بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم عَلَى نَبِيّنَا محمد وَعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(المتن)
قَالَ الإمام أبو داود رحمه الله تعالى:
باب الصلاة بجمع
1926 - حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعًا».
1927 - حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا حماد بن خالد، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، بإسناده ومعناه وقال: بإقامة إقامة جمع بينهما، قال أحمد، قال وكيع صلى كل صلاة بإقامة.
(الشرح)
قَالَ المؤلف رحمه الله تعالى: (باب الصلاة بجمع), بجمع هِيَ المزدلفة لها أسماء تسمى جمعا لِأَنَّ النَّاس يجتمعون فِيهَا وتسمى مزدلفة لِأَنَّ النَّاس يزدلفون فِيهَا, وتسمى المشعر, وَهَذَا الباب معقود لصلاة الحاج في مزدلفة ليلة العيد, صلاة المغرب والعشاء ماذا يعمل؟ هَلْ يجمع بينهما؟ وَهَلْ يقصر العشاء أو يفرق بينهما؟ الباب معقود لهذا, باب الصلاة بجمع.
ذكر المؤلف حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعًا».
وحديث أحمد بن حنبل الَّذِي بعده «عن الزهري، بإسناده ومعناه وقال: بإقامة إقامة جمع بينهما، قال أحمد، قال وكيع صلى كل صلاة بإقامة».
وَهَذَا الحديث فِيهِ دليل عَلَى أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم جمع بين العشاءين بمزدلفة كُلّ صلاة بإقامة, فدل عَلَى هَذَا حديث جابر عِنْد مسلم الحديث الطول أَنَّهُ اعتنى بسياق حديث النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وأخبر أَنَّهُ صلى المغرب والعشاء جميعًا بأذان وإقامتين, أذان واحد ثُمَّ أقام للمغرب ثُمَّ أقام للعشاء.
الحديث الأول حديث ابن عمر قَالَ: «صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعًا», وَلَمْ يتكلم عَنْ الإقامة, وحديث الزهري قَالَ: «بإقامة إقامة جمع بينهما، قال أحمد، قال وكيع صلى كل صلاة بإقامة».
وَلَمْ يذكر الأذان وَهَذَا الحديث أخرجه الشيخان والنسائي, والمقصود أَنَّهُ يشرع للحاج أَنَّهُ يجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة من حين وصوله, ويقصر العشاء, والإقامة سيأتي في الأحاديث الأخرى هَلْ يكون بأذانين وإقامتين أو بأذان وإقامة أو بإقامتين, سيأتي في الأحاديث بَعْدَ هَذَا.
(المتن)
1928 - حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا شبابة، ح، وحدثنا مخلد بن خالد المعنى، أخبرنا عثمان بن عمر، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، بإسناد ابن حنبل، عن حماد، ومعناه قال: بإقامة واحدة لكل صلاة ولم يناد في الأولى، ولم يسبح على إثر واحدة منهما، قال مخلد: لم يناد في واحدة منهما.
(الشرح)
وَهَذَا الحديث (بإسناد ابن حنبل، عن حماد), يَعْنِي الحديث الآخر حديث أحمد بن حنبل الحديث السابق, وَقَالَ: «بإقامة واحدة لكل صلاة», يَعْنِي أقام للمغرب وأقام للعشاء وَلَمْ يناد في الأولى, لَمْ يناد للأذان يَعْنِي في الأولى «ولم يسبح على إثر واحدة منهما»، يَعْنِي ما صلى صلاة الصبح وَهِيَ النافلة «قال مخلد: لم يناد في واحدة منهما», وَهَذِهِ الرواية إن صحت تدل عَلَى أن ابن عمر نسي وإلا قَدْ أثبت جابر في الحديث الطويل أَنَّهُ نودي بالآذان للصلاة الأولى, وحديث ابن عمر كما سأتي مضطرب.
(المتن)
1929 - حدثنا محمد بن كثير، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن مالك، قال: صليت مع ابن عمر المغرب ثلاثًا، والعشاء ركعتين، فقال له: مالك بن الحارث ما هذه الصلاة؟ قال: «صليتهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المكان، بإقامة واحدة».
(الشرح)
وَهَذَا الحديث أخرجه الترمذي قَالَ: حسن صحيح, والصواب بإقامتين كما في حديث جابر, وقوله: (لَمْ يناد في الأولى), يَعْنِي لَمْ يؤذن في الأولى, وتخصيص الأولى لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يكن في أذان في الأولى ففي الثانية من باب أولى.
والعلماء لهم كلام في هَذَا نقل الخطابي اختلاف الفقهاء في هَذَا, قَالَ: قَالَ الشافعي: لا يؤذن ويصليها بإقامتين, وَذَلِكَ أن الأذان إِنَّمَا سن لصلاة الوقت, وصلاة المغرب لَمْ تصل في وقتها فلا يؤذن لها, كما لا يؤذن للعصر بعرفة, وَكَذَلِكَ قَالَ إسحاق بن راهوية.
قَالَ أبو حنيفة وأصحابه: يؤذن للأولى ويقام لها ثُمَّ يقام للآخرة, ثُمَّ يقام للأخرى بلا أذان, وَقَدْ روي هَذَا في حديث جعفر بن محمد عَنْ أبيه عَنْ جابر في قصة الحج أَنَّهُ فعل بأذان وإقامتين, وَهَذَا هُوَ الصواب كما في حديث جابر.
قَالَ مالك: يؤذن لكل صلاة فيقام لها فيصلي بأذانين وإقامتين, يؤذن للمغرب ويصلي, ثُمَّ يؤذن للعشاء ويصلي.
قَالَ سفيان الثوري: يجمعهما بإقامة واحدة عَلَى حديث ابن عمر من رواية ابن إسحاق, يَعْنِي لا يؤذن للأولى ولا الثانية ويكتفي بإقامة واحدة, وَقَالَ أحمد: أيهما فعلت أجزأت, قَالَ النووي: قَدْ سبق في حديث جابر الطويل في صفة حجة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذن واحد وإقامتين.
وَهَذِهِ الرواية لعلها مقدمة لِأَنَّهُ مَعَ جابر زيادة العلم(.....), وزيادة الثقة مقبولة؛ وَلِأَنَّ جابر رضي الله عنه اعتنى بالحديث ونقل حجة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم واستقصى, فَهُوَ أولى بالاعتماد وَهَذَا هُوَ الصحيح من مذهب الشافعي أَنَّهُ يستحب الأذان للأولى منهما ويقيموا لكل واحد إقامة, فيصليها بأذن وإقامتين.
ويتأول حديث إقامة واحدة أن كُلّ صلاة لها إقامة وَلَابُدَّ من هَذَا ليجمع بين الروايات, هَذَا كلام النووي كلام جيد, وموزون.
قَالَ: جابر ذكر حجة النَّبِيّ وَأَنَّهُ في أذان وإقامتين, وَهَذَا هُوَ المعتمد, وحديث ابن عمر له روايات مضطربة, مرة بأذن وإقامة ومرة بإقامة ومرة بإقامتين فَهُوَ مضطرب حديث ابن عمر, والعمدة عَلَى حديث جابر في الصحيح.
(المتن)
1930 - حدثنا محمد بن سليمان الأنباري، حدثنا إسحاق يعني ابن يوسف، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، وعبد الله بن مالك، قالا: صلينا مع ابن عمر، بالمزدلفة المغرب والعشاء بإقامة واحدة، فذكر معنى حديث ابن كثير.
(الشرح)
وَهَذِهِ إحدى الروايات عَنْ ابن عمر أَنَّهُ بإقامة واحدة, وَهَذَا من الاضطراب في الروايات, والصواب أَنَّهُ بأذان وإقامتين.
(المتن)
1931 - حدثنا ابن العلاء، حدثنا أبو أسامة، عن إسماعيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، قال: أفضنا مع ابن عمر فلما بلغنا جمعًا «صلى بنا المغرب والعشاء بإقامة واحدة ثلاثًا، واثنتين» فلما انصرف، قال لنا ابن عمر: هكذا صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المكان.
(الشرح)
الحديث أخرجه مسلم والترمذي والنسائي, وَفِيهِ قَالَ: (أفضنا) يَعْنِي من عرفة, (مع ابن عمر فلما بلغنا جمعًا), يَعْنِي مزدلفة, «صلى بنا المغرب والعشاء بإقامة واحدة ثلاثًا، واثنتين», ثلاثًا المغرب ثلاث ركعات, واثنتين العشاء (فلما انصرف، قال لنا ابن عمر: هكذا صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المكان), هَذَا من الاضطراب فِيهِ والصواب أَنَّهُ بأذان وإقامتين.
وذكر العيني في هَذِهِ المسألة ستة أقوال:
أحدها: أَنَّهُ يقيم لكل واحدة منهما ولا يؤذن لواحدة منهما.
الثاني: أَنَّهُ يقيم مرة واحدة في الأولى فقط ولا أذان أصلاً.
الثالث: أَنَّهُ يؤذن للأولى ويقيم لكلٍ منهما وَهُوَ الصحيح من مذهب الشافعي والحنابلة.
الرابع: الأذان والإقامة في الأولى فقط, وَهُوَ قول أبو حنيفة.
الخامس: أَنَّهُ يؤذن لكل منهما ويقيم وَهُوَ قول مالك.
السادس: أَنَّهُ لا يؤذن لواحدة منهما ولا يقيم أصلاً, لا أذان ولا إقامة.
قَالَ: وَأَصْلُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ إِمَّا الْأَخْبَارُ أَوِ الآثار وأشد الاضطراب في ذلك عن بن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ عَمَلِهِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِلَا أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ وَرُوِيَ عَنْهُ مَوْقُوفًا بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَةٍ وَرُوِيَ عَنْهُ مُسْنَدًا بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ وَرُوِيَ عَنْهُ مسند الْجَمْعُ بِإِقَامَتَيْنِ انْتَهَى.
كُلّ هَذَا من الاضطراب في حديث ابن عمر, والصواب القول الثالث أَنَّهُ يؤذن للأولى ويقيم لكل واحدة منهما, هَذَا هُوَ الصواب عَلَى ما في حديث ابن عمر.
ابن القيم رحمه الله أَيْضًا في تعليقه ذكر هَذَا, قَالَ شمس الدين ابن القيم: ذَهَبَ سفيان الثوري وجماعة إِلَى أَنَّهُ يصليهما بإقامة واحدة لهما, كما جاء في بعض روايات حديث ابن عمر.
قال بن عَبْد الْبَرّ: وَهُوَ مَحْفُوظ مِنْ رِوَايَات الثِّقَات أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الْمَغْرِب وَالْعِشَاء بِجَمْعٍ بِإِقَامَةٍ وَاحِدَة.
قال ابن القيم: قُلْت: وَقَدْ ثبت ذلك عن بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى الصَّلَاتَيْنِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِإِقَامَةٍ وَاحِدَة.
وقال مالك صلاهما بأذان وإقامتين وهو مذهب بن مسعود.
إلى أن قال: وَقَدْ تَكَلَّفَ قَوْم الْجَمْع بَيْن هَذِهِ الْأَحَادِيث بضروب من التكلف.
وعن ابن عُمَر فِي ذَلِكَ ثَلَاث رِوَايَات"
إِحْدَاهُنَّ: أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنهمَا بِإِقَامَتَيْنِ فَقَطْ.
وَالثَّانِيَة: أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنهمَا بِإِقَامَةٍ وَاحِدَة لَهُمَا وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ الرِّوَايَتَيْنِ .
وَالثَّالِثَة: أَنَّهُ صَلَّاهُمَا بِلَا أَذَان وَلَا إِقَامَة ذَكَرَ ذَلِكَ الْبَغَوِيُّ.
إِلَى أن قَالَ: وَالصَّحِيح فِي ذَلِكَ كُلّه الْأَخْذ بِحَدِيثِ جَابِر وَهُوَ الْجَمْع بَيْنهمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ لِوَجْهَيْنِ اِثْنَيْنِ:
أَحَدهمَا: أَنَّ الْأَحَادِيث سَوَاء مُضْطَرِبَة مُخْتَلِفَة فهذا حديث بن عُمَر فِي غَايَة الِاضْطِرَاب كَمَا تَقَدَّمَ, فَرُوِيَ عن بن عُمَر مِنْ فِعْله الْجَمْع بَيْنهمَا بِلَا أَذَان وَلَا إِقَامَة وَرُوِيَ عَنْهُ الْجَمْع بَيْنهمَا بِإِقَامَةٍ وَاحِدَة, وَرُوِيَ عَنْهُ الْجَمْع بَيْنهمَا بِأَذَانٍ وَاحِد وَإِقَامَة وَاحِدَة وَرُوِيَ عَنْهُ مُسْنَدًا إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَمْع بَيْنهمَا بِإِقَامَةٍ وَاحِدَة وَرُوِيَ عَنْهُ مَرْفُوعًا الْجَمْع بَيْنهمَا بِإِقَامَتَيْنِ.
وَعَنْهُ أَيْضًا مَرْفُوعًا الْجَمْع بَيْنهمَا بِأَذَانٍ وَاحِد وَإِقَامَة وَاحِدَة لَهُمَا, وَعَنْهُ مَرْفُوعًا الْجَمْع بَيْنهمَا دُون ذِكْر أَذَان وَلَا إِقَامَة.
قَالَ ابن القيم: وَهَذِهِ الرِّوَايَات صَحِيحَة عَنْهُ فَيَسْقُط الْأَخْذ بها لاختلافها واضطرابها.
إِلَى أن قَالَ: الْوَجْه الثَّانِي أَنَّهُ قَدْ صَحَّ مِنْ حَدِيث جَابِر فِي جَمْعه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَة أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنهمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ, وَلَمْ يَأْتِ فِي حَدِيث ثَابِت قَطُّ خِلَافه, وَالْجَمْع بَيْن الصَّلَاتَيْنِ بِمُزْدَلِفَةِ كَالْجَمْعِ بَيْنهمَا بِعَرَفَة لَا يَفْتَرِقَانِ إِلَّا فِي التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير فَلَوْ فَرَضْنَا تَدَافُع أَحَادِيث الْجَمْع بِمُزْدَلِفَةَ جُمْلَة لَأَخَذْنَا حُكْم الْجَمْع مِنْ جَمْع عَرَفَة.
ذكر ابن القيم رحمه الله كلام جيد, أحاديث ابن عمر مضطربة لا يؤخذ بها, مرة بلا أذان ولا إقامة, ومرة بأذان واحد وإقامتين, ومرة بإقامة واحدة, ومرة بإقامتين.
(المتن)
1932 - حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن شعبة، حدثني سلمة بن كهيل، قال: رأيت سعيد بن جبير، أقام بجمع فصلى المغرب ثلاثًا، ثم صلى العشاء ركعتين، ثم قال: شهدت ابن عمر صنع في هذا المكان مثل هذا، وقال: «شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع مثل هذا في هذا المكان».
(الشرح)
هنا ما تعرض للأذان ولا الإقامة, قَالَ: (أقام بجمع), يَعْنِي أقام الصلاة (فصلى المغرب ثلاثًا، ثم صلى العشاء ركعتين)، هَذَا فِيهِ مشروعية الجمع بين الصلاتين بمزدلفة.
(المتن)
1933 - حدثنا مسدد، حدثنا أبو الأحوص، حدثنا أشعث بن سليم، عن أبيه، قال: أقبلت مع ابن عمر من عرفات إلى المزدلفة فلم يكن يفتر، من التكبير والتهليل، حتى أتينا المزدلفة فأذن وأقام، أو أمر إنسانا فأذن وأقام فصلى بنا المغرب ثلاث ركعات، ثم التفت إلينا، فقال: «الصلاة» فصلى بنا العشاء ركعتين، ثم دعا بعشائه. قال: وأخبرني علاج بن عمرو بمثل حديث أبي، عن ابن عمر، قال: فقيل لابن عمر في ذلك، فقال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا.
(الشرح)
وَهَذَا الحديث فِيهِ إثبات الأذان وَهُوَ موافق لحديث جابر عِنْد مسلم, وَفِيهِ أَنَّهُ قام للأولى وسكت عَنْ الثانية, وفي حديث جابر عِنْد مسلم أَنَّهُ بأذان وإقامتين وهذا هُوَ المعتمد, أَمَّا الحديث عَنْ ابن عمر فَهُوَ مضطرب, فيكون ضعيفًا.
(المتن)
1934 - حدثنا مسدد، أن عبد الواحد بن زياد، وأبا عوانة، وأبا معاوية، حدثوهم، عن الأعمش، عن عمارة، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود، قال: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة إلا لوقتها إلا بجمع، فإنه جمع بين المغرب والعشاء بجمع، وصلى صلاة الصبح من الغد قبل وقتها».
(الشرح)
هَذَا الحديث أخرجه الشيخان البخاري ومسلم والنسائي, ابن مسعود يَقُولُ: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة إلا لوقتها إلا بجمع»، أيْ بمزدلفة, فَإِنَّهُ صلها في غير وقتها «فإنه جمع بين المغرب والعشاء بجمع، وصلى صلاة الصبح من الغد», يَعْنِي فجر يوم العيد «قبل وقتها», المراد قبل وقتها المعتاد وليس المراد قبل دخول الوقت, صلى صلاة المغرب والعشاء في غير وقتها لِأَنَّ المغرب أخرت, ما جاء إِلَّا متأخرا فصلها مَعَ العشاء.
وصلى الصبح قبل وقته المعتاد لكن بَعْدَ تحقق الفجر, حيث بادر بها في أول وقتها, وكانت عادته عليه الصلاة والسلام إِذَا أذن المؤذن أن ينتظر قليلاً ثُمَّ يأتي بلال ويؤذنه للصلاة, فيصلي ركعتين ثُمَّ يأتي.
لكن في ليلة العيد بادر مبادرةً شديدة, وفي الحديث الآخر: قائل يَقُولُ طلع الفجر وقائل يَقُولُ لم طلع الفجر, والحكمة في ذَلِكَ أَنَّهُ حَتَّى يطول وقت الوقوف بمزدلفة, إِذَا بادر الفجر يقف عِنْد المشعر الحرام؛ لِأَنَّ الوقوف ليس طويلاً, فَهُوَ إِلَى الإسفار قبل طلوع الشمس, فبادر مبادرةً شديدة, وفي الحديث الآخر: قائل يَقُولُ: طلع الفجر, وقائل يَقُولُ: لَمْ يطلع, فصلها.
وَهَذَا معنى قول ابن مسعود: «صلى صلاةً في غير ميقاتها», لغير وقتها المعتاد وليس المراد قبل دخول الوقت, فَإِنَّهُ لا تصح الصلاة قبل دخول الوقت, هَذَا معلوم من النصوص, يَعْنِي قبل وقتها المعتاد لكن بَعْدَ تحقق الفجر.
ولذلك بعض النَّاس خفي عَلَيْهِ, بعض النَّاس تقول: ما طلع الفجر وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: طلع الفجر حَتَّى يتسع وقت الوقوف.
ذكر النووي في هَذَا أَنَّهُ يَقُولُ: وَلَكِنْ بَعْدَ تَحَقُّقِ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَوْلُهُ قَبْلَ وَقْتِهَا الْمُرَادُ قَبْلَ وَقْتِهَا الْمُعْتَادَةِ لَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِجَائِزٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْتُهُ.
قَالَ: مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ اسْتِحْبَابُ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فِي كُلِّ الْأَيَّامِ وَلَكِنْ فِي هَذَا الْيَوْمِ أَشَدُّ اسْتِحْبَابًا, وَقَدْ يَحْتَجُّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَنْعِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السفر؛ لأن بن مَسْعُودٍ مِنْ مُلَازِمِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ مَا رَآهُ يَجْمَعُ إِلَّا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ.
يَعْنِي الأحناف ما يجيزون الجمع إِلَّا في ليلة مزدلفة, عندهم ممنوع الجمع في الأسفار, ويحتجون بهذا, قَالَ ابن مسعود: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة إلا لوقتها إلا بجمع», وما رآه يجمع في السفر إِلَّا في مزدلفة, ولكن المراد قبل ميقاتها المعتاد.
قول الجماهير: عَلَى أَنَّهُ يجوز الجمع في الأسفار, وَالنَّبِيّ ثبت أَنَّهُ جمع في الأسفار لكن الأحناف ما عندهم جمع, ما في إِلَّا في عرفة ومزدلفة, المسافر لا يجوز له الجمع عِنْد الأحناف أبدًا إِلَّا إِذَا كَانَ حاجا في عرفة ومزدلفة فقط, وما بَعْدَ ذَلِكَ فلا يجوز الجمع عِنْد الأحناف ويستدلون بحديث ابن مسعود هَذَا: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة إلا لوقتها إلا بجمع», لكن مراد ابن مسعود قبل وقتها المعتاد, وإلا ثبتت الأحاديث أن النَّبِيّ يجمع في أسفاره بني المغرب والعشاء وبين الظهر والعصر.
(المتن)
1935 - حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن عياش، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي، قال: فلما أصبح يعني النبي صلى الله عليه وسلم ووقف على قزح فقال: «هذا قزح وهو الموقف، وجمع كلها موقف، ونحرت ها هنا، ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم».
(الشرح)
والحديث أخرجه الترمذي وابن ماجة وَفِيهِ دليل عَلَى أن عرفة كلها موقف, وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وقف عِنْد الصخرات تَحْتَ جبل الرحمة وَقَالَ: كُلّ عرفة موقف, ليس خاصًا بهَذَا, وَكَذَلِكَ مزدلفة كلها موقف, والنَّبِيّ وقف عَلَى قزح وقزح جبل صغير عَلَى وزن عمر, جبل صغير بني عَلَيْهِ المسجد, جاء النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ووقف عنده وحمد الله ودعاه ورفع يديه بَعْدَ أن صلى الفجر حَتَّى أسفر جدًا, وَقَالَ: «هذا قزح وهو الموقف، وجمع كلها موقف»، جمع اسم مزدلفة, يَعْنِي كلها ليس خاصًا عِنْد الجبل هنا, الوقوف في جميع يَعْنِي مزدلفة, جميع ساحاتها.
قَالَ: «ونحرت ها هنا، ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم», يَعْنِي ذبح عليه الصلاة والسلام قرب الجمرة الأولى, المكان الَّذِي ينزل هناك, فقال: «منى كلها منحر», في أيْ مكان في منى اذبحوا وانحروا هديكم؛ حَتَّى لا يظن بعض النَّاس أَنَّهُ خاص بموقف بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وفي الحديث الآخر: «وفجاج مَكَّة كلها طريق ومنحر», إِذَا نحر في منى في مزدلفة في مَكَّة لا بأس, لكن الأفضل في منى.
(المتن)
1936 - حدثنا مسدد، حدثنا حفص بن غياث، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وقفت ها هنا بعرفة وعرفة كلها موقف، ووقفت ها هنا بجمع وجمع كلها موقف، ونحرت ها هنا، ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم».
(الشرح)
عرفة كلها موقف و الحمد لله, وليس خاصًا بموقف النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَكَذَلِكَ جمع -المزدلفة -كلها موقف في أيْ مكان في مزدلفة فَإِذَا صلى الفجر يتجه إِلَى القبلة ويدعو, وليس خاصًا بموقف النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم .
وَكَذَلِكَ النحر النَّبِيّ نحر عِنْد الجمرة الأولى ذبح هديه وَقَالَ: «ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم», يَعْنِي كُلّ واحد ينحر في مكانه في مخيمه وَهَذَا سابق, كَانَ النَّاس قلة, والآن صار في تنظيم وترتيب ما أحد ينحر في أمكنة معينة(....), وَذَلِكَ لكثرة الأعداد,في الأول كَانَ العدد قليلا وَكَانَ الجبال والتراب و تتحمل فكلٌ ينحر, إِلَى عهد قريب, كَانَ النَّاس في مخيماتهم ينحرون, لكن الآن تغيرت الأحوال كثر الحجيج وصاروا ملايين, فلو نحر كلٌ في مكانه لأوخمت البناء وصار لها روائح.
(المتن)
1937 - حدثنا الحسن بن علي، حدثنا أبو أسامة، عن أسامة بن زيد، عن عطاء، قال: حدثني جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «كل عرفة موقف، وكل منى منحر، وكل المزدلفة موقف، وكل فجاج مكة طريق ومنحر».
(الشرح)
والحمد الحديث سنده جيد وَهُوَ دليل عَلَى أن كُلّ فجاج مَكَّة منحر, يَعْنِي يذبح في منى في مزدلفة في مَكَّة المهم داخل حدود الحرم؛ لِأَنَّهُ من الحرم, كما أن عرفة كلها موقف وكذا مزدلفة كلها موقف, ومعنى كُلّ عرفة موقف يَعْنِي كُلّ أجزائها ومواضعها ووجوه جبالها كلها موقف, يَعْنِي موضع وقوف الحاج, وَكُلّ منى منحر يَعْنِي موضع نحر وذبح للهدايا متعلقة بالحج, وَكُل مزدلفة موقف يَعْنِي الوقوف صبح العيد, وَكُلّ فجاج مَكَّة جمع فج وَهُوَ الطريق الواسع, طريق ومنحر.
فيجوز دخول مَكَّة من جميع طرقها وإن كَانَ الدخول من ثنية كذا أفضل, ويجوز النحر في جميع نواحيها لِأَنَّهُ من الحرم, فالمقصود نفي الحرج, ويجوز ذبح جميع الهدايا في أرض الحرم بالاتفاق, إِلَى أن منى أفضل لدماء الحج وَمَكَّة لَاسِيَّمَا لدماء المروة أفضل, لعل هَذَا هُوَ وجه تخصيص مَكَّة للذكر.
الأفضل إِذَا كَانَ الإنسان معه هدي لعمرة يذبح عِنْد المروة سابقًا, إِذَا انتهى من السعي ذبح, والأفضل في ذبح الحج في منى, هَذَا لما كَانَ النَّاس يذبحون في أيْ مكان, الآن لا يذبح إِلَّا في أمكنة معينة.
(المتن)
1938 - حدثنا ابن كثير، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال: قال عمر بن الخطاب: كان أهل الجاهلية لا يفيضون حتى يروا الشمس على ثبير، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم «فدفع قبل طلوع الشمس».
(الشرح)
هَذَا الحديث أخرجه البخاري والترمذي وابن ماجة, قَالَ عمر رضي الله عنه: (كان أهل الجاهلية لا يفيضون حتى يروا الشمس على ثبير)، يَعْنِي لا يفيضون من مزدلفة, وثبير هَذَا جبل تشرق عَلَيْهِ الشمس, فَإِذَا أشرقت الشمس قَالُوا: أشرق ثبير كيما نغير, فلا ينصرفون من مزدلفة؛ حَتَّى تطلع الشمس, فخالفهم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم, وَقَالَ: «خالف هدينا هدي الْمُشْرِكِينَ, فدفع قبل طلوع الشمس»؛ بَعْدَ الإسفار جدًا, كما أَنَّهُ خالفهم في الدفع إِلَى عرفة.
كَانَ أهل الجاهلية يدفعون من عرفة قبل غروب الشمس, إِذَا صارت الشمس عَلَى رؤوس الجبال كعمائم الرجال دفعوا, فخالفهم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: «خالف هدينا هدي الْمُشْرِكِينَ», فلم ينصرف من عرفة حَتَّى غربت الشمس واستحكم غروبها وغاب القرص فدفع.
وخالفهم أيضًا في مزدلفة, يَعْنِي أهل الجاهلية في عرفة قبل طلوع الشمس, وفي مزدلفة بَعْدَ طلوع الشمس وَالنَّبِيّ خالفهم, في عرفة بَعْدَ غروب الشمس وفي مزدلفة قبل طلوع الشمس.
وفي مزدلفة ينتظرون حَتَّى تشرق الشمس عَلَى هَذَا الجبل فيقولون: أشرق ثبير هَذَا الجبل كيما نغير, فخالفهم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فدفع بَعْدَ أن أسفر جدًا وقبل طلوع الشمس, كَانُوا لا يفيضون يَعْنِي لا يدفعون من مزدلفة, وثبير هَذَا جبل معروف بمكة وَهُوَ أعظم جبالها, الحديث فِيهِ مشروعية الدفع من الموقف من مزدلفة قبل طلوع الشمس عِنْد الإسفار, ونقل الطبري الإجماع عَلَى أن من لَمْ يقف فِيهَا حَتَّى تطلع الشمس فاته الوقوف.
قال ابن الْمُنْذِرِ: وَكَانَ الشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَمَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهُ وَكَانَ مَالِكٌ يَرَى أَنْ يَدْفَعَ قَبْلَ الْإِسْفَارِ وَهُوَ مَرْدُودٌ بِالنُّصُوصِ.