شعار الموقع

شرح كتاب المناسك من سنن أبي داود_8

00:00
00:00
تحميل
77

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله, والصلاة والسلام عَلَى رسول الله؛ أما بعد: 

(المتن) 

قَالَ الإمام أبو داود رحمه الله تعالى: باب المحرم يحمل السلاح. 

1832- حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء، يقول: «لما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية صالحهم على أن لا يدخلوها إلا بجلبان السلاح فسألته ما جلبان السلاح؟ قال: القراب بما فيه». 

(الشرح) 

قَالَ المؤلف رحمه الله تعالى: (باب المحرم يحمل السلاح) ذكر فيهِ حديث البراء قَالَ: «لما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية» يَعْنِي: سنة ست من الهجرة لما صالح أهل مكة عَلَى أن يعود هذا العام ولا يعتمر ويأتي من العام المقبل في السنة السابعة وسميت عمرة القضاء من القضية والمصالحة وليست قضاءً لتلك العمرة, العمرة الَّتِي صُد عنها عمرة تامة لَكِنْ هَذِه عمرة من القضاء والمصالحة, «صالحهم النَّبِيِّ عَلَى ألا يدخلوها إِلَّا بجلبان السلاح فسألته ما جلبان السلاح؟ قال: القراب بما فيه» يَعْنِي: أَنَّه إذا عاد النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم  في السنة السابعة من الهجرة للعمرة فَإِنَّهُ يحمل السلاح الخفيف كالسيف في غمده خوفًا من أهل مكة من دون إشهار السلاح لِأَنّ مكة بلدٌ آمن فلا يُحمل فيها السلاح ولا يُشهر, لَكِنْ إذا دعت الحاجة أو الضرورة إِلَى حمل السلاح خوفًا ممن يخشى شره فلا بأس بحمله. 

ولهذا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صالح أهل مكة عَلَى أنه إذا أتى للعمرة من السنة القادمة لا يدخلوها إِلَّا بجلبان السلاح يَعْنِي: السلاح الخفيف, «القراب بما فيهِ» جُلبان بضم الجيم شبه الجراب يوضع فيهِ السيف مغمورا ويطرح فيهِ الراكب سوطه, وقيل: هو أوعية السلاح, وفي بعض الروايات: «لا يدخلوها إِلَّا بجلبان السلاح السيف والقوس» يَعْنِي: يريد ما يحتاج إِلَى إظهاره والقتال بِهِ إذا حصل معاناة, فإذًا المحرم يحمل السلاح الخفيف إذا احتاج إليه, فالنبي صلى الله عليه وسلم  حملوا السلاح الخفيف خوفًا من أهل مكة أن يُخفروا الذمة من دون إشهار السلاح لِأَنّ مكة بلدٌ آمن, ولهذا كَانَ في زمن الحجاج لما حج, وأمره عبد الملك أن يأخذ بقول اِبْن عمر, وجاء ابنه في يوم عرفة وصاح في الحجاج: إن كنت تريد السنة فالآن, فَقَالَ: الآن يا أبا عبد الرحمن؟ قَالَ: نعم, قَالَ: أنظرني أفيض عليّ ماءً, وكان أمير العراق من قبل عبد الملك بْنُ مروان. 

وأوعز الحجاج إِلَى بعض الشرطة أن يكون بجوار اِبْن عمر وهو يصلي فأصابه بالسلاح متعمدًا أصاب رجله حتى أصابه جرح, فجاء يزور الحجاج عبد الله بْنُ عمر, فيقول: يا أبا عبد الرحمن لو نعلم من فعل بك كذا, قَالَ: أنت الذي فعلت ذلك, أنت الذي حملت السلاح في مكان لا يُحمل فيهِ السلاح؛ يَعْنِي: في مكة؛ لِأَنَّهَا بلدٌ آمن وهذا هو الشاهد إِلَّا عند الحاجة والضرورة. 

والمسألة فيها خلاف, قَالَ اِبْن بطال: أجاز مالك والشافعي حمل السلاح للمحرم في الحج والعمرة, وكرهه الحسن, والقراب قَالَ بَعْضُهُم: هو جراب, وقيل: إنه يشبه الجراب يطرح فيهِ الراكب سيفه وغمده, الخطابي قَالَ: إن تفسير الجلبان في هذا الحديث لم يُسمع فيهِ من ثقة وزعم بَعْضُهُم أَنَّه سمي جلبانًا لجفائه واختفاء شخصه, من قولهم: رجلٌ جلبان وامرأة جلبانة إذا كانت جسمية جافية الخلق. 

هذا الحديث أخرجه الشيخان البخاري ومسلم, اشترطوا من بنود الصلح ألا يدخلوها بالسيوف إِلَّا في القراب, ولم يشترطوا شهر السلاح ليكون سمة وأمارة, يَعْنِي: لا يشهرون السلاح إنما يأتون بالسلاح الخفيف ويكون في غمده؛ خشية الغدر من أهل مكة الكفار. 

(المتن) 

باب في المحرمة تغطي وجهها. 

1833- حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا هشيم، أخبرنا يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن عائشة، قالت: «كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه». 

(الشرح) 

الحديث أخرجه اِبْن ماجة, والحديث في سنده يزيد بْنُ أبي زياد وفيه لين, وقد روى له مسلم في المتابعات لا في الأصول, وفي سنده أيضًا مجاهد عن عائشة وقيل: إنَّه لم يسمع من عائشة فيكون الحديث مرسلا, لَكِنْ قيل: قد أخرج الشيخان من حديث مجاهد عن عائشة ما هو ظاهرٌ في سماعه, وعلى كل حال الحديث وإن كَانَ فيهِ لين بضعفه لَكِنْ له شواهد فيصلح الاحتجاج بِهِ, وهي الأدلة من الكتاب والسنة الَّتِي تدل عَلَى وجوب ستر المرأة وجهها عن الرجال الأجانب. 

والفقهاء يذكرون في هذا أن المرأة إذا مر بها رجال تسدل ثوبها عَلَى وجهها بحيث لا يمس الجلباب البشرة إذا كانت محرمة, قَالَ بَعْضُهُم: لئلا يتعارض مع حديث: «لا تنتقب المرأة المحرمة» في الأحاديث: «كَانُوا الركبان» جمع راكب, «يمرون بنا علينا معشر النساء محرمات فإذا حازونا سدلت» أي أرسلت جلبابها برفعها, يَعْنِي: طرف الثوب من رأسها عَلَى وجهها بحيث لا يمس الجلباب البشرة. 

قوله: «فإذا جاوزونا» أي تعدوا عنا وتقدموا علينا, «كشفناه» رفعنا النقاب وتركنا الحجاب, قَالَ بَعْضُهُم: اُستدل بهذا الحديث عَلَى أَنَّه يجوز للمرأة إذا احتاجت إِلَى ستر وجهها لمرور الرجال قريبًا منها تُسدل الثوب من فوق رأسها عَلَى وجهها؛ لِأَنّ المرأة تحتاج إِلَى ستر وجهها, فلم يحرم عليها ستره مطلقًا كالعورة, لَكِنْ إذا سدلت يكون الصوب متجافيًا عن وجهها بحيث لا يصيب البشرة, هكذا قَالَ أصحاب الشافعي وغيره. 

قَالَ الشوكاني: لَكِنْ ظاهر هذا الحديث خلاف هذا لِأَنّ المسدول لا يكاد يسلم من إصابة البشرة, فلو كانت المجافاة شرطًا لبينه النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم   , وهذا كلام جيد. 

ولهذا كَانَ بَعْضُهُم يفتون للمرأة أنها تجعل عصابة عَلَى جبهتها ويأتي الخمار من فوق العصابة حتى لا يمس الخمار وجهها, وهذا فيهِ مشقة وحرج, والصواب كما قَالَ الشوكاني أن المحرمة تُسدل الثوب عَلَى وجهها بمرور الرجال قريبًا منها ولا تجافيه عن وجهها لا بعود ولا بعصابة, كَانَ الفقهاء إِلَى عهد قريب في نجد وفي غيرها يفتون للمرأة بأنها إذا كانت محرمة تجعل عودا أو تجعل عصابة مثل العمامة عَلَى جبهتها وتنزل الخمار من فوق العصابة عَلَى الوجه حتى يكون بعيدا لا يصيب البشرة, والصواب: أن المرحمة تُسدل ثوبها وهو الخمار عَلَى وجهها لمرور الرجال قريبا منها وهي محرمة ولا تجافيه عن وجهها لا بعود ولا بعصابة؛ لأمرين: 

أحدهما: أَنَّه لو كانت المجافاة شرطًا لبينه النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . 

الثاني: أن المسدول لا يكاد يسلم من إصابة البشرة, وتشديد بعض العلماء في ذلك بإيجاب المجافاة تشديد ما أنزل الله بِهِ من سلطان, ليس عليه دليل. 

فالصواب: أنها تغطي وجهها ولا حرج عليها, وأما ما جاء في بعض الآثار أن وجه المرأة كرأس الرجل فهذا قول لبعض العلماء وليس بصحيح, والصواب كما قَالَ اِبْن القيم رحمه الله: أن وجه المرأة كبدن الرجل وليس كرأسه, كما أن الرجل الآن له أن يغطي بدنه بالإزار والرداء ولا يغطيه بالمخيط, فكذلك المرأة لها أن تغطي وجهها بالخمار لَكِنْ لا تغطيه بمخيط عَلَى قدر الوجه, مُنع من ستر الوجه بما خيط عَلَى قدر الوجه, أما غير المخيط فلا بأس, كما أنها ممنوعة من ستر يديها بالقفازين لِأَنَّهُ مخيط عَلَى قدرهما, لَكِنْ لها أن تغطي يديها بعباءتها أو ثوبها, فكذلك وجهها لا تغطيه بالنقاب والمخيط لَكِنْ تغطيه بالخمار, وهذا الحديث له شواهد وإن كَانَ فيهِ ضعف لَكِنْ له شواهد يتقوى بها. 

(المتن) 

باب في المحرم يظلل. 

1834- حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا محمد بن سلمة، عن أبي عبد الرحيم، عن زيد بن أبي أنيسة، عن يحيى بن حصين، عن أم الحصين، حدثته قالت: «حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالًا وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم والآخر رافع ثوبه ليستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة». 

(الشرح) 

هذا الحديث أخرجه مسلم والنسائي, الترجمة للمؤلف قَالَ: (بابٌ في المحرم يُظلل) يَعْنِي: يظلله عَلَى رأسه شيء من الشمس, الحديث دليل عَلَى جواز تظليل المحرم عَلَى رأسه بثوب؛ لِأَنّ النَّبِيِّ  صلى الله عليه وسلم  ظُلل وهو يرمي جمرة العقبة ظلله أسامة وبلال, «وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم والآخر رافع ثوبه ليستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة» واحد رافع الثوب فوق رأس النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم والآخر آخذ بخطام الناقة؛ لِأَنَّهُ رمى الجمرة ضحى, مشى عَلَى البعير من مزدلفة هذا يحتاج إِلَى وقت فارتفعت الشمس, وجمرة العقبة مكشوفة, وديان ما في مثل الآن ملايات. 

فدل هذا عَلَى جواز تظليل المحرم عَلَى رأسه بثوب, أو محمل اللي يكون عَلَى الإبل, أو سيارة, أو شمسية, أو سقف, أو خيمة, أو شجرة, كل هذا لا بأس بِهِ, إِنَّمَا الممنوع أن يضع عَلَى رأسه شَيْئًا يلاصق, وهذا مذهب جمهور العلماء وهو الصواب بهذا الحديث حيث ظُلل النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بثوب وهو يرمي جمرة العقبة, ويدل عَلَى ذلك أيضًا الحديث الآخر «أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ضُربت له قبة بنمرة فاستظل بها وذلك في يوم عرفة». 

وذهب الإمام مالك والإمام أحمد إِلَى منع استظلال المحرم بالمحمل والشمسية وسقف السيارة والثوب, قالوا: لأن هَذِه تتحرك بحركته, دون الاستظلال بالثابت كالخيمة والشجرة, قالوا: إذا استظل بخيمة وشجرة لا بأس, ذهبوا إِلَى منع استظلال المحرم بالمحمل والشمسية وسقف السيارة والثوب دون الاستظلال بالثابت كالخيمة والشجرة والبيت؛ وهذا هو مذهب الحنابلة. 

وانظر إِلَى الرافضة الآن الذين يحجون والسيارات مكشوفة, هم مذهب الحنابلة هؤلاء وغيرهم يحجون بسيارة مكشوفة, كذلك الحنابلة هكذا, والرواية الثانية عن الإمام أحمد توافق الجمهور وهي أصوب من المذهب دليلا, مذهب الحنابلة: أَنَّه لا يجوز الاستظلال بما يتحرك بحركته؛ السيارة,أو الشمسية,أو الثوب هذا ممنوع, و الصواب كما سبق: أَنَّه لا بأس بتظليل المحرم عَلَى رأسه بثوب أو محمل أو سيارة أو شمسية أو سقف أو خيمة أو شجرة, كل هذا لا بأس بِهِ وهذا مذهب الجمهور خلافًا لمالك وأحمد في منع استظلال المحرم بالمحمل والشمسية وسقف السيارة والثوب؛ لِأَنَّهَا تتحرك, الرافضة يطبقون المذهب, الرافضة يمكن عقيدتهم منحرفة لَكِنْ في الفروع يطبقون, والحنابلة ما طبقوا هذا المذهب, يستظلون بسقف السيارة عَلَى مذهب الجمهور وهو خلاف المذهب وهو الصواب. 

قوله: «من الحر» فيهِ جواز تظليل المحرم عَلَى رأسه بثوب وغيره, «من الحر» لأجل الحر, ولذلك ذكر الشافعي قَالَ: قَالَ مالك وأحمد لا يجوز والحديث يرد عليهما, وأجاب عن بعض أصحاب مالك بأن هذا المقدار لا يكاد يدوم, استدل بَعْضُهُم لمالك وأحمد عَلَى منع التظليل بما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن اِبْن عمر «أَنَّه أرسل رجلًا عَلَى بعيره وهو محرم قد استظل بينه وبين الشمس فَقَالَ: اضحي لمن أحرمت له». 

وَكَذَلِكَ ما أخرجه البيهقي بإسناد ضعيف عن جابر مرفوعًا: «ما من محرمٍ يضحي للشمس حتى تغرب إلا غربت بذنوبه حتى يعود كما ولدته أمه» لَكِنْ الحديث غير ثابت, «اضحي» المراد: ابرز للضحى, قَالَ الله تعالى: {وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى}[طه/119].  

لَكِنْ أُجيب عن اِبْن عمر بأنه موقوف, وحديث جابر ضعيف ولا يدل عَلَى المطلوب؛ لِأَنَّهُ يدل عَلَى أن غاية ما فيهِ أَنَّه أفضل, وعلى كل حال فالصواب كما سبق الجواز وهو مذهب الجمهور خلافًا لما عند الحنابلة, والرواية الأخرى توافق مذهب الجمهور. 

(المتن) 

باب المحرم يحتجم. 

1835- حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، وطاوس، عن ابن عباس، «أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم». 

1836- حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم في رأسه من داء كان به». 

1837- حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن أنس، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم على ظهر القدم من وجع كان به» قال أبو داود: سمعت أحمد، قال ابن أبي عروبة: أرسله يعني عن قتادة. 

(الشرح) 

هَذِه الترجمة قَالَ المؤلف: (باب المحرم يحتجم) يَعْنِي: ما حكم الحجامة للمحرم؟ ذكر المؤلف رحمه الله حديث اِبْن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم» وهذا الحديث أخرجه الشيخان البخاري ومسلم والترمذي. 

الطريق الثاني عن اِبْن عباس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم في رأسه من داء كان به» وهذا أخرجه البخاري والنسائي مختصرًا, والحديث دليل عَلَى جواز الحجامة للمحرم, وإذا كانت الحجامة في الرأس وقطع الشعر وفدى احتياطًا فحسن ولم يقل أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فدى مع أَنَّه احتجم في رأسه, لَكِنْ لو فدى احتياطًا كما فدى كعب بْنُ عجرة لما حلق رأسه من أذى فيهِ فحسن, وَلَكِن يحتمل أن يقال: إن الشعر الذي يؤخذ في مكان الحجامة قليل, لذلك لم يفدِ  النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ شعر قليل, وأما قول الفقهاء: أَنَّه إذا أخذ شعرة فعليه مسكين, شعرتان: مسكينان, وثلاث شعرات: شاة يذبحها, هذا لاشك أن فيهِ إشكالا وَلَكِن لا ينبغي للإنسان أن يتعمد قطع الشعر, لَكِنْ إذا احتاج الحجامة وافتدى فهذا حسن. 

لهذا قَالَ الخطابي: لم يكن أكثر من كره من الفقهاء الحجامة للمحرم إِلَّا من أجل قطع الشعر, وإن احتجم في موضع لا شعر فيهِ لا بأس بِهِ, وإن قطع شعره افتدى, وممن رخص الحجامة للمحرم سفيان الثوري, وأبو حنيفة وأصحابه, وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق, وقال الإمام مالك: لا يحتجم إِلَّا من ضرورة لابد منها, وكان الحسن يرى في الحجامة دمًا يهريقه, يعني يقول: إذا احتجم عليه شاة يذبحها, والصواب: أَنَّه ليس عليه والنبي  صلى الله عليه وسلم احتجم, لَكِنْ الكلام إذا كانت في غير الرأس فلا إشكال فيهِ, وإذا كانت في الدم لا يضر, وإذا كانت في الرأس وحلق الشعر أو قصر الشعر وفدى فحسن, والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل أَنَّه فدى لِأَنَّهُ قد يكون شعرات قليلة. 

قَالَ النووي: في هذا الحديث: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم في رأسه من داء كان به» يَعْنِي: من مرض, ولفظ البخاري: «في وسط رأسه», قَالَ النووي: في هذا الحديث دليل عَلَى جواز الحجامة للمحرم, وقد أجمع العلماء عَلَى جوازها له في الرأس وغيره إذا كَانَ له عذر في ذلك, وقطع الشعر حينئذٍ لَكِنْ عليه فدية لقطع الشعر فَإِن لم يقطع فلا فدية عليه, قَالَ: ودليل المسألة قول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}[البقرة/196].   

قَالَ: وهذا الحديث محمول عَلَى أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ له عذرٌ في الحجامة في وسط الرأس؛ لِأَنَّهُ لا ينفك عن قطع الشعر, أما إذا أراد المحرم الحجامة بغير حاجة فإن تضمنت قلع الشعر فهي حرام لتحريم قطع الشعر, وإن لم تتضمن ذلك بأن كانت في موضعٍ لا شعر فيهِ فهي جائزة عندنا وعند الجمهور ولا فدية عليه؛ هذا كلام النووي, وعن اِبْن عمر ومالك كراهتها, وعن الحسن البصري فيها الفدية, قَالَ: دليلنا أن إخراج الدم ليس حرامًا في الإحرام. 

قَالَ: وفي هذا الحديث بيان قاعدة من مسائل الإحرام وهي أن الحلق واللباس وقتل الصيد ونحو ذلك من المحرمات يُباح للحاجة وعليه الفدية, كمن احتاج إِلَى حلق أو لباس لمرض أو حرٍ أو برد أو قتل الصيد للمجاعة وغير ذلك؛ هذا كلام النووي. 

الحديث الثالث حديث أحمد بْنُ حنبل عن أنس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم على ظهر القدم من وجع كان به» أخرجه الترمذي, «عَلَى ظهر القدم» يَعْنِي: أعلى القدم, ولفظ النسائي: «احتجم وهو محرم عَلَى ظهر القدم من وتأٍ كَانَ بِهِ», وفي رواية من حديث جابر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم من وتأ كَانَ بِهِ» معناه: من وجعٍ يصيب اللحم لا يبلغ العظم, أو وجع يصيب العظم من غير كسر. 

قال أبو داود: (سمعت أحمد، قال ابن أبي عروبة: أرسله يعني عن قتادة) يَعْنِي: روى سعيد بْنُ أبي عروبة عن قتادة مرسلًا من غير ذكر أنس, يَعْنِي: هذا الحديث, قَالَ أبو داود: روي مرسلًا؛ يَعْنِي: من كلام أنس وليس من كلام النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.  

الخلاصة: أَنَّه إذا دعت الحاجة للمحرم أن يحتجم فلا بأس؛ يحتجم, وإذا كانت في غير الرأس فليس عليه شيء وإن كَانَ في الرأس وأخذ الشعر فَإِنَّهُ يفدي احتياطًا. 

(المتن) 

باب يكتحل المحرم. 

1838- حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا سفيان، عن أيوب بن موسى، عن نُبيه بن وهب، قال: «اشتكى عمر بن عبيد الله بن معمر، عينيه فأرسل إلى أبان بن عثمان، قال سفيان: وهو أمير الموسم ما يصنع بهما؟ قال: اضمدهما بالصبِر، فإني سمعت عثمان رضي الله عنه يحدث ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم». 

1839- حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن علية، عن أيوب، عن نافع، عن نبيه بن وهب، بهذا الحديث. 

(الشرح) 

هذا الحديث أخرجه مسلم والترمذي, والنسائي, وبوب المؤلف قَالَ: (باب يكتحل المحرم) روى عن نُبيه بن وهب، قال: «اشتكى عمر بن عبيد الله بن معمر، عينيه فأرسل إلى أبان بن عثمان، قال سفيان: وهو أمير الموسم» موسم الحج يَعْنِي, وأبان بْنُ عثمان أبوه عثمان رضي الله عنه الخليفة, «ما يصنع بهما؟ قال: اضمدهما بالصبِر، فإني سمعت عثمان رضي الله عنه يحدث ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» يَعْنِي: لا بأس أن يضع في عينيه علاج, قطرة أو صبِر لَكِنْ بشيء ليس فيهِ طيب, الصبِر: هو دواء معروف مر, قَالَ الخطابي: الصبِر ليس بطيب ولذلك رُخص له أن يُعالج بِهِ, فأما الكحل الذي لا طيب فيهِ فلا بأس بِهِ. 

وقال الشافعي: وأنا له في النساء أشد كراهة مني له في الرجال, ولا أعلم عَلَى واحدٍ منه الفدية, يَعْنِي: الكحل للمرأة أشد لِأَنَّ فيهِ جمالا, والرجل لا بأس إذا كَانَ كحل ليس فيهِ طيب, وَلَكِن الأولى أن يكون بعلاج, إذا كَانَ العلاج قطرة أو نوعا من العلاج لا بأس بِهِ إذا كَانَ ليس فيهِ شيء من طيب, وإذا كَانَ العلاج فيهِ حاجة العينين لكحل فهل له أن يكتحل بكحل ليس فيهِ طيب؟ فيهِ خلاف بين العلماء. 

رخص الكحل للمحرم سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد وإسحاق, وكره الإثمد للمحرم سفيان وإسحاق, والحديث دليل عَلَى جواز الاكتحال للمحرم إذا لم يكن في كحله طيب, وإن كَانَ الكحل فيهِ جمال لَكِنْ العلاج لا شيء فيهِ, والمرأة أشد ينبغي لها أن تجتنب الكحل إذا أمكن تتعالج بقطرة وما أشبهها فهو أولى, وإن كَانَ تعين الكحل فلا بأس بِهِ إذا لم يكن فيهِ طيب, والكحل فيهِ نوع من الجمال لَكِنْ للعلاج لا بأس بِهِ, لَكِنْ في هذا الزمن الغالب أن يكون العلاج بالقطرة وهذا لا شيء فيها من الطيب. 

(المتن) 

باب المحرم يغتسل. 

1840- حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه، «أن عبد الله بن عباس، والمسور بن مخرمة، اختلفا بالأبواء فقال: ابن عباس يغسل المحرم رأسه وقال المسور: لا يغسل المحرم رأسه فأرسله عبد الله بن عباس، إلى أبي أيوب الأنصاري، فوجده يغتسل بين القرنين وهو يستر بثوب، قال: فسلمت عليه، قال: من هذا قلت: أنا عبد الله بن حنين، أرسلني إليك عبد الله بن عباس أسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم؟ قال: فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأه حتى بدا لي رأسه، ثم قال: لإنسان يصب عليه اصبب، قال: فصب على رأسه، ثم حرك أبو أيوب رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، ثم قال: هكذا رأيته يفعل صلى الله عليه وسلم». 

(الشرح) 

هذا الحديث أخرجه الشيخان البخاري ومسلم وابن ماجة, وهو دليل عَلَى جواز الاغتسال للمحرم من الجنابة وغيرها, وجواز غسله رأسه وإمرار اليد عَلَى شعره لا بأس, كون المحرم يغسل رأسه ويمر يده عَلَى رأسه فلا بأس, وهذه القصة فيها: «أن عبد الله بن عباس، والمسور بن مخرمة، اختلفا بالأبواء» الأبواء مكان موضع قريب من مكة هما نازلان فيهِ. 

«فقال: ابن عباس يغسل المحرم رأسه وقال المسور: لا يغسل المحرم رأسه» وهما صحابيان صغيران, «فأرسله عبد الله بن عباس، إلى أبي أيوب الأنصاري» وهو صحابي كبير ليسأله, اِبْن عباس توفي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم  وهو صغير ويخفى عليه شيء من السنة, فذهب عبد الله بْنُ حنين فَقَالَ: «فوجده يغتسل بين القرنين» أبو أيوب الأنصاري, القرنان خشبتان قائمتان عَلَى رأس البئر شبههما من البناء, «وهو يُستر بثوب، قال: فسلمت عليه» فيهِ دليل عَلَى جواز السلام عَلَى المغتسل, الذي يقضي حاجته ما يُسلم عليه من بول أو غائط لَكِنْ الذي يغتسل لا بأس أن تسلم عليه. 

قال: «من هذا قلت: أنا عبد الله بن حنين، أرسلني إليك عبد الله بن عباس أسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم؟ قال: فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأه» يَعْنِي: نزل الثوب قليلًا حتى يشاهد رأسه, «حتى بدا لي رأسه» لِأَنَّ الثوب كَانَ مرتفعا يغطي الرأس, ثم قال: «لإنسان يصب عليه اصبب، قال: فصب على رأسه، ثم حرك أبو أيوب رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، ثم قال: هكذا رأيته يفعل صلى الله عليه وسلم». 

فذهب وأخبرهما, جاء العلم الآن, فيهِ دليل عَلَى أن في الاختلاف يُرجع إِلَى أهل العلم, فهذان صحابيان صغيران رجعا إِلَى أبي أيوب الأنصاري فأخبرهما بالسنة, فدل عَلَى جواز الاغتسال للمحرم من الجنابة وغيرها وجواز غسله رأسه ويقبل بهما ويدبر لا بأس؛ لِأَنَّهُ ليس المقصود ستر الرأس إِنَّمَا المقصود غسل الرأس وإبلاغ الماء. 

وفي رواية للبخاري: «أن أبا أيوب جمع ثوبه إِلَى صدره قَالَ: حتى نظرت إليه ورأيت رأسه ووجه» وفي هذا الحديث دليل عَلَى قبول خبر الواحد وأن قبوله كَانَ مشروعًا عند الصحابة, ومنها: الرجوع إِلَى النص عند الاختلاف وترك الاجتهاد والقياس, لما اختلف اِبْن عباس والمسور رجعا إِلَى أبي أيوب وروى لهما النص عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . 

وفيه: جواز السلام عَلَى المتوضأ والمتطهر والمغتسل, بخلاف الجالس عَلَى البول والغائط فلا يُسلم عليه, وفيه: جواز الاستعانة في الطهارة, كون الإنسان يَعْينِه واحد ويصب عليه, فيهِ: جواز غسل المحرم رأسه وجسده من الجنابة, بل هو واجب, وأما الغسل للتبرد فذهب الجمهور إِلَى جوازه للمحرم وأنه لا بأس ولو لغير حاجة, وذهب الإمام أبو حنيفة ومالك إِلَى أَنَّه لا يجوز وأن عليه الفدية, والأقرب أَنَّه ليس عليه فدية. 

فإن قيل: هل يُفرك الشعر بالقوة؟. 

لا, ليس بالقوة حتى لا يسقط الشعر. 

(المتن) 

باب المحرم يتزوج. 

1841- حدثنا القعنبي، عن مالك، عن نافع، عن نبيه بن وهب، أخي بني عبد الدار، أن عمر بن عبيد الله، أرسل إلى أبان بن عثمان بن عفان يسأله وأبان يومئذ أمير الحاج وهما محرمان إني أردت أن أنكح طلحة بن عمر، ابنة شيبة بن جبير فأردت أن تحضر ذلك فأنكر ذلك عليه أبان، وقال: إني سمعت أبي عثمان بن عفان، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا ينكح المحرم ولا يُنكح». 

(الشرح) 

«لا ينكح المحرم ولا يُنكح» لا ينكح بنفسه ولا يُنكح غيره, يَعْنِي: لا يتولى العقد لنفسه ولا لغيره. 

(المتن) 

1842- حدثنا قتيبة بن سعيد، أن محمد بن جعفر، حدثهم حدثنا سعيد، عن مطر، ويعلى بن حكيم، عن نافع، عن نبيه بن وهب، عن أبان بن عثمان، عن عثمان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر مثله زاد «ولا يخطب». 

(الشرح) 

قَالَ المؤلف رحمه الله: (باب المحرم يتزوج) يَعْنِي: فما حكمه؟ ذكر حديث عثمان رضي الله عنه أن النَّبِيِّ  صلى الله عليه وسلم   قَالَ: «لا ينكح المحرم ولا يُنكح» الحديث دليل عَلَى تحريم عقد النكاح للمحرم لنفسه أو لغيره, لنفسه من قوله: «لا ينكح» ولغيره من قوله: «ولا يُنكح» يَعْنِي: لا يتزوج هو ولا يعقد النكاح لابنته أو أخته, والنكاح لا يصح بل هو فاسد غير منعقد, فلو عقد النكاح وهو محرم فالنكاح فاسد لَكِنْ ليس فيهِ فدية وهذا من محظورات الإحرام؛ فلو عقد النكاح وهو محرم فالنكاح فاسد ويُجدد العقد بعد ذلك. 

وفي هَذِه القصة: (أن عمر بن عبيد الله، أرسل إلى أبان بن عثمان بن عفان يسأله وأبان يومئذ أمير الحاج) هو أمير الحاج من جهة عبد الله بْنُ مروان, وأبان هذا اِبْن لعثمان رضي الله عنه وهو أمير الحاج, (وهما محرمان إني أردت أن أنكح طلحة بن عمر ابنة شيبة بن جبير فأردت أن تحضر ذلك) يَعْنِي: يريد أن يعقد نكاح طلحة ِبْن عمر عَلَى ابنة شيبة بْنُ جبير وأراد أن يحضر أبان وهو أمير الحج, (فأنكر ذلك عليه أبان) قَالَ: كيف تعقد وأنت محرم. 

وقال: إني سمعت أبي عثمان بن عفان، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا ينكح المحرم ولا يُنكح». 

وفي الحديث الذي بعد زاد «ولا يخطب» حتى الخطبة أيضًا لِأَنَّهَا وسيلة للنكاح, لا يخطب حتى يتحلل من الإحرام, قصة أبان في منعه من العقد وإنكار ذلك وهو راوي الخبر دليل عَلَى أن المعنى في ذلك العقد, وهذا هو الصواب: أَنَّه لا يعقد لنفسه ولا يعقد لغيره بولاية ولا وكالة, وهذا هو الصواب وإلى هذا ذهب جمع من أهل العلم: مالك والشافعي وأنه لا يجوز, وذهب أبو حنيفة وأصحابه إِلَى أن إنكاح المحرم نفسه وإنكاحه لغيره جائز واحتجوا بما سيأتي من حديث اِبْن عباس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  تزوج ميمونة وهو محرم» وسيذكره المؤلف, تأول بَعْضُهُم خبر عثمان عَلَى معنى أَنَّه إخبار عن حال المحرم, وأن المحرم مشغول بنسكه لا يتسع لعقد النكاح ولا يفرغ له. 

وبعضهم قَالَ: لا ينكح يَعْنِي: لا يطأ, وهذا تأويل لا وجه له, أما كون المحرم مشغولا بنسكه ممنوعا من الوطء فهذا من العلم العام المفروغ من بيانه باتفاق الجماعة والعامة من أهل العلم, والصواب: أن المعنى لا يعقد, وأما حديث اِبْن عباس سيأتي الكلام عليه. 

(المتن) 

1843- حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن حبيب بن الشهيد، عن ميمون بن مهران، عن يزيد بن الأصم ابن أخي ميمونة، عن ميمونة، قالت: «تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان بسرف». 

1844- حدثنا مسدد، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم «تزوج ميمونة وهو محرم». 

1845- حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن رجل عن سعيد بن المسيب، قال: وهم ابن عباس، في تزويج ميمونة وهو محرم. 

(الشرح) 

الحديث الأول: حديث يزيد بْنُ الأصم بْنُ أخي ميمونة أنها قالت: «تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان بسرف» هذا أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجة, وسرف: مكان قريب من مكة دون الوادي المشهور بوادي فاطمة, قَالَ الطبري: هو عَلَى عشرة أميال من مكة, الصحيح أَنَّه عَلَى ستة أميال, ومن غريب التاريخ أنها أيضًا تزوجها النَّبِيِّ بسرف وماتت بسرف ودُفنت فيها. 

أيضًا كذلك ميمونة أخبرت عن نفسها أنها حلال لما تزوجها النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم  ليست محرمة وليس النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم  محرمًا, وَكَذَلِكَ أبو رافع مولى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم  وكان هو السفير بين النَّبِيِّ  صلى الله عليه وسلم وبين ميمونة أخبر أَنَّه تزوجها وهو حلال. 

الحديث الذي بعد هذا عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم «تزوج ميمونة وهو محرم» هذا الحديث صحيح أخرجه البخاري والترمذي والنسائي بنحوه, والحديث سنده صحيح لَكِنْ العلماء بينوا أن اِبْن عباس وهم في قوله: «تزوج ميمونة وهو محرم» هذا حديث صحيح لكنه وهم من اِبْن عباس, خالفته ميمونة نفسها وهي صاحبة القصة قالت: «تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان بسرف» وَكَذَلِكَ أبو رافع كَانَ هو السفير بينهما وذكر أنهما كانا حلالين, وابن عباس خالته ميمونة لَكِنْ يزيد بْنُ الأصم خالته أيضًا: فَقَالَ اِبْن عباس: «تزوج ميمونة وهو محرم», ويزيد بْنُ الأصم خالته أيضًا أخبر أنها تزوجها وهما حلالان, وميمونة نفسها أخبرت أَنَّه تزوجها وهما حلالان, وأبو رافع السفير بينهما أخبر أَنَّه تزوجها وهي حلال, وابن عباس في ذلك الوقت صغير فدل عَلَى أن اِبْن عباس وهم في هذا, والحديث صحيح وثابت في البخاري. 

قوله: (وهم ابن عباس، في تزويج ميمونة وهو محرم) لِأَنّ لا يمكن أن يؤخذ بقول اِبْن عباس وميمونة نفسها صاحبة القصة تقول: إنه زوجها وهي حلال, فالصواب: أنه تزوجها وهي حلال, ولا يمكن أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يخالف قوله, يقول: «لا ينكح المحرم ولا يثنكح» ويتزوج وهو محرم, ولو صح لَكِان هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم فهو مستثنى أو يُنظر في الجمع بينهما وهذا لو صح, لَكِنْ الصواب أَنَّه تزوجها وهي حلال ومع ذلك أخذ بعض العلماء بقول اِبْن عباس وأجازوا للمحرم أن يتزوج, قالوا: واحتج بهذا الحديث إبراهيم النخعي والثوري وعطاء بْنُ أبي رابح ومحمد بْنُ أبي سليمان وعكرمة وأبو حنيفة وصاحباه قالوا: لا بأس للمحرم أن ينكح ولكنه لا يدخل بها حتى يحل, وهو قول اِبْن عباس وابن مسعود. 

وقال سعيد بْنُ المسيب والقاسم وسليمان بْنُ يسار والليث والأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق: لا يجوز للمحرم أن ينكح ولا يُنكح, وإن فعل ذلك فالنكاح باطل وهذا هو الصواب, قَالَ الشافعي: قلت لا حجة لهم برواية اِبْن عباس لِأَنَّهَا مخالفة لرواية أكثر الصحابة, ولم يروه كذلك إِلَّا اِبْن عباس وحده وانفرد بِهِ, ولأن سعيد بْنُ المسيب وغيره وهموا في ذلك, وخالفته ميمونة, وأبو رافع, فرويا أَنَّه نكحها وهي حلال, وهو أيضًا بالقبول لِأَنّ ميمونة هي الزوجة, وأبو رافع هو السفير بينهما, فهما أعرف بالواقع من اِبْن عباس؛ لِأَنَّهُ ليس له من التعلق بالقصة ما لهما ولصغره حينئذٍ عنهما, إذ لم يكن في سنهما ولا يقرب منه. 

بَعْضُهُم قَالَ: لو صح يُحمل عَلَى أَنَّه تزوجها في أرض الحرم وهو حلال, لَكِنْ ما دام أَنَّه ثبت عن ميمونة وعن السفير بينهما أَنَّه تزوجها وهي حلال فلا حاجة لتأويله. 

وأما الحديث الذي بعده: عن إسماعيل بن أمية، عن رجل عن سعيد بن المسيب، قال: (وهم ابن عباس، في تزويج ميمونة وهو محرم) هذا سنده مجهول, لكنه لاشك أنه وهم. 

(المتن) 

باب ما يقتل المحرم من الدواب. 

1846- حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، سئل النبي صلى الله عليه وسلم عما يقتل المحرم من الدواب، فقال: «خمس لا جناح في قتلهن على من قتلهن في الحل والحرم: العقرب، والفأرة، والحدأة، والغراب، والكلب العقور». 

1847- حدثنا علي بن بحر، حدثنا حاتم بن إسماعيل، حدثني محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خمس قتلهن حلال في الحرم: الحية، والعقرب، والحدأة، والفأرة، والكلب العقور». 

1848- حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا هشيم، حدثنا يزيد بن أبي زياد، حدثنا عبد الرحمن بن أبي نعم البجلي، عن أبي سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عما يقتل المحرم؟ قال: «الحية، والعقرب، والفويسقة، ويرمي الغراب ولا يقتله، والكلب العقور، والحدأة، والسبع العادي». 

(الشرح) 

هذا الباب في (ما يقتل المحرم من الدواب) ذكر حديث اِبْن عمر قَالَ: «سئل النبي صلى الله عليه وسلم عما يقتل المحرم من الدواب، فقال: خمس لا جناح في قتلهن على من قتلهن في الحل والحرم: العقرب، والفأرة، والحدأة، والغراب، والكلب العقور». 

هذا الحديث صحيح رواه الشيخان والنسائي, وفيه: دليل عَلَى قتل هَذِه الخمس في الحل والحرم لأنهن فواسق كما جاء في اللفظ الآخر: «خمس فواسق» والفاسق: هو الخارج لِأَنَّهُ خرج عن طبيعة غيره بالإيذاء فحل قتلها, ومنه: فاسق؛ لِأَنَّهُ خرج عن الطاعة إِلَى المعصية, ومنه يقال: فسقت التمرة, إذا خرجت وانشقت, ولهذا قَالَ النَّبِيِّ  : صلى الله عليه وسلم «خمس لا جناح في قتلهن على من قتلهن في الحل والحرم: العقرب» لِأَنَّهَا تلدغ بالسم, «والغراب» لأنه فاسق حيث يقطع سنابل الزرع وينقب الدبر في البعير فيتأخر بره, فهو بِذَلِكَ فاسق فيُقتل, البعير الجرح اللي في ظهره إذا برأ يأتي ينقبه فيعود الجرح مرة ثانية, هذا من فسه ولهذا يُقتل. 

«والفأرة» مفسدة فاسقة تخرب الأشياء, تقرض الحبال وغيرها, «الحدأة» هي طائر ينزل من السَّمَاء ويخطف اللحم, «والكلب العقور» لِأَنَّهُ يعدو عَلَى الناس ويعقرها, هَذِه خمس فواسق تُقتل في الحل والحرم لكونها فاسقة خرجت عن طبيعة غيرها بالإيذاء, قوله: «لا جناح» يَعْنِي: لا إثم ولا جزاء, والمعنى: لا حرج, «في الحل والحرم» يَعْنِي: في أرضه, وورد في لفظ مسلم: «أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يأمر بقتل الكلب العقور» وظاهر الْأَمْرِ الوجوب ويحتمل الندب. 

وقد روى البزار: «أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أمر بقتل العقرب, والفأرة, والحية, الحدأة» وهذا الْأَمْرِ ورد بعد نهي المحرم عن القتل, وجاء في بعض الروايات تقييد الغراب: «بالأبقع» الغراب الأبقع, عند مسلم من حديث عائشة بلفظ: «الغراب الأبقع» وهو الذي في ظهره أو بطنه بياض, قَالَ بَعْضُهُم: إن هَذِه الزيادة لا تصح لَكِنْ هو في رواية قتادة وهو مدلس لَكِنْ صرح النسائي بسننه عن قتادة قَالَ الحافظ في الفتح: اتفق العلماء عَلَى إخراج الغراب الصغير الذي يأكل الحب من ذلك ويقال له: غراب الزرع, قالوا: وأفتوا بجواز أكله فبقي ما عداه من الغربان ملحقًا بالأبقع. 

قَالَ المنذري: أباح كل من يحفظ من أهل العلم قتل الغراب في الإحرام إِلَّا عطاءً, «الكلب العقور» هو الذي يعدو, قَالَ بَعْضُهُم: هو عام لكل من يعدو من الأسد, والنمر, وغيرهم,وبعضهم خصصه بالذئب والصواب أَنَّه عام ليس خاصًا بالذئب ولا الأسد ولا النمر. 

الحديث الثاني حديث علي بن بحر قَالَ: (حدثنا حاتم بن إسماعيل، حدثني محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة)، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خمس قتلهن حلال في الحرم: الحية، والعقرب، والحدأة، والفأرة، والكلب العقور» هذا الحديث في إسناده محمد بْنُ عجلان كما قَالَ المنذري فيهِ كلام لأهل العلم, وَلَكِن يعتبر شاهدا للحديث السابق وأنه لا بأس بقتل هَذِه الأمور الخمسة. 

الحديث الذي بعده حديث أبي سعيد: «أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عما يقتل المحرم؟ قال: الحية، والعقرب، والفويسقة، ويرمي الغراب ولا يقتله، والكلب العقور، والحدأة، والسبع العادي» هذا الحديث ضعيف في إسناده يزيد بْنُ أبي زياد ولعل هذا من أوهامه قوله: «ويرمي الغراب ولا يقتله» هذا مخالف للأحاديث الصحيحة في قتل الغراب. 

«الفويسقة» هي الفأرة, هذا الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجة لَكِنْ فيهِ يزيد بْنُ أبي زياد, قوله: «السبع العادي» أي الظالم الذي يفترس الناس ويعقر, بَعْضُهُم تأول: يرمي الغراب, قَالَ: يشبه أن يكون المراد بِهِ الغراب الصغير الذي يأكل الحب, والذي استثناه مالك من جملة الغربان. 

وعَلَى كل حال: قوله: «ويرمي الغراب ولا يقتله» عَلَى إطلاقه هذا مخالف للأحاديث, والحديث في سنده ضعف, «السبع العادي» عام, أي الذي يعدو الظالم الذي يفترس الناس ويعقر داخل هذا في الكلب العقور, وعلى هذا فتكون: الحية, و العقرب,و الفأرة,و الغراب,و الكلب العقور,و الحدأة,و السبع العادي, الذي يعدو فيكون أعم من الكلب, الكلب: الذي يعقر الناس, السبع العادي: الذي يعدو عَلَيْهِمْ, عَلَى كل حال كل مؤذٍ فَإِنَّهُ يُقتل ويُقاس عَلَى هذا. 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد