلي بالحج» وقال سليمان: «واصنعي ما يصنع المسلمون في حجهم». 

قوله: «ارفضي عمرتك» يَعْنِي: ارفضي أعمال العمرة، واغتسلي وأهلي بالحج وأدخلي الحج عَلَى العمرة، فتكون قارنة، كما قَالَ الشافعي لا أنها تترك العمرة أصلًا كما قَالَ الخطابي، «وامتشطي» قَالَ بَعْضُهُم: لعلها تنقض رأسها وتمتشط مشطًا برفق حتى يستقيم الشعر إما بالمشط وقال بَعْضُهُم: بأصابعها. 

(فلما كان ليلة الصدر) الصدر بإسكان الراء يَعْنِي: الرجوع من مكة للمدينة وهي ليلة الرابع عشر من ذي الحجة، (..) يا رسول الله: يذهب صواحبي بحج وعمرة، وأذهب بحج، عندها حج مع عمرة، لكنها تبغي عمرة مستقلة، فقال النب صلى الله عليه وسلم لأخيها عبد الرحمن: (أمر يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن) أخوها عبد الرحمن بْنُ أبي بكر، (فذهب بها إلى التنعيم) لِأَنَّهُ أقرب الحِل، وإلا يُحرم من أي مكان، زاد موسى: «فأهلت بعمرة» يَعْنِي: عمرة ثانية تطوعًا تطييبًا لنفسها، «مكان عمرتها وطافت بالبيت فقضى الله عمرتها وحجها». 

(قال هشام) هشام بْنُ عروة الراوي، (ولم يكن في شيء من ذلك هدي) يَعْنِي: إذا أخذ عمرة بعد الحج ما في هدي، الهدي إِنَّمَا يكون لمن اعتمر قبل الحج ثم حج من عامه عليه الهدي، أما من أفرد الحج فَإِنَّهُ ليس عليه هدي ولو اعتمر بعد الحج، إنما الهدي لمن اعتمر قبل حجه سواء عمرة القارن أو عمرة المتمتع، فحصلت لعائشة العمرتان؛ وهذا الحديث أصلٌ في العمرة المكية، وهي مسألة خلافية بين أهل العلم، وهي أَنَّه هل يجوز لأهل مكة ولمن كَانَ مقيمًا بها أن يخرج للحل التنعيم أو غيره فيُحرم بالعمرة؟ أو لا يجوز؟ الجمهور قالوا: يجوز، والدليل: فعل عائشة، لِأَنّ عائشة أدخلت الحج على العمرة واعتمرت بعد عشرة أيام، عشرة أيام بين العمرتين، وشيخ الإسلام وجماعة قالوا: ليس عَلَى أهل مكة عمرة، يَعْنِي: اختلفوا في العمرة المكية، فقالوا: أهل مكة ما عَلَيْهِمْ عمرة؛ لِأَنّ العمرة هي الزيارة ومن في جوف مكة كيف يزوره، وَكَذَلِكَ من قدم مكة يعتمر ولا يعتمر عمرة ثانية. 

وقالوا: إن النَّبِيِّ r حج وحج معه مائة ألف ولم يعتمروا، ما اعتمر النَّبِيِّ r بعد الحج، لم يعتمر ولم يعتمر أحد إِلَّا عائشة لِأَنَّهَا حاضت ولأنها لم تطب نفسها وطلبت من النَّبِيِّ r فأذن لها، والجمهور قالوا: لما أذن لها دل عَلَى الجواز، وليس هناك فاصل بين العمرتين زمنًا محددًا، والأصل في هذا قول النَّبِيِّ r: «العمرة للعمرة كفارة لما بينهما» لَكِنْ في وقت الموسم لا ينبغي له أن يزاحم ويؤذي الناس فَإِن النَّبِيِّ r ومن معه لم يعتمروا بعد الحج، لَكِنْ قَالَ جمع من أهل العلم: ينبغي أن يكون بين العمرة والعمرة بمقدار ما ينبت شعر الرأس: أسبوع مثلا أو ما أشبه ذلك، أما ما يفعله بعض الحجاج كونه يعتمر في الصباح ويعتمر في المساء وكل يوم عمرة يكرر العمرة ويوزعها كأنها صدقات، عمرة لأبيه في الصباح، ثم في المساء عمرة لأمه، وغدًا عمرة لجده، وبعد غد لجاره، يوزعها كأنها صدقات ولو قيل له تصدق بعشرة ريالات ما تصدق، لَكِنْ ما دام ما ينفق شيء يتردد، ولهذا قَالَ بعض السلف: هؤلاء الذين يعتمرون ويترددون ما أدري أيعذبون أم يثابون، المقصود أن هذا التكرار يوميًا هذا ما عليه دليل، (..) وإن كَانَ ليس هناك دليل يدل عَلَى التحديد لَكِنْ هذا التكرار صباحا ومساءً ويوميًا ما عليه دليل. 

اِبْن القيم رحمه الله قَالَ: الأحاديث الصحيحة صريحة بأن عائشة أهلت أولًا بعمرة ثم أمرها رسول الله r لما حاضت أن تُهل بالحج فصارت قارنة، ولهذا قَالَ النَّبِيِّ r: «يكفيكِ طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة لحجكِ وعمرتكِ» متفق عليه، يقول: وهذا صريح في رد قول من قَالَ: إنها رفضت إحرام العمرة رأسًا وانتقلت إِلَى الإفراد، وَإِنَّمَا أُمرت برفض أعمال العمرة من الطواف والسعي حتى تطهر لا بأصل إحرامها، وأما قوله: (ولم يكن في شيء من ذلك هديٌ) هذا مدرج من كلام هشام بْنُ عروة. 

قَالَ: وأما قول من قَالَ: إنها أحرمت بحجة ثم نوت فسخه بعمرة ثم رجعت إِلَى حج مفرد فهو خلاف ما أخبرت بِهِ عن نفسها، وخلاف ما دل عليه قول النَّبِيِّ r لها: «يسعكِ طوافك لحجكِ وعمرتكِ» والنبي r إِنَّمَا أمرها أن تُهل بالحج لما حاضت، كما أخبرت بِذَلِكَ عن نفسها، وأمرها أن تدع العمرة وتُهل بالحج، وهذا كَانَ بسرف قبل أن يأمر أصحابه بفسخ الحج من العمرة، فإنهم إِنَّمَا أمرهم بِذَلِكَ عَلَى المروة. 

وناقش اِبْن القيم رحمه الله الإعراض في هذا، إعراض بعض العلماء قَالَ: وقوله إنها أشارت بقولها فكنت فيمن أهل بعمرة إلى الوقت الذي نوت فيه الفسخ في غاية الفساد فإن صريح الحديث يشهد ببطلانه فإنها قالت: «فكنت فيمن أهل بعمرة فلما كان في بعض الطريق» هذا صريح في أنها حاضت بعد إهلالها بعمرة، ومن تأمل أحاديثها علم أنها أحرمت أولًا بعمرة ثم أدخلت عليها الحج فصارت قارنة ثم اعتمرت من التنعيم عمرة مستقلة تطييبًا لنفسها. 

وقد غلط في قصة عائشة من قَالَ: إنها كانت مفردة وإن عمرتها من التنعيم هي عمرة الإسلام الواجبة -بعض العلماء قال: إنها مفردة بالحج، وعمرة التنعيم هي عمرة الإسلام- وغلط من قال إنها كانت متمتعة ثم فسخت المتعة إلى الإفراد وكانت عمرة التنعيم قضاء لتلك العمرة -غلط من بعض العلماء نبه عليه ابن القيم- وغلط من قال إنها كانت قارنة ولم يكن عليها هدي ولا صوم وأن ذلك إنما يجب على المتمتع، ومن تأمل أحاديثها علم ذلك وتبين له أن الصواب ما ذكرناه والله أعلم.  

فإن قيل: من قَالَ: إن عمرة عائشة خاصٌ بها تكرارها لِأَنَّهَا رُخص لها في مسألة الحيض؟ 

ما أحد قَالَ خاصة بها، وَلَكِن قالوا: بعائشة وبمن كَانَ حاله مثل حالها، والجمهور قالوا: لما أذن لها دل عَلَى الرخصة للجميع. 

(المتن) 

1779- حدثنا القعنبي عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بالحج، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، فأما من أهل بالحج أو جمع الحج والعمرة، فلم يحلوا حتى كان يوم النحر». 

(الشرح) 

هذا الحديث أخرجه الشيخان البخاري ومسلم، والنسائي وابن ماجة، وفيه: أن النَّبِيِّ r خيرهم بين الأنساك الثلاثة قَالَت: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع "فمنا من أهل بعمرة" هذا الأول، "ومنا من أهل بحج وعمرة" هذا القران، "ومنا من أهل بالحج» هَذِه الثلاثة وفي الحديث السابق ذكرت وجهين، «وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج» وهذا محمول عَلَى ما سبق لِأَنّ عائشة سمعته يلبي بالحج ولم تسمعه يلبي بالعمرة فأخبرت عَلَى حسب ما سمعت، والصواب الذي عليه المحققون: أن النَّبِيِّ r أحرم قارنًا، قَالَ الإمام أحمد: فيهِ بضعة عشر حديثًا، والبضع من الثلاثة إِلَى تسعة كلها تدل عَلَى أَنَّه أحرم قارنًا، فيُحمل قول عائشة عَلَى أنها سمعته يلبي بالحج فظنت أَنَّه أحرم مفردًا.  

الشارح قَالَ: المحققون قَالَوا في نسكه r إنه القران، فقد صح ذلك من رواية اثني عشر من الصحابة، بحيث لا يحتمل التأويل، فجمع أحاديثهم ابْنُ حزم الظاهري في حجة الوداع له وذكرها حديثًا حديثا، قالوا: وبه يحصل الجمع بين أحاديث الباب. 

(المتن) 

1780- حدثنا ابن السرح، أخبرنا ابن وهب، أخبرني مالك، عن أبي الأسود، بإسناده مثله زاد: «فأما من أهل بعمرة فأحل». 

(الشرح) 

هذا تابع للحديث السابق؛ لِأَنَّهُ زاد: «فأما من أهل بعمرة فأحل» لِأَنَّهُ يكون متمتعا، الحديث السابق قَالَ أبو داود: زاد موسى في حديث حماد بْنُ سلمة: «فَلَمّا كانت ليلة البطحاء طهرت عائشة» والأول قَالَ: ليلة الصدر، ليلة البطحاء: هي الليلة الَّتِي نزل فيها بالبطحاء، والبطحاء سميت بِطحاء؛ لِأَنّ فيها حصبا لِأَنَّهَا مسيل: مجرى المسيل وهي ما بين مكة إِلَى منى، ويدخل فيها منى، كَانَ الحجاج ينزلون فيها إِلَى عهد قريب، فالرسول r والصحابة نزلوا في هذا المكان قبل الحج، فَلَمّا جاء اليوم الثامن انتقلوا إِلَى منى، فَلَمّا كَانَ يوم الرابع عشر نزل فيها، قيل للنبي: «أين تنزل غدًا؟ قَالَ: بخيف بني كنانة حيث تقاسموا عَلَى الكفر» سماه خيف بني كنانة، ويسمى الأبطح، والحصبى، ولأن هذا المكان الذي حصرت قريش بني هاشم في الشعب في هذا المكان، وكتبوا بِذَلِكَ صحيفة وعلقوها في جوف الكعبة وقاطعوا بني هاشم، حتى يسلموا لهم الرسول r. النبي -صلى الله عليه وسلم- قيل له أين تنزل؟ قال: "بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر" المكان الذي تقاسمت فيه قريش على الكفر نزل فيه النبي، يظهر الإسلام في المكان الذي ظهر فيه الكفر. (..) خيف بني كنانة: وادي وهو المكان الذي حاصرت فيه قريش بني هاشم وكتبوا صحيفة علقوها لا يبيعون لبني هاشم ولا يؤاكلونهم ولا يكلمونهم ولا يناكحونهم حتى يسلموا النبي، وبقوا على ذلك أياما. النبي -صلى الله عليه وسلم نزل بذلك المكان. 

فإن قيل: هو الأبطح الآن المراد بِهِ حي العدل؟ 

الآن ما فيه أبطح خلاص راح، كل شيء أصبح في منى، كَانَ الأول أرض فراغ بطحاء ونزل فيهِ النَّبِيِّ r، (..) وكانت مباني مكة قريبة، الآن ما في بطحاء وما في إِلَّا شوارع وشقق وعمائر. 

فإن قيل: بالنسبة للأنساك الثلاثة إذا إنسان يتطوع دائمًا في الحج هل له أن ينوع مرة إفراد، مرة قران، ولا يركز عَلَى الأفضل؟ 

لا حرج، لَكِنْ الأفضل التمتع وهو الذي فعله النَّبِيِّ والصحابة. 

(المتن) 

1781- حدثنا القعنبي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنها قالت: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعًا، فقدمت مكة وأنا حائض ولم أطف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج، ودعي العمرة، قالت: ففعلت فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم فاعتمرت، فقال: هذه مكان عمرتك، قالت: فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا، ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم، وأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافًا واحدًا» قال أبو داود: رواه إبراهيم بن سعد، ومعمر، عن ابن شهاب نحوه لم يذكروا طواف الذين أهلوا بعمرة وطواف الذين جمعوا الحج والعمرة. 

(الشرح) 

هذا الحديث أخرجه الشيخان البخاري ومسلم، والنسائي، وفيه: أن النَّبِيِّ r قَالَ لعائشة: «انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج، ودعي العمرة» يَعْنِي: دعي أعمال العمرة وأهلي بالحج حتى تكوني قارنة، هي لازلت محرمة فأمرها أن تترك أعمال العمرة وتدخل الحج عليها، وتغتسل للحج. انقضي رأسك: الضفائر، وامتشطي: يعني تعيدها مرة أخرى: تنقض الضفائر ثم تعيدها مرة أخرى هذا الامتشاط. 

وقوله: «هَذِه مكان عمرتكِ» يَعْنِي: الَّتِي تودين أن تكون عمرة مستقلة وإلا حصلت لها العمرتان، «قالت: فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا، ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم، وأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافًا واحدًا» المراد بهذا الطواف: الطواف بين الصفا والمروة، فهذا خاص بالمتمتعين، ولهذا قَالَت: الذين تحللوا طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منى، وأما الطواف بالبيت بعد الرجوع من منى وهو طواف الإفاضة فهذا لجميع الحجاج، المفردين، القارنين، المتمتعين، هذا لا يكون إِلَّا بعد عرفة.  

قولها: «وأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافًا واحدًا» يَعْنِي: سعوا سعيًا واحد، وهذا فيهِ دليل عَلَى أن القارن ليس عليه إِلَّا طواف واحد، فيهِ الرد عَلَى أبي حنيفة، أبو حنيفة يرى أن القارن عليه طوافان وسعيان مثل المتمتع، والصواب: أن القارن ليس عليه إِلَّا طواف واحد (..)، القارن والمفرد ما عليهما إِلَّا سعيًا واحد، والمتمتع عليه سعيان لِأَنَّهَا عمرة منفصلة للمتمتع، طواف وسعي للعمرة وطواف وسعي للحج، وأما القارن فَإِن العمرة داخلة في الحج. أبو حنيفة يرى أن القارن عليه طوافان وسعيان. 

قوله: "وامتشطي": الامتشاط: العلماء تكلموا الخطابي قال: استشكل بعض أهل العلم أمر النَّبِيِّ لها بنقض رأسها ثم يقول الامتشاط، كَانَ الشافعي يتأوله: عَلَى أَنَّه أمرها أن تدع العمرة وتُدخل عليها الحج فتصير قارنة، قالوا: هذا لا يشاكل القصة، وقيل: إن مذهبه أن المعتمر إذا دخل مكة استباح ما يستبيحه الحاج إذا رمى الجمرة وهذا لا يعلم وجهه، وأما الامتشاط فالمراد بِهِ تسريحها شعرها بأصابعها برفق حتى لا يسقط منه شيء ثم تضفره كما كَانَ. 

قَالَ اِبْن القيم رحمه الله: وقد احتج بِهِ اِبْن حزم عَلَى أن المحرم لا يحرم عليه الامتشاط ولم يأت بتحريمه نص، وحمله الأكثرون عَلَى امتشاط رفيق لا يقطع الشعر، ومن قَالَ: كَانَ بعد جمرة العقبة فسياق الحديث يبطل قوله، ومن قَالَ: هو التمشط بالأصابع فقد أبعد في التأويل، ومن قَالَ: إنها أُمرت بترك العمرة رأسًا فقوله باطل لما تقدم، فإنها لو تركتها رأسًا لكان قضاؤها واجبًا، والنبي r قد أخبرها أنها لا عمرة عليها وأن طوافها يكفيها عنهما، وقوله: «أهلي بالحج» صريح في أن إحرامها الأول كَانَ لعمرة كما أخبرت بِهِ عن نفسها، ويبطل قول من قَالَ: كانت مفردة فأُمرت باستدامة الإفراد. 

والحديث دليل عَلَى تعدد السعي عَلَى المتمتع، فإن قولها: «ثم طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من حجهم» تريد بِهِ الطواف بين الصفا والمروة، ولهذا نفته عن القارنين، ولو كَانَ المراد بِهِ الطواف بالبيت لكان الجميع فيهِ سواء فَإِن طواف الإفاضة لا يفترق فيهِ القارن والمتمتع، وقد خالفها جابر في ذلك، ففي صحيح مسلم عنه أنه قال: «لم يطف النبي r ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافًا واحدًا طوافه الأول» لَكِنْ هذا يُحمل عَلَى القارنين، قال: وأخذ الإمام أحمد بحديث جابر هذا في رواية اِبْن عبد الله، وهو اختيار شيخ الإسلام، شيخ الإسلام يختار أن القارن المتمتع ما عليه إِلَّا طواف واحد، نص في مناسكه قَالَ: وليس عَلَى المفرد والقارن إِلَّا طواف واحد، يَعْنِي: سعي واحد، قَالَ: وَكَذَلِكَ المتمتع في أصح أقوالهم وروي عن الإمام أحمد، قَالَ: هذا هو الصحيح، والصواب: أن المتمتع عليه سعيان؛ لأن العمرة منفصلة عن الحج. 

فإن قيل: دليل شيخ الإسلام رحمه الله إِنَّمَا عليه سعي واحد؟ 

يقول: دخلت العمرة في الحج إِلَى يوم القيامة. 

(..) 

(المتن) 

1782- حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، أنها قالت: «لبينا بالحج حتى إذا كنا بسرف حضت فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك يا عائشة؟ فقلت: حضت ليتني لم أكن حججت، فقال: سبحان الله إنما ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم، فقال: انسكي المناسك كلها غير أن لا تطوفي بالبيت، فلما دخلنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شاء أن يجعلها عمرة فليجعلها عمرة، إلا من كان معه الهدي، قالت: وذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه البقر يوم النحر، فلما كانت ليلة البطحاء وطهرت عائشة قالت: يا رسول الله، أترجع صواحبي بحج وعمرة وأرجع أنا بالحج، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبي بكر، فذهب بها إلى التنعيم فلبت بالعمرة». 

(الشرح) 

الحديث رواه الشيخان البخاري ومسلم، وهو حديث صحيح، قولها: «لبينا بالحج حتى إذا كنا بسرف حضت» سرف: مكان بين مكة والمدينة عَلَى أميال قيل: ستة، وقيل تسعة، وقيل عشرة، قريب، «فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي» تبكي لِأَنَّهَا ظنت أنها ممنوعة الآن من بقية المناسك، «فقال: ما يبكيك يا عائشة؟ فقلت: حضت ليتني لم أكن حججت، فقال: سبحان الله إنما ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم» وهذا تسلية لها، يَعْنِي: إنكِ لست مختصة بهذا بل كل بنات آدم يكون لهن هذا، كما يكون بينهن وبين الرجال البول والغائط وغيرها. 

وقوله: «كتبه الله عَلَى بنات آدم» احتج بِهِ العلماء عَلَى أن جميع بنات آدم يصيبهن الحيض وأن هذا عام، وفيه الرد: إن أول ما أُرسل الحيض عَلَى بنات بني إسرائيل، وهذا باطل؛ لِأَنّ الله قد كتبه عَلَى بنات آدم، من آدم والنساء يصيبهن الحيض، وليس ابتداءه من نساء بني إسرائيل. 

قالت: «وذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه البقر يوم النحر» يَعْنِي: لأنهن متمتعات، «فلما كانت ليلة البطحاء» وهي ليلة الرابع عشر، البطحاء: يَعْنِي الليلة الَّتِي نزل فيها النَّبِيِّ r في البطحاء؛ لِأَنَّهُ r في اليوم الثالث عشر لما رمى ضُربت له قبة في البطحاء بين مكة والمدينة، وهي الحصبة، تسمى بطحاء لأن فيها بطحاء، وتسمى حصبة لِأَن فيَّهَا حصباء، وهي مسيل الوادي بين مكة ومنى، «فَلَمّا كانت البطحاء وطهرت عائشة قالت: يا رسول الله، أترجع صواحبي بحج وعمرة وأرجع أنا بالحج» (..) لكنها تريد عمرة مستقلة، النساء حللن وهي أصابها الحيض ما استطاعت أن تتحلل فلم تطب نفسها، «فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبي بكر، فذهب بها إلى التنعيم فلبت بالعمرة» وأحرمت من التنعيم. 

بَعْضُهُم قَالَ: «وذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه البقر يوم النحر» احتج بَعْضُهُم عَلَى أن البقر أفضل لَكِنْ ليس بظاهر، أفضل من الإبل، قال: لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذبح عن نسائه البقر، وأما الجمهور فقالوا: البدنة أفضل من البقرة؛ لأن النبي r قَالَ في ساعة الجمعة: «من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة». 

(المتن) 

1783- حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى إلا أنه الحج، فلما قدمنا تطوفنا بالبيت فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن ساق الهدي أن يَحل، فأحل من لم يكن ساق الهدي». 

(الشرح) 

هذا الحديث أخرجه الشيخان البخاري ومسلم، والنسائي، وفيه: «ولا نرى إِلَّا الحج» لِأَنَّهُ في الجاهلية يرون أن أشهر الحج ما فيها إِلَّا الحج، ما في عمرة في أشهر الحج، عَلَى ما كَانُوا في الجاهلية، بل إنهم يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، ولهذا أمرهم النَّبِيِّ r أن يتحللوا حتى يزول اعتقاد الجاهلية، شيخ الإسلام خص الصحابة بالوجوب، والجمهور عَلَى أن الأنساك باقية، اِبْن عباس وجماعة قَالَ: التخيير نُسخ ما فيهِ إِلَّا متعة، إن ساق الهدي يكون قارنا وإن لم يسق يَجِبُ عليه التمتع، والجمهور على أن الأنساك كلها باقية. "لا نرى إلا أنها الحج" تقول عائشة، فلما طافوا وسعوا أمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فتحللوا إلا من ساق الهدي. 

(المتن) 

1784- حدثنا محمد بن يحيى بن فارس الذهلي، حدثنا عثمان بن عمر، أخبرنا يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لما سقت الهدي» قال محمد: أحسبه قال: «ولحللت مع الذين أحلوا من العمرة»، قال: أراد أن يكون أمر الناس واحدًا. 

(الشرح) 

فيهِ: أن النَّبِيِّ r لما أمر أصحابه أن يتحللوا شق عَلَيْهِمْ ذلك، والنبي r باق عَلَى إحرامه فَقَالَ لهم النَّبِيِّ r: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لما سقت الهدي» قال محمد: أحسبه قال: «ولحللت مع الذين أحلوا من العمرة»، قال: أراد أن يكون أمر الناس واحدًا؛ يَعْنِي: لو عَنَّ لى هذا الْأَمْرِ الذي رأيته آخرًا وأمرتكم بِهِ في أول الْأَمْرِ لما سقت الهدي معي وقلدته وأشعرته، فَإِنَّهُ إذا فعل ذلك لا يحل حتى ينحر الهدي: إلا يوم النحر الرسول r أمرهم بالتحلل وكانوا في الجاهلية يرون أن العمرة ما تجوز، قالوا: يا رسول الله كيف نتحلل؟ أي حل؟ حل كامل ولا بعض حل؟ قَالَ: الحل كله، قالوا: يا رسول الله أنت ما تحللت؟ قال: معي الهدي ما أستطيع، لبدت رأسي وقلدت الهدي، فقالوا: يا رسول الله ما بقي إلا أربع ليال عَلَى الحج على عرفة، قَالَ: أحلوا، قالوا يا رسول الله: يذهب أحدنا يقطر ذكره منيًا ويذهب إِلَى عرفة! استنكروا، يَعْنِي: الذي تحلل ثم يذهب إلى عرفة، استنكروا هذا، في الجاهلية ما في عمرة عندهم، ولهذا النَّبِيِّ r حتم عَلَيْهِمْ وألزمهم أن يتحللوا كلهم وتأسف قَالَ: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لما سقت الهدي» وعلمت أنكم تتلكئون وتتأخرون لما سقت الهدي وأحللت معكم حتى تقدوا بي، لكني ما أستطيع الآن، لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر، فتحللوا كلهم إِلَّا من ساق الهدي، فزال اعتقاد الجاهلية. شيخ الإسلام قال: خاص بالصحابة حتى يزول اعتقاد الجاهلية، وابن عباس يقول: عام، لا يجوز إلا التمتع إلا من ساق الهدي، واختار الإمام أحمد قول اِبْن عباس وقال: أميل إلى قول اِبْن عباس أكثر من ميلي إِلَى شيخنا، في زاد المعاد، قَالَ: وأنا أميل منه إِلَى قول شيخنا، كذلك محمد بْنُ نصر الدين الألباني، أما جمهور العلماء يرون أن الأنساك باقية وَلَكِن اختلفوا في الأفضل، منهم من قَالَ: الإفراد، ومنهم من قَالَ: القران، ومنهم من قَالَ: التمتع. 

(المتن) 

1785- حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: «أقبلنا مهلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردًا، وأقبلت عائشة مهلة بعمرة حتى إذا كانت بسرف عركت حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة وبالصفا والمروة، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحل منا من لم يكن معه هدي، قال: فقلنا: حل ماذا؟ فَقَالَ: الحل كله». 

(الشرح) 

يَعْنِي: حل كامل، يظنون أَنَّه ليس حلًا كاملًا (..)، قَالَ: حلٌ كامل. 

(المتن) 

«فواقعنا النساء، وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابنا، وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال». 

(الشرح) 

مستنكرين ما بنهم وما بين عرفة إِلَّا أربع ليال، كيف نتحلل وما بقي عَلَى الحج إِلَّا أربع ليال؟ لِأَنَّهُم كَانُوا يحجون ويأتون قبل شوال وهم باقيين عَلَى إحرامهم، ما في عمرة ويرجعون شوال وذي القعدة وذي الحجة ومحرم ما في عمرة، بعد ذلك تَأْتِيَ العمرة، استنكروا ذلك، ما بقي إلا أربع ليال. 

(المتن) 

«ثم أهللنا يوم التروية، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة فوجدها تبكي فقال: ما شأنك؟ قالت: شأني أني قد حضت، وقد حل الناس ولم أحلل، ولم أطف بالبيت والناس يذهبون إلى الحج الآن، فقال: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاغتسلي، ثم أهلي بالحج، ففعلت، ووقفت المواقف حتى إذا طهرت طافت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم قال: قد حللت من حجك وعمرتك جميعًا، قالت: يا رسول الله، إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حين حججت قال: فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم وذلك ليلة الحصبة». 

1786- حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابرًا -رضي الله عنهما- قال: «دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة ببعض هذه القصة قال: عند قوله وأهلي بالحج، ثم حجي واصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ولا تصلي». 

(الشرح) 

وهذا الحديث أخرجه مسلم والنسائي، وقول جابر: «أقبلنا مهلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردًا» يَعْنِي: هم مفردون وأما النَّبِيِّ r كَانَ قارنًا، «وأقبلت عائشة مهلة بعمرة حتى إذا كانت بسرف" مكان قريب "عركت» يَعْنِي: حاضت، «حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة وبالصفا والمروة، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحل منا من لم يكن معه هدي» فألزمهم تحللوا كلهم وهم لبوا بالحج، الذي لبوا بالحج مفردًا، والذي لبى بالحج قارنًا، كلهم تحللوا إِلَّا من ساق الهدي، «قال: فقلنا: حل ماذا؟» يَعْنِي حل جزئي ولا حل كامل؟ الحل الجزئي مثلًا: مثل الحاج بعد رمي جمرة العقبة قبل أن يتحلل يباح له لبس الثياب والطيب لَكِنْ لا تباح له زوجته، فإذا طاف حلت له زوجته. فقالوا: حل كلي أم جزئي؟ 

«فَقَالَ: الحل كله، فواقعنا النساء، وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابنا" حل كامل، "وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال، ثم أهللنا يوم التروية» الذين تحللوا أهلوا محرمين بالحج يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة، «ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة فوجدها تبكي فقال: ما شأنك؟ قالت: شأني أني قد حضت، وقد حل الناس ولم أحلل، ولم أطف بالبيت والناس يذهبون إلى الحج الآن» الناس يذهبون للحج وأنا ممنوعة، فهدأ النَّبِيِّ r من روعها وقال: «إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم» فيهِ أن الحيض يأتي النساء كلها من بنات آدم إِلَى قيام الساعة، وفيه الرد عَلَى من قَالَ أن الحيض أول ما كَانَ قد كَانَ في بنات بني إسرائيل. 

قوله: «فاغتسلي» هذا الغسل للإحرام بالحج، حيث أدخلت الحج عَلَى العمرة فكانت قارنة، «ثم أهلي بالحج، ففعلت، ووقفت المواقف» كلها فإذا هي حاضت رضي الله عنها يوم السبت ثلاثة ذي الحجة وطهرت يوم السبت يوم العيد، أسبوع كامل، عائشة -رضي الله عنها- ذكرت أنها أصابها الحيض يوم السبت اليوم الثالث من ذي الحجة، ودخلوا مكة اليوم الرابع، وطهرت من حيضها يوم السبت يوم العيد «حتى إذا طهرت طافت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم قال: قد حللت من حجك وعمرتك جميعًا» يَعْنِي: يوم العيد طافت وسعت بالحج والعمرة. 

فقالت: «يا رسول الله، إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حين حججت» يَعْنِي: في نفسي شيء أول ما قدمنا ما طفت إِلَّا يوم العيد، «قال: فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم وذلك ليلة الحصبة» ذهب بها أخوها عبد الرحمن وأتت بعمرة ثانية ليلة الحصبة هي الليلة الَّتِي ينزل فيها الحجاج في المحصب، سميت حصبة أو محصب لِأَنَّهُ وادي فيهِ حصباء وهي الليلة الَّتِي بعد ليلة التشريق. 

وفيه: أن عائشة كانت قارنة ولم تبطل عمرتها، وفيه: أن القارن يكفيه سعي واحد لحجه وعمرته، وفيه: أن السعي لا يصح إِلَّا بعد الطواف المشروع. 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد