بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى نَبِيُّنَا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إِلَى يوم الدين؛ أما بعد:
(المتن)
قَالَ الإمام أبو داود رحمه الله في سننه:
كتاب النكاح: باب التحريض عَلَى النكاح:
2046 - حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: «إني لأمشي مع عبد الله بن مسعود بمنى إذ لقيه عثمان فاستخلاه فلما رأى عبد الله، أن ليست له حاجة قال لي: تعال يا علقمة فجئت فقال له: عثمان ألا نزوجك يا أبا عبد الرحمن بجارية بكر لعله يرجع إليك من نفسك ما كنت تعهد، فقال عبد الله: لئن قلت ذاك لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع منكم فعليه بالصوم، فإنه له وجاء».
(الشرح)
هذا الحديث أخرجه الشيخان والنسائي, والنكاح في اللغة: الضم والتداخل, يقال: نكحت الأشجار؛ إذا انضم بعضها إِلَى بعض, وفي الشرع: عقد بين الزوجين يحل بِهِ الوطء وهو حقيقة في العقد ومجازًا في الوطء, لقول الله تعالى: {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ}[النساء/25].
والوطء لا يجوز في الإذن, قَالَ أبو حنيفة رحمه الله: هو حقيقة في الوطء مجازًا في العقد, لقوله r: «تناكحوا تكاثروا», وقوله r: «لعن الله ناكح يده» وقيل: أَنَّه مشترك بينهما, فَإِنَّهُ إذا قيل: نكح فلانة أو بنت فلان فالمراد بِهِ العقد, وإذا قيل: نكح زوجته فالمراد بِهِ الوطء, ويدل عَلَى القول الأول أَنَّه حقيقة في العقد: ما قيل أَنَّه لم يرد في الْقُرْآن إِلَّا للعقد كما صرح بِهِ الزمخشري ولكنه منتقد بقوله تعالى: {حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}[البقرة/230]؛ المراد هنا الوطء.
قَالَ أبو الحسين: إن النكاح لم يرد في الْقُرْآن إِلَّا للتزويج إِلَّا قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ}[النساء/6]؛ فَإِن المراد بِهِ الحُلم.
وفوائد النكاح كثيرة منها: أَنَّه سبب لوجود النوع الإنساني, ومنها: قضاء الوتر بنيل اللذة والتمتع بالنعمة, وهذه هي الفائدة الَّتِي في الجنة, الجنة لا تناسل فيها, ومنها: غض البصر, وكف النفس عن الحرام, وفي هذا الحديث يقول علقمة من أصحاب عبد الله بْنُ مسعود: «إني لأمشي مع عبد الله بن مسعود بمنى إذ لقيه عثمان فاستخلاه» يَعْنِي: طلب أن يخلو بِهِ, وأبعد علقمة عنه, «فلما رأى عبد الله، أن ليست له حاجة قال لي: تعال يا علقمة فجئت فقال له: عثمان ألا نزوجك يا أبا عبد الرحمن بجارية بكر لعله يرجع إليك من نفسك ما كنت تعهد» هذا فيهِ دليل عَلَى استحباب البكر وتفضيلها عَلَى الثيب.
قوله: «يرجع إليك من نفسك ما كنت تعهد» يَعْنِي: يرجع إليك ما مضى من نشاطك وقوة شبابك, فَإِن ذلك ينعش البدن, فقال عبد الله: «لئن قلت ذاك لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع منكم فعليه بالصوم، فإنه له وجاء» وهذا الحديث أخرجه الشيخان البخاري ومسلم والنسائي, والمراد بالباءة: النكاح, وقال النووي: اختلف العلماء في المراد بالباءة عَلَى قولين:
أحدهما: المراد المعنى اللغوي وهو الجماع, تقديره: من استطاع منكم الجماع بقدرته عَلَى مؤنه فليتزوج, ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مئونته فعليه بالصوم ليدفع شهوته ويدفع شر منيه.
الثاني: أن المراد بالباءة مئونة النكاح, سميت باسم ما يلازمها, وتقديره: من استطاع منكم مؤن النكاح فليتزوج, ومن لم يستطع فليصم.
قالوا: العجز عن الجماع لا يحتاج للصوم لدفع الشهوة, فوجب تأويل الباءة عَلَى الْمُؤن, «ومن لم يستطع» يَعْنِي: من لم يقدر عَلَى الزواج, «أغض للبصر» يَعْنِي: أخفض وأدفع لعين المتزوج عن الأجنبية من غض طرفه, «وأحصن للفرج» عن الوقوع في الحرام, وهذا من إغراء الراغب, «فَإِنَّهُ له وجاء» وأصل الوجاء: ربط الخصيتين, والمراد هنا أن الصوم يقطع الشهوة ويقطع شر المني كما يقطعه الوجاء.
قَالَ النووي: في هذا الحديث الْأَمْرِ بالنكاح لمن استطاعه, وطاقته لنفسه وهذا مجمع عليه, لكنه عندنا وعند العلماء كافة أمر ندب لا إيجاب, هل هو للوجوب أو للندب؟ الجمهور عَلَى أَنَّه للندب ومستحب, فلا يلزم الزوج ولا التسري حيث خاف العنت, وذهب بعض أهل الظاهر ورواية عن الإمام أحمد إِلَى أَنَّه إذا خاف العنت أن يتزوج ويتسرى؛ وهذا هو الصواب: أَنَّه إذا كَانَ مستطيع وخاف عَلَى نفسه يَجِبُ أن يتزوج, وهو رواية عن الإمام أحمد.
وقالوا: إن النكاح تجري فيهِ الأحكام الخمسة: يكون واجبًا, ومندوبًا, محرمًا, مكروهًا, فيكون واجبًا إذا خاف عَلَى نفسه العنت, ويكون مندوبًا إذا لم يخشى, ويكون محرمًا إذا كَانَ يترتب عليه شيءٌ ممنوع, ويكون مكروهًا إذا كَانَ لا يستطيع أن يقوم بالمؤن, فالمقصود أن الصواب: أَنَّه واجب إذا خاف عَلَى نفسه العنت وهو مستطيع, وقالوا: إِنَّمَا يلزمه في العمرة مرة, وقالوا: إنه يلزمه التزويج فقط ولا يلزمه الوطء وتعلقوا بظاهر الْأَمْرِ بهذا الحديث مع غيره من الأحاديث واحتجوا بقول الله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}[النساء/3]؛ فخير سبحانه بين النكاح والتسري.
وعلى كل حال: فهذا الحديث فيهِ أمر للشباب؛ لِأَنّ الشاب تكون عنده قوة الشهوة وإلا من يحتاج للزواج الشباب وغير الشباب, حتى الشيوخ, وحتى الكهول إن احتاج فَإِن عليه أن يتزوج, وَلَكِن الشباب هم الذين يوجه إليهم الخطاب؛ لِأَنّ الشباب فيهِ قوة ونشاط, وفيه قوة الشهوة فهم يدخلون دخولًا أوليًا, والخطاب موجه إليهم وغيرهم تبعٌ لهم.
قوله: «فَإِنَّهُ أغض للبصر وأحصن للفرج» هَذِه فوائد النكاح.