شعار الموقع

شرح كتاب المناسك من سنن أبي داود_22

00:00
00:00
تحميل
52

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم والصلاة والسلام عَلَى نَبِيّنَا محمد وَعَلَى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد. 

(المتن) 

قَالَ الإمام أبو داود رحمه الله تعالى:  

باب في تحريم المدينة 

2034 - حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه، قال: ما كتبنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا القرآن وما في هذه الصحيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المدينة حرام ما بين عائر إلى ثور فمن أحدث حدثا أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه عدل ولا صرف، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه عدل ولا صرف، ومن والى قومًا بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة، والناس أجمعين لا يقبل منه عدل ولا صرف». 

(الشرح) 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: 

قَالَ المؤلف رحمه الله تعالى: (باب في تحريم المدينة)، يَعْنِي تحريم حرمها الصيد والشجر، ذكر فِيهِ حديث علي رضي الله عنه قَالَ: «ما كتبنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا القرآن وما في هذه الصحيفة»، يَعْنِي ما كتبنا عَنْ رسول الله من أحكام الشريعة، أو أَنَّهُ ما في شَيْء اختصوا به عَلَى النَّاس، وما في هَذِهِ الصحيفة، وسبب ذَلِكَ أن الشيعة يزعمون أن أهل البيت خصوا بشيء، وجاء في سبب ذَلِكَ أن عليا رضي الله عنه سُئِلَ سأله الأشتر هَلْ هناك شَيْء من الرسول عهده إليك؟ فقال: ما عهد إلي شَيْء خاص دون النَّاس إِلَّا شَيْء سمعته منه، وما في هَذِهِ الصحيفة في قراب سيفي، فنشرت الصحيفة وَفِيهَا تحريم المدينة وَفِيهَا أسنان الإبل وَفِيهَا العقل، ولهذا قَالَ علي رضي الله عنه: «ما كتبنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا القرآن وما في هذه الصحيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المدينة حرام ما بين عائر إلى ثور»، يَعْنِي هَذِهِ حدودها، يقال: عائر ويقال عير وَهُوَ جبل بالمدينة، إِلَى ثور كَذَلِكَ جبل آخر جبل صغير خلف جبل أحد؛ حَتَّى أَنَّهُ خفي عَلَى بعض النَّاس: عَلَى بعض اللغويين، وفي رواية أحمد: ما بين عير إِلَى أحد، وأبو عبيد وَهُوَ لغوي القاسم بن سلام أنكر جبل ثور في المدينة، قَالَ: أهل المدينة لا يعرفون جبل عندهم يقال له ثور، وَإِنَّمَا ثور جبل بمَكَّة. 

لكن رد عَلَيْهِ هَذَا صاحب القاموس قَالَ: ثَوْرٌ جَبَلٌ بِمَكَّةَ وَجَبَلٌ بَالْمَدِينَةِ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرَ إِلَى ثَوْرٍ. 

وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَكَابِرِ الْأَعْلَامِ: إِنَّ هَذَا تَصْحِيفٌ، وَالصَّوَابُ إِلَى أُحُدٍ – ما بين عير إلى أحد- لِأَنَّ ثَوْرًا إِنَّمَا هُوَ بِمَكَّةَ فَغَيْرُ جَيِّدٍ. 

وجاءت أدلة في صحيح مسلم على أن ثورا موجود في المدينة وهو جبل صغير خلف أحد، ولهذا خفي على بعض الناس، قيل: إن حذاء أحد جانحًا إلى وراءه جبلاً صغيرًا يقال له ثور، وَكَانَ جبلاً صغيرًا مدورًا يسمى ثور يعرفه أهل المدينة خلفًا عَنْ سلف. 

قَالَ: «فمن أحدث حدثا أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين»، هَذَا وعيد شديد، أحدث حدثًا يَعْنِي ارتكب بدعة أو أوى محدثًا مبتدعًا أو أوى من وَجَبَ عَلَيْهِ الحد فمنعه من أن يقام عَلَيْهِ الحد فهذا حدث، فعليه لعنة الله والملائكة وَالنَّاس أجمعين، هَذَا يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ من الكبائر، أن من أحدث في المدينة حدثًا فقد ارتكب كبيرة توعد عَلَيْهِ باللعن، فعليه لعنة الله والملائكة وَالنَّاس أجمعين. 

من ابتدع فِيهَا بدعة أو آوى محدثًا يَعْنِي مبتدعًا أو آوى من ارتكب حدًا فمنعه من أن يقام عَلَيْهِ الحد. 

« لا يقبل منه عدل ولا صرف»، العدل فسر بأنه الفريضة والصرف بأنه النافلة، يَعْنِي لا يقبل منه فرض ولا نفل وَهَذَا وعيد شديد، وَقِيلَ غير ذَلِكَ، لكن هَذَا أقرب ما قِيلَ، أن العدل هُوَ الفريضة والصرف هُوَ النافلة. 

«وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم»، ذمة الْمُسْلِمِين يَعْنِي عدهم وأمانهم كالشيء الواحد لا يختلف باختلاف المراتب، ولا يجوز نقضها لتفرد العاقد بها، فَإِذَا أمن واحد من المسلمين أحدا من الْكُفَّار فَإِن أمانه نافذ، وليس لأحد أن يتعرض له، ولهذا أم هانئ أخت علي بن أبي طالب لما أجارت رجلاً كافرًا وأراد علي قتله، قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن ابن أمي قاتل رجلا قَدْ أجرته، فقال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «قَدْ أجرنا من أجرت يا أم هانئ، ذمة الْمُسْلِمِين واحدة يسعى بها أدناهم»، ولو كَانَ امرأة أو عبدًا، يَعْنِي أمانهم وعهدهم واحد كالشيء الواحد لا يختلف ولا يجوز نقضه. 

وكان الَّذِي ينقض ذمة أخيه كالذي ينقض ذمة نفسه، وَهِيَ ما يذم الرجل عَلَى إضاعته، من عهده وأمانته، كأنهم كالجسد الواحد الَّذِي إِذَا اشتكى بعضه اشتكى كله «يسعى بها أدناهم»، يَعْنِي يتولاها ويلي أمرها أدناهم أيْ أدنى الْمُسْلِمِين مرتبة. 

ومعنى أن ذمة الْمُسْلِمِين واحدة يَعْنِي سواء صدرت من واحد أو أكثر شريف أو وضيع، إذا أمن واحد من الْمُسْلِمِين كافرًا لا محل لأحد نقضه، وإن كَانَ الْمُؤْمِن عبدًا أو امرأة. 

فمن أخفر مسلمًا في ذمته يَعْنِي: نقض عهده وأمانه، أخفر بمعنى نقص عهده وأمانه للكافر، بأن قتل ذَلِكَ الكافر أو أخذ ماله «فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين»، من أخفر يَعْنِي نقض، وخفر: حفظ، تختلف بالرباعي أخفر عهده يَعْنِي نقض عهده، وبالثلاثي خفر عهده يَعْنِي: حفظ عهده، بالثلاثي الحفظ، بينهما همزة، أخفر: نقض، خفر: حفظ. 

فمن أخفر مسلمًا يَعْنِي: نقصه عهده وأمانه للكافر بأن قتل الكافر أو أخذ ماله، فعليه لعنة الله والملائكة وَالنَّاس أجمعين، وَيدل هذا عَلَى أن فِيهِ وعيدا شديدا، أَنَّهُ لا يجوز إخفار العهد والأمان الَّذِي عقده واحد من الْمُسْلِمِين. 

«ومن والى قومًا بغير إذن مواليه»، ومن والى قومًا يَعْنِي بأن يَقُولُ معتق لغير معتقه أنت مولاي، بغير إذن مواليه يَعْنِي انتسب إِلَى غير مواليه، والى قومًا بغير إذن مواليه، يَعْنِي والاهم انتسب إِلَى غيرهم، أو أن السيد هُوَ الَّذِي ينسب إِلَى نفسه عتيقًا لَمْ يعتقه، «ومن والى قومًا بغير إذن مواليه»، يَعْنِي يَقُولُ معتق لغير معتقه: أنت مولاي، المعتق العبد يتولى غير مواليه، ينتسب إِلَى غير مواليه، مثل من ينتسب في النسب «من انتسب إِلَى غير مواليه»، يَعْنِي من انتسب إِلَى غير قبيلته فهذا وعيد شديد، وَكَذَلِكَ العبد إِذَا انتسب إِلَى غير مواليه، أعتقه بنوا فلان فيقول: أنا موالي بنو فلان «ومن والى قومًا بغير إذن مواليه»، فيقول المعتق لغير معتقه: أنت مولاي، بغير إذن مواليه هَذَا لبيان الواقع، ليس تقييدًا للحكم بعدم الإذن وقصره عَلَيْهِ، بَلْ هَذَا محمول عَلَى الأغلب، يَعْنِي غالبًا أَنَّهُمْ لا يسمحون له أن ينتسب إِلَى غيرهم، ولو سمحوا فلا يجوز؛ لِأَنَّ الولاء لحمة كلحمة النسب، كما أن الإنسان في النسب ليس له أن ينتسب إِلَى غير أهله وقبيلته، فكذلك العبد ليس له أن ينتسب إِلَى غير مواليه؛ حَتَّى ولو أذنوا له، وهم لا يأذنون. 

فكونه ينتسب بغير إذن مواليه هَذَا لبيان الأغلب؛ لِأَنَّهُم غالبًا ما يأذنون له، ولو أذنوا له فلا يصح، مثل قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء/23]. 

الغالب أن الربيبة تكون في الحجر، ولو لم تكن في الحجر فهي ربيبة محرمة، لكن هذا يكون الأغلب، من انتسب إلى غير مواليه عليه الوعيد «فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه عدل ولا صرف»، هذا يدل على أن هذا من الكبائر، من أحدث حدثا في المدينة ارتكب كبيرة توعد باللعن، من آوى محدثًا هذا مرتكب كبيرة، من أخفر مسلمًا في عهده وأمانه فقد ارتكب كبيرة. 

من انتسب إلى غير مواله فقد ارتكب كبيرة، أربع كبائر توعد فيها بالنار واللعن والغضب، لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، والحديث صحيح رواه الشيخان والترمذي والنسائي. 

 

 

(المتن) 

2035 - حدثنا ابن المثنى، حدثنا عبد الصمد، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن أبي حسان، عن علي رضي الله عنه، في هذه القصة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشاد بها، ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال، ولا يصلح أن يقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره». 

(الشرح) 

هَذَا في المدينة وَهَذَا فِيهِ دليل عَلَى أن المدينة لها حَرَّمَ، وأن حرمها كحرم مَكَّة وَأَنَّهَا لها حدود ما بين عير إِلَى ثور وَأَنَّهُ لا يختلى خلاها، قَالَ: «لا يختلى خلالها»، يَعْنِي لا يقطع كلؤها، يَعْنِي لا يؤخذ، ويقطع الخلاء وَهُوَ الرطب من الكلأ، وَأَمَّا العشب اسم للرطب، والهشيم اسم لليابس، وهنا قَالَ: «لا يختلى خلاها»، يَعْنِي لا يقطع الحشيش الرطب، لا يقطع الرطب من الكلأ وَهُوَ العشب، وَأَمَّا الحشيش فَهُوَ اسم لليابس والهشيم، وَفِيهِ دليل عَلَى أن الخلا: الرطب لا يقطع، وَأَمَّا اليابس فلا بأس بحش الحشيش اليابس. 

ولا ينفر صيدها أَيْضًا المدينة في تصريح بتحريم التنفير، والتنفير معناه إزعاج الطير وتنحيته من موضعه، فَإِذَا نفره عصا يكون عاصي، سواء تلف أم لا، لكن لو تلف في نفاره قبل سكون نفاره ضمنه وإلا فلا ضمان، فتنفيره حرام، وَأَمَّا قتله فهذا محرم وَفِيهِ الجزاء، إذا حَرُمَ التمثيل وَهُوَ إزعاجه عَنْ مكانه وتنحيته فتحريم القتل من باب أولى. 

«ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشاد بها»، وفي لفظ: «إِلَّا لمن أنشدها»، وفيه أن لقطة المدينة لا تملك أَيْضًا مثل لقطة مَكَّة، ومعنى أشاد بها يَعْنِي أن يرفع صوته بتعريفها أبدًا، لا سنة، ليس سنة. 

وفي رواية لمسلم من حديث أبي هريرة: «لا تحل لقطتها إِلَّا لمنشد»، وَهُوَ المعرف، وَأَمَّا الطالب فيقال له: ناشد. 

وَهَلْ تملك لقطة المدينة؟ في أقوال، قَالَ الشافعي وجماعة: لا تحل ولا تملك، وَقَالَ مالك: يجوز تملكها بَعْدَ تعرفها سنة، والصواب: ما دل عَلَيْهِ الحديث أَنَّهَا لا تملك. 

قوله: «ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال»، وَهَذَا محمول عَلَى النهي عَنْ حمل السلاح لغير الضرورة، فإن اضطر فالضرورة لها أحكامها.  

قَالَ: «ولا يصلح أن يقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره»، استدلوا بِهَذَا عَلَى تحريم شجر المدينة فلا يخبط ولا يعضد وتحريم صيدها وتنفيرها، وَهَذَا هُوَ مذهب جماهير أهل العلم كالشافعي ومالك وأحمد والجمهور عَلَى أن المدينة حرمًا كحرم مَكَّة يحرم صيده وشجره كما دل عَلَيْهِ هَذَا الحديث. 

ولكن قِيلَ: إن صيد المدينة ليس فِيهِ جزاء، وَإِنَّمَا كما سيأتي في الحديث الَّذِي بَعْدَ هَذَا أَنَّهُ يسلب الصائد يؤخذ ما معه من الثياب والسلاح. 

قَالَ الشافعي ومالك: من قتل صيدًا أو قطع شيئًا فلا ضمان؛ لِأَنَّهُ ليس محلاً للنسك، وَقِيلَ: فِيهِ الجزاء كجزاء مَكَّة، وَذَهَبَ إِلَى هَذَا المالكية وَهُوَ ظاهر قوله: «حَرَّمَ إبراهيم مَكَّة». 

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّ حَرَمَ الْمَدِينَةِ لَيْسَ بِحَرَمٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَا تَثْبُتُ لَهُ الْأَحْكَامُ مِنْ تَحْرِيمِ قَتْلِ الصَّيْدِ وَقَطْعِ الشَّجَرِ، وَالْأَحَادِيثُ تَرُدُّ عَلَى هذا القول. 

قوله: «ولا يصلح أن يقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره»، وَهَذَا فِيهِ دليل عَلَى أن حَرم المدينة أخف من حَرم مَكَّة، حَرَّمَ مَكَّة لا يجوز حَتَّى أن يعلف الرجل بعيره من الحشيش الرطب، وفي المدينة يجوز أن يعلف بعيره، فَهُوَ أخف حرمة من حرم مَكَّة. 

والصواب أن المدينة لها حَرم كحرم مَكَّة كما في الأحاديث «ما بين عير إِلَى ثور»، وَأَنَّهُ لا يجوز تنفير الصيد ولا قطع الشجر، ولكنه أخف، فَلَيْسَ فِيهِ جزاء قتل الصيد، إِلَّا أَنَّهُ يسلب كما سيأتي ويجوز أَيْضًا إعلاف البعير، إعلاف الدبة. 

 

 

(المتن) 

2036 - حدثنا محمد بن العلاء، أن زيد بن الحباب، حدثهم حدثنا سليمان بن كنانة، مولى عثمان بن عفان، أخبرنا عبد الله بن أبي سفيان، عن عدي بن زيد، قال: " حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ناحية من المدينة بريدًا بريدًا: لا يخبط شجره، ولا يعضد، إلا ما يساق به الجمل". 

(الشرح) 

قوله: «حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ناحية من المدينة»، في الحديث المتفق عَلَيْهِ ما بين لابتي المدينة، حَرَّمَ الرَّسُوْل ما بين لابتي المدينة وجعل اثني عشر ميلاً حول المدينة في حمى، ولفظ مسلم: «حَرَّمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة». 

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَلَوْ وَجَدْتُ الظِّبَاءَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا مَا ذَعَرْتُهَا، وَجَعَلَ اثْنَيْ عَشَرَ مِيلًا حَوْلَ الْمَدِينَةِ حِمًى. 

هنا جعل المدينة بريد في بريد، فهو مثل ما في الصحيحين من أن البريد أربعة فراسخ والفرسخ ثلاثة أميال، وهذين الحديثين فيهما التصريح بمقدار حرم المدينة، قال: «ما بين لابتيها». 

وهذا الحديث فيه التصريح بمقدار الحرم وَأَنَّهُ ما بين اللابتين، اللابتان هما الحرتان، الحرة هِيَ الحجارة السود، والمدينة لابتاها شرقية وغربية، وَهِيَ ما بينهما. 

وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ حَمَى الْمَدِينَةَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ أَيِ الشَّرْقُ وَالْغَرْبُ وَالْجَنُوبُ وَالشَّمَالُ أَرْبَعَةُ بريدًا وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ مِيلًا، فَصَارَ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ.  

(لَا يُخْبَطُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ الْخَبْطُ ضَرْبُ الشَّجَرِ لِيَسْقُطَ وَرَقُهُ، أي لا يقطع إلا ما يساق به الجمل، أي إلا ما يكون علفًا للجمل على قدر الضرورة، فيساق به الجمل للرعي، وهذا الحديث ضعيف في إسناده مجهولان أحدهما سنان بن كنانة والثاني عبد الله بن أبي سفيان، لكن الأحاديث الصحيحة التي ذكرت تدل على أن المدينة لها حرم، حديث أبي هريرة ما بين لابتي المدينة، ولفظ مسلم: «حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة»، فالعمدة على الأحاديث الصحيحة. 

(المتن) 

2037 - حدثنا أبو سلمة، حدثنا جرير يعني ابن حازم، حدثني يعلى بن حكيم، عن سليمان بن أبي عبد الله، قال: رأيت سعد بن أبي وقاص، أخذ رجلاً يصيد في حرم المدينة الذي حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلبه ثيابه، فجاء مواليه فكلموه فيه، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حرم هذا الحرم، وقال: «من أخذ أحدا يصيد فيه فليسلبه ثيابه» فلا أرد عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن إن شئتم دفعت إليكم ثمنه. 

(الشرح) 

الحديث هَذَا في سنده سليمان بن عبد الله يعتبر بحديثه، قَالَه أبو حاتم، نقله المنذري عنه، وَقَالَ الذهبي تابعي وثق، ويشهد له الحديث الَّذِي بعده، وَفِيهِ أن سعد بن أبي وقاص رأى رجلاً يصيد في حَرمَ المدينة، فسلبه ثيابه، أخذ ثيابه فجاء مواليه، كأن هَذَا عبد، كلموه في أن يرد عَلَيْهِ ثيابه، فقال: لا أرد عليه، (فلا أرد عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن إن شئتم دفعت إليكم ثمنه)، إن كنتم تريدون أن أدفع لكم ثمنه من باب التبرع ما في مانع، وإلا هَذَا أنفلنيه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم. 

دل عَلَى أن من وجد من يصطاد في المدينة يسلبه يأخذ ما معه من السلاح والثياب، والآن يأخذ السيارة وسلاح الآن، فيأخذ السيارة وسلاحه، لكن إذا كَانَ يحصل بينه وبينه نزاع فيطالب بحقه، قضية ترفع في المحكمة، فَإِن سعدا أخذ رجلاً يَعْنِي عبد مولى سلبه ثيابه، فجاء مواليه كلموه فقال: ما أرد عليكم هَذِهِ الطعمة، لكن إن شئتم أن أتبرع بثمنه تبرعت. 

وَمَعْنَى الطُّعْمَةِ بضم الطاء وكسرها: الْأَكْلَةُ وَأَمَّا الْكَسْرُ فَجِهَةُ الْكَسْبِ وَهَيْئَتُهُ (وَلَكِنْ إِنْ شِئْتُمْ دَفَعْتُ) أَيْ تَبَرُّعًا. 

وَبِقِصَّةِ سَعْدٍ هَذِهِ احْتَجَّ مَنْ قَالَ إِنَّ مَنْ صَادَ مِنْ حَرَمِ الْمَدِينَةِ أَوْ قَطَعَ مِنْ شَجَرِهَا أُخِذَ سَلَبُهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وظاهر الحديث. 

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَبِهَذَا قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. 

وَقَدْ حَكَى ابن قُدَامَةَ عَنْ أَحْمَدَ فِي أَحَدِ الرِّوَايَتَيْنِ الْقَوْلَ بِهِ قَالَ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي ذِئْبٍ وابن الْمُنْذِرِ. 

وَهَذَا يَرُدُّ عَلَى الْقَاضِي عِيَاضٍ حَيْثُ قَالَ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ بَعْدَ الصَّحَابَةِ إِلَّا الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ – والعلماء لهم خلاف في هَذَا- وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي السَّلَبِ فَقِيلَ: إِنَّهُ لِمَنْ سَلَبَهُ، وَقِيلَ: لِمَسَاكِينِ الْمَدِينَةِ، وَقِيلَ لِبَيْتِ الْمَالِ، وظاهر الأدلة أَنَّهُ لمن سلبه، يَعْنِي الَّذِي وجد يصيد في المدينة يأخذ ماله وثيابه والسلاح والسيارة، تكون لمن سلبها هَذَا هُوَ الصواب. 

قَالَ بعض العلماء: تكون لمساكين المدينة، وَقَالَ آخرون: تكون لبيت المال، والصواب الأول. (..) على القول الأول يكون له، وعلى القول الثاني يكون للمساكين. (دفعت إليكم ثمنه): من باب التبرع.  

(المتن) 

2038 - حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا ابن أبي ذئب، عن صالح، مولى التوأمة، عن مولى، لسعد، أن سعدًا، وجد عبيدًا من عبيد المدينة يقطعون من شجر المدينة فأخذ متاعهم، وقال: يعني لمواليهم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى أن يقطع من شجر المدينة شيء، وقال: «من قطع منه شيئا فلمن أخذه سلبه». 

(الشرح) 

هَذَا الحديث فِيهِ كلام قَالَ المنذري: حديث صَالِحٌ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ، عن مولى سعد، وَمَوْلَى سَعْدٍ مَجْهُولٌ، فيكون الحديث صحيحا، لكن أقول: يشهد له الحديث الَّذِي قبله، ويشهد له أَيْضًا ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث عمرو بن أبي وقاص عَنْ سعد أَنَّهُ رَكِبَ إِلَى قَصْرِهِ بَالْعَقِيقِ فَوَجَدَ عَبْدًا يَقْطَعُ شَجَرًا أَوْ يَخْبِطَهُ فَسَلَبَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدٌ جَاءَهُ أَهْلُ الْعَبْدِ فَكَلَّمُوهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى غُلَامِهِمْ أَوْ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ مِنْ غُلَامِهِمْ، فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أَرُدَّ شَيْئًا نَفَّلَنِيهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ. 

هَذَا الحديث صحيح ويشهد لهذا، أَمَّا هَذَا الحديث هَذَا ضعيف، فِيهِ صالح مولى التوأمان لا يحتج بحديثه ومولى سعد مجهول، لكن يشهد له الحديث السابق، ويشهد له ما في صحيح مسلم هَذَا، الحديث ثابت في صحيح مسلم من حديث عامر بن سعد، أن سعدا أَنَّهُ رَكِبَ إِلَى قَصْرِهِ بَالْعَقِيقِ فَوَجَدَ عَبْدًا يَقْطَعُ شَجَرًا أَوْ يَخْبِطَهُ فَسَلَبَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدٌ جَاءَهُ أَهْلُ الْعَبْدِ فَكَلَّمُوهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى غُلَامِهِمْ أَوْ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ مِنْ غُلَامِهِمْ، فَقَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أَرُدَّ شَيْئًا نَفَّلَنِيهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ. 

 فهذا الحديث الصحيح يشهد لهذا الحديث والحديث السابق، الحديث السابق فِيهِ بعض الضعف وَهَذَا فِيهِ ضعف، لكن العمدة عَلَى الحديث الصحيح وتكون هَذِهِ شواهد له. 

(المتن) 

2039 - حدثنا محمد بن حفص أبو عبد الرحمن القطان، حدثنا محمد بن خالد، أخبرني خارجة بن الحارث الجهني، أخبرني أبي، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يخبط ولا يعضد حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن يهش هشا رفيقا». 

(الشرح) 

الحمى: المحمي وَهُوَ المحظور، وَهُوَ في العرف ما يحميه الإمام من الصدقة ونحوها يقال له حمى، يحمي أرض مثلاً تحمى لإبل الصدقة، يحط عليها شبك تكون خاصة لإبل الصدقة، فهذه محمية يحمي أموال الصدقة، فلا يخبط ولا يعضد الشجر الَّذِي في الحمى؛ لِأَنَّهُ خاص بإبل الصدقة. 

فإذًا الحمى هُوَ ما يحميه الإمام من(..) الصدقة ونحوها، قَالَ: «لا يخطب»، يَعْنِي لا يقطع «ولكن يهش هشًا رفيقًا»، يَعْنِي يضربها ليتساقط ورقها ضربًا خفيفًا، ولا يقطعها، يَعْنِي ينفر بلين ورفق بأن يضربها بالعصا حَتَّى تتساقط ولا يقطعها. 

(المتن) 

2040 - حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، ح حدثنا عثمان بن أبي شيبة، عن ابن نمير، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يأتي قباء ماشيا وراكبا». زاد ابن نمير ويصلي ركعتين. 

(الشرح) 

وَهَذَا الحديث أخرجه الشيخان البخاري ومسلم والنسائي وَفِيهِ مشروعية الصلاة في مسجد قباء، وجاء في الحديث الآخر أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء كُلّ سبت ماشيًا أو راكبًا يصلي ركعتين، فِيهِ مشروعية الصلاة في قباء، وجاء في الحديث الآخر «أن من صلى في مسجد قباء أَنَّهُ كَانَ كأجر عمرة»، ففيه استحباب الصلاة في مسجد قباء لمن كَانَ في المدينة أو حول المدينة، يأتي سواء كَانَ ماشيًا أو راكبًا، وفي رواية عِنْد مسلم: «أن ابن عمر كَانَ يأتي مسجد قباء كُلّ سبت»، وَكَانَ يَقُولُ: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه كُلّ سبت». 

وَفِيهِ الدلالة عَلَى جواز تخصيص بعض الأيام بالزيارة وَهَذَا هُوَ الصواب أَنَّهُ لا بأس تخصيص بعض الأيام للزيارة لفراغه. 

وكره ابن مَسْلَمَةَ الْمَالِكِيُّ ذَلِكَ قَالُوا لَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ هَذَا الْحَدِيثُ قَالَهُ النَّوَوِيُّ. 

فَإِذَا الحديث فِيهِ دلالة عَلَى مشروعية الإتيان عَلَى مسجد قباء والصلاة فِيهِ ركعتين، ومشروعية تخصيص بعض الأيام، تخصيص السبت اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، سواء أتاه راكبًا أو ماشيًا. 

(..) 

وَإِذَا جاء في وقت النهي يكون من ذوات الأسباب لكن يبقى أَنَّهُ ما قصد البقاء في المسجد، وَإِنَّمَا جاء لهذا الغرض، فيبقى فِيهِ إشكال، إِذَا كَانَ يريد أن يجلس فِيهِ لا بأس، يأتي بَعْدَ العصر يصلي فِيهِ ويقرأ الْقُرْآن ما تيسر يكون حسن هَذَا، يكون من ذوات الأسباب. 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد