بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله, والصلاة والسلام عَلَى رسول الله, اللهم اغفر لشيخنا والحاضرين والمستمعين.
(المتن)
قَالَ الإمام أبو داود رحمه الله في سننه:
باب زيارة القبور.
2041- حدثنا محمد بن عوف، حدثنا المقرئ، حدثنا حيوة، عن أبي صخر حميد بن زياد، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام».
(الشرح)
قَالَ المؤلف رحمه الله: (باب زيارة القبور) ذكر المؤلف رحمه الله حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام».
وهذا الحديث إسناده حسن, وأخرجه الإمام أحمد بقوله: حدثنا عبد الله بْنُ يزيد, حدثنا حيوة, نحوه سندًا ومتنًا, وهو دليل عَلَى أن النَّبِيِّ r يرد السلام عَلَى اَلْمُسْلِم بَعْدَمَا تُرد روحه إليه, عَلَى احتمال أَنَّه يرد عَلَى كل أحد, أو أن الملائكة تبلغه فيرد عليه, أو أَنَّه يرد عَلَى اَلْمُسْلِم القريب والبعيد ترد عليه الملائكة, قَالَ اِبْن القيم رحمه الله: وقد صح إسناد هذا الحديث, وسألت شيخنا اِبْن تيمية رحمه الله عن سماع يزيد بْنُ عبد الله عن أبي هريرة قَالَ: كأنه أدركه وفي سماعه منه نظر.
وقال النووي: إسناده صحيح, وقال الحافظ بْنُ حجر: رواته ثقات, وَلَكِن ذكر الشراح إشكال في قوله: «رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام» هل معنى ذلك أَنَّه ترد عليه روحه في كل مرة وأنه يحي ثم يموت ثم يحي ثم يموت, يَعْنِي: هَذِه موتات متعددة, لَكِنْ ذكر بَعْضُهُم إن هذا من حذف المعلول وإقامة العلة مقامه, والتقدير: ما من أحدٍ يُسلم عليَ إِلَّا رددت عليه السلام لِأَنّ الله رد عليَ روحي, قالوا: إن هذا من حذف المعلول وإقامة العلة مقامه فنٌ في كلام شائع في الجزاء مثل قول الله تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ}[آل عمران/184].
والتقدير: فَإِن كذبوك فلا تحزن فقد كُذب رسلٌ من قبلك, وَكَذَلِكَ: ما من أحدٍ يُسلم عليَ إِلَّا رددت عليه السلام لِأَنّ الله رد عليَ روحي, وعلى هذا فلا يلزم المحظور, مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}[الكهف/30]؛ التقدير: إن الذين آمنوا وعملوا الصَّالِحَات فلا نضيع عملهم؛ لانا لا نضيع أجر من أحسن عملًا.
فكذا يقال تقدير الكلام: ما من أحدٍ يُسلم عليَ إِلَّا رددت عليه السلام لِأني حيٌ أقدر عَلَى رد السلام.
ذكروا في هذا وجوه متعددة في توجيه: «إِلَّا رد الله عليَ روحي» قالوا: إنها جملة حالية, وقال السخاوي: رد روحه يلزم تعدد حياته ووفاته في اقل من ساعة إذ الكون لا يخلو ممن يسلم عليه بل قد تتعدد في آن واحد كثيرًا, بَعْضُهُم أجاب بأن الروح هنا بمعنى النطق مجازًا, فكأنه يقول: يرد الله عليَ نطقي, لَكِنْ التوجيه الأول: حذف المعلول وإقامة العلة مقامه كلام حسن.
ولهذا قَالَ الخفاجي: الذي يظهر في تفسير الحديث من غير تكلف أن الأنبياء والشهداء أحياء, وحياة الأنبياء أقوى, وإذا لم يُسلط عَلَيْهِمْ الأرض فهم كالنائمين والنائم لا يسمع ولا ينطق حتى ينتبه كما قَالَ الله تعالى: {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا}[الزمر/42].
فالمراد بالرد عَلَى الإنسان الذي في الآية, حينئذٍ معناه: أَنَّه إذا سمع الصلاة والسلام بواسطة أو بدونها تيقظ, ورد لا أن روحه تقبض قبل الممات ثم يُنفخ وتعاد كما في الدنيا وحياتها؛ لِأَنّ روحه مجردة نورانية, وهذا لمن زاره.
وعلى كل حال: الحديث واضح ولا حاجة إلى التكلف, وهو أن النَّبِيِّ r إذا سلم عليه أحد رد السلام, والنبي r حيٌ حياة برزخية أكمل من حياة الشهداء, وإن كانت الحياة البرزخية ليست مثل الحياة الدنيا.
فإن قيل: من أي مكان سُلم عليه يرد السلام؟.
من أي مكان, لَكِنْ ذكروا أشياء في هذا وفيها كلام, قَالَ بَعْضُهُم: من صلى عليَ عند قبري سمعته, ومن صلى عليَ من بعيد أُبلغته, قَالَ اِبْن القيم في "جلاء الأفهام" وهذا غريب جدًا, ولهذا قَالَ بَعْضُهُم: خُص هذا لمن زاره ومن بُعد, من بعد عنه تبلغه الملائكة سلامه.
(المتن)
2042- حدثنا أحمد بن صالح، قرأت على عبد الله بن نافع، أخبرني ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم».
(الشرح)
هذا الحديث قَالَ العلامة محمد بْنُ عبد الهادي: الحديث حسن جيد الإسناد, وله شواهد كثيرة يرتقي بها إِلَى درجة الصحة, وهذا الحديث من كتاب التوحيد ذكره الإمام محمد بْنُ عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد, ومعنى الحديث: «لا تجعلوا بيوتكم قبورًا» يَعْنِي: لا تعطلوا بيوتكم من الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور؛ لِأَنّ القبور هي الَّتِي لا يُصلى فيها, والحديث: دليل عَلَى منع السفر وشد الرحل لزيارة قبر النبي r, وهذا دل عليه بإشارة النص وبدلالة النص, وهاتان الدلالتان معمولٌ بهما عند علماء الأصول, ولهذا قيل المعنى أَنَّه: لا تترك الصلاة والعبادة فتكونوا فيها كأنكم أموات, شبه المكان الخالي عن العبادة بالقبور والغافل عنها بالميت, وقيل المراد: لا تدفنوا في البيوت وَإِنَّمَا دُفن r في بيته مخافة اتخاذ قبره مسجدًا, لقول النَّبِيِّ r: «ما قُبض نبي إِلَّا دُفن حيث يقبض» فهو مخصوص.
والشارح هنا أبا الطيب محمد شمس الدين أحسن في هذا ونقل كلام شيخ الإسلام في الحديث هذا وأطال, عن اِبْن القيم رحمه الله نقل عن الإمام اِبْن تيمية قَالَ: لا تعطلوا بيوتًا من الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكن بمنزلة القبور, فأمر بتحري العبادة بالبيوت ونهى عن تحريها عند القبور ونهى عن تحريها عند القبور عكس ما يفعله المشركون من النصارى ومن تشبه بهم من هذه الأم.
والعيد اسمٌ لا يعود من الاجتماع العام عَلَى وجه المعتاد عائدًا إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر ونحو ذلك؛ هذا كلام شيخ الإسلام.
قَالَ اِبْن القيم رحمه الله: العيد ما يُعتاد مجيئه وقصده من زمان ومكان, مأخوذ من المعاودة والاعتياد, فإذا كَانَ اسمًا للمكان فهو المكان الذي يُقصد فيهِ الاجتماع للعبادة وغيرها, كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر جعلها الله تعالى عيدًا للحنفاء ومثابة للناس, كما جعل أيام العيد منها عيدًا وكان للمشركين أعيادًا زمانية ومكانية, فلما جاء الله بالإسلام أبطلها، وعوض الحنفاء منها عيد الفطر، وعيد النحر، وأيام منى، كما عوّضهم عن أعياد المشركين المكانية بالكعبة، وعرفة، ومنى، والمشاعر؛ هذا كلام اِبْن القيم رحمه الله.
قَالَ المناوي في "فتح القدير": النهي عن الاجتماع لزيارته اجتماعهم للعيد إما لدفع المشقة أو كراهة أن يتجاوزوا حد التعظيم.
أيضًا نقل عن شيخ الإسلام: الحديث يشير إِلَى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم منه فلا حاجة بكم إِلَى اتخاذه عيدًا, قالوا: والحديث دليل عَلَى منع السفر لزيارته r لان المقصود منه هو الصلاة والسلم عليه والدعاء له, وهذا يمكن استحصاله من بعد كما يمكن من قرب وأن من سافر إليه وحضر ناس آخرين فقد اتخذه عيدًا وهو منهيٌ عنه بنص الحديث,. فثبت منع شد الرحل لأجل ذلك بإشارة النص كما ثبت النهي عن جعله عيدًا بدلالة النص, وهاتان الدلالتان معمولٌ بهما عند علماء الأصول: شهادة النص, دلالة النص.
ووجه هَذِه الدلالة عَلَى أن المراد قوله: «تبلغني حيث كنتم» فَإِنَّهُ يشير إِلَى البعيد, والبعيد عنه r لا يحصل له التقرب إِلَّا باختيار السفر إليه, والسفر يصدق عَلَى أقل مسافة من يوم فكيف بمسافة بعيدة, ففيه: النهي عن السفر لأجل الزيارة.
والحديث حسن جيد الإسناد وله شواهد كثيرة يرتقي بها إِلَى درجة الصحة قاله الشيخ العلامة محمد بْنُ عبد الهادي رحمه الله, ونقل أيضًا عن فتح المجيد شرح كتاب التوحيد قَالَ: رواته مشاهير, ونقل عن شيخ الإسلام قَالَ: وقال الشيخ اِبْن تيمية: ومثل هذا إذا كَانَ للحديث شواهد عُلم أَنَّه محفوظ وهذا له شواهد متعددة, ومن شواهده الصادقة: ما روي عن علي بْنُ حسين أَنَّه رأى رجلٌ يجيء إِلَى فرجة كانت عند قبر النَّبِيِّ r فيدخل فيها فيدعو فنهاه وقال: لأحدثكم حديثًا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله r قَالَ: «لا تجعلوا قبري عيدًا ولا بيوتكم قبورًا فَإِن تسليمكم يبلغني أينما كنتم» رواه الضياء في المختارة, وأبو علي, وأبو يعلى, والقاضي إسماعيل, وقال سعيد بْنُ منصور في سننه: حدثنا عبد العزيز بْنُ محمد أخبرني سنان بْنُ سهيل قَالَ: رآني الحسن بْنُ الحسن بْنُ علي بْنُ أبي طالب عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى قَالَ: هلم إِلَى العشاء, فقلت: لا أريده, فَقَالَ: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت عَلَى النَّبِيِّ r, فَقَالَ: إذا دخلت المسجد فسلم ثم قَالَ: إن رسول الله r قَالَ: «لا تتخذوا قبري عيدًا ولا تتخذوا بيوتكم مقابر وصلوا عليَ فَإِن صلاتكم تبلغني حيث كنتم لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ما أنت ومن بالأندلس إِلَّا سواء.
قَالَ سعيد بْنُ منصور أيضًا بسنده عن أبي سعيد, قَالَ: قَالَ رسول الله r: «لا تتخذوا قبري عيدًا ولا بيوتكم قبورًا وصلوا عليَ فَإِن صلاتكم تبلغني».
بل قَالَ اِبْن تيمية رحمه الله: فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان عَلَى ثبوت الحديث لاسيما وقد احتج بِهِ من أرسله, وذلك يقتضي ثبوته عنده, وهذا لو لم يروى من وجوه مسنده غير هَذِه فكيف وقد تقدم مسندًا, قَالَ شيخ الإسلام: وفي هذا الحديث دليل عَلَى منع شد الرحل إِلَى قبر النَّبِيِّ r وإلى غيره من القبور والمشاهد؛ لان ذلك من اتخاذه عيدًا.
قَالَ في "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد": وهذه هي المسألة التي أفتى بها شيخ الإسلام رحمه الله, أعني من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين ونقل فيها اختلاف العلماء، فمن مبيح لذلك كالغزالي وأبي محمد المقدسي, ومن مانع لذلك كابن بطة وابن عقيل، وأبي محمد الجويني، والقاضي عياض وهو قول الجمهور، نص عليه مالك, يَعْنِي: هناك من أباح السفر لزيارة القبور كالغزالي ومحمد المقدسي, والجمهور عَلَى المنع كابن بطة وابن عقيل، وأبي محمد الجويني، والقاضي عياض.
نص عليه مالك ولم يخالفه أحد من الأئمة، وهو الصواب؛ لما في الصحيحين من حديث شد الرحل إِلَى ثلاث مساجد, وأما الآن فالناس في المسجد الشريف إذا سلم الإمام من الصلاة قاموا في مصلاهم مستقبلين القبر الشريف راكعين له, ومنهم من يلتصق بالسرادق ويطوف حوله, وكل ذلك حرامٌ باتفاق أهل العلم, وفيه ما يجر الفاعل إِلَى الشِّرْك؛ هذا في زمان الشارح.
ومن أعظم البدع المحرمة هجوم النسوة حول حجرة المرقد المنور وقيامهن هناك في أكثر الأوقات وتشويشهن على المصلين بالسؤال وتكلمهن مع الرجال كاشفات الأعين والوجوه فإنا لله, إلى ما ذهب بهم إبليس العدو وفي أي هوة أوقعهم في لباس الدين وزي الحسنات. وإن شئت التفصيل في هذه المسألة ، فانظر إلى كتب شيوخ الإسلام كابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الهادي من المتقدمين. وأما من المتأخرين فكشيخنا العلامة القاضي بشير الدين القنوجي رحمه الله تعالى، فإن كتابه أحسن الأقوال في شرح حديث: لا تشد الرحال.
واعلم أن زيارة قبر النبي r أشرف من أكثر الطاعات وأفضل من كثير المندوبات لكن ينبغي لمن يسافر أن ينوي زيارة المسجد النبوي ثم يزور قبر النبي r ويصلي ويسلم عليه: اللهم ارزقنا زيارة المسجد النبوي وزيارة قبر النبيr.
اِبْن القيم رحمه الله في تهذيب السنن عَلَى هذا الحديث قَالَ: وقد أبعد بعض المتكلمين وقال: يحتمل أن يكون المراد بها الحث عَلَى كثرة زيارة النَّبِيِّ r وألا يُهمل حتى لا يُزار إِلَّا في بعض الأوقات كالعيد الذي لا يأتي في العام إِلَّا مرة أو مرتين, بعض الناس عكس قَالَ: قوله r: «لا تتخذوا قبري عيدًا» يَعْنِي: أكثروا من الزيارة لا تجعلوه مثل العيد مرة مرتين كل عام, بل أكثروا من الزيارة, قالوا: ويؤيد هذا التأويل ما جاء في الحديث نفسه: «لا تجعلوا بيوتكم قبورًا» أي لا تتركوا الصلاة في بيوتكم حتى تجعلوها كالقبور الَّتِي لا يصلى فيها, قَالَ بَعْضُهُم: وزيارة قبره r غنية عن هذا التكلف البارد والتأويل الفاسد الذي يعلم فساده من تأمل سياق الحديث ودلالة اللفظ.
وقوله: «صلوا عليَ فَإِن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» وهل في الألغاز أبعد من دلالة من يريد الترغيب في الإكثار من الشيء وملازمته لقوله: «لا تجعلوا قبري عيدًا», وقوله: «لا تتخذوا بيوتكم قبورًا» نهيٌ لهم أن يجعلوه بمنزلة القبور الَّتِي لا يُصلى فيها وكذلك نهيٌ لهم أن يتخذوا قبره عيدًا نهيٌ لهم أن يجعلوه مجمعًا كالأعياد الَّتِي يقصد الناس لاجتماعها إِلَى الصلاة وليُزار قبره r كما يزوره الصحابة رضي الله عنهم عَلَى الوجه الذي يرضيه ويحبه r.
(المتن)
2043- حدثنا حامد بن يحيى، حدثنا محمد بن معن المدني، أخبرني داود بن خالد، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن ربيعة يعني ابن الهدير، قال: ما سمعت طلحة بن عبيد الله، يحدث، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا قط غير حديث واحد، قال: قلت: وما هو؟ قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قبور الشهداء، حتى إذا أشرفنا على حرة واقم فلما تدلينا منها، وإذا قبور بمحنية قال: قلنا: يا رسول الله، أقبور إخواننا هذه؟ قال: قبور أصحابنا, فلما جئنا قبور الشهداء، قال: هذه قبور إخواننا».
(الشرح)
اِبْن الهدير مصغر قَالَ: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم» يَعْنِي: في المدينة, «يريد قبور الشهداء» يَعْنِي: زيارتها, «حتى إذا أشرفنا» يَعْنِي: صعدنا, «على حرة واقم» الحرة: هي الأرض ذات الحجارة, واقم: بكسر القاف أُطم من آطام المدينة وإليها يُنسب الحرة, «فلما تدلينا منها» يَعْنِي: هبطنا إِلَى الأسفل, «وإذا قبور بمحنية» يَعْنِي: بحيث ينعطف الوادي, محنية: بفتح الميم وسكون الحاء وكسر النون, «قال: قلنا: يا رسول الله، أقبور إخواننا هذه؟ قال: قبور أصحابنا» يَعْنِي: الذين ماتوا عَلَى الإسلام ولم ينالوا منزلة الشهداء, «فلما جئنا قبور الشهداء، قال: هذه قبور إخواننا» يَعْنِي: إِنَّمَا أضاف النَّبِيِّ r إليهم نسبة الإخوة وشرف بها بمنزلة الشهداء عند الله تعالى.
وهذا الحديث فيهِ مناسبة: زيارة القبور والنبي r زار القبور وأن زيارة القبور مشروعة, فالمسلم يُشرع زيارة قبره لفائدتين:
الأولى: فائدة للحي أن يرق قلبه ويتذكر الآخرة.
الثانية: فائدة للميت وهو الدعاء له.
والكافر يُزار لفائدة واحدة: وهي تذكر الآخرة ولا يُدعى له, هذا إذا كَانَ في البلد.
والزيارة عَلَى ثلاثة أنواع:
الأولى: زيارة شرعية مثل هَذِه كأن يزور اَلْمُسْلِم يدعو له ويترحم عليه.
الثانية: زيارة بدعية كأن يزوره ويفعل البدع كأن يقرأ الْقُرْآن عنده أو يصلي عنده, أو يدعو عنده؛ هَذِه بدعة.
الثالثة: زيارة شركية كأن يزوره ويفعل الشِّرْك كأن يذبح, ويدعوه من دون الله, أو يطوف بقبره تقربًا إليه.
(المتن)
2044- حدثنا القعنبي، عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أناخ بالبطحاء التي بذي الحليفة فصلى بها» فكان عبد الله بن عمر يفعل ذلك.
2045- حدثنا القعنبي، قال: قال مالك: «لا ينبغي لأحد أن يجاوز المعرس إذا قفل راجعًا إلى المدينة حتى يصلي فيها ما بدا له، لأنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرس به» قال أبو داود: سمعت محمد بن إسحاق المديني، قال: المعرس: على ستة أميال من المدينة.
2046- حدثنا أحمد بْنُ صالح قَالَ: قرأت عَلَى عبد الله بْنُ نافع قَالَ: حدثني عبد الله, يَعْنِي: العُمري عن نافع عن اِبْن عمر «أن رسول الله r كَانَ إذا قدم بات بالمعرس حتى يغتدي».
(الشرح)
هَذِه كلها أحاديث في نزول المسافر قبل أن يصل للبلد حديث عبد الله اِبْن عمر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أناخ بالبطحاء التي بذي الحليفة فصلى بها» فكان عبد الله بن عمر يفعل ذلك؛ هذا الحديث أخرجه الشيخان والنسائي, أناخ بالبطحاء: يَعْنِي: ناقته, والأبطح: كل مكان متسع, الذي بذي الحليفة: يَعْنِي قرية بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة, وليست البطحاء الَّتِي في مكة الَّتِي بين منى ومكة, وهنا البطحاء قرب المدينة, قرية بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة, وهذا احتراز عن البطحاء الَّتِي بين مكة ومنى.
«فصلى بها» يَعْنِي: أن النَّبِيِّ r لما قدم المدينة نزل في هَذِه القرية وصلى بها, فهل يُشرع للإنسان أن يصلي؟ كَانَ اِبْن عمر يفعل ذلك, إذا قدم المدينة من حج أو عمرة ووصل إِلَى هَذِه البطحاء قبل المدينة بستة أميال نزل وصلى, قالوا: استحب مالك النزول والصلاة فيها وألا يجاوز حتى يصلي فيها وإن كَانَ غير وقت صلاة مكث حتى يدخل وقت الصلاة فيصلي.
حدثنا القعنبي، قال: قال مالك: «لا ينبغي لأحد أن يجاوز المعرس إذا قفل راجعًا إلى المدينة حتى يصلي فيها ما بدا له، لأنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرس به» المعرس: موضع النزول, المكان الذي ينزل فيهِ المسافر آخر الليل للاستراحة يقال له معرس, قَالَ أبو زيد: عرس القوم في المنزل إذا نزلوا بِهِ أي وقتٍ كَانَ من ليل أو نهار, قَالَ الأصمعي: التعريس هو النزول في آخر الليل, قَالَ القاضي: والنزول بالبطحاء بذي الحليفة في رجوع الحاج ليس من مناسك الحج وَإِنَّمَا فعله من فعله من أهل المدينة تبركًا بآثار النَّبِيِّ r ولأنها بطحاء مباركة.
قَالَ: وقيل: إِنَّمَا نزل بِهِ r في رجوعه حتى يصبح لئلا يفجأ الناس أهاليهم ليلًا كما نهى عنه صريحًا في الأحاديث المشهور, والله أعلم.
قالَ القاضي: والنزول بالبطحاء بذي الحليفة في رجوع الحاج ليس من مناسك الحج, يَعْنِي: إذا رجع حاج وهو من أهل المدينة فَإِن أحب أن يصلي في هذا المكان صلى وإن لم يحب فلا حرج, لَكِنْ هل هو سنة أو ليس بسنة؟ اِبْن عمر كَانَ يتتبع آثار النَّبِيِّ r وعقد البخاري له باب طويل فَإِنَّهُ تتبع آثار النَّبِيِّ r حتى الأمور العادية, المكان الذي ينام فيهِ ينام فيهِ, والمكان الذي يبول فيهِ يبول فيهِ, وهذا اجتهاد منه وما فعله كبار الصحابة كأبيه عمر وأبي بكر, وهنا أيضًا كَانَ ينزل في هذا المكان إذا رجع من الحج ويصلي فيهِ.
قال مالك: «لا ينبغي لأحد أن يجاوز المعرس إذا قفل راجعًا إلى المدينة حتى يصلي فيها ما بدا له، لأنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرس به» يَعْنِي: نزل آخر الليل, قالوا: المعرس مسجد ذي الحليفة عَلَى ستة أميال من المدينة وهو مهل أهل المدينة, كَانَ رسول الله r يعرس فيهِ ثم يرحل, انتهى.
وفي النهاية: المعرس: موضع التعريس وسمي معرس ذي الحليفة, عرس بِهِ النَّبِيِّ r, قَالَ
قال أبو داود: (سمعت محمد بن إسحاق المديني، قال: المعرس: على ستة أميال من المدينة) والميل يقرب من كيلوين إِلَّا ربع تقريبًا.
حدثنا أحمد بْنُ صالح قَالَ: قرأت عَلَى عبد الله بْنُ نافع قَالَ: حدثني عبد الله, يَعْنِي: العُمري عن نافع عن اِبْن عمر «أن رسول الله r كَانَ إذا قدم بات بالمعرس حتى يغتدي» يَعْنِي: حتى يغدو, المراد بالرجل يغدو: ذهب غدوةً, وهنا قيل: راح, راح يروح رواحًا, غدا عليه غدوًا أي بكر, ثم كثر استعماله في الذهاب والانطلاق في أي وقت كَانَ, والمعنى: أن النَّبِيِّ r بات بمعرس ذي الحليفة ثم ارتحل بعد الصبح.