بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام عَلَى نَبِيُّنَا محمدٍ وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إِلَى يوم الدين؛ أما بعد:
(المتن)
قَالَ الإمام أبو داود رحمه الله تعالى في سننه:
باب في إفراد الحج.
1787- حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد، أخبرني أبي، حدثني الأوزاعي، حدثني من سمع عطاء بن أبي رباح، حدثني جابر بن عبد الله، قال: «أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج خالصًا، لا يخالطه شيء فقدمنا مكة لأربع ليال خلون من ذي الحجة فطفنا وسعينا ثم أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحل، وقال: لولا هديي لحللت، ثم قام سراقة بن مالك فقال: يا رسول الله، أرأيت متعتنا هذه ألعامنا هذا أم للأبد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هي للأبد» قال الأوزاعي: سمعت عطاء بن أبي رباح، يحدث بهذا فلم أحفظه حتى لقيت ابن جريج فأثبته لي.
(الشرح)
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
قَالَ المؤلف رحمه الله في: (باب في إفراد الحج): (حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد، أخبرني أبي، حدثني الأوزاعي، حدثني من سمع عطاء بن أبي رباح، إلخ إلى قوله: (حدثني جابر بن عبد الله) هذا الحديث من رواية جابر بْنُ عبد الله وفيه أَنَّه قَالَ: (حدثني من سمع عطاء بْنُ أبي رباح) فيكون فيهِ مبهم، لَكِنْ قَالَ في آخره: (قال الأوزاعي: سمعت عطاء بن أبي رباح، يحدث بهذا فلم أحفظه حتى لقيت ابن جريج فأثبته لي) وبهذا يزول الإبهام في سند هذا الحديث في قول الأوزاعي: (حدثني من سمع عطاء بْنُ أبي رباح).
والحديث أخرجه الشيخان البخاري ومسلم، والنسائي وابن ماجة، وهو حديث صحيح، وفيه: أن جابر بن عبد الله قَالَ: «أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج خالصًا، لا يخالطه شيء» يَعْنِي: لا يخالطه شيء من العمرة ولا القران ولا غيرهما، أحرموا بالحج، عَلَى عادتهم في الجاهلية كَانُوا يرون أن أشهر الحج للحج فقط وأما العمرة فتكون بعد أشهر الحج، ولهذا قال: "أهللنا مع رسول الله r بالحج خالصا" لا يخالطه شيء: ليس معه عمرة، «فقدمنا مكة لأربع ليال خلون من ذي الحجة» لِأَنّ النَّبِيِّ r خرج من المدينة في يوم الخامس والعشرين يوم السبت وقدم في اليوم الرابع من ذي الحجة، يوم الأحد، وفي يوم الاثنين انتقل، وجلس الاثنين فيها أربع ليال: الاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، أقام في الأبطح بين مكة ومنى، ففي يوم الخميس انتقل إِلَى منى وفي يوم الجمعة وهو يوم عرفة.
قَالَ: «فطفنا وسعينا ثم أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحل، وقال: لولا هديي لحللت، ثم قام سراقة بن مالك فقال: يا رسول الله، أرأيت متعتنا هذه ألعامنا هذا أم للأبد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هي للأبد» وذلك أن النَّبِيِّ r أمرهم أن يتمتعوا فأمرهم أن يفسخوا الحج إلى العمرة، فطافوا وسعوا وقصروا وتحللوا إلا من ساق الهدي، من ساق الهدي بقي عَلَى إحرامه؛ لأنه لا يتحلل حتى يذبح هديه، وأما بقية الصحابة الذين أحرموا بالحج مفردين، والذين أحرموا بالحج والعمرة قارنين، والذين أحرموا بالعمرة كلهم تحللوا، طافوا وسعوا وقصروا وتحللوا، أمرهم أن يجعلوها عمرة لما قدموا مكة، فَلَمّا طافوا وسعوا حتم عَلَيْهِمْ وألزمهم أن يتحللوا كلهم إِلَّا من ساق الهدي.
ومن هنا قَالَ اِبْن عباس وجماعة: إن القران والإفراد منسوخان وأنه ليس هناك إِلَّا التمتع، قول اِبْن عباس، والإمام أحمد، واختاره اِبْن القيم، والشيخ نصر الدين الألباني: أَنَّه ليس هناك إِلَّا متعة، وأن النَّبِيِّ r خيرهم ثم نُسخ، ففي هذا الحديث دليل عَلَى أَنَّه يجوز فسخ الحج إِلَى العمرة ليكون متمتعًا لكل أحد، لقوله r: «بل هي للأبد» يَعْنِي: ليس خاصًا بالصحابة، وإليه ذهب أحمد وبعض أهل الظاهر، وهو الصواب، وهل هو واجب أو مستحب: فسخ الحج إلى العمرة؟ الجمهور عَلَى أَنَّه مستحب؛ لِأَنّ النَّبِيِّ r خيرهم عند الميقات بين الأنساك الثلاثة، وأما هذا الْأَمْر: الفسخ فهذا يدل عَلَى مشروعية الفسخ؛ فسخ الحج إِلَى العمرة، وقيل: يَجِبُ الفسخ عَلَى كل أحد، وإلى هذا ذهب اِبْن حزم وابن القيم ورواية عن الإمام أحمد، والألباني، وقيل: الوجوب هو خاص بالصحابة في تلك الحجة ليزول فكر الجاهلية والاستحباب لغيرهم وهذا اختيار شيخ الإسلام اِبْن تيمية. الوجوب خاص بالصحابة، النبي -صلى الله عليه وسلم- ألزم أن يتحللوا كلهم إلا من ساق الهدي، فقال: الوجوب خاص بالصحابة ليزول اعتقاد الجاهلية، وأما غيره فهو مستحب.
وقال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي: إن فسخ الحج إلى العمرة مختص بالصحابة في تلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج، ولا يجوز فسخ الحج إِلَى العمرة بعد تلك السنة لأحد.
والصواب: ما عليه جمهور الفقهاء من أَنَّه مستحب وليس بواجب، وقول شيخ الإسلام رحمه الله جيد في هذا، الرسول ألزمهم وقال: إن الوجوب خاص بالصحابة وغيرهم مستحب.
وقوله: «أرأيت متعتنا هَذِه» يَعْنِي: أخبرنا عن فسخنا للحج إِلَى عمرتنا هَذِه الَّتِي تمتعنا فيها بالجماع والطيب واللبس، «لعامنا هَذِه» مخصوصة بِهِ لا تجوز في غيره، «أم للأبد» في جميع الأعصار، قَالَ: «بل للأبد».
وقد عارض المجوزون للفسخ ما احتج بِهِ المانعون بأحاديث كثيرة لأربعة عشر من الصحابة، ذكر منها المجد ابْن تيمية جد شيخ الإسلام في المنتقى أحاديث عشرة من الصحابة: منهم جابر، وسراقة بْنُ مالك، وأبو سعيد، وأسماء، وعائشة، واِبْن عباس، وأنس، واِبْن عمر، والربيع بْنُ سمرة، والبراء، وحفصة، وعلي، وفاطمة (..)، وأبو موسى.
اِبْن القيم رحمه الله تكلم عَلَى هذا الحديث وأطال وذكر في هذا صفحات، وقال: إن الحديث صريح بأن العمرة الَّتِي ألزمهم بها لم تكن مختصة بهم، يرد عَلَى مالك والشافعي وغيرهم، وأنها مشروعة للأمة إِلَى يوم القيامة، قال: وقول من قَالَ: إن المراد بِهِ السؤال عن المتعة في أشهر الحج لا عن عمرة الفسخ باطل من وجوه متعددة، وقال: المراد عن المتعة وأن المتعة جائزة، وسؤال سراقة إِنَّمَا سأل عن المتعة هل جائزة أو لا؟، ولم يسأل عن فسخ العمرة، قَالَ اِبْن القيم: هذا باطل من وجوه متعددة، ذكر وجوه في هذا، قَالَ منها:
أحدها: أنه لم يقع السؤال عن ذلك.
والثاني: أنه لو قدر أن السائل أراد ذلك فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أطلق الجواب.
والثالث: أن النبي قد اعتمر قبل ذلك ثلاث عمر.
والرابع: أن النبي قال لهم عند إحرامهم: من شاء أن يهل بعمرة فليهل.
والخامس: أنه خص بذلك الفسخ من لم يكن معه هدي.
والسادس: أن طرق الإعلام بجواز الاعتمار في أشهر الحج أظهر وأبين قولًا وفعلًا من الفسخ.
والسابع: أنه لو فرض أن الفسخ للإعلام المذكور لكان ذلك دليلًا على دوام مشروعيته إلى يوم القيامة.
والثامن: أن هذا الفسخ وقع في آخر حياة النبي ولم يجىء عنه كلمة قط تدل على نسخه وإبطاله.
والتاسع: أن هذا موافق لحج خير الأمة وأفضلها مع خير الخلق وأفضلهم.
والعاشر: أن الصحابة رضي الله عنهم إذا لم يكتفوا بعمل العمرة معه ثلاثة أعوام في أشهر الحج وبقوله لهم عند الإحرام من شاء أن يهل بعمرة فليهل على جواز العمرة في أشهر الحج فهم أحرى ألا يكتفوا بالأمر بالفسخ.
والحادي عشر: أن ابن عباس الذي روى أنهم كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور وأن النبي أمرهم لما قدموا بالفسخ هو كان يرى وجوب الفسخ ولا بد.
والثاني عشر: أنه لا يظن بالصحابة الذين هم أصح الناس أذهانًا وأفهامًا وأطوعهم لله ولرسوله أنهم لم يفهموا جواز العمرة في أشهر الحج.
والثالث عشر: أن النبي إما أن يكون أمرهم بالفسخ لأن التمتع أفضل فأمرهم بالفسخ إلى أفضل الأنساك أو يكون أمرهم به ليكون نسكهم مخالفًا للمشركين في التمتع في أشهر الحج وعلى التقديرين فهو مشروع غير منسوخ إلى الأبد.
والرابع عشر: أن السائل للنبي -صلى الله عليه وسلم- عمرتنا هذه لعامنا أم للأبد لم يرد به أنها هل تجزيء عن تلك السنة فقط أو عن العمر كله.
والخامس عشر: أن النبي أخبرهم في تلك الحجة أن كل من طاف بالبيت فقد حل إلا من كان معه الهدي.
والسادس عشر: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما سُئل عن تلك العمرة التي فسخوا إليها الحج وتمتعوا بها ابتداء فَقَالَ: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة».
والسابع عشر: أن متعة الفسخ لو كانت منسوخة لكان ذلك من المعلوم عند الصحابة ضرورة.
والثامن عشر: أن الفسخ قد رواه عن النبي أربعة عشر من الصحابة.
والتاسع عشر: أن الفسخ موافق للنصوص والقياس.
والعشرون: أن القياس أنه إذا اجتمعت عبادتان كبرى وصغرى فالسنة تقديم الصغرى على الكبرى منهما.
هَذِه رؤوس العناوين وأطال اِبْن القيم رحمه الله في هذا ليرد عَلَى من قَالَ: إن الفسخ هذا خاص بالصحابة: مالك والشافعي.
فإن قيل: (الوجوب خاص بالصحابة أما الفسخ..)؟
فسخ الحج للعمرة جائز مطلقًا، أما مالك والشافعي يقولوا: لا يجوز فسخ الحج للعمرة إِلَّا للصحابة خاصة ليزول اعتقاد الجاهلية، شيخ الإسلام يقول: الوجوب خاص بالصحابة والفسخ عام، والجمهور يرون أيضًا أن الفسخ مشروع، لَكِنْ ظاهر الحديث أن النَّبِيِّ ألزمهم كلهم، لذلك قول شيخ الإسلام جيد في هذا، اِبْن القيم خالف شيخه في هذا، شيخه يرى أن الوجوب خاص بالصحابة، وابن القيم يرى أن الوجوب للأمة كلها، قَالَ: ولا يجوز للإنسان إلا أن يتمتع وكل أحد يَجِبُ عليه أن يتمتع إِلَى يوم القيامة، ما في قران ولا إفراد إِلَّا من ساق الهدي، من لم يسق الهدي فلا يجوز له القران ولا التمتع، وليس له أن يُحرم من القران إِلَّا إن ساق الهدي ومع ذلك فَإِنَّهُ يَجِبُ عليه المتعة.
وروي عن الإمام أحمد وابن حزم واختاره نصر الدين الألباني كذلك في رسالته: حجة النَّبِيِّ r.
فإن قيل: (...)؟
أخذوا بإلزام النَّبِيِّ r الصحابة بِذَلِكَ، قالوا: إن النَّبِيِّ ألزمهم وهذا دليل عَلَى أَنَّه نُسخ التخيير في أول الْأَمْرِ، والجمهور عَلَى أن الأنساك الثلاثة باقية، ومما يدل أيضًا عَلَى الجواز عند الجمهور أن الخلفاء الثلاثة أبو بكر، عمر، عثمان رضي الله عنهم كَانُوا يأمرون الناس بعد وفاة النَّبِيِّ بالإفراد فدل عَلَى أن الإفراد باق وعليه جمع من الناس ولا يمكن أن يكون الصواب مع قول واحد هو قول اِبْن عباس وتكون الأمة كلها عَلَى الخطأ ولاسيما الخلفاء الثلاثة، كَانُوا يأمرون الناس بإفراد الحج ويرون أن النَّبِيِّ r إِنَّمَا أمرهم بِذَلِكَ ليزول اعتقاد الجاهلية وأن الإفراد باق والقران باق.
(المتن)
1788- حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن قيس بن سعد، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر، قال: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأربع ليال خلون من ذي الحجة، فلما طافوا بالبيت وبالصفا والمروة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوها عمرة إلا من كان معه الهدي، فلما كان يوم التروية أهلوا بالحج، فلما كان يوم النحر قدموا فطافوا بالبيت، ولم يطوفوا بين الصفا والمروة».
(الشرح)
هذا الحديث أخرجه الشيخان البخاري ومسلم، والنسائي وابن ماجة مختصرًا، وهو من حديث جابر، جابر روى حجة النَّبِيِّ r وطول كما في صحيح مسلم ساقها مسلم بطولها؛ منسك، قَالَ جابر: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأربع ليال خلون من ذي الحجة، فلما طافوا بالبيت وبالصفا والمروة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوها عمرة إلا من كان معه الهدي، فلما كان يوم التروية أهلوا بالحج» مرة أخرى لِأَنَّهُم تحللوا، «فلما كان يوم النحر قدموا فطافوا بالبيت» طواف الإفاضة، «ولم يطوفوا بين الصفا والمروة».
هذا مجمل وقد بينت عائشة في حديثها أن هذا خاص بالذين جمعوا بين الحج والعمرة، هم الذين لم يطوفوا بين الصفا والمروة، قَالَت: «وأما الذين أحلوا فإنهم طافوا بين الصفا والمروة بعد أن رجعوا من منى لحجهم» وهذا هو الصواب، وهذا هو الجمع بين الحديثين، حديث جابر محمول عَلَى الذين أحرموا بالحج والعمرة قارنين، ما طافوا؛ لِأَنَّهُم طافوا في الأول وسعوا ثم لما رجعوا من منى طافوا ولم يسعوا؛ لِأَنّ القارن ليس عليه إِلَّا سعي واحد. قَالَت عائشة: «وأما الذين أحلوا فإنهم طافوا بين الصفا والمروة بعد أن رجعوا من منى لحجهم»
قَالَ الحافظ اِبْن القيم رحمه الله هنا- علق تعليق قصير- قَالَ: وفيه اكتفاء المتمتع بسعي واحد، أخذ من هذا أن المتمتع يكفيه فعل واحد، وهو اختيار شيخ الإسلام اِبْن تيمية، قَالَ شيخ الإسلام اِبْن تيمية في منسكه: وليس عَلَى القارن والمفرد إِلَّا سعي واحد باتفاق، وَكَذَلِكَ المتمتع عَلَى الصحيح من أقوالهم، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "دخلت العمرة في الحج إلى الأبد"، فيرى شيخ الإسلام أَنَّه ما في إِلَّا سعي واحد للقارن والمفرد والمتمتع، والجمهور عَلَى أن المتمتع عَلَيه سعيان؛ لِأَنّ العمرة منفصلة عن الحج، طواف وسعي للعمرة، وطواف وسعي للحج.
وأبو حنيفة يرى أن القارن عليه طوافان وسعيان، فهذا الحديث أخذ ابْن القيم وشيخ الإسلام أن المتمتع ليس عليه إلا سعي واحد، والجمهور حملوا هذا عَلَى القارنين، وأما المتمتعين فإنهم سعوا مرة أخرى لقول عائشة: «وأما الذين أحلوا فإنهم طافوا بين الصفا والمروة بعد أن رجعوا من منى لحجهم».
(المتن)
1789- حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا عبد الوهاب الثقفي، حدثنا حبيب يعني المعلم، عن عطاء، حدثني جابر بن عبد الله، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هو وأصحابه بالحج وليس مع أحد منهم يومئذ هدي إلا النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة وكان علي رضي الله عنه، قدم من اليمن ومعه الهدي فقال: أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يجعلوها عمرة يطوفوا، ثم يقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي فقالوا: أننطلق إلى منى وذكورنا تقطر فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت».
(الشرح)
هذا الحديث رواه البخاري، وهو حديث صحيح وفيه: أن جابر أخبر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هو وأصحابه بالحج وليس مع أحد منهم يومئذ هدي إلا النبي صلى الله عليه وسلم» وهذا محمول عَلَى أن المراد أَنَّه أهل بالحج أولًا ثم أدخله عليها، أو أَنَّه سمعه يلبي بالحج وإلا فهو حج قارنًا كما قَالَ الإمام أحمد بِهِ بضعة عشر حديثًا. الصحابة الذين قالوا: أهل بالحج، هذا محمول على أنهم سمعوه يلبي بالحج، ولا ينفي أنه لبى بهما.
قَالَ جابر: «وليس مع أحد منهم يومئذ هدي إلا النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة» في جماعة من الصحابة معهم هدي، «وكان علي رضي الله عنه، قدم من اليمن ومعه الهدي «فضمها إِلَى الهدي الَّتِي مع النَّبِيِّ r فأصبحت مئة، «فقال: أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم» هذا فيهِ دليل عَلَى جواز الإهلال معلقا مع القارن وأنه يهل أو يقول: أهللت بما أهل بِهِ فلان، ثم بعد ذلك يكون إهلاله كإهلاله، ويجوز أَنَّه يهل معلقا ويقول: أهللت، ثم يصرفه لما شاء بعد ذلك.
«وإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يجعلوها عمرة يطوفوا، ثم يقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي» يَعْنِي: لم يأمرهم بالحلق هنا، ما قَالَ: ثم يحلقوا، ليتوفر شعر للحلق للحج، لِأَنَّهُم يحلون بعد قليل؛ لِأَنّ بينهم وبين عرفة أربع ليال، فهم قصروا بالعمرة ثم حلقوا في الحج، «فقالوا: أننطلق إلى منى وذكورنا تقطر» يَعْنِي: منيا، لِأَنَّهُم أحلوا وجامعوا النساء، يَعْنِي: هذا من باب المبالغة، لأنهم قالوا: نفضي إلى مجامعة النساء ثم نحرم بالحج عقب ذلك فنخرج وذكر أحدنا لقربه من الجماع يقطر منيا. يَعْنِي: أنخرج وحالة الحج تنافي الترفه وتناسب الشعث فكيف يكون ذلك؟ «فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لأحللت» يَعْنِي: لو علمت المستقبل أنكم ستتلكئون وتتأخرون ويشق عليكم ذلك لما سقت الهدي وجعلتها عمرة حتى أتحلل ثم تتحللون، وذلك لِأَنَّهُم أحلوا وجامعوا النساء فبين النَّبِيِّ r أن هذا أرفق بهم وأحب إِلَى الله، وفيه دليل عَلَى أن التمتع أفضل الأنساك لمن لم يسق الهدي، وفيه دليل عَلَى أن عقد الإحرام مبهما بغير تعيين جائز، وصاحبه بالخيار إن شاء صرفه إلى الحج والعمرة وإن شاء إِلَى أحدهما؛ لقول علي رضي الله عنه: أهللت بما أهل بِهِ رسول الله، فيجوز أن يقول: أهللت بما أهل بِهِ فلان، ثم يُنظر ما أهل بِهِ فلان فيكون مثله، أو يقول: أهللت؛ فقط: لبيك، يُحرم معلقا، فيصرفه لما شاء بعد ذلك، يصرفه للحج أو للعمرة أو للحج والعمرة.
(المتن)
1790- حدثنا عثمان بن أبي شيبة، أن محمد بن جعفر، حدثهم عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هذه عمرة استمتعنا بها فمن لم يكن عنده هدي فليحل الحل كله وقد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» قال أبو داود: هذا منكر إنما هو قول ابن عباس.
(الشرح)
هذا الحديث أخرجه مسلم والنسائي، قوله: «هذه عمرة استمتعنا بها» قَالَ بَعْضُهُم: هذا دليل عَلَى أن النَّبِيِّ r كَانَ متمتعًا، لَكِنْ تأوله العلماء عَلَى أَنَّه أراد بِهِ من تمتع من أصحابه، أو أن التمتع يشمل الأمرين، كما دلت عليه الأحاديث التمتع يشمل المتعة والقران، كل منهما متمتع، وأما قول أبي داود: هذا منكر، يَعْنِي: رفع هذا الحديث منكر، قَالَ المنذري: وفيما قَالَه أبو داود نظر فقد رواه الإمام أحمد مرفوعًا، ورواه يزيد بْنُ هارون مرفوعًا، ورواه أبو داود الطيالسي مرفوعًا، فقوله: هذا الحديث -يعني رفعه إلى النبي- منكر، قَالَ المنذري: وفيما قاله نظر؛ وذلك أنه قد رواه الإمام أحمد ومحمد بْنُ المثنى ومحمد بْنُ بشار وعثمان بْنُ أبي شيبة عن محمد بْنُ جعفر عن شعبة مرفوعًا، ورواه أيضًا يزيد بْنُ هارون ومعاذ العنبري وأبو داود الطيالسي وعمر بن مرزوق عن شعبة مرفوعًا.
قوله: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» اِبْن القيم علق عَلَى هذا قَالَ: قوله: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» لا ريب في أَنَّه من كلام رسول الله r، ولم يقل أحدنا: من قول اِبْن عباس، وَكَذَلِكَ قوله: «هَذِه عمرة تمتعنا بها» وهذا لا يشك فيهِ من له أدنى خبرة بالحديث؛ والله أعلم.
القصد من هذا: أن العمرة داخلة في الحج، وأن المتمتع عمرته داخلة في الحج، وأنه يكفي سعي واحد حتى للمتمتع.
(المتن)
1791- حدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثني أبي، حدثنا النهاس، عن عطاء، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أهل الرجل بالحج، ثم قدم مكة فطاف بالبيت وبالصفا والمروة فقد حل وهي عمرة» قال أبو داود: رواه ابن جريج، عن رجل، عن عطاء، دخل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج خالصًا، فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم عمرة.
(الشرح)
قوله هنا: (رواه ابن جريج، عن رجل، عن عطاء) فيهِ رجلٌ مبهم، والحديث ضعيف فيهِ النهاس بْنُ القهم لا يُحتج بحديثه، وَلَكِن اِبْن عباس معروف أَنَّه يرى وجوب العمرة، وأن كل من طاف وسعى فَإِنَّهُ يحل، هذا معروف وثابت عن اِبْن عباس رضي الله عنه، وفيه: أن من ساق الهدي لا يتحلل من العمرة حتى يفرغ من حجه ولا يحل حتى ينحر هديه، وأما المنفرد بالعمرة فَإِنَّهُ يطوف ويسعى ويقصر ويتحلل وأن هذا واجب عند الجمهور، يَجِبُ عَلَى كل أحد، عند ابن عباس كل من طاف وسعى فَإِنَّهُ يتحل؛ لأنه يرى وجوب المتعة، وأما هذا الحديث ففيه ضعف؛ لأن فيه النهاس بن قهم، لا يعتد بحديثه.
(المتن)
1792- حدثنا الحسن بن شوكر، وأحمد بن منيع، قالا: حدثنا هشيم، عن يزيد بن أبي زياد، قال ابن منيع: أخبرنا يزيد بن أبي زياد المعنى، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: «أهل النبي صلى الله عليه وسلم بالحج فلما قدم طاف بالبيت وبين الصفا والمروة». وقال ابن شوكر، ولم يقصر، ثم اتفقا ولم يحل من أجل الهدي، وأمر من لم يكن ساق الهدي أن يطوف وأن يسعى ويقصر، ثم يحل زاد ابن منيع في حديثه أو يحلق ثم يحل.
(الشرح)
الحديث في سنده يزيد بْنُ أبي زياد متكلمٌ فيهِ، فيكون الحديث ضعيفا لَكِنْ يزيد أخرج له مسلم في الشواهد، والحديث معناه صحيح وشواهده من الأحاديث كثيرة، الأحاديث السابقة كلها تشهد له في الحديث السابق، (ولا تشهدوا له..)، وفيه «أن النَّبِيِّ r أهل بالحج» يَعْنِي: مع العمرة، «فَلَمّا قدم طاف بالبيت وبين الصفا والمروة» ولم يقصر لِأَنَّهُ قد ساق الهدي ولم يحل من أوله، وأمر من لم يكن ساق الهدي أن يطوف ويسعى ويقصر ثم يحل، هذا ثابت في الأحاديث الصحيحة وإن كَانَ الحديث هذا فيهِ ضعف لكنه ثابت في الأحاديث الصحيحة، وفيه: أن من ساق الهدي لا يتحلل من عمل العمرة حتى يحل بالحج ويفرغ منه، وفيه: أَنَّه لا يحل حتى ينحر هديه، وفيه دليل عَلَى أن النَّبِيِّ r كَانَ قارنًا.
(المتن)
1793- حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرني حيوة، أخبرني أبو عيسى الخراساني، عن عبد الله بن القاسم، عن سعيد بن المسيب، «أن رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فشهد عنده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي قُبض فيه ينهى عن العمرة قبل الحج».
(الشرح)
وهذا الحديث حديث باطل لا يصح وهو منقطع وضعيف الإسناد وفيه عدة مجاهيل: أبو عيسى الخرساني هذا مجهول، وعبد الله بْنُ القاسم، كما قَالَ الحافظ بْنُ القيم، وأبو محمد بْنُ حزم، فهو ساقط لا يُحتج بِهِ، ولو صح فهو شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة، فيهِ: أمر النَّبِيِّ r بالعمرة لمن لم يسق الهدي، والعجب من أبي داود في سكوته وعدم التنبيه عنه، قَالَ: «أن رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فشهد عنده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي قُبض فيه ينهى عن العمرة قبل الحج» كيف ينهى عن العمرة قبل الحج وهو الذي أمر أصحابه أن يفسخوا الحج إِلَى العمرة وحتم عَلَيْهِمْ وألزمهم؟! فهذا الحديث باطل لا يصح وهو منقطع وضعيف الإسناد وفيه مجاهيل. أبو عيسى الخرساني، وعبد الله بْنُ القاسم.
قَالَ اِبْن القيم رحمه الله: وهذا الحديث باطل ولا يحتاج تعليله إِلَى عدم سماع اِبْن المسيب من عمر، فَإِن اِبْن المسيب إذا قَالَ: قَالَ رسول الله r فهو حجة، قَالَ الإمام أحمد: إذا لم يُقبل سعيد بْنُ المسيب عن عمر فمن يُقبل، وقال أبو محمد بْنُ حزم: هذا حديث في غاية الوهي والسقوط لِأَنَّهُ مرسل عمن لم يسم «أن رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم» وفيه أيضًا ثلاثة مجهولون: أبو عيسى الخرساني، عبد الله بْنُ القاسم، وأبوه، ففيه خمسة عيوب وهو ساقط لا يحتج بِهِ من له أدنى علم، وقال عبد الحق: هذا منقطع ضعيف الإسناد.
(المتن)
1794- حدثنا موسى أبو سلمة، حدثنا حماد، عن قتادة، عن أبي شيخ الهنائي خيوان بن خلدة، ممن قرأ على أبي موسى الأشعري، من أهل البصرة، أن معاوية بن أبي سفيان، قال لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: «هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كذا وكذا، وعن ركوب جلود النمور؟ قالوا: نعم، قال: فتعلمون أنه نهى أن يقرن بين الحج والعمرة، فقالوا: أما هذا فلا، فقال: أما إنها معهن ولكنكم نسيتم».
(الشرح)
هذا الحديث رواه النسائي مختصرًا، والحديث ضعيف أيضًا لانقطاعه وضعفه، فَإِن أبا شيخ لم يسمع من معاوية، ثم أبو شيخ لا تُعلم عدالته وضبطه، ثم إن هذا الحديث مختلفٌ فيهِ اختلافًا كثيرًا وهو حديث لا يصح عن معاوية، ولو صح عنه فلعله وهم منه، ولو صح فهو شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة إذ هو خلاف المتواتر عن رسول الله r من فعله وقوله، وخلاف إجماع الأمة عَلَى جواز القران بين الحج والعمرة كما نقله الخطابي، ولا يجوز أن يتفقوا عَلَى شيء منهي عنه، أما النهي عن ركوب جلود النمور فهذا ثابت في الأحاديث الصحيحة، وقوله: خيوان، هذا اسم أبي شيخ الهنائي، (ممن قرأ على أبي موسى الأشعري) يَعْنِي: ممن قرأ عليه الْقُرْآن، من أهل البصرة.
قوله: «أما» حرف تنبيه، قَالَ الخطابي: جواز القران بين الحج والعمرة إجماعٌ من الأمة ولا يجوز أن يتفقوا عَلَى جواز شيء منهي عنه، ولم يوافق الصحابة معاوية عَلَى هَذِه الرواية ولم يساعدوه عليه فيشبه أن يكون ذهب في ذلك إِلَى تأويل قوله حين أمر أصحابه في حجته بالإحلال، قَالَ السندي: لم يوافق الصحابة معاوية عَلَى هَذِه الرواية وإن ثبت فيُحمل عَلَى الأفضل؛ لِأَنّ الإفراد أفضل من القران، وقد اُختلف في هذا الحديث اختلافًا كثيرًا رواه عن أبي شيخ عن أخيه حمان ويقال أبو حُمان، وروي عن بيهس بْنُ فهدان عن أبي شيخ عن عبد الله بْنُ عمرو بن بيهس عن أبي شيخ، واختلفوا عَلَى حديث اِبْن أبي كثير رواه عنه عن أبي شيخ عن أخيه، ورواه عن أبي إسحاق عن حِمان، وروى عنه: حدثني حمران بغير واسطة، وسماه حمران.
قَالَ اِبْن القيم رحمه الله: وقال عبد الحق: لم يسمع أبو شيخ من معاوية هذا الحديث، وَإِنَّمَا سمع منه النهي عن ركوب جلود النمور، فأما النهي عن القران فسمعه من أبي حسان عن معاوية عن: مرة يقول: عن أخيه حِمان، ومرة يقول: حُمان، وهم مجهولون.
وقال اِبْن قطان: يرويه عن أبي شيخ رجلان: قتادة، مطرف، لا يجعلان بين أبي شيخ وبين معاوية أحدًا، ورواه عنه بيهس بْنُ فهدان فذكر سماعه من معاوية لفظ النهي عن ركوب جلود النمور، قَالَ النسائي: ورواه عن أبي شيخ يحي بْنُ أبي كثير، فأدخل بينه وبين معاوية رجلًا اختلفوا في ضبطه، فقيل: أبو حماز، وقيل حُمان، وقيل جُمان، وهو أخو أبي شيخ.
وقال الدارقطني: القول قول من لم يُدخل بين أبي شيخ ومعاوية فيهِ أحدًا، يَعْنِي: قتادة، مطرفًا، وبيهس، وقال غيره: أبو شيخ هذا لم تُعلم عدالته وحفظه، ولو كَانَ حافظًا لكان حديثه هذا معلوم البطلان إذ هو خلاف المتواتر عن رسول الله r من فعله وقوله، فَإِنَّهُ أحرم قارنًا، ورواه عنه ستة عشر نفسًا من الصحابة، وخير أصحابه بين القران، والإفراد، والتمتع، وأجمعت الأمة عَلَى جوازه، ولو فُرض صحة هذا عن معاوية فقد أنكر الصحابة عليه أن يكون رسول الله r نهى عنه، فلعله وهم، أو اشتبه عليه نهيه عن متعة النساء بمتعة الحج كما اشتبه عَلَى غيره، والقران داخلٌ عنده في اسم المتعة، وكما اشتبه عليه تقصيره عن رسول الله r في بعض عمره بأن ذلك في حجته، وكما اشتبه عَلَى اِبْن عباس نكاح رسول الله r لميمونة فظن أَنَّه نكحها محرمًا، وكان قد أرسل أبا رافع إليها ونكحها وهو حلال فاشتبه الْأَمْرِ عَلَى اِبْن عباس وهذا كثير.
المقصود: أن هذا الحديث لا يصح، وهو ضعيف لانقطاعه وضعفه، وأبو شيخ لم يسمع من معاوية، وأبو شيخ أيضًا لا تُعلم عدالته وضبطه.
(المتن)
باب في الإقران.
1795- حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حدثنا هشيم، أخبرنا يحيى بن أبي إسحاق، وعبد العزيز بن صهيب، وحميد الطويل، عن أنس بن مالك، أنهم سمعوه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعًا، يقول: «لبيك عمرةً وحجًا، لبيك عمرةً وحجًا».
(الشرح)
هذا الحديث أخرجه مسلم والنسائي، وابن ماجة مختصرًا، وفيه دليل عَلَى أن النَّبِيِّ r لبى بالحج والعمرة قارنًا، وهذا هو الصواب؛ لِأَنَّهُ ساق الهدي، قَالَ الإمام أحمد: لا أشك أن النَّبِيِّ r كَانَ قارنًا، رواه سبعة عشر صحابيًا عن النَّبِيِّ r، قد رواه عن أنس جماعة من التابعين منهم: الحسن البصري، وأبو قلابة، وحُميد بْنُ هلال، وحُميد بْنُ عبد الرحمن الطويل، وقتادة، ويحي بْنُ سعيد الأنصاري، وثابت البناني، وبكر بْنُ عبد الله المزني، وعبد العزيز بْنُ صهيب، وسليمان، ويحي بْنُ أبي إسحاق، وزيد بْنُ اسلم، ومصعب بن سليم، وأبو قدامة عاصم بن الحسين، وسويد بن حجر الباهلي، والحديث يحتج بِهِ من يقول بالقران.
قَالَ: وقد قدمنا أن الصحيح المختار في حجة النَّبِيِّ r أَنَّه كَانَ في أول إحرامه ثم ادخل العمرة الحج فصار قارنًا، وجمعنا بين الأحاديث أحسن جمع.
(المتن)
1796- حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل، حدثنا وهيب، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، «أن النبي صلى الله عليه وسلم بات بها يعني بذي الحليفة حتى أصبح، ثم ركب حتى إذا استوت به على البيداء حمد الله وسبح وكبر، ثم أهل بحج وعمرة وأهل الناس بهما، فلما قدمنا أمر الناس فحلوا حتى إذا كان يوم التروية أهلوا بالحج، ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع بدنات بيده قيامًا» قال أبو داود: الذي تفرد به يعني أنسًا من هذا الحديث أنه بدأ بالحمد والتسبيح والتكبير ثم أهل بالحج.
(الشرح)
هذا الحديث أخرجه البخاري بنحوه، وذكر هنا: «سبع بدنات» يُحمل هذا عَلَى أَنَّه هذا الذي رآه، وأخبر غيره بأنه نحر ثلاثا وستين بدنة عَلَى عدد سنين عمره r، ونحر علي ما بقي من المائة سبع وثلاثون، فالجميع مائة.
قوله: «ثم أهل بحجٍ وعمرة» فيهِ رد عَلَى من زعم أَنَّه يُكتفى بالتسبيح وغيره من التلبية، ووجه ذلك: أَنَّه r أتى بالتسبيح ثم لم يكتف بِذَلِكَ حتى لبى، ففيه استحباب أن يكون تلبية الناس بعد تلبية كبير القوم.
قوله: «إذا كَانَ يوم التروية» كَانَ تامة هنا، «قيامًا» فيهِ استحباب نحر الإبل قائمة، معقودة يدها اليسرى، وبوب البخاري في صحيحه: (باب التحميد والتسبيح والتكبير قبل الإهلال عند الركوب عَلَى الدابة).
(المتن)
1797- حدثنا يحيى بن معين، قال: حدثنا حجاج، حدثنا يونس، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب، قال: «كنت مع علي حين أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليمن قال: فأصبت معه أواقي فلما قدم علي من اليمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وجدت فاطمة رضي الله عنها قد لبست ثيابًا صبيغًا وقد نضحت البيت بنضوح فقالت: ما لك؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه فأحلوا قال: قلت لها: إني أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: كيف صنعت؟ فقال: قلت: أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فإني قد سقت الهدي وقرنت، قال: فقال لي: انحر من البدن سبعًا وستين أو ستًا وستين، وأمسك لنفسك ثلاثًا وثلاثين، أو أربعًا وثلاثين، وأمسك لي من كل بدنة منها بضعة».
(الشرح)
هذا الحديث أخرجه النسائي، وفي إسناده: يونس بْنُ أبي إسحاق السبيعي وقد احتج بِهِ مسلم وأخرجه مسلم بمعناه، فهذا الحديث فيهِ: «كنت مع أن عليا -رضي الله عنه- حين أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليمن قال: فأصبت معه وأنه أصاب أواقي من ذهب "فلما قدم علي من اليمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وجدت فاطمة رضي الله عنها قد لبست ثيابًا صبيغًا» يَعْنِي: مصبوغًا، «وقد نضحت البيت بنضوح» تحللت يَعْنِي، اعتمرت وتحللت وأنكر عليها علي عَلَى ما كَانُوا عليه في الجاهلية أَنَّه ليس هناك تحلل من العمرة، تحللت واكتحلت، في الحديث الآخر: «تحللت واكتحلت ولبست ثيابًا صبيغًا ونضحت البيت بنضوح».
فقالت: «ما لك" فإن "رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه فأحلوا قال: قلت لها: إني أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: كيف صنعت؟ فقال: قلت: أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فإني قد سقت الهدي وقرنت» فيهِ دليل عَلَى أن النَّبِيِّ r حج قارنًا، «قال: فقال لي: انحر من البدن سبعًا وستين أو ستًا وستين، وأمسك لنفسك ثلاثًا وثلاثين، أو أربعًا وثلاثين، وأمسك لي من كل بدنة منها بضعة» يَعْنِي: قطعة من اللحم.
استدل بهذا الحديث من قَالَ: إن حجه r كَانَ قارنًا وهو واضح في أَنَّه r أعلم ما قصده من ذلك، وفيه دليل عَلَى صحة الإحرام معلقًا؛ لِأَنّ عليا رضي الله عنه قَالَ: «إني أهللت بإهلال النَّبِيِّ r» وعلى جواز الاشتراك في الهدي؛ لِأَنّ النَّبِيِّ r أشرك عليًا في الهدي، وفيه دليل عَلَى جواز أكل القارن والمتمتع من لحم هديه.
قَالَ المنذري: هذا الحديث أخرجه النسائي وبإسناده يوسف بْنُ إسحاق السبيعي، وقد احتج بِهِ مسلم وأخرجه جماعة، وقال الإمام أحمد: حديث فيهِ زيادة عَلَى حديث الناس، وهنا: فيهِ أن عليًا أنكر عَلَى فاطمة لما وجدها أحلت ولبست ثياب صبيغا واكتحلت قالت: أمرني أبي بهذا.
قوله: «انحر من البدن» قالوا: هذا لا يخلوا من الوهم، ويشبه أن يكون المراد: انحر أنت عني وعن نفسي من البدن ستًا وستين وانحر بقية من هذا لنفسك، فعلى هذا يكون نحر كل البدن بيد علي رضي الله عنه، لَكِنْ ثبت أَنَّه r نحر غالب العدد لنفسه وأنه نحر ثلاثًا وستين، ويحتمل المراد: هيأ لنحري وأحضرني في المنحر لكي أنحر هذا العدد، بلفظ مسلم: «فنحر ثلاثًا وستين بيده ثم أعطى عليًا فنحر ما غبر» قَالَ القرطبي: هذا هو الصواب.
اِبْن القيم رحمه الله أيضًا علق عَلَى هذا الحديث تعليقا طويلا في صفحات، قَالَ: ومن تأمل الأحاديث الواردة في هذا الباب حق التأمل جزم جزمًا لا ريب فيهِ أن النَّبِيِّ r أحرم في حجته قارنًا، ولا تحتمل الأحاديث غير ذلك بوجه من الوجوه أصلًا، قال الإمام أحمد: لا أشك أن رسول الله r كان قارنًا وقد روى عنه ذلك خمسة عشر من أصحابه، وسردهم، قال: وهم عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعائشة أم المؤمنين وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس وعمران بن حصين والبراء بن عازب وحفصة أم المؤمنين وأنس بن مالك وأبو قتادة وابن أبي أوفى، فهؤلاء صحت عنهم الرواية بغاية البيان والتصريح.
ورواه الهرماس بن زياد وسراقة بن مالك وأبو طلحة وأم سلمة، وأطال رحمه الله عَلَى هذا وانتصر للقول بأن النَّبِيِّ r حج قارنًا ورد عَلَى من قَالَ: إنه حج مفردًا، قَالَ: ومن قَالَ تمتع فقد أراد بِهِ التمتع العام الذي يدخل فيهِ القران بنص الْقُرْآن في قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}[البقرة/196]؛ والقارن داخلٌ في هذا النص، فتمتع رسول الله r بترفهه بسقوط أحد السفرين وقرن بجمعه في إهلاله بين النسكين، وأفرد فلم يطف طوافين ولم يسعى سعيين، جمع بينهما.
قَالَ اِبْن القيم: ومن تأمل الأحاديث الصحيحة في هذا الباب جزم بهذا، وهذا فصل النزاع؛ والله أعلم.